تفسير سورة الزلزلة

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ﴾.
الزلزلة : الحركة الشديدة بسرعة، ويدل لذلك فقه اللغة من وجهين :
الأول : تكرار الحروف، أو ما يقال تكرار المقطع الواحد، مثل صلصل وقلقل وزقزق، فهذا التكرار يدل على الحركة.
والثاني : وزن فعَّل بالتضعيف كغلّق وكسّر وفتح، فقد اجتمع في هذه الكلمة تكرار المقطع وتضعيف الوزن.
ولذا، فإن الزلزال أشد ما شهد العالم من حركة، وقد شوهدت حركات زلزال في أقل من ربع الثانية، فدمر مدناً وحطم قصوراً.
ولذا فقد جاء وصف هذا الزلزال بكونه شيئاً عظيماً في قوله تعالى :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾، ويدل على هذه الشدة تكرار الكلمة في زلزلت وفي زلزالها، كما تشعر به هذه الإضافة.
وقد تقدم للشيخ -رحمة الله تعالى علينا وعليه- إيراد النصوص المبينة لذلك في أول سورة الحج، كقوله تعالى :﴿ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ١٤ ﴾، وقوله :﴿ إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ﴾، وقوله :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ﴾، وساق قوله :﴿ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾.
﴿ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ واختلف في الأثقال ما هي على ثلاثة أقوال :
فقيل : موتاها. وقيل : كنوزها، وقيل : التحدث بما عمل عليها الإنسان. ولعل الأول أرجح هذه الثلاثة، لأن إخراج كنوزها سيكون قبل النفخة، والتحدث بالأعمال منصوص عليه بذاته، فليس هو الأثقال. ورجحوا القول الأول لقوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْواتاً ﴾.
وقالوا : الإنس والجن ثقلان على ظهرها، فهما ثقل عليها، وفي بطنها فهم ثقل فيها، ولذا سميا بالثقلين. قاله الفخر الرازي وابن جرير.
وروي عن ابن عباس : أنه موتاها.
وشبيه بذلك قوله :﴿ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴾، ولا يبعد أن يكون الجميع إذا راعينا صيغة الجمع أثقالها، ولم يقل ثقلها، وإرادة الجمع مروية أيضاً عن ابن عباس. ذكره الألوسي، وابن جرير عنه وعن مجاهد.
وحكى الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه القولين في إملائه : أي موتاها، وقيل : كنوزها.
وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ﴾ لفظ الإنسان هنا عام، وظاهره أن كل إنسان يقول ذلك، ولكن جاء ما يدل على أن الذي يقول ذلك هو الكافر. أما المؤمن فيقول :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾، وذلك في قوله :﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ٥١ قَالُواْ يا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾.
فالكافر يدعو بالويل والمؤمن يطمئن للوعد، ومما يدل على أن الجواب من المؤمنين، لا من الملائكة، كما يقول بعض الناس، ما جاء في آخر السياق قوله :﴿ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ ﴾ أي كلا الفريقين ﴿ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾.
وقوله :﴿ مَا لَهَا ﴾ سؤال استيضاح، وذهول من هول ما يشاهد.
وقوله :﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ٤ ﴾، التحديث هنا صريح في الحديث وهو على حقيقته، لأن في ذلك اليوم تتغير أوضاع كل شيء، وتظهر حقائق كل شيء، وكما أنطق الله الجلود ينطق الأرض، فتحدث بأخبارها، ﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ ﴾، وتقدم تفصيل ذلك عند أول سورة الحشر ؛ لأن الله أودع في الجمادات القدرة على الإدراك والنطق، والمراد بإخبارها أنها تخبر عن أعمال كل إنسان عليها في حال حياته.
ومما يشهد لهذا المعنى حديث المؤذن : " لا يسمع صوته حجر ولا مدر إلا وشهد له يوم القيامة "، وذكر ابن جرير وجهاً آخر، وهو أن إخبارها هو ما أخرجته من أثقالها بوحي الله لها، والأول أظهر ؛ لأنه يثبت معنى جديداً، ويشهد له الحديث الصحيح.
قوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾.
في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه، والآخر في صيغة يعمل.
أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم : من للعموم المسلم والكافر، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئاً، لقوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً ﴾، وفي حق المسلم، قد لا يرى كل ما عمل من شر، لقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾.
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده.
أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث، وهو في صيغة يعمل ؛ لأنها صيغة مضارع، وهي للحال والاستقبال.
والمقام في هذا السياق ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً ﴾، وهو يوم البعث، وليس هناك مجال للعمل، وكان مقتضى السياق أن يقال : فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره. ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع، والمقام ليس مقام عمل، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد يعمل مثقال ذرة، أي : من الصنفين ما كان من ذلك، لقوله تعالى ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ﴾، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات، حيث كان السياق أولاً من أول السورة في معرض الإخبار عن المستقبل : إذا زلزلزت الأرض زلزالها، وإذا أخرجت الأرض أثقالها، وإذا قال الإنسان ما لها، في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل، كما في قوله :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾، وقوله :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ﴾.
ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شراً يره في الآخرة، ومثقال الذرة، قيل : هي النملة الصغيرة، لقول الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
والإتب : قال في القاموس : الإتب بالكسر، والمئبتة كمكنسة برد يشق، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين، وقيل : هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء اللَّه.
ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها، لأنه تعالى عمم العمل في قوله :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير، وقد جاء النص صريحاً بذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ في السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
وهنا تنبيهان : الأول من ناحية الأصول، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال ؛ بل هي أولى وأحرى.
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، وقد يكون مساوياً له، فمن الأول هذه الآية وقوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾، ومن المساوي قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾، فإن إحراق ماله وإغراقه ملحق بأكله، بنفي الفارق وهو مساوٍ لأكله في عموم الإتلاف عليه، وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل، أي النص.
التنبيه الثاني في قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ ﴾.
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر، والمسمى بعصر الذرة، إذ قالوا : لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء، وأنها لا تقبل التقسيم، كما يقول المناطفة : إنها الجوهر الفرد، الذي لا يقبل الانقسام.
وجاء العلم الحديث، ففتت الذرة وجعل لها أجزاء. ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب.
فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء.
سبحانك ما أعظم شأنك، وأعظم كتابك، وصدق الله إذ يقول :﴿ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾.
Icon