تفسير سورة النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة النحل من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة النحل
مكية، إلا قوله :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به. . . ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] الآية، نزلت في غزوة أحد. وهي مائة وثمان وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله :﴿ حتى يأتيك اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٩ ] ؛ وهو الموت وما بعده من البعث والحساب.

وهو أمر الله أشار إليه بقوله : بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أتى أمرُ الله ﴾ أي : البعث والحساب. وعبّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه، أو : ثبت أمره وقضاؤه، وقد جفّ القلم بما يكون لا عن سؤال واستعجال، وتدبير من الخلق، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه، ولذلك نزّه نفسه بقوله :﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾. أو : إهلاك الله إياهم يوم بدر، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة، وإهلاكهم ونصره عليهم، استهزاء وتكذيباً ؛ ولذلك قال :﴿ فلا تستعجلوه ﴾، والمعنى : أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي، لتحقّق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع ؛ فلا تستعجلوا وقوعه، فإنه لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه.
ورُوِيَ لمّا نزل قوله :﴿ أتى أمر الله ﴾، وثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ورفع الناس رؤوسهم، فلما قال :﴿ فلا تستعجلوه ﴾، سكن. وكان المشركون يقولون : إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا، فقال تعالى :﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ أي : تنزه وجلَّ عن أن يكون له شريك، فيدفع ما أراد بهم. ه.
وقرأ الأخوان بالخطاب، على وفق قوله :﴿ فلا تستعجلوه ﴾، والباقون بالغيب، على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أي : أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون. أو : لهم ولغيرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أشرق نورُ اليقين في صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد الله به من أمر الغيوب، فصار الماضي آتياً، والمستقبل واقعًا. وفي الحكم :" لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا وكسفةُ الفناء ظاهرةٌ عليها ". وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع، واجبة الحصول، ينتظرون وقوعها في مواقيتها، شيئًا فشيئًا، ويتلقونها بالمعرفة والأدب ؛ فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر، هكذا نظرهم دائمًا إلى ما يبرز من عنصر القدرة، ليس لهم وقت دون ما هم فيه، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره، ولا يشركون مع الله في تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين، فهم، في عموم أوقاتهم، مستغرقون في شهود المحبوب، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب، سوى شهود وجه المحبوب، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.
وسبب وجود هذا في قلوبهم حياة روحهم بالإيمان التام، والمعرفة الكاملة، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلاائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوااْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ ﴾
قلت :﴿ أن أنذروا ﴾ : مفسرة، بمعنى أي ؛ لأن الوحي فيه معنى القول. أو مصدرية في موضع الجر، بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض، أو مخففة من الثقيلة. وقوله :﴿ لا إله إلا أنا ﴾ جرى على المعنى، ولم يجر على اللفظ، وإلا لقال : لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسي : وسر ذلك هنا : التصريح بالمقصود، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره، كما قيل في قوله :
﴿ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [ النّحل : ٥١ ]، أي : ولم يقل : فإياه فارهبوا، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم ؛ مبالغة في الترهيب، وتصريحًا بالمقصود، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون لا غير. ه.
قلت : وكأنه قال هنا : يُنزل الملائكةَ بالوحي أن أَعلِموا أنه لا يُعبد إلا إله واحد، وأنا ذلك الواحد.
يقول الحقّ جلّ جلاله : تحقيقًا لِمَا وعدهم به، وأن ذلك الوعد، مع دنوه وقربه بالوحي، فلا خلف فيه، فقال :﴿ يُنَزِّلُ الملائكةَ ﴾ أي : جبريل، جمعه ؛ تعظيمًا، أو : لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة، فيحضرون الوحي ؛ حُرّسا له. أو : لأنه قد ينزل بالوحي غيره من الملائكة، كما في صحيح مسلم :" إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك " ١ وقال عليه الصلاة والسلام :" إن إسرافيل وُكِّلَ بي في ثلاث سنين، فكان يأتيني بالكلمة والكلمتين، ثم كان جبريل يأتيني بالقرآن في كل وقت ". ورُوي أن خالد بن سنان كان نبيًا، وكان يأتيه بالوحي مالك خازن النار، وكان بعد عيسى عليه السلام، ولم يبق في النبوة إلا عشرين يومًا، ثم مات، فلقصر مدته لم يُعد نبيًا، بعد عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك، يقال له : رفائيل، فكان يلقي إليه الوحي، ويطوي له الأرض. هكذا نقل الشطيبي عنه في اللباب، فانظره.
وقوله :﴿ بالروح ﴾ أي : بالوحي، أو القرآن ؛ فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر ؛ فإن الوحي يقوم في الدين مقام الروح من الجسد. يُنزل ذلك ﴿ من أمره ﴾ أي : من أجل أمره وبيان شأنه، أو بأمره وإذنه، ﴿ على مَن يشاء من عباده ﴾ أن يصطفيه للرسالة، قائلاً لهم :﴿ أنْ أنذروا ﴾ : خوفوا أهل الشرك، أو أعْلِموا عبادي ﴿ أنه ﴾ أي : الأمر والشأن، ﴿ لا إله إلا أنا فاتقون ﴾ ؛ بترك الكفر والمعاصي، أي : اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، بأن تُوحدوه، وتطيعوه فيما أمر به.
قال البيضاوي : والآية تدل على أن نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأن حاصله : التنبيه على التوحيد، الذي هو القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية.
وأن النبوة عطائية - أي : لا كسبية-، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه، على وفق الحكمة والمصلحة، ولو كان له شريك لقَدَرَ على ذلك، فيلزم التمانع. ه.
الإشارة : قوله تعالى :﴿ بالروح ﴾ : قال الورتجبي : الوحي الإلهي، سماه بالروح ؛ لأن كلامه صدر من ذاته، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلَّمين والمحدَّثين، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. ه.
وقال القشيري في قوله :﴿ على مَن يشاء من عباده ﴾ : على الأنبياء بالوحي والرسالة، وعلى أسرار أرباب التوحيد، وهم المُحَدَّثُون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر، أي : الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوعٍ، ولكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك، ولا يَحْمِلون الرسالة إلى الخلق. ه.
قلت : وكأنه ينظر إلى قوله - عليه الصلاة والسلام - :" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "، فهم يشاركون الأنبياء في الوحي الإلهامي، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم في طريقهم. والله تعالى أعلم.
١ أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٢٥٤..
ثم عرف بنفسه، بما أظهر من تجلياته العلوية والسفلية، فقال :
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ * ﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ * ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ * ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
قلت :﴿ والأنعام ﴾ : منصوب بمحذوف، يفسره :﴿ خَلَقَها ﴾، أو معطوف على " الإنسان " و﴿ خلقها لكم ﴾ : بيان لما خُلقتُ لأجله، وما بعده تفصيل له. و﴿ منها تأكلون ﴾ : إنما قدَّم المعمول ؛ للمحافظة على رؤوس الآي، أو : لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه. قاله البيضاوي. قلت : ولعله، عند مالك، للاختصاص، أي : منها تأكلون لا من غيرها ؛ إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
وقوله :﴿ لكم ﴾ : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها، ويختلف الوقف باختلاف ذلك.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ خلق السماوات والأرض ﴾ : أوجدهما ﴿ بالحق ﴾ أي : ملتبسًا بالحق ؛ لتدل على وحدانية الحق، وكمال قدرته وباهر حكمته، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص، وشكل بديع، وأوضاع مختلفة، وهيئات متعددة. أو : خلقهما بقضائه وتدبيره الحق، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير، ولذلك نزه نفسه بقوله :﴿ تعالى عمّا يشركون ﴾، كما نزه نفسه، ابتداءً، لَمَّا نفَى الاستعجال ؛ لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم، وفي معناه : تنزيل الوحي على ما يشاء لا على ما يشاء غيره ؛ لانفراده أيضًا في ملكه. وفي إبرازه ذلك، على ما يخالف آراء الخلق، أدل دليل على وحدانيته في ملكه، وإنما وضع كل شيء ودبره ؛ دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

