ﰡ
ولما بين تعالى أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق أردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق، وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فقال سبحانه وتعالى :﴿ فاعبد الله ﴾ أي : الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك ﴿ مخلصاً له الدين ﴾ أي : ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر.
﴿ والذين اتخذوا من دونه ﴾ أي : من دون الله ﴿ أولياء ﴾ وهم كفار مكة اتخذوا الأصنام وقالوا ﴿ ما نعبدهم ﴾ أي : لشيء من الأشياء ﴿ إلا ليقرّبونا إلى الله ﴾ أي : الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ﴿ زلفى ﴾ وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السماوات والأرض قالوا : الله فيقال : فما عبادتكم لهم قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى أي : قربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر كأنهم قالوا : إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريباً حسناً سهلاً وتشفع لنا عند الله تعالى.
﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ يحكم بينهم ﴾ أي : وبين المسلمين ﴿ فيما هم فيه يختلفون ﴾ أي : من أمر الدين فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ﴿ إن الله ﴾ أي : الملك القادر ﴿ لا يهدي ﴾ أي : لا يرشد ﴿ من هو كاذب ﴾ أي : في قوله إن الآلهة تشفع لهم مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وفي نسبة الولد إلى الله تعالى ﴿ كفار ﴾ أي : بعبادته غير الله تعالى.
ثم نزه نفسه سبحانه فقال تعالى شأنه ﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي فقال تعالى :﴿ هو ﴾ أي : الفاعل لهذا الفعال القائل لهذه الأقوال ﴿ الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال :﴿ الواحد ﴾ أي : في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد ولا والد له ﴿ القهار ﴾ أي : الغالب الكامل القدرة فكل شيء تحت قدرته.
﴿ وسخر ﴾ أي : ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر ﴿ الشمس والقمر ﴾ فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما ﴿ كلٌ ﴾ أي : منهما ﴿ يجري لأجل مسمى ﴾ أي : إلى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير : أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون أي : الدولاب الذي يسقى عليه على حد واحد ﴿ ألا هو العزيز ﴾ أي : الغالب على أمره المنتقم من أعدائه ﴿ الغفار ﴾ أي : الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة يمحو ذنوب من يشاء عيناً وأثراً بمغفرته.
تنبيه : في ثم هذه أوجه ؛ أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم ثم ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها : أنها على بابها أيضاً لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى ﴿ واحدة ﴾ إذ التقدير من نفس وحدت أي : انفردت ثم جعل منها زوجها. ثالثها : أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها. رابعها : أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي : إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.
وقوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ﴾ عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها، ويحتمل المجاز وله وجهان ؛ أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل :
إذا نزل السماء بأرض قوم | رعيناه وإن كانوا غضابا |
ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد أخبر عن اسم الإشارة بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الذي خلق هذه الأشياء ﴿ ربكم ﴾ أي : الملك والمربي لكم بالخلق والرزق فهو المستحق لعبادتكم وقوله تعالى :﴿ له الملك ﴾ يفيد الحصر أي : له الملك لا لغيره.
ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه ﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي : لا يشاركه في الخلق غيره. ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته ورحمته زيف طريقة المشركين بقوله تعالى :﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف ومن أي : وجه ﴿ تصرفون ﴾ عن طريق الحق بعد هذا البيان.
﴿ وإن تشكروا ﴾ الله تعالى أي : فتؤمنوا بربكم وتطيعوه ﴿ يرضه لكم ﴾ أي : فيثيبكم عليه لأنه سبب فلاحكم. وقرأ السوسي في الوصل بسكون الهاء، وللدوري وهشام وجهان السكون والضم وصلة الهاء بواو للدوري، وابن كثير وابن ذكوان والكسائي والباقون بالسكون وهو لغة فيه.
﴿ ولا تزر ﴾ أي : نفس ﴿ وازرة وزر ﴾ نفس ﴿ أخرى ﴾ أي : لا تحمله بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل. واحتج بهذا من أنكر وجوب الدية على العاقلة ورد بأن السنة خصصت ذلك، وأما الإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه فوزر الفاعل على الفعل ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي. وقوله تعالى :﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم ﴾ يدل على إثبات البعث والقيامة ﴿ فينبئكم بما كنتم تعلمون ﴾ فيه تهديد للعاصي وبشارة للمطيع وقوله تعالى :﴿ إنه عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات الصدور ﴾ أي : بما في القلوب كالعلة لما سبق أي : إنه تعالى ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف، قال صلى الله عليه وسلم :«إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ».
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويروى أن يستخيلوا المال يخيلو وقال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل *** كوم الذرى من خول المخوّل
وحقيقة خول من إحدى معنيين : إما من قولهم : هو خائل مال إذا كان متعهداً له حسن القيام عليه، وإما من خال يخول إذا اختال وافتخر ومنه قول العرب : إن الغني طويل الذيل مياس. ﴿ نسي ﴾ أي : ترك ﴿ ما ﴾ أي : الأمر الذي ﴿ كان يدعو ﴾ أي : يتضرع ﴿ إليه من قبل ﴾ أي : قبل النعمة.
