ﰡ
أي قرب وقت إتيان القيامة.
وعبر بصيغة الماضي تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع. واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله :﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١ ]، وقوله جل وعلا :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [ القمر : ١ ]، وقوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾ [ الأحزاب : ٦٣ ]، وقوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [ الشورى : ١٧ ]، وقوله جل وعلا :﴿ أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ [ النجم : ٥٧-٥٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقق وقوعه كثير في القرآن، كقوله :﴿ وَنُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَن في السَّمَاوَاتِ ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] الآية، وقوله ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ] الآية، وقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ الزمر : ٦٩-٧١ ] الآية.
فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال، نزل تحقق وقوعها منزلة الوقوع.
وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾. ( ١ )
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة. والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله جل وعلا :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٣-٥٤ ]، وقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، وقوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ [ هود : ٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ ص : ١٦ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ يونس : ٥٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والضمير في قوله ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ في تفسيره وجهان :
أحدهما : أنه العذاب الموعد به يوم القيامة، المفهوم من قوله :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾.
والثاني : أنه يعود إلى الله ؛ أي لا تطلبوا من الله أن يعجل لكم العذاب ؛
قال معناه ابن كثير.
وقال القرطبي في تفسيره : قال ابن عباس : لما نزلت ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [ القمر : ١ ] قال الكفار : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ! فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا فانتظروا فلم يروا شيئاً، فقالوا : ما نرى شيئاً ! فنزلت ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١ ] الآية، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ؛ فامتدت الأيام فقالوا : ما نرى شيئاً، فنزلت ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا، فنزلت ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ فاطمأنوا. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها » اه محل الغرض من كلام القرطبي، وهو يدل على أن المراد بقوله ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ أي لا تظنوه واقعاً الآن عن عجل، بل هو متأخر إلى وقته المحدد له عند الله تعالى.
وقول الضحاك ومن وافقه : إن معنى :﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾ أي فرائضه وحدوده قول مردود ولا وجه له، وقد رده الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره قائلاً : إنه لم يبلغنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم، فيقال لهم من أجل ذلك قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. أما مستعجلوا العذاب من المشركين فقد كانوا كثيراً اه.
والظاهر المتبادر من الآية الكريمة أنها تهديد للكفار باقتراب العذاب يوم القيامة مع نهيهم عن استعجاله.
قال ابن جرير في تفسيره : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك، وذلك أنه عقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى ﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ١ ] فدل بذلك على تقريعه المشركين به ووعيده لهم اه.
أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة : أن المراد بها الوحي. لأن الوحي به حياة الأرواح، كما أن الغذاء به حياة الأجسام.
ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ]، وقوله :﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٥-١٦ ].
ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي إتيانه بعد قوله :﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ ﴾ بقوله :﴿ أَنْ أَنْذِرُواْ ﴾ [ النحل : ٢ ] لأن الإنذار إنما يكون بالوحي، بدليل قوله :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْي ﴾ [ يوسف : ٤٥ ] الآية، وكذلك إتيانه بعد قوله :﴿ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ] بقوله :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾ [ غافر : ١٥ ]. لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضاً. وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو «ينزل » بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي. والباقون بالضم والتشديد. ولفظه «من » في الآية تبعيضية، أو لبيان الجنس.
وقوله :﴿ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ النحل : ٢ ] أي ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلاً لذلك ؛ كما بينه تعالى بقوله :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [ الحج : ٧٥ ]، وقوله :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وقوله :﴿ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ]، وقوله :﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ البقرة : ٩٠ ].
وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ].
قوله تعالى :﴿ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ ﴾ [ ٢ ].
الأظهر في «أن » من قوله :﴿ أَنْ أَنْذِرُواْ ﴾ أنها هي المفسرة ؛ لأن إنزال الملائكة بالروح أي بالوحي فيه معنى القول دون حروفه ؛ فيكون المعنى : أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس «بلا إله إلا الله » وأمرهم بتقواه.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾[ النحل : ٣٦ ]، وقوله :﴿ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ بالزخرف : ٤٥ ]، وقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٨ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا معنى الإنذار، ومعنى التقوى.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو خالق السموات والأرض، وأن من يخلق هذه المخلوقات العظيمة يتنزه ويتعاظم أن يعبد معه ما لا يخلق شيئاً، ولا يملك لنفسه شيئاً.
فالآية تدل على أن من يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لا يصح أن يعبد من لا يقدر على شيء ؛ ولهذا أتبع قوله :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ بقوله :﴿ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآية. فدل على أن المعبود هو الخالق دون غيره، وقوله :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٧ ] وقوله :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ]، وقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواةً وَلاَ نُشُوراً ﴾ [ الفرقان : ١-٣ ]، وقوله جل وعلا :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ لقمان : ١١ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾[ الأحقاف : ٤ ]، وقوله جل وعلا :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ]، وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ]، وقوله :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ [ الطور : ٣٥-٣٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ ﴾ [ النحل : ٢٠-٢١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق، ويبرزهم من العدم إلى الوجود. أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه، ويدبر شؤونه.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة ؛ بدليل قوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [ الإنسان : ٢ ] أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة.
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط : من ماء الرجل وماء المرأة. وأخرج الطستي عن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق قال : أخبرني عن قوله ﴿ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ قال : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول :
كأن الريش والفوقين منه | خلال النصل خالطه مشيج |
كأن النصل والفوقين منها | خلال الريش سيط به مشيج |
كأن المتن والشرجين منه | خلاف النصل سيط به مشيج |
كأن الريش والفوقين منها | خلال النصل سيط به المشيج |
إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب، أي وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو ماء المرأة، وذلك في قوله جل وعلا :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ ﴾ [ الطارق : ٥-٧ ] لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها. ومنه قول امرىء القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة | ترائبها مصقولة كالسجنجل |
والزعفران على ترائبها | شرقا به اللبات والنحر |
وبين جل وعلا حقارته بقوله :﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٨-٣٩ ] والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله :﴿ مّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان. وفي ذلك أعظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم.
وقوله جل وعلا :﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ٤ ] أظهر القولين فيه : أنه ذم للإنسان المذكور. والمعنى : خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطبع ؛ ففاجأ بالخصومة والتكذيب، كما تدل عليه «إذا » الفجائية. ويوضح هذا المعنى قوله :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] مع قوله جل وعلا :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧-٧٩ ]، وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾ [ الفرقان : ٥٤-٥٥ ]، وقوله :﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٦٦-٦٧ ] إلى غير ذلك من الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح لهذا المبحث في «سورة الطارق ».
تنبيه
اختلف علماء العربية في «إذا » الفجائية ؛ فقال بعضهم : هي حرف. وممن قال به الأخفش. قال ابن هشام في «المغني » : ويرجح هذا القول قولهم : خرجت فإذا إن زيداً بالباب ( بكسر إن ) لأن «إن » المكسورة لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقال بعضهم : هي ظرف مكان. وممن قال به المبرد. وقال بعضهم : هي ظرف زمان. وممن قال به الزجاج. الخصيم : صيغة مبالغة، أي شديد الخصومة. وقيل الخصيم المخاصم ؛ وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب، كالقعيد بمعنى المقاعد، والجليس بمعنى المجالس، والآكيل بمعنى المؤاكل، ونحو ذلك.
وقوله :«مبين » الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة، بمعنى بان وظهر ؛ أي بين الخصومة. ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا | أبان المقرفات من العراب |
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها | لأبان من آثارهن حدود |
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلاً منه عليهم. وقد قدمنا في «آل عمران » أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي الذكر والأنثى من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. والمراد بالدفء على أظهر القولين : أنه اسم لما يدفأ به، كالملء اسم لما يملأ به، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها..
ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ﴾ [ النحل : ٨٠ ] وقيل : الدفء نسلها. والأول أظهر ؛ والنسل داخل في قوله ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ أي من نسلها ودرها ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾.
ومنافع الأنعام التي بين الله جل وعلا امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة، بينها لهم أيضاً في آيات كثيرة، كقوله :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٢١-٢٢ ]، وقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَىَّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ ﴾ [ غافر : ٧٩-٨١ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشكُرونَ ﴾ [ يس : ٧١-٧٣ ]، وقوله :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢-١٤ ]، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
والأظهر في إعراب ﴿ وَالأنْعَامُ ﴾ أن عامله وهو ﴿ خُلِقَ ﴾ اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوباً يفسره «خلق » المذكور، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
فالسابق انصبه بفعل أضمرا | حتما موافق لما قد أظهر |
وبعد عاطف بلا فصل على | معمول فعل مستقر أولا |
وأظهر أوجه الإعراب في قوله ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ أن قوله ﴿ دِفْءٌ ﴾ مبتدأ خبره ﴿ لَكُمْ فِيهَا ﴾ وسوغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف. خلافاً لمن زعم أن ﴿ دِفْء ﴾ فاعل الجار والمجرور الذي هو ﴿ لَكُمْ ﴾.
وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركنا ذكرها لعدم اتجاهها عندنا، والعلم عند الله تعالى.
يعني أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال ؛ أي عظمة ورفعة، وسعادة في الدنيا لمقتنيها. وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير ﴿ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النحل : ٨ ] فعبر في الأنعام بالجمال، وفي غيرها بالزينة. والجمال : مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة. ويقال أيضاً : هي جملاء. وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر :
فهي جملاء كبدر طالع | بذت الخلق جميعاً بالجمال |
اذكر بلاء سليم في مواطنها | ففي سليم لأهل الفخر مفتخر |
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا | دين الرسول وأمر الناس مشتجر |
لا يغرسون فسيل النخل وسطهم | ولا تخاور في مشتاهم البقر |
إلا سوابح كالعقبان مقربة | في دارة حولها الأخطار والعكر |
لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم | مرابط للأمهار والعكر الدثر |
أحب إلينا من أناس بقنة | يروح على آثار شائهم النمر |
قوله تعالى :﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها، وأبهم ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية، كالطائرات، والقطارات، والسيارات.
ويؤيد ذلك إشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الصحيح. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد » اه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم :«ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها » فإنه قسم من النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة.
وفي هذا الحديث معجزة عظمى، تدل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وإن كانت معجزاته صلوات الله عليه وسلامه أكثر من أن تحصر.
وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
أما قران اللفظ في المشهور | فلا يساوي في سوى المذكور |
وقد ذكر في موضع آخر : أنه يخلق ما لا يعلمه خلقه غير مقترن بالامتنان بالمركوبات، وذلك في قوله ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
اعلم أولاً أن قصد السبيل : هو الطريق المستقيم القاصد، الذي لا اعوجاج فيه، وهذا المعنى معروف في كلام العرب. ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني :
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله | وعرى أفراس الصبا ورواحله |
وأقصرت عما تعلمين وسددت | علي سوى قصد السبيل معادله |
ومن الطريقة جائر وهدى | قصد السبيل ومنه ذو دخل |
الأول منهما أن معنى ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ : أن طريق الحق التي هي قصد السبيل على الله، أي موصلة إليه، ليست حائدة، ولا جائرة عن الوصول إليه وإلى مرضاته. ﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ : أي من الطريق جائر لا يصل إلى الله، بل هو زائغ وحائد عن الوصول إليه. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ]، وقوله :﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ [ يس : ٦١ ].
ويؤيد هذا التفسير قوله بعده :﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ وهذا الوجه أظهر عندي. واستظهره ابن كثير وغيره، وهو قول مجاهد.
الوجه الثاني أن معنى الآية الكريمة :﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ أي عليه جل وعلا أن يبين لكم طريق الحق على ألسنة رسله.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [ النساء : ١٦٥ ]، وقوله :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وقوله :﴿ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [ التغابن : ١٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فمعنى قوله :﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ غير واضح، لأن المعنى : ومن الطريق جائر عن الحق، وهو الذي نهاكم الله عن سلوكه. والجائر : المائل عن طريق الحق. والوجهان المذكوران في هذه الآية جاريان في قوله :﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾ [ الليل : ١٢ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ٩ ].
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء هداية جميع خلقه لهداهم أجمعين. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ [ السجدة : ١٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ﴾ [ يونس : ٩٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً... ﴾ [ هود : ١١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا في سورة يونس.
تقدم الكلام على ما يوضح معنى هذه الآية الكريمة في سورة الحجر.
وقوله جل وعلا :﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ ١٠-١١ ].
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إنباته بالماء ما يأكله الناس من الحبوب والثمار، وما تأكله المواشي من المرعى من أعظم نعمه على بني آدم، ومن أوضح آياته الدالة على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾[ السجدة : ٢٧ ] وقوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ في ذالِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى ﴾ [ طه : ٤٥ ]، وقوله :﴿ وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ﴾ [ النازعات : ٣٠-٣٣ ]، وقوله :﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ ﴾[ ق : ٩-١١ ] الآية، وقوله :﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [ النمل : ٦٠ ] وقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ﴾ [ النبأ : ١٤-١٦ ] والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
تنبيهان
الأول اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب، لما تقرر في الأصول «أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب ». والله جل وعلا أمر الإنسان أن ينظر إلى طعامه الذي به حياته، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه من أنزله ؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها ! ؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات ! ؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحاً للأكل ! ؟ ﴿ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ [ الأنعام : ٩٩ ]. الآية. وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الماء صبا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّا ًفَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّا ًوَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ﴾ [ عبس : ٢٤-٣٢ ].
وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه، لقوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [ الطارق : ٥ ] وظاهر القرآن : أن النظر في ذلك واجب، ولا دليل يصرف عن ذلك.
التنبيه الثاني : اعلم أنه جل وعلا أشار في هذه الآيات من أول سورة «النحل » إلى براهين البعث الثلاثة، التي قدمنا أن القرآن العظيم يكثر فيه الاستدلال بها على البعث.
الأول خلق السموات والأرض المذكور في قوله :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ [ النحل : ٣ ] الآية. والاستدلال بذلك على البعث كثير في القرآن، كقوله :﴿ أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧-٢٨ ] إلى قوله :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ﴾ [ النازعات : ٣٣ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْييَ الْمَوْتَى ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، وقوله :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [ غافر : ٥٧ ] الآية، وقوله :﴿ أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [ يس : ٨١ ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثاني خلق الإنسان أولاً المذكور في قوله :﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ [ النحل : ٤ ] لأن من اخترع قادر على الإعادة ثانياً. وهذا يكثر الاستدلال به أيضاً على البعث، كقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] الآية، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]، وقوله :﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾[ ق : ١٥ ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثالث إحياء الأرض بعد موتها المذكور هنا في قوله :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ ﴾ [ النحل : ١١ ] الآية، فإنه يكثر في القرآن الاستدلال به على البعث أيضاً، كقوله :﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [ فصلت : ٣٩ ]، وقوله :﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ ق : ١١ ] أي كذلك الإحياء خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله :﴿ وَيُحْي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [ الروم : ١٩ ] أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله :﴿ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] وقوله :﴿ وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الحج : ٥-٦ ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
فهذه البراهين الثلاثة يكثر جداً الاستدلال بها على البعث في كتاب الله كما رأيت وكما تقدم.
وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضاً ولا ذكر له في هذه الآيات، وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا، كما تقدمت الإشارة إليه في «سورة البقرة »، لأن من أحيا نفساً واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ].
وقد ذكر جل وعلا هذا البرهان في «سورة البقرة » في خمسة مواضع.
الأول قوله :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٥٦ ].
الثاني قوله :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذالِكَ يُحْيي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
الثالث قوله جل وعلا :﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٤٣ ].
الرابع قوله :﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ].
الخامس قوله تعالى :﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ ] أي ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى. والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى ؛ ومنه قول النمر بن تولب العكلي :
إنا أتيناك وقد طال السفر | نقود خيلا ضمرا فيها صعر |
والعرب تقول : سامت المواشي إذا رعت في المرعى الذي ينبته الله بالمطر. وأسامها صاحبها : أي رعاها فيه، ومنه قول الشاعر :
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله | أولى لك ابن مسيمة الأجمال |
وقوله :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ ﴾ [ النحل : ١١ ] قرأه شعبة عن عاصم «ننبت » بالنون والباقون بالياء التحتية.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول على أنه الواحد المستحق لأن يعبد وحده.
والخمسة المذكورة هي : الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم.
وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء، وأنها من أعظم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وإغشاؤه الليل النهار : هو تسخيرهما، وقوله :﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ ﴾[ يس : ٣٧-٣٩ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : ٥ ] الآية، وقوله :﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ النحل : ١٦ ] إلى غير ذلك من الآيات. وفي هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات في الأسماء الأربعة الأخيرة، التي هي الشمس، والقمر، والنجوم، ومسخرات ؛ فقرأ بنصبها كلها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية شعبة. وقرأ برفع الأسماء الأربعة ابن عامر، على أن ﴿ وَالشَّمْسَ ﴾ مبتدأ وما بعده معطوف عليه و﴿ مُسَخَّرَاتٌ ﴾ خبر المبتدأ. وقرأ حفص عن عاصم بنصب ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ عطفاً على ﴿ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ ﴾ ورفع ﴿ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ ﴾ على أنه مبتدأ وخبر. وأظهر أوجه الإعراب في قوله ﴿ مُسَخَّرَاتٌ ﴾ على قراءة النصب أنها حال مؤكدة لعاملها. والتسخير في اللغة : التذليل.
قوله :﴿ وَمَا ﴾ في محل نصب عطفاً على قوله ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ ﴾ أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض، أي ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفاً ألوانه.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض منبهاً على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده. وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرْضِ جَمِيعاً ﴾ [ البقرة : ٢٩ ]، وقوله :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [ الجاثية : ١٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَام ِفِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٠-١٣ ]، وقوله :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ في مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [ الملك : ١٥ ].
وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق أن يعبد وحده.
وأوضح هذا في آيات أخر. كقوله في «سورة فاطر » :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ﴾ [ فاطر : ٢٧-٢٨ ]، وقوله :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾ [ الروم : ٢٢ ] ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك، وأنه المعبود وحده.
وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا.
كما أوضح ذلك في قوله :﴿ وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأُكُلِ إِنَّ في ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الرعد : ٤ ] فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة ؛ لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخريج متفاضلة، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم، والمقادير والمنافع.
فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد.
ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقى فيها الحطب وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه ؛ فأحرقت الحطب بحرها، وكانت على إبراهيم برداً وسلاماً لما قال لها خالقها :﴿ قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الأنبياء : ٦٩ ] فسبحان من لا يقع شيء كائناً ما كان إلا بمشيئته جل وعلا، فعال لما يريد.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أصله يتذكرون، فأدغمت التاء في الذال. والاذكار : الاعتبار والاتعاظ.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سخر البحر ؛ أي ذلله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك.
فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله ؛ كما بينه في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ [ يس : ٤١-٤٢ ]، وقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ الجاثية : ١٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وذكر في هذه الآية أربع نعم من نعمه على خلقه بتسخير البحر لهم :
الأولى قوله :﴿ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن ؛ كقوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ [ المائدة : ٩٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ [ فاطر : ١٢ ] الآية.
الثانية قوله :﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ وكرر الامتنان بهذه النعمة أيضاً في القرآن ؛ كقوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ٢٢-٢٣ ] واللؤلؤ والمرجان : هما الحلية التي يستخرجونها من البحر للبسها، وقوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [ فاطر : ١٢ ].
الثالثة قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾ وكرر في القرآن الامتنان بشق أمواج البحر على السفن، كقوله :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ ﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ﴾ [ يس : ٤٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ].
الرابعة الابتغاء من فضله بأرباح التجارات بواسطة الحمل على السفن المذكور في قوله هنا :﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي كأرباح التجارات. وكرر في القرآن الامتنان بهذه النعمة أيضاً ؛ كقوله في «سورة البقرة » :﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ]، وقوله في «فاطر » :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ فاطر : ١٢ ]، وقوله في «الجاثية » :﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ الجاثية : ١٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى لا مفهوم مخالفة لقوله ﴿ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ فلا يقال : يفهم من التقييد بكونه طرياً أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز أكله ؛ بل يجوز أكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء.
وقد تقرر في الأصول : أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقاً للامتنان ؛ فإنه إنما قيد بالطري لأنه أحسن من غيره، فالامتنان به أتم.
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود بقوله عاطفاً على موانع اعتبار مفهوم المخالفة :
أو امتنان أو وفاق الواقع | والجهل والتأكيد عند السامع |
المسألة الثانية اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة : أن لحوم ما في البحر كلها جنس واحد ؛ فلا يجوز التفاضل بينها في البيع، ولا بيع طريها بيابسها لأنها جنس واحد.
قالوا : لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد، وهو قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ وهو شامل لما في البحر كله.
ومن هنا جعل علماء المالكية، للحوم أربعة أجناس لا خامس لها :
الأول لحم ما في البحر كله جنس واحد، لما ذكرنا.
الثاني لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد. قالوا : لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها فقال :﴿ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٣ ]، ثم قال :﴿ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٤ ] أو بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد فقال :﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ ﴾ [ المائدة : ١ ] فجمعها بلحم واحد. وقال كثير من العلماء : يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء.
الثالث لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد ؛ لقوله تعالى :﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ الواقعة : ٢١ ] فجمع لحومها باسم واحد.
الرابع الجراد هو جنس واحد عندهم. وقد قدمنا في «سورة البقرة » الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم. ومشهور مذهب مالك عدم ربويته، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا ؛ لأن علة الربا في الربويات عند مالك : هي الاقتيات والادخار. قيل : وغلبة العيش. وقد قدمنا : أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء : وهي الجراد، والبيض، والتين، والزيت. وقد قدمنا تفصيل ذلك في «سورة البقرة ».
فإذا علمت ذلك فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلاً يداً بيد. ويجوز بيع طريه بيابسه يداً بيد أيضاً في مذهب مالك رحمه الله تعالى.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله : أن اللحوم تابعة لأصولها، فكل لحم جنس مستقل كأصله فلحم الإبل عنده جنس مستقل، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر، وهكذا. لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان.
أما مذهب الشافعي وأحمد في هذه المسألة فكلاهما عنه فيها روايتان. أما الروايتان عن الشافعي فإحداهما أن اللحوم كلها جنس واحد، لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم. الثانية أنها أجناس كأصولها : كقول أبي حنيفة.
وقال صاحب المهذب : إن هذا قول المزني وهو الصحيح.
وأما الروايتان في مذهب الإمام أحمد فإحداهما أن اللحوم كلها جنس واحد. وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال : وسائر اللحمان جنس واحد. قال صاحب المغني : وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد. ثم قال : وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد، وقال : الأنعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة، وإنما في اللحم روايتان.
إحداهما أنه أربعة أجناس كما ذكرنا. الثانية أنه أجناس باختلاف أصوله. انتهى من المغني بتصرف يسير، بحذف ما لا حاجة له فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : اختلاف العلماء في هذه المسألة من الاختلاف. في تحقيق مناط من نصوص الشرع، وذلك أنه ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » فعلم أن الاختلاف الصنفين مناط جواز التفاضل.
واتحادهما مناط منع التفاضل، واختلاف العلماء في تحقيق هذا المناط. فبعضهم يقول : اللحم جنس واحد يعبر عنه باسم واحد، فمناط تحريم التفاضل موجود فيه. وبعضهم يقول : هي لحوم مختلفة الجنس، لأنها من حيوانات مختلفة الجنس ؛ فمناط منع التفاضل غير موجود. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة لا يجوز بيع اللحم بالحيوان الذي يجوز أكله من جنسه.
وهذا مذهب أكثر العلماء : منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله : يجوز بيع اللحم بالحيوان ؛ لأن الحيوان غير ربويّ، فأشبه بيعه باللحم بيع اللحم بالإثمان.
واحتج الجمهور بما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وفي «الموطأ » أيضاً عن مالك عن داود بن الحصين : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين. وفي «الموطأ » أيضاً عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد : فقلت لسعيد بن المسيب : أرأيت رجلاً اشترى شارفاً بعشر شياه ؟ فقال سعيد : إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك. قال أبو الزناد : وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد : وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل ينهون عن ذلك اه من الموطأ.
وقال ابن قدامة في المغني : لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي، وقول فقهاء المدينة السبعة. وحكي عن مالك : أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره. وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقاً لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه ؛ فأشبه بيع اللحم بالدراهم، أو بلحم من غير جنسه ولنا ما روي : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع اللحم بالحيوان » رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر : هذا أحسن أسانيده. وروي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يباع حي بميت » ذكره الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس :«أن جزوراً نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزءاً بهذه العناق فقال أبو بكر : لا يصلح هذا قال الشافعي : لا أعلم مخالفاً لأبي بكر في ذلك. وقال أبو الزناد : كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان، ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز. كبيع السمسم بالشيرج اه.
وقال صاحب المهذب : ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه، لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يباع حي بميت » وروى ابن عباس رضي الله عنهما :«أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه ؛ فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بها لحماً فقال أبو بكر : لا يصلح هذا » ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم اه.
وقال ابن السبكي في تكملته لشرح المهذب : حديث سعيد بن المسيب رواه أبو داود من طريق الزهري عن سعيد كما ذكره المصنف، ورواه مالك في الموطإ، والشافعي في المختصر والأم، وأبو داود من طريق زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان » هذا لفظ الشافعي عن مالك، وأبي داود عن القعنبي عن مالك، وكذلك هو في موطإ ابن وهب. ورأيت في موطإ القعنبي عن بيع الحيوان باللحم، والمعنى واحد، وكلا الحديثين أعني رواية الزهري وزيد بن أسلم مرسل، ولم يسنده واحد عن سعيد. وقد روي من طرق أخر، منها عن الح
ذكر جل وعلا في هاتين الآيتين أربع نعم من نعمه على خلقه، مبيناً لهم عظيم منته عليهم بها :
الأولى إلقاؤه الجبال في الأرض لتثبت ولا تتحرك، وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن كقوله :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ﴾ [ النبأ : ٦-٧ ]، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَا في الأرْضِ رَوَاسِي ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ] الآية، وقوله :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِي شَامِخَاتٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٧ ]، وقوله جل وعلا :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى في الأرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [ لقمان : ١٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
ومعنى تميد : تميل وتضطرب.
وفي معنى قوله ﴿ أنٍ ﴾ وجهان معروفان للعلماء : أحدهما كراهة أن تميد بكم. والثاني أن المعنى : لئلا تميد بكم. وهما متقاربان.
الثانية إجراؤه الأنهار في الأرض المذكور هنا في قوله :﴿ وَأَنْهَاراً ﴾ وكرر تعالى في القرآن الامتنان بتفجيره الماء في الأرض لخلقه : كقوله :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ... ﴾ [ إبراهيم : ٣٢-٣٣ ]، وقوله :﴿ أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٨-٧٠ ]، وقوله :﴿ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون ِلِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ﴾ [ يس : ٣٤-٣٥ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالثة جعله في الأرض سبلاً يسلكها الناس، ويسيرون فيها من قطر إلى قطر في طلب حاجاتهم المذكور هنا في قوله :﴿ وَسُبُلاً ﴾ وهو جمع سبيل بمعنى الطريق. وكرر الامتنان بذلك في القرآن ؛ كقوله :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ]، وقوله :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطا ًلِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ﴾ [ نوح : ١٩-٢٠ ]، وقوله :﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى في كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ [ طه : ٥٢-٥٣ ]، وقوله :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ في مَنَاكِبِهَا ﴾ [ الملك : ١٥ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٩-١٠ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
في موضعين.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعم الله لكثرتها عليهم، وأتبع ذلك بقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم، وأن الله يغفر لمن تاب منهم، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم. وبين هذا الفهوم المشار إليه هنا بقوله :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ].
وبين في موضع آخر : أن كل النعم على بني آدم منه جل وعلا، وذلك في قوله :﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [ النحل : ٥٣ ] الآية.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن المفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة أنه يعم كما تقرر في الأصول ؛ لأن «نعمة الله » مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطفاً على صيغ العموم :
أو بإضافة إلى معرف *** إذا تحقق الخصوص قد نفى
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا سئلوا عما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : لم ينزل عليه شيء. وإنما هذا الذي يتكلم به من أساطير الأولين، نقله من كتبهم. والأساطير : جمع أسطورة أو إسطارة، وهي الشيء المسطور في كتب الأقدمين من الأكاذيب والأباطيل. أصلها من سطر : إذا كتب ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ﴾ [ الطور : ٢ ]. وقال بعض العلماء : الأساطير : الترهات والأباطيل. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ؛ كقوله :﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ [ الأنفال : ٣١ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ مَاذَا ﴾ يحتمل أن تكون «ذا » موصولة و«ما » مبتدأ، وجملة «أنزل » صلة الموصول، والموصول وصلته خبر المبتدأ. ويحتمل أن يكون مجموعهما اسماً واحداً في محل نصب، على أنه مفعول «أنزل » كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومثل ماذا بعد ما استفهام | أو من إذا لم تلغ في الكلام |
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أولئك الكفار الذين يصرفون الناس عن القرآن بدعواهم أنه أساطير الأولين، تحملوا أوزارهم أي ذنوبهم كاملة، وبعض أوزار أتباعهم الذين اتبعوهم في الضلال، كما يدل عليه حرف التبعيض الذي هو «من » في قوله :﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾ الآية.
وقال القرطبي :«من » لبيان الجنس ؛ فهم يحملون مثل أوزار من أضلوهم كاملة.
وأوضح تعالى هذا المعنى في قوله :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] واللام في قوله «ليحملوا » تتعلق بمحذوف دل المقام عليه ؛ أي قدرنا عليهم أن يقولوا في القرآن : أساطير الأولين. ليحملوا أوزارهم.
تنبيه
فإن قيل : ما وجه تحملهم بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله :﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ مع أن الله يقول :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾، ويقول جل وعلا :﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ﴾ بالأنعام : ١٦٤ ]، ويقول ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
فالجواب والله تعالى أعلم أن رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين : أحدهما وزر ضلالهم في أنفسهم.
والثاني وزر إضلالهم غيرهم ؛ لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً. وإنما أخذ بعمل غيره لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه، فعوقب عليه من هذه الجهة لأنه من فعله، فصار غير مناف لقوله ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ ﴾ الآية.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، وأبي الضحى عن عبد الرحمن بن هلال العبسي عن جرير بن عبد الله قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه هم الصوف فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه. قال : ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثمَّ تتابعوا حتَّى عرف السرور في وجهه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء » اه.
أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث عن جرير بن عبد الله من طرق متعددة. وأخرجه نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً » اه.
قال مقيدة عفا الله عنه : هذه النصوص الصحيحة تدل على رفع الإشكال بين الآيات، كما تدل على أن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم، فله مثل أجور جميعهم ؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام، نرجو الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام.
وقوله في هذه الآيات الكريمة :﴿ بغير علم ﴾ يدل على أن الكافر غير معذور بعد إبلاغ الرسل المؤيد بالمعجزات، الذي لا لبس معه في الحق، ولو كان يظن أن كفره هدى، لأنه ما منعه من معرفة الحق مع ظهوره إلا شدة التعصب للكفر، كما قدمنا الآيات الدالة على ذلك في الأعراف ؛ كقوله ﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ]، وقوله :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ﴾ [ الكهف : ١٠٣-١٠٤ ]، وقوله :﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ [ الزمر : ٤٧ ] وحملهم أوزارهم هو اكتسابهم الإثم الذي هو سبب ترديهم في النار-أعادنا الله والمسلمين منها ؟
وقال بعض العلماء : معنى حملهم أوزارهم : أن الواحد منهم عند خروجه من قبره يوم القيامة يستقبله شيء كأقبح صورة، وأنتنها ريحا ؛ فيقول : من أنت ؟ فيقول : أو ما تعرفني ! فيقول : لا والله، إلا أن الله قبح وجهك ! وأنتن ريحك ! فيقول : أنا عملك الخبيث، كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه فطالما ركبتني في الدنيا ! هلم أركبك اليوم ؛ فيركب على ظهره. اه.
وقوله :﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾ " ساء " فعل جامد ؛ لإنشاء الذم بمعنى بئس. و " ما " فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة :
وما مميز وقيل فاعل***في نحو نعم ما يقول الفاضل
وقوله :﴿ يزرون ﴾ أي يحملون. وقال قتادة : يعملون. اه
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة قد مكروا. وبين ذلك في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا ﴾ [ الرعد : ٤٢ ]، وقوله :﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [ إبراهيم : ٤٦ ].
وبين بعض مكر كفار مكة بقوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية.
وذكر بعض مكر اليهود بقوله :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ].
وبين بعض مكر قوم صالح بقوله :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ النمل : ٥٠-٥١ ].
وذكر بعض مكر قوم نوح بقوله :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ ﴾[ نوح : ٢٢-٢٣ ] الآية.
وبين مكر رؤساء الكفار في قوله :﴿ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] الآية. والمكر : إظهار الطيب وإبطان الخبيث، وهو الخديعة. وقد بين جل وعلا أن المكر السيئ لا يرجع ضرره إلا على فاعله ؛ وذلك في قوله :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ ﴾ [ ٢٦ ].
أي اجتثه من أصله واقتلعه من أساسه ؛ فأبطل عملهم وأسقط بنيانهم. وهذا الذي فعل بهؤلاء الكفار الذين هم نمروذ وقومه كما قدمنا في «سورة الحجر » فعل مثله أيضاً بغيرهم من الكفار ؛ فأبطل ما كانوا يفعلون ويدبرون ؛ كقوله :﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] وقوله :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ [ المائدة : ٦٤ ]، وقوله ﴿ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يا ُوْلِي الأبْصَارِ ﴾ [ الحشر : ٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
أي يفضحهم على رؤوس الأشهاد ويهينهم بإظهار فضائحهم، وما كانت تجنه ضمائرهم، فيجعله علانية.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله :﴿ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا في الْقُبُور ِوَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ ﴾ [ العاديات : ٩-١٠ ] أي أظهر علانية ما كانت تكنه الصدور، وقوله :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ ﴾ [ الطارق : ٩ ].
وقد بين جل وعلا في موضع آخر : أن من أدخل النار فقد ناله هذا الخزي المذكور، وذلك في قوله :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ [ آل عمران : ١٩٢ ] وقد قدمنا في سورة «هود » إيضاح معنى الخزي.
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾ [ ٢٧ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه يسأل المشركين يوم القيامة سؤال توبيخ، فيقول لهم : أين المعبودات التي كنتم تخاصمون رسلي وأتباعهم بسببها، قائلين : إنكم لا بد لكم أن تشركوها معي في عبادتي !
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ القصص : ٦٢ ]، وقوله :﴿ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٢-٩٣ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ [ غافر : ٧٣-٧٤ ] الآية، وقوله :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وشَهدوا على أنْفُسِهِمْ أنهم كانوا كافرينَ ﴾ [ الأعراف : ٣٧ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ عامة القراء ﴿ شُرَكَائِيَ ﴾ بالهمزة وياء المتكلم، ويروى عن ابن كثير من رواية البزي أنه قرأ «شركاي » بياء المتكلم دون همز، ولم تثبت هذه القراءة.
وقرأ الجمهور ﴿ تُشَاقُّونَ ﴾ بنون الرفع مفتوحة مع حذف المفعول.
وقرأ نافع «تشاقون » بكسر النون الخفيفة التي هي نون الوقاية، والمفعول به ياء المتكلم المدلول عليها بالكسرة مع حذف نون الرفع، لجواز حذفها من غير ناصب ولا جازم إذا اجتمعت مع نون الوقاية، كما تقدم تحريره في «سورة الحجر » في الكلام على قوله ﴿ فَبِمَ تُبَشّرُونَ ﴾.
أي الاستسلام والخضوع. والمعنى : أظهروا كمال الطاعة والانقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق. وذلك عندما يعاينون الموت، أو يوم القيامة. يعني أنهم في الدنيا يشاقون الرسل : أي يخالفونهم ويعادونهم، فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم : أي خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك.
ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم : الخضوع والاستسلام قوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ﴾ [ النساء : ٩٤ ] على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام ؛ بمعنى الانقياد والإذغان. وقوله :﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾ [ النساء : ٩٠ ]، وقوله :﴿ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾ [ النساء : ٩١ ] الآية.
والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين : الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا ؛ لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء. وقوله :﴿ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ النحل : ٨٧ ] فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد. والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع، كما قدمنا، وكما دلت عليه آيات كثيرة. كقوله :﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾ [ النساء : ١٨ ] الآية، وقوله :﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٥ ] الآية، وقوله :﴿ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ يونس : ٩١ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ ٢٨ ].
يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وقالوا : ما كنا نعمل من سوء. فقوله ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ﴾ معمول قول محذوف بلا خلاف.
والمعنى : أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي. وقد بين الله كذبهم بقوله :﴿ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
وبين في مواضع أخر : أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا. وبين كذبهم في ذلك أيضاً ؛ كقوله :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣-٢٤ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ ﴾ [ غافر : ٧٤ ] ؛ وقوله :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [ المجادلة : ١٨ ]، وقوله :﴿ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٢ ] أي حراماً محرماً أن تمسونا بسوء ؛ لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا «بلى » تكذيب لهم في قولهم ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾.
تنبيه
لفظة «بلى » لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما :
الأول أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام، فهي نقيضة «لا » ؛ لأن «لا » لنفي الإثبات، و«بلى » لنفي النفي ؛ كقوله هنا :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾ فهذا النفي نفته لفظة «بلى » أي كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي ؛ وكقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [ التغابن : ٧ ]، وكقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [ سبأ : ٣ ] وقوله :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [ البقرة : ١١١ ] فإنه نفى هذا النفي بقوله جل وعلا ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ﴾ [ البقرة : ١١٢ ] الآية، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
الثاني أن تكون جواباً لاستفهام مقترن بنفي خاصة ؛ كقوله :﴿ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ]، وقوله :﴿ أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى ﴾ [ يس : ٨١ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى ﴾[ غافر : ٥٠ ]، وهذا أيضاً كثير في القرآن وفي كلام العرب. أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب «نعم » لا ب «بلى » وجواب الاستفهام المقترن بنفي و«نعم » مسموع غير قياسي. كقوله :
أليس الليل يجمع أم عمرو | وإيانا فذاك لنا تداني |
نعم، وترى الهلال كما أراه | وبعلوها النهار كما علاني |
فإن قيل : هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي، كقوله عنهم :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، وقوله :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾، ونحو ذلك. مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثاً في قوله :
﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾ [ النساء : ٤٢ ].
فالجواب هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم : والله ربنا ما كنا مشركين ؛ فيختم الله على أفواههم ؛ وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة. وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم. والعلم عند الله تعالى.
لم يبين هنا عدد أبوابها، ولكنه بين ذلك في «سورة الحجر » في قوله جل وعلا :﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ﴾ [ الحجر : ٤٤ ]، أرجو الله أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ومن جميع أبوابها ! إنه رحيم كريم.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين إذا سئلوا عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا : أنزل عليه خيراً ؛ أي رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به. ويفهم من صفة أهل هذا الجواب بكونهم متقين أن غير المتقين يجيبون جواباً غير هذا. وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله عن غير المتقين وهم الكفار :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ النحل : ٢٤ ] كما تقدم.
قوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾ [ ٣٠ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] الآية. والحسنى : الجنة. والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله :﴿ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ﴾ [ النجم : ٣١ ]، وقوله :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ﴾ [ الرحمن : ٥٥ ]. وقوله :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ [ النمل : ٨٩ ]، وقوله في هذه الآية ﴿ حَسَنَةٌ ﴾ أي مجازاة حسنة بالجنة ونعيمها. والآيات في مثل ذلك كثيرة.
قوله تعالى :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ [ ٣٠ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن دار الآخرة خير من دار الدنيا. وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ [ القصص : ٨٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٨ ]، وقوله :﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [ آل عمران : ١٦-١٧ ]، وقوله :﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولَى ﴾ [ الضحى : ٤ ]، وقوله :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب ِقُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٤-١٥ ] الآية. وقوله ﴿ خَيْرٌ ﴾ صيغة تفضيل، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال تخفيفاً ؛ وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله :
وغالباً أغناهم خير وشر | عن قولهم أخير منه وأشر |
والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محل إلى محل. فأول ابتدائه من التراب، ثم انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة، ثم إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم إلى العظام، ثم كسا الله العظام لحماً، وأنشأها خلقاً آخر، وأخرجه للعالم في هذه الدار، ثم ينتقل إلى القبر، ثم إلى المحشر، ثم يتفرقون ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً ﴾ [ الزلزلة : ٦ ] فسالك ذات اليمين إلى الجنة، وسالك ذات الشمال إلى النار ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ في الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [ الروم : ١٤-١٦ ].
فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار فعند ذلك تلقى عصا التسيار، ويذبح الموت، ويقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ! ويا أهل الجنة خلود فلا موت ! ويبقى ذلك دائماً لا انقطاع له ولا تحول عنه إلى محل آخر.
فهذا معنى وصفها بالآخرة ؛ كما أوضحه جل وعلا بقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِين ٍثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾[ المؤمنون : ١٢-١٦ ].
تنبيه
أضاف جل وعلا في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة، مع أن الدار هي الآخرة بدليل قوله :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةِ ﴾ الآية، بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع. وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة :
ولا يضاف اسم لما به اتحد | معنى وأول موهما إذا ورد |
قوله تعالى :﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ ٣٠ ].
مدح الله جل وعلا دار المتقين التي هي الجنة في هذه الآية الكريمة ؛ لأن «نعم » فعل جامد لإنشاء المدح. وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة. لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [ السجدة : ١٧ ] الآية، وقال :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين يدخلون يوم القيامة جنات عدن. والعدن في لغة العرب : الإقامة. فمعنى جنات عدن : جنات إقامة في النعيم، لا يرحلون عنها، ولا يتحولون.
وبين في آيات كثيرة : أنهم مقيمون في الجنة على الدوام، كما أشار له هنا بلفظة «عدن »، كقوله :﴿ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٨ ]، وقوله :﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٣٥ ] الآية. والمقامة : الإقامة. وقد تقرر في التصريف : أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف فالمصدر الميمي منه، واسم الزمان، واسم المكان كلها بصيغة اسم المفعول. وقوله :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾ [ الدخان : ٥١ ] على قراءة نافع وابن عامر بضم الميم من الإقامة. وقوله :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [ الكهف : ٢-٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ [ ٣١ ].
بين أنواع تلك الأنهار في قوله :﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ ﴾ إلى قوله ﴿ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٥ ]، وقوله هنا :﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ ﴾ أوضحه في مواضع أخر. كقوله :﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ ق : ٣٥ ]، وقوله :﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧١ ]، وقوله :﴿ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾ [ الفرقان : ١٦ ]، وقوله :﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ الزمر : ٣٤ ]، وقوله :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [ فصلت : ٣١ ] ﴿ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية :﴿ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾.
يدل على أن تقوى الله هو السبب الذي به تنال الجنة.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٣ ]، وقوله :﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [ الذاريات : ١٥ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴾ [ الطور : ١٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة : أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين : أي طاهرين من الشرك والمعاصي على أصح التفسيرات ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعنى أيضاً في غير هذا الموضع ؛ كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]، وقوله :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٣ ]، وقوله :﴿ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَاب ٍسَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [ الرعد : ٢٣-٢٤ ]. والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد ؛ لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة. ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم سلام عليكم أدخلوا الجنة أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله :﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ ﴾ [ النحل : ٢٨ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ [ النساء : ٩٧ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾، [ الأنفال : ٥٠ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ النحل : ٢٨ ]، وقوله :﴿ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيّبِينَ ﴾ قرأهما عامة القراء غير حمزة «تتوفاهم » بتاءين فوقيتين. وقرأ حمزة «يتوفاهم » بالياء في الموضعين.
تنبيه
أسند هنا جل وعلا التوفي للملائكة في قوله :﴿ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ وأسنده في «السجدة » لملك الموت في قوله :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ﴾ [ السجدة : ١١ ]، وأسنده في «الزمر » إلى نفسه جل وعلا في قوله :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٣ ] الآية. وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة «السجدة » : أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة. فإسناده التوفي لنفسه، لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى، كما قال :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ]، وأسنده لملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعواناً من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت، كما قاله بعض العلماء. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه بعث في كل أمة رسولاً بعبادة الله وحده، واجتناب عبادة ما سواه.
وهذا هو معنى «لا إله إلا الله »، لأنها مركبة من نفي وإثبات، فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، وإثباتها هو إفراده جل وعلا بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم صلوات الله وسلامه.
وأوضح هذا المعنى كثيراً في القرآن عن طريق العموم والخصوص. فمن النصوص الدالة عليه مع عمومها قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقوله :﴿ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ]، ونحو ذلك من الآيات.
ومن النصوص الدالة عليه مع الخصوص في أفراد الأنبياء وأممهم قوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٦٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ]، وقوله :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت. ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه. كما بينه تعالى بقوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ]، وقوله :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد، ومنهم شقي ؛ فالسعيد منهم يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل، والشقي منهم يسبق عليه الكتاب فيكذب الرسل، ويكفر بما جاؤوا به. فالدعوة إلى دين الحق عامة، والتوفيق للهدى خاص ؛ كما قال تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ يونس : ٢٥ ] ؛ فقوله :﴿ فَمِنْهُمْ ﴾ أي من الأمم المذكورة في قوله :﴿ في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾، وقوله :﴿ مَّنْ هَدَى اللَّهُ ﴾ أي وفقه لاتباع ما جاءت به الرسل. والضمير المنصوب الذي هو رابط الصلة بالموصول محذوف ؛ أي فمنهم من هداه الله. على حد قوله في الخلاصة :
والحذف عندهم كثير منجلي | في عائد متصل إن انتصب |
وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾ أي وجبت عليه ولزمته. لما سبق في علم الله من أنه يصير إلى الشقاوة. والمراد بالضلالة : الذهاب عن طريق الإسلام إلى الكفر.
وقد بين تعالى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ]، وقوله :﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٥ ]، وقوله :﴿ فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ ﴾ [ الشورى : ٧ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر جل وعلا في هذه الآية : أن حرص النَّبي صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقي.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]، وقوله :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٤١ ]، وقوله :﴿ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٦ ]، وقوله :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَآءِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ هذا الحرف نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمر :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ ﴾ بضم الياء وفتح الدال. من «يُهدَى » مبيناً للمفعول. وقوله :﴿ مِنْ ﴾ نائب الفاعل. والمعنى : أن من أضله الله لا يهدى، أي لا هادي له.
وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، من «يَهدِي » مبنياً للفاعل. وقوله :
﴿ مِنْ ﴾ مفعول به ليهدي، والفاعل ضمير عائد إلى الله تعالى. والمعنى : أن من أضله الله لا يهديه الله. وهي على هذه القراءة فيمن سبقت لهم الشقاوة في علم الله. لأن غيرهم قد يكون ضالاً ثم يهديه الله كما هو معروف.
وقال بعض العلماء : لا يهدي من يضل ما دام في إضلاله له ؛ فإن رفع الله عنه الضلالة وهداه فلا مانع من هداه. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار حلفوا جهد أيمانهم أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أن الله لا يبعث من يموت. وكذبهم الله جل وعلا في ذلك بقوله :﴿ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ﴾، وكرر في آيات كثيرة هذا المعنى المذكور هنا من إنكارهم للبعث وتكذيبه لهم في ذلك، كقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ﴾ [ التغابن : ٧ ] الآية، وقوله :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، وقوله :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الإسراء : ٥١ ] والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وقوله :﴿ بَلَى ﴾ نفي لنفيهم البعث كما قدمنا. وقوله :﴿ وَعْداً ﴾ مصدر مؤكد لما دلت عليه «بلى » ؛ لأن «بلى » تدل على نفي قولهم : لا يبعث الله من يموت. ونفي هذا النفي إثبات، معناه : لتبعثن. وهذا البعث المدلول على إثباته بلفظة «بلى » فيه معنى وعد الله بأنه سيكون. فقوله :﴿ وَعْداً ﴾ مؤكد له. وقوله :﴿ حَقّاً ﴾ مصدر أيضاً ؛ أي وعد الله بذلك وعداً، وحقه حقاً، وهو مؤكد أيضاً لما دلت «بلى ».
وفي قوله :﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ النحل : ٣٩ ] الآية، تتعلق بقوله :«بلى » أي يبعثهم ليبين لهم.. إلخ. والضمير في قوله :﴿ لَهُمْ ﴾ عائد إلى من يموت ؛ لأنه شامل للمؤمنين والكافرين.
وقال بعض العلماء : اللام في الموضعين تتعلق بقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ [ النحل : ٣٦ ] الآية. أي بعثناه ليبين لهم.. إلخ والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، وإذ يقول للشيء «كن » فيكون بلا تأخير. وذلك أن الكفار لما ﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾، ورد الله عليهم كذبهم بقوله :﴿ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ﴾ بين أنه قادر على كل شيء، وأنه كلما قال لشيء «كن » كان.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الرد على من قال ﴿ مَن يُحي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] :﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ].
وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله :«كن » بل إذا قال للشيء «كن » مرة واحدة، كان في أسرع من لمح البصر في قوله :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [ القمر : ٥٠ ]، ونظيره قوله :﴿ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ النحل : ٧٧ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] الآية، وقال :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ ولاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وعبر تعالى عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء ؛ لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل ؛ فلا تنافي الآية إطلاق الشيء على خصوص الموجود دون المعدوم ؛ لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء، وأنه يقول له كن فيكون كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه. أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع، كتسمية العصير خمراً في قوله :﴿ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ [ يوسف : ٣٦ ] نظراً إلى ما يؤول إليه في ثاني حال. وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي «فيكون » بفتح النون منصوباً بالعطف على قوله : أن نقول. وقيل : منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر. وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون. ولقد أجاد من قال :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما | يقول له كن قولة فيكون |
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لم يرسل قبله صلى الله عليه وسلم من الرسل إلا رجالاً، أي لا ملائكة. وذلك أن الكفار استغربوا جداً بعث الله رسلاً من البشر، وقالوا : الله أعظم من أن يرسل بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؛ فلو كان مرسلاً أحداً حقاً لأرسل ملائكة كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ﴾ [ يونس : ٢ ]، وقوله :﴿ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ق : ٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى في الأسْوَاقِ ﴾ [ الفرقان : ٧ ]، وقوله :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ]، وقوله :﴿ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ﴾ [ التغابن : ٦ ] الآية، وقوله ﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ ﴾[ القمر : ٢٤ ] الآية، وقوله :﴿ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا في ءَابَآئِنَا الأوَّلِينَ ﴾[ المؤمنون : ٢٤ ]، وقوله :﴿ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ في الْحَيواةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٣-٣٤ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين الله جل وعلا في آيات كثيرة : أن الله ما أرسل لبني آدم إلا رسلاً من البشر، وهم رجال يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون، ونحو ذلك من صفات البشر. كقوله هنا :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾[ النحل : ٤٣ ] وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسْوَاقِ ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [ الرعد : ٣٨ ]، وقوله :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ ﴾ [ الأحقاف : ٩ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ جمهور القراء هذا الحرف «يوحى إليهم » بالياء المثناة التحتية، وفتح الحاء مبنياً للمفعول. وقرأه حفص عن عاصم «نوحي إليهم » بالنون وكسر الحاء مبيناً للفاعل. وكذلك قوله في آخر سورة يوسف «إلا رجالاً يوحى إليهم من أهل القرى ». وأول الأنبياء «إلا رجالاً يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر.. » الآية. كل هذه المواضع قرأ فيها حفص وحده بالنون وكسر الحاء. والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضاً وأما الثانية في سورة الأنبياء وهي قوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ] الآية ؛ فقد قرأه بالنون وكسر الحاء حمزة والكسائي وحفص. والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضاً. وحصر الرسل في الرجال في الآيات المذكورة لا ينافي أن من الملائكة رسلاً ؛ كما قال تعالى :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [ الحج : ٧٥ ]، وقال :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً ﴾ [ فاطر : ١ ] الآية ؛ لأن الملائكة يرسلون إلى الرسل، والرسل ترسل إلى الناس. والذي أنكره الكفار هو إرسال الرسل إلى الناس، وهو الذي حصر الله فيه الرسل في الرجال من الناس ؛ فلا ينافي إرسال الملائكة للرُّسل بالوحي، ولقبض الأرواح، وتستخير الرِّياح والسَّحاب، وكتب أعمال بني آدم، وغير ذلك. كما قال تعالى :﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾ [ النازعات : ٥ ].
تنبيه
يفهم من هذه الآيات أن الله لم يرسل امرأة قط ؛ لقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾. ويفهم من قوله :﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ ﴾ الآية أن من جهل الحكم : يجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به. والمراد بأهل الذكر في الآية : أهل الكتاب، وهذه الأمة أيضاً يصدق عليها أنها أهل الذكر ؛ لقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ﴾ [ الحجر : ٩ ] الآية. إلا أن المراد في الآية أهل الكتاب.
قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ ٤٤ ]. المراد بالذكر في هذه الآية : القرآن ؛ كقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ].
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية حكمتين من حكم إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم :
إحداهما أن يبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، ونحو ذلك. وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضاً ؛ كقوله :﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ [ النحل : ٦٤ ]، وقوله ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [ النساء : ١٠٥ ] الآية.
الحكمة الثانية هي التفكر في آياته والاتعاظ بها. كما قال هنا :﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضاً. كقوله :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ ﴾ [ ص : ٢٩ ]، وقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، وقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَان أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴾[ محمد صلى الله عليه وسلم : ٢٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
أنكر الله جل وعلا على الذين يعملون السيئات من الكفر والمعاصي، ومع ذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم، وبطشه الشديد، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض، ويهلكهم بأنواع العذاب. والخسف : بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل ؛ كما فعل الله بقارون، قال الله تعالى فيه :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ﴾ [ القصص : ٨١ ] الآية. وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله :﴿ أَءَمِنتُمْ مَّن في السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هي تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن في السَّمَآءِ ﴾ [ الملك : ١٦-١٧ ] الآية، وقوله :﴿ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٨ ] وقوله :﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٩ ] وقد قدمنا طرفاً من هذه في أول «سورة الأعراف ».
واختلف العلماء في إعراب «السيئات » في هذه الآية الكريمة ؛ فقال بعض العلماء : نعت لمصدر محذوف ؛ أي مكروا المكرات السيئات، أي القبيحات قبحاً شديداً ؛ كما ذكر الله عنهم في قوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية. وقال بعض العلماء : مفعول به ل «مكرواً » على تضمين «مكروا » معنى فعلوا. وهذا أقرب أوجه الإعراب عندي. وقيل : مفعول به ل«أمن » أي أكمن الماكرون السيئات : أي العقوبات الشديدة التي تسوءهم عند نزولها بهم. ذكر الوجه الأول الزمخشري، والأخيرين ابن عطية. وذكر الجميع أبو حيان في «البحر المحيط ».
تنبيه
كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أوفاؤه ؛ كقوله :﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ﴾ [ الزخرف : ٥ ]، ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ سبأ : ٣٤ ]، ﴿ أَفَلَمْ تَكُنْ آياتي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [ الجاثية : ٣١ ] الخ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية : أحدهما أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه ؛ كقولك مثلاً : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحاً ؟ ! أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم ؟ ! ألم تأتكم آياتي فلم تكن تتلى عليكم ؟ ! وهكذا وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح | وعَطفك الفعل عَلى الفعل يصح |
الوجه الثاني أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها. إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو، وهي متأخرة عنهما في المعنى، وإنما تقدمت لفظاً عن محلها معنى لأن الاستفهام له صدر الكلام.
فبهذا تعلم : أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله :﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ ﴾ الآية الوجهين المذكورين ؛ فعلى الأول فالمعنى أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب ؟ أفأمن الذين مكروا السيئات الخ. وعلى الثاني فالمعنى فأأمن الذين مكروا السيئات ؛ فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام. والأول هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى.
تقدم بيان هذه الآية وأمثالها من الآيات في «سورة الرعد ».
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلهاً آخر معه، وأخبرهم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد، ثم أمرهم أن يرهبوه أي يخافون وحده. لأنه هو الذي بيده الضر والنفع، لا نافع ولا ضار سواه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ؛ كقوله :﴿ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِين وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الذاريات : ٥٠-٥١ ]، وقوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ في الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾ [ ق : ٢٦ ] وقوله :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ﴾ [ الإسراء : ٣٩ ].
وبين جل وعلا في مواضع أخر : استحالة تعدد الآلهة عقلاً ؛ كقوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]، وقوله :﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩١-٩٢ ] وقوله :﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ]. والآيات بعبادته وحده كثيرة جداً، فلا نطيل بها الكلام. وقدم المفعول في قوله :﴿ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ للدلالة على الحصر. وقد تقرر في الأصول في مبحث «مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر » «أن تقديم المعمول من صيغ الحصر » أي خافون وحدي ولا تخافوا سواي. وهذا الحصر المشار إليه هنا بتقديم المعمول بينه جل وعلا في «مواضع أخر. كقوله :﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ » [ المائدة : ٤٤ ] الآية، وقوله :﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ﴾ [ الأحزاب : ٣٩ ] الآية. وقوله :﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءاتَى الزَّكَواةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ [ التوبة : ١٨ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
الدين هنا : الطاعة ؛ ومنه سميت أوامر الله ونواهيه ديناً ؛ كقوله :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ﴾ [ آل عمران : ١٩ ]، وقوله :﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً ﴾ [ المائدة : ٣ ]، وقوله :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
والمراد بالدين في الآيات : طاعة الله بامتثال جميع الأوامر، واجتناب جميع النواهي. ومن الدين بمعنى الطاعة : قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
وأياماً لنا غراً كراما | عصينا الملك فيها أن ندينا |
وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه جل وعلا في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ]، وقوله تعالى :﴿ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴾ [ الواقعة : ٣ ] ؛ لأنها ترفع أقواماً كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا، وتخفض أقواماً كانوا ملوكاً في الدنيا، لهم المكانة الرفيعة وقوله :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ].
