تفسير سورة الزلزلة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية، في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر، وهي ثماني آيات، وخمس وثلاثون كلمة، ومائة وتسعة وأربعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ الخلق بنعمته الظاهرة قسماً ﴿ الرحيم ﴾ الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة عيناً واسماً.

ولما قال تعالى : للمؤمنين ﴿ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن ﴾ كأنَّ المكلف قال : متى يكون ذلك ؟ فقيل : له :﴿ إذا زلزلت الأرض ﴾ أي : تحرّكت واضطربت لقيام الساعة، فالعاملون كلهم يكونون في الخوف، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك، وتكون آمناً، لقوله تعالى :﴿ وهم من فزع يومئذ آمنون ﴾ [ النمل : ٨٩ ]. ﴿ زلزالها ﴾ أي : تحريكها الشديد المناسب لعظم جرم الأرض وعظمة ذلك، كما تقول : أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته، تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة.
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال تعالى :﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾.
﴿ وأخرجت الأرض ﴾ أي : كلها، ولم يضمر تحقيقاً للعموم ﴿ أثقالها ﴾ أي : مما هو مدفون فيها من الكنوز والأموات. قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد : أثقالها أمواتها، تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجنّ والإنس : الثقلان. وقيل : أثقالها كنوزها، ومنه الحديث :«تنفي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً »، فيعطيها الله تعالى قوّة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوّة أن تخرج النبات الصغير اللطيف الطريّ الذي هو أنعم من الحرير، فتشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاويل شق النواة مع ما لها من الصلابة التي استعصت بها على الحديد، فتنفلق نصفين، وينبت منها سائر ما يريده سبحانه وتعالى، فالذي قدر على ذلك قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض، وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن، ويشق جميع منافذه من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل هناك بيكار ولا منشار، ثم يخرج من البطن. هكذا إخراج الموتى من غير فرق، كل ذلك عليه هين سبحانه، ما أعظم شأنه، وأعز سلطانه.
﴿ وقال الإنسان ﴾ أي : هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما أكده عنده من أمر البعث لما له من الإنس بنفسه، والنظر في عطفه على سبيل التعجب أو الدهش والحيرة أو الكافر، كما يقول :﴿ من بعثنا من مرقدنا ﴾ [ يس : ٥٢ ]، فيقول له المؤمن :﴿ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ﴾ [ يس : ٥٢ ]. ﴿ ما لها ﴾ أي : أيّ شيء ثبت للأرض في هذه الزلزلة الشديدة التي لم يعهد مثلها ولفظت ما في بطنها.
﴿ يومئذ ﴾ أي : إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه وقوله تعالى :﴿ تحدّث أخبارها ﴾ جواب إذا وهو الناصب لها عند الجمهور، ومعنى تحدّث، أي : تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ يومئذ، ثم قيل : هو من قول الله تعالى، وقيل : من قول الإنسان، أي : يقول الإنسان ما لها تحدّث أخبارها متعجباً. روى الترمذي عن أبي هريرة أنه قال :«قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ﴿ يومئذ تحدّث أخبارها ﴾ قال :«أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول : عمل يوم كذا وكذا كذا وكذا. قال : فهذه أخبارها ».
في تحديثها بأخبارها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنّ الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك.
ثانيها : أنّ الله تعالى يحدث فيها الكلام.
ثالثها : أن يكون فيها بيان يقوم مقام الكلام. قيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها، أي : تخبر الأرض بما عمل عليها.
﴿ بأن ربك ﴾ متعلق بتحدِّث، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها، والباء سببية، أي : تحدّث بسبب أن ربك المحسن إليك بأنواع النعم ﴿ أوحى لها ﴾ أي : أذن لها أن تتكلم بذلك المذكور بالقال أو بالحال على ما مرّ. قال البقاعي : وعدل عن قوله " إليها " إلى قول الله تعالى :﴿ لها ﴾ إيذاناً بالإسراع في الإيحاء. وقال البغوي : أوحى إليها واحد. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى :﴿ يومئذ ﴾ بدل من يومئذ قبله منصوب بقوله تعالى :﴿ يصدر ﴾ أو باذكر مقدّراً، أي : واذكر يوم إذ كان ما تقدّم وهو حين يقوم الناس من القبور يصدر ﴿ الناس ﴾ أي : يرجعون من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة ﴿ أشتاتاً ﴾ أي : متفرّقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال، من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس : متفرّقين على قدر أعمالهم، أهل الإيمان على حدة، أو متفرّقين : فأخذ ذات اليمين على الجنة، وأخذ ذات الشمال إلى النار. ﴿ ليروا ﴾ أي : يرى الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم. ﴿ أعمالهم ﴾ فيعلموا جزاءها، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلاً الجملة التي قبله :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾.
﴿ فمن يعمل ﴾ من محسن أو مسيء، مسلم أو كافر ﴿ مثقال ذرّة خيراً ﴾ أي : من جهة الخير ﴿ يره ﴾ أي : يرى ثوابه حاضراً لا يغيب عنه شيء منه، لأنّ المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة.
﴿ ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره ﴾ فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، أو على أنه جوزي في الدنيا، فهو صورة بلا معنى، ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس : من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة.
وفي بعض الأحاديث : إنّ الذرّة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً، وهو كقوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ﴾ [ النساء : ٤٠ ]. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذر أن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر، ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة ». وقال أبو إدريس : إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ [ الشورى : ٣٠ ]. وقال مقاتل : نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول : إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر، فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :«اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة »، وتحذرهم من اليسير من الذنب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة :«إياك ومحقرات الذنوب، فإنّ لها من الله تعالى طالباً »، وقال ابن مسعود : هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.
وقال كعب الأحبار : لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف ﴿ فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره ﴾. وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمير فقال :«ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة » :﴿ فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره ﴾. وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت : أتعجب، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير، وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم : مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال : حسبي، قد انتهت الموعظة.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ يره ﴾ جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء ( يره ) وصلاً في الحرفين، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية.
Icon