ﰡ
[سورة الزمر]
فاتحة سورة الزمرلا يخفى على الموحدين المحمديين المتدرجين من سفل الإمكان وحضيض التقييد الى أوج الوجوب وذروة الإطلاق التي هي الوحدة الذاتية المنطوية دونها الكثرات مطلقا ان الوصول الى هذا المطلب الأعلى والمقصد الأسنى انما هو بتوفيق الحق على متابعة كتبه واطاعة رسله المرسلين من عنده سبحانه لتبيين ما في كتبه من الحكم والاحكام والمعارف والحقائق المرموزة فيها ولا شك ان أفضل الكتب وأكمل الرسل هو القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام فمن امتثل بمقتضيات القرآن وتمسك بسنن صدرت من معدن الرسالة وأحاديث شاعت من مشكاة النبوة والولاية فقد أفاض عليه الحق من سجال فضله ولطفه ما أفاض وفاز بما جبل لأجله بمقتضى الحكمة لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم وأوصاه بامتثال ما في كتابه المنزل عليه وبتبليغه الى من وفق بمتابعته وجبل من زمرته وهدى بإرشاده وهدايته فقال بعد ما تيمن باسمه الأعظم المشتمل على كل أسمائه الحسنى وصفاته العليا بِسْمِ اللَّهِ الذي انزل كتابه معربا عما فصله في حضرة علمه ولوح قضائه الرَّحْمنِ لعموم عباده بانزال الكتاب إليهم ليهديهم الى درجات جنابه الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى وحدة ذاته بعد ما أفناهم من مقتضيات تعيناتهم المقتضية للكثرة
[الآيات]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ المبين لطريق التوحيد المنبه على وحدة الحق وكمالات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى مِنَ اللَّهِ المدبر لعموم ما جرى في ملكه وملكوته إذ لا منزل في الوجود سواه سبحانه الْعَزِيزِ الغالب في امره بالاستقلال والاختيار الْحَكِيمِ المتقن في فعله حسب علمه المحيط وقدرته الشاملة وإرادته الكاملة وبعد ما بين سبحانه امر التنزيل عموما أشار الى التنزيل المخصوص المتمم المكمل لأمر الإنزال والتنزيل مطلقا فقال مشيرا الى عظم قدر المنزل اليه وجلالة شأنه ورفعة رتبته ومكانه
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك وتعظيما لشأنك الْكِتابَ الجامع لجميع ما في الكتب السالفة مع زوائد خلا عنها كلها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع بلا شوب شك وريب في نزوله منا وبالجملة فَاعْبُدِ اللَّهَ الذي اصطفاك لرسالته وخصصك بكتابه هذا حال كونك شاكرا لنعمه مؤديا لحقوق كرمه مُخْلِصاً في عبادتك وعبوديتك إياه مجتنبا عن مداخل الشرك ورعونات الرياء مطلقا لَهُ الدِّينَ والانقياد خاصة ولا مستحق للاطاعة الخالصة والاتباع الصافي الا هو سبحانه ولا يعبد بالحق الا هو وبعد ما امر سبحانه حبيبه بالعبادة والإخلاص في الإطاعة والانقياد نبه على عموم عباده بالإخلاص في الطاعة والخلوص في نيات العبادات فقال
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اى تنبهوا ايها المجبولون على فطرة التوحيد ان الدين الذي كلفكم الحق عليه وأوجبه عليكم هو الدين الخالص عن امارات الشرك ومقتضيات الهوى الصافي عن شوب السمعة وشين الرياء وَبعد ما وضح ان الدين الخالص لله ولا مستحق له سواه الَّذِينَ اتَّخَذُوا وأخذوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اى المشركون الذين ادعوا الولاية لغير الله واستحقاق الإطاعة والانقياد لسواه قالوا في تعليل اتخاذهم حين سئلوا عنه وبخوا عليه ما نَعْبُدُهُمْ اى هؤلاء الغرانيق العلى التي هي الأصنام والأوثان وجميع ما عبد من دونه سبحانه إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى اى تقريبا كاملا إذ هم كملة مقبولون عنده مكرمون لديه سبحانه فنتوسل بهم حتى نصل الى قرب الحق وجواره لا تبالوا ايها الموحدون المتمسكون لحبل التوفيق الإلهي بقولهم هذا ولا تلتفتوا الى أباطيلهم الزائغة
لَوْ أَرادَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والوجود المنزه عن الأهل والولد أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ويختار صاحبة لَاصْطَفى واختار مِمَّا يَخْلُقُ اى من بين سائر مخلوقاته في جميع شئونه وحالاته ما يَشاءُ اولى وانسب له وأليق بشأنه من مريم وعيسى فكيف من الأصنام والأوثان سُبْحانَهُ تعالى شأنه وتنزه ذاته الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد عن اتخاذ الصاحبة والولد بل هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ من جميع الوجوه المستقل بالالوهية والوجود الْقَهَّارُ لعموم السوى والأغيار مطلقا قطعا لعرق الشركة عن أصله بمقتضى توحيده سبحانه وقهره مطلقا الغير والسوى ولإظهار كمالاته المندمجة في وحدة ذاته باعتبار شئونه وتطوراته اللازمة للحي الأزلي الأبدي قد
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى قدر وأعد الأسماء الذاتية الفعالة المنعكسة من شئونه الذاتية والأوصاف القابلية المنفعلة من تلك الأسماء المظهرة لآثارها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع لا ينبغي ان يرتاب فيه احد من اهل التوحيد سيما بعد انكشافه بسرائر الوجود واسرار التوحيد بحسب الجود الإلهي وبمقتضى هذه الازدواجات المعنوية الجارية بين الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ايضا يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ اى يغشى ويغيب سبحانه على سبيل التلفيف والتخليط اضواء الأسماء والصفات بظلام الهيولى والتعينات العدمية في النشأة الاولى فكذلك يغطى ويغيب في النشأة الاخرى حجب الطبائع واظلال الهويات الهيولانية الكثيفة الظلمانية الجسمانية باشعة أنوار الذات المنتشئة منها بمقتضى الشئون والتطورات المثبتة للأسماء والصفات الإلهية وَبعد ما قد كمل سبحانه امر الظهور والإظهار وانبسط على عروش عموم ما ظهر وما بطن بالاستيلاء والاستقلال سَخَّرَ الشَّمْسَ اى جذب وقبض نحوه سبحانه بمقتضى الجاذبة المعنوية الحبية الكاملة الوجود العامّ المطلق الفياض من لدنه سبحانه على هياكل عموم الموجودات المنعكسة من الأسماء والصفات الإلهية وَالْقَمَرَ اى الهويات القابلة لانعكاس شمس الذات المستخلفة عنها إظهارا لكمال قدرته ومتانة حكمته لذلك كُلٌّ من اهل العناية يَجْرِي يكون ويدوم في مكانه ومكانته من التعيّنات موقوفا لِأَجَلٍ مُسَمًّى اى حلول أجل معين مقدر من عند ربه بمقتضى جذبه وعنايته فإذا حل الأجل المسمى انقطع الجري والسير وارتفع السلوك أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الهالكة في شمس الذات هُوَ اى الموصوف بهذه الصفات الكاملة الله الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز ذاته عن ان يحوم حول سرادقات عزه وجلاله ادراك العقول المتحيرة والأوهام المدهوشة المقهورة الْغَفَّارُ الستار لغيوم تعيناتكم باشراق شمس الذات وانقهار جميع ما لمع عليه نور الوجود على مقتضى جلاله وتفرده في نعوت كماله وكيف لا وقد
خَلَقَكُمْ اى أظهركم وأوجدكم سبحانه بالتجليات الجمالية مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي طبيعة العدم القابلة لانعكاس اشعة نور الوجود المنعكسة فيها
إِنْ تَكْفُرُوا بالله وتنكروا ظهوره واستيلاءه على عموم ما ظهر وبطن بالاستقلال فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء غَنِيٌّ عَنْكُمْ وعن ايمانكم وإطاعتكم وكفركم وعصيانكم وَغاية ما فيه انه عز شأنه وجل برهانه لا يَرْضى ولا يحب لِعِبادِهِ الذين هم قد ظهروا منه سبحانه حسب اظلال أوصافه وأسمائه الْكُفْرَ والجحود بذاته سبحانه عطفا لهم وترحما عليهم لأنهم انما جبلوا على فطرة المعرفة ومصلحة الايمان والإيقان والا فهو سبحانه في ذاته أعز وأعلى من ان يفتقر الى ايمان احد وأطاعته او يتضرر بكفره وإنكاره وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ اى وكذا غنى عنكم وعن شكركم نعمه الفائضة عليكم إذ لا يعلل فعله سبحانه بالأغراض والأعواض مطلقا لكن يرضى عنكم لو شكرتم نعمه ويزيد عليكم بأضعافها لإتيانكم بالمأمور وامتثالكم امره سبحانه مع ان نفع شكركم انما يعود إليكم وَبالجملة لا بد لكل احد من المكلفين ان يمتثلوا بما أمروا به من عنده سبحانه حتى يصلوا الى ما وعدوا من المثوبات والكرامات ويجتنبوا ايضا عما نهوا عنه ليخلصوا من المهالك والدركات المعدة الموعودة لهم إذ لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية مرتكبة بحمل أثقال الأوزار والآثام الحاصلة لها وِزْرَ نفس أُخْرى كما لا تتصف بحسناتها ايضا ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ كافة كما ان منشأكم منه جميعا فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم سبحانه بعد رجوعكم اليه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بعموم ما جرى عليكم من سيئاتكم وحسناتكم بلا فوت شيء منها ويجازيكم على مقتضاها وكيف لا يخبركم ولا يجازيكم بأعمالكم سبحانه إِنَّهُ بذاته عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بجميع الأمور الكائنة المكنونة في صدور عباده بعموم ما خفى في ضمائرهم ونياتهم فكيف بما صدر عن جوارحهم وآلاتهم وبعد ما نبه سبحانه الى احوال عباده شرع بعد مساويهم وأخلاقهم الذميمة الناشئة من بشريتهم وبمقتضى بهيميتهم فقال
وَإِذا مَسَّ
اى لحقه شيء من اماراته ولاح عليه اثر من آثاره دَعا رَبَّهُ متضرعا نحوه مُنِيباً إِلَيْهِ إذ لا مرجع له سواه ملحا لكشفه وإزالته ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ سبحانه وأزال عنه ضره وكربه وأعطاه وأفاض عليه نِعْمَةً فائضة مِنْهُ سبحانه موهوبة له متعهدا إياه متفقدا حاله تعظيما له وتكريما نَسِيَ شكره لخالقه ونبذ وراء ظهره ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ سبحانه مِنْ قَبْلُ عند شدة ضره وسورة كربه وَمع ذلك لم يقتصر على النبذ والنسيان بل جَعَلَ اى قد أخذ واثبت لِلَّهِ الصمد المنزه عن الضد والند أَنْداداً وادعاهم شركاء له سبحانه وانما جعل وفعل كذلك لِيُضِلَّ الناس الناسين عهود ربهم عَنْ سَبِيلِهِ ويحرفهم عن طريق توحيده ساعيا في اغوائهم واضلالهم مجتهدا فيه قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مهددا إياهم تَمَتَّعْ ايها الضال المضل بِكُفْرِكَ هذا في نشأتك هذه قَلِيلًا اى زمانا قليلا ومدة يسيرة إِنَّكَ أنت البتة في النشأة الاخرى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ اى من ملازميها وملاصقيها ومن جملة من فيها. ثم قال سبحانه أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أيتعجب المشرك المثبت لنا شريكا بل شركاء وأندادا من تهديدنا إياه بالنار وعذابها فيظن ظنا كاذبا ان من هو قائم على أداء العبادات مواظب عليها آناءَ اللَّيْلِ اى في خلاله وأطراف النهار وساعاته ساجِداً متذللا واضعا جبهته على تراب المذلة من خشيتنا وَقائِماً على قدميه مدة متطاولة تعظيما لأمرنا ومع ذلك يَحْذَرُ الْآخِرَةَ اى من العذاب اللاحق له فيها حسب قهرنا وجلالنا وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ على مقتضى لطفه وجماله كهؤلاء الكفرة بالله الجهلة بشأنه المتخذين له أندادا ظلما وزورا مع تعاليه عنه سبحانه وبعد ما تفرست يا أكمل الرسل هذا الظن والتسوية منهم قُلْ لهم على سبيل التبكيت والإلزام مستفهما إياهم على سبيل التقريع والتوبيخ هَلْ يَسْتَوِي المكلفون الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الحق بذاته وأسمائه وأوصافه ويعبدونه سبحانه حسب علمهم به وبأوامره ونواهيه وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذاته ولا شيأ من أوصافه وأسمائه ولا يعبدون له ايضا كلا وحاشا من اين يتأتى المساواة فشتان ما بين العالم والجاهل والعابد والعاصي الا انه إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اى ما يتذكر ولا يتعظ بأمثال هذه المواعظ والتذكيرات المنبهة على سرائر الوحدة الذاتية الا أولوا الباب الناظرون الى لب الأمور المعرضون عن قشوره
قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا منا لخلص عبادنا يا عِبادِ أضافهم الى نفسه اختصاصا وتكريما الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاتى وبظهورى حسب شئوني وتطوراتى وبمقتضى أسمائي وصفاتي مقتضى ايمانكم التقوى عن مقتضيات الهوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ واجتنبوا عن محارمه ومنهياته واتصفوا بمأموراته واعلموا انه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الأدب منكم مع الله فِي هذِهِ الدُّنْيا التي هي نشأة الاختبار والاعتبار حَسَنَةٌ بأضعافها وآلافها في الآخرة التي هي دار القرار فاعتبروا يا ذوى البصائر واولى الأبصار فعليكم الإتيان بالإحسان في كل حين وأوان ولا تخلوا عنه في كل زمان ومكان وَلا تفتروا عنه وعن المواظبة عليه بتفاقم الأحزان وتلاطم امواج الفتن في الأماكن والأوطان إذ أَرْضُ اللَّهِ المعدة لأداء العبادات والاشتغال بالطاعات واسِعَةٌ فسيحة فعليكم الجلاء لأجل الفراغ والخلاء فتهاجروا إليها متحملين عموم ما لحقكم من الشدائد والمتاعب في الانتقال والارتحال صابرين على مفارقة الأوطان والخلان ومصادفة الكروب والأحزان وبالجملة إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ المتحملون لانواع الشدائد والمشاق في طريق الايمان وسلوك سبيل العرفان أَجْرَهُمْ ويوفر عليهم الحسنات وانواع المثوبات
قُلْ يا أكمل الرسل إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربي أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ حق عبادته وأطيعه حق أطاعته مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ والانقياد الصادر منى لا تسبب باطاعتى وانقيادي على وجه الإخلاص ان أعرفه حق معرفته ويفيض على قلبي زلال توحيده وكرامته
وَأُمِرْتُ ايضا من عنده لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ اى اسبق المسلمين المفوضين أمورهم كلها اليه منخلعين من لوازم بشريتهم ومقتضيات اهوية هويتهم ثم
قُلْ يا أكمل الرسل إِنِّي مع كمال وثوقى بكرم الله وسعة رحمته ووفور فضله وجوده على أَخافُ خوفا شديدا إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وخرجت عن عروة أطاعته وربقة انقياده عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فظيع فجيع لعظم ما فيه من الجزاء المترتب على الجرائم العظام وبعد ما بلغت يا أكمل الرسل ما بلغت
قُلِ على وجه الحصر والتخصيص اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره إذ لا غير معه مُخْلِصاً لَهُ دِينِي وانقيادي حسب وسعى وطاقتي
فَاعْبُدُوا ايها المنهمكون في بحر الغي والضلال ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الكاسدة واعلموا ان ما يترتب على عبادة غير الله ليس الا الخيبة والخسران قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بعبادة غير الله والانحراف عن جادة التوحيد وَمع ذلك قد خسروا أَهْلِيهِمْ ايضا بالإغواء والإضلال يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لجزاء الأعمال يعنى حرموهم عن الفوائد الاخروية المترتبة على ايمانهم وأعمالهم الصالحة في يوم القيامة والنشأة الاخرى أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ والحرمان العظيم نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين وكيف لا يكون خسران المشركين مبينا وحرمانهم عظيما
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ وأطباق مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ كذلك بالنسبة الى من في الطبقة السفلى لان دركات النيران مثل دركات الإمكان متطابق بعضها فوق بعض فيكون سكانها ايضا كذلك ذلِكَ العذاب الذي سمعت وصفه يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ في دار الاختبار ويحذرهم عنه ثم ناداهم ليقبلوا اليه ويعتبروا من تخويفه فقال يا عِبادِ فَاتَّقُونِ واحذروا من بطشى وتعذيبى إياكم في يوم الجزاء
وَبالجملة المؤمنون الموحدون الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ المبالغ في الطغيان والعدوان ألا وهي الشيطان المضل المغوى والنفس الضالة الغوية واستنكفوا أَنْ يَعْبُدُوها ويقبلوا منها وسوستها ويصغوا الى اغوائها واغرائها وَمع ذلك قد أَنابُوا ورجعوا إِلَى اللَّهِ في النشأة الاولى على وجه الإخلاص والخضوع نادمين عن عموم ما صدر عنهم من الجرأة على الجريمة لَهُمُ الْبُشْرى في النشأة الاخرى بالدرجة العليا والمثوبة العظمى فَبَشِّرْ عِبادِ يا أكمل الرسل
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الحق الذي قد صدر منا ولا يمترون فيه بل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ على الوجه الأحسن الادقّ ويمتثلون بما أمروا به ويجتنبون ايضا عما نهوا عنه أُولئِكَ السعداء الموفقون على استماع القول الحق والامتثال به هم الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ الى طريق توحيده ووفقهم الى الفناء فيه والبقاء ببقائه وَبالجملة أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ الواصلون الى
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ يعنى اتسعى وتجتهد أنت يا أكمل الرسل في تخليص من قد ثبت منا في سابق قضائنا وحضرة علمنا الحكم بتعذيبه يعنى أبا لهب وولده واتباعه أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ اى أتظن أنت وتعتقد لنفسك انك تقدر على إنقاذ من هو مخلد في نار جهنم حسب قهرنا وغضبنا إياه كلا وحاشا فلا تتعب نفسك فيما ليس في وسعك إذ لا يبدل القول لدينا ولا يغير الحكم المبرم منا عندنا
لكِنِ المؤمنين الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ في جميع شئونهم وحالاتهم خائفين من قهره وغضبه راجين رحمته لَهُمْ عند ربهم غُرَفٌ ودرجات علية مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ودرجات أعلى منها كأنها منازل مَبْنِيَّةٌ على الأرض بعضها فوق بعض على تفاوت طبقاتهم في مراتب القرب تَجْرِي على التعاقب والتوالي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات على مقتضى استعداداتهم الفطرية الموهوبة لهم بمقتضى الجود الإلهي وما كان ذلك الا حسب ما وَعْدَ اللَّهِ الذي وعدها لخلص عباده الذين سلكوا في سبيل توحيده متعطشين الى زلال لقائه فله ان ينجزه سبحانه حتما إذ لا يُخْلِفُ اللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما شاء وأراد الْمِيعادَ الذي وعده للعباد سيما لأهل العناية منهم
أَتتعجب وتستبعد من الله انجاز المواعيد الموعودة من عنده ولَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالإرادة والاختيار قد أَنْزَلَ وأفاض بمقتضى جوده المعهود ووعده الموعود مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسماء والصفات ماءً اى حياة مترشحة من عين الوجود وبحر الذات فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ اى قد ادخله في ينابيع التعينات وعيون الهويات المنعكسة من تلك الأسماء والصفات وأجراه فِي الْأَرْضِ اى ارض الطبيعة القابلة لقبول الآثار الفائضة عليها ثُمَّ بعد اجرائه عليها يُخْرِجُ بِهِ بمقتضى حكمته المتقنة زَرْعاً اى هياكل وتعينات أنواعا وأصنافا مثمرة ثمرات انواع العقائد والمعارف والحقائق مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ حسب اختلاف الاستعدادات الفائضة عليها من عنده ثُمَّ يَهِيجُ اى بعد ما ظهر منها ما ظهر وترتب عليها ما ترتب يجف وييبس الى حيث يذهب نضارتها ورواؤها المترتبة على الإمداد الإلهي فَتَراهُ حينئذ مُصْفَرًّا مشرفا على الاضمحلال والانعدام ثُمَّ يَجْعَلُهُ يقبض ما فيه من رشاشات الحياة حُطاماً لتاتا رفاتا تذروه رياح الآجال وتعيده الى ما عليه من العدم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ اى تذكيرا بليغا وبرهانا قاطعا شاطعا على وجوب وجود من هو منيع عموم الكرم والجود ومبدأ جميع الموجود لا يطرأ عليه زوال ولا يعرضه تحول وانتقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الا انه لا يتذكر به ولا يتنبه منه الا أولوا الألباب الناظرون بنور الله على لب الأمور المعرضون عن قشوره. ثم قال سبحانه
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعنى أيستوى من وسع الله قلبه لنزول سلطان توحيده ووفقه لقبول شعائر الإسلام ومعالم الدين المبين له دلائل التوحيد واليقين فَهُوَ بواسطة شرح الله صدره وتوفيقه إياه عَلى نُورٍ انكشاف تام ويقين كامل مِنْ رَبِّهِ بحيث قد فنى فيه وبقي ببقائه ونظر بنوره حيث نظر ورأى آيات ربه الكبرى في عموم ما ابصر ورأى ومن طبع الله على قلبه وختم على سمعه وبصره فأعماه عن ابصار آيات وجوب وجوده وأصمه عن استماع دلائل توحيده كلا وحاشا مساواة ذا مع هذا بل فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم معد لِلْقاسِيَةِ المضيقة المكدرة قُلُوبُهُمْ مِنْ سماع ذِكْرِ اللَّهِ واستماع ما نزل من عنده من الآيات العظام
