﴿ بسم الله ﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ الخلق بنعمته الظاهرة قسماً ﴿ الرحيم ﴾ الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة عيناً واسماً.
ﰡ
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال تعالى :﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾.
في تحديثها بأخبارها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنّ الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك.
ثانيها : أنّ الله تعالى يحدث فيها الكلام.
ثالثها : أن يكون فيها بيان يقوم مقام الكلام. قيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها، أي : تخبر الأرض بما عمل عليها.
﴿ ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره ﴾ فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، أو على أنه جوزي في الدنيا، فهو صورة بلا معنى، ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس : من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة.
وفي بعض الأحاديث : إنّ الذرّة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً، وهو كقوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ﴾ [ النساء : ٤٠ ]. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذر أن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر، ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة ». وقال أبو إدريس : إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ [ الشورى : ٣٠ ]. وقال مقاتل : نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول : إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر، فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :«اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة »، وتحذرهم من اليسير من الذنب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة :«إياك ومحقرات الذنوب، فإنّ لها من الله تعالى طالباً »، وقال ابن مسعود : هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.
وقال كعب الأحبار : لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف ﴿ فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره ﴾. وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمير فقال :«ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة » :﴿ فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره ﴾. وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت : أتعجب، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير، وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم : مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال : حسبي، قد انتهت الموعظة.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ يره ﴾ جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء ( يره ) وصلاً في الحرفين، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية.