ﰡ
ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم، وبالعذاب الأليم، والحميم : الماء الحار، وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر، كقوله :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ ﴾ [ الرحمان : ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ]، وقوله :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾ [ الحج : ١٩-٢٠ ]. وقوله :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ] الآية، وقوله :﴿ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴾ [ الواقعة : ٥٤-٥٥ ].
وذكر في موضع آخر أن الماء الذي يسقون صديد أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك بفضله ورحمته وذلك في قوله تعالى :﴿ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ [ إبراهيم : ١٦ – ١٧ ] الآية :
وذكر في موضع آخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق، كقوله :﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق ٌوَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ [ ص : ٥٧ – ٥٨ ]، وقوله :﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَابا إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً ﴾ [ النباء : ٢٤-٢٥ ] والغساق : صديد أهل النار أعاذنا الله والمسلمين منها وأصله من غسقت العين سال دمعها ؛ وقيل : هو لغة، البارد المنتن، والحميم الآني : الماء البالغ غاية الحرارة : والمهل دردي : الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص : ونحو ذلك، والآيات المبينة لأنواع عذاب أهل النار كثيرة جداً.
ذكر تعالى في هذه الآية : أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام، أي يسلم بعضهم على بعض بذلك، ويسلمون على الملائكة، وتسلم عليهم الملائكة بذلك، وقد بين تعالى هذا في مواضع أخر، كقوله :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ﴾ [ الأحزاب : ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣ -٢٤ ] الآية : وقوله :﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً ﴾ [ مريم : ٦٢ ] الآية : وقوله :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ] ﴿ إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ﴾ [ الواقعة : ٢٦ ] وقوله :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [ يس : ٥٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومعنى السلام : الدعاء : بالسلامة من الآفات. والتحية مصدر حياك الله بمعنى أطال حياتك.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإنسان في وقت الكرب، يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله. فإذا فرج الله كربه، أعرض عن ذكر ربه، ونسي ما كان فيه كأنه لم يكن فيه قط.
وبين هذا في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ ﴾ [ الزمر : ٨ ] الآية : وقوله :﴿ فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [ الزمر٤٩ ] الآية :: وقوله :﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ [ فصلت : ٥١ ] والآيات في مثل ذلك كثيرة.
إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة عباده المؤمنين، بقوله في سورة هود :﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُور إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [ هود : ١٠-١١ ]، وقد قال صلى الله عليه وسلم :«عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء، إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ».
أمر الله تعالى : في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم. أن يقول : إنه ما يكون له أن يبدل شيئاً من القرآن من تلقاء نفسه، ويفهم من قوله من تلقاء نفسي، أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء.
وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [ النحل : ١٠١ ] : وقوله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] الآية : وقوله ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ [ الأعلى : ٦ -٧ ].
في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولاً حتى لبث فيهم عمراً من الزمن. وقدر ذلك أربعون سنة، فعرفوا صدقه، وأمانته، وعدله، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذباً على الله تعالى، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين، وقد ألقمهم الله حجراً بهذه الحجة في موضع آخر، وهو قوله :﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦٩ ] ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، ومن معه من صفاته صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. اه. ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للدنيا بالنبات الناعم المختلط بعضه ببعض، وعما قليل ييبس، ويكون حصيداً يابساً كأنه لم يكن قط، وضرب لها أيضاً المثل المذكور في «الكهف » في قوله :﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحياة الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ إلى قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء مُّقْتَدِرًا ﴾، وأشار لهذا المثل بقوله في «الزمر » :﴿ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأوْلِى الألباب ﴾ [ الزمر : ٢١ ]، وقوله في «الحديد » :﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ﴾ [ الحديد : ٢٠ ] الآية :
تنبيه
التشبيه في الآيات المذكورة عند البلاغيين من التشبيه المركب، لأن وجه الشبه صورة منتزعة من أشياء، وهو كون كل من المشبه والمشبه به يمكث ما شاء الله، وهو في إقبال وكمال، ثم عما قليل يضمحل ويزول، والعلم عند الله تعالى :
ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة يجمع الناس جميعاً، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وصرح في «الكهف » بأنه لا يترك منهم أحداً، بقوله :﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
صرح في هذه الآية الكريمة، بأن كل نفس يوم القيامة تبلو، أي تخبر وتعلم ما أسلفت، أي قدمت من خير وشر، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ] وقوله :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ ﴾ [ الطارق : ٩ ] وقوله :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [ الإسراء : ١٣ – ١٤ ] وقوله :﴿ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] الآية :
وأما على قراءة تتلو بتاءين ففي معنى الآية وجهان :
أحدهما : أنها تتلو بمعنى تقرأ في كتاب أعمالها جميع ما قدمت، فيرجع إلى الأولى.
والثاني : أن كل أمة تتبع عملها، لقوله صلى الله عليه وسلم :«لتتبع كل أمة ما كانت تعبده فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس » الحديث.
صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة، بأن الكفار يقرون بأنه جل وعلا، هو ربهم الرزاق المدبر للأمور المتصرف في ملكه بما يشاء، وهو صريح في اعترافهم بربوبيته، ومع هذا أشركوا به جل وعلا.
والآيات الدالة على أن المشركين مقرون بربوبيته جل وعلا ؛ ولم ينفعهم ذلك لإشراكهم معه غيره في حقوقه جل وعلا كثيرة، كقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] وقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [ الزخرف : ٩ ] وقوله :﴿ قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ إلى قوله :﴿ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٨٩ ] إلى غير ذلك من الآيات، ولذا قال تعالى :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ].
والآيات المذكورة صريحة في أن الاعتراف بربوبيته جل وعلا، لا يكفي في الدخول في دين الإسلام إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، وقد أوضحناه في سورة «الفاتحة » في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ].
أما تجاهل فرعون لعنه الله لربوبيته جل وعلا، في قوله :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٣ ] فإنه تجاهل عارف لأنه عبد مربوب، كما دل عليه قوله تعالى :﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ ﴾ : وقوله :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ].
ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجراً، بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا قدرة لها على فعل شيء، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى، وأنه يهدي من يشاء.
وصرح بمثل هذا في آيات كثيرة كقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَىْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حياة وَلاَ نُشُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣ ] وقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماء والأرض ﴾ [ فاطر : ٣ ] الآية. وقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ] الآية : وقوله :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ ﴾ [ الرعد : ١٦ ] وقوله :﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَني اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] الآية. وقوله :﴿ أَمَّنْ هَذَا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ [ الملك : ٢١ ] الآية. وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ ﴾ [ العنكبوت : ١٧ ] الآية.
والآيات : في مثل ذلك كثيرة، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ولا ينفع ولا يقدر على شيء، مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء، لا تصدر إلا ممن لا عقل له، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك :﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الملك : ١٠ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة، أن هذا القرآن لا يكون مفتري من دون الله مكذوباً به عليه، وأنه لا شك في أنه من رب العالمين جل وعلا، وأشار إلى أن تصديقه للكتب السماوية المنزلة قبله وتفصيله للعقائد والحلال والحرام ونحو ذلك ؛ مما لا شك أنه من الله جل وعلا ؛ دليل على أنه غير مفتري. وأنه لا ريب في كونه من رب العالمين، وبين هذا في مواضع أخر كقوله :﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يوسف : ١١١ ]. وقوله :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا ينبغي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٠-٢١١ ] وقوله :﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٥ ] والآيات في مثل ذلك كثيرة.
ثم إنه تعالى لما صرح هنا بأن هذا القرآن ما كان أن يفترى على الله، أقام البرهان القاطع على أنه من الله، فتحدى جميع الخلق بسورة واحدة مثله، ولا شك أنه لو كان من جنس كلام الخلق لقدر الخلق على الإتيان بمثله، فلما عجزوا عن ذلك كلهم حصل اليقين، والعلم الضروري أنه من الله جل وعلا، قال جل وعلا في هذه السورة :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وتحداهم أيضاً في سورة «البقرة » بسورة واحدة من مثله، بقوله :﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] الآية : وتحداهم في «هود » يعشر سور مثله بقوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] الآية : وتحداهم في «الطور » به كله بقوله :﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ [ الطور : ٣٤ ].
وصرح في سورة «بني إسرائيل » بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله بقوله :﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ] كما قدمنا، وبين أنهم لا يأتون بمثله أيضاً بقوله :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٤ ] الآية.
التحقيق أن تأويله هنا، هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر يوم القيامة، كما قدمنا في أول «آل عمران »، ويدل لصحة هذا قوله في «الأعراف » :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] الآية.
ونظير الآية قوله تعالى :﴿ بْل هُمْ في شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ﴾ [ ص : ٨ ].
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكاراً لها، وإظهاراً لوجوب التباعد عنها، وبين هذا المعنى في قوله :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾، إلى قوله :﴿ وَلِىَ دِينِ ﴾ [ الكافرين : ١ -٦ ]، ونظير ذلك، قول إبراهيم الخليل وأتباعه لقومه :﴿ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] الآية.
وبين تعالى في موضع آخر أن اعتزال الكفار، والأوثان والبراءة منهم ؛ من فؤائده تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة، وهو قوله في «مريم » :﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ إلى قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٩-٥٠ ].
وقال ابن زيد، وغيره، إن آية :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ﴾ [ يونس : ٤١ ] الآية : منسوخة بآيات السيف.
والظاهر أن معناها محكم ؛ لأن البراءة إلى الله من عمل السوء لا شك في بقاء مشروعيتها.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا، حتى كأنها قدر ساعة عندهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في آخر «الأحقاف ». ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ] الآية، وقوله في آخر «النازعات » :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ]، وقوله في آخر «الرُّوم » :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [ الروم : ٥٥ ] الآية.
وقد بينا بإيضاح في كتابنا [ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ]، وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة، وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك، كقوله تعالى :﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ﴾ [ طه : ١٠٣ ] وقوله :﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ﴾ فانظره فيه في سورة :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ في الكلام على قوله :﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾.
صرح في هذه الآية الكريمة : أن أهل المحشر يعرف بعضهم بعضاً فيعرف الآباء الأبناء، كالعكس، ولكنه بين في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها، فلا يسأل بعضهم بعضاً شيئاً، كقوله :﴿ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ [ المعارج : ١٠ -١١ ]، وقوله :﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٣ ]، وقد بينا في كتابنا [ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ] أيضاً : وجه الجمع بين قوله :﴿ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾، وبين قوله :﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٧ ]، في سورة :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ : أيضاً.
قوله تعالى :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : بخسران المكذبين بلقائه، وأنهم لم يكونوا مهتدين، ولم يبين هنا المفعول به لقوله خسر، وذكر في مواضع كثيرة أسباباً من أسباب الخسران، وبين في مواضع أخر المفعول المحذوف هنا، فمن الآيات المماثلة لهذه الآية، قوله تعالى في «الأنعام » :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ٣١ ] الآية، وقوله تعالى في «البقرة » :﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٧ ]، وقوله في «البقرة » أيضاً :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ البقرة : ١٢١ ]، وقوله في «الأعراف » :﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٩ ]، وقوله في «الأعراف » أيضاً :﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، وقوله في «الزمر » :﴿ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٣ ].
والآيات في مثل هذا كثيرة، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان إلا بأربعة أمور :
الأول : الإيمان.
الثاني : العمل الصالح.
الثالث : التواصي بالحق.
الرابع : التواصي بالصبر.
وذلك في قوله :﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ ﴾ [ لعصر : ١ -٢ ] إلى آخر السورة الكريمة. وبين في مواضع أخر، أن المفعول المحذوف الواقع عليه الخسران هو أنفسهم، كقوله في «الأعراف » :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩ ]، وقوله في «المؤمنون » :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٣ ] وقوله في «هود » :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ هود : ٢١ ].
وزاد في مواضع أخر خسران الأهل مع النفس، كقوله في «الزمر » :﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [ الزمر : ١٥ ]، وقوله في «الشورى » :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٤٥ ].
وبين في موضع آخر أن خسران الخاسرين قد يشمل الدنيا والآخرة، وهو قوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا والآخرة ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [ الحج : ١١ ].
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، إنه إما أن يريه في حياته بعض ما يعد الكفار من النكال والانتقام، أو يتوفاه قبل ذلك، فمرجعهم إليه جل وعلا لا يفوته شيء مما يريد أن يفعله بهم لكمال قدرته عليهم، ونفوذ مشيئته جل وعلا فيهم، وبين هذا المعنى أيضاً في مواضع أخر، كقوله في سورة «المؤمن » :﴿ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [ غافر : ٧٧ ]، وقوله في «الزخرف » :﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤١ -٤٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
لم يأت في القرآن العظيم فعل المضارع بعد إن الشرطية المدغمة في ما المزيدة لتوكيد الشرط، إلا مقترناً بنون التوكيد الثقيلة، كقوله هنا :﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ [ يونس : ٤٦ ] :﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ ﴾ [ الزخرف : ٤١ ] الآية :﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٧ ] الآية :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ] الآية.
ولذلك زعم بعض العلماء العربية وجوب اقتران المضارع بالنون المذكورة في الحال المذكورة، والحق أن عدم اقترانه بها جائز، كقول الشاعر :
فإما تريني ولي لمة *** فإن الحوادث أودى بها
وقول الآخر :
زعمت تماضر أنني إما أمت *** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن لكل أمة رسولاً، وبين هذا في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ [ النحل : ٣٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]، وقوله :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [ الرعد : ٧ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقد بين صلى الله عليه وسلم، أن عدد الأمم سبعون أمة في حديث معاوية بن حيدة القشيري، رضي الله عنه «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله » وقد بينا هذه الآيات في كتابنا [ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ]، ووجه الجمع بينها وبين قوله :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ ﴾ [ يس : ٦ ] الآية. في سورة «الرعد » في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
أوضح الله تعالى معنى هذه الآية : الكريمة في سورة «الزمر » بقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٩ -٧٠ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لكل أمة أجلاً، وأنه لا يسبق أحد أجله المحدد له، ولا يتأخر عنه.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ ﴾ [ الحجر : ٥ ] وقوله :﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ نوح : ٤ ] وقوله :﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾ [ المنافقون : ١١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفراً وعناداً، فإذا عاينوا العذاب آمنوا، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم، وقد أنكر ذلك تعالى عليهم هنا بقوله :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ﴾ ونفى أيضاً قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله :﴿ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾.
وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ الكافرون : ٨٤ -٨٥ ] وقوله :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ يونس : ٩٠ -٩١ ] وقوله :﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، واستثنى الله تعالى قوم يونس دون غيرهم بقوله :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي فِي الحياة الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ يونس : ٩٨ ].
ذكر تعالى عن موسى في هذه الآية، أنه قال : إن الله سيبطل سحر سحرة فرعون.
وصرح في مواضع أخر بأن ذلك الذي قال موسى، إنه سيقع. من إبطال الله لسحرهم ؛ أنه وقع بالفعل، كقوله :﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون َفَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١١٨- ١١٩ ] ونحوها من الآيات :
ذكر تعالى في هذه الآية : أنه بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق.
وبين ذلك في آيات أخر كقوله :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] الآية، وقوله :﴿ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٥٧ -٥٨ ] إلى قوله :﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ] وقوله :﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ ﴿ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ إلى قوله :﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٢٦ – ٢٨ ] ومعنى ﴿ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ أنزلناهم منزلاً مرضياً حسناً.
والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن إيمان قوم يونس ما نفعهم إلا في الدنيا دون الآخرة، لقوله :﴿ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي في الحياة الدُّنْيَا ﴾.
ويفهم من مفهوم المخالفة في قوله :﴿ فِي الحياة الدُّنْيَا ﴾ أن الآخرة ليست كذلك، ولكنه تعالى أطلق عليهم اسم الإيمان من غير قيد في سورة «الصافات » والإيمان منقذ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، كما أنه بين في «الصافات » أيضاً كثرة عددهم وكل ذلك في قوله تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ -١٤٨ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعاً، وهو دليل واضح على أن كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية. وبين ذلك أيضاً في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ [ السجدة : ١٣ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن من لم يهده الله فلا هادي له، ولا يمكن أحداً أن يقهر قلبه على الانشراح إلى الإيمان إلا إذا أراد الله به ذلك.
وأوضح ذلك المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ [ المائدة : ٤١ ]، وقوله :﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ ﴾ [ النحل : ٣٧ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [ القصص : ٥٦ ] الآية، وقوله :﴿ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً كما تقدم، في «النساء ».
والظاهر أنها غير منسوخة، وأن معناها أنه لا يهدي القلوب ويوجهها إلى الخير إلا الله تعالى : وأظهر دليل على ذلك أن الله أتبعه بقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ يونس : ١٠٠ ] الآية.
أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا.
وأشار لمثل ذلك بقوله :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] الآية، ووبخ في سورة «الأعراف » من لم يمتثل هذا الأمر وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر فيما أمره الله جل وعلا أن ينظر فيه لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا وذلك في قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ] الآية.
تنبيه
آية «الأعراف » هذه التي ذكرنا تدل دلالة واضحة على أن الأمر يقتضي الفور، وهو الذي عليه جمهور الأصوليين، خلافاً لجماعة من الشافعية وغيرهم.
أوضح هذا المعنى في قوله :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [ الروم : ٣٠ ] الآية.
أوضح معناه أيضاً بقوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لاَ إِلََه إِلاَّ هُوَ كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ القصص : ٨٨ ].
لم يبين هنا ما حكم الله به بين نبيه وبين أعدائه، وقد بين في آيات كثيرة أنه حكم بنصره عليهم، وإظهار دينه على كل دين، كقوله :﴿ إِذَا جاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [ النصر : ١ ] إلى آخر السورة وقوله :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ [ الفتح : ١ ] إلى آخرها، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ [ الرعد : ٤١ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.