ونظير هذه الآية المذكورة قوله :﴿ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب ٍدُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ [ الصافات : ٨-٩ ] أي دائم. وقيل : عذاب «وجمع مؤلم » والعرب تطلق الوصب على المرض، وتطلق الوصوب على الدوام. وروي عن ابن عباس أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ﴾ قال له : الوصب الدائم، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
وله الدين واصباً وله المل | ك وحمد له على كل حال |
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه | يوماً بذم الدهر أجمع واصباً |
وقوله تعالى :﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾ [ ٥٢ ].
أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره ؛ لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا من بيده النفع كله والضر كله ؛ لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك.
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة | وكان النكير أن تضيف وتجأرا |
يراوح من صلوات المليك | طوراً سجوداً وطوراً جؤارا |
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اللَّهمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ ». وفي حديث ابن عباس المشهور :«واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ».
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن بني آدم إذا مسهم الضر، دعوا الله وحده مخلصين له الدين ؛ فإذا كشف عنهم الضر، وأزال عنهم الشدة : إذا فريق منهم وهم الكفار، يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي. وقد كرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن ؛ كقوله في «يونس » :﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [ يونس : ٢٢ ] إلى قوله ﴿ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ يونس : ٢٣ ]، وقوله «في الإسراء » ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ في الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ]، وقوله في آخر «العنكبوت » :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله في «الأنعام » :﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا هذا في «سورة الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ٤٠ ] الآية.
صيغة الأمر في قوله ﴿ فَتَمَتَّعُواْ ﴾ للتهديد. وقد تقرر في «فن المعاني، في مبحث الإنشاء »، وفي «فن الأصول، في مبحث الأمر » : أن من المعاني التي تأتي لها صيغة افعل التهديد ؛ كقوله هنا :﴿ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾، وتشهد لهذا المعنى آيات أخر، كقوله ؛ ﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ [ الزمر : ٨ ]، وقوله :﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ]، وقوله :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر : ٣ ]، وقوله :﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٣ ]، وقوله :﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٦ ]، وقوله :﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴾ [ الطور : ٤٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
في ضمير الفاعل في قوله ﴿ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ وجهان :
أحدهما أنه عائد إلى الكفار ؛ أي : ويجعل الكفار للأصنام التي لا يعلمون أن الله أمر بعبادتها، ولا يعلمون أنها تنفع عابدها، أو تضر عاصيها نصيباً الخ ؛ كقوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ [ الحج : ٧١ ]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال صاحب الكشاف : ومعنى كونهم لا يعلمونها : أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع، وتشفع عند الله ؛ وليس كذلك ! وحقيقتها أنها جماد، لا يضر ولا ينفع ؛ فهم إذاً جاهلون بها.
الوجه الثاني أن واو «يعلمون » واقعة على الأصنام ؛ فهي جماد لا يعلم شيئاً. أي ويجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئاً لكونهم جماداً نصيباً إلخ. وهذا الوجه كقوله :﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [ النحل : ٢١ ]، وقوله :﴿ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [ يونس : ٢٩ ]، وقوله :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ ﴾، [ الأعراف : ١٩٥ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالواو راجعة إلى «ما » من قوله :«لما لا يعلمون ». وعبر عنهم ب «ما » التي هي لغير العاقل ؛ لأن تلك المعبودات التي جعلوا لها من رزق الله نصيباً، جماد لا تعقل شيئاً. وعبر بالواو في «لا يعلمون » على هذا القول ؛ لتنزيل الكفار لها منزلة العقلاء في زعمهم أنها تشفع، وتضر وتنفع.
وإذا عرفت ذلك، فاعلم أن هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة، بينه تعالى في غير هذا الموضع ؛ كقوله :﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ]، وذلك أن الكفار كانوا إذا حرثوا حرثاً، أو كانت لهم ثمرة جعلوا الله منها جزءاً، وللوثن جزءاً ؛ فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله، ردوه إلى نصيب الأصنام، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام تركوه فيه. وقالوا : الله غني، والصنم فقير. وقد أقسم جل وعلا : على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذب ! وهو زعمهم أن نصيباً مما خلق الله للأوثان التي لا تنفع ولا تضر في قوله :﴿ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾، وهو سؤال توبيخ وتقريع.
قوله :﴿ وَيَجْعَلُونَ ﴾ أي يعتقدون.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعتقدون أن لله بنات إناثاً، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ؛ كما بينه تعالى بقوله :﴿ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] الآية.
أو لئلا يشتموا به ويعيروه. ويحدث نفسه وينظر :﴿ أَيُمْسِكُهُ ﴾، أي : ما بشر به، وهو الأنثى، ﴿ عَلَى هُونٍ ﴾، أي : هوان وذل. ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ ﴾، في التراب، أي : يدفن المذكور، الذي هو الأنثى حياً في التراب، يعني : ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد، وهو دفن البنت حية، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَي ذَنبٍ قُتِلَتْ ﴾ [ التكوير : ٨-٩ ].
وأوضح جل وعلا هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر، فبين أن جعلهم الإناث لله، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة، وأنها من أعظم الباطل.
وبين أنه لو كان متخذا ولدا له سبحانه وتعالى عن ذلك ! لاصطفى أحسن النصيبين. ووبخهم على أن جعلوا له أخس الوالدين، وبين كذبهم في ذلك، وشدة عظم ما نسبوه إليه. كل هذا ذكره في مواضع متعددة ؛ كقوله :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١-٢٢ ]، وقوله :﴿ ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون اصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ﴾ [ الصافات : ١٥١-١٥٤ ]، وقوله :﴿ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ﴾ [ الإسراء : ٤٠ ]، وقوله :﴿ أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ﴾ [ الزخرف : ١٦ ]، وقوله :﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ﴾ [ الزمر : ٤ ]، وقوله :﴿ أم له البنات ولكم البنون ﴾ [ الطور : ٣٩ ]، وقال جل وعلا :﴿ ويجعلون لله ما يكرهون ﴾ [ النحل : ٢٦ ]، وقال :﴿ أوَ من يُنَشّؤوا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ﴾ [ الزخرف : ١٨ ]، وقال :﴿ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ﴾ [ الزخرف : ١٧ ].
وبين شدة عظم هذا الافتراء بقوله :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّا تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٣ ]، وقوله :﴿ إنكم لتقولون قولا عظيما ﴾ [ الإسراء : ٤٠ ]، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله في هذه الآية :﴿ ولهم ما يشتهون ﴾، مبتدأ وخبر، وذكر الزمخشري والفراء وغيرهما : أنه يجوز أن تكون " ما " في محل نصب عطفا على " البنات "، أي : ويجعلون لله البنات، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون. ورد إعرابه بالنصب الزجاج، وقال : العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم ؛ قاله القرطبي. وقال أبو حيان " في البحر المحيط " ؛ قال الزمخشري : ويجوز في " ما " في " ما يشتهون " الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على " البنات "، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب، تبع فيه الفراء والحوفي. وقال أبو البقاء وقد حكاه : وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو : وهي أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل، لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب ؛ فلا يجوز : زيد ضربه، أي زيدا، تريد ضرب نفسه ؛ إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد وعدم ؛ فيجوز : زيد ظنه قائما، وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل ؛ فلا يجوز : زيد غضب عليه، تريد غضب على نفسه. فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب ؛ إذ يكون التقدير : ويجعلون لهم ما يشتهون. فالواو ضمير مرفوع، " ولهم " مجرور باللام. فهو نظير : زيد غضب عليه اه. والبشارة تطلق في العربية على الخبر مما يسر، وبما يسوء. ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء، قوله هنا :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ﴾ الآية، ونظيره قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ]، ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من بغضهم للبنات، مشهور معروف في أشعارهم ؛ ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال :
أني وإن سيق إلي المهر***ألف وعبدان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
ويروى لعبد الله بن طاهر قوله :
لكل أبي بنت يراعي شؤونها***ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها***وقبر يواريها وخيرهم القبر
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن : الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم ؛ كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة :
مودة تهوى عمر شيخ يسره***لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده***ولا ختن يرجى أود من القبر
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ؛ لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السموات والأرض لا يفوته شيء أراده. وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع ؛ كقوله في " آخر سورة فاطر " :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ] الآية، وقوله :﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب ﴾ [ الكهف : ٥٨ ] الآية. وأشار بقوله :﴿ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ﴾، إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل. وبين ذلك في غير هذا الموضع ؛ كقوله :﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾ [ إبراهيم : ٤٢ ]، وقوله :﴿ ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ].
وبين هنا : أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله. وأوضح ذلك في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر ﴾ [ نوح : ٤ ] الآية، وقوله :﴿ ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ﴾ [ المنافقون : ١١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم- أن قوله تعالى :﴿ ما ترك عليها من دابة ﴾ [ النحل : ٦١ ]، فيه وجهان من العلماء :
أحدهما- أنه خاص بالكفار ؛ لأن الذنب ذنبهم، والله يقول :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]. ومن قال هذا القول قال : " من دابة " أي كافرة ؛ ويروى هذا عن ابن عباس. وقيل : المعنى : أنه لو أهلك الآباء بكفرهم، لم تكن الأبناء.
وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة، وقال الآخر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا *** والموت أكرم نزال على الحرم
وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت :
ما لأبي حمزة لا يأتينا *** يظل بالبيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا *** ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
تنبيه
لفظة «جعل »، تأتي في اللغة العربية لأربعة معان :
الأول بمعنى اعتقد ؛ كقوله تعالى هنا :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ﴾ قال في الخلاصة : وجعل اللذ كاعتقد
الثاني بمعنى صير، كما تقدم في الحجر ؛ كقوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ [ نوح : ١٦ ]. قال في الخلاصة :
.. والتي كصيرا *** وأيضاً بها انصب مبتدأ وخبرا
الثالث بمعنى خلق ؛ كقوله :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [ الأنعام : ١ ]، أي : خلق الظلمات والنور.
الرابع بمعنى شرع ؛ كقوله :
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني *** ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
قال في الخلاصة :
كأنشأ السائق يحدو وطفق *** كذا جعلت وأخذت وعلق
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ سُبْحَانَهُ ﴾، أي : تنزيها له جل وعلا عما لا يليق بكماله وجلاله، وهو ما ادعوا له من البنات، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ! وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره على أن الآية عامة ؛ حتّى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في حجره، والحبارى في وكرها، ونحو ذلك ؛ لولا أن الله حليم لا يعجل بالعقوبة، ولا يؤاخذكم بظلمهم.
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول هو الصحيح. لما تقرر في الأصول من : أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة «من » تكون نصاً صريحاً في العموم. وعليه فقوله :«من دابة »، يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصاً.
وقال القرطبي في تفسيره : فإن قيل : فكيف يعم بالهلاك، مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم ؟ يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاء، وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إذا أراد الله بقومٍ عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثمَّ بُعِثُوا على أعمالهم » اه محل الغرض منه بلفظه. والأحاديث بمثله كثيرة معروفة.
وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح، فلا إشكال في شمول الهلاك للحيوانات التي لا تعقل. وإذا أراد الله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم ؛ لأن الهلاك إذا نزل عم.
تنبيه
قوله :﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾، الضمير في «عليها »، راجع إلى غير مذكور، وهو الأرض ؛ لأن قوله :﴿ مِن دَابَّةٍ ﴾، يدل عليه ؛ لأن من المعلوم : أن الدواب إنما تدب على الأرض. ونظيره قوله تعالى :﴿ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ [ فاطر : ٤٥ ]، وقوله :﴿ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ [ ص : ٣٢ ] أي الشمس، ولم يجر لها ذكر، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام، كثير في كلام العرب. ومنه قول حميد بن ثور :
وصهباء منها كالسفينة نضجت *** به الحمل حتى زاد شهراً عديدها
فقوله «صهباء منها » أي من الإبل، وتدل له قرينة «كالسفينة »، مع أن الإبل لم يجر لها ذكر، ومنه أيضاً قول حاتم الطائي :
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقوله «حشرجت، وضاق بها »، يعني : النفس، ولم يجر لها ذكر ؛ كما تدل له قرينة :«وضاق بها الصدر ». ومنه أيضاً لبيد في معلقته :
حتى إذا ألقت يداً في كافر *** وأجن عورات الثغور ظلامها
فقوله :«ألقت »، أي : الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولكن يدل له قوله :
* وأجن عورات الثغور ظلامها *
لأن قوله :«ألقت يداً في كافر »، أي : دخلت في الظلام. ومنه أيضاً قول طرفة في معلقته :
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي *** ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
فقوله :«أفديك منها »، أي : الفلاة، ولم يجر لها ذكر، ولكن قرينة سياق الكلام، تدل عليها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ يُؤَاخِذُ ﴾، الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد ؛ فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم : أخذهم بذنوبهم ؛ لأن المفاعلة تقتضي الطرفين. ومجيئها بمعنى المجرد، مسموع نحو : سافر وعافى. وقوله «يؤاخذ »، إن قلنا : إن المضارع فيه بمعنى الماضي، فلا إشكال. وإن قلنا : إنه بمعنى الاستقبال، فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل. كقوله :﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ النساء : ٩ ]، وقول قيس بن الملوح :
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا *** ومن دون رمسينا من الأرض سيسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة *** لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
والجواب بحمله على المضي في الآية، تكلف ظاهر، ولا يمكن بتاتاً في البيتين، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله :
لو حرف شرط في مضي ويقل *** إيلاؤها مستقبلاً لكن قبل
أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه ؛ لأنه عبر عنه ب«ما » الموصولة، وهي اسم مبهم، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه. ولكنه بين في مواضع أخر : أنه البنات والشركاء، وجعل المال الذي خلق لغيره، قال في البنات :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ﴾ [ النحل : ٥٧ ]، ثم بين كراهيتها لها في آيات كثيرة، كقوله :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ﴾ [ النحل : ٥٨ ]. وقال في الشركاء :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٠ ]، ونحوها من الآيات. وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ في مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الروم : ٢٨ ]، أي : إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكاً له مثل نفسه في جميع ما عنده ؛ فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عباده ! وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله :﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً ﴾ إلى قوله ﴿ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ]، وقوله :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ [ النحل : ٥٦ ]، كما تقدم.
قوله تعالى :﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ﴾ [ ٦٢ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب ؛ فيزعمون أن لهم الحسنى، والحسنى تأنيث الأحسن، قيل : المراد بها الذكور ؛ كما تقدم في قوله :﴿ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ]. والحق الذي لا شك فيه : أن المراد بالحسنى : هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقاً، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب، كما كان لهم في الدنيا. ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان :
أحدهما كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى. كقوله تعالى عن الكافر :﴿ وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ]، وقوله :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ [ الكهف : ٣٦ ]، وقوله :﴿ وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ [ مريم : ٧٧ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٥٣ ]. وقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين َنُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥-٥٦ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والدليل الثاني أن الله أتبع قوله :﴿ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ﴾، بقوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ ﴾ الآية ؛ فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا، والعلم عند الله. والمصدر المنسبك من «أن » وصلتها في قوله :﴿ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ﴾، في محل نصب، بدل من قوله :﴿ الْكَذِبَ ﴾، ومعنى وصف ألسنتهم الكذب : قولها للكذب صريحاً لا خفاء به.
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ﴾ [ النحل : ١١٦ ] الآية، ما نصه : فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ؛ فإذا نطقت به ألسنتهم، فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته ؛ كقولهم : وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر اه.
قوله تعالى :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾ [ ٦٢ ].
في هذا الحرف قراءتان سبعيتان، وقراءة ثالثة غير سبعية. قرأه عامة السبعة ما عدى نافعاً ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾، بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول ؛ من أفرطه. وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل ؛ من أفرط. والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة اسم الفاعل من فرط المضعف، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر. وكل هذه القراءات له مصداق في كتاب الله.
أما على قراءة الجمهور ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾، بصيغة المفعول، فهو اسم مفعول أفرطه : إذا نسيه وتركه، غير ملتفت إليه. فقوله :﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾ أي : متروكون منسيون في النار. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ﴾ [ الأعراف : ٥١ ]، وقوله :﴿ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ ﴾ [ السجدة : ١٤ ] الآية، وقوله :﴿ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ﴾ [ الجاثية : ٣٤ ]، فالنسيان في هذه الآيات معناه : الترك في النار. أما النسيان بمعنى زوال العلم : فهو مستحيل على الله. كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٤ ]، وقال :﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى في كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى ﴾ [ طه : ٥٢ ].
وممن قال بأن معنى ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾ : منسيون متركون في النار : مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن الأعرابي، وأبو عبيدة، والفراء، وغيرهم.
وقال بعض العلماء : معنى قوله ﴿ مُّفْرَطُونَ ﴾، على قراءة الجمهور : أي مقدمون إلى النار معجلون ؛ من أفرطت فلاناً، وفرطته في طلب الماء : إذا قدمته، ومنه حديث :«أنا فرطكم على الحوض » أي متقدمكم. ومنه قول القطامي :
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا | كما تقدم فراط لوراد |
هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت | وشمر مني فارط متمهل |
وقوله :﴿ لاَ جَرَمَ ﴾، أي : حقاً أن لهم النار. وقال القرطبي في تفسيره : لا رد لكلامهم، ( وتم الكلام )، أي : ليس كما تزعمون ! جرم أن لهم النار ! حقاً أن لهم النار ! وقال بعض العلماء :«لا » صلة، و«جرم » بمعنى : كسب. أي : كسب لهم عملهم أن لهم النار.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن في الأنعام عبرة دالة على تفرد من خلقها، وأخلص لبنها من بين فرث ودم بأنه هو وحده المستحق لأن يعبد، ويطاع ولا يعصى. وأوضح هذا المعنى أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ]، وقوله :﴿ وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ النحل : ٥ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُون َوَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفلاَ يَشكرُون ﴾ [ يس : ٧١-٧٣ ]، وقوله :﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [ الغاشية : ١٧ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها ؛ لأنه ذكرها هنا في قوله :﴿ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهِ ﴾، وأنثها «في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ » في قوله :﴿ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ]، ومعلوم في العربية : أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظراً إلى اللفظ، والتأنيث نظراً إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس. وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها، كما ذكرناه آنفاً. وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها. فالتذكير في قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ]. والتأنيث في قوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٧ ]، ونحو ذلك. وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها ؛ فالتذكير في قوله :﴿ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾ [ المزمل : ١٨ ]. والتأنيث في قوله :﴿ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ] الآية، ونحو ذلك من الآيات. وهذا معروف في العربية، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي، وهو صغير في تذكير النعم :
في كل عام نعم تحوونه | يلقحه قوم وتنتجونه |
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى استنبط القاضي إسماعيل من تذكير الضمير في قوله :﴿ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ : أن لبن الفحل يفيد التحريم. وقال : إنما جيء به مذكراً ؛ لأنه راجع إلى ذكر النعم ؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم «أن لبن الفحل يحرم »، حيث أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس، فللمرأة السقي، وللرجل اللقاح ؛ فجرى الإشتراك فيه بينهما اه. بواسطة نقل القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه : أما اعتبار لبن الفحل في التحريم فلا شك فيه، ويدل له الحديث المذكور في قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس. فإنه متفق عليه مشهور. وأما استنباط ذلك من عود الضمير في الآية، فلا يخلو عندي من بعد وتعسف. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية استنبط النقاش وغيره من هذه الآية الكريمة : أن المني ليس بنجس، قالوا : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهراً.
قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم، وأخذ شنيع ! اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة، ليكون عبرة ؛ فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة. وليس المني من هذه الحالة، حتّى يكون ملحقاً به، أو مقيساً عليه.
قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور : قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منه أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم ؟ وقد قال تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ ﴾ [ الطارق : ٧ ]، وقال :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [ النحل : ٧٢ ]، وهذا غاية في الامتنان.
فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول.
قلنا : هو ما أردناه. فالنجاسة عارضة، وأصله طاهر اه محل الغرض من كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه : وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة، لا يخلو عندي من بعد. وسنبين إن شاء الله حكم المني : هل هو نجس أو طاهر، وأقوال العلماء في ذلك، مع مناقشة الأدلة. اعلم أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء : الأول أنه طاهر، وأن حكمه حكم النخامة والمخاط ؛ وهذا هو مذهب الشافعي، وأصح الروايتين عن أحمد، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وحكاه العبدري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم. كما نقله النووي في «شرح المهذب » وغيره.
القول الثاني أنه نجس، ولا بد في طهارته من الماء، سواء كان يابساً أو رطباً ؛ وهذا هو مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي.
القول الثالث أنه نجس، ورطبه لا بد له من الماء، ويابسه لا يحتاج إلى الماء، بل يطهر بفركه من الثوب حتّى يزول منه. وهذا هو مذهب أبي حنيفة. واختار الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : أنه نجس، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقاً.
أما حجة من قال إنه طاهر كالمخلط فهي : بالنص والقياس معاً، ومعلوم في الأصول : أن القياس الموافق للنص لا مانع منه ؛ لأنه دليل آخر عاضد للنص، ولا مانع من تعاضد الأدلة.
أما النص فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت :«كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يذهب فيصلي فيه ». أخرجه مسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، والإمام أحمد. قالوا : فركها له يابساً، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل دليل على الطهارة. وفي رواية عند أحمد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه. وفي رواية عن عائشة عند الدارقطني :«كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطباً » وعن إسحاق بن يوسف قال : حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس قال : سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب، فقال :«إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة ».
قال صاحب ( منتقى الأخبار )، بعد أن ساق هذا الحديث كما ذكرنا : رواه الدارقطني وقال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك. قلت : وهذا لا يضر ؛ لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين، فيقبل رفعه وزيادته.
قال مقيده عفا الله عنه : ما قاله الإمام المجد رحمه الله ( في المنتقى ) من قبول رفع العدل وزيادته، هو الصحيح عند أهل الأصول وأهل الحديث كما بيناه مراراً، إلى غير ذلك من الأحاديث في فرك المني، وعدم الأمر بغسله.
وأما القياس العاضد للنص فهو من وجهين : أحدهما إلحاق المني بالبيض ؛ بجامع أن كلاً منهما مائع يتخلق منه حيوان حي طاهر، والبيض طاهر إجماعاً ؛ فيلزم كون المني طاهراً أيضاً.
قال مقيده عفا الله عنه : هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري، وجمهور العلماء لا يقبلونه، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل ابن علية. كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وابن علية يرى للصوري | كالقيس للخيل على الحمير |
الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور : إلحاق المني بالطين، بجامع أن كلاً منهما مبتدأ خلق بشر ؛ كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴾ [ المؤمنون : ١٢-١٣ ] الآية.
فإن قيل : هذا القياس يلزمه طهارة العلقة، وهي الدم الجامد ؛ لأنها أيضاً مبتدأ خلق بشر، لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ]، والدم نجس بلا خلاف.
فالجواب أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار ؛ لوجود النص بنجاسة الدم. أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار ؛ لعدم ورود النص بنجاسة المني.
وأما حجة من قال بأن المني نجس، فهو : بالنص والقياس أيضاً. أما النص : فهو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت :«كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يخرج إلى الصَّلاة، وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء ». متفق عليه. قالوا : غسلها له دليل على أنه نجس. وفي رواية عند مسلم عن عائشة بلفظ :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصَّلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ».
قال مقيده عفا الله عنه : وهذه الرواية الثابتة في صحيح مسلم، تقوي حجة من يقول بالنجاسة ؛ لأن المقرر في الأصول : أن الفعل المضارع بعد لفظة «كان » يدل على المداومة على ذلك الفعل، فقول عائشة في رواية مسلم هذه :«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل »، تدل على كثرة وقوع ذلك منه، ومداومته عليه، وذلك يشعر بتحتم الغسل. وفي رواية عن عائشة، في صحيح مسلم أيضاً : أن رجلاً نزل بها فأصبح يغسل ثوبه. فقالت عائشة : إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه. فإن لم تر، نضحت حوله. ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيصلِّي فيه. اه.
قالوا : هذه الرواية الثابتة في الصحيح عن عائشة، صرحت فيها : بأنه إنما يجزئه غسل مكانه. وقد تقرر في الأصول ( في مبحث دليل الخطاب )، وفي المعاني ( في مبحث القصر ) : أن «إنما » من أدوات الحصر. فعائشة صرحت بحصر الإجزاء في الغسل ؛ فدل ذلك على أن الفرك لا يجزئ دون الغسل، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على غسله.
وأما القياس فقياسهم المني على البول
وقال الزمخشري في الكشاف : والسكر : الخمر ؛ سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً، نحو رشد رشداً ورشداً. قال :
وجاءونا بهم سكر علينا | فأجلى اليوم والسكران صاحي اه |
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم | إذا جرى فيهم المزاء والسكر |
وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها فاعلم أن هذه الآية مكية، نزلت بعدها آيات مدنية بينت تحريم الخمر، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر.
الأولى آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها، ولم يجزم فيها بالتحريم، وهي قوله تعالى :﴿ يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]. وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها، وشربها آخرون للمنافع التي فيها.
الثانية آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر، وهي قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ﴾[ النساء : ٤٣ ] الآية.
الثالثة آية المائدة الدالة على تحريمها تحريماً باتاً، وهي قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] إلى قوله ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩١ ].
وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها ؛ لأنه تعالى صرح بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها أمراً جازماً في قوله ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾، واجتناب الشيء : هو التباعد عنه، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه. وعلق رجاء الفلاح على اجتنابها في قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ويفهم منه أنه من لم يجتنبها لم يفلح، وهو كذلك.
ثم بين بعض مفاسدها بقوله :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ ﴾ [ المائدة : ٩١ ]. ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾، فهو أبلغ في الزجر من صيغة الأمر التي هي «انتهوا » وقد تقرر في فن المعاني : أن من معاني صيغة الاستفهام التي ترد لها الأمر ؛ كقوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾، وقوله :﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ] الآية، أي : أسلموا. والجار والمجرور في قوله :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ ﴾ [ ٦٧ ] الآية يتعلق ب ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ وكرر لفظ «من » للتأكيد، وأفرد الضمير في قوله «منه » مراعاة للمذكور ؛ أي تتخذون منه، أي مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب. ونظيره قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق | كأنه في الجلد توليع البهق |
وقال الطبري : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكراً ؛ فحذف «ما ».
قال أبو حيان ( في البحر ) : وهو لا يجوز على مذهب البصريين. وقيل : يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه. ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
مالك عندي غير سوط وحجر | وغير كبداء شديدة الوتر |
أي : بكفي رجل كان «الخ »، ذكره الزمخشري وأبو حيان.
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر هذه الأقوال عندي : أن قوله :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ﴾ يتعلق ب ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾، أي : تتخذون من ثمرات النخيل، وأن «من » الثانية توكيد للأولى. والضمير في قوله :﴿ مِنْهُ ﴾، عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن التحقيق على مذهب الجمهور : أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله جل وعلا :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ﴾ [ ٦٧ ] منسوخة بآية المائدة المذكورة. فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه، وفي شرحه ( نشر البنود )، من أن تحريم الخمر ليس نسخاً لإباحتها الأولى بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، وهي ليست من الأحكام الشرعية ؛ فرفعها ليس بنسخ. وقد بين في المراقي : أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله :
وما من البراءة الأصلية | قد أخذت فليست الشرعية |
أباحها في أول الإسلام | براءة ليست من الأحكام |
فإن قيل : الآية واردة بصيغة الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول :
فالجواب أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر، والإباحة حكم شرعي كسائر الأحكام قابل النسخ. فليس النسخ وارداً على نفس الخبر، بل على الإباحة المفهومة من الخبر ؛ كما حققه ابن العربي المالكي وغيره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾، أي : التمر والرطب والعنب والزبيب، والعصير ونحو ذلك.
تنبيه آخر
اعلم أن النَّبيذ الذي يسكر منه الكثير، لا يجوز أن يشرب منه القليل الذي لا يسكر لقلته. وهذا مما لا شك فيه.
فمن زعم جواز شرب القليل الذي لا يسكر منه، كالحنفية وغيرهم فقط غلط غلطاً فاحشاً ؛ لأن ما يسكر كثيره يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه مسكر، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول :«كل مسكر حرام »، وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال :«كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ». ولو حاول الخصم أن ينازع في معنى هذه الأحاديث فزعم أن القليل الذي لا يسكر، يرتفع عنه اسم الإسكار، فلا يلزم تحريمه. قلنا : صرح صلى الله عليه وسلم بأن «ما أسكر كثيره فقليله حرام ». وهذا نص صريح في محل النزاع لا يمكن معه كلام. وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام » رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال : حديث حسن. وعن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما أسكر كثيره فقليله حرام »، رواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني وصححه. ولأبي داود وابن ماجه والترمذي مثله سواء من حديث جابر. وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وكذلك الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن سعد بن أبي وقاص : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قليل ما أسكر كثيره »، رواه النسائي والدارقطني، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أتاه قوم فقالوا : يا رسول الله، إنا نبيذ النَّبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا ؟ فقال :«اشربوا فكل مسكر حرام ». فقالوا : يا رسول الله، إنا نكسره بالماء ؟ فقال :«حرام قليل ما أسكر كثيره »، رواه الدارقطني. اه. بواسطة نقل المجد في ( منتقي الأخبار ).
فهذه الأحاديث لا لبس معها في تحريم قليل ما أسكر كثيره. وقال ابن حجر ( في فتح الباري )، في شرح قوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري :«كل شراب أسكر فهو حرام »، ما نصه : فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما أسكر كثيره فقليله حرام ». وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح. ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعاً «كل مسكر حرام. وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ». ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره ». وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث إلى أن قال : وجاء أيضاً عن علي عند الدارقطني، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني، وعن زيد بن ثابت عند الدارقطني. وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة.
قال أبو المظفر بن السمعاني ( وكان حنفياً فتحول شافعياً ) : ثبتت الأخبار عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر.
ثم ساق كثيراً منها. ثم قال : والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافه ؛ فإنها حجج قواطع. قال : وقد زل الكوفيون في هذا الباب، ورووا فيه أخباراً معلولة، لا تعارض هذه الأخبار بحال. ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكراً فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير. وإنما الذي شربه كان حلواً ولم يكن مسكراً. وقد روى ثمامة بن حزن القشيري : أنه سأل عائشة عن النَّبيذ ؟ فدعت جارية حبشية فقالت : سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية : كنت أنبذ له في سقاء من الليل، وأوكثه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه. أخرجه مسلم.
وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه. ثم قال : فقياس النَّبيذ على الخمر بعلة
المراد بالإيحاء هنا : الإلهام. والعرب تطلق الإيحاء على الإعلام بالشيء في خفية ؛ ولذا تطلقه على الإشارة، وعلى الكتابة، وعلى الإلهام. ولذلك قال تعالى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾، أي : ألهمها. وقال :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً ﴾ [ مريم : ١١ ] الآية ؛ أي : أشار إليهم. وسمى أمره للأرض إيحاء في قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [ الزلزلة : ٤-٥ ]. ومن إطلاق الوحي على الكتابة قول لبيد في معلقته :-
فمدافع الريان عرى رسمها | خلقاً كما ضمن الوحي سلامها |
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من الناس من يموت قبل بلوغ أرذل العمر، ومنهم من يعمر حتى يرد إلى أرذل العمر. وأرذل العمر : آخره الذي تفسد فيه الحواس، ويختل فيه النطق والفكر، وخص بالرذيلة لأنه حال لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد ؛ بخلاف حال الطفولة، فإنها حالة ينتقل منها إلى القوة وإدراك الأشياء. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله في سورة الحج. ﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾ [ الحج : ٥ ]، وقوله في الروم :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ﴾ [ الروم : ٥٤ ] الآية. وأشار إلى ذلك أيضاً بقوله :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتَابٍ ﴾ [ فاطر : ١١ ]، وقوله في سورة المؤمن :﴿ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ غافر : ٦٧ ].
وقال البخاري في صحيحه في الكلام على هذه الآية الكريمة : باب قوله تعالى :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ [ النحل : ٧ ]، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور، عن شعيب، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو :«أعوذ بالله من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات » اه. وعن علي رضي الله تعالى عنه : أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وعن قتادة : تسعون سنة. والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين. وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص ؛ فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدناً وعقلاً، وأشد خرفاً من آخر ابن تسعين سنة، وظاهر قول زهير في معلقته :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش | ثمانين حولا لا أبا لك يسأم |
إن الثمانين وبلغتها | قد أحوجت سمعي إلى ترجمان |
وقال بعض العلماء : إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف، وضياع العلم والعقل من شدة الكبر ؛ ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات في قوله تعالى :﴿ ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ التين : ٥-٦ ] الآية.
أظهر التفسيرات في هذه الآية الكريمة : أن الله ضرب فيها مثلاً للكفار، بأنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق، ومن ذلك تفضيله المالكين على المملوكين في الرزق، وأن المالكين لا يرضون لأنفسهم أن يكون المملوكون شركاءهم فيما رزقهم الله، من الأموال والنساء وجميع نعم الله. ومع هذا يجعلون الأصنام شركاء لله في حقه على خلقه، الذي هو إخلاص العبادة له وحده، أي : إذا كنتم لا ترضون بإشراك عبيدكم معكم في أموالكم ونسائكم فكيف تشركون عبيدي معي في سلطاني !.
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ في مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ [ الروم : ٢٨ ] الآية. ويؤيده أن «ما » في قوله :﴿ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، نافية، أي : ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم اه.
فإذا كانوا يكرهون هذا لأنفسهم فكيف يشركون الأوثان مع الله في عبادته ! مع اعترافهم بأنها ملكه، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
وهذه الآية الكريمة نص صريح في إبطال مذهب الاشتراكية القائل : بأنه لا يكون أحد أفضل من أحد من الرزق، ولله في تفضيل بعضهم على بعض في الرزق حكمة ؛ قال تعالى :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] الآية، وقال :﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ]، وقال :﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي معنى هذه الآية الكريمة قولان آخران :
أحدهما : أن معناها أنه جعلكم متفاوتين في الرزق ؛ فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهو بشر مثلكم وإخوانكم ؛ فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تساووا في الملبس والمطعم ؛ كما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : أنه أمر مالكي العبيد :«أن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون ». وعلى هذا القول فقوله تعالى :﴿ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، لوم لهم، وتقريع على ذلك.
القول الثاني : أن معنى الآية أنه جلَّ وعلا هو رازق المالكين والمملوكين جميعاً ؛ فهم في رزقه سواء، فلا يحسبن المالكون أنهم يريدون على مماليكهم شيئاً من الرزق، فإنما ذلك رزق الله يجريه لهم على أيديهم. والقول الأول هو الأظهر، وعليه جمهور العلماء، ويدل له القرآن كما بينا. والعلم عند الله تعالى.
وقوله :﴿ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾، إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته ؛ لأن الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله، فيستعين بكل ما أنعم به عليه على معصيته. فإنه يرزقهم ويعافيهم، وهم يعبدون غيره. وجحد : تتعدى بالباء في اللغة العربية ؛ كقوله :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا ﴾ [ النمل : ١٤ ] الآية، وقوله :﴿ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥١ ]، والجحود بالنعمة، هو : كفرانها.
وأوضح في غير هذا الموضع : أن هذه نعمة عظيمة، وأنها من آياته جل وعلا. كقوله :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الروم : ٢١ ] وقوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنثَى ﴾ [ القيامة : ٣٦-٣٩ ]، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] الآية.
واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة. فقال جماعة من العلماء الحفدة : أولاد الأولاد ؛ أي وجعل لكم من أزواجكم بنين، ومن البنين حفدة. وقال بعض العلماء : الحفدة الأعوان والخدم مطلقاً ؛ ومنه قول جميل :
حفد الولائد حولهن وأسلمت | بأكفهن أزمة الأجمال |
كلفت مجهولها نوقاً يمانية | إذا الحداة على أكسائها حفدوا |
وقيل : الحفدة الأختان، وهم أزواج البنات، ومنه قول الشاعر :
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت | لها حفد مما يعد كثير |
ولكنها نفس علي أبية | عيوف لإصهار اللثام قذور |
قال مقيده عفا الله عنه : الحفدة : جمع حافد، اسم فاعل من الحفد، وهو الإسراع في الخدمة والعمل. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية ؛ فنبين ذلك.
وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد ؛ لأن قوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾، دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم. ودعوى أن قوله :«وحفدةً »، معطوف على قوله :«أَزْوَاجاً » غير ظاهرة. كما أن دعوى أنهم الأختان، وأن الأختان أزواج بناتهم، وبناتهم من أزواجهم، وغير ذلك من الأقوال كله غير ظاهر. وظاهر القرآن هو ما ذكر، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطب وغيرهما. ومعلوم : أن أولاد الرجل، وأولاد أولاده : من خدمه المسرعين في خدمته عادة. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ الآية رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها ؛
حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم، وكان يخبؤها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر. فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة، فقالت : عمرو ! ونفرت ؛ فلم يرها أبداً ؛ ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور :
ألا لحى الله بني السعلاة | عمرو بن يربوع لئام النات |
وقوله :«النات »، أصله :«الناس »، أبدلت فيه السين تاء. وكذلك قوله :«أكيات »، أصله :«أكياس »، جمع كيس، أبدلت فيه السين تاء أيضاً. وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان، إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها ؛ فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها، كما كان عمرو يستره عن سعلاته :
إذا لاح إيماض سترت وجوهها | كأني عمرو والمطي سعالى |
وقال المناوي في شرح حديث «أحد أبوي بلقيس كان جنياً » : قال قتادة : ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة. وجاء في آثار : أن الجني الأم، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه، فقال : يا حسنة اسقي عمك ؛ فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت. فخطبها من أبيها، فذكر أنه جني، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها. فأتت منه بولد ذكر، ولم يذكر قبل ذلك، فذبحته فكرب لذلك، وخاف أن يسألها فتبين منه. ثم أتت ببلقيس فاظهرت البشر، فاغتم فلم يملك أن سألها، فقالت : هذا جزائي منك ! باشرت قتل ولدي من أجلك ! وذلك أن أبي يسترق السمع، فسمع الملائكة تقول : إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك، ثم استرق السمع في هذه، فسمعهم يعظمون شأنها، ويصفون ملكها، وهذا فراق بيني وبينك ؛ فلم يرها بعد. هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني اه. من شرح المنَاوي للجامع الصغير.
وقال القرطبي في تفسير «سورة النحل » : كان أبو بلقيس وهو السرح بن الهداهد بن شراحيل، ملكاً عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفأ لي. وأبى أن يتزوج منهم ؛ فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ؛ فولدت له بلقمة وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.
وقال أبو هريرة : قال النَّبي صلى الله عليه وسلم :«كان أحد أبوي بلقيس جنياً » إلى أن قال : ويقال إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيراً لملك عات، يغتصب نساء الرعية، وكان الوزير غيوراً فلم يتزوج ؛ فصحب مرة في الطريق رجلاً لا يعرفه فقال : هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبداً ؛ فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن. فقال : لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبداً. قال : بل يغتصبها ! قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا. فتزوج ابنته فولدت له بلقيس إلى غير ذلك من الروايات.
وقال القرطبي أيضاً : وروى وهيب بن جرير بن حازم، عن الخليل بن أحمد، عن عثمان بن حاضر قال : كانت أم بلقيس من الجن، يقال لها : بلعمة بنت شيصان.
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنياً ضعيف، وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت.
مسألة
اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن ؛ فمنعها جماعة من أهل العلم، وأباحها بعضهم.
قال المناوي ( في شرح الجامع الصغير ) : ففي الفتاوى السراجية للحنفية : لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء ؛ لاختلاف الجنس. وفي فتاوى البارزي من الشافعية : لا يجوز التناكح بينهما. ورجح ابن العماد جوازه اه.
وقال الماوردي : وهذا مستنكر للعقول ؛ لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين ؛ إذ الآدمي جسماني، والجني روحاني. وهذا من صلصال كالفخار، وذلك من مارج من نار، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع اه.
وقال ابن العربي المالكي : نكاحهم جائز عقلاً ؛ فإن صح نقلاً فبها ونعمت.
قال مقيده عفا الله عنه : لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم نصاً يدل على جواز مناكحة الإنس الجن، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه. فقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ [ النحل : ٧٢ ] الآية. ممتناً على بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجاً تباينهم كمباينة الإنس للجن، وهو ظاهر.
ويؤيده قوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [ الروم : ٢١ ]. فقوله :﴿ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً ﴾ في معرض الامتنان يدل على أنه ما خلق لهم أزواجاً من غير أنفسهم ؛ ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من «أن النكرة في سياق الامتنان تعم »، فقوله :﴿ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾، جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا، أي : من نوعنا وشكلنا. مع أن قوماً من أهل الأصول زعموا :«أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم ». والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم، وعليه درج في مراقي السعود حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح :
منه منكر الجموع عرفا | وكان والذي عليه انعطفا |
وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم، هو الكائن من أنفسهم، أي : من نوعهم وشكلهم. كقوله :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾، وقوله :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ [ الروم : ٢١ ] الآية، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجاً من غير أنفسهم. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات بإنزال المطر، ولا من الأرض بإنبات النبات. وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون، أي : لا يملكون أن يرزقوا. والاستطاعة منفية عنهم أصلاً ؛ لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء.
ويفهم من الآية الكريمة : أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق ؛ لأن أكلهم رزقه، وعبادتهم غيره، كفر ظاهر لكل عاقل. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٧ ]، وقوله :﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ في عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴾ [ الملك : ٢١ ]، وقوله :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾[ الذاريات : ٥٦-٥٨ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ طه : ١٣٢ ]، وقوله :﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ ﴾ [ فاطر : ٣ ]، وقوله :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ ﴾ [ يونس : ٣١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في قوله :﴿ شَيْئاً ﴾، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب :
الأول : أن قوله :﴿ رِزْقاً ﴾ مصدر، وأن ﴿ شَيْئاً ﴾ مفعول به لهذا المصدر، أي : ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئاً من الرزق. ونظير هذا الإعراب قوله تعالى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ﴾ [ البلد : ١٤-١٥ ] ؛ فقوله :﴿ يَتِيماً ﴾ مفعول به للمصدر الذي هو إطعام، أي : أن يطعم يتيماً ذا مقربة. ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي :
بضرب بالسيوف رؤوس قوم | أزلنا هامهن عن المقيل |
بفعله المصدر ألحق في العمل | مضافاً أو مجرداً أو مع ال |
الوجه الثالث : أن يكون قوله :﴿ شَيْئاً ﴾ ما ناب عن المطلق من قوله :﴿ يَمْلِكُ ﴾، أي : لا يملك شيئاً من الملك، بمعنى : لا يملك ملكاً قليلاً أن يرزقهم.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال ؛ أي : يجعلوا له أشباهاً ونظراء من خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً !
وبين هذا المعنى غير هذا الموضع ؛ كقوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : ٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
أظهر الأقوال فيها : أن المعنى : أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر ؛ لأنه يقول للشيء : كن فيكون. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [ القمر : ٥٠ ].
وقال بعض العلماء : المعنى : هي قريب عنده تعالى كلمح البصر، وإن كانت بعيداً عندكم. كما قال تعالى :﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً ﴾ [ المعارج : ٦-٧ ]، وقال :﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [ الحج : ٤٧ ]. واختار أبو حيان ( في البحر المحيط ) : أن «أو » في قوله :«أو هو أقرب » ؛ للإبهام على المخاطب، وتبع في ذلك الزجاج، قال : ونظيره ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ]، وقوله :﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ ﴾ [ يونس : ٢٤ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أخرج بني آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة ؛ لأجل أن يشكروا له نعمه. وقد قدمنا : أن «لعل » للتعليل. ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا ؛ ولكنه بين في مواضع أخر : أن أكثرهم لم يشكروا ؛ كما قال تعالى :﴿ فقال لهم اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٤٣ ]، وقال :﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [ الملك : ٢٣ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
لم يأت السمع في القرآن مجموعاً، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائماً، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائماً : أن أصله مصدر سمع سمعاً، والمصدر إذا جعل اسماً ذكر وأفرد ؛ كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن تسخيره الطير في جو السماء ما يمسكها إلا هو من آياته الدالة على قدرته، واستحقاقه لأن يعبد وحده. وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ بَصِيرٌ ﴾ [ الملك : ١٩ ].
تنبيه
لم يذكر علماء العربية الفعل ( بفتح فسكون ) من صيغ جموع التكسير. قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية : أن الفعل ( بفتح السكون )، جمع تكسير لفاعل وصفاً لكثرة وروده في اللغة جمعاً له ؛ كقوله هنا :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ ﴾، فالطير جمع طائر، وكالصحب فإنه جمع صاحب ؛ قال امرؤ القيس :
وقوفاً بها صحبي على مطيهم | يقولون لا تهلك أسى وتجمل |
أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا | أم راجع القلب من أطرابه طرب |
كأنه خارجاً من جنب صفحته | سفود شرب نسوه عند مفتأد |
كأن وغاها حجرتيه وجاله | أضاميم من سفر القبائل نزل |
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة منته على خلقه ؛ بأنه جعل لهم سرابيل تقيهم الحر، أي : والبرد ؛ لأن ما يقي الحر من اللباس يقي البرد. والمراد بهذه السرابيل : القمصان ونحوها من ثياب القطن والكتان والصوف. وقد بين هذه النعمة الكبرى في غير هذا الموضع ؛ كقوله :﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ [ الأعراف : ٢٦ ] الآية، وقوله :﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [ الأعراف : ٣١ ] الآية. أي : وتلك الزينة هي ما خلق الله لهم من اللباس الحسن. وقوله هنا :﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾، المراد بها الدروع ونحوها، مما يقي لابسه وقع السلاح، ويسلمه من بأسه.
قد بين أيضاً هذه النعمة الكبرى، واستحقاق من أنعم بها لأن يشكر له في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٨٠ ]. وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف. ومنه قول كعب بن زهير :
شم العرانين أبطال لبوسهم | من نسج داود في الهيجا سرابيل |
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعرفون نعمة الله ؛ لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم، ويدبر شؤونهم، ثم ينكرون هذه النعمة. فيبعدون معه غيره، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئاً.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ].
فقوله :﴿ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾، دليل على معرفتهم نعمته. وقوله :﴿ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾، دليل على إنكارهم لها. والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وروي عن مجاهد : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن أعرابياً أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فسأله. فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾ [ النحل : ٨٠ ] الآية. فقال الأعرابي : نعم ! قال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا ﴾[ النحل : ٨٠ ]. قال الأعرابي : نعم ! ثم قرأ عليه كل ذلك يقول الأعرابي : نعم ! حتى بلغ ﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾، فولى الأعرابي ؛ فأنزل الله :﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ الآية. وعن السدي رحمه الله :﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ﴾، أي : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينكرونها ؛ أي : يكذبونه وينكرون صدقه.
وقد بين جل وعلا : أن بعثة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم من منن الله عليهم. كما قال تعالى :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] الآية. وبين في موضع آخر : أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران ؛ وذلك في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ]. وقيل : يعرفون نعمة الله في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك، كقوله :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، ونحوها من الآيات إلى غير ذلك من الأقوال في الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ ٨٣ ] قال بعض العلماء : معناه أنهم كلهم كافرون. أطلق الأكثر وأراد الكل. قاله القرطبي والشوكاني. وقال الشوكاني : أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم. أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل.
لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله :﴿ لاَ يُؤْذَنُ ﴾، ولكنه بين في ( المرسلات ) أن متعلق الإذن الاعتذار ؛ أي : لا يؤذن لهم في الاعتذار، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله، وذلك في قوله :﴿ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُون وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥-٣٦ ].
فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم ؛ كقوله تعالى عنهم :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، وقوله :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾ [ النحل : ٢٨ ]، وقوله :﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾ [ غافر : ٧٤ ]، ونحو ذلك من الآيات.
فالجواب من أوجه :
منها : أنهم يعتذرون حتى إذا قيل لهم : أخسئوا فيها ولا تكلمون، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق ؛ كما قال تعالى :﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ [ النمل : ٨٥ ].
ومنها : أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة. أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم، يصدق عليه في لغة العرب : أنه ليس بشيء، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ ﴾ [ البقرة : ١٨ ] مع قوله عنهم :﴿ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [ المنافقون : ٤ ]، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. وقال عنهم أيضاً :﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ [ الأحزاب : ١٩ ]، فهذا الذي ذكره جل وعلا من فصاحتهم وحدة ألسنتهم، مع تصريحه بأنهم بكم يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء، كما هو واضح. وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :
وإن كلام المرء في غير كنهه | لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها |
قوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [ ٨٤ ].
اعلم أولاً أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى ؛ أي : الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره. وتستعمل أيضاً في اللغة بمعنى أعتب : إذا أعطى العتبى. أي : رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى، فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾، وجهين من التفسير متقاربي المعنى.
قال بعض أهل العلم :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾، أي : لا تطلب منهم العتبى، بمعنى : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا.
وقال بعض العلماء :﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾، أي : يعتبون، بمعنى يزال عنهم العتب، ويعطون العتبى وهي الرضا ؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين. وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور :﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ [ فصلت : ٢٤ ]، أي : وإن يطلبوا العتبى وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم فما هم من المعتبين ؛ بصيغة اسم المفعول : أي : المعطين العتبى، وهي الرضا عنهم ؛ لأن العرب تقول : أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع | والدهر ليس بمعتب من يجزع |
فإن كنت مظلوماً فعبد ظلمته | وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب |
غضبت تميم أن تقتل عامر | يوم النسار فأعتبوا بالصيلم |
وخيل قد دلفت لها بخيل | تحية بينهم ضرب وجيع |
وأما على قراءة من قرأ :﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ ﴾ [ فصلت : ٢٤ ] بالبناء للمفعول، ﴿ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ [ فصلت : ٢٤ ] بصيغة اسم الفاعل، فالمعنى : أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله، فما هم من المعتبين : أي : الراجعين إلى ما يرضي ربهم، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولاً. وهذه القراءة كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم، ولا ينظرون، أي : لا يمهلون، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. وبين أنهم يرون النار وأنها تراهم، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم. كقوله تعالى :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٩-٤٠ ]، وقوله :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾ [ الكهف : ٥٣ ]، وقوله :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٢ ]، وقوله :﴿ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِي تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ﴾ [ الملك : ٧-٨ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ! وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك فيقولون لهم : كذبتم ! ما كنتم إيانا تعبدون !
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٥-٦ ]، وقوله :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨١-٨٢ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ]، وقوله :﴿ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ ﴾ [ القصص : ٦٤ ]، وقوله :﴿ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ [ يونس : ٢٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قيل : كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم، مع أن الواقع خلاف ما قالوا، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله !
فالجواب أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة، وأن عبادتهم حق، وأنها تقربهم إلى الله زلفى. ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء. ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون. ومراد الكفار بقولهم لربهم : هؤلاء شركاؤنا، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم.
وقيل : ليكونوا شركاءهم في العذاب، كما قال تعالى :﴿ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَأتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعاً في قوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآية. وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيراً بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠١ ] الآية ؛ لأنهم ما عبدوهم برضاهم ؛ بل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده جلَّ وعلا.
إلقاؤهم إلى الله السلم : هو انقيادهم له، وخضوعهم ؛ حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله :﴿ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾ [ النحل : ٢٨ ]. والآيات الدالة على ذلك كثيرة. كقوله :﴿ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٦ ]، وقوله :﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ [ طه : ١١١ ]، ونحو ذلك من الآيات. وقد قدمنا طرفاً من ذلك في الكلام على قوله :﴿ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾.
وقوله :﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾، أي : غاب عنهم واضحمل ما كانوا يفترونه. من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى. كما قال تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾ [ يونس : ١٨ ] الآية، وكقوله :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [ الزمر : ٣ ]. وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة. كقوله تعالى :﴿ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس : ٣٠ ]، وقوله :﴿ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ القصص : ٧٥ ]. وقد قدمنا معاني «الضلال » في القرآن وفي اللغة بشواهدها.
اعلم أولاً أن :«صد »، تستعمل في اللغة العربية استعمالين : أحدهما أن تستعمل متعدية إلى المفعول، كقوله تعالى :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] الآية، ومضارع هذه المتعدية :«يصد »، بالضم على القياس، ومصدرها «الصد » على القياس أيضاً. والثاني : أن تستعمل «صد »، لازمة غير متعدية إلى المفعول، ومصدر هذه :«الصدود » على القياس، وفي مضارعها الكسر على القياس، والضم على السماع. وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله :﴿ إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ [ الزخرف : ٥٧ ]، بالكسر والضم.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، محتمل لأن تكون «صد » متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. على حد قوله في الخلاصة :
وحذف فضلة أجز إن لم يضر | كحذف ما سيق جواباً أو حصر |
الأولى : أنا لو قدرنا «صد » لازمة، وأن معناها : صدودهم في أنفسهم عن الإسلام لكان ذلك تكراراً من غير فائدة، مع قوله ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، بل معنى الآية : كفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن الدين، فحملوه على الكفار أيضاً.
القرينة الثانية : قوله تعالى :﴿ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ﴾ [ ٨٨ ]، فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم، والعذاب المزيدة فوقه : هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم ؛ بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم :﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ النحل : ٢٥ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] الآية ؛ كما تقدم إيضاحه.
القرينة الثالثة : قوله :﴿ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾، فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم، وقوله :﴿ فَوْقَ الْعَذَابِ ﴾، أي : الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم. وعن ابن مسعود. أن هذا العذاب المزيد : عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم. أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ! والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا صلى الله عليه وسلم شاهداً علينا. وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدا ًيَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ﴾ [ النساء : ٤١-٤٢ ] الآية، وكقوله :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ]، وكقوله :﴿ فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اقرأ علي »، قال : فقلت يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ا قال :«نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري »، فقرأت «سورة النساء » حتى أتيت إلى هذه الآية :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ﴾، فقال :«حسبك الآن »، فإذا عيناه تذرفان اه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ ﴾، منصوب ب «اذكر » مقدراً. والشهيد في هذه الآية فعيل، بمعنى :«فاعل، أي : شاهداً عليهم من أنفسهم.
قوله تعالى :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيءٍ ﴾ [ ٨٩ ].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبياناً لكل شيء. وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله :﴿ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شَيءٍ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]ن على القول بأن المراد بالكتاب فيها : القرآن. أما على القول بأنه اللوح المحفوظ. فلا بيان بالآية. وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء. والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه. وهي قوله تعالى :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ].
وقال السيوطي في «الإكليل » في استنباط التنزيل » : قال تعالى :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيءٍ ﴾، وقال :﴿ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شَيءٍ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، وقال صلى الله عليه وسلم :«ستكون فتن ». قيل : وما المخرج منها ؟ قال :«كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم ». أخرجه الترمذي، وغيره، وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا خديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود قال : من أراد العلم فعليه بالقرآن ؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين. قال البيهقي : أراد به أصول العلم. وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة : التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن : المفصل، ثم أودع علوم المفصل : فاتحة الكتاب ؛ فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكتب المنزلة. أخرجه البيهقي «في الشعب ».
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع شرح السنة شرح للقرآن.
وقال بعض السلف : ما سمعت حديثاً إلا التمست له آية من كتاب الله.
وقال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود : إذا حدثتكم بحديث، أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله. أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود أيضاً : أنزل في القرآن كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن. أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله لو أغفل شيئاً، لأغفل : الذرة والخردلة والبعوضة ».
وقال الشافعي أيضاً : جميع ما حكم به النَّبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
قلت : ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم :«إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه »، رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة.
وقال الشافعي أيضاً : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة، إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. فإن قيل : من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ؟ قلنا : ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة ؛ لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرض علينا الأخذ بقوله.
وقال الشافعي مرة بمكة : سلوني عما شئتم، أخبركم عنه من كتاب الله. فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ]. وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر ». وحدثنا سفيان، عن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.
وروى البخاري عن ابن مسعود قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله، فقالت له امرأة في ذلك. فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله. فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ؟ ! قال : لئن قرأتيه لقد وجدتيه ! أما قرأت :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ] ؟ قالت : بلى. قال : فإنه قد نهى عنه.
وقال ابن برجان : ما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن، أو فيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهم، أو عمه عنه من عمه، وكذا كل ما حكم أو قضى به.
وقال غيره : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى ؛ حتى إن بعضهم استنبط عمر النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين، من قوله «في سورة المنافقين » :﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا ﴾ [ المنافقون : ١١ ] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها «بالتغابن » ليظهر التغابن في فقده.
وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلا ما استأثر الله به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ؛ مثل الخلفاء الأربعة، ومثل ابن مسعود، وابن عباس حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله. ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه. فنوعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.
فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه وعددها، وعد كلماته وآياته، وسوره وأجزائه، وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة. من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه ؛ فسموا القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة وغيرها. وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال، واللازم والمتعدي، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به. حتى إن بعضهم أعرب مشكله. وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظاً يدل على معنى واحد، ولفظاً يدل على معنيين، ولفظاً يدل على أكثر ؛ فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا الخفي منه، وخاضوا إلى ترجيح أحد محتمالات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية، والشواهد الأصلية والنظرية ؛ مثل قوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ؛ فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده، وبقائه وقدمه، وقدرته وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به ؛ وسموا هذا العلم ب «أصول الدين ».
وتأملت طائفة معاني خطابه. فرأت منها ما يقتضي العموم، ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك ؛ فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا في التخصيص والإضمار، والنص والظاهر، والمجمل والمحكم والمتشابه، والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال والاستقراء ؛ وسموا هذا الفن «أصول الفقه ».
وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أصوله وفروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطاً حسناً ؛
وسموه ب «علم الفروع » وب «الفقه أيضاً ».
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم ؛ حتى ذكروا بدء الدنيا، وأول الأشياء : وسموا ذلك ب «التاريخ والقصص ».
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال ؛ فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذكر الموت والمعاد، والنشر والحشر، والحساب والعقاب، والجنة والنار فصولاً من المواعظ، وأصولاً من الزواجر. فسموا بذلك «الخطباء والوعاظ ».
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير. مثل ما ورد في قصة يوسف : من البقرات السمان، وفي منامي صاحبي السجن، وفي رؤية الشمس والقمر والنجوم ساجدات، وسموه «تعبير الرؤيا » ؛ واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب. فإن عز عليهم إخراجها منه، فمن السنة التي هي شارحة الكتاب، فإن عسر فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله :﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ].
وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها، وغير ذلك :«علم الفرائض »، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث، والربع والسدس والثمن «حساب الفرائض »، ومسائل العول ؛ واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار، والشمس والقمر ومنازله، والنجوم والبروج، وغير ذلك فاستخرجوا «علم المواقيت ».
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم، وحسن السياق والمبادىء، والمقاطيع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك ؛ فاستنبطوا منه «علم المعاني والبيان والبديع ».
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة. فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق، جعلوا لها أعلاماً اصطلحوا عليها، مثل الغناء والبقاء،
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن يأمر خلقه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى. وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي ؛ لأجل أن يتَّعظوا بأوامره ونواهيه، فيمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه. وحذف مفعول «يأمر »، «وينهي » ؛ لقصد التعميم.
ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ المائدة : ٨ ]، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [ النساء : ٥٨ ].
ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ]، وقوله :﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [ البقرة : ٨٣ ]، وقوله :﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأرْضِ ﴾ [ القصص : ٧٧ ]، وقوله :﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [ البقرة : ٨٣ ] وقوله :﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ [ التوبة : ٩١ ].
ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربى قوله تعالى :﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ الروم : ٨٣ ]، وقوله :﴿ وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٢٦ ] وقوله :﴿ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] الآية، وقوله :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَة ٍيَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ [ البلد : ١٤-١٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْي بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢٠ ]، والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات، فهو داخل فيها.
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان، قوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ]، فهذا عدل، ثم دعا إلى الإحسان بقوله :﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ]، وقوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
وقوله :﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله :﴿ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، وقوله :﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ الشورى : ٤١ ] الآية، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾ [ الشورى : ٤٣ ]، وقوله ﴿ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ [ النساء : ١٤٨ ]، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله :﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٤٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن العدل في اللغة : القسط والإنصاف، وعدم الجور. وأصله التوسط بين المرتبتين ؛ أي : الإفراط والتفريط. فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل. والإحسان مصدر أحسن، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو : أحسن إلى والديك ؛ ومنه قول تعالى عن يوسف :﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٠ ] الآية. وتستعمل متعدية بنفسها ؛ كقولك : أحسن العامل عمله، أي : أجاده وجاء به حسناً. والله جل وعلا يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين، فهما داخلان في الآية الكريمة ؛ لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله، عمل أحسن فيه صاحبه. وقد فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل بقوله :«أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك ». وقد قدمنا إيضاح ذلك ( في سورة هود ).
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا ؛ كقول ابن عباس : العدل : لا إله إلا الله، والإحسان : أداء الفرائض ؛ لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط، وتجنب التفريط والإفراط. ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن. ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات :«أفلح إن صدق ». وكقول سفيان : العدل : استواء العلانية والسريرة. والإحسان : أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وكقول علي رضي الله عنه : العدل : الإنصاف. والإحسان : التفضل. إلى غير ذلك من أقوال السلف. والعلم عند الله تعالى، وقوله :﴿ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ ٩٠ ].
الوعظ : الكلام الذي تلين له القلوب.
تنبيه :
فإن قيل : يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي. كقوله هنا :﴿ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾ [ النحل : ٩٠ ]، إلى قوله :﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ﴾ [ النحل : ٩٠ ] الآية، وكقوله في ( سورة البقرة ) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة :﴿ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [ البقرة : ٢٣٢ ]، وقوله ( في الطلاق ) في نحو ذلك أيضاً :﴿ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ الطلاق : ٢ ]. وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة :﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً ﴾ [ النور : ١٧ ] الآية. مع أن المعروف عند الناس : أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك، لا بالأمر والنهي.
فالجواب أن ضابط الوعظ : هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم نواهيه. فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله. وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه. فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفاً وطمعاً. والفحشاء في لغة العرب : الخصلة المتناهية في القبح ؛ ومنه قيل لشديد البخل : فاحش ؛ كما في قول طرفة في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي | عقيلة مال الفاحش المتشدد |
وقد بين تعالى : أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ﴾ [ يونس : ٢٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
وقوله :﴿ ذي الْقُرْبَى ﴾[ ٩٠ ]. أي : صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم، أو هما معاً ؛ لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم. والإيتاء : الإعطاء. وأحد المفعولين محذوف ؛ لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول وحذف الثاني. والأصل : وإيتاء صاحب القرابة ؛ كقوله :﴿ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] الآية.
أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا. وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه، وفيما بينه وبين الناس. وكرر هذا في مواضع أخر ؛ كقوله ( في الأنعام ) ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] الآية، وقوله في ( الإسراء ) :﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ]. وقد قدمنا هذا ( في الأنعام ).
وبين في مواضع أخر : أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك. وذلك في قوله :﴿ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الفتح : ١٠ ]. وبين في مواضع آخر : أن نقض الميثاق يستوجب اللعن ؛ وذلك في قوله :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ ﴾ [ المائدة : ١٣ ] الآية.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ما عنده من نعيم الجنة باق لا يفنى. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ]، وقوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ]، وقوله :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [ الكهف : ٢-٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ ٩٦ ].
أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم أي جزاء عملهم بأحسن ما كانوا يعملون.
وبين في مواضع آخر : أنه جزاء بلا حساب ؛ كما في قوله :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ].
تنبيه
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن فعل المباح حسن ؛ لأن قوله في هذه الآية :﴿ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، صيغة تفضيل تدل على المشاركة، والواجب أحسن من المندوب، والمندوب أحسن من المباح. فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب، دون مشاركهما في الحسن وهو المباح. وعليه درج في مراقي السعود في قوله :
ما ربنا لم ينه عنه حسن | وغيره القبيح والمستهجن |
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن كل عامل سواء كان ذكراً أو أنثى، عمل عملاً صالحاً، فإنه جل وعلا يقسم ليحيينه حياة طيبة، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل.
اعلم أولاً أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور :
الأول : موافقته لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله يقول :﴿ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾ [ الحشر : ٧ ].
الثاني : أن يكون خالصاً لله تعالى ؛ لأن الله جل وعلا يقول :﴿ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [ البينة : ٥ ]، ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ ﴾.
الثالث : أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة ؛ لأن الله يقول :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾، فقيَّد ذلك بالإيمان، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة، كقوله في عمل غير المؤمن :﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : ١٦ ]، وقوله :﴿ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ [ النور : ٣٩ ] الآية، وقوله :﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة.
فقال قوم : لا تطيب الحياة إلا في الجنة، فهذه الحياة الطيبة في الجنة ؛ لأن الحياة الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار، والأمراض والآلام والأحزان، ونحو ذلك. وقد قال تعالى :﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِي الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٤ ]. والمراد بالحيوان : الحياة.
وقال بعض العلماء : الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال. كما قال تعالى :﴿ رَبَّنَآ ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ].
قال مقيده عفا الله عنه : وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية : حياته في الدنيا حياة طيبة. وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة : حياته في الجنة في قوله :﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً ﴾، صار قوله :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، تكراراً معه ؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ؛ فإنه يصير المعنى : فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح.
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيِّده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة : أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنه فسرها بالقناعة، وكذا قال ابن عباس وعكرمة، ووهب بن منبه إلى أن قال وقال الضحاك : هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك : هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك أيضاً : هي العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح : أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه ». ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقرى به. وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ ؛ عن أبي علي الجنبي، عن فضالة بن عبيد : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«قد أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنع به » وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً » انفرد بإخراجه مسلم اه من ابن كثير.
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول : بأن الحياة الطيبة في الدنيا ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم :«أفلح »، يدل على ذلك ؛ لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :«يعطى بها في الدنيا »، يدل على ذلك أيضاً. وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لِيُنَبِّهَ على أنها ترجح القول المذكور. والعلم عند الله تعالى.
وقد تقرر في الأصول : أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس، رجح حمله على التأسيس : وإليه أشار في مراقي السعود، جامعاً له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين، بقوله :
كذاك ما قابل ذا اعتلال *** من التأصل والاستقلال
ومن تأسس عموم وبقا *** الأفراد والإطلاق مما ينتقى
كذاك ترتيب لإيجاب العمل *** بماله الرجحان مما يحتمل
ومعنى كلام صاحب المراقي : أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح، كالتَّأصل، فإنه يقدم على الزيادة : نحو :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ]، يحتمل كون الكاف زائدة، ويحتمل أنها غير زائدة. والمراد بالمثل : الذات ؛ كقول العرب : مثلك لا يفعل هذا. يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا. فالمعنى : ليس كالله شيء. ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائيلَ عَلَى مِثْلِهِ ﴾ [ الأحقاف : ١٠ ]، أي : على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له، وقوله :﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، أي : كمن هو في الظلمات. وكالاستقلال، فإنه يقدَّم على الإضمار ؛ كقوله تعالى :﴿ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ﴾ [ المائدة : ٣٣ ] الآية. فكثير من العلماء يضمرون قيوداً غير مذكورة فيقولون : أن يقتلوا إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا.. الخ.
فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقاً ؛ لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة ؛ لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل ؛ كما أشرنا إليه سابقاً ( في المائدة )، وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد، وهو محل الشاهد ؛ كقوله :﴿ فَبِأَي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ﴾ ( في سورة الرحمن )، وقوله :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ﴾ ( في المرسلات ). قيل : تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه تأسيساً أرجح لما ذكرنا ؛ فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم. قيل : لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ. وكذا يقال ( في سورة المرسلات ) فيحمل على المكذبين بما ذكر، قيل : كل لفظ الخ. فإذا علمت ذلك فاعلم أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيساً. وإن حملناها على حياة الجنة، تكرر ذلك مع قوله بعده :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم ﴾ الآية ؛ لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه.
وقال أبو حيان ( في البحر ) : والظاهر من قوله تعالى :﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً ﴾، أن ذلك في الدنيا ؛ وهو قول الجمهور. ويدل عليه قوله :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم ﴾، يعني : في الآخرة.
أظهر القولين في هذه الآية الكريمة : أن الكلام على حذف الإرادة ؛ أي : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله.. الآية. وليس المراد : أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان، كما يفهم من ظاهر الآية، وذهب إليه بعض أهل العلم. والدليل على ما ذكرنا : تكرر حذف الإرادة في القرآن، وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها. كقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواةِ ﴾ [ المائدة : ٦ ] الآية، أي : أردتم القيام إليها كما هو ظاهر. وقوله :﴿ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ ﴾ [ المجادلة : ٩ ] الآية ؛ أي : إذ أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم ؛ لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح.
وظاهر هذه الآية الكريمة : أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة ؛ لأن صيغة " افعل " للوجوب كما تقرر في الأصول.
وقال كثير من أهل العلم : إن الأمر في الآية للندب والاستحباب، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة، وظاهر الآية أيضاً : الأمر بالاستعاذة عند القراءة في الصلاة لعموم الآية. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولَّونه، والذين هم به مشركون.
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]، وقوله :﴿ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ ص : ٨٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٥ ]، وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكٍّ ﴾ [ سبأ : ٢١ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ].
واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية.
فقال أكثر أهل العلم : هو الحجة، أي : ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان.
وقال بعضهم : ليس له سلطان عليهم ؛ أي : تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه. وقد قدمنا هذا.
وأظهر الأقوال في قوله :﴿ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾، أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله. ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي ؛ كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِي ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ يس : ٦٠ ]، وقوله عن إبراهيم :﴿ يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ ﴾ [ مريم : ٤٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات. وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة، بغير موجب يستوجب ذلك.
تنبيه
فإنه قيل : أثبت الله للشيطان سلطاناً على أوليائه في آيات. كقوله هنا :﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]، فالاستثناء يدل على أن له سلطاناً على من اتبعه من الغاوين : مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر. كقوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ [ سبأ : ٢٠-٢١ ] الآية.
وقوله تعالى حاكياً عنه مقرراً له :﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ].
فالجواب هو : أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه، وذلك من وجهين :
الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة ؛ فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أَنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان. وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن.
الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطاناً ابتداء البتة، ولكنهم هم الذين سلَّطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة. لأن الله يقول :﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ [ النساء : ٧٦ ]. وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم.
ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله. وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ).
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إذا بدل آية مكان آية، بأن نسخ آية أو أنساها، وأتى بخير منها أو مثلها أن الكفار يجعلون ذلك سبباً للطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بادعاء أنه كاذب على الله، مفتر عليه. زعماً منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء، وهو الرأي المجدد، وأن ذلك مستحيل على الله. فيفهم عندهم من ذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مفتر على الله، زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه.
والدليل على أن قوله :﴿ بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ ﴾، معناه : نسخنا آية وأنسيناها قوله تعالى :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ]، وقوله :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الأعلى : ٦-٧ ]، أي : أن تنساه.
والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها، لا بد أن يأتي ببدل خير منها أو مثلها قوله تعالى :﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ]، وقوله هنا :﴿ بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ ﴾.
وما زعمه المشركون واليهود : من أن النسخ مستحيل على الله ؛ لأنه يلزمه البداء، وهو الرأي المتجدد ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل ؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرِّع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة ؛ فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة. كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء ؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي، كما هو واضح.
وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾، وقوله :﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ]، وقوله :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ [ الأعلى : ٦-٧ ] فقوله :﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾، بعد قوله :﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾، يدل على أنه أعلم بما ينزل. فهو عالم بمصلحة الإنساء، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلاً وشرعاً، ولا في وقوعه فعلاً، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني فإنه إنما يعني : أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد ؛ لأن ظاهر الخطاب الأول استمرار الحكم في جميع الزمن. والخطاب الثاني دلَّ على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ ؛ فليس النسخ عنده رفعاً للحكم الأول. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ :
رفع لحكم أو بيان الزمن | بمحكم القرآن أو بالسنن |
المسألة الثانية لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة ؛ لأن الله جلَّ وعلا يقول :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [ يونس : ١٥ ] وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع، وكذلك لا نسخ بالإجماع ؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم : لأنه ما دام حياً فالعبرة بقوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، ولا حجة معه في قول الأمة، لأن اتِّباعه فرض على كل أحد، ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع :
وهو الاتفاق من مجتهدي | الأمة من بعد وفاة أحمد |
فلم يكن بالعقل أو مجرد | الإجماع بل ينمى إلى المستند |
ومنه نسخ النص بالقياس | هو الذي ارتضاه جل الناس |
المسألة الثالثة اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم : من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله :
وينسخ الخف بما له ثقل | وقد يجيء عاريا من البدل |
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل، وذلك في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ [ المجادلة : ١٢ ]، فإنه نسخ بقوله :﴿ أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ [ المجادلة : ١٣ ] الآية، ولا بدل لهذا المنسوخ.
فالجواب أن له بدلاً، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلاً من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر.
المسألة الرابعة اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف. فمثال نسخ الأخف بالأثقل : نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] بأثقل منه، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]. ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ ﴾ [ النساء : ١٥ ] الآية، بأثقل منه، وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [ النور : ٢ ]، وعلى الثاني منهما بآية الرجم، التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتاً، وهي قوله :«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم » ومثال نسخ الأثقل بالأخف : نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله :﴿ مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ ﴾ [ الأنفال : ٦٥ ] الآية، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الآية. وكنسخ قوله تعالى :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ] الآية، بقوله :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] ؛ فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر. وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول، المنصوص عليه في قوله :
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] الآية، بأخف منه وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، المنصوص عليه في قوله :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ].
تنبيه
اعلم أن في قوله جل وعلا :﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] إشكالاً من جهتين :
الأولى أن يقال : إما أن يكون الأثقل خيراً من الأخف ؛ لأنه أكثر أجراً، أو الأخف خير من الأثقل لأنه أسهل منه، وأقرب إلى القدرة على الامتثال. وكون الأثقل خيراً يقتضي منع نسخه بالأخف، كما أن كون الأخف خيراً يقتضي منع نسخه بالأثقل ؛ لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له، لا ما هو دونه. وقد عرفت : أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر.
الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله :﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ ؛ لأنه يقال : ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله ؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه ؟
والجواب عن الإشكال الأول : هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيراً جداً والامثتال غير شديد الصعوبة، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم ؛ فإن في الصوم أجراً كثيراً، كما في الحديث القدسي :«إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به »، والصائمون من خيار الصابرين ؛ لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم ؛ والله يقول :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ الزمر : ١٠ ]، ومشقة الصوم عادية، ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر ؛ فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ]. وتارة تكون الخيرية في الأخف، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة، بحيث يعسر فيه الامتثال. فإن الأخف يكون خيراً منه، لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما لا يرضى الله، وذلك كقوله :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية أنه نزله عليه روح القدس من ربه جل وعلا ؛ فليس مفترياً له. وروح القدس : جبريل، ومعناه الروح المقدس. أي : الطاهر من كل ما لا يليق.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين َنَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٢-١٩٥ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [ طه : ١١٤ ]، وقوله :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه ِإِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦-١٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يعلم أن الكفار يقولون : إن هذا القرآن الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم ليس وحياً من الله، وإنما تعلمه من بشر من الناس. وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله :﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ]، وقوله :﴿ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤ ] أي : يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، وقوله :﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٥ ] الآية. كما تقدم ( في الأنعام ).
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان ؛ فقيل : هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانياً فأسلم. وقيل : اسمه يعيش، عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل : غلام لبني عامر بن لؤي. وقيل : هما غلامان : اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتاباً لهم. وقيل : كانا يقرآن التوراة والإنجيل، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد بين جل وعلا كذبهم وتعنتهم في قولهم :﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾، بقوله :﴿ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمي وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِي مُّبِينٌ ﴾ [ ١٠٣ ]. أي : كيف يكون تعلمه من ذلك البشر، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان. وهذا القرآن عربي مبين فصيح، لا شائبة فيه من العجمة. فهذا غير معقول.