ثم شفع بخلق الإنسان فقال :﴿ خلق الإنسان ﴾ أي : جنسه ﴿ من نُطفة ﴾ : من ماء مهين يخرج من مكان مهين، ﴿ فإذا هو خصيم مبين ﴾ : مجادل، كثير الجدل والخصام، مبين لحجته، أو : خصيم : مكافح لخالقه، قائل :﴿ مَن يحيي العظام وهي رميم ﴾. رُوي أن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم، فقال : يا محمد، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ ؟ فقال :" نعم " فنزلت. فعلى الأول : تكون الآية عامة لكل إنسان، وعلى الثاني : خاصة بالكافر. والأول أظهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد، فقال :﴿ والأنعامَ ﴾ وهي : الإبل والبقر والغنم، ﴿ خلقها ﴾ : أوجدها ﴿ لكم فيها دِفءٌ ﴾ ؛ ما يُدْفأُ به فيقي البرد، يعني : ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، ﴿ و ﴾ لكم فيها أيضًا ﴿ منافعُ ﴾ أُخر ؛ كنسلها وظهورها. وإنما عبَّر بالمنافع ؛ ليتناول عِوضها. ﴿ ومنها تأكلون ﴾ أي : تأكلون ما يؤكل منها ؛ من اللحوم والشحوم والألبان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

﴿ ولكم فيها جَمَالٌ ﴾ أي : زينة وبهجة ﴿ حين تُريحون ﴾ ؛ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي، ﴿ وحين تسرحون ﴾ ؛ تخرجونها إلى المرعى بالغداة ؛ فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها. وقدَّم الإراحة ؛ لأن الجمال فيها أظهر ؛ لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

قلت :﴿ إلا بشق ﴾ : فيه لغتان : الكسر والفتح، بمعنى التعب والكلفة، وقيل : المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه، أي : صَعُبَ، والمكسور بمعنى : النصف، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب.
﴿ وتحمل أثقالكم ﴾ : أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها ﴿ إلى بلدٍ ﴾ بعيد، ﴿ لم تكونوا بالغيه ﴾ عليها، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم، ﴿ إلا بِشِقِّ الأنفس ﴾ ؛ إلا بكلفة ومشقة فديحة، أو : إلا بذهاب شِقها، أي : نصف قوتها من التعب. ﴿ إن ربكم لرؤوف رحيم ﴾ ؛ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل، والركوب عليها، وأنعم عليكم بالكل من لحومها وألبانها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

قلت :﴿ والخيل ﴾ : عطف على " الأنعام ". و ﴿ زينة ﴾ : مفعول من أجله، عطف على موضع " لتركبوها " : أي : للركوب والزينة، أو مفعول مطلق، أي : لتتزينوا بها زينة.
﴿ و ﴾ خلق لكم ﴿ الخيلَ والبغال والحميرَ لتركبوها ﴾، ﴿ و ﴾ تتزينوا بها ﴿ زينةً ﴾، أو للركوب والزينة. قال البيضاوي : وتغيير النظم - أي : حيث لم يقل : وللزينة - ؛ لأن الزينة بفعل الخالق، والركوب من فعل المخلوق - أي : باعتبار الحكمة -، ولأن المقصود خلقها للركوب، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ. وقرئ بغير واو، فيحتمل أن يكون علة لركوبها، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير، أي : متزينين، أو متزينًا بها. واستُدِلَّ به على حرمة لحومها، ولا دليل فيه ؛ إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه، غالبًا، ألا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. ه. ﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾ مما لا يُحيط البشرُ بعلمها ؛ من عجائب المخلوقات، وضروب المصنوعات، مما يؤكل ومما لا يؤكل، وما خلق في الجنة والنار، مما لا يخطر على قلب بشر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

﴿ وعلى الله قصدُ السبيل ﴾ أي : وعلى الله بيان السبيل القصد، أي : الطريق الموصل إلى المقصود. أو : على الله تقويم طريق الهدى ؛ بنصب الأدلة وبعث الرسل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي : السبيل القصد، أي : القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب ؛ كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل : الجنس، ولذلك أضاف إليه المقصد، وقال :﴿ ومنها جائرٌ ﴾ عن القصد، أو عن الله، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق، يُذكر ويؤنث، وأُنِّثَ هنا. وتغيير الأسلوب - أي : حيث لم يقل : قصد السبيل والجائر - ؛ لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة، ولأن المقصود، بالأصالة، بيان سبيله، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. ﴿ ولو شاء لهداكم أجمعين ﴾ أي : ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله في ملكه.
فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال :" يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله ". والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله :﴿ وعلى الله قصد السبيل ﴾ : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ [ التّوبَة : ٧٢ ]. فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.