تنبيه : يجوز في ما هذه أوجه ؛ أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مراعى بها الضر الذي كان يدعو إلى كشفه أي : ترك دعاءه كأنه لم يتضرع إلى ربه، ثانيها : أنها بمعنى الذي مراداً بها البارئ تعالى أي : نسي الله الذي كان يتضرع إليه وهذا عند من يجيز وقوع ما على أولي العلم. وقال الرازي : ما بمعنى من كقوله تعالى :﴿ وما خلق الذكر والأنثى ﴾ ( الليل : ٣ ) وقوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ ( الكافرون : ٣ ) وقوله ﴿ فانكحوا ما طاب لكم ﴾ ( النساء : ٣ )
ثالثها : أن تكون مصدرية أي : نسي كونه داعياً ﴿ وجعل ﴾ أي : ذلك الإنسان زيادة على الكفران بالنسيان للإحسان ﴿ لله ﴾ أي : الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والسمع والعقل ﴿ أنداداً ﴾ أي : شركاء ﴿ ليضل عن سبيله ﴾ أي : دين الإسلام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد اللام أي : ليفعل الضلال بنفسه والباقون بضمها أي : لم يقنع بضلاله في نفسه حتى يحمل غيره عليه فمفعوله محذوف، واللام يجوز أن تكون للعلة وأن تكون لام العاقبة كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ﴾ ( القصص : ٨ ).
واختلف في سبب نزول قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ أي : لهذا الذي قد حكم بكفره ﴿ تمتع ﴾ أي : في هذه الدنيا ﴿ بكفرك قليلاً ﴾ أي : بقية أجلك فقال مقاتل : نزل في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وقيل : في عتبة بن ربيعة وقيل : عام في كل كافر، وهذا أمر تهديد وفيه إقناط للكافر من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله تعالى :﴿ إنك من أصحاب النار ﴾ أي : الذين لم يخلقوا إلا لها على سبيل الاستئناف للمبالغة قال تعالى ﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ﴾ ( الأعراف : ١٧٩ ) الآية.
تنبيه : في هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار، واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال الضحاك : في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو عمرو : في عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال الكلبي : في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله تعالى عنهم.
وقوله تعالى :﴿ يحذر الآخرة ﴾ أي : عذاب الآخرة يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ساجداً وقائماً أو من الضمير في قانت وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدها قيل : يحذر الآخرة ﴿ ويرجو رحمة ﴾ أي : جنة ﴿ ربه ﴾ الذي لم يزل يتقلب في إنعامه وفي الكلام حذف والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها.
﴿ قل هل يستوي ﴾ أي : في الرتبة ﴿ الذين يعلمون ﴾ أي : وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدين وقائمين ﴿ والذين لا يعلمون ﴾ أي : وهم صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون، وإنما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يعلمون لأن الله تعالى وإن أعطاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا جعلهم الله تعالى كأنهم ليسوا من أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة العلم، قيل : لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء، عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
وقال في الكشاف : وأراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، قال : وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله تعالى جهلة حيث جعل الله تعالى القانتين هم العلماء، قال : ويجوز أن يراد على سبيل التشبيه أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون ا. ه، وعن الحسن : أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنٍّ، وإنما الرجاء قوله تعالى وتلا هذه الآية. ﴿ إنما يتذكر ﴾ أي : يتعظ ﴿ أولو الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون في آخر سورة آل عمران بقوله تعالى :﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾ ( آل عمران : ١٩١ ) إلى آخرها.
واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ وأرض الله ﴾ أي : الذي له الملك كله والعظمة الشاملة ﴿ واسعة ﴾ فقال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي ونظيره قوله تعالى :﴿ قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ ( النساء : ٩٧ ) وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة. وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهرب، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة كما قال تعالى :﴿ جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين ﴾ ( آل عمران : ١٣٣ ) ﴿ إنما يوفّى ﴾ أي : التوفية العظيمة ﴿ الصابرون أجرهم ﴾ أي : على الطاعات وما يبتلون به، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا ومعنى ﴿ بغير حساب ﴾ أي : بغير نهاية بكيل أو وزن لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب. وعن ابن عباس : لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف. وقال علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثياً. وروى الشعبي لكن بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أن الموازين تنصب يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ».
وقال الزمخشري : فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.
قال الرازي : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله تعالى ﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ﴾ وقوله تعالى :﴿ قل الله أعبد مخلصاً له ديني ﴾ قلنا : ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإيمان بالعبادة، والثاني : إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله تعالى، وذلك أن قوله ﴿ أمرت أن أعبد الله ﴾ لا يفيد الحصر وقوله تعالى :﴿ قل الله أعبد ﴾ يفيد الحصر أي : الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه.
ويدل عليه أنه لما قال ﴿ قل الله أعبد ﴾ قال بعده :﴿ فاعبدوا ﴾.
﴿ ذلك ﴾ أي : العذاب المعد للكفار ﴿ يخوّف الله به عباده ﴾ أي : المؤمنين ليتجنبوا ما يوقعهم فيه، وقيل : يخوف به الكفار والضلال ويدل للأول قوله تعالى :﴿ يا عباد فاتقون ﴾ أي : ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة، ووجه الدلالة أن إضافة العبيد إلى الله تعالى في القرآن مختص بأهل الإيمان.
فإن قيل : يتعين هذا التفسير لأنهم إنما عبدوا الصنم لا الشيطان. أجيب : بأن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان هو الداعي كانت عبادة الصنم عبادة له.
فإن قيل : ما وجه تسمية الصنم بالطاغوت على التفسير الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر ؟ أجيب : بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى :﴿ أن يعبدوها ﴾ بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل : اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل : على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان ؟ أجيب : بأنه الداعي إلى عبادة الصنم.
فائدة : نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.
﴿ وأنابوا ﴾ أي : رجعوا ﴿ إلى الله ﴾ أي : إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى :﴿ لهم البشرى ﴾ أي : في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا : فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة : فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
تنبيه : يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم ﴾ ( النحل : ٣٢ )
وعند دخول الجنة لقوله تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( ٢٣ ) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾ ( الرعد : ٢٣ ٢٤ ) ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ ( الأحزاب : ٤٤ ) ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى :﴿ فبشر عباد ﴾ قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء.
تنبيه : في هذا وضع الظاهر موضع مضمر ﴿ الذين اجتنبوا ﴾ للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان : عبادات ومعاملات، فأما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي : فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. ه وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف : ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل :
ولا تكن مثل غير قيد فانقادا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : المقلد ا. ه،
وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً، والثاني : مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات. وقيل : يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل : يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى ﴾ ( البقرة : ٢٣٧ ) وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه. وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمان بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم ﴿ فبشر عبادي ﴾ الآية.
﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الهمة والرتبة ﴿ الذين هداهم الله ﴾ بما له من صفات الكمال لدينه ﴿ وأولئك أولو الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وقال أبو زيد : نزل ﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت ﴾ ( الزمر : ١٧ ) الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله.
وفي هذه الآية لطيفة وهي : أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل، فأما الفاعل : فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أولئك الذين هداهم الله ﴾ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وأولئك هم أولو الألباب ﴾ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿ مبنية ﴾ ؟ أجيب : بأن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله تعالى :﴿ مبنية ﴾ فائدته أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ للمنزل الأسفل.
ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية ﴿ الأنهار ﴾ أي : المختلفة كما قال تعالى :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ﴾ ( محمد : ١٥ ) وقوله تعالى :﴿ وعد الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى :﴿ غرف ﴾ في معنى وعدهم الله ذلك ﴿ لا يخلف الله الميعاد ﴾ لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » وقوله : الغابر أي : الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب.
فإن قيل : إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى ﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ( الرعد : ٢٨ ) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول القسوة في القلب ؟ أجيب : بأن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر، بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطباع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله تعالى يزيدها قسوة وكدرة، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أمثاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ ( المؤمنون : ١٢ ) الآية وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى :﴿ ثم أنشأناه خلقاً آخر ﴾ ( المؤمنون : ١٤ ) قال كل واحد منهما ﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ ( المؤمنون : ١٤ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اكتب فكذا نزلت » فازداد عمر رضي الله عنه إيماناً على إيمانه وارتد ذلك الإنسان. وإذا عرف ذلك لم يبعد أن يكون ذكر الله تعالى يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القنوط والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة، وقيل : من بمعنى عن أي : قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وجرى على ذلك الجلال المحلي ﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء البعداء ﴿ في ضلال مبين ﴾ أي : بين قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبي بن خلف، وقيل : في علي وحمزة وأبي لهب وولده وقيل : في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل.
وقوله تعالى :﴿ كتاباً ﴾ أي : جامعاً لكل خير بدل من أحسن الحديث، وقيل : حال منه بناءً على أن أحسن الحديث معرفة لإضافته إلى معرفة، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف فقيل : إضافته محضة وقيل : غير محضة والصحيح الأول وقوله تعالى :﴿ متشابهاً ﴾ نعت لكتاباً وهو المسوغ لمجيء الجامد حالاً أو أنه في قوة مكتوب وتشابهه بتشابه أبعاضه في الإعجاز والبلاغة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتخد زمانه أم لا.