وبين شدة تعنتهم أيضاً بأنه لو جعل القرآن أعجمياً لكذبوه أيضاً وقالوا : كيف يكون هذا القرآن أعجمياً مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي ؛ وذلك في قوله :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاعْجَمِي وَعَرَبِي ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، أي : أقرآن أعجمي، ورسول عربي. فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي.
كما بين تعنتهم أيضاً، بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين، على أعجمي فقرأه عليهم عربيًّا لكذبوه أيضاً، مع ذلك الخارق للعادة. لشدة عنادهم وتعنتهم، وذلك في قوله :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٨-١٩٩ ].
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ يُلْحِدُونَ ﴾، أي : يميلون عن الحق. والمعنى : لسان البشر الذي يلحدون، أي : يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي : ذو بيان وفصاحة. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي :﴿ يُلْحِدُونَ ﴾، بفتح الياء والحاء، من لحد الثلاثي. وقرأه الباقون :﴿ يُلْحِدُونَ ﴾، بضم الياء والحاء، من لحد الثلائي. وقرأه الباقون :﴿ يُلْحِدُونَ ﴾، بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي، وهما لغتان، والمعنى واحد ؛ أي : يميلون عن الحق إلى الباطل. وأما ﴿ يُلْحِدُونَ ﴾ التي في ( الأعراف، والتي في فصلت )، فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي. وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في ( النحل ) وأطلق اللسان على القرآن ؛ لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام ؛ فتؤنثها وتذكرها. ومنه قول أعشى باهلة :
إني أتتني لسان لا أسر بها | من علو لا عجب فيها ولا سخر |
لسان الشر تهديها إلينا | وخنت وما حسبتك أن تخونا |
أتتني لسان بني عامر | أحاديثها بعد قول نكر |
ندمت على لسان فات مني | فليت بأنه في جوف عكم |
قال بعض أهل العلم :«إن هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة »، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله، نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن ؛ فقوله عن هذه القرية :﴿ كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً ﴾، قال نظيره عن أهل مكة ؛ كقوله :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً ﴾ [ القصص : ٥٧ ] الآية، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ العنكبوت : ٦٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ ﴾ [ قريش : ٤ ]، وقوله :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، وقوله :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] الآية، وقوله :﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾، قال نظيره عن أهل مكة أيضاً. كقوله :﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ ﴾ [ القصص : ٥٧ ]، وقوله :﴿ لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ ﴾ [ قريش : ١-٤ ] فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف كانت إلى الشام، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق ؛ ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم : بأن أطعمهم من جوعٍ. وقوله في دعوة إبراهيم :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] الآية، وقوله :﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] الآية.
وقوله :﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ﴾، ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة. كقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ].
وقد قدمنا طرفاً من ذلك في الكلام على قوله تعالى :﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ [ النحل : ٨٣ ] الآية.
وقوله :﴿ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾، وقع نظيره قطعاً لأهل مكة ؛ لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال :«اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف »، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والعلهز ( وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه )، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن ؛ وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزواته وبعوثه وسراياه. وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات ؛ فقد فسر ابن مسعود آية ( الدخان ) بما يدل على ذلك.
قال البخاري في صحيحه : باب ﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الدخان : ١٠ ] فارتقب : فانتظر. حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال : مضى خمس : الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام. ﴿ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ الدخان : ١١ ] حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية ؛ عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال : قال عبد الله :«إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصوا على النَّبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ؛ فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام ؛ فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ الدخان : ١٠-١١ ]، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله، استسق الله لمضر ! إنك لجريء ! » فاستسقى فسقوا ؛ فنزلت :﴿ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ﴾ [ الدخان : ١٥ ] فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية ؛ فأنزل الله عز وجل :﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾ [ الدخان : ١٦ ]، يعني : يوم بدر.
باب قوله تعالى :﴿ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ﴾ [ الدخان : ١٢ ] حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال : دخلت على عبد الله فقال :«إن من العلم أن تقول لما لا تعلم : والله أعلم، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ ص : ٨٦ ] »، إن قريشاً لما غلبوا النَّبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال :«اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف »، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع قالوا. ﴿ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ﴾ [ الدخان : ١٢ ] فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا. فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر. فذلك قوله :﴿ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الدخان : ١٠ ] إلى قوله جل ذكره :﴿ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾ [ الدخان : ١٦ ] انتهى بلفظه من صحيح البخاري.
وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في ( سورة النحل ) من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع. وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع ؛ لما تقرر في علم الحديث : من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع. كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله :
تفسير صاحب له تعلق *** بالسبب الرفع له محقق
وكما هو معروف عند أهل العلم.
وقد قدمنا ذلك في ( سورة البقرة ) في الكلام : على قوله تعالى :﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ].
وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة. ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين : الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل جمعاً بين الأدلة. وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى. وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته، في علوم القرآن، بأدلته.
وأما الخوف المذكور في آية النحل فقد ذكر جل وعلا مثله عن أهل مكة أيضاً على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ ﴾ [ الرعد : ٣١ ]، فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صاحب الدر المنثور : أخرج الفريابي وابن جرير، وابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :﴿ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ " قَالَ : السرايا ﴾. وأخرج الطيالسي وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :«﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ [ الرعد : ٣١ ]، قال : سرية، ﴿ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ ﴾ [ الرعد : ٣١ ] قال : أنت يا محمد ﴿ حَتَّى يَأْتِي وَعْدُ اللَّهِ ﴾[ الرعد : ٣١ ] قال فتح مكة ». وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد رضي الله عنه في قوله «﴿ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ قال : سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ أَوْ تَحُلُّ ﴾ يا محمد ﴿ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ ﴾ ». وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد رضي الله عنه قال :«﴿ لَّخَبِيرٌ الْقَارِعَةُ ﴾ السرايا ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ ﴾، قال : الحديبية، ﴿ حَتَّى يَأْتِي وَعْدُ اللَّهِ ﴾ قال : فتح مكة ». وأخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه في قوله :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية نزلت بالمدينة في سرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم. أو تحل أنت يا محمد قريباً من دراهم اه محل الغرض منه.
فهذا التفسير المذكور في آية ( الرعد ) هذه، والتفسير المذكور قبله في آية ( الدخان ) يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف. كما قال في القرية المذكورة :﴿ كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾.
وقوله في القرية المذكورة :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ ﴾ الآية لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة ؛ كقوله :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] الآية، وقوله :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] الآية.
والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جداً. كقوله :﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ] ﴿ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءَالِهَتِكُمْ ﴾ [ ص : ٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾ [ الفرقان : ٤١-٤٢ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال : إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلاً في آية ( النحل )، هذه : هي مكة. وروي عن حفصة وغيرها :«أنها المدينة، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان رضي الله عنه ». وقال بعض العلماء : هي قرية غير معينة، ضربها الله مثلاً للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق، بالكفر والطغيان. وقال من قال بهذا القول : إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً ﴾ الآية.
قال مقيدة عفا الله عنه : وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان ؛ لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة. ولكن الأمثال ل
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه، مما شرع لهم عمرو بن لحي ( لعنه الله ) من تحريم ما أحل الله.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة ؛ كقوله :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥٠ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس : ٥٩ ]، وقوله :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٠ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَا في بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٨ ] الآية. وقوله :﴿ حِجْرٍ ﴾، أي : حرام، إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم.
وفي قوله :﴿ الْكَذِبَ ﴾، أوجه من الإعراب :
أحدهما : أنه منصوب ب ﴿ تَقُولُواْ ﴾، أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة ؛ كما ذكر في الآيات المذكورة آنفاً من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل. واللام مثلها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله : هو حرام. وكقوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٤ ] الآية. وجملة ﴿ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ﴾، بدل من ﴿ الْكَذِبَ ﴾، وقيل : إن الجملة المذكورة في محل نصب ؛ ﴿ تَصِفُ ﴾، بتضمينها معنى تقول ؛ أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام. وقيل :﴿ الْكَذِبَ ﴾، مفعول به ل ﴿ تَصِفُ ﴾. و﴿ مَا ﴾مصدرية، وجملة :﴿ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ﴾، متعلقة ب ﴿ لاَ تَقُولُواْ ﴾، أي : لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لو صف ألسنتكم الكذب ؛ أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم، ويجول في أفواهكم. لا لأجل حجة وبينة قاله صاحب الكشاف. وقيل :﴿ الْكَذِبَ ﴾، بدل من هاء المفعول المحذوفة ؛ أي : لما تصفه ألسنتكم الكذب.
تنبيه :
كان السّلف الصالح رضي الله عنهم يتورعون عن قولهم : هذا حلال وهذا حرام ؛ خوفاً من هذه الآيات.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال الدارمي أبو محمد في مسنده : أخبرنا هارون، عن حفص، عن الأعمش قال :«ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون، وكانوا يستحبون ».
وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. انتهى.
وقال الزمخشري : واللام في قوله :﴿ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾، من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض اه. وكثير من العلماء يقولون : هي لام العاقبة. والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به علة غائية. كقوله :﴿ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ﴾ [ القصص : ٨ ] الآية، وقوله هنا :﴿ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾، أن في ذلك استعارة تبعية في معنى الحرف.
قال مقيده عفا الله عنه : بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية. فمن أساليبها : الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية ؛ كقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [ الحديد : ٢٥ ] الآية. ومن أساليبها الإتيان باللاّم للدلالة على ترتب أمر على أمر ؛ كترتب المعلول على علته الغائية. وهذا الأخير كقوله :﴿ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ ؛ لأن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدواً، بل ليكون لهم قرة عين. كما قالت امرأة فرعون :﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ [ القصص : ٩ ]، ولكن لما كان كونه عدواً لهم وحزناً يترتب على التقاطهم له ؛ كترتب المعلول على علته الغائية عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة. وهذا أسلوب عربي، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : إن الذين يفترون عليه الكذب أي : يختلقونه عليه كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه. ودعواهم له الشركاء والأولاد لا يفلحون ؛ لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعاً قليلاً لا أهمية له، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم، الشديد المؤلم.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في يونس :﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون َمَتَاعٌ في الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٦٩-٧٠ ]، وقوله :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ بلقمان : ٢٤ ]، وقوله :﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله :﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾، خبر مبتدإ محذوف ؛ أي : متاعهم في الدنيا متاع قليل. وقال الزمخشري : منفعتهم في الدنيا متاع قليل. وقوله :﴿ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾، أي : لا ينالون الفلاح، وهو يطلق على معنيين : أحدهما : الفوز بالمطلوب الأكبر. والثاني : البقاء السرمدي ؛ كما تقدم بشواهده.
هذا المحرم عليهم، المقصوص عليه من قبل المحال عليه هنا هو المذكور في ( سورة الأنعام ) في قوله :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ].
وجملة المحرمات عليهم في هذه الآية الكريمة ظاهرة، وهو كل ذي ظفر : كالنعامة والبعير، والشحم الخالص من البقر والغنم ( وهو الثروب ) وشحم الكلى. أما الشّحم الذي على الظهر، والذي في الحوايا وهي الأمعاء، والمختلط بعظم كلحم الذنب وغيره من الشحوم المختلطة بالعظام فهو حلال لهم ؛ كما هو واضح من الآية الكريمة.
أثنى الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصَّلاة والسلام : بأنه أمة، أي : إمام مقتدى به، يعلم الناس الخير. كما قال تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وأنه قانت لله، أي : مطيع له. وأنه لم يكن من المشركين، وأنه شاكر لأنعم الله، وأن الله اجتباه، أي اختاره واصطفاه. وأنه هداه إلى صراط مستقيم.
وكرر هذا الثناء عليه في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ]، وقوله :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٥١ ]، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ]، وقوله عنه :﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٩ ]، وقوله :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٨٣-٨٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في الثناء عليه.
وقد قدمنا معاني «الأمة » في القرآن.
أثنى الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصَّلاة والسلام : بأنه أمة، أي : إمام مقتدى به، يعلم الناس الخير. كما قال تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وأنه قانت لله، أي : مطيع له. وأنه لم يكن من المشركين، وأنه شاكر لأنعم الله، وأن الله اجتباه، أي اختاره واصطفاه. وأنه هداه إلى صراط مستقيم.
وكرر هذا الثناء عليه في مواضع أخر، كقوله :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ]، وقوله :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٥١ ]، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ]، وقوله عنه :﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٧٩ ]، وقوله :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٨٣-٨٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في الثناء عليه.
وقد قدمنا معاني «الأمة » في القرآن.
قال بعض العلماء : الحسنة التي آتاه الله في الدنيا : الذرية الطيبة، والثناء الحسن. ويُستأنس لهذا بأن الله بين أنه أعطاه بسبب إخلاصه لله، واعتزاله أهل الشرك : الذرية الطيبة. وأشار أيضاً لأنه جعل له ثناءً حسناً باقياً في الدنيا ؛ قال تعالى :﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٩-٥٠ ]، وقال :﴿ وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٧ ]، وقال :﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨٤ ].
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أوحى إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم الأمر باتباع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
وبين هذا أيضاً في غير هذا الموضع كقوله :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ]، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، إلى قوله :﴿ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بحبل الله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ﴾ [ الحج : ٧٨ ] الآية، وقوله :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والملة : الشريعة. والحنيف : المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. وأصله من الحنف : وهو اعوجاج الرجلين ؛ يقال : برجله حنف، أي : اعوجاج. ومنه قول أم الأحنف بن قيس ترقصه وهو صبي :
والله لولا حنف برجله | ما كان في فتيانكم من مثله |
ما كان جزء ما له أضيفا | أو مثل جزئه فلا تحيفا |
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يجادل خصومه بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة : من إيضاح الحق بالرفق واللين. وعن مجاهد :﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ ﴾، قال : أعرض عن أذاهم. وقد أشار إلى هذا المعنى في قوله :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ]، أي : إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجادلهم بالسيف حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ونظير ما ذكر هنا من المجادلة بالتي هي أحسن : قوله لموسى وهارون في شأن فرعون :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [ طه : ٤٤ ]. ومن ذلك القول اللين : قول موسى له :﴿ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [ النازعات : ١٨-١٩ ].
قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أعلم بمن ضل عن سبيله ؛ أي : زاغ عن طريق الصواب والحق، إلى طريق الكفر والضلال.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله ( في أول القلم ) :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ القلم : ٧-٨ ]، وقوله ( في الأنعام ) :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ بالأنعام : ١١٧ ]، وقوله ( في النجم ) :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ [ النجم : ٣٠ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
والظاهر أن صيغة التفضيل التي هي :﴿ أَعْلَمُ ﴾، في هذه الآيات يراد بها مطلق الوصف لا التفضيل ؛ لأن الله لا يشاركه أحد في علم ما يصير إليه خلقه من شقاوة وسعادة ؛ فهي كقول الشنفرى :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن | بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل |
إن الذي سمك السماء بنى لنا | بيتاً دعائمه أعز وأطول |
نزلت هذه الآية الكريمة من سورة النحل بالمدينة، في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أحد. فقال المسلمون : لئن أظفرنا الله بهم لنمثلن بهم ؛ فنزلت الآية الكريمة، فصبروا لقوله تعالى :﴿ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾، مع أن سورة النحل مكية، إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها. والآية فيها جواز الانتقام والإرشاد إلى أفضلية العفو. وقد ذكر تعالى هذا المعنى في القرآن ؛ كقوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ الشورى : ٤١ ] إلى قوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾ [ الشورى : ٤٣ ]، وقوله :﴿ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾، إلى قوله :﴿ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٤٩ ] كما قدمنا.
مسائل
بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : يؤخذ من هذه الآية حكم مسألة الظفر، وهي أنك إن ظلمك إنسان : بأن أخذ شيئاً من مالك بغير الوجه الشرعي ولم يمكن لك إثباته، وقدرت له على مثل ما ظلمك به على وجه تأمن معه الفضيحة والعقوبة ؛ فهل لك أن تأخذ قدر حقك أو لا ؟
أصح القولين، وأجراهما على ظواهر النصوص وعلى القياس : أن لك أن تأخذ قدر حقك من غير زيادة. لقوله تعالى في هذه الآية :﴿ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ].
وممن قال بهذا القول : ابن سيرين وإبراهيم النخعي، وسفيان ومجاهد، وغيرهم.
وقالت طائفة من العلماء منهم مالك : لا يجوز ذلك ؛ وعليه درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله في الوديعة : وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها.
واحتج من قال بهذا القول بحديث :«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك. ولا تخن من خانك » اه. وهذا الحديث على فرض صحته لا ينهض الاستدلال به ؛ لأن من أخذ قدر حقه ولم يزد عليه لم يخن من خانه، وإنما أنصف نفسه ممن ظلمه.
المسألة الثانية : أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة المماثلة في القصاص. فمن قتل بحديدة قُتل بها، ومن قتل بحجر قُتل به. ويؤيده «رضه صلى الله عليه وسلم رأس يهودي بين حجرين قصاصاً لجارية فعل بها مثل ذلك ».
وهذا قول أكثر أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه، زاعماً أن القتل بغير المحدد شبه عمد، لا عمد صريح حتى يجب فيه القصاص. وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح في سورة الإسراء.
المسألة الثالثة : أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة اسم العقوبة على الجناية الأولى في قوله :﴿ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، والجناية الأولى ليست عقوبة ؛ لأن القرآن بلسان عربي مبين. ومن أساليب اللغة العربية المشاكلة بين الألفاظ ؛ فيؤدي لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام. كقول الشاعر :
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه | قلت اطبخوا لي جبةً وقميصا |
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها | فمن لحاجة هذا الأرمل الذَّكر |
ونظير الآية الكريمة في إطلاق إحدى العقوبتين على ابتداء الفعل مشاكلة للفظ الآخر قوله تعالى :﴿ ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ﴾ [ الحج : ٦٠ ] الآية، ونحوه أيضاً.
قوله :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، مع أن القصاص ليس بسيئة وقوله :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] الآية ؛ لأن القصاص من المعتدي أيضاً ليس باعتداء كما هو ظاهر، وإنما أدى بغير لفظه للمشاكلة بين اللفظين.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالصبر، وأنه لا يمتثل ذلك الأمر بالصبر إلا بإعانة الله وتوفيقه ؛ لقوله :﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ﴾، وأشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٥ ]، لأن قوله :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ ﴾ الآية، معناه أن خصلة الصبر لا يلقاها إلا من كان له عند الله الحظ الأكبر والنصيب الأوفر، بفضل الله عليه، وتيسر ذلك له.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه مع عباده المتقين المحسنين. وقد تقدم إيضاح معنى التقوى والإحسان.
وهذه المعية بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنَّصر والتوفيق. وكرر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله :﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [ طه : ٤٦ ]، وقوله :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ [ الأنفال : ١٢ ]، وقوله :﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [ التوبة : ٤٠ ] وقوله :﴿ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٦٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا : فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبّة خردل، وهذه هي المذكورة أيضاً في آيات كثيرة ؛ كقوله :﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [ الحديد : ٤ ] الآية، وقوله :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧ ]، وقوله :﴿ وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [ يونس : ٦١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
فهو جل وعلا مستو على عرشه كما قال، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.