تفسير سورة يونس

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة يونس من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

[سورة يونس عليه السّلام]

فاتحة سورة يونس عليه السّلام
لا يخفى على المنجذبين نحو التوحيد الإلهي من طريق السلوك والمجاهدة ورفض الشواغل وقطع العلائق ونفى الخواطر ودفع الوساوس وإسقاط الأوهام والخيالات المستندة الى الهويات الباطلة الجزئية المستلزمة للغيرية والامتياز والاستقلال في الوجود وما يترتب عليه من الآثار والإضافات ان السلوك من هذا الطريق لا يتم الا بالاستمداد والاسترشاد من اهل الخبرة والاستبصار وارباب الكشف والاعتبار الواصلين الى مقر التوحيد من جادة المجاهدة ومحجة الفناء المقتضية للموت الإرادي عن لوازم الهوية البشرية مطلقا وبالجملة ان الكاملين المكملين العارفين بأمارات الطريق وموانعه عرفوا ان قضية الحكمة وامر المناسبة الإلهية الواقعة بين الأوصاف الذاتية تقتضي ان تكون بين المفيد والمستفيد علاقة ورابطة إذ لا يمكن الاستفادة والاسترشاد من اى شخص كان بل لا بد من المناسبة والعلاقة المصححة للافادة والاستفادة في هذه الطرق الا من جذبه الحق بنفسه عن نفسه واخلع عنه جلباب ناسوته مطلقا او كساء خلعة لاهوته دفعة فصار هو هو بل قد ارتفعت الهوية واضمحلت الموضوعية والمحمولية ايضا عن بصر بصيرته وشهوده فهم تحت قباب العزة ولواء العظمة والكبرياء وسرادقات المجد والبهاء بحيث لم يبق عندهم سلوك وسالك ومسلك وقصد ومقصد وطلب ومطلب بل مطلوب ومقصود ايضا وبالجملة هم لا يعرفون سوى الحق وكذا لا يعرفهم الا هو كما نطق به الحديث القدسي لذلك ما يروا هؤلاء الا به وفيه واما اهل الطلب والارادة المتدرجون في سلوك طريق الفناء المتعطشون بزلال التوحيد والبقاء فلا بد لهم ان يتوسلوا ويتشبثوا بذيل من أيده الحق لتكميل العباد وإرشادهم الى مبدأهم ومعادهم الا وهم الأنبياء الذين قد جبلوا على النفوس القدسية المطهرة عن الكدورات الانسية والعلائق البشرية العائقة عن الفناء في هوية الحق ثم الأولياء الوارثون منهم الواصلون بمتابعتهم الى مرتبة التوحيد والعرفان التي هي عبارة عن الفناء في ذاته سبحانه. والمحجوبون المجبولون على الغفلة المنهمكون في الغي والضلال يتعجبون عن ارشاد الأنبياء والأولياء عباد الله الى فضاء توحيده وينكرون لياقتهم للنبوة والرسالة انما هو لجهلهم بدقائق المناسبات ورقائق الارتباطات الواقعة بين الحق والإنسان الكامل ويقيسون احوال الأنبياء والأولياء الى احوال آحاد الناس ولم يتفطنوا ان أفضل البشر أفضل من أفضل الملائكة لتحققهم في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية بجمعيتهم دونهم لعدم جمعيتهم لذلك رد الله سبحانه على هؤلاء الجهلة بما هم عليه من التعجب والإنكار ووبخهم بما وبخهم ليتنبه المؤمنون على ما هو الحق فقال متيمنا باسمه العظيم ومخاطبا على رسوله الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر بمقتضى أوصافه وأسمائه الكامنة في وحدة ذاته فتتراءى متكثرة بكثرة أسمائه وصفاته الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بالامداد الدائم المتجدد حسب تجلياته الذاتية الحبية الرَّحِيمِ على خلاصة مظاهره وزبدة مكوناته التي هي الإنسان الجامع لجميع مراتب المظاهر بالنبوة العامة والولاية التامة الشاملة لكلتى مرتبتي الاول والآخر والظاهر والباطن في المبدأ والمعاد باعتبار النشأتين
[الآيات]
الر ايها الإنسان اللبيب الرشيد اللائق للرسالة العامة والرياسة الكلية الكاملة الشاملة على كافة البرية تِلْكَ الآيات المنزلة عليك في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ اى بعض آيات الكتاب الإلهي الذي هو حضرة علمه المحيط ولوح قضائه المحفوظ ناطقة بالصدق والصواب على مقتضى
الحكمة المتقنة الإلهية نازلة من عنده لتصديقك وتأييدك يا أكمل الرسل في عموم تبشيراتك وانذاراتك وفي جميع لوازم نبوتك ورسالتك وارشادك لأهل الغي والضلال
أَكانَ لِلنَّاسِ الناسين بطلان هوياتهم الباطلة عَجَباً اى سبب تعجب واستغراب أَنْ أَوْحَيْنا بان ألهمنا من محض فضلنا وجودنا إِلى رَجُلٍ فاش مِنْهُمْ ظاهر من جنسهم وبنى نوعهم أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ المنهمكين في الغي والضلال بمقتضى اهوية هوياتهم الباطلة وماهياتهم العاطلة تعجبا ناشئا واستغرابا منتشأ عن محض الغفلة والنسيان والاعراض عن الحق والانحراف عن طريق التوحيد وجادة الإسلام وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل منهم ارباب المحبة والولاء الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا برسالتك وارشادك نحو وحدة ذات الحق واستقلاله في الوجود وما يتفرع عليه من الأسماء والصفات والآثار المترتبة عليها والشئون المتجددة بها أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم قَدَمَ صِدْقٍ اى اقداما صادقا وقدما راسخا ثابتا في جادة التوحيد وارادة خالصة مقبولة عِنْدَ رَبِّهِمْ وهم معدودون عنده سبحانه من زمرة السابقين المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم لما ظهر شأن الرسول وعلا قدره وشاع دينه وكثر اتباعه قالَ الْكافِرُونَ المصرون على الشرك والعناد من خبث طينتهم وشدة بغضهم وشكيمتهم بعد ما أبصروا منه خوارق عجزوا عنها سيما القرآن الكامل في الاعجاز البالغ على مراتب البلاغة إِنَّ هذا المدعى للرسالة والنبوة لَساحِرٌ مُبِينٌ ماهر ظاهر متفرد في فن السحر وحيد في عصره فيه. ومن قرأ لسحر أراد به القرآن المعجز لجمهور البلغاء مع توفر دواعيهم في معارضته وصاروا من عجزهم بحيث لم يقدروا على إتيان اقصر آية منه وكيف يعارضون مع رسوله ومع الكتاب المنزل من عنده سبحانه اليه
إِنَّ رَبَّكُمُ ايها المؤمنون اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد القيوم المطلق الَّذِي خَلَقَ وقدر ببسط عكوس أسمائه ومد اظلال أوصافه ورش رشحات نوره السَّماواتِ اى العلويات التي هي عبارة عن الأعيان الثابتة وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة القابلة للانعكاس منها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى في الجهات الست كلها إذ يتوهم الامتداد والابعاد والأقطار فيهما وفي ما بينهما وبالقياس إليهما ثُمَّ اسْتَوى واستولى بلا توهم التراخي والزمان والمهلة على ما يقتضيه لفظة ثم بل بلا اين وكيف وكم عَلَى الْعَرْشِ المفروش المبسوط القابل لانعكاس اشعة أسمائه وأوصافه مطلقا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى شئون الحوادث الكائنة بالاستقلال ما مِنْ شَفِيعٍ من المظاهر والمصنوعات يشفع لاحد عنده سبحانه إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وإمضاء مشيئته ونفاذ قضائه ذلِكُمُ اللَّهُ اى الموصوف المتفرد المتوحد في ذاته بالالوهية المستقل في آثاره وتدابيره بالربوبية رَبَّكُمُ اى مربيكم وموجدكم ايها الاظلال الهلكى فَاعْبُدُوهُ حق عبادته حتى تعرفوه حق معرفته أَفَلا تَذَكَّرُونَ وتتفكرون وحدة ذاته وعظمة أسمائه وصفاته ايها العقلاء المجبولون على التفكر والتذكر في آلاء الله وجلائل نعمائه وكيف لا تتفكرون آلاء الله ايها الغافلون
مع انه إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جَمِيعاً كما قال سبحانه ثم إلينا مرجعكم. وإلينا ترجعون. الى غير ذلك من الآيات واعلموا ايها المكلفون ان وَعْدَ اللَّهِ العليم الحكيم الذي لا يخلف ميعاده أصلا حَقًّا محققا ثابتا لازما حتما بلا تغيير ولا تبديل وكيف لا يكون وعده سبحانه حقا إذ هو سبحانه قادر على عموم المقدورات والمرادات المثبتة في حضرة علمه ولوح قضائه ومن كمال قدرته إِنَّهُ بذاته وحسب أسمائه وصفاته
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ويظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا بلا سبق مادة ومدة ثم يعدمه إظهارا لقدرته الغالبة ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الاخرى لإظهار سرائر تكاليفه التي قد كلف بها عباده في النشأة الاولى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدته وصدقوا رسله فيما مضى وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم من لدنه سبحانه بالسنة كتبه ورسله جزاء حسنا مقرونا بِالْقِسْطِ والعدل القويم ويتفضل على من تفضل عناية منه وامتنانا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأشركوا له سبحانه شيأ من مظاهره بل قد شاركوه معه في أخص أوصافه واشرف أسمائه لَهُمْ في يوم العرض والجزاء بعد ما يحاسبون شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ بدل ما كانوا يتلذذون بالاشربة المحرمة في النشأة الاولى وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بالله ويكذبون رسله عنادا وإصرارا وكيف يكفرون بالله أولئك الحمقى العمى الهالكون في تيه الغفلة والضلال وظلمة الجهل وسوء الفعال
مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً محضا ليكون دليلا على كمال ظهوره واشراقه وشدة جلاء وجوده وانجلائه وَجعل الْقَمَرَ نُوراً يعنى صير القمر مرآة مظلمة في نفسها مستنيرة من ضوء الشمس في ظلمات الليل ليكون دليلا على إضاءته سبحانه في مشكاة التعينات وظلمات الهويات وَقَدَّرَهُ اى للقمر مَنازِلَ متعددة تسهيلا لكم وتدبيرا لأموركم لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ التي تحتاجون إليها في معاملاتكم وتجاراتكم وحراثتكم كما قدر منازل نور النبوة والولاية في مشكاة الأنبياء والأولياء الوارثين منهم لتقتبسوا أنتم أنوار الايمان المزيحة لظلم الكفر والعصيان من مصابيح أولئك الأمناء الكرام وتتوسلوا بها الى ان تستضيئوا بضياء الشمس الحقيقية الحقية التي لا افول لها أصلا. ثم قال سبحانه ترغيبا لعباده وتنبيها لهم على اصل فطرتهم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ اى ما اظهر وأوجد ما أوجد في عالمي الغيب والشهادة حسب أسمائه وأوصافه الا ملتبسا بالحق الثابت الصريح بلا احتياج فيه الى الدلائل والشواهد إذ لا شيء اظهر من ذاته سبحانه حتى يجعل دليلا عليها كما قال سبحانه يُفَصِّلُ ويوضح الْآياتِ المنبهة عليها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتحققون بمرتبة اليقين العلمي ليترقوا منها الى اليقين العيني والحقي. واما المحجوبون فهم من عداد البهائم والانعام لا يرجى منهم الفلاح لكثافة حجبهم وغلظ غشاوتهم
وبالجملة إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وإيلاجه في النهار وَالنَّهارِ وإيلاجه في الليل وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي أوضاع السَّماواتِ من الأمور المقتضية لاختلافهما وَالْأَرْضِ من المكنونات الكائنة فيها على مقتضى تربية العلويات وتدبيراتها لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة القادر الحكيم المتقن في امره وفعله لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ويحذرون عن قهر الله ويلتجئون اليه سبحانه عن غضبه وسخطه
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لإنكارهم اعادتنا إياهم في يوم الجزاء لنجزيهم وفق ما عملوا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا المستعارة بلا التفات منهم الى دار القرار وَاطْمَأَنُّوا بِها اى وطنوا ومكنوا أنفسهم بلذاتها وَبالجملة أولئك الحمقى الجاهلون هم الَّذِينَ هُمْ من شدة قساوة قلوبهم وغباوة فطنتهم عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ذاهلون مع غاية وضوحها وظهورها غفلة لا يرجى انتباهم منها أصلا
وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون عن مقتضى العقل الفطري المستفاد من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والعصيان ومخالفة العقل المفاض ومتابعة الوهم والخيال.
ثم قال سبحانه على مقتضى
سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد وبالعكس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا بتوحيده وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة من عنده لإصلاح أحوالهم يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ الى فضاء وحدته بِإِيمانِهِمْ وبسبب يقينهم العلمي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الوحدة الذاتية منصبغة باليقين العيني والحقي فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعنى هم متمكنون مخلدون في مستلذاتهم الروحانية ابد الآباد
دَعْواهُمْ ومناجاتهم مع ربهم وحاجاتهم معه فِيها بعد ما انقطعوا عن السلوك والتكميل سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ يا مولانا انما حسب ما علمتنا بمقتضى فضلك وجودك ننزهك تنزيها بليغا ونقدسك تقديسا كاملا عن عموم ما لا يليق بجناب قدسك وَتَحِيَّتُهُمْ اى ترحيب بعض ارباب الدرجات على بعض مع تفاوت مقاماتهم ومراتبهم فِيها سَلامٌ وتسليم لتحققهم بمقام الرضا ومقعد الصدق والتسليم وَآخِرُ دَعْواهُمْ بعد وصولهم الى غاية مأمولهم الذي هم جبلوا لأجله أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ والمنة والثناء لله المنعم المتفضل رَبِّ الْعالَمِينَ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم تفضلا منه سبحانه وامتنانا.
ثم قال سبحانه حثا لعباده الى الرجوع والتوجه نحوه وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ المدبر لأمور عباده لِلنَّاسِ الشَّرَّ حين استعجلوه منه سبحانه لغرض من الأغراض او استحقوا له بعمل من الأعمال اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كاستعجال الخير لهم حين طلبوا ودعوا لأجله او اعطاهم تفضلا منه إياهم لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ يعنى قد انقرض مدة حياتهم البتة بحلول أجلهم المقدر المعهود حين دعائهم واستحقاقهم ولكن قد امهلناهم رجاء ان يستغفر منهم من يستغفر وبالجملة فَنَذَرُ ونترك المصرين الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ورضوا بالحياة الدنيا واقتصروا عليها وأنكروا يوم البعث والجزاء فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ ويترددون زمانا امهالا وتهويلا لعذابهم
وَمن شدة عمههم وطغيانهم إِذا مَسَّ وعرض الْإِنْسانَ الضُّرُّ اى ما يضره من مضر مؤلم ومصيبة مفجعة مفزعة دَعانا مشتكيا إلينا مقترحا ملحا باثا شكواه عندنا ملقيا لِجَنْبِهِ ان لم يقدر على غيره من الأوضاع أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ان قدر متضرعا متفجعا مستكشفا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ وعجلنا له مراده مَرَّ وتجاوز عنا وتباعد من أمرنا ولم يلتفت الى حكمنا أصلا بل صار من شدة عمهه وغفلته كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا قط إِلى كشف ضُرٍّ قد مَسَّهُ وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل قد زُيِّنَ اى حبب وحسن لِلْمُسْرِفِينَ المنهمكين في الغي والضلال ما كانُوا يَعْمَلُونَ من مخالفة امر الله ومخاصمة رسوله والمؤمنين المتابعين له والإصرار على ما هم عليه من العتو والعناد.
ثم قال سبحانه مهددا مقسما وَالله يا اهل مكة لَقَدْ أَهْلَكْنَا حسب قهرنا وجلالنا الْقُرُونَ الماضية مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا اى حين ظلموا مثل ظلمكم وخرجوا عن طاعة الله واقامة حدوده مثل خروجكم وَهم ايضا أمثالكم إذ قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة الدالة على صدقهم انما جاءوهم ليمتنعوا عماهم عليه من الظلم والعناد وَهم ما كانُوا اى أولئك الأمم لِيُؤْمِنُوا لرسلهم وأنبيائهم وما يصدقوهم فيما جاءوا به أمثالكم بل قد كذبوهم أمثالكم وأصروا على ما هم عليه بل زادوا عليه عنادا ومكابرة فأخذناهم بظلمهم وأهلكناهم بإصرارهم بعد ما نبهنا عليهم فلم ينتبهوا وبالجملة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ المصرين على الجرائم مع ورود الزواجر والروادع
ثُمَّ بعد إهلاكهم واستئصالهم قد
جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ منهم وصيرناكم خلفاء عنهم فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ واختبرناكم بما اختبرناكم وابتليناكم أمثالهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنتم ايضا أتعملون الخير فنجازيكم خيرا أم تعملون الشر فنجازيكم شرا مثل ما جزيناهم
وَهم قد كانوا من شدة انهماكهم في الغفلة والغرور والغي والضلال أمثالكم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال عظمتنا ووفور قدرتنا على وجوه الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحات مبينات لأحوال النشأة الاخرى وأهوالها وانكالها قالَ الكافرون المسرفون الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أمثالكم بل ينكرون الحشر والنشر والثواب والعقاب وعموم ما يترتب على النشأة الاخرى فكيف لقاءنا فيها ائْتِ ايها المدعى من عند ربكم بِقُرْآنٍ وكتاب غَيْرِ هذا القرآن والكتاب إذا أردت ان نؤمن لك أَوْ بَدِّلْهُ وغيره بعض آياته المشتملة على الإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة فانا لا طاقة لنا بها وانما قصدهم وغرضهم بقولهم استهزاء وسخرية برسل الله واستخفاف بكتاب الله أمثال هؤلاء القائلين المسرفين المستهزئين بك وبكتابك يا أكمل الرسل قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم كما قال أولئك الرسل الكرام في جواب أممهم بمقتضى وحينا والهامنا ما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ واحرفه مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي بمقتضى اهويتهم الفاسدة بل إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع وانتظر انا إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وليس في وسعى وطاقتي سوى الاتباع والانتظار وكيف أتصرف فيه إِنِّي أَخافُ بمجرد ان اسمع منكم قولكم هذا العصيان على نفسي فكيف إِنْ عَصَيْتُ بقصد التبديل والتغيير رَبِّي وقد استوجبت حينئذ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كما استوجبتم أنتم بسؤالكم هذا على سبيل الإلحاح والاقتراح
قُلْ يا أكمل الرسل ايضا إلزاما لهم وتبكيتا لَوْ شاءَ اللَّهُ اى لو تعلق مشيئته بغير هذا المتلو ما تَلَوْتُهُ انا عَلَيْكُمْ هذا وما أوحاه سبحانه على وما أجراه على لساني وَلا أَدْراكُمْ بِهِ اى ما أعلمكم بهذا وما أسمعكم من لساني ايضا ولكن قد تعلق مشيئته بهذا فاوحاه وأجراه وامر باسماعه فأسمعكم والا فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مدة أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ اى قبل وحى القرآن بلا تلاوة وادراء واعلام أَفَلا تَعْقِلُونَ وتستعملون عقولكم في هذا الأمر ولا تدبرون ولا تدربون فيه مع انكم من اهل الدرية والدراية متدربون بأساليب الكلام بالغون فيه أقصى الغاية حتى ينكشف لكم ان امر القرآن ليس منى بل هو خارج عن حيطة حولي وقدرتي مطلقا
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ونسب اليه ما لم يصدر عنه افتراء ومراء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ التي قد صدرت عنه ونزلت على رسله وأنبيائه لإصلاح احوال عباده وإرشادهم الى مبدئهم ومعادهم وبالجملة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ المفترون عليه بالأباطيل الزائغة المكذبون كلامه المنزل من عنده على رسله
وَكيف يفلحون ويفوزون أولئك المسرفون بالفلاح وهم من شدة ضلالهم يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بذاته المستقل بألوهيته ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ إذ هم ليسوا من ذوى القدرة والارادة بل من جملة الجمادات المعطلة التي لا شعور لها أصلا وَيَقُولُونَ من كمال غفلتهم وضلالتهم هؤُلاءِ الأصنام والتماثيل العاطلة شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ينقذوننا من بأس الله وبطشه ان تحقق وقوعه قُلْ لهم يا أكمل الرسل تسفيها وتحميقا أَتُنَبِّئُونَ وتخبرون بقولكم هذا اللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا بِما لا يَعْلَمُ من الأمور الكائنة فِي السَّماواتِ وَكذا بما لا يعلم ايضا فِي الْأَرْضِ من الكوائن فيها مع انه سبحانه في ذاته وحسب أسمائه وصفاته لا يعزب ولا يغيب
عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء من الأشياء لا في الأرض ولا في السماء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ من الأوثان والتماثيل التي لا شعور لها أصلا مع انها من أدون المظاهر واخس المخلوقات وبالجملة ما قدروا الله أولئك الحمقى حق قدره لذلك نسبوه اليه ما هو منزه عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وَما كانَ النَّاسُ المجبولون على مظهرية الحق المنعكسون من اظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ملتجئة الى الله مقتبسة من أنوار تجلياته منعكسة منها فَاخْتَلَفُوا اى الاظلال الهالكة باختلاف صور الأسماء المتقابلة والأوصاف المتضادة المتخالفة حسب شئون التجليات المتجددة في الكمالات المترتبة عليها وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لتسويتهم وتعديلهم في النشأة الاخرى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعدالة والقسط فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في هذه النشأة بلا تأخير الى اخرى لكن الحكمة المتقنة الإلهية تقتضي تأخيرها لذلك أخر أمرهم وحسابهم وعذابهم لئلا يبطل سر التكاليف وحكم الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام الواردة من عنده سبحانه
وَمن خبث طينتهم وشدة شكيمتهم يَقُولُونَ بعد ما اقترحوا عنه صلّى الله عليه وسلّم بالآيات ولم تنزل لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ من الآيات المقترحة مع ان دعواه ان ربه قادر مقتدر على عموم المقدورات والمرادات بحيث لا يخرج عن حيطة قدرته شيء فَقُلْ في جوابهم بلى ان الله قادر على جميع المقدورات ومن جملتها مقترحاتكم الا ان في عدم انزالها وإنجاحها حكمة غيبية ومصلحة خفية إلهية لا يعلمها الا هو إِنَّمَا الْغَيْبُ كله لِلَّهِ وفي حيطة حضرة علمه فَانْتَظِرُوا بتعلق ارادته بمقترحاتكم إِنِّي مَعَكُمْ ايضا بلا تفاوت بيني وبينكم في عدم الاطلاع على غيبه مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمسرفين وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً خلاصا ونجاة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ واضطرتهم الى الرجوع والتوجه نحونا إِذا لَهُمْ مَكْرٌ اى قد فاجؤا بعد نزول الكشف والرحمة نحو المكر والخديعة مع نبينا والطعن والقدح فِي آياتِنا قُلِ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا اللَّهُ المطلع على ما في ضمائركم ومخايلكم أَسْرَعُ مَكْراً وأشد تدبيرا وانتقاما على مكركم وخداعكم قد أعد واثبت لكم سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه عذاب مكركم واشهد عليكم ملائكته كما قال إِنَّ رُسُلَنا الموكلين عليكم المراقبين لأحوالكم يَكْتُبُونَ في صحائف أعمالكم ما تَمْكُرُونَ وتحيلون مع الله ورسوله وكيف لا يراقبكم ويحافظ عليكم
مع انه سبحانه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ اى يمكنكم على السير والسياحة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليجرب إخلاصكم وتقويكم ورسوخكم على الايمان حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ اى السفينة والجوار وَجَرَيْنَ الجواري بِهِمْ اى بمن فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ معتدلة موافقة لسيرها وَفَرِحُوا بِها وبجريها على مرادهم جاءَتْها بغتة رِيحٌ عاصِفٌ شديد الهبوب مزلزل لها محرك إياها وَمن شدة هبوبها وتحريكها البحر قد جاءَهُمُ الْمَوْجُ الهائل مثل الجبال الرواسي مِنْ كُلِّ مَكانٍ اى جانب وجهة وَظَنُّوا من غاية ارتفاع الأمواج المتوالية المتتالية أَنَّهُمْ قد أُحِيطَ بِهِمْ بأسباب الهلاك فتقع عليهم وتستأصلهم وحينئذ دَعَوُا اللَّهَ ملتجئين متضرعين مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مقتصرين الإطاعة والانقياد له سبحانه إذ لا تعارض حينئذ للأهواء الفاسدة والآراء الباطلة قائلين مقسمين والله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربنا بفضلك وجودك مِنْ هذِهِ البلية الهائلة المحيطة بنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك المتذكرين دائما بحقوق جودك وكرمك
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اجابة لدعائهم وكشفا لضرهم وبلائهم
إِذا هُمْ يفاجئون الى الكفران ويسارعون نحو الطغيان بحيث يَبْغُونَ ويطلبون الفساد فِي الْأَرْضِ المعدة للعبادة والصلاح بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا رخصة شرعية بل عن بغى وعناد. التفت سبحانه من الخطاب الى الغيبة تنبيها على غاية بعدهم وطردهم عن ساحة عز الحضور والقبول لذلك ابعدهم بالغيبة بعد ما قربهم بالخطاب. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون نعمة الإنجاء والتخليص عن ورطة الهلاك إِنَّما بَغْيُكُمْ وكفرانكم الذي قد فاجأتم به بدل الشكر والإطاعة في النشأة الاولى وبال عائد عَلى أَنْفُسِكُمْ في النشأة الاخرى إذ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا والتمتع بلذاتها وشهواتها والركون الى مزخرفاتها قليل حقير نزر يسير لا ينبغي للعاقل ان يترك الباقي لأجل الفاني واللذة الروحانية الدائمة المستمرة للذة الجسمانية المتناهية القصيرة ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا غير في الوجود معنا مَرْجِعُكُمْ ومصيركم رجوع الاظلال الى ذي الظل والأضواء الى الشمس فَنُنَبِّئُكُمْ اى نخبركم ونعمل بكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى عملكم ان خيرا فخير وان شرا فشر
وبالجملة إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى شئونها الغريبة وحالاتها العجيبة التي كنتم تغترون بها وتميلون إليها وتفتخرون بمزخرفاتها ومموهاتها وأمتعتها وأبنيتها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ وامتزج بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ اى ترابها المنبتة للنبات وحصل مِنَ اختلاطهما وامتزاجهماما يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من انواع البقول والحشائش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وشرعت القوة النامية لتربيتها وَازَّيَّنَتْ اى تزينت بأنواع البهجة والتزيينات وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ متمكنون عَلَيْها وعلى جمعها وحصادها وأخذ قطوفها وغلاتها أَتاها أَمْرُنا وحكمنا بغتة بإهلاكها واستئصالها لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً محصودا قبل بدو صلاحها بل مقطوعا عن أصلها الى حيث كَأَنْ لَمْ تَغْنَ ولم تنبت فيها منها شيء بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نوضح ونمثل الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويستعملون عقولهم بإدراك الممثل والممثل به وبعد تعقلهم وتفكرهم يتنبهون ان الدنيا وحياتها ما هي الا سراب غدار وغرار وبرق بلا قرار من اغتر بغرورها هلك عطش الأكباد ومن استنار بنورها فقد ضل عن سبيل الرشد والسداد
وَبالجملة اللَّهُ الهادي لعموم عباده يَدْعُوا جميعهم إذ اصل جبلتهم وفطرتهم مجبولة على التوحيد والإسلام إِلى دارِ السَّلامِ اى الى مقر التوحيد الذي من تمكن فيه سلم عن جميع الآثام وسار عموم أموره الى العليم العلام القدوس السّلام وَبعد دعوته سبحانه عموم الأنام الى دار السّلام يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ويوفق من يشاء من خلص عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده الا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام تتميما لحكمة التكاليف المنزلة من عنده وتمييزا بين اهل الهداية والضلال من عباده واصحاب الجنة والنار على تفاوت طبقاتهم
لذلك قال سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الأدب في هذه النشأة مع الله ورسله وامتثلوا بعموم ما جاءوا من عنده سبحانه في كتبه المنزلة على رسله تعبدا وانقيادا ايمانا واحتسابا الْحُسْنى اى المثوبة العظمى والدرجة العليا بدل إحسانهم في الدنيا عدلا من الله وَزِيادَةٌ عليها الا وهي رضوان الله عنهم عناية وتفضلا وَصاروا من صفاء عقائدهم وإحسانهم مع الله بحيث لا يَرْهَقُ ولا يلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ اى غبار الغفلة والندامة وَلا ذِلَّةٌ صغار وهوان من التواني والتكاسل في احتمال التكاليف الإلهية وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب الفضل والعناية هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء بما كانوا يعملون من الخيرات والمبرات
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ
من طغيان نفوسهم ولم يلتفتوا الى ما أمرهم الحق وهديهم اليه رسله يجزون بمقتضى ما اقترفوا جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عدلا منه سبحانه وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ اى تغطاهم غبار المذلة والخذلان بدل ما اكتسبوا من البغي والعدوان ما لَهُمْ حينئذ مِنَ اللَّهِ اى من عذابه وعقابه مِنْ عاصِمٍ حافظ يحفظهم او شفيع يشفع لهم ويخفف عنهم بل صاروا من ظلمة كفرهم وفسقهم كَأَنَّما أُغْشِيَتْ سترت وأحيطت وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً في غاية الظلمة لعدم استنارتهم بنور الايمان والعمل الصالح وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء الهالكون في تيه الغي والضلال أَصْحابُ النَّارِ المعدة لأهل الغفلة والأهواء هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء بما كانوا يكسبون من الكفر والمعاصي وانواع الجرائم والآثام
وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ اى كلا الفريقين جَمِيعاً مجتمعين في يوم العرض والجزاء ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بنا غيرنا من التماثيل والأصنام الزموا مَكانَكُمْ واستقروا عليه أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ حتى تسألوا عما اجرمتم فَزَيَّلْنا اى فرقنا وفصلنا بَيْنَهُمْ بان رفعنا رابطة العابدية والمعبودية وعلاقة العبادة التي بها وصلتهم وارتباطهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ باقدار الله إياهم حينئذ مخاطبين لهم مشافهة براءة لنفوسهم وتنزيها ما كُنْتُمْ ايها الضالون المنهمكون في الغي والضلال إِيَّانا تَعْبُدُونَ بعلمنا وبمقتضى أمرنا إذ لسناح من ذوى العلم واولى الأمر بل تعبدون أنتم أهواءكم وشياطينكم الكامنة في نفوسكم قد افتريتم علينا ونسبتم وانتسبتم بنا عنادا ومكابرة
فَكَفى بِاللَّهِ اليوم فيما مضى شَهِيداً شاهدا حاضرا على ما قد جرى بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ هو اعلم بعلمه القديم إِنْ كُنَّا اى انا كنا عَنْ عِبادَتِكُمْ وعن توجهكم ورجوعكم إلينا لَغافِلِينَ إذ لم نخلق من ذوى الشعور والإدراك في نشأة الاختبار حتى نضلكم ونستعبدكم
وبالجملة هُنالِكَ اى حين احضروا للسؤال والجواب والجزاء والحساب تَبْلُوا اى تختبر وتتفطن كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما أَسْلَفَتْ وكسبت فيما سبق وَبعد تفطنهم وتنبههم رُدُّوا جميعا إِلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد للجزاء إذ هو سبحانه مَوْلاهُمُ متولى نعمهم ومتولى أمورهم الْحَقِّ وَما سواه من الآلهة الكاذبة هي الباطلة مع بطلانها قد ضَلَّ غاب وضاع عَنْهُمْ عموم ما كانُوا يَفْتَرُونَ ظلما وزورا وسموهم آلهة وشفعاء افتراء ومراء ولم يبق حينئذ في الوجود والشهود الا الله الواحد القهار ولو كشفوا بسريان وحدة الحق في عموم المظاهر والأكوان الكائنة في جميع الاحياز والأحيان لتحققوا بتوحيده دائما بلا توقف الى يوم القيمة الا انهم لانهماكهم في الغفلة والضلال لم يتنبهوا في النشأة الاولى
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق واستقلاله في الآثار والتدبيرات الواقعة في الأقطار إلزاما لهم وتبكيتا مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بامطار الأمطار وتصعيد البخار وَالْأَرْضِ بالإنبات والإخراج أَمَّنْ يَمْلِكُ ويستطيع ان يخلق لكم السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ اللتين هما من أعظم اسباب حفظكم وحضانتكم انفسكم بهما وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ الحيوان السوى القوى مِنَ الْمَيِّتِ اى من النطفة الضعيفة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ اى النطفة الجامدة من الحيوان وَبالجملة مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في عالم الأسباب والمسببات فَسَيَقُولُونَ اضطرارا من غاية ظهوره ووضوحه بحيث لا يمكنهم ان يكابروا اللَّهُ المدبر لجميع الأمور الكائنة في الآفاق والأنفس وبالجملة هم من غاية ظهوره وجلائه لم يمكنهم ان يعاندوا او يكابروا فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بالله المدبر لعموم الكوائن
والفواسد توبيخا وتقريعا أَفَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون من بطشه وانتقامه فلم تشركون له ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى من الحق شيئا
وبالجملة فَذلِكُمُ الذي قد اعترفتم به هو اللَّهُ المتوحد المستحق للالوهية والمعبودية إذ هو رَبُّكُمُ مربيكم ومدبر أموركم وهو لا غيره الْحَقُّ الثابت المتحقق الحقيق بالحقية فَماذا بَعْدَ ثبوت الْحَقُّ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا مما اتخذتم آلهة ظلما وزورا إِلَّا الضَّلالُ الباطل العاطل فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ايها الحمقى المسرفون المفرطون وكيف تنصرفون وترجعون الى غيره من الاظلال الهالكة المستهلكة وتنسبونها الى الألوهية والربوبية ظلما وعدوانا
كَذلِكَ اى مثل ما سمعت من ثبوت الألوهية والربوبية له سبحانه حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى قد ثبتت وتمت صدقا وعدلا بحيث لا تبديل لكلماته أصلا عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا وخرجوا عن عبادة الله ظلما وعدوانا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا يوقنون بالله ولا يصلون الى التوحيد أصلا لا علما ولا عينا
قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ اى في وسعهم وقدرتهم مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ اى يوجده ثم يعدمه ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الاخرى كما هو شأن الإله المتفرد بالالوهية قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وكيف تشكون والى اين تصرفون وتنصرفون عن جادة التوحيد بالميل الى هؤلاء التماثيل الزائغة العاطلة المعطلة قُلْ يا أكمل الرسل لهم ايضا تبكيتا وإلزاما
هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى طريق الْحَقِّ وصراطه المستقيم الموصل الى توحيده سبحانه فان بهتوا قُلِ اللَّهُ الهادي لعباده يَهْدِي لِلْحَقِّ وطريق توحيده من يشاء من عباده ويوصله الى مرتبة حق اليقين أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ اى الى اليقين الحقي أَحَقُّ أليل وأحرى أَنْ يُتَّبَعَ اى يطاع وينقاد له أَمَّنْ لا يَهِدِّي ولا يهتدى بنفسه الى شيء أصلا إِلَّا أَنْ يُهْدى فاهتدى ان كان من اهل الاستعداد كبعض آلهتكم مثل عزيز وعيسى وبالجملة فَما عرض وأي شيء لحق لَكُمْ ايها الغفلاء المعزولون عن مقتضى العقل كَيْفَ تَحْكُمُونَ بالوهيتهم وشركتهم مع الله مع ان بديهة العقل تأبى عن ذلك
وَبالجملة ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر المشركين في اشراك هؤلاء المنحطين عن درجة الاعتبار مع الله المنزه عن الشريك مطلقا إِلَّا ظَنًّا وتخمينا ناشئا عن تخيلات فاسدة وتوهمات كاسدة من اسناد الآثار الظاهرة الى ظواهر الأسباب مع الغفلة عن المسبب الموجد لها وبالجملة إِنَّ الظَّنَّ والتخمين الذي قد تمسكوا وتشبثوا به لا يُغْنِي ولا يفيد مِنَ الْحَقِّ الصريح الذي هو مناط الايمان والاعتقاد شَيْئاً من الإغناء إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع مخائلهم عَلِيمٌ خبير بصير بِما يَفْعَلُونَ بمقتضى ظنونهم وخيالاتهم واوهامهم فيجازيهم على مقتضى علمه وخبرته وبعد ما نبه سبحانه على بطلان اعتقاداتهم وظنونهم وجهالاتهم أراد ان ينبه ان مستند اهل الايمان الذي هو القرآن الموضح لهم طريق التوحيد والعرفان ليس كذلك
فقال وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ المنزل على خير الأنام المبين لهم قواعد دين الإسلام أَنْ يُفْتَرى ويخيل انه قد صدر مِنْ دُونِ اللَّهِ العليم الحكيم وكيف يصدر هذا من غير الله إذ هو في أعلى مراتب البلاغة ونهاية درجات الاعجاز لصدوره عن الحكمة المتقنة الإلهية التي كلت الافهام دونها وعجزت عموم المدارك والآلات عن دركها فلا يتوهم صدوره عن غير الله أصلا وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
مطابق لما نزل من عنده من الكتب السالفة بل هو أعلى حكمة وأتم فائدة منها وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ الذي هو عبارة عن حضرة علمه ولوح قضائه وبالجملة لا رَيْبَ فِيهِ انه نازل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وليس في وسع بشران يأتى بمثله أيشكون نزوله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم
أَمْ انزاله من لدنه سبحانه حيث قال يَقُولُونَ افْتَراهُ واخترعه من عنده ونسبه الى الله ترويجا وتعظيما قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما شككتم انه من عند الله بل قد جزمتم بانه من عند غيره مفترى عليه سبحانه فَأْتُوا بِسُورَةٍ قصيرة من مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة ورعاية المقتضيات والحكم والمطابقات ووجوه الدلالات والتمثيلات والتشبيهات وانواع المجازات والكنايات وَان عجزتم أنتم ادْعُوا واستظهروا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ واستوثقتم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم بانه من كلام البشر مفترى على الله وبعد ما أفحموا عن الإتيان وعجزوا عن المعارضة ومع ذلك لم ينصفوا ولم يقروا بانه معجز ليس من كلام البشر
بَلْ كَذَّبُوا وبادروا الى الرد والتكذيب بِما اى بشيء لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولم يعلموا ولم يفهموا ما فيه بقرائحهم وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ من معلم وملهم بل قد كابروا في تكذيبه بلا سند عقلي او نقلي وبالجملة كَذلِكَ اى مثل تكذيبهم هذا قد كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم وكتبهم التي قد جاءوا بها من عند الله فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الأوامر المبادرين الى تكذيب الله وتكذيب رسله واعتبر مما جرى عليهم من المصيبات الهائلة فانتظر يا أكمل الرسل وترقب لهؤلاء المكذبين المكابرين أمثالها
وَمِنْهُمْ اى من المكذبين المكابرين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بالقرآن ويصدق بإعجازه في نفسه ويصر على التكذيب ظاهرا عنادا ومكابرة وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ مطلقا لغلظ غشاوته وشدة قساوته وشكيمته وَبالجملة رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل بأنواع الهداية والصلاح أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ المكذبين المعاندين الذين يفسدون في الأرض بأنواع الفسادات
وَإِنْ كَذَّبُوكَ وأصروا على تكذيبك مع وضوح دلائل صدقك فَقُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التبري والتنزه والمجاراة لِي عَمَلِي وانا اجزى به وبمقتضاه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ تجزون أنتم ايضا بأعمالكم وبمقتضاها وبالجملة أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ منكرون له وَأَنَا ايضا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ بأضعاف برائتكم وآلافها فانتظروا أنتم بجزاء أعمالكم وانا ايضا انتظر بجزاء عملي حتى يأتى وقت الجزاء ويوم العرض والحساب
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ استهزاء وأنت تلتفت الى اسماعهم ارادة ايمانهم وتبالغ فيه مهما أمكنك ليتعظوا وهم لا يسمعون ولا يفقهون لاكنة قلوبهم وصمم اسماعهم أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وتجتهد في اسماعهم واصغائهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون كلامك لجهلهم المركوز في جبلتهم
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ويعاين دلائل نبوتك ويشاهد اماراتها ومع ذلك ينكر بك وبنبوتك حسدا وبغيا أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وتقدر على تبصيره وَلَوْ كانُوا مجبولين بأنهم لا يُبْصِرُونَ لتعامي بصائرهم وأبصارهم وقساوة قلوبهم
إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يَظْلِمُ النَّاسَ المستوجبين للعذاب والنكال شَيْئاً مما لحقهم منه وَلكِنَّ النَّاسَ الناسين صرف ما أنعم الله لهم الى ما خلق لأجله أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم يظلمون أنفسهم بصرفه الى خلاف ما حكم الله وأظهره له لذلك استحقوا المقت والانتقام
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
الى أهواله المتطاولة وشدائده المترادفة المتوالية الى حيث يصور عندهم مدة حياتهم في الدنيا لطول ذلك اليوم وشدة أهواله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ وهم حينئذ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ اى يعرف بعضهم بعضا هذا في أول النشر ثم يشتد عليهم الأمر ويرتفع التعارف والالتفات وتصير كل نفس رهينة بما كسبت وبالجملة قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة عظيمة المسرفون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ في الآخرة وأصروا على ما هم عليه من اقتراف المعاصي ولم يلتفتوا الى الأنبياء والكتب التي قد جاءوا بها من عنده سبحانه لإصلاح أحوالهم في مبدئهم ومعادهم وَما كانُوا ايضا مُهْتَدِينَ بطريق الصلاح والصواب من تلقاء نفوسهم بلا ارشاد مرشد لقصورهم عن الرشد والهداية سيما بلا مرشد هاد
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ اى ان تحقق اراءتنا إياك يا أكمل الرسل بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بالهداية والإرشاد والسلوك في سبيل الصواب والسداد أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إيصالهم الى فنائك ليسترشدوا منك وليستهدوا من زلال هدايتك وليسترشحوا من رشحات فيضك وجودك ويصفوا من كدر هوياتهم ورين انانياتهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يعنى فاعلم يا أكرم الرسل إلينا مرجعهم جميعا ضالا ومضلا هاديا ومهديا رجوع الاظلال الى ذي الظل والأضواء الى الشمس ثُمَّ بعد رجوعهم اللَّهُ المظهر لهم من كتم العدم لمصلحة العبودية والعرفان شَهِيدٌ مطلع حاضر عالم بعلمه الحضوري عَلى عموم ما يَفْعَلُونَ من المعرفة والايمان والضلال والطغيان يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته
وَاعلموا انه لِكُلِّ أُمَّةٍ اى فرقة وطائفة رَسُولٌ معين في علم الله مثبت في لوح قضائه مرسل من عنده إياهم على مقتضى حكمه وحكمته ليهديهم الى توحيده فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والعدل الموضوع من عند الله بمقتضى الحكمة البالغة لإصلاح احوال عباده وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ في يوم الجزاء ولا ينقصون من أجور أعمالهم بل يجازون حسب ما اقترفوا من المعاصي
وَمن خبث بواطنهم يَقُولُونَ لك يا أكمل الرسل مستنكرين عليك مستكبرين مستهزئين معك مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي أوتيت أنت إتيان العذاب علينا فيه عين لنا وقته إِنْ كُنْتُمْ ايها المدعون تابعا ومتبوعا صادِقِينَ في هذه الدعوى مصدقين لمن يدعى الصدق فيه يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين
قُلْ يا أكمل الرسل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ولا اقدر ان اكتسب عليها ولا لها ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وقدره في سابق قضائه ومتى لم اقدر على افعال نفسي وأحوالها فانى يكون لي قدرة وقوة على استعجال ما في مشيئة الله وما في غيبه وتعيين وقته مع انه لم يأذن لي ولم يوح الى من عنده سبحانه سوى انه لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم بل لكل شخص من الأشخاص سواء كانوا محقين او مبطلين أَجَلٌ معين ووقت مقدر في علم الله إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الذي قد عينه الحق لإهلاكهم فيه لا يمكن التخلف فيه لا استعجال ولا استئخار فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يمكنهم طلب التأخير لمحة وطرفة إذ الساعة مصروفة الى مطلق الزمان المتناول للآن والطرفة واللمحة ليدفعوا الضرر ولا يمكنهم ايضا طلب التقديم ليجلبوا النفع بل الأمر حتم في وقته والحكم مبرم في زمانه لا يتجاوز عنه أصلا فانتظروا فسيجيء اجلكم ووقتكم وينجز وعدكم ومتى كان الأجل مبهما ولم يكن لأحد أن يعين وقته
قُلْ لهم توبيخا وتقريعا أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المجرمون المستعجلون للعذاب والنكال إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً اى حال كونكم بائتين في الليل أَوْ نَهاراً حال كونكم
مترددين فيه وعلى اى شأن وفي كل حال يصعب عليكم امره إذ هو يفزعكم ويفجعكم البتة وإذا كان حالكم عند حلول هذا وشأنكم هكذا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ سبحانه حلوله الْمُجْرِمُونَ المستحقون لانواع العقوبة والعذاب مع انه مكروه كله سيما بالنسبة إليهم
أَتنكرون وتكذبون وتصرون على ما أنتم عليه من الكفر والشرك الى وقت حلول العذاب ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ ونزل آمَنْتُمْ بِهِ والحال ما ينفعكم الايمان حينئذ إذ قيل لكم في تلك الحالة من وراء سرادقات العز والجلال آلْآنَ ايها الضالون المكذبون آمنتم به وَالحال انه قَدْ كُنْتُمْ من شدة انكاركم وإصراركم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ استهزاء وسخرية
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالله بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده سبحانه ذُوقُوا بدل ذوقكم واستلذاذكم بتكذيب الرسل والاستهزاء بهم عَذابَ الْخُلْدِ المستمر الدائم الذي لا ينقطع ابد الآباد وبالجملة هَلْ تُجْزَوْنَ وما تعاقبون أنتم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في النشأة الاولى من الجرائم العظام والمعاصي والآثام
وَبعد تبليغك إليهم يا أكمل الرسل مآل أمرهم وعاقبة حالهم انهم يَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك على مقتضى أكنتهم المستكنة في قلوبهم أَحَقٌّ هُوَ اى ما أخبرت به من الوعيدات الهائلة يعنى أجدّ هو أم هزل وتخويف قُلْ يا أكمل الرسل مبالغا في تحقيقه وتقريره إِي وَرَبِّي اى اقسم بحق ربي الذي رباني على الصدق والعدالة وانواع الامانة والكرامة إِنَّهُ لَحَقٌّ اى عموم ما أخبرت به بوحي الله والهامه ثابت محقق مطابق للواقع بلا شبهة وتردد في وقوعه وثبوته وَما أَنْتُمْ ولستم في وسعكم وطاقتكم سيما بأمثال هذه الشبهات الواهية والظنون والجهالات الناشئة من الأوهام والخيالات بِمُعْجِزِينَ مسقطين العذاب النازل عليكم
وَكيف تسقطون عذاب الله عنكم ايها الجاحدون الجاهلون مع انه لَوْ فرض وقدر أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ وخرجت عن مقتضى أوامر الله ونواهيه تملكا وتصرفا عموم ما فِي الْأَرْضِ من الخزائن والدفائن جميعا لَافْتَدَتْ بِهِ البتة بل بأضعافه وآلافه ان قبلت الفدية منها فافتدت وَبعد افتدائهم وافدائهم هذه قد أَسَرُّوا النَّدامَةَ واضمروا اليأس والحرمان في نجواهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ اى حين عاينوا به وبأهواله وافزاعه وهم حينئذ قد ندموا عما افتدوا بمقابلته وقنطوا عنها مطلقا مستقلين بما افتدوا وافدوا وَبالجملة لم تنفعهم الفدية ولم يفدهم الافتداء أصلا بل قُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم عليهم بِالْقِسْطِ والعدل السوى الإلهي وبمقتضى حكمته وحكومته وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ في جزاء ظلمهم وكفرهم وكيف يتصور الظلم والجور من لدنه سبحانه مع ان الكل من انجلال أسمائه وعكوس أوصافه
أَلا إِنَّ لِلَّهِ وفي حيطة حضرة علمه وقدرته عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَكذا عموم ما ظهر في الْأَرْضِ من الكائنات والفاسدات يعذب من يشاء عدلا منه ويرحم على من يشاء فضلا أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعد لعباده من الثواب والعقاب حَقٌّ محقق ثابت لا محالة إذ لا يجرى الخلف في وعده أصلا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصور فهمهم وقلة تدبرهم في أحكامه المبرمة وحكمته المتقنة لا يَعْلَمُونَ حقية وعده ولا يؤمنون بها جهلا وعنادا وكيف يشكون ويترددون أولئك المصرون المعاندون في سعة حوله وقوته وكمال قدرته وتستبعدون منه سبحانه انجاز وعده ووعيده
إذ هُوَ يُحيِي اى يظهر ويوجد بالتجلى الحبى الجمالي أولا هياكلهم وأشباحهم مع انهم لم يكونوا شيأ مذكورا وَبعد ما احيي واظهر عموم ما اظهر يُمِيتُ يعدم بالتجلى القهرى الجلالي
عموم ما ظهر على ما هو عليه من العدم وَكيف لا يقدر سبحانه على اعادتهم احياء بعد اماتتهم للحساب والجزاء وتعديد الأعمال والأحوال مع انهم بعموم أحوالهم وأعمالهم وذواتهم وصفاتهم إِلَيْهِ سبحانه لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُونَ رجوع عموم الأضواء والاظلال الى الشمس وذي الظل
يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون المنشأ الأصلي والموطن الحقيقي قَدْ جاءَتْكُمْ لإيقاظكم وانتباهكم مَوْعِظَةٌ وتذكرة ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة الهداية والدراية وَاعلموا ايها المكلفون ان تذكرتكم هذه شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ يعنى تشفى هذه التذكرة عليكم وتزيل عطش غليلكم وأكنتكم المستكنة في صدوركم وَايضا هي هُدىً يهدى ارباب العناية والقبول الى مقر الوحدة ومنزل الوصول وَبالجملة هي رَحْمَةٌ عامة شاملة لِلْمُؤْمِنِينَ اى لعموم ارباب البر والقبول الموفقين على الانابة والرجوع من لدنه سبحانه فعليكم ايها الأحرار ان تتعظوا وتتذكروا بحكمه وأحكامه وتتأملوا في رموزه وإشاراته وتدربوا في مفاتحه ومطالعه حتى تنكشفوا منه بقدر وسعكم وطاقتكم بما تنكشفون والله هو الهادي الى جنابه من يشاء من عباده وهو العزيز الحكيم
قُلْ يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين إرشادا لهم وتذكيرا بِفَضْلِ اللَّهِ المحسن المتفضل وبحسن قبوله وبشرف عز حضوره وَكذا بِرَحْمَتِهِ اى بمقتضى سعة رحمته الواسعة المتسعة لعموم مظاهره ومصنوعاته فليبسطوا وليتشرفوا فَبِذلِكَ التلذذ والحضور الحقيقي فَلْيَفْرَحُوا بدل ما لم يتلذذوا ولم يفرحوا بالمستلذات الجسمانية الفانية المتناهية وبالجملة هُوَ اى سروركم وفرحكم الروحاني خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من اهوية نفوسكم ومقتضيات هوياتكم ان كنتم موقنين مخلصين
قُلْ أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني كيف كفرتم وتصرفتم في ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأموركم لَكُمْ لمعاشكم وتقوية امزجتكم مِنْ رِزْقٍ مسوق نحوكم محصل بأسباب سماوية مباح لكم فَجَعَلْتُمْ أنتم من تلقاء انفسكم مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا يعنى قد حرمتم أنتم على انفسكم بعضه وحللتم بعضا آخر بلا ورود وحى وشرع ونزول الهام وكتاب قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل المبالغة والإلزام والافحام آللَّهُ أَذِنَ لكم بهذه التفرقة والقسمة ايها المسرفون المفسدون أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أنتم بنسبتها اليه
وَما ظَنُّ اى اىّ شيء هو زعم أولئك المسرفين المفترين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بأنهم لم يحاسبوا ولم يؤاخذوا ولم يجازوا يَوْمَ الْقِيامَةِ والجزاء على افترائهم على الله ما لم يصدر عنه ولم يوح منه بلى انهم مؤاخذون على اجترائهم على الله وافترائهم إياه سبحانه سيما بعد ورود انواع الزواجر والروادع من الآيات البينات والمعجزات الباهرات الظاهرات الدالة على امتناع هؤلاء الغواة الطغاة من غوايتهم وطغيانهم فلم يمتنعوا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر المصلح لأحوال عباده لَذُو فَضْلٍ عظيم ولطف عميم عَلَى النَّاسِ بانزال الكتب وإرسال الرسل المنبهين عليهم بما هو الأصلح لهم وأليق بحالهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لفرط جهلهم وخبث طينتهم لا يَشْكُرُونَ نعمه بل ينكرون عليها ويكفرون بها عنادا ومكابرة
وَكيف ينكرون رسالتك من الله والوحى النازل إليك يا أكمل الرسل من لدنه سبحانه تأييدا لك وتعظيما لشأنك مع انك ما تَكُونُ أنت يا أكمل الرسل فِي شَأْنٍ ولست أنت في امر من ادعاء الرسالة من الله ودعوى التشريع من لدنه سبحانه بلا اذن منه وبلا وحى والهام نازل من عنده وَايضا ما أنت تَتْلُوا مِنْهُ اى من كلامه
سبحانه مِنْ قُرْآنٍ قراءة وتلاوة مدعيا نزوله من عنده سبحانه وَلا تَعْمَلُونَ أنتم ايها المعاندون المكابرون مِنْ عَمَلٍ صالح او طالح خيرا او شرا إِلَّا قد كُنَّا بذاتنا وبجميع أسمائنا واوصافنا عَلَيْكُمْ ايها المكلفون شُهُوداً حضراء رقباء مطلعين على عموم ما قد جئتم وعملتم به بل نحن مطلعونه قبل إِذْ تُفِيضُونَ اى تخوضون وتقصدون الشيوع والشروع فِيهِ او الذب والانصراف عنه وكيف لا نطلع عليه ولا يحيط علمنا به وشهودنا إياه وَما يَعْزُبُ ولا يغيب ولا يفوت عَنْ رَبِّكَ ومربيك ايها المظهر الأكمل للاسم الأعظم الجامع لجميع المراتب الكلية والجزئية الكونية والكيانية المتخلق الكامل بعموم الأخلاق الإلهية مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ كائنة فِي اقطار الْأَرْضِ وأرجائها وَلا كائنة فِي السَّماءِ وفضائها وَكيف يعزب ويغيب عن حيطة حضرة علمه شيء مع انه لا شيء أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ المقدار المذكور وَلا شيء ايضا أَكْبَرَ منه إِلَّا هو مثبت مرقوم فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة العلم الإلهي ولوح محفوظ القضاء والأعيان الثابتة على اختلاف العبارات وهو ظاهر الابانة والظهور بالنسبة الى ارباب الولاء الباذلين مهجهم في طريق الفناء المستغرقين في بحر الوحدة فانين عن هوياتهم بالمرة
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ المنخلعين عن لوازم بشريتهم بالكلية المنسلخين عن مقتضيات اهوية نفوسهم رأسا لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إذ الخوف والحزن انما هو من لوازم الطبيعة ومقتضياتها وبعد ما انسلخوا عنها وتجردوا عن لوازمها قد فنوا في هوية الحق وصاروا ما صاروا بحيث لم يبق فيهم مبدأ الخوف والحزن والأمن والسرور إذ لا يتصف المعدوم الفاني والموجود الحقيقي الباقي بأمثال هذه الأوصاف الاضداد.
والأولياء هم الَّذِينَ آمَنُوا بالله في بداية سلوكهم وتحققوا بمقام اليقين العلمي وَبعد تمكنهم وتقررهم فيه كانُوا يَتَّقُونَ ويحذرون من سطوة سلطنة صفاته الجلالية لانغماسهم بشواغل اهوية الهويات وانهماكهم بعلائق التعينات ثم لما استخلصوا منها بالإخلاص التام والإخبات الصادق
ُمُ الْبُشْرى
من الله بالفوز العظيم الا وهو تحققهم بمقام الفناء والفناء عن الفناء ايضاي الْحَياةِ الدُّنْيا
ما داموا فيها فِي الْآخِرَةِ
بأضعافها وآلافها إذ هم قد تحققوا بمقام العبودية وتقرروا في مقر التوحيد ووصلوا الى ما اظهر هم الحق لأجله الا وهو المعرفة والشهود والحضور مع الخلاق الودود فنعم المقام المحمود ونعم الحوض المورود ونعم الشاهد المشهود وبالجملة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
التامات الناطقة بأنواع البشارات والكرامات لِكَ
التبشير الشامل حكمه للنشأتين والباقي اثره حسب المنزلتين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
والفضل الجسيم لأهل العناية من ارباب القبول
وَبعد ما تحققت أنت يا أكمل الرسل بولاية الله واتصفت بولائه ومحبته وفزت بما فزت لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ الفاسد الباطل بالكفر والشرك والتكذيب والاستهزاء ولا تغتم بتهديدهم إياك ولا تبال بمفاخرتهم وخيلائهم ومباهاتهم بالمال والجاه عليك إِنَّ الْعِزَّةَ المعتبرة العظيمة لِلَّهِ المتعزز برداء العظمة والجلال المتوحد بنعوت الكمال والجمال جَمِيعاً بحيث لا يعتد بعزة هؤلاء الغواة العصاة وسيخذلهم الله عن قريب بالقهر والانتقام وينصرك عليهم بالغلبة والاستيلاء إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الكاذبة الباطلة الْعَلِيمُ بنياتهم الفاسدة فيها فيجازيهم بمقتضى علمه وينتقم عنهم وفق خبرته. قل يا ايها النبي الهادي لمن يدعى ربوبية الاظلال الهالكة والوهية التماثيل الباطلة تنبيها عليهم وايقاظا لهم عن منام غفلتهم كيف تدعون ايها الحمقى شركة المصنوع المرذول مع الصانع
القديم العليم الحكيم
أَلا إِنَّ لِلَّهِ اى تنبهوا ايها المسرفون الجاهلون بقدرة الله المتوحد المنفرد بذاته المتجلى في الآفاق حسب أسمائه وصفاته مظاهر مَنْ فِي السَّماواتِ اى العلويات من الأسماء والصفات الموسومات بالملائكة وَكذا مظاهر مَنْ فِي الْأَرْضِ من الثقلين وهم مع كمال فضلهم وشرفهم وعلو شأنهم لا يستحقون بالالوهية والربوبية فكيف تستحق هؤلاء الجمادات الساقطة عن درجة الاعتبار وَظاهران ما يَتَّبِعُ المشركون الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ في ألوهيته مستحقين للعبادة كعبادته الا الزور الباطل والزيغ الزائل بل إِنْ يَتَّبِعُونَ وما يقتدون هؤلاء الضالون المشركون المفرطون إِلَّا الظَّنَّ والتخمين الناشئ من جهلهم وغفلتهم عن سرسريان هوية الحق المطلق والثابت في المظاهر كلها لذلك حصروها في مظهر دون مظهر وَبالجملة إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى ما هم في ادعائهم وحصرهم هذا الا كاذبون كذبا مبينا آفكون إفكا عظيما تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا كيف تغفلون عن الله ايها الجاهلون
وكيف تشركون معه غيره ايها الجاحدون المحجوبون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ بكمال قدرته وحكمته لباسا لكم لِتَسْكُنُوا فِيهِ وتستريحوا من المتاعب وَكذا قد جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً لتهتدوا الى مطالبكم في امور معاشكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتقدير لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته وتوحده في ألوهيته وتفرده في ربوبيته واستقلاله في التصرف مطلقا بلا مظاهرة احد ومشاركة ضد وند لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سمع تدبر وتدرب واستكشاف تام بعزيمة صادقة صافية عن شوب الغفلة والذهول وهم من كثافة حجبهم وغشاوة قلوبهم واسماعهم وأبصارهم ما قدروا الله حق قدره لذلك نسبوا اليه ما هو منزه عنه سبحانه
حيث قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ وتعالى عما يقول الظالمون في شأنه علوا كبيرا كيف يكون له سبحانه ولد مع انه هُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن التعدد مطلقا وليس لغيره وجود أصلا بل لَهُ سبحانه مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اى العلويات والسفليات حيث ظهر سبحانه حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا بمقتضى التجلي الحبى الشوقى اللطفى بلا انصباغ له بالكون بل بالتمثل والانعكاس وبامتداد الظل ورش النور إِنْ عِنْدَكُمْ وما معكم وليس دونكم ايها الجاهلون الجاحدون بمعرفة الله وحق قدره مِنْ سُلْطانٍ اى حجة وبرهان بِهذا الادعاء الكاذب والقول الباطل بل ما تتكلمون به الا افتراء ومراء أَتَقُولُونَ وتفترون عَلَى اللَّهِ المنزه المقدس ما لا تَعْلَمُونَ ولا تدركون لياقته بجنابه ايها المفترون المبطلون
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا للمكذبين المفترين كلاما ناشئا عن محض حكمته إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ولا يفوزون في النشأة الاخرى بمرتبة التوحيد التي هي معراج اهل الكمال بل ما يحصل لهم بافترائهم هذا
وان حصل الا مَتاعٌ اى تمتع قليل فِي الدُّنْيا من الرياسة والجاه ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في النشأة الاخرى ثُمَّ بعد تيقنهم وكشفهم فيها نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بدل ما قد تلذذوا بالمحرمات والمكروهات في النشأة الاولى بِما كانُوا يَكْفُرُونَ اى بشؤم كفرهم وشركهم
وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ تذكيرا وتعريضا نَبَأَ نُوحٍ اى قصته مع قومه وقت إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ حين استعظموا امره وقصدوا إهلاكه عنادا ومكابرة يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه بمقتضى شفقة النبوة إِنْ كانَ كَبُرَ اى قد
شق وعظم عَلَيْكُمْ مَقامِي فيكم وحياتي بينكم وَتَذْكِيرِي إياكم بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته فَعَلَى اللَّهِ لا على غيره إذ لا غير معه ولا شيء سواه تَوَكَّلْتُ اى وثقت به وفوضت امرى اليه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اى فعليكم ان تجمعوا عموم تدابيركم في قتلى وإهلاكي وَمع ذلك ادعوا شُرَكاءَكُمْ واستظهروا منهم لدفعى ثُمَّ بعد تدبيركم في انفسكم واستظهاركم بهم أظهروا بحيث لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ وشأنكم ولم يبق فيه عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثلمة وسترة أنتم تغتمون بها وتحزنون بسببها بل رتبوا أموركم وأسبابكم كلها على الوجه الذي تقتضيه نفوسكم وترتضيه عقولكم ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وامضوا واصرفوا نحوي جميع ما اعددتم وهيأتم من الأسباب الموجبة لهلاكى ومقتى وَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلون طرفة بل امضوا على دفعة ما أنتم عليه من قتلى ومقتى فاعلموا انى لا أبالي بكم ولا بتدابيركم وظهراءكم إذ الله حسبي وعليه توكلي وبه اعتمادي واعتصامي اذكر لكم باذنه وأعظكم بوحيه على الوجه الذي أمرني واوحانى
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اى أعرضتم أنتم وانصرفتم عن تذكيري بلا سبب وما هو الا من جهلكم وضلالكم فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ حتى يكون سبب توليكم وأعراضكم سؤالى منكم الجعل ويشق عليكم إعطاؤه فانصرفتم وأعرضتم بل إِنْ أَجْرِيَ اى ما اجرى وما جعلى إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أمرني به وَكيف لا قد أُمِرْتُ انا من عنده أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المسلمين الأمور كلها اليه المنقادين لحكمه وقضائه إذ الكل منه بدأ واليه يعود ومع ذلك النصح والشفقة والتليين التام المنبعث عن محض الحكمة وكذا مع انواع الحجج والبراهين الدالة على صدقه في دعواه
فَكَذَّبُوهُ عنادا ومكابرة وأصروا على تكذيبه عتوا واستكبارا فأخذناهم بالطوفان لانهماكهم في الغي والطغيان فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ اى نجينا نوحا ومن آمن به من الغرق محفوظين فِي الْفُلْكِ التي قد نحتها نوح عليه السّلام بيده بوحي الله إياه وتعليمه وهم قد استهزؤا معه حين اشتغل بنحتها وترتيبها وَجَعَلْناهُمْ اى اصحاب السفينة خَلائِفَ من الهالكين وهم ثمانون مؤمنون بالله مصدقون لرسوله وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ المكذبين لنذيرهم ومنذرهم والى اين ادى انكارهم واستكبارهم فاعتبروا يا اولى الأبصار
ثُمَّ لما ازداد أولئك الخلفاء الناجون وتشعبوا الى ان صاروا امما وأحزابا ودار عليهم الأدوار والأكوار وصاروا منصرفين عن طريق الحق مائلين منحرفين عن سبيل الرشد والسداد بَعَثْنا لإصلاح أحوالهم مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد نوح رُسُلًا منهم كل واحد من الرسل إِلى قَوْمِهِمْ وأمتهم فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الساطعة القاطعة المثبتة لدعواهم من لدنا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا اى ما تيسر لهم وما صح عندهم وما ثبت لديهم ان يؤمنوا ويصدقوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ اى قبل بعثة الرسل بل قد أصروا على ما هم عليه واعتادوا له بلا تغيير ولا تبديل لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم وخباثة طينتهم وبالجملة كَذلِكَ نَطْبَعُ ونختم بختام الغفلة والنسيان عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود الله الراسخين على التجاوز والعدوان حسب فطرتهم
ثُمَّ لما عتوا عن الأمم الماضية من عتوا وأخذنا منهم من أخذنا بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد هؤلاء الرسل الماضين مُوسى وَهارُونَ الذي هو اخوه وظهيره إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في العتو والعناد الى حيث ادعى الربوبية لنفسه من شدة بطره وخيلائه حيث تفوه بكلمة انا ربكم الأعلى وَالى
مَلَائِهِ المؤمنين به المعاونين بشأنه الكافرين بالله مؤيدين بِآياتِنا الدالة على استقلالنا في الآثار وتفردنا في الألوهية والربوبية وعلى صدق رسولنا في عموم ما جاء به من لدنا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد واستقبلوا بالتكذيب والعناد وَبالجملة هم في سابق علمنا ولوح قضائنا قد كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مجبولين بأعظم الجرائم مستحقين باشد العذاب لذلك أظهروا ما هو كامن مكنون في استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع والانقياد مِنْ عِنْدِنا سيما بعد ما قد عارضوا معه مرارا قابلوا بمعجزاته ما قابلوا من السحر والشعبذة تكرارا قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم بدل ما صدقوه وآمنوا له بعد ظهور امره وشأنه بالبراهين القاطعة والمعجزات الساطعة إِنَّ هذا الذي جاء به هذا الساحر الكذاب لَسِحْرٌ مُبِينٌ عظيم ظاهر فائق على سحر عموم السحرة
قالَ مُوسى بعد ما سمع منهم هذا آيسا عن ايمانهم قنوطا عنهم متحسرا متحزنا بمقتضى شفقة النبوة موبخا لهم على وجه العظة والتذكير أَتَقُولُونَ ايها الحمقى لِلْحَقِّ الصريح الثابت الصحيح لَمَّا جاءَكُمْ وحين أتاكم لإصلاح حالكم ليورث في قلوبكم تصديقا بوحدانية ربكم ويؤثر فيها انه سحر باطل وزور أَما تستحيون من الله ولا تنصفون وما تخافون من بطشه تقولون سِحْرٌ هذا وَالحال انه لا يُفْلِحُ ولا يفوز بالخير ابدا السَّاحِرُونَ المزورون المبطلون وهذا خير كله عاجلا وآجلا وفوز بالفلاح والنجاح ظاهرا وباطنا
قالُوا على سبيل المكابرة والعناد بعد ما سمعوا من موسى قوله ونصحه أَجِئْتَنا ايها الساحر الكاذب لِتَلْفِتَنا وتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وأسلافنا وَاشتهيت أنت يا موسى اصالة وأخوك تبعا لك ان تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ والعظمة فِي الْأَرْضِ التي كنا مستقرين عليها ساكنين فيها مرفهين وَبالجملة اذهبا الى حيث شئتما ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ مصدقين منقادين
وَبعد ما أفحموا عن براهينهما وحجتهما وعجزوا عن معجزاتهما صمموا العزم لمعارضتهما حيث قالَ فِرْعَوْنُ امرا لأعوانه وانصاره ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ماهر كامل فيه فأرسلوا شرطا لجميع اهل السحر فجمعوا واحضروا على فناء فرعون مجتمعين ثم عينوا الوقت والموعد فخرجوا اليه ليعارضوا معهما
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ الموعد الموعود وحضروا في الميقات المعهود قالوا لموسى تحقيرا له وتهوينا لأمره الق يا موسى ما جئت به من السحر قالَ لَهُمْ مُوسى مستعينا بالله معتصما عليه ملهما من عنده متوكلا عليه أَلْقُوا أنتم ايها المفترون المكذبون أولا
ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا عموم ما جاءوا به من انواع السحر واستحسنوا من فرعون وملائه واستأملوا منه الجعل الكثير وجزموا على الغلبة قالَ لهم مُوسى بعد ما رأى جميع ما القوا ما جِئْتُمْ بِهِ ايها المفسدون المعاندون هو السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ المطلع بعموم مخايلكم سَيُبْطِلُهُ عن قريب ثم القى موسى عصاه بالهام الله إياه فإذا هي تلقف وتلتقم عموم ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فانقلبوا هنالك وصاروا صاغرين وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ منهم لانهماكهم في الإفساد والإسراف المصرين على العتو والعناد
وَبالجملة يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ الثابت عنده ويقرره في مكانه بِكَلِماتِهِ التامات اى بأوامره ونواهيه وآياته ومعجزاته وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المحرومون عن نور الايمان والتوحيد ذلك التثبيت والتقرير ثم لما ظهر امر موسى وشاع غلبته بين الأنام وفاق معجزاته على عموم ما جاءوا به من السحر
والشعبذة
فَما آمَنَ لِمُوسى منهم مع ظهور صدقه بين أظهرهم إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ شبان قَوْمِهِ اى بنى إسرائيل وسبب توقف شيوخهم بعد الدعوة انهم عَلى خَوْفٍ وخطر عظيم مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الذين يجتمعون حولهم من القبط أَنْ يَفْتِنَهُمْ ويصول عليهم ليقتلهم وَكيف لا يخافون أولئك المظلومون إِنَّ فِرْعَوْنَ المتناهي في العتو والاستكبار لَعالٍ فِي الْأَرْضِ غالب قاهر على عموم من فيها وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الاستيلاء والبسطة والكبرياء حيث تفوه من كمال كبره بانا ربكم الأعلى
وَبعد ما قد رأى موسى توقف قومه في امر الايمان سيما بعد وضوح البرهان قالَ لهم مُوسى على سبيل العظة والتذكير وتعليم التوكل والتفويض الذي هو من أقوى شعائر الايمان مناديا لهم ليقبلوه عن ظهر القلب يا قَوْمِ أراد به بنى إسرائيل إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ الرقيب الحسيب لعباده فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا في عموم أموركم وحالاتكم إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مسلمين أموركم اليه سبحانه منقادين لحكمه وما جرى عليكم من قضائه
ثم لما سمعوا مقالة موسى تأثروا منها وتذكروا فَقالُوا عَلَى اللَّهِ المتولى لأمورنا تَوَكَّلْنا رَبَّنا يا من ربانا بلطفك وهدانا الى توحيدك لا تَجْعَلْنا بحولك وقوتك فِتْنَةً اى محل فتنة ومصيبة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين قصدوا ان يتسلطوا علينا ويفتنوا بنا
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ التي وسعت كل شيء مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ القاصدين ستر الحق باباطيلهم الزائغة الكائدين الماكرين المخادعين مع من توجه نحوك ورجع إليك
وَبعد ما بثوا شكواهم إلينا وأخلصوا في تضرعهم وتوجههم نحونا قد أَوْحَيْنا إِلى مُوسى اصالة وَالى أَخِيهِ تبعا أَنْ تَبَوَّءا اى اتخذا مباءة ومسكنا ومبيتا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ وأموالهم ان يبنوا بُيُوتاً فيها وَبعد ما بنيتم بيوتا اجْعَلُوا اى كل واحد منكما ومنهم بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ومسجدا تتوجهون فيها الى الله وتتقربون نحوه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها واديموا الميل والتوجه نحو الحق مخبتين خاشعين مخلصين وَبعد ما قد واظبوا على ما أمروا واستقاموا عليه مخلصين بَشِّرِ يا موسى الداعي لهم الى طريق الحق الْمُؤْمِنِينَ المتوجهين نحوه سبحانه بالنصرة على الأعداء في الدنيا وبالكرامة العظيمة في النشأة الاخرى الا وهي الفوز بالوصول الى فناء المولى وشرف لقائه
وَقالَ مُوسى بعد ما تفرس الاجابة والقبول داعيا على الأعداء رَبَّنا إِنَّكَ بفضلك وجودك قد آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً هم يتزينون بها وَأَمْوالًا يميلون إليها ويفتخرون بها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ولم يشكروا لنعمك بل يكفرون بهايا رَبَّنا وانما افتخروا وباهوا بحطامهم لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ضعفاء المؤمنين المتلونين الذين لم يتمكنوا في مقر اليقين ولم يتوطنوا في موطن التمكين رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ اى امحها وأتلفها لئلا يتمكنوا على تضليل عبادك بها وَاشْدُدْ ختمك وطبعك عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا ولا ينكشفوا بالإذعان والقبول حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ المعد لهم بكفرهم وإصرارهم الْأَلِيمَ المؤلم في غاية الإيلام حين رأوا المؤمنين في سرور دائم ولذة مستمرة وجنة النعيم
قالَ سبحانه مبشرا لموسى وأخيه قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ووقع مناجاتكما في محل القبول ثنى الضمير لان هارون يؤمن حين دعا موسى فَاسْتَقِيما على ما أنتما عليه من الدعوة والزام الحجة ولا تفتروا في شأنكما هذا والزما الصبر والاصطبار إذ الأمور مرهونة بأوقاتها وَلا تَتَّبِعانِّ في الاستسراع والاستعجال سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يحسنون الأدب مع الله في الحاحهم واقتراحهم في طلب الحاجات
وبعد ما تمرنوا بالصبر واستقاموا على ما أمروا مخبتين فازوا بما ناجوا وطلبوا مؤملين
وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إذ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ اى عبرناهم من البحر سالمين وذلك حين هم فرعون وملاؤه ان يكبوا على بنى إسرائيل ويستأصلوهم بالمرة فأوحينا الى موسى ان أسر بعبادي ليلا فاسرى بهم فأخبروا فخرجوا على أثرهم على الفور فادركوهم على شاطئ البحر فأوحينا الى موسى بضرب البحر بالعصا فضرب فانفلق البحر وافترق فرقا فعبروا سالمين فلما ابصر فرعون وملاؤه انفلاق البحر وعبورهم منه سالمين فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ واقتحموا في البحر مغرورين بلا مبالاة وتأمل بَغْياً وَعَدْواً ظلما وزورا عتوا واستكبارا فاجتمع البحر بعد اقتحامهم وعاد على ما كان عليه فغرقوا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ اى فرعون وايس عن حياته وجزم ان لا نجاة له أصلا قالَ في حالة الاضطرار مصرخا صائحا باكيا راجيا الخلاص بمجرد الإقرار آمَنْتُ واعترفت أَنَّهُ اى بانه لا إِلهَ يعبد بالحق إِلَّا الا له الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لما جاء به رسوله موسى وحين تفوه بها فرعون قد هتف هاتف من وراء سرادقات العز والجلال قائلا
آلْآنَ ايها الطاغي الباغي الغاوي آمنت حين انقرض وقت الايمان وانقضى زمانه وَقد أخذت على ما قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ في مدة حياتك وَقد كُنْتَ في زمان طغيانك وعصيانك الذي هو زمان الايمان والعرفان مِنَ الْمُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات لا من المؤمنين
فَالْيَوْمَ والآن لا ينفعك إيمانك بل نُنَجِّيكَ ونخرجك من البحر بِبَدَنِكَ بلا روح ونسقطك على الساحل عريانا لِتَكُونَ أنت لِمَنْ خَلْفَكَ من المتجبرين المتكبرين آيَةً زاجرة وعبرة رادعة لهم عن العتو والعناد صارفة لهم عن الجور والفساد وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الناسين عهودنا ومواثيقنا التي قد عهدنا مع استعداداتهم في حضرة علمنا ولوح قضائنا عَنْ آياتِنا الدالة على شدة أخذنا وانتقامنا لَغافِلُونَ مثلك ايها الطاغي
وَبعد ما أهلكنا فرعون وملائه بالغرق لَقَدْ بَوَّأْنا مكنا واسكنا حسب ما وعدنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ اى مقعد صدق وموضع ثبوت واستقرار وتمكين على ما تقتضيه نفوسهم وترتضيه عقولهم وَبعد تمكينهم وتوطينهم قد رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى من أطايب الاغذية والأشربة والفواكه ولذائذها فَمَا اخْتَلَفُوا في امر دينهم قبل نزول الكتاب عليهم بل هم متفقون مجتمعون على ما بلغهم رسولهم وهداهم اليه حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ وانزل عليهم الكتاب فما اختلفوا فيه وتفرقوا فرقا وتحزبوا أحزابا وانحرفوا عن طريق الحق وحرفوا كتابه سيما نعتك وحليتك واوصافك يا أكمل الرسل إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ويحكم عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اى يفصل بينهم ويميز محقهم عن مبطلهم بالاثابة والعقاب
فَإِنْ كُنْتَ يا أكمل الرسل فِي شَكٍّ وريب مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ في كتابك من قصصهم واخبارهم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وارجع إليهم لازالة شكك وحل شبهتك وتفحص عنهم حتى تنكشف لك وتحقق عندك وبالجملة لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ الصريح الصحيح الثابت المطابق للواقع بلا شوب ريب عليك مِنْ عند رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَلا تَكُونَنَّ أنت فيه مِنَ المُمْتَرِينَ إذ ليس هذا محلا للشك والارتياب إذ لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد عليم
وَبعد ما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل لا تَكُونَنَّ
البتة مِنَ المسرفين المفرطين الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته ومتانة علمه وحكمته فَتَكُونَ أنت حينئذ مع علو شأنك وسمو برهانك مِنَ الْخاسِرِينَ الساقطين عن مرتبة الخلافة النازلين عن درجة ارباب المعرفة والتوحيد وأمثال هذه الخطابات من الله العليم الحكيم لحبيبه الذي قد ظهر على الخلق العظيم وتمكن على الصراط المستقيم انما هي حث وترغيب للمؤمنين على ملازمة كتاب الله ومحافظة أوامره ونواهيه وتثبيت لهم في ايمانهم وتصديقهم
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ اى ثبتت وجرت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في سابق علمه ولوح قضائه بكفرهم وشركهم لا يُؤْمِنُونَ بدعوتك وتبليغك إليهم الآيات الرادعة الزاجرة والبراهين الساطعة القاطعة
بل وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ مقترحة لهم منك لم يؤمنوا بك لشدة شكيمتهم معك وكثافة غشاوتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعد لهم من عند الله العزيز العليم فاعرض عنهم يا أكمل الرسل ودعهم وأمرهم فانا ننتقم منهم
فَلَوْلا وهلا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى الهالكة التي قد أخذوا بظلمهم آمَنَتْ حين حلول العذاب عليهم ولاح اماراته دونهم مثل ما آمن فرعون حين غشيه اليم فَنَفَعَها في تلك الحالة الملجئة إِيمانُها ونجى به عن العذاب إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا حين عاينوا بحلول العذاب وظهر عليهم علامات الغضب الإلهي وأخلصوا لله مخبتين خاضعين خاشعين قد كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ الذي هم يفتضحون بسببه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لو لم نكشف وَبعد ما كشفنا العذاب عنهم قد مَتَّعْناهُمْ بأنواع التمتع وصيرناهم مترفهين إِلى حِينٍ حلول آجالهم المقدرة وذلك انه لما بعث يونس عليه السّلام الى نينوى هي قرية من قرى الموصل كذبوه واستهزؤا به فوعدهم بالعذاب بعد ثلثين او أربعين فلما قرب الوعد الموعود خرج من الأفق سحاب غليظ وغيم اسود ودخان مظلم شديد فغشى قريتهم فهابوا هيبة عظيمة فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه وهموا الى الانابة والتضرع فلبسوا المسوح وخرجوا نحو الصحارى بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين والدة وولدها وحن بعضها الى بعض فصاحوا وصرخوا وتضرعوا الى حيث قد علت الأصوات واختلطت الضجيج وأظهروا الندامة وأخلصوا التوبة والانابة فرحمهم الله وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة ولا تستبعد يا أكمل الرسل مثل هذه الألطاف من الله الغفور الرّحيم
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ وتعلقت ارادته بإيمان من على الأرض لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لم يبق على وجه الأرض كافر أصلا بل يؤمنون جَمِيعاً مجتمعين بلا اختلاف وتفرقة لكن قضية الحكمة تقتضي الخلاف والاختلاف والكفر والايمان والحق والباطل والهداية والضلال ليظهر سرائر التكاليف والتحميلات الواردة من الله على السنة رسله وكتبه وكذا سر المجازاة في النشأة الاخرى وحكمة خلق الجنة والنار وجميع الأمور الاخروية والمعتقدات الدينية ومتى جرت حكمة الله على هذا أَفَأَنْتَ يا أكمل الرسل من حرصك على تكثير المؤمنين تُكْرِهُ النَّاسَ وتلجئهم الى الايمان حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ جميعا مع ان بعضهم مجبولون على كفرهم ولم يتعلق ارادة الله ومشيئته بايمانهم
وَبالجملة ما كانَ لِنَفْسٍ اى ما تيسر لها وما وسع في وسعها وطاقتها أَنْ تُؤْمِنَ بالله باختيارها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وتوفيقه واقداره إذ لا حول ولا قوة الا بالله. وافعال العباد كلها مستندة الى الله ناشئة من مشيئته اصالة ومادام لم تتعلق مشيئته لم يحدث حادث من الحوادث الكائنة فعليك يا أكمل الرسل ان لا تتعب نفسك في هداية من أراد الله إضلاله وضلاله وبالجملة انك لا تهدى من أحببت فكيف سعيت واجتهدت
وأتعبت نفسك ولكن الله يهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم وَمن جملة حكمته سبحانه انه يَجْعَلُ الرِّجْسَ اى الخذلان والحرمان ابدا عَلَى الكافرين الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ولا يستعملون عقولهم التي هي مناط التكاليف الإلهية الى ما خلقوا لأجله ولا يتفكرون ولا يتأملون في الآثار الصادرة من القادر المختار حتى ينكشفوا بتوحيده
قُلِ لهم يا أكمل الرسل على مقتضى رتبة النبوة تهييجا لهم وتحريكا على ما في استعداداتهم وقابلياتهم انْظُرُوا ايها المجبولون على النظر والتأمل ماذا اى اى شيء وذات عظيمة وسلطنة غالبة قاهرة قد ظهر بحسب أسمائه وصفاته فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظاهر العلويات والسفليات والغيوب والشهادات وَان كان ما تُغْنِي ولا تكفى الْآياتُ الدالة على وحدة الذات المتجلية في عموم الكوائن والجهات وَلا تكفى ايضا النُّذُرُ المبينون المنبهون على مدلولاتها عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لم يتعلق ارادة الله بايمانهم وتوحيدهم
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ وما يترصدون أولئك المتمردون عن الايمان إِلَّا مِثْلَ ما قد وقع ونزل على أمثالهم في الجرائم والآثام من الخسف والكسف والغرق وغير ذلك من المصائب التي قد أصابت على المشركين المسرفين في أَيَّامِ المفسدين الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هؤلاء المسرفين فان عارضوا معك يا أكمل الرسل مثل ما قد عارض أسلافهم مع أنبيائهم ورسلهم قُلْ لهم تبكيتا وإلزاما مثل ما قالوا اخوانك من الأنبياء الماضين فَانْتَظِرُوا لمقتي وهلاكي إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لمقتكم وهلاككم فالامر بيد الله والحكم في قبضة قدرته ومشيئته
ثُمَّ بعد ما أهلكنا الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر والشرك نُنَجِّي مما أصابهم رُسُلَنا الذين قد أرسلناهم إليهم وَايضا ننجي الَّذِينَ آمَنُوا بنا وصدقوا رسلنا وانقادوا بعموم ما جاء به رسلهم كَذلِكَ اى مثل انجائنا إياهم حَقًّا عَلَيْنا تفضلا منا وامتنانا على عبادنا نُنَجِّي عموم الْمُؤْمِنِينَ المنقادين لرسلنا المتدينين بديننا وعلى ذلك جرت سنتنا ومضت حكمتنا
قُلْ يا أكمل الرسل للمترددين في أمرك ودينك المتمردين عن اطاعتك وانقيادك يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ وريب مِنْ دِينِي الذي هو اسد الأديان وأصحها وأشملها واشرف الملل وأكملها إذ هو مرجع عموم الأديان كما هو مبدؤه لابتنائه على التوحيد الذاتي الذي قد اضمحلت دونه عموم الكثرات وسقطت عنده جميع الإضافات ومع ظهور فضله وكماله ووضوح حجته وبرهانه وعلو شأنه أنتم تشكون فيه فانا أحق ان أشك فيما أنتم عليه وعبدتم اليه فَلا أَعْبُدُ وأتوجه انا الأشباح والتماثيل الَّذِينَ تَعْبُدُونَ أنتم مِنْ دُونِ اللَّهِ لقصورهم عن المعبودية وعدم استحقاقهم للالوهية والربوبية مطلقا وَلكِنْ انا أَعْبُدُ اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى يعدمكم ومعبوداتكم بعد ما أظهركم وإياهم من العدم وَأُمِرْتُ من عنده أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين لتوحيده المنقادين لعموم أحكامه
وَايضا أمرت من عنده أَنْ أَقِمْ واستقم وَجْهَكَ اى توجه بوجهك الذي هو يلي الحق لِلدِّينِ الذي قد أنزله إليك لإصلاح حالك حال كونك حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَبالجملة لا تَكُونَنَّ أنت بحال من الأحوال وشأن من الشئون سيما بعد ما ظهر عليك ولاح عندك حقية دينك وملتك مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يدعون الوجود لغير الله ويشركون معه سبحانه
غيره عنادا وعدوانا
وَمتى عرفت أنت حقيقة الحال وحقيتها وظهر عندك جلية المقال لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الواجب الوجود ما لا يَنْفَعُكَ من الموجودات الباطلة والاظلال الزائلة وَلا يَضُرُّكَ ايضا إذ لا اثر لها من ذواتها ولا وجود لها في أنفسها فَإِنْ فَعَلْتَ أنت وادعيت وجود غير الحق واعتقدت له أثرا فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون على الله بادعاء الوجود والأثر لغيره
وَكيف تدعى وتثبت أنت لغيره وجودا وأثرا مع انه إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الرقيب عليك ويصبك بِضُرٍّ يسوءك ويحزنك فَلا كاشِفَ لَهُ ولا يرفع ولا يدفع عنك ضرره إِلَّا هُوَ إذ لا شيء سواه ولا اله الا هو وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يسترك تفضلا عليك وامتنانا لك فَلا رَادَّ ولا دافع لِفَضْلِهِ عنك غيره بل يُصِيبُ بِهِ اى بالفضل والحسنى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلا يمنع فضله سبحانه جرائمهم وعصيانهم إذ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم بعد استغفارهم ورجوعهم الرَّحِيمُ عليهم يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ان أخلصوا فيها
قُلْ يا من بعث لكافة البرايا وأرسل إليهم بالتوحيد الذاتي الذي قد ختم به امر التشريع والإرسال والإنزال وبلغ إليهم عموم ما جئت به من ربك مناديا عليهم ليقبلوا بقبوله يا أَيُّهَا النَّاسُ المكلفون بالعبادة والعرفان قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ الصريح مِنْ رَبِّكُمْ الا وهو الإسلام المبين لشعائر الايمان والعرفان فَمَنِ اهْتَدى بمعالم الإسلام الى التوحيد الذاتي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وما يكتب الهداية الا لها ولتكميلها ونال ثوابها عليها وَمَنْ ضَلَّ ولم يهتد بنور الإسلام فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وما يقترف الضلالة الا إليها فعاد وبالها عليها وَقل لهم ايضا يا أكمل الرسل ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ حفيظ كفيل لأموركم ضمين لها بل ما انا الا نذير وبشير أبلغكم ما أرسلت به فلكم الخيار وعليكم الاختيار
وَبالجملة اتَّبِعْ أنت يا أكمل الرسل بنفسك عموم ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك وامض عليه وبلغ الى الناس على وجه أمرت به وَلا تبال باعراضهم عنك وتكذيبهم بك بل اصْبِرْ على أذاهم وتحمل بمكروهاتهم ولا تفتز عن دعوتك إياهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ المتولى لأمورك بنصرك وغلبتك عليهم بالقتال وبنسخ دينك عموم الأديان وبنشره في جميع الأنحاء والأقطار وَبالجملة هُوَ سبحانه خَيْرُ الْحاكِمِينَ وأفضل الفاضلين إذ هو سبحانه مطلع على سرائر الأمور وخفاياها قادر على عموم الانتقام لمن أراد مقتك واعرض عنك وانصرف عن دينك رب احكم بالخير والحسنى ووفقنا على متابعة سيد الورى
خاتمة سورة يونس عليه السّلام
عليك ايها الطالب لتحقيق الحق العازم الحازم على سلوك سبيل التوحيد والعرفان المستكشف عن اهل الكشف وارباب المحبة والولاء أنجح الله آمالك ويسر لك مآلك ويصونك عما عليك ان تحافظ على شعائر دين الإسلام الذي هو الحق الصريح المنزل من الحكيم العلام على خير الأنام بالعزيمة الصحيحة الخالصة عن شوب الرياء والسمعة الصافية عن كدر الهوى والغفلة وتلازم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ممن سمحت به أكابر الصحابة سيما الحضرة الرضوية المرتضوية وأولاده الكرام وأحفاده العظام سلام الله عليهم وكرم وجوههم والتابعين لهم بإحسان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وكذا مما جاد به المشايخ العظام والا ماجد الكرام
Icon