وقوله تعالى :﴿ مثاني ﴾ جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده مواعظه أو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، وقيل : لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يخلق على كثرة الترداد.
فإن قيل : كيف وصف كتاباً وهو مفرد بالجمع ؟ أجيب : بأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا ترى أنك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، ويجوز أن يكون مثاني منتصباً على التمييز من متشابهاً كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل.
فإن قيل : ما فائدة التثنية والتكرير ؟ أجيب : بأن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظهم به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم ﴿ تقشعر ﴾ أي : تضطرب وتشمئز ﴿ منه ﴾ عند ذكر وعيده ﴿ جلود ﴾ أي : ظواهر أجسام ﴿ الذين يخشون ﴾ أي : يخافون ﴿ ربهم ﴾ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهو تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر آيات العذاب ﴿ ثم تلين ﴾ أي : تطمئن ﴿ جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾ أي : عند ذكر وعده، والمعنى إذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ( الرعد : ٢٨ ) روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها » وفي رواية :«حرمه الله على النار » قال قتادة : هذا نعت أولياء الله تعالى نعتهم الله تعالى بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم وإنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان.
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال : قلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، قالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا ؟ فقالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله تعالى سقط فقال : إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط. وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق.
فإن قيل : لم ذكرت الجلود وحدها أولاً في جانب الخوف ثم قرنت بها القلوب ثانياً في الرجاء ؟ أجيب : بأن الخشية التي محلها القلوب إذا ذكرت فقد ذكرت القلوب فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم في أول وهلة وإذا ذكر الله تعالى ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم.
فإن قيل : ما وجه تعدية تلين بإلى ؟ أجيب : بأنه ضمن معنى فعل متعد بإلى كأنه قيل : سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله تعالى.
فإن قيل : كيف قال الله تعالى :﴿ إلى ذكر الله ﴾ ولم يقل إلى رحمة الله ؟ أجيب : بأن من أحب الله تعالى لأجل رحمته فهو ما أحب الله تعالى وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله تعالى لا لشيء سواه فهو المحب الحق وهي الدرجة العالية كما قال تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ﴿ ذلك ﴾ أي : القرآن الذي هو أحسن الحديث ﴿ هدى الله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ يهدي به من يشاء ﴾ أي : وهو الذي شرح الله تعالى صدره أولاً لقبول الهداية ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : يجعل قلبه قاسياً مظلماً ﴿ فما له من هاد ﴾ أي : يهديه. وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد الدال، والباقون بغير الياء واتفقوا في الوصل على عدم الياء.
فإن قيل : هلا قيل : مستقيماً أو غير معوج ؟ أجيب : بأن في ذلك فائدتين إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط كما قال تعالى :﴿ ولم يجعل له عوجاً ﴾ ( الكهف : ١ ) ثانيتهما : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان، وقيل : المراد بالعوج الشك واللبس قال القائل :
وقد أتاك يقين غير ذي عوج | من الإله وقول غير مكذوب |
تنبيه : وصف تعالى القرآن بثلاث صفات ؛ أولها : كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قرب قيام الساعة، ثانيها : كونه عربياً أي : أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ ( الإسراء : ٨٨ ) ثالثها : كونه غير ذي عوج، قال مجاهد : غير ذي لبس وقال ابن عباس رضي الله عنهما : غير مختلف، وقال السدي : غير مخلوق، ويروى ذلك عن مالك بن أنس، وحكى شقيق وابن عيينة عن سبعين من التابعين : أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق.
وقوله تعالى :﴿ هل يستويان ﴾ استفهام إنكار أي : لا يستويان وقوله تعالى :﴿ مثلاً ﴾ تمييز والمعنى اضرب لقومك مثلاً وقل لهم : ما تقولون في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه حوائجهم وهو متحير في أمره، وكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج إليهم فكل واحد يرده إلى الآخر فبقي متحيراً لا يعرف أيهم أولى أن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب أليم. وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين أحسن حالاً، لا شك أن هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول، فإن الأول : مثل المشرك والثاني : مثل الموحد، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح المشرك وتحسين الموحد.
فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس ؟ أجيب : بأن عبدة الأصنام يختلفون، منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون : زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو : السعد الأعظم، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة فيكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل لأشخاص من العلماء والزهاد مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله تعالى، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هم على دينه وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.
ولما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق قال الله تعالى :﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ لله ﴾ أي : كل الحمد لله الذي لا مكافئ له فلا يشاركه فيه على الحقيقة سواه لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق ﴿ بل أكثرهم ﴾ أي : أهل مكة ﴿ لا يعلمون ﴾ أي : ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به غيره من فرط جهلهم وقول البغوي والمراد بالأكثر الكل ليس بظاهر.
فائدة : قال الفراء : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت : بالتخفيف من فارقته الروح ولذلك لم يخفف هنا.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه ». وعن أبي هريرة أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ».
أبني كليب إن عميّ اللذا | قتلا الملوك وفككا الأغلالا |
تنبيه : في تعلق هذه اللام وجهان أحدهما : أنها متعلقة بمحذوف أي : يسر لهم ذلك ليكفر، ثانيهما : أنها متعلقة بنفس المحسنين كأنه قيل : الذين أحسنوا ليكفر أي : لأجل التكفير وقوله تعالى :﴿ أسوأ الذي ﴾ أي : العمل الذي ﴿ عملوا ﴾ فيه مبالغة فإنه إذا كفر غيره أولى بذلك أو للإيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية أو أنه بمعنى السيء كما جرى عليه الجلال المحلي كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي : عادلاهم إذ ليس المراد به التفضيل، والناقص هو محمد الخليفة سمي به ؛ لأنه نقص أعطية القوم والأشج هو عمر بن عبد العزيز سمي به لشجة أصابت رأسه.
﴿ ويجزيهم أجرهم ﴾ أي : ويعطيهم ثوابهم ﴿ بأحسن الذي ﴾ أي : العمل الذي ﴿ كانوا يعملون ﴾ أي : فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر لحسن إخلاصهم فيها وهذا أولى من قول الجلال المحلي إنه بمعنى الحسن.
﴿ ويخوّفونك ﴾ أي : عباد الأصنام ﴿ بالذين من دونه ﴾ وذلك أن قريشاً خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معاداة الأوثان، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي :«أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادتها أي : خادمها : لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها فنزلت هذه الآية ».
ولما شرح الله الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ختم الكلام بخاتمة هي : الفصل فقال تعالى شأنه ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ فما له من هاد ﴾ أي : يهديه إلى الرشاد.
تنبيه : المكانة بمعنى المكان فاستعيرت من العين للمعنى كما استعير لفظ هنا وحيث للزمان وهما للمكان، فإن قيل : حق الكلام إني عامل على مكانتي فلم حذف ؟ أجيب : بأنه حذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حاله لا تقف وتزداد كل يوم قوة وشدة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ فسوف تعلمون ﴾ توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ ( فاطر : ٨ ) أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :﴿ إنا أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة التامة ﴿ عليك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ الكتاب ﴾ أي : الكامل الشرف ﴿ للناس ﴾ أي : لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقروناً ﴿ بالحق ﴾ أي : بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله ﴿ فمن اهتدى ﴾ أي : طاوع الهادي ﴿ فلنفسه ﴾ أي : فنفعه يعود إلى نفسه ﴿ ومن ضل ﴾ أي : وقع في الضلال بمخالفته ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ أي : فضرر ضلاله يعود إليه.
ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى :﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ أي : لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب.
حتى لا تميزوا ولا تتصرفوا كما أن الموتى كذلك فالتي تتوفى عند النوم هي الأنفس التي يكون بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان :
إحداهما : نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت ويزول بزوالها النفس والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس ﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ﴾ فلا يردها إلى جسدها، وقرأ حمزة والكسائي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء بعد الضاد ورفع التاء من الموت، والباقون بفتح القاف والضاد وسكون الياء بعد الضاد ونصب الموت ﴿ ويرسل الأخرى ﴾ أي : يردها إلى جسدها وهي التي لم يقض عليها الموت ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ أي : إلى الوقت الذي ضربه لموتها، وقيل : يتوفى الأنفس أي : يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز، قالوا : والتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ولأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس : التي بها العقل والتمييز، والروح : التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. قال الزمخشري : والصحيح ما ذكر أولاً لأن الله تعالى علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام انتهى.
ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال : يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا نبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت العود إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مدة حياتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول : اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين ».
﴿ إن في ذلك ﴾ أي : التوفي والإمساك والإرسال ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على كمال قدرته وحكمته ورحمته. وقال مقاتل : لعلامات ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ أي : فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، فإن قيل : قوله تعالى ﴿ الله يتوفى الأنفس ﴾ ( الزمر : ٤٢ ) يدل على أن المتوفي هو الله تعالى ويؤيده قوله تعالى :﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ ( الملك : ٢ ) وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾ ( البقرة : ٢٥٨ ) وقال تعالى في آية أخرى ﴿ إذا جاء أحدهم الموت توفّته رسلنا ﴾ ( الأنعام : ٦١ )
فكيف الجمع ؟ أجيب : بأن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقية، وفي آية إلى ملك الموت لأنه الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى : أتباعه.
تنبيه : أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة ﴿ قل ﴾ يا أشرف الخلق لهؤلاء البعداء ﴿ أوَلو ﴾ أي : أيشفعون ولو ﴿ كانوا لا يملكون شيئاً ﴾ أي : من الشفاعة وغيرها ﴿ ولا يعقلون ﴾ أي : أنكم تعبدونهم ولا غير ذلك وجواب لو محذوف تقديره ولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
تنبيه : قال الزمخشري : فإن قلت ما العامل في إذا ذكر، قلت : العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار. قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو هو أن الظرفين معمولان لفاجؤوا ثم قال : إذا الأولى تنتصب على الظرفية والثانية على المفعول به.
أولها : قوله تعالى :﴿ ولو أن للذين ظلموا ﴾ أنفسهم بالكفر ﴿ ما في الأرض جميعاً ﴾ أي : من الأموال ﴿ ومثله معه لافتدوا ﴾ أي : اجتهدوا في طلب أن يفدوا أنفسهم ﴿ به من سوء العذاب يوم القيامة ﴾ وهذا وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص روى الشيخان عن أنس :«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ما في الأرض من شيء لكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول الله : قد أردت منك وفي رواية سألتك أهون من هذا وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي شيئاً » قوله أردت أي : فعلت معك فعل الآمر المريد وهو معنى قوله في رواية قد سألتك.
وقوله صلى الله عليه وسلم :«في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ». وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدلت لهم سيئات لأنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام ويظنونها حسنات فبدت لهم سيئات.
ثالثها قوله تعالى :﴿ وبدا لهم ﴾ أي : ظهر ظهوراً تاماً ﴿ سيئات ما كسبوا ﴾ أي : مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله تعالى ﴿ وحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ أي : يطلبون ويوجدون الهزء في العذاب.
فإن قيل : كيف ذكر النعمة أولاً في قوله :﴿ إنما أوتيته ﴾ ثم أنثها ثانياً ؟ أجيب : بأنه ذكر أولاً لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل : تقديره شيئاً من النعمة وأتت ثانياً اعتباراً بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل : هي أي : الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي ﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام ﴿ لا يعلمون ﴾ أن التخويل استدراج وامتحان.
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ قال الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشتري | ولا النحس يقضي علينا زحل |
ولكنه حكم رب السماء | وقاضي القضاة تعالى وجل |
تنبيه : في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى :﴿ من رحمة الله ﴾ ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى ﴿ إنه هو ﴾ أي : وحده ﴿ الغفور ﴾ أي : البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب ﴿ الرحيم ﴾ أي : المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما :«أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة » فنزلت هذه الآية. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس :«أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله سبحانه وتعالى ﴿ إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ﴾ ( مريم : ٦٠ ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( النساء، ٤٨ ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ الآية قال : نعم هذا. فجاء فأسلم، فقال المسلمون : هذا له خاصة قال : بل للمسلمين عامة ».
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي » وروى الطبراني :«أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي : بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : إلاً من أشرك ثلاث مرات ».
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل، فإذا راهب فسأله فقال : هل لي توبة فقال : لا فقتله وجعل يسأل فقال رجل : ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ». وفي رواية فقال له : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال : لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال :«إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال : فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة ». وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ ( محمد : ٣٣ ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله ﴾ وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر.
ولما كان هذا شديداً على النفس رغب فيه بقوله تعالى بمظهر صفة الإحسان موضع الإضمار :﴿ من ربكم ﴾ أي : الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. وقال الحسن رضي الله عنه : معنى الآية الزموا طاعته واجتنبوا معصيته فإن في القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره. وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ لقوله تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ ( البقرة : ١٠٦ ) وقيل : العزائم دون الرخص وقوله تعالى :﴿ من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾ أي : ليس عندكم شعور بإتيانه بوجه من الوجوه فيه تهديد وتخويف.
الأول : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ أن ﴾ أي : كراهة أن ﴿ تقول نفسٌ ﴾ أي : عند وقوع العذاب وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد ﴿ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ﴾ قال الحسن : قصرت في طاعة الله، وقال مجاهد : في أمر الله، وقال سعيد بن جبير : في حق الله وقيل : ضيعت في ذات الله، وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنباً، قال في «الكشاف » : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر :
إن السماحة والمروءة والندى | في قبة ضربت على ابن الحشرج |
تنبيه : في نصب فأكون وجهان أحدهما : عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول على مصدر مصرح به كقولها :
للبس عباءة وتقر عيني | أحب إلي من لبس الشفوف |
فإن قيل : هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله :﴿ لو أن الله هداني ﴾ ( الزمر : ٥٧ ) ولم يفصل بينهما ؟ أجيب : بأنه لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب، فإن قيل : كيف صح أن تقع بلى جواباً لغير منفي ؟ أجيب : بأن قوله ﴿ لو أن الله هداني ﴾ بمعنى ما هديت.
ولما دل هذا على القدرة الشاملة وكان لا بد معها من العلم الكامل قال تعالى :﴿ وهو على كل شيء ﴾ أي : مع القهر والغلبة ﴿ وكيل ﴾ أي : حفيظ لجميع ما يريده قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.
ولما وصف الله تعالى بالصفة الإلهية والجلالة وهو كونه خالقاً للأشياء وكونه مالكاً لمقاليد السماوات والأرض بأسرها قال بعده :﴿ والذين كفروا ﴾ أي : لبسوا ما اتضح من الدلالات وجحدوا ﴿ بآيات الله ﴾ أي : دلائل قدرته الظاهرة الباهرة ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ هم الخاسرون ﴾ لأنهم خسروا أنفسهم وكل شيء متصل بها على وجه النفع، وقال الزمخشري :﴿ والذين كفروا ﴾ متصل بقوله :﴿ وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم ﴾ ( الزمر : ٦١ ) واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها وأن له مقاليد السماوات والأرض، واعترضه الرازي : بأن وينجي جملة فعلية والذين كفروا جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز واعترض الآخر بأنه لا مانع من ذلك.
ولما كان السياق للتهديد وكانت العبارة شاملة لما تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وهي ﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ﴾ ( البقرة : ٢١٧ ) قال تعالى :﴿ ولتكونن ﴾ أي : لأجل حبوطه ﴿ من الخاسرين ﴾ فإن من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته أما من أسلم بعد ردته فإنما يحبط ثواب عمله لا عمله كما نص عليه الشافعي.
تنبيه : اللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب.
ولما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى :﴿ والأرض جميعاً قبضته ﴾ وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي : ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى :﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ﴾ ( البقرة : ٢٨ ) أي : كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا، وجميعاً حال وهي دالة على أن المراد بالأرض : الأرضون لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، وقدم الأرض على السماوات لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها.
ولما كان في هذه الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال تعالى :﴿ يوم القيامة ﴾ ولا قبضة هناك لا حقيقة ولا مجازاً وكذا الطي واليمين وإنما هو تمثيل وتخييل لتمام القدرة.
ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدونه من سير النجوم جمع ليكون مع جميعاً كالتصريح في جمع الأرض أيضاً في قوله تعالى :﴿ والسماوات مطويات ﴾ أي : مجموعات ﴿ بيمينه ﴾ قال الإمام الرازي : وههنا سؤالات ؛ الأول : أن العرش أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ثم إنه تعالى قال في صفة العرش ﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ﴾ ( الحاقة : ١٧ )، فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسماوات والأرض ؟ وأجاب : بأن مراتب التعظيم كثيرة.
فأولها : تقرير الله بكونه قادراً على هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
السؤال الثاني : قوله تعالى :﴿ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾ شرح حال لا تحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم معترفون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان الخطاب مع المكذبين بالنبوة فهم ينكرون قوله تعالى :﴿ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ﴾ فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك ؟.
وأجاب عنه : بأن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السماوات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإفنائها يوم القيامة، وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض وذلك يدل على كمال الاستغناء.
السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرته تعالى، فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة ؟ وأجاب : بأنه خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا.
ولما كان هذا إنما هو تمثيل يعهد والمراد به الغاية في القدرة نزه نفسه المقدس عما ربما نسبه له المجسم والمشبه فقال تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص ﴿ وتعالى ﴾ علو الإيحاط به ﴿ عما يشركون ﴾ معه لأنه لو كان له شريك ينازعه في هذه القدرة أو بعضها لمنعه شيئاً منها وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء البتة. روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال :«جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذا كان يوم القيامة جعل الله تعالى السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقول الحبر ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ الآية » وإنما ضحك صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهم علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، وإنما يدل ذلك على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان هينة عليه هواناً لا يصل السامع إلى الوقوف عليه إلا بإجراء العبارة في مثل هذه الطريقة على التخييل.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبابرة أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ». وللبخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ». قال أبو سليمان الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من وصف اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف، وقد ورد كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة رضي الله تعالى عنهم، وقال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه انتهى. وقد قدمنا أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه وأن الخلف يؤولونه والأول أسلم والثاني أحكم.
﴿ وأشرقت ﴾ أي : أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة ﴿ الأرض ﴾ أي : التي أوجدت لحشرهم وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى :﴿ يوم تُبدّل الأرض غير الأرض ﴾ ( إبراهيم : ٤٨ ). ﴿ بنور ربها ﴾ أي : خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه قال صلى الله عليه وسلم :«سترون ربكم » وقال :«كما لا تضارون في الشمس في يوم الصحو » وقال الحسن والسدي : بعدل ربها. ﴿ ووضع الكتاب ﴾ أي : كتاب الأعمال للحساب لقوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ﴾ ( الإسراء : ١٣ ) وقوله تعالى :﴿ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ ( الكهف : ٤٩ ) وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ تقابل به الصحف، وقيل : الكتاب الذي أنزل إلى كل أمة تعمل به، واقتصر على هذا البقاعي. ﴿ وجيء بالنبيين ﴾ أي : للشهادة على أممهم واختلف في قوله تعالى :﴿ والشهداء ﴾ فقال ابن عباس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقوله تعالى :﴿ جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ﴾ ( البقرة : ١٤٣ ) وقال عطاء ومقاتل : يعني الحفظة لقوله تعالى :﴿ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ﴾ ( ق : ٢١ ) وقيل : هم المستشهدون في سبيل الله.
أي : يدفعون إليها دفعاً وقوله تعالى :﴿ زمراً ﴾ حال أي : جماعات في تفرقة بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة. ﴿ حتى إذا جاؤوها ﴾ أي : على صفة الذل والصغار، وأجاب إذا بقوله تعالى :﴿ فتحت أبوابها ﴾ أي : السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها، وقرأ الكوفيون فتحت وفتحت الآتية بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير. ﴿ وقال لهم خزنتها ﴾ إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً ﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ أي : من جنسكم لأن قيام الحجة بالجنس أقوى ﴿ يتلون ﴾ أي : يتلون مرة بعد مرة وشيئاً في إثر شيء ﴿ عليكم آيات ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم من القرآن وغيره ﴿ وينذرونكم ﴾ أي : يخوفونكم ﴿ لقاء يومكم ﴾ وقولهم ﴿ هذا ﴾ إشارة إلى يوم البعث، فإن قيل : لم أضيف إليهم اليوم ؟ أجيب : بأنهم أرادوا لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة، قال الزمخشري : وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة، ويجوز أن يراد باليوم يوم البعث كله وجرى عليه البقاعي وهو أولى ولما قال لهم الخزنة ذلك ﴿ قالوا بلى ﴾ أتونا وتلوا علينا وحذرونا ﴿ ولكن حقت ﴾ أي : وجبت ﴿ كلمة العذاب ﴾ أي : التي سبقت في الأزل علينا هكذا كان الأصل ولكنهم قالوا ﴿ على الكافرين ﴾ تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم الأنوار التي أتتهم بها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
تنبيه : في الآية دليل على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا لهم أنهم ما بقي لهم عذر ولا على بعد مجيء الرسل عليهم الصلاة والسلام، فلو لم يكن مجيء الرسل شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة، وقيل : كلمة العذاب هي قوله تعالى :﴿ لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين ﴾ ( هود : ١١٩ ).
فإن قيل : السوق في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأي حاجة فيه إلى السوق ؟ أجيب : بأن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين سراعاً إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين هذا سوق تشريف وإكرام وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا من بدائع أنواع البديع وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم فسبحان من أنزله معجز المباني وتمكن المعاني عذب الموارد والمثاني.
وقيل : إن المحبة والصداقة باقية بين المتقين إلى يوم القيامة كما قال تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدواً إلا المتقين ﴾ ( الإحزاب : ٦٧ ) فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبابي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنة.
ولما ذكر تعالى السوق ذكر غايته بقوله تعالى :﴿ حتى إذا جاؤوها ﴾ اختلف في جواب إذا على أوجه. أحدها قوله تعالى :﴿ وفتحت أبوابها ﴾ والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش، وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة عادة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها، فعلى هذا أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون مقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى :﴿ جنات عدن مفتّحة لهم الأبواب ﴾ ( ص : ٥٠ ) فلذلك جيء بالواو فكأنه قال : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها.
ثانيها قوله تعالى :﴿ وقال لهم خزنتها ﴾ أي : بزيادة الواو أيضاً أي : حتى إذا جاؤوها قال لهم خزنتها، ثالثها : قال الزجاج : القول عندي إن الجواب محذوف تقديره دخلوها بعد قوله تعالى :﴿ إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ﴾ أي : حين الوصول ﴿ سلام عليكم ﴾ تعجيلاً للمسرة بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها ﴿ طبتم ﴾ أي : صلحتم لسكناها لأنها دار طهرها الله تعالى من كل دنس وطيبها من كل قذر فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً تنقي أنفسنا من درن الذنوب وتميط وضر هذه القلوب ثم سببوا عن ذلك ﴿ فادخلوها خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود. وسمى بعضهم الواو في قوله تعالى :﴿ وفتحت ﴾ واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى :﴿ وثامنهم كلبهم ﴾ ( الكهف : ٢٢ ) وقيل : تقدير الجواب ﴿ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ﴾ يعني أن الجواب بلفظ الشرط ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صح، وقدره الجلال المحلي بقوله : دخلوها.
ولما كان هذا اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم ﴿ رب العالمين ﴾ أي : الذين ابتدأهم أول مرة من العدم، وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير وأبقاهم رابعاً لا إلى أخير وقيل : إن الله تعالى ابتدأ ذكر الخلق بالحمد لله في قوله سبحانه :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ﴾ ( الأنعام : ١ ) وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداية كل أمر وخاتمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين ». حديث موضوع، وقوله عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها :«أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر » رواه الترمذي وغيره.