اللَّهُ الذي دبر امور عباده وارشدهم الى طريق معاده حيث نَزَّلَ تتميما لتربيتهم وإرشادهم أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وأبلغه في الإفادة والبيان وجعله كِتاباً جامعا لما في الكتب السالفة مُتَشابِهاً بعض آياته ببعض في حسن النظم واتساق المعنى مَثانِيَ إذ قد ثنى وكرر سبحانه الاحكام فيه تأكيدا ومبالغة امرا ونهيا وعدا ووعيدا ثوابا وعقابا عبرا وأمثالا قصصا وتذكيرا وجعله في كمال الإيجاز ونهاية الاعجاز والتأثير بحيث تَقْشَعِرُّ اى تنقبض وتضطرب على وجه الاشمئزاز مِنْهُ اى من سماعه على وجه التأمل والتدبر جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ في جميع حالاتهم خوفا من سطوة سلطنته وجلاله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَتطمئن قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ رجاء من سعة رحمته بمقتضى لطفه وجماله وبالجملة ذلِكَ الكتاب الرفيع الشأن الواضح البرهان هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده يَهْدِي بِهِ ويوفق على الهداية والرشد بمقتضى ما فيه مَنْ يَشاءُ من عباده ويضل به عن الاستفادة بما فيه من يشاء ارادة واختيارا وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ إذ لا يبدل القول لديه ولا ينازع حكمه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
أَفَمَنْ يَتَّقِي اى يصلى ويدخل بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى أشده وأسوئه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أيديهم يسحبون نحو النار بحيث لا يصلى منهم إليها أولا الا وجوههم مثل من أمن منها وسلّم عن مطلق المكاره كلا وحاشا بل وَقِيلَ حينئذ لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وعدوانا على سبيل التوبيخ والتقريع ذُوقُوا ايها المنهمكون في بحر الغفلة والشهوات جزاء ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في دار الاختبار بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وليس هذا التكذيب والجزاء المترتب عليه مخصوصا بهؤلاء الكفرة المكذبين لك يا أكمل الرسل بل كل ممن
كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من المشركين رسلهم المبعوثين إليهم فَأَتاهُمُ الْعَذابُ الموعود عليهم فجاءة في النشأة الاولى مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراته أصلا فسيأتيهم مثله بل أمثاله وآلافه في النشأة الاخرى وبالجملة
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ المنتقم عنهم الْخِزْيَ اى الذل والهوان والخيبة والخسران فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم فيها أَكْبَرُ اى أشد وأفزع لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شدته وفظاعته لما ارتكبوا ما يئول اليه ويوقعهم فيه
وَالله لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ الناسين عهودنا ومواثيقنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المتكفل لهداية عموم الضالين مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينبههم على معالم الدين ومراسم التوحيد واليقين لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتعظوا بما فيه ويتفطنوا بسرائره ومرموزاته مع انا انما جعلناه
قُرْآناً عَرَبِيًّا أوضح بيانا وأعظم شأنا وأجل تبيانا وبرهانا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ اى بلا اختلال واختلاف في معناه موجب للتردد والالتباس فيه مستلزم للشك والارتياب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عن محارمنا ويحذرون عما نهيناهم عنه ومع ذلك لم يتقوا بل لم يتنبهوا ولم يتفطنوا أصلا ولهذا قد
ضَرَبَ اللَّهُ المطلع على جميع ما في استعدادات عباده وقابلياتهم مَثَلًا واضحا موضحا لحال الموحد منهم والمشرك
إِنَّكَ مَيِّتٌ يعنى كيف لا يستقل سبحانه بالوجود والآثار المترتبة عليه مع انك يا أكمل الرسل واشرف الكائنات وأفضلهم معطل في ذاتك وفي نشأتك هذه عن اسناد ما ظهر وصدر منك ظاهرا إليك إذ لا وجود لك من ذاتك وَإِنَّهُمْ اى غيرك من الأشخاص بالطريق الاولى مَيِّتُونَ مائتون معطلون عن آثار الوجود مطلقا في هذه النشأة بل كلكم أنت وعموم العباد مسخرون مقهورون تحت حكمه سبحانه وامره وما عليك وعليهم الا الامتثال والانقياد
ثُمَّ إِنَّكُمْ ايها الموحدون والمشركون جميعا يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للحساب والجزاء عِنْدَ رَبِّكُمْ المطلع على عموم ما جرى عليكم تَخْتَصِمُونَ بعضكم مع بعض في ما أنتم عليه في نشأتكم الاولى ثم تحاسبون وتجازون بمقتضاه فستعلمون حينئذ اىّ منقلب تنقلبون. ثم قال سبحانه على سبيل الاستبعاد والتقريع
فَمَنْ أَظْلَمُ وأضل طريقا مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وأنكر وجوده واستقلاله فيه وفي الآثار المترتبة عليه وَكَذَّبَ ايضا بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يعنى بالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مبينا لتوحيد الحق واستقلاله في الوجود أَلَيْسَ يبقى فِي جَهَنَّمَ البعد والحرمان مَثْوىً لِلْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهر في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق مع ان هذا العذاب معد لهؤلاء المردة المطرودين عن ساحة عز القبول
وَبالجملة الموحد المحق الَّذِي جاءَ من قبل ربه بِالصِّدْقِ بلا افتراء ومراء وَصَدَّقَ بِهِ ايمانا واحتسابا بلا شوب شك وتردد فيه أُولئِكَ السعداء الصادقون المصدقون هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين يحفظون نفوسهم عن الميل الى ما لا يرضى منه سبحانه وبسبب اتصافهم بالتقوى عن محارم الله
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من اللذات اللدنية الروحانية عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع الكرامة ووفقهم على الهداية الى جنابه والعكوف حول بابه تفضلا عليهم وتكريما ذلِكَ الذي سمعت من الكرامة جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله بحسب ظواهرهم وبواطنهم ويأخذون ما نزل من عنده من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة الخالصة عن شوب الرياء والرعونات المنافية المباينة لإخلاص العبودية وليس تلك الكرامات العلية الا
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بسبب إخلاصهم في عزائمهم أَسْوَأَ العمل الَّذِي عَمِلُوا فكيف أسهله وأصغره وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ اى يعطيهم جزاء أعمالهم في الآخرة بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ اى احسن من حسناتهم وأوفر منها لخلوصهم فيها
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ هو سبحانه فاعل على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق لا يجرى في ملكه الا ما يشاء أَلَيْسَ اللَّهُ العليم القدير بِعَزِيزٍ غالب على امره ذِي انْتِقامٍ شديد على من أراد انتقامه من أعدائه. ثم أشار سبحانه الى توضيح دلائل توحيده تعريضا على المشركين وتسجيلا على غوايتهم وغباوتهم فقال مخاطبا لحبيبه
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا أكمل الرسل يعنى كفار قريش مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات ومن أوجدها وأحدثها واظهر ما فيها من العجائب والغرائب لَيَقُولُنَّ البتة اللَّهُ المتفرد بالخلق والإيجاد المتوحد بالالوهية والربوبية إذ لا يسع لهم العدول عنه لغاية ظهوره قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت قولهم هذا إلزاما وتبكيتا أَفَرَأَيْتُمْ وابصرتم عيانا او سمعتم بيانا ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اى من هؤلاء المعبودات الباطلة التي أنتم تدعونها آلهة سوى الله شركاء معه في أخص أوصافه الهم قوة المقاومة وقدرة المخاصمة معه سبحانه مثلا إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ وجرى حكمه على ان يمسني بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ اى آلهتكم هذه كاشِفاتُ ضُرِّهِ سبحانه عنى على سبيل المعارضة أَوْ أَرادَنِي الله بِرَحْمَةٍ فائضة من عنده علىّ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ حيث يمنعونها عنى ويدفعون وصولها الى وبعد ما بهتوا وسكتوا عند سماع هذه المقالة نادمين قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد واليقين خاليا عن امارات الريب والتخمين حَسْبِيَ اللَّهُ الواحد الأحد الكافي لمهام عموم الأنام الرقيب عليهم في جميع حالاتهم إذ عَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ المؤمنون المفوضون أمورهم كلها اليه حيث يتخذونه وكيلا ويعتقدونه كافيا وكفيلا
قُلْ لهم ايضا على سبيل التوبيخ والتهديد يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى على حالكم وشأنكم ما شئتم من الأعمال إِنِّي عامِلٌ ايضا على مكانتى وحالي ما شئت فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مآل ما تعملون وغايته واعلموا ان
مَنْ يَأْتِيهِ منا ومنكم عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه في الدنيا وَهو دليل على انه يَحِلُّ عَلَيْهِ ويلحق به في الآخرة عَذابٌ مُقِيمٌ دائم مؤبد مخلد فتربصوا حتى يأتى الله بامره ونحن نتربص ايضا. ثم قال سبحانه على وجه العظة والتأديب لحبيبه صلّى الله عليه وسلم
إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع المشتمل على عموم مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم لتكون أنت هاديا لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ مبلغا لهم جميع ما فيه من الوعد والوعيد فَمَنِ اهْتَدى ووفق على قبول ما فيه من الأوامر والنواهي فَلِنَفْسِهِ اى نفع هدايته واهتدائه عائد الى نفسه وَمَنْ ضَلَّ ايضا فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ويلحق وبال ضلالها كذلك وَبعد ما وضح الأمر لديك لا تتعب نفسك في هدايتهم إذ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ضمين لهدايتهم وتكميلهم بل ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب وكيف لا يكون حساب العباد على الله ولا يكون في قبضة
اللَّهُ المستوي على عروش عموم ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام والقدرة الكاملة الشاملة يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ويقطع حبل إمداده عليه حسب النفس الرحمانى حِينَ مَوْتِها اى حين تعلق ارادته سبحانه بقطع علقة إمداده عنها وإرجاعها الى ما كانت عليه من العدم وَكذا يتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ بعد اى لم يحكم عليها بقطع العلقة والإمداد عنها فِي مَنامِها اى يفرق ويفصل عنها ما هو مبدأ الآثار والأفعال وما يترتب عليها من التمييز والشعور من القوى والآلات بحيث يبقى رمق منها فيها فَيُمْسِكُ ويقبض سبحانه بعد الفصل والتوفي الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ في سابق قضائه وحضرة علمه وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ويعيدها الى أبدانها مرة بعد اخرى ويمهلها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين مقدر عنده بقطع الإمداد والارتباط. وعن المرتضى الأكبر الأكرم كرم الله وجهه يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح الى جسده بأسرع من لحظة ولهذا قيل ان أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع الى الأجساد امسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء الى أجسادها وبه ورد الحديث صلوات الله على قائله إذا أوى أحدكم الى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فانه لا يدرى ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك ارفعه ان أمسكت نفسي فارحمها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين إِنَّ فِي ذلِكَ التوفي والفصل والإمساك والإرسال لَآياتٍ ودلائل واضحات وشواهد لائحات على قدرة الصانع الحكيم القدير العليم لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في مقدوراته سبحانه ويشاهدون آثار قدرته عليها ويعتبرون منها وبعد ما سمع قريش كمال قدرة الله واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته حسب ارادته واختياره ينبغي لهم ان يوحدوه سبحانه ويتخذوه وكيلا ويجعلونه حسيبا وكفيلا ومع ذلك لم يتخذوه ولم يوحدوه
أَمِ اتَّخَذُوا بل أخذوا من تلقاء أنفسهم مِنْ دُونِ اللَّهِ اولياء من الأصنام والأوثان ظلما وزورا وسموه شُفَعاءَ عنده سبحانه لذلك يعبدونهم كعبادته قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا أَوَلَوْ كانُوا اى أتتخذونهم شفعاء ايها الحمقى وتستشفعون منهم وتعبدون لهم ولو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من جلب النفع ودفع الضر وَلا يَعْقِلُونَ ولا يدركون مقاصدكم أصلا وبالجملة ما عبادتكم هذه إياهم الا وهم باطل وزور ظاهر بل خروج عن مقتضى العقل الفطري والفطنة الجبلية
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد لاح دونك غيهم وغباوتهم على وجه العظة والتذكير لعلهم يتنبهوا لِلَّهِ الواحد الأحد المحيط بالكل الشَّفاعَةُ جَمِيعاً اى مطلق الشفاعة مختصة لله مستندة اليه اصالة كائنة ناشئة فائضة من عنده بحيث لا يسع لاحد من اهل العناية ان يشفع بمجرم عنده سبحانه الا باذنه وكيف لا يكون كذلك إذ لَهُ وفي قبضة قدرته مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عموم ما ظهر من العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات فله التصرف فيها بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة أنداد واغيار ثُمَّ لو وقعت شفاعة من احد ممن اذن له الرحمن ورضى له قولا فإنما هي آئل ايضا اليه سبحانه إذ إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ رجوع الأضواء الى الشمس والأمواج الى البحر
وَمن شدة قساوة المشركين وجهلهم بالله إِذا ذُكِرَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية وَحْدَهُ على ما كان عليه بلا مشاركة احد معه في الثبوت والوجود اشْمَأَزَّتْ اى انقبضت وضاقت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
قُلِ يا أكمل الرسل عند يأسك عنهم وعن ايمانهم وتنبههم مسترجعا الى ربك مفوضا الأمور كلها اليه سبحانه سيما امور هؤلاء الضلال المعاندين اللَّهُمَّ يا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ومظهرهما من كتم العدم بالإرادة والاختيار يا عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ على التفصيل بحيث لا يعزب عن حيطة علمك مثقال ذرة من ذرات ما لمع عليه برق وجودك بمقتضى كرمك وجودك أَنْتَ بذاتك حسب شئونك وتطوراتك تَحْكُمُ وتقضى بَيْنَ عموم عِبادِكَ سيما هؤلاء الضالين وبيني فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ معى في امر الدين القويم المنزل على من عندك والكتاب الكريم المبين طريق توحيدك. ثم قال سبحانه تسجيلا على عدم قابليتهم واستعدادهم لقبول الحق وفيضان اسرار التوحيد
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بعد ما جبلوا على فطرة التوحيد من عند الله الحكيم واستبدلوا بالشقاوة لو حق وثبت لهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الامتعة والزخارف الامكانية جَمِيعاً بل وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أضعافه وآلافه معه لَافْتَدَوْا بِهِ في سبيل الله راجين النجاة مِنْ سُوءِ الْعَذابِ المعد لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ جزاء لاعمالهم لما حصل لهم هذا ولا نجاة لهم منه أصلا إذ لا يبدل القول منا ولا يغير الحكم لدينا بل وَبَدا لَهُمْ وظهر عليهم مِنَ اللَّهِ الحكيم ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ من قبله إذ هم عند الإتيان بفواسد الأعمال والعبادات على معبوداتهم زاعمون ترتب جزاء الخير عليها وقد العكس الأمر عليهم
وَحين ظهر عليهم عكس المطلوب بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا اى تحقق عندهم كون أعمالهم التي قد أتوا بها سيئات كلها وَحينئذ حاقَ وأحاط بِهِمْ حجالة ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الأمور الدينية والمعتقدات الاخروية الجارية على ألسنة الرسل والكتب في النشأة الاولى ولم ينفعهم الندم والخجالة حينئذ لانقضاء زمان إمكان التدارك والتلافي. ثم أشار سبحانه الى تزلزل الإنسان وعدم ثباته على العزيمة الخالصة نحو ربه فقال
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ولحقه على وجه المساس ليكون منها له موقظا إياه عن سنة الغفلة ونوم النسيان ومذكرا له للتوجه والتحنن إلينا دَعانا لكشفه واستكشف عنا على وجه الإلحاح والاقتراح ثُمَّ بعد كشفنا عنه ضره إِذا خَوَّلْناهُ ووسعنا عليه نِعْمَةً تفضلا مِنَّا إياه وتكريما لنختبر كيف يشكر على حصول النعمة ودفع النقمة قالَ حينئذ على سبيل الكفران والطغيان إِنَّما أُوتِيتُهُ من النعم عَلى عِلْمٍ منى بوجوه كسبه وطرق جمعه وارباحه واخذه والمعنى ما أوتيت وأعطيت بما أوتيت الا بسبب سعيي وعلمي بوجوه جمعه وتحصيله لا من حيث لا احتسب وبالجملة هكذا يقول من الكلمات الدالة على الكفران والطغيان مع ان نعمته ما هي نعمة في أنفسها بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ابتلاء واختبار منا إياه لننظر أيشكر أم يكفر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون فتنتنا واختبارنا لذلك ينهمكون في بحر الكفران والطغيان وليس هذا القول مخصوصا لهؤلاء الكفرة التائهين في تيه الغفلة والكفران بل
قَدْ قالَهَا اى الكلمة المخصوصة التي هي جملة انما أوتيته على علم عموم الكافرين المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مثل قارون وغيره وبالجملة فَما أَغْنى ودفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
من الزخارف الدنياوية شيأ من عذاب الله حين أحاط بهم ونزل عليهم العذاب فكذا ما اغنى عن هؤلاء ايضا أمتعتهم شيأ من عذاب الله حين
فَأَصابَهُمْ اى الكفرة الماضين وأحاط بهم في النشأة الاولى سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا مثل الخسف والكسف والغرق ونحوها وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ المستخلفين عنهم القائلين بقولهم يعنى قريشا خذلهم الله سَيُصِيبُهُمْ عن قريب سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أمثال أولئك الهالكين وَما هُمْ اى هؤلاء المسرفون المفسدون بِمُعْجِزِينَ الله القادر المقتدر على انواع التعذيب والانتقام فقتل صناديدهم يوم بدر وقحطوا سبع سنين. ثم وسع سبحانه عليهم الرزق ليتنبهوا ان مقاليد الأمور بيده او خزائن الرزق عنده ومع ذلك لم يتفطنوا
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا ولم يتنبهوا أَنَّ اللَّهَ المتكفل لأرزاق عباده يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده ويوسع عليه وَيَقْدِرُ اى يقبض عن من يشاء ارادة واختيارا على مقتضى علمه بتفاوت استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية الفائضة عليهم من الحكيم الوهاب إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط المستلزمين لانواع الدقائق والرقائق الغير المحصورة في الأمور الإلهية لَآياتٍ وبراهين واضحات على حكمة القدير العليم لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بذات الله وكمال أوصافه وأسمائه وبعد ما تنبهوا على حقية الحق وتفطنوا بدلائل توحيده
قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا لهم على وجه الاختصاص مضيفا لهم إلينا عطفا ورفقا ولطفا يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ طول دهرهم قبل انكشاف الاغطية والسدل عن عيون بصائرهم لا تَقْنَطُوا وتيأسوا مِنْ فيضان رَحْمَةِ اللَّهِ عليكم سيما بعد كشف الغطاء ورفع الحجب والغشاء إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده وعموم نياتهم يَغْفِرُ ويستره الذُّنُوبَ التي صدرت عنكم وقت غفلتكم جَمِيعاً وكيف لا يغفرها سبحانه إِنَّهُ بمقتضى ذاته وأوصافه وأسمائه هُوَ الْغَفُورُ المقصور على الستر والعفو لعموم عباده سيما على اهل التوحيد منهم الرَّحِيمُ لهم يوصلهم بعد رفع الحجب الى مقر التجريد والتفريد
وَبعد ما قد سمعتم سعة رحمة الحق وجميل عفوه ومغفرته أَنِيبُوا اى تقربوا وتوجهوا ايها المجبولون على فطرة الإسلام إِلى رَبِّكُمْ الذي رباكم لمصلحة المعرفة والتوحيد وَأَسْلِمُوا لَهُ وانقادوا لأوامره واجتنبوا عن نواهيه بالعزيمة الخالصة عن كدر الرعونات وشين الشهوات والغفلات مطلقا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ الموعود في يوم الجزاء ثُمَّ بعد نزوله وإتيانه لا تُنْصَرُونَ اى حينئذ لا يسع لكم التدارك والتلافي لانقضاء زمان التوبة والرجوع
وَبالجملة ان أردتم النجاة من العذاب اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ايها المكلفون على الدين المستبين ألا وهو القرآن الكريم المنزل على خير الأنام وأفضل الرسل الكرام وامتثلوا بجميع ما فيه من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً فجاءة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ من علاماته حتى تتداركوا وتحذروا منها وبالجملة احذروا من يوم هائل مهول مخافة
أَنْ تَقُولَ في حلوله وألمامه نَفْسٌ وازرة منكم مقصرة عن الانابة والرجوع حين حلول العذاب عليها يا حَسْرَتى ويا ندامتا عَلى ما فَرَّطْتُ وقصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ ورعاية جانبه وحقه في أطاعته وانقياده وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ اى فرطت في حقه سبحانه والحال انى قد كنت من الساخرين بالأنبياء الهادين والعلماء الراشدين المنبهين علىّ وبالجملة فندمت يومئذ فما ينفع الندم
أَوْ تَقُولَ متحسرة على كرامة اهل العناية لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ووفقني على التوبة والانابة نحوه كسائر أوليائه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن الإفراط في
أَوْ تَقُولَ متمنية مستبعدة حِينَ تَرَى الْعَذابَ يحل عليها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ورجوعا الى الدنيا مرة اخرى فَأَكُونَ حينئذ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويصدقون رسله وكتبه وانما تقول حينئذ ما تقول من كمال تحسرها على ما فات منها ومن شدة هول ما نزل عليها ثم قيل لها من قبل الحق ردا لقولها لو ان الله هداني لكنت من المتقين
بَلى قد هداك الله فلم تهتد إذ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي لهدايتك وارشادك على ألسنة رسلي فَكَذَّبْتَ بِها وبهم وَاسْتَكْبَرْتَ عليها وعليهم وَكُنْتَ حينئذ بسبب تكذيبك واستكبارك عليهم مِنَ الْكافِرِينَ الذين ستروا الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع وأظهروا الباطل الزاهق فاتخذوه معبودا وعبدوا له ظلما وزورا عنادا واستكبارا
وَبالجملة لا تبالوا ايها الموحدون بعتوهم واستكبارهم في هذه النشأة إذ يَوْمَ الْقِيامَةِ التي تبلى السرائر فيها تَرَى ايها المعتبر الرائي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بإثبات الولد والشريك له افتراء ومراء وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ اى تراهم حال كونهم مسودي الوجوه إذ هم حينئذ ملازمو النار وملاصقوها وأنت ايها المعتبر الرائي تستبعد وتتعجب حينئذ عن حالهم هذا وبالجملة أَلَيْسَ يبقى فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ الذين يتكبرون على الله وعلى أوليائه بأنواع الفسوق والعصيان والكذب والطغيان مع ان جهنم ما هي الا معدة لهؤلاء البغاة الطغاة الهالكين في تيه الكبر والعناد
وَيُنَجِّي اللَّهُ المحسن المتفضل بمقتضى لطفه وجماله من اهوال يوم القيامة وافزاعها الَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارم الله بِمَفازَتِهِمْ اى بفوزهم وفلاحهم المورث لهم فتح أبواب السعادات وانواع الخير والبركات لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ اى ينجيهم بحيث لا يعرضهم شيء يسوءهم في النشأة الاخرى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيها أصلا وكيف لا ينجى سبحانه أولياءه إذ
اللَّهُ المحيط بعموم ما ظهر وبطن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهره من العدم بامتداد اظلال أسمائه وصفاته عليه وَهُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهره ومصنوعاته وَكِيلٌ يتولى امره ويحفظ عما يضره وكيف لا يكون كذلك إذ
لَهُ سبحانه وفي قبضة قدرته وتحت حفظه وارادته مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مفاتيح العلويات والسفليان وما يتولد بينهما يتصرف فيها بالإرادة والاختيار ما شاء بلا منازع وخاصم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وأنكروا دلائل توحيده واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه باختياره أُولئِكَ الأشقياء الضالون عن طريق التوحيد المنحرفون عن جادة العدالة هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والحرمان السرمدي لا يرجى نجاتهم منه أصلا. ثم ان أرادوا يعنى قريشا خذلهم الله ان يخدعوك ويلبسوا عليك الأمر بان امروك باستلام بعض آلهتهم ليؤمنوا بإلهك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التعبير والتوبيخ أَفَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والعبادة تَأْمُرُونِّي اى تأمروننى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بالله وباستحقاقه للعبادة والانقياد بالأصالة وبكمال التوحيد والاستقلال. ثم قال سبحانه مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة في التأديب تحريكا لحمية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وتثبيتا له على محبته
وَالله لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل وَكذا قد اوحى ايضا إِلَى الرسل الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ أنت مع كمال ودادك ومحبتك وخلتك وكذا كل واحد منهم ايضا مع كمال محبتهم وخلوصهم في عباداتهم وأتيت أنت وكل منهم بشيء يلوح منه الإشراك المنافى للتوحيد
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ اى بل إذا أردت العبادة والإطاعة المفيدة لك فاعبد الله خالصة خاصة ولا تلتفت الى غيره وَكُنْ في شأنك هذا مِنَ الشَّاكِرِينَ الصارفين لنعم الله الى ما خلق لأجله إذ هم اى الشاكرون انما جبلوا على فطرة العبادة والعرفان بالنسبة اليه سبحانه حتى اتخذوه وكيلا حسيبا
وَاعلم يا أكمل الرسل ان المشركين الذين اتخذوا اولياء من دونه سبحانه وادعوا الوجود لهم وشركتهم معه سبحانه ما قَدَرُوا اللَّهَ اى ما وسعوا الحق باعتبار ظهوره بهذا الاسم المخصوص المستجمع لجميع الأسماء والصفات المعبر به عن الذات الاحدية كاسمه العليم لذلك لم يعرفوا حَقَّ قَدْرِهِ وقدر ظهوره وبطونه ولو وسعوا له وعرفوا حق قدره كما هو حقه لما اثبتوا له شريكا إذ كل من تحقق بوحدة الحق وكيفية سريانه على هياكل الاظلال والعكوس المنعكسة من أسمائه وأوصافه لم يبق عنده شائبة شك في ان لا تعدد في ذاته سبحانه ولا تكثر بل يتجلى ويتجدد في كل آن بشأن ولا شك ان كل ما ظهر من آثار الشئون المرئية المدركة بمشاهدة العيون فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وَمن جملة ما انعكس من بعض شئونه سبحانه الْأَرْضُ جَمِيعاً اى جميع ما يتراءى فيها وما يتولد عليها من الطبيعة والهيولى المنعكسة من التجليات الإلهية حسب اقتضاء آثار أسمائه الحسنى وأوصافه العليا ويتكون فيها قَبْضَتُهُ اى جميعها انما هي مقبوضة في كف قدرته يَوْمَ الْقِيامَةِ التي هي الطامة الكبرى التي قد انقهرت دونها اظلال السوى مطلقا وصارت مندكة في نفسها معدومة في حد ذاتها إذ لا وجود لها وَكذا السَّماواتُ انما هي يومئذ مَطْوِيَّاتٌ معطلات عن مقتضياتها التي هي الأفعال والحركات ساقطات في زوايا العدم على ما قد كانت عليها ازلا وابدا مقبوضات بِيَمِينِهِ وبقبضة قدرته الغالبة وبالجملة سُبْحانَهُ اى تنزه ذاته وتقدس أسماؤه تنزيها وتقديسا بديعا وَتَعالى شأنه عَمَّا يُشْرِكُونَ له غيره ظلما وزورا
وَاذكر يا أكمل الرسل للمشركين يوم نُفِخَ فِي الصُّورِ لرد الأمانات التي هي الوجودات الباطلة الظلية الاضافية المترشحة من بحر الذات على هياكل الهويات فَصَعِقَ اى قد خر وسقط حينئذ مغشيا عليه من شدة فزعه وهو له عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى جميع العلويات وَكذا عموم مَنْ فِي الْأَرْضِ اى جميع السفليات خوفا من انقطاع الإمداد الإلهي حسب النفس الرحمانى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من المعتبرين الفانين في الله الباقين ببقائه فإنهم قد قامت قيامتهم على كل حال وفي كل شأن بلا ترتب وانتظار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ايقاظا لهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان فَإِذا هُمْ قِيامٌ اى فاجؤا على القيام بعد ما صاروا مغشيا عليهم يَنْظُرُونَ حينئذ حيارى سكارى مبهوتين هائمين كأنهم صرعى مخبولين
وَبعد ذلك قد أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها اى صارت الطبيعة والهيولى منورة بنور الله على ما كانت عليه قبل النفخ وَحينئذ عرضوا على الله ووُضِعَ الْكِتابُ اى مكتوب اعمال كل من النفوس الزكية والخبيثة بين أيديهم وحوسبوا حسب ما فيه وَبعد ما تم حسابهم وتنقيد أعمالهم جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ المبعوثين كل منهم الى امة من الأمم ليشهدوا على أممهم بما كانوا عليه في النشأة الاولى وَالشُّهَداءِ اى جئ بالشهداء العدول ايضا يعنى قد انطق الله عموم اركانهم وجوارحهم التي أتوا بها ما أتوا من خير وشر فيشهدن
وَبالجملة قد وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ من خير وشر وَكيف لا يوفى إذ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ واحفظ منهم بِما يَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأعمالهم الصادرة منهم صالحها وفاسدها نقيرها وقطميرها
وَبعد ذلك سِيقَ سوق البهائم الى المسلخ عنفا وزجرا الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى بالإعراض عن الحق واهله إِلى جَهَنَّمَ الطرد والخذلان زُمَراً فوجا بعد فوج وطائفة اثر طائفة حَتَّى إِذا جاؤُها يعنى جهنم فُتِحَتْ لهم أَبْوابُها اى أبواب اودية النيران المعدة لأصحاب الكفر والطغيان على تفاوت طبقاتهم وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها حينئذ على سبيل التوبيخ والتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها الضالون المستحقون لهذا الوبال والنكال رُسُلٌ مِنْكُمْ ومن بنى نوعكم مبعوثون إليكم من قبل الحق يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ الدالة على وحدة ذاته وكمال قدرته على وجوه الانعام والانتقام وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا اى يحذرونكم ويخوفونكم عن لقاء هذا اليوم الهائل الذي تدخلون أنتم فيه النار بأنواع الحسرة والحرمان والخيبة والخذلان وبعد ما سمعوا منهم ما سمعوا قالُوا متحيرين متأسفين بَلى قد جاءنا رسل ربنا بالحق وتلوا علينا آياته المشتملة على انواع الإنذار والتبشير وَلكِنْ لم يفدنا إنذارهم وتبشيرهم إذ حَقَّتْ اى قد صدرت وثبتت حقا منه سبحانه في حضرة علمه وسابق قضائه حتما كَلِمَةُ الْعَذابِ وهي قوله سبحانه لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين عَلَى الْكافِرِينَ المعرضين عن الحق وآياته وعن من بلغها إليهم باذنه لذلك أعرضنا عنها وعنهم فوجبت لنا النار وبالجملة أتوا بالعذر وما ينفعهم بل
قِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق من وراء سرادقات العز والجلال ادْخُلُوا ايها الضالون المجرمون أَبْوابَ جَهَنَّمَ اى كل فرقة منكم بباب يخصها في سابق قضائنا وكونوا خالِدِينَ فِيها بحيث لا نجاة لكم منها ابدا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اى الكافرين المستكبرين جهنم الخذلان وجحيم الحرمان والخسران. أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها بفضله العظيم
وَسِيقَ ايضا سوق الحمام الى المسرح سرورا وفرحا الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعنى عن محارمه بمقتضى أوامره ونواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه إِلَى الْجَنَّةِ المعدة لفيضان انواع اللذات الروحانية على أهلها زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فرحين مسرورين وتحننوا نحوها سابقين وصادفوها مشتاقين وجدوها وَقد فُتِحَتْ لهم أَبْوابُها عناية من الله إياهم وَقالَ لَهُمْ حينئذ خَزَنَتُها ترحيبا وتكريما سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها المهديون المهتدون الذين قد طِبْتُمْ وطهرتم انفسكم في نشأة الاختبار ودار العبرة والاعتبار عن ادناس الشهوات وإكدار اللذات البهيمية العارضة للنفوس الخبيثة من المألوفات الطبيعية فَادْخُلُوها اى الجنة المشتملة على انواع الكرامات واصناف السعادات وكونوا خالِدِينَ فيها ابد الآبدين بلا نقل ولا تحويل اى الى ما شاء الله لأهل العناية من الدرجات العلية التي لا تكتنه ولا توصف
وَبعد ما تمكنوا في مقر العز والحضور قالُوا مسترجعين الى الله عادين موائد انعامه وإحسانه على أنفسهم مواظبين مقيمين لأداء حقوقها الْحَمْدُ والمنة لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ اى جميع ما وعدنا الله به في النشأة الاولى بوحيه النازل على ألسنة أنبيائه ورسله
وَبعد ما قد تقرر اهل النار في النار واهل الجنة في الجنة تَرَى ايها المعتبر المنكشف بكمال عظمة الله وجلاله الْمَلائِكَةَ اى الأسماء والصفات الإلهية عبر عنها سبحانه بالملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم حَافِّينَ صافين محدقين محلقين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ اى حول عرشه العظيم المستغنى عن عروش مطلق المظاهر والمجالى الكائنة في عالمي الغيب والشهادة إذ هو سبحانه بذاته غنى عن مطلق التعينات الطارية على شئونه وتطوراته لذلك يُسَبِّحُونَ وينزهون أولئك المهيمون ذاته سبحانه عن سمات الحدوث والإمكان مطلقا دائما ويواظبون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على ما وهب لهم المعرفة بعلو شأنه وسمو برهانه وباستغنائه في ذاته عن مطلق مظاهر أسمائه وأوصافه جميعا وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ اى هم يحمدونه ويثنون عليه سبحانه ايضا على عموم قضائه وحكمه وأحكامه الجارية بين عباده كلها بالحق بمقتضى العدل القويم وَبالجملة قِيلَ من قبل كل من يتأتى منه الرجوع اليه سبحانه والتوجه نحوه طوعا على الوجه الذي امر به ونبه عليه الْحَمْدُ المطلق المستوعب لعموم الاثنية والمحامد الصادرة عن ألسنة عموم المظاهر ثابت لِلَّهِ اى للذات المستجمع بجميع أوصاف الكمال بالاستحقاق والاستقلال رَبِّ الْعالَمِينَ بمقتضى توحده وانفراده فيكون جميع محامدهم مختصة به سبحانه إذ لا مربى لهم سواه ولا موجد لهم غيره. حققنا بكرمك بحق قدرك وبقدر حقيتك يا ذا القوة المتين
خاتمة سورة الزمر
عليك ايها المحمدي القاصد المتحقق المدرك بكمال عظمة الله وجلاله ان تتأمل في هذه السورة سيما في أواخرها وتتعمق فيها وفي كشف سرائرها ومرموزاتها وإشاراتها الخفية وعباراتها المنبهة على وحدة الحق وحقيته لينكشف لك انه لا يشغله شأن عن شأن ولا يقدر تحققه وقيوميته زمان ومكان بل هو كائن على ما قد كان في كل آن وشأن بلا مكيال زمان وآن واحياز ومكان وحين وأوان
[سورة المؤمن]
فاتحة سورة المؤمن
لا يخفى على من ترقى من حضيض التقليد الى ذروة التوحيد ومن اودية الجهالات اللازمة للتعينات الامكانية الى أقصى درجات الإدراك وأعلاها ان أجل المعلومات وأولاها وأدق المعارف وأخفاها هو الاطلاع على وحدة الحق وتوحده في الذات والوجود وتكثره حسب الأسماء والصفات المقتضية للشؤن والتطورات الغير المحصورة كذلك اوحى سبحانه حبيبه بما اوحى من دلائل التوحيد وأوصاه بحفظ ما نزل عليه من الآيات المبينة لتلك الدلائل ليكون على ذكر منها فقال سبحانه مخاطبا له بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المعرب المفصح عن الذات الاحدية باعتبار التسمية ونشأة العبارة الرَّحْمنِ