تفسير سورة النحل

جهود الإمام الغزالي في التفسير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب جهود الإمام الغزالي في التفسير .
لمؤلفه أبو حامد الغزالي . المتوفي سنة 505 هـ

﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾.
٥٩٠- إن انهمكت النفس في الشبهات وغرقت في بحر الظلمات، واخترقت نيران الشهوات، تحرج من الدنيا بغير زاد، وتقدم على الله بغير حجة، وتكون كما أخبر الله بقوله :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾. [ المعارف العقلية : ٤٠ ].
﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾.
٥٩١- قوله الله تعالى لا يشابه قولنا باستدعاء الآلة واحتياج المدة، ولكنه مفيد لذوي الألباب وأصحاب الحاجات، فأقاويله هي أصول الكتابات، كما قال الله عز وجل :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ [ نفسه : ٦٥ ].
٥٩٢- إن ظاهره ممتنع إذ قوله ﴿ كن ﴾ إن كان خطابا للشيء قبل وجوده فهو محال، إذ المعدوم لا يفهم الخطاب حتى يمثل، وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم عناية الاقتدار عدل إليها، وأما المدرك بالشرع، فهو أن يكون إجراؤه على الظاهر ممكنا، ولكنه يروى أنه أريد به غير الظاهر [ الإحياء : ١/١٢٢ ].
﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾.
٥٩٣- المراد به أمر العوام بسؤال العلماء، إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فمن هو من أهل العلم مسؤول وليس بسائل، ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه، إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره.
الثاني : أن معناه : سلوا، أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم، كما يقال : كل لتشبع واشرب لتروى. [ المستصفى : ٢/٣٨٥ ].
٥٩٤- قيل للجاهل :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ [ إلجام العوام عن علم الكلام ضمن المجموعة رقم ٤ ص : ٦٦ ].
٥٩٥- ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ فاعلم أن هذا ليس مناقضا لمنع موسى من السؤال ولا لما ذكرناه١، لأن :
النهي هو منع عن طلب ما لم يبلغ إلى حد يدركه، فإذا منعه المعلم من السؤال عنه فليمتنع.
والأمر هو حث على معرفة تفصيل ما تقتضيه رتبته من العلم. [ ميزان العمل : ٣٤٦ ].
٥٩٦- فإن قلت : فقد قال الله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ فالسؤال من مأمور به ؟ فاعلم أنه كذلك، ولكن فيما يأذن المعلم من السؤال عنه فإن السؤال عما لم تبلغه مرتبتك إلى فهمه مذموم، ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال، أي دع السؤال قبل أوانه، فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف.
وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراتب الدرجات لا يدخل أو السؤال عنه، وقد قال علي رضي الله عنه : إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذه بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرا، ولا تعتابن أحدا عنده ولا تطلب عثرته، إن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى، ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته. [ الإحياء : ١/٦٤ ].
١ - قال الإمام الغزالي : "مهما أشار المعلم في طريق التعلم بما يراه المتعلم عين الخطأ ويعتقده قطعا، فليتهم نفسه وليصبر، وليتبع معلمه، فإن خطأ معلمه خير من صواب نفسه، كسالك الطريق يكون قد استفاد بالتجربة ما يتعجب المتبدئ منه.
وعلى هذا نبه الله تعالى في قصة الخضر مع موسى فقال: ﴿هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا﴾ [الكهف: ٦٥] إلى قوله: ﴿فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾، ثم لم يصبر وراجعه، وراده إلى أن قال: ﴿هذا فراق بيني وبينك﴾ [الكهف: ٧٧] ثم نبه على أسرار ما استبعده كما ورد به القرآن، فعرف الله موسى أن المعلم يعلم ما لا ينتهي إليه عقل المتعلم ووهمه.
وبالجملة: فكل متعلم لم يتبع مراسم معلمه في طريق التعلم فاحكم عليه بالإخفاق وقلة النجح. "ميزان العمل: ٣٤٥-٣٤٦ "..

﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾.
٥٩٧ الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين :
أحدهما : نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل، يعني الأعلى من جانب رأس الأسفل، وقد يطلق لفوقية الرتبة، وبهذا يقال : الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير، كما يقال : الحلم فوق العلم، والأول يستدعي جسما ينسب إلى جسم.
والثاني : لا يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعا أن الأول غير مراد وأنه على الله تعالى محال، فإنه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام، وإذا عرف نفي هذا المحال فلا عليه إن لم يعرف أنه لذا أطلق ؟ وماذا أريد ؟ فقس على ما ذكرناه ما لم نذكره. [ إلجام العوام عن علم الكلام ضمن المجموعة : رقم ٤ ص : ٦٥ ].
٥٩٨- تأويل لفظ الفوق بالعلو المعنوي الذي هو المراد بقولنا : السلطان فوق الوزير فإنا لا نشك في ثبوت معناه لله تعالى، لكنا ربما نتردد في أن لفظ الفوق في قوله :﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ هل أريد به العلو المعنوي ؟ أم أريد به معنى آخر يليق بجلال الله تعالى دون العلو بالمكان الذي هو محال على ما ليس بجسم ولا هو صفة في جسم ؟ [ نفسه : ٧٣ ].
﴿ ولهم ما يشتهون ﴾.
٥٩٩- هذا أجمع عبارة لمعاني لذات الجنة. [ الإحياء : ٤/٥٢٨ وكتاب الأربعين في أصول الدين : ٢١٠ ].
﴿ ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ﴾.
٦٠٠- ذم الله تعالى قوما جعلوا لله ما يكرهون، فقال تعالى :﴿ ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا ﴾، وقف بعض القراء على النفي تكذيبا لهم، ثم ابتدأ وقال :﴿ جرم أن لهم النار ﴾، أي : كسب لهم، جعلهم لله ما يكرهون النار. [ الإحياء : ١/٢٥٨ ].
﴿ من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ﴾.
٦٠١- خلوص اللبن : ألا يكون فيه شوب من الدم والفرث، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به. [ الإحياء : ٤/٤٠٠ ].
﴿ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ﴾.
٦٠٢- أراد به النفقة مما رزق. [ نفسه : ١/٣٤٥ ].
﴿ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ﴾. ٦٠٣- أي : الأمر بالعدل والاستقامة. [ نفسه : ١/٣٤٥ ].
﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ﴾.
٦٠٤- الطاعات تنقسم إلى فرض ونفل، وهو محتاج إلى الصبر عليهم جميعا، وقد جمعهما الله تعالى في قوله :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ﴾ فالعدل هو الفرض، والإحسان هو النفل، وإيتاء ذي القربى : هو المروءة وصلة الرحم، وكل ذلك يحتاج إلى صبر. [ نفسه : ٤/٧٤ ].
﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ﴾.
٦٠٥- قال كثير من المفسرين : الحياة الطيبة في الدنيا : القناعة. [ روضة الطالبين وعمدة السالكين ضمن المجموعة رقم ٢ ص : ١١٨ ].
٦٠٦- وفي بعض التفاسير في قوله تعالى :﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾، قال : الزوجة الصالحة. [ الإحياء : ٢/٣٥ ].
﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ﴾.
٦٠٧- التبديل : يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما تلاوة وإما حكم، وكيف ما كان فهو رفع ونسخ.
فإن قيل : ليس المعني به رفع المنزل، فإن ما أنزل الله لا يمكن رفعه وتبديله، لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال الآية بدل ما لم ينزل، فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل.
قلنا : هذا تعسف بارد، فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدّلا ؟ والبدل يستدعي مبدلا، وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال، فهذا هوس وسخف. [ المستصفى : ١/١١١ ].
﴿ إنما يشتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾.
٦٠٨- عن عبد الله بن جراد١ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله هل يزني المؤمن ؟ قال :( قد يكون ذلك )، قال : يا نبي الله هل يكذب المؤمن ؟ قال : " لا "، ثم اتبعها صلى الله تعالى وآله وسلم بقوله تعالى :﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾ " ٢. [ الإحياء : ٣/١٤٤ وكتاب الأربعين في أصول الدين ٨٤، مع زيادة " أيسرق المؤمن " ؟
١ - هو عبد الله بن جراد الخفاجي، وقيل : عبد الله بن جراد المنتفق بن عامر بن عقيل العامري العقيلي. قال البخاري: له صحبة. روى عنه يعلى بن الأشدق أحد الضعفاء وأبو قتادة الشامي؛ راو وثقة ابن حبان. عداده في أهل الطائف. ن. الإصابة: ٤/٤٧ وأسد الغابة: ٣/ ٩٣ والإتحاف: ٩/ ٢٥١..
٢ - قال العراقي: رواه بن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف. ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت مقتصرا على الكذب، وجعل السائل أبا الدرداء، ولفظه: قال أبو الدرداء يا رسول الله هل يكذب المؤمن؟ قال [[لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر من حدث فكذب]] ن. التمهيد: ١٦/ ٢٥٥ والمغني: ٣/١٤٤ والإتحاف: ٩/٢٥١..
﴿ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ﴾.
٦٠٩- أي : ركنوا إليها. [ التبر المسبوك في نصيحة الملوك : ٣٩ ].
﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾.
٦١٠- قد جاء في الخبر أن رجل من المجرمين يوقف بين يدي الله تعالى فيقول له : يا عبد السوء كنت مجرما عاصيا، فيقول : ما فعلت ؟ فيقال له : عليك بينة، فيؤتى بحفظته فيقول : كذبوا علي، ويجادل على نفسه وهو قوله تعالى :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾. [ الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة ضمن المجموعة : رقم ٦ ص : ١٣٢ ].
﴿ شاكرا لأنعمه ﴾.
٦١١- قال في إبراهيم :﴿ شاكرا لأنعمه ﴾، ولأنه في منزلة الإنعام والعافية، ولذلك قيل : لأن أنعم فأشكر أحب إلي من أن أبتلي فأصبر. [ منهاج العابدين : ٣٢٣ ].
﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾.
٦١٢- فوجب بما أوحى إليه لا بما أوحي إلى غيره، وقوله :﴿ أن اتبع ﴾، أي : افعل مثل فعله، وليس معناه : كن متبعا له وواحدا من أمته، كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع، ولذلك قال تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾١ ولا يجوز تسفيه الأنبياء المخالفين له، ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم، وكيف يبحث مع اندراس كتابه وإسناد أخباره. [ المستصفى : ١/٢٥٦ ].
١ - البقرة: ١٢٩..
﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾.
٦١٣- المدعو بالحكمة إلى الحق قوم، وبالموعظة الحسنة قوم آخرون، وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون على ما فصلنا أقسامهم في كتاب " القسطاس المستقيم " ١. [ إلجام العوام عن علم الكلام ضمن المجموعة رقم ٤ ص : ١٣٠ ].
٦١٤- إن المدعو إلى الله تعالى بالحكمة قوم وبالموعظة قوم والمجادلة قوم ؛ فإن الحكمة إن غذي بها أهل الموعظة أضرت بهم كما تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم الطير، وإن المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئز طبع الرجل القوي من الارتضاع بلبن الآدمي، وإن من استعمل الجدال مع أهل الجدال لا بالطريق الأحسن كما تعلم من القرآن، كان كمن غذى البدوي بخبز البر وهو لم يألف إلا التمر أو البلدي بالتمر، وهو لم يألف إلا البر، وليته كانت له أسوة حسنة كما تعلم من القرآن في إبراهيم الخليل- صلوات الله عليه- حيث حاج خصمه فقال :
﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾، فلما رأى ذلك لا يناسبه، وليس عنده حين قال :﴿ أنا أحيي وأميت ﴾، عدل إلى الأوفق لطبعه والأقرب إلى فهمه فقال :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾٢. [ القسطاس المستقيم ضمن المجموعة رقم ٣ ص : ٦-٧ ].
١ - ن النص الذي بعده..
٢ - البقرة : ٢٥٨..
﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾.
٦١٥- مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره، فقال تعالى :﴿ إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾ [ الإحياء : ٤/٧٥ ].
Icon