ثم ذكر بقية التجليات، فقال :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ * ﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ * ﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ * ﴿ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾
قلت :﴿ لكم منه شراب ﴾ : يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر ﴿ شراب ﴾، أو صفة لماء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ هو الذي أنزل من السماء ﴾ أي : السحاب، أو جانب السماء، ﴿ ماء ﴾ : مطراً ﴿ لكم منه شراب ﴾ تشربونه بلا واسطة، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار ؛ لأنه يُحبس فيها، ثم يشرب منها، لقوله :﴿ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ﴾ [ الزُّمَر : ٢١ ]، وقوله :﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ]، ﴿ ومنه شجرٌ ﴾ أي : ومنه يكون شجر، يعني : الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل : كل ما نبت على الأرض فهو شجر، ﴿ فيه تُسِيمُون ﴾ : ترعون مواشيكم، من أسام الماشية : رعاها، وأصلها : السومة، التي هي العلامة ؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

﴿ يُنبت لكم به الزرعَ ﴾ وقرأ أبو بكر بالنون ؛ على التفخيم، ﴿ والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات ﴾ أي : ومن بعض كل الثمرات ؛ إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي : ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه ؛ لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية - يعني اللحم -، ومن هذا : تقديم الزرع، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. ه.
﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون ﴾، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجر، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع، مع اتحاد المواد، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد، ولعل وصل الآية به ؛ لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

﴿ وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ ﴾ ؛ بأن هيأها لمنافعكم، ﴿ مسخراتٍ بأمره ﴾، أي : مذللات لما يريد منها، وهو حال من الجميع، أي : نفعكم بها حال كونها مسخرات لله، منقادة لحكمه، أو لما خلقن له، ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ أي : لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات، وإنما جمع هنا، دون ما قبله وما بعده ؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر، وهو متحد، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض، وهو متحد في الجنس والهيئة، بخلاف العوالم العلوية، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة.
وقال البيضاوي : جمع الآية وذكر العقل ؛ لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

﴿ وما ذرأ ﴾ أي : وسخر لكم ما ذرأ، فهو عطف على الليل، أي : سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات، ﴿ مختلفاً ألوانه ﴾ ؛ أبيض وأسود، أحمر وأصفر، مع اتحاد المادة، فالماء واحد والزهر ألوان، ﴿ إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون ﴾ ؛ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع، والهيئات والمناظر، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

و﴿ مواخر ﴾ : جمع ماخرة، يقال : مخرت السفينة الماء مخرًا : شقّته، وقيل : المخر : صوت جَرْيِ الفلك في البحر من هبوب الريح. وقيل : معناه : تجيء وتذهب بريح واحدة. و﴿ لتبتغوا ﴾ : عطف على " لتأكلوا ".
﴿ وهو الذي سخَّر البحرَ ﴾ : ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به ؛ بالركوب فيه، والاصطياد، والغوص، ﴿ لتأكلوا منه لحمًا طريًّا ﴾ هو السمك، ووصفة بالطراوة ؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله طريًّا، ولإظهار قدرته في خلقه ؛ عذبًا طريًّا في ماء زُعاق١ أُجاج، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق ؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط للحنث ؛ فالحنث يقع بأدنى شيء، بخلاف البِر، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
﴿ وتستخرجوا منه حِلْيةً ﴾ ؛ كاللؤلؤ والمرجان، ﴿ تلْبسونها ﴾ ؛ يلبسها نساؤكم، وأسند اللباس إليهم ؛ لأن لباس النساء تزين للرجال، فكأنه مقصودٌ لهم، ﴿ وترى الفلك ﴾ : السفن ﴿ مواخر فيه ﴾ ؛ جواري فيه تمخر الماء، أي : تشقه، أو تُصوت من هبوب الريح، ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ : من سعة رزقه ؛ بركوبه للتجارة، أو : وترى الفلك جواري فيه ؛ لتركبوها، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية : فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. ه. ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي : تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر ؛ لأنه أقوى في باب الإنعام ؛ من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.


١ الماء الزعاق: الماء المر الغليظ، الذي لا يطاق شربه..
و﴿ أن تميد ﴾ : مفعول من أجله، أي : كراهة أن تميد بكم. و﴿ أنهارًا وسُبلاً ﴾ : مفعول بمحذوف، أي : وخلق أو وجعل أنهارًا، وقيل : معطوف على " رواسي " ؛ لأن ألقى، فيه معنى الجعل، و﴿ علامات ﴾ : عطف على ﴿ أنهارًا وسبلاً ﴾، أو نصب على المصدر، أي : ألقى ذلك ؛ لعلكم تعتبرون، وعلامات دالة على وحدانيته.
﴿ وألقى في الأرض رواسي ﴾ ؛ جبالاً رواسي أرست الأرض ؛ كراهة ﴿ أن تميد بكم ﴾ ؛ تميل وتضطرب ؛ لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها ؛ بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل : لما خلق الله الأرض جعلت تمور - أي : تتحرك - فقالت الملائكة : ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال. ﴿ وأنهارًا ﴾ أي : وجعل فيها أنهارًا تطرد ؛ لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال ؛ لأن الغالب انفجارها منها، ﴿ وسُبلاً ﴾ أي : وجعل فيها طُرقًا ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

﴿ و ﴾ جعل فيها ﴿ علاماتٍ ﴾ : معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق ؛ من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، ﴿ وبالنجم هم يهتدون ﴾ إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم : الجنس، بدليل قراءة :" وبالنُّجُمِ " ؛ بضمتين ؛ على الجمع.
وقيل : المراد : الثريا، والفرقدان وبنات نعش، والجَدْي. والضمير لقريش ؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير ؛ للتخصيص، كأنه قيل : وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني : قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. ه. وأصله للزمخشري.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :
وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم :" ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار ".

وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا ؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي : سفن الفكرة، فيه مواخر ؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت ؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

ولما ذكر دلائل التوحيد، أنكر على من أشرك بعد هذا البيان، فقال :
﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ * ﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ * ﴿ إِلاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ * ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾
﴿ يقول الحقّ جلّ جلاله ﴾ :﴿ أفمن يَخلُقُ ﴾ كل شيء، ويَقدر على كل شيء، ﴿ كمن لا يَخْلُق ﴾ شيئًا، ولا يقدر على شيء، بل هو أعجز من كل شيء ؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته، وباهر حكمته، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات، وكان حق الكلام : أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنه عكس ؛ تنبيهًا على أنهم، بالإشراك بالله، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة، شبيهًا بها. والمراد بمن لا يخلق، كل ما عُبد من دون الله، وغلب أولي العلم منهم، فعبَّر بمن، أو يريد الأصنام، وأجراها مجرى أولي العلم ؛ لأنهم سموها آلهة، ومن حق الإله أن يعلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. ﴿ أفلا تذكَّرون ﴾ ؛ فتعرفوا فساد ذلك ؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

ولما ذكر أنواعًا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته - وفي ضمنها : تعداد النِعَم على خلقه - أعقبها بقوله :﴿ وإن تعدوا نِعمةَ الله لا تُحصوها ﴾ أي : لا تطيقوا عدها، فضلاً أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله :﴿ إنَّ الله لغفور رحيم ﴾ ؛ تنبيهًا على أن العبد في محل التقصير، لولا أن الله يغفر له تقصيره في أداء شكر نعمه، ويرحمه ببقائها مع تقصيره في شكرها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

﴿ والله يعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون ﴾ من عقائدكم وأعمالكم، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره، سرًا أو علانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى :﴿ والذين تدعون ﴾ أي : والأصنام الذين تعبدونهم ﴿ من دون الله لا يَخْلُقون شيئًا ﴾ ؛ لظهور عجزهم. لَمَّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيَّن أنها لا تخلق شيئًا ؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها ؛ ضرورةً. ثم علل عجزها، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله :﴿ وهم يُخْلقون ﴾ أي : وهم مخلوقون مفتقرون في وجودهم إلى التخليق، والإله لا بدّ أن يكون واجب الوجود.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

قلت :﴿ وما يشعرون أيان يبعثون ﴾، الضمير الأول للأصنام، والثاني للكفار الذين عبدوهم، وقيل : للأصنام فيهما، وقيل : للكفار فيهما.
وهم، أيضًا، ﴿ أمواتٌ غير أحياء ﴾ أي : لم تكن لهم حياة قط، ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة، ثم مات. والإله ينبغي أن يكون حيًا بالذات لا يعتريه الممات. ﴿ وما يشعرون أيّان يُبعثون ﴾ أي : لا يعلمون وقت بعثهم، أو بعثِ عَبَدَتِهِمْ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم، والإله ينبغي أن يكون عالمًا بالغيوب، قادرًا على الجزاء لمن عبده ؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.
قاله البيضاوي.
قال ابنُ جُزَيْ : نفى عن الأصنام صفة الربوبية، وأثبت لهم أضدادها ؛ وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين وقت البعث.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم، أثبت الربوبية لله وحده، فقال :﴿ إلهكم إله واحد ﴾. ه. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.
ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر - وهو إنكار البعث والتكبر - فقال :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرةٌ وهم مستكبرون ﴾ أي : فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى، وهم مستكبرون عن اتّباع الرسل فيما جاؤوا به، والخضوع لهم ؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبًا للدلائل، متأملاً فيما يسمع، فينتفع به، خاضعًا للحق، متبعًا لمن جاء به، بخلاف الكافر، يكون حاله بالعكس ؛ منهمكًا في الغفلة، متبعًا للهوى، يُنكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان، اتّباعًا للأسلاف، وتقليدًا لهم، وركونًا إلى المألوف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

و﴿ لا جرم ﴾ : إما أن يكون بمعنى لا شك، أو لا بدّ، أو تكون " لا " نفيًا لِمَا تقدم. و " جَرَم " : فعل، بمعنى وجب، أو حق، و﴿ أن الله ﴾ : فاعل بجَرَم.
قال تعالى : تهديدًا لمن هذا وصفه :﴿ لا جَرَمَ ﴾ : لا بدّ، أو لا شك، أو حَقٌّ ﴿ أنَّ الله يعلم ما يُسرون وما يعلنون ﴾، فيجازيهم عليه ؛ ﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾ مطلقًا، فضلاً عن الذين استكبروا عن توحيده واتّباع رسوله. ومفهومه : أنه يحب المتواضعين الخاضعين للحق، ولمن جاء به، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق، وتعلقها بالخالق في جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شيء، قادر على كل شيء، دائم لا يموت، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ﴾، ﴿ والذين تدعون من دون الله لا يَخلقون شيئًا وهم يُخلقون أموات غير أحياء ﴾. وأنشدوا في هذا المعنى :
حَرَامٌ على مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ وأفْرَدَهُ أَنْ يَحْتَذِي أحدًا رِفْدَا
فَيَا صَاحِبي قفْ بي عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أَمُوتُ بها وَجْدًا وأحْيَا بِها وَجْدا
وقُلْ لمُلوكِ الأرْضِ تَجْهَدُ جُهدها فَذَا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده، وتقريبُه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد في هذه الدار الفانية، والاستعداد والتأهب للدار الباقية، وبه تلين القلوب، وتتحقق بعلم الغيوب، وبه يحصل الخضوع للحق، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره، أو استبعده، قال تعالى :﴿ فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ﴾.
الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله، ولمن دعا إلى الله، وهو سبب المحبة من الله، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، ومَنْ تَكَبر وَضَعَهُ الله ". وقال أيضًا :" مَنْ تَوَاضَعَ دُون قَدْره، رَفَعَهُ فوق قَدْره ". بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى :﴿ إنه لا يحب المستكبرين ﴾. وفي الحديث :" لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرٍ " ١، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، " والتكبر : بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس " ٢، أي : جحد الحق، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر وصف المتكبرين، ووبال تكبرهم، فقال :
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ * ﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ * ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾
قلت :﴿ ماذا ﴾، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا ب ﴿ أَنزل ﴾، وأن تكون ( ما ) : استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و( ذا ) : بمعنى " الذي " : خبر، وفي أنزل ضميرٌ محذوف، أي : ما الذي أنزله ربكم ؟
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي : كفار قريش :﴿ ماذا أنزل ربكم ﴾ على رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام - ؟ ﴿ قالوا ﴾ : هو ﴿ أساطير الأولين ﴾ أي : ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ، ويقول : إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه. والقائل لهم هم المقتسِمُون، وتسميته، حينئذ، مُنزلاً ؛ إما على وجه التهكم، أو على الفَرض والتقدير، أي : على تقدير أنه منزل، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين، فلا يحتاج إلى تأويل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم :﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

واللام في ﴿ ليحملوا ﴾ : لام العاقبة والصيرورة، أي : قالوا : هو أساطير الأولين ؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، وقيل : لام الأمر، و﴿ بغير علم ﴾ : حال من المفعول في ﴿ يُضلونهم ﴾، أو من الفاعل.
﴿ ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة ﴾ أي : قالوا ذلك ؛ ليُضلوا الناس، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة، ﴿ ومن أوزارِ الذين يُضلونهم ﴾ : وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم - وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال - حال كونهم ﴿ بغير علم ﴾ أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل. وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور ؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله، وينظر في دلائله وحُججه.
قال البيضاوي :﴿ بغير علم ﴾ : حال من المفعول ؛ أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل، وفائدتها : الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا، ويميزوا بين المحق والمبطل. ه. وقال المحشي : ففيه ذم تقليد المبطل، وأن مقلده غير معذور، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة، أو غير ذلك، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. ه.
قلت : ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل، أي : يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.
قال تعالى في شأن أهل الإضلال :﴿ ألا سَاءَ ما يَزِرُون ﴾، أي : بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم :﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

﴿ قد مكر الذين من قَبلِهم ﴾ أي : دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل، ﴿ فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد ﴾ أي : قصد ما دبروه من أصله، فهدمه، ﴿ فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم ﴾، وصار ما دبروه، وبنوه من المكر، سبب هلاكهم، ﴿ وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون ﴾ ؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون، وهو على سبيل التمثيل.
وقال ابن عباس وغيره : المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع ؛ ليترصّد أمر السماء، فبعث الله ريحًا فهدمته، فخرَّ عليه وعلى قومه، فهلكوا، وقيل : إن جبريل عليه السلام هدمه، فألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم :﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.


١ انجعف من أسفله: أي انقلب وانقلع..
و﴿ تُشاقُّون ﴾ : من قرأه بالكسر ؛ فالمفعول : ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، ومن قرأه بالفتح ؛ فالمفعول محذوف، أي : تشاقون المؤمنين من أجلهم.
﴿ ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم ﴾ : يذلهم ويعذبهم بالنار، ﴿ ويقول أين شركائِيَ ﴾، أضافها إلى نفسه ؛ استهزاء، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا ؛ زيادةً في توبيخهم، أي : أين الشركاء ﴿ الذين كنتم تُشاقون فيهم ﴾ : تعادون المؤمنين في شأنهم، أو تشاقونني في شأنهم ؛ فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته، أو تحاربون وتخارجون، فتكونون في شق والحق في شق، ﴿ قال الذين أُوتوا العلم ﴾ ؛ وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم، أو الملائكة :﴿ إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ ﴾ : الذلة والعذاب ﴿ على الكافرين ﴾. وفائدة قولهم ذلك لهم : إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة، وحكايته، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة، وقال الواحدي : إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا. ه. أي : فيقولونه ؛ اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله، كما قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم :﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

و﴿ ظالمي أنفسهم ﴾ : حال من ضمير المفعول في :" تتوفاهم ".
ثم وصفهم بقوله :﴿ الذين تتوفاهم الملائكةُ ﴾ ؛ تقبض أرواحهم ﴿ ظالمي أنفسِهِم ﴾ ؛ بأن عرضوها للعذاب المخلد، ﴿ فألقَوُا السَّلَمَ ﴾ أي : استسلموا، وألقوا القياد من أنفسهم، حين عاينوا الموت، قائلين :﴿ ما كنا نعملُ من سُوء ﴾ : من كفر وعدوان، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب ؛ اعتصامًا به، كقولهم :﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعَام : ٢٣ ]، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر. قال الحسن : هي مواطن، فمرة يُقرون على أنفسهم، كما قال تعالى :﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [ الأنعَام : ١٣٠ ]، ومرة يجحدون كهذه الآية، فتجيبهم الملائكة بقولهم :﴿ بلى ﴾ قد كنتم تعملون السوء والعدوان، ﴿ إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾ فهو يجازيكم عليه. وقيل : إن قوله :﴿ فألقَوُا السَّلَمَ ﴾ إلى آخر الآية، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ :﴿ أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم ﴾ إلخ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله :( بلى )، هو الله تعالى، أو : أولو العلم، ويُقوي هذا قوله بعده :﴿ فادخلوا أبواب جهنم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم :﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

﴿ فادخلوا أبواب جهنم ﴾ ؛ لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب، لا بعد الموت ؛ إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا، والمراد بدخول أبوابها، أي : التي تفضي إلى طبقاتها، التي هي بعضها على بعض، وأبوابها كذلك، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له، ﴿ خالدين فيها فلبئس مثوى ﴾ أي : مقام ﴿ المتكبرين ﴾ جهنم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم، على قلوب أولياء زمانكم ؛ من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم ؛ لتطهير قلوبهم، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ؛ حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون.
ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا، ألا ساء ما يزرون.
قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة -، وقراء السوء ؛ لأن هؤلاء هم المقتدى بهم، والمنظور إليهم، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا، وقصروا في الدين، تبعوهم على ذلك ؛ فضلوا معهم، فقد ضلوا وأضلوا، وإذا أنكروا على أولياء الله، ومكروا بهم، اقتدوا بهم في ذلك، فيتولى الله حفظ أوليائه، ويهدم مكرهم ؛ قال تعالى :﴿ فأتى الله بنيانهم من القواعد ﴾... الآية، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته، وأسكنهم مع عوام خلقه. فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا، يقال لهم :﴿ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ﴾، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب، فبئس مثوى المتكبرين. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر أضدادهم، فقال :
﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
قلت :﴿ خيراً ﴾ : منصوب بفعل محذوف، أي : أنزل خيرًا، فهو مطابق للسؤال ؛ لأن المؤمنين معترفون بالإنزال، بخلاف قوله :﴿ أساطير الأولين ﴾ ؛ فهو مرفوع على الخبر ؛ لأنهم لا يُقرون بالإنزال، فلا يصح تقدير فعله. وإنما عدلوا بالجواب عن السؤال ؛ لإنكارهم له، وقالوا : هو أساطير الأولين ولم ينزله الله. و﴿ للذين ﴾ : خبر، و﴿ حسنة ﴾ : مبتدأ، والجملة : بدل من ﴿ خيرًا ﴾، أو تفسير الخير الذي قالوه، والظاهر أنه استئناف من كلام الحق.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقيل للذين اتقوا ﴾ الشرك، وهم المؤمنون :﴿ ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا ﴾، أي : أنزل خيرًا، مقرين بالإنزال، غير مترددين فيه ولا متلعثمين عنه، على خلاف الكفرة ؛ لمَّا ذكر الحق تعالى مقالة الكفار الذين قالوا : أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق من العقاب أو الثواب، رُوي أن العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد، وسأل المقتسمين، من الكفار، قالوا له : أساطير الأولين، وإذا سأل المؤمنين : ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا : خيرًا. فنزلت الآية في شأن الفريقين.
ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا ﴾ بالإِيمان والطاعة، ﴿ حسنة ﴾ أي : حالة حسنة ؛ من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. ﴿ ولَدارُ الآخرةِ خيرٌ ﴾ أي : ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا ؛ لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثَابُ عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة " ١ ﴿ ولنعم دارُ المتقين ﴾ دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي :﴿ جناتُ عدنٍ يدخلونها ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة : ماذا أنزل ربكم من المقادير ؟ قالوا : خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون : إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم ؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر :
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا ؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانـا لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم : خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا ؛ لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين ؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي الخبر :" إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه " ١ وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ. إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ " ٢. وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلا كفّر له من سيئاته " ٣. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا " ٤. ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول : لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله ؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل : ماذا أنزل ربكم ؟ قال خيرًا.
ثم قال تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا ﴾ ؛ أي : بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا ﴿ حسنةٌ ﴾ : حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، ﴿ ولدارُ الآخرة خيرٌ ﴾ ؛ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر ؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا ؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله :﴿ ولَنِعْمَ دارُ المتقين ﴾.
ثم قال :﴿ كذلك يجزي الله المتقين ﴾ لكل ما يشغل عن الله ؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام : سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم ؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.


١ أخرجه أحمد في المسند ٣/١٢٥، ٢٨٣..
﴿ جناتُ عدنٍ يدخلونها ﴾ على الأبد، ﴿ تجري من تحتها الأنهارُ لهم فيها ما يشاؤونَ ﴾ من أنواع المشتهيات ؛ حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله :﴿ فيها ﴾ ؛ تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
﴿ كذلك يَجزي اللهُ المتقين ﴾ الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة : ماذا أنزل ربكم من المقادير ؟ قالوا : خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون : إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم ؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر :
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا ؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانـا لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم : خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا ؛ لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين ؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي الخبر :" إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه " ١ وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ. إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ " ٢. وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلا كفّر له من سيئاته " ٣. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا " ٤. ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول : لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله ؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل : ماذا أنزل ربكم ؟ قال خيرًا.
ثم قال تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا ﴾ ؛ أي : بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا ﴿ حسنةٌ ﴾ : حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، ﴿ ولدارُ الآخرة خيرٌ ﴾ ؛ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر ؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا ؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله :﴿ ولَنِعْمَ دارُ المتقين ﴾.
ثم قال :﴿ كذلك يجزي الله المتقين ﴾ لكل ما يشغل عن الله ؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام : سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم ؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.

و﴿ طيبين ﴾ : حال من مفعول " توفاهم ". ﴿ جنات عدن ﴾ : يحتمل أن يكون هو المخصوص بالمدح، فيكون مبتدأ، وخبره فيما قبله، أو خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ، وخبره :﴿ يدخلونها ﴾، أو محذوف، أي : لهم جنات عدن.
﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ﴾ : طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي ؛ لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل : فرحين ؛ لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم ؛ لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية :﴿ طيبين ﴾ : عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة :﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِم ﴾ [ النساء : ٩٧ ؛ والنحل : ٢٨ ]، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى :﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا ﴾ [ الزُّمَر : ٧٣ ]. ه.
وقال الترمذي الحكيم :﴿ طيبين ﴾ أي : مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم : ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له : ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. ه. وهذا معنى قوله :﴿ يقولون سلام عليكم ﴾ ؛ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم :﴿ ادخلُوا الجنة ﴾ بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ في دار الدنيا.
فإن قلت : كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث :" لن يَدْخُل أحدُكُم الجَنَّة بعَمَلِهِ، قالوا : ولا أَنْتَ ؟ قَالَ : ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه " ؟ فالجواب : أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث : نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي ؛ وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة في نسبة العمل للعبد ؛ فضلاً ونعمة ؛ " من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك ". والحديث سلك مسلك الحقيقة ؛ لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة : ماذا أنزل ربكم من المقادير ؟ قالوا : خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًا كان أو جماليًا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون : إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم ؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر :
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا ؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانـا لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم : خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا ؛ لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين ؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي الخبر :" إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه " ١ وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ. إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ " ٢. وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلا كفّر له من سيئاته " ٣. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا " ٤. ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول : لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله ؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل : ماذا أنزل ربكم ؟ قال خيرًا.
ثم قال تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا ﴾ ؛ أي : بالرضا عني في جميع الأحوال، والاشتغال بذكري في كل حال، لهم في الدنيا ﴿ حسنةٌ ﴾ : حلاوة المعرفة، ودوام المشاهدة، ﴿ ولدارُ الآخرة خيرٌ ﴾ ؛ لصفاء المشاهدة فيها، واتصالها بلا كدر ؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها، بخلاف الدنيا ؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها، كغلبة النوم، وتشويش المرض وغيره، بخلاف الجنة، ليس فيها شيء من الكدر، ولذلك مدحها بقوله :﴿ ولَنِعْمَ دارُ المتقين ﴾.
ثم قال :﴿ كذلك يجزي الله المتقين ﴾ لكل ما يشغل عن الله ؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، طاهرين، مطهرين من شوائب الحس، ودنس العيوب، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة، وقلوبهم بحسن المراقبة، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة. تقول لهم الملائكة الكرام : سلام عليكم، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم، وجنة الزخارف إثر بعثكم ؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات، وتطهير قلوبكم من الغفلات، وتطهير أرواحكم من الفترات. وبالله التوفيق.

ثم ذكر وعيد أضدادهم، الذين قالوا فيما أنزل لهم :( أساطير الأولين )، فقال :
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ * ﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ * ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ * ﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ هل ينظرون ﴾ أي : ما ينظر هؤلاء الكفرة، الذين قالوا فيما أنزل الله من الوحي : هو أساطير الأولين، ﴿ إلا أن تأتيهُم الملائكةُ ﴾ ؛ لقبض أرواحهم، ﴿ أو يأتي أمرُ ربك ﴾ : قيام الساعة، أو العذاب المستأصِل لهم في الدنيا، ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك التكذيب والشرك، ﴿ فعل الذين من قبلهم ﴾، فأصابهم ما أصابهم، ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ بإهلاكهم، ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ ؛ لكفرهم ومعاصيهم، المؤدية إلى عذابهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك ؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه ؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين ؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه ؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد ؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾... الآية. وبالله التوفيق.

﴿ فأصابهم ﴾ جزاء ﴿ سيئات ما عملوا ﴾ من الكفر والمعاصي، وهو العذاب، ﴿ وحاقَ ﴾ أي : وأحاط ﴿ بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به. والحيْق لا يكون إلا في الشر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك ؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه ؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين ؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه ؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد ؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾... الآية. وبالله التوفيق.

﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء ﴾ ؛ كالبحائر والسوائب والحوامي. قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة، والاحتجاج على صحة فعلهم، أي : إنَّ فِعْلَنَا هو بمشيئة الله، فهو صواب، ولو شاء الله ألا نفعله ما فعلناه. والجواب : أن الاحتجاج بالقدر لا يصح في دار التكليف، وقد بعث الله الرسل بالنهي عن الشرك، وتحريم ما أحل الله، ونحن مكلفون باتباع الشريعة، لا بالنظر إلى فعل الحقيقة من غير شريعة ؛ فإنه زندقة ؛ فالشريعة رداء الحقيقة، فمن خرق رداء الشريعة، وتمسك بالحقيقة وحدها، فقد استحق العقاب، ولذلك قال تعالى :﴿ كذلك فعل الذين من قَبلهم ﴾ ؛ فأشركوا بالله، وحرموا ما أحل الله، وردوا رسله. ﴿ فهل على الرسلِ إلا البلاغُ المبين ﴾ أي : الإبلاغ الموضح للحق ؛ فمن تمسك بما جاؤوا به فهو على صواب، ومن أعرض عنه فهو على ضلال، ولا ينفعه تمسكه بالحقيقة من غير اتباع الشريعة. والحقيقة هي أنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، طاعة كان أو معصية، كفرًا أو إيمانًا، لكن الأمر غير تابع للإرادة، ونحن مكلفون باتباع الأمر فقط.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك ؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه ؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين ؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه ؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد ؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾... الآية. وبالله التوفيق.

ثم بيَّن أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم الماضية، جعلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله، كالغذاء الصالح، فإنه ينفع المزاج السوي - أي : المعتدل - ويقويه، ويضر المزاج المنحرف ويعييه، فقال :﴿ ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً ﴾ قائلاً :﴿ أن اعبدُوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ ؛ أي : يأمر بعبادة الله وحده واجتناب ما سواه، ﴿ فمنهم من هدى الله ﴾ ؛ وفقهم للإيمان وأرشدهم إليه، ﴿ ومنهم من حقتْ عليه الضلالةُ ﴾ ؛ فلم يوفقهم، ولم يُرد إرشادهم ؛ فليس كل من تمسك بشيء وأمْهل فيه يدل أنه على صواب، كما ظن المشركون، بل النظر إلى ما جاءت به الرسل من الشرائع، وكلها متفقة على وجوب التوحيد وإبطال الشرك.
ثم أمرهم بالنظر والاعتبار بحال من أشرك وكذب الرسل، فقال :﴿ فسيروا في الأرض ﴾ يا معشر قريش، ﴿ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ ؛ كعاد وثمود وغيرهم، لعلكم تعتبرون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك ؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه ؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين ؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه ؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد ؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾... الآية. وبالله التوفيق.

ثم نهى نبيه عن الحرص عليهم فقال :﴿ إنْ تَحرِصْ ﴾ يا محمد ﴿ على هُداهم فإن الله لا يَهْدي من يُضِلُّ ﴾ أي : من يريد إضلاله وقضى بشقائه ؛ وهو الذي حقت عليه الضلالة، وقرأ غير الكوفيين بالبناء للمفعول، وهو أبلغ، أي : فإن الله لا يُهدي من يضله، أي : لا يهدي غيرُ الله من يريد اللهُ إضلاله. ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ ؛ ليس لهم من ينصرهم ؛ يدفع العذاب عنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هل ينظر مَن عكف على دنياه، وأكب على متابعة حظوظه وهواه، إلا أن تنزل الملائكة لقبض روحه، فيندم حيث لا ينفع الندم، وقد زلت به القدم، فيتمنى ساعة تُزاد في عمره فلا يجدها، أو يأتي أمر ربك ؛ أمرٌ يحول بينه وبين العمل الصالح كمرض مزمن، أو فتنة مضلة. كذلك فعل من قبله، اغتر بدنياه حتى اختطف لأخراه. وما ظلمهم الله، بل بعث الرسل وأخلفهم بأهل الوعظ والتذكير، فحادوا عنهم، فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا من الغفلة والبطالة، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، من وبال التقصير، وفوات مقام أهل الجد والتشمير.
وقال الذين أشركوا في محبة الله سواه ؛ من الحظوظ وزهرة الدنيا : لو شاء الله ما فعلنا ذلك، محتجين بالقدر، مع الإقامة على البطالة والخذلان. كذلك فعل مَنْ قَبْلَهُمْ من أهل الغفلة، فهل على الرسل وخلفائهم إلا البلاغ المبين ؟ فقد حذَّروا من متابعة الدنيا، وبلَّغوا أن الله غيور لا يُحب من أشرك معه غيره في محبته، فقد بعث في كل أمة وعصر نذيرًا، يأمر بعبادة الله وحده، واجتناب كل ما سواه ؛ فمنهم من هداه الله، فاختاره لحضرته، فلم يُحب سواه. ومنهم من حقت عليه الضلالة عن مقام الخصوص، فبقي في مقام البعد ؛ مُكَذِّبًا بطريق الخصوص. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ؛ كان عاقبتهم الحرمان ولزوم الخذلان. ويقال للعارف المذكِّر لمثل هؤلاء :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾... الآية. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مقالة أخرى لأهل الشرك، وهو إنكار البعث، فقال :
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
قلت :﴿ وأقسموا ﴾ : عطف على ﴿ وقال الذين أشركوا ﴾ ؛ إيذانًا بأنهم، كما أنكروا التوحيد، أنكروا البعث، مقسمين عليه ؛ زيادةً في القطع على فساده، فرد الله عليهم بأبلغ رد، فقال :﴿ بلى ﴾. قاله البيضاوي. وتقدم الكلام على " بلى "، في البقرة والأعراف١، و﴿ وعدًا ﴾ : مصدر مؤكد لنفسه، وهو ما دل عليه ﴿ بلى ﴾ ؛ فإن ﴿ يبعث ﴾ وعد، أي : بلى، وعدهم ذلك وعدًا حقًا، ونصب ابن عامر، فيكون عطفًا على ﴿ نقول ﴾، أو جوابًا للأمر.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأقسموا ﴾ أي : المشركون، ﴿ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ أي : أبلغها وأوكدها، ﴿ لا يبعثُ اللهُ مَن يموت ﴾، فردَّ الله عليهم بأبلغ رد، فقال :﴿ بلى ﴾ يبعثهم ؛ ﴿ وعدًا عليه ﴾ إنجازه ﴿ حقًّا ﴾، لا يخلف ؛ لامتناع الخلف في وعده، أو : لأن البعث مقتضى حكمته ؛ لتنزيه فعله عن العبث، ﴿ ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون ﴾ أنهم يُبعثون، إما لعدم علمهم بأنه من موجبات الحكمة، التي جرت عادته بمراعاتها، وإما لقصور نظرهم باعتبار المألوف، ووقوفهم مع العوائد، فتوهموا امتناعه، وقالوا :
﴿ أَئذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ الرّعد : ٥ ]، ولم ينظروا إلى قدرة الله التي لا يعجزها شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ترى بعضَ الجهال يقسمون بالله جهد أيمانهم : أن الله لا يفتح على فلان، لِمَا يرون فيه من الجهل والغباوة، أو من الطغيان والمعاصي، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها، وتلفها في عالم الحس، مع أن القدرة صالحة ؛ قال في الحكم :" من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدرًا ".
فإن سبقت له العناية يَقُلِ الحقُّ تعالى في شأنه : بلى، يبعثه، ويحيي روحه بالمعرفة واليقين، وعدًا عليه حقًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبي يخرج منه عالِمَ ولي، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص، والله يختص برحمته من يشاء. يبعثهم ؛ ليُبين لهم الذي يختلفون فيه ؛ من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا ؛ ﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾.


١ انظر تفسير الآية ٨١ من سورة البقرة، وتفسير الآية ١٧٢ من سورة الأعراف..
ثم بيَّن حكمة البعث، فقال :﴿ ليُبيِّن لهم ﴾ أي : يبعثهم ؛ ليبين لهم ﴿ الذي يختلفون فيه ﴾ ؛ وهو الحق من الباطل ؛ فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم ؛ فيبعثهم الله ؛ ليُبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه، فيظهر من كان على الحق ممن كان على الباطل، ﴿ ولِيَعْلَم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ﴾ فيما كانوا يزعمون ؛ من عدم البعث، وتمسكهم بالحق، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث، المقتضي له من حيث الحكمة، وهو التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ترى بعضَ الجهال يقسمون بالله جهد أيمانهم : أن الله لا يفتح على فلان، لِمَا يرون فيه من الجهل والغباوة، أو من الطغيان والمعاصي، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها، وتلفها في عالم الحس، مع أن القدرة صالحة ؛ قال في الحكم :" من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدرًا ".
فإن سبقت له العناية يَقُلِ الحقُّ تعالى في شأنه : بلى، يبعثه، ويحيي روحه بالمعرفة واليقين، وعدًا عليه حقًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبي يخرج منه عالِمَ ولي، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص، والله يختص برحمته من يشاء. يبعثهم ؛ ليُبين لهم الذي يختلفون فيه ؛ من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا ؛ ﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾.

ثم بيَّن كمال قدرته الموجبة للبعث وغيره فقال :﴿ إنما قولُنا لشيء إذا أردناه أن نقولَ له كن فيكون ﴾، فأمره بين الكاف والنون، فإذا كان إيجاد الأشياء من العدم بلفظ " كن "، فأولى إعادتها. وكون أمره بين الكاف والنون كناية عن السرعة، وإلاَّ فلا يحتاج إلى لفظ " كن "، بل مهما أراد شيئًا، أظهره ؛ أقرب من لحظ العيون، وإنما جاءت العبارة على قدر ما تفهم العقول، وعلى هذا فلا يحتاج إلى ما تَعَسَّفَهُ ابن عطية وغيره ؛ من كون القول في الأزل، وإظهاره فيما لا يزال - يعني : في وقت إظهاره - ؛ فإن الكلام إنما خرج مخرج الاستعارة أو المجاز، فلا يتوقف إيجاد الأشياء على " كن ". والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ترى بعضَ الجهال يقسمون بالله جهد أيمانهم : أن الله لا يفتح على فلان، لِمَا يرون فيه من الجهل والغباوة، أو من الطغيان والمعاصي، فلا يبعث الله روحه بإحيائها بعد موتها، وتلفها في عالم الحس، مع أن القدرة صالحة ؛ قال في الحكم :" من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدرًا ".
فإن سبقت له العناية يَقُلِ الحقُّ تعالى في شأنه : بلى، يبعثه، ويحيي روحه بالمعرفة واليقين، وعدًا عليه حقًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدرته عامة. فكم من جاهل غبي يخرج منه عالِمَ ولي، وكم من خصوص خرجوا من اللصوص، والله يختص برحمته من يشاء. يبعثهم ؛ ليُبين لهم الذي يختلفون فيه ؛ من نفوذ قدرته تعالى وعموم تعلقها، وليعلم الذين كفروا بطريق الخصوص أنهم كانوا كاذبين فيما زعموا ؛ ﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾.

ثم ذكر الطريق الموصلة إلى إحياء الأرواح، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والذين هاجروا في الله ﴾ أي : طلب رضا الله، أو : في نصر دينه، أو : طلب معرفته، ﴿ من بعد ما ظُلموا ﴾ ؛ من بعد ما ظلمهم الكفار بالإيذاء والتضييق، وهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون. ظلمهم قريش وضيقوا عليهم، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وبعضهم إلى المدينة. قال ابن عطية : الجمهور أنها نزلت في الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ؛ لأن الآية مكية، وهجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية. ه.
قلت : والمختار : العموم، ويكون من جملة الإخبار بما سيقع، أو : هم المحبوسون المعذبون بمكة، بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهم بلال، وصُهَيب، وعمَّار، وخَبَّاب، وأبو جَنْدَل بن سُهَيل ؛ أو : كل من هاجر من بلده ؛ لإقامة دينه.
﴿ لنبوِّئنَّهم في الدنيا حسنةً ﴾ أي : لننزلنهم في الدنيا بقعة حسنة، وهي المدينة، أو منزلة حسنة، وهي العز والتمكين في البلاد، وكل أمل بَلَغَهُ المهاجرون، أو حياة حسنة، وهي الاستقامة والمعرفة. ﴿ ولأجرُ الآخرة أكبرُ ﴾ مما يُعجل لهم في الدنيا ؛ من سعة الأموال، وتعظيم الشأن والحال، وهو النعيم الدائم. وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان، إذا أَعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه من قسمْ الغنائم، يقول له :( خذ، بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ). والضمير في قوله :﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ لكفار قريش، أي : لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين، أي : لو علموا أن أجر الآخرة خير مما عجل لهم لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : والذين هاجروا حظوظهم وهواهم وكل ما نهى الله عنه ؛ ابتغاء مرضات الله، أو فارقوا أوطانهم وديارهم في طلب معرفة الله، كما فعل كثير من الصوفية، فقلَّ أن تجد وليّا إلا وهاجر من بلده ؛ لإقامة دينه وجبر قلبه، وإفراغ سره لربه، من بعد ما ظُلموا بإيذاء الخلق - كما هو سنة الله في خواصه - لنبوئنهم في الدنيا حسنة، وهي معرفة الشهود والعيان في الباطن، واستقامة الدين والعافية في الظاهر. هذا في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر ؛ إذ فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس، وحط الرؤوس، ودفع الفلوس، أو على ضروب الفاقات، ونزول البليات، وركوب الأهوال والآفات، إذ لا يأتي الجمال إلا بعد الجلال، ولا تأتي الحلاوة إلا بعد المرارة١ :
لا تَحْسَب المجْد تمرًا أنت آكلُه لنْ تبلُغَ المجْدَ حتَّى تلْعَقَ الصبْرا
وعلى ربهم يتوكلون، أي : مفوضين في أمورهم كلها لله، ليس لهم مع الله اختيار، ولا لهم عن أنفسهم إخبار، بل هم كالميت بين يدي الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر... آمين.

قلت :﴿ الذين صبروا ﴾ : نعت للذين هاجروا، أو على تقدير :( هم )، أو نصب على المدح.
ثم وصفهم بالصبر والتوكل فقال :﴿ الذين صبروا ﴾ على الشدائد، كأذى الكفرة، ومفارقة الوطن، ونزول الفاقة، ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ فيما نزل بهم، منقطعين إلى الله، مفوضين إليه الأمر كله، فآواهم إليه، وكفاهم كل مؤونة، ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : والذين هاجروا حظوظهم وهواهم وكل ما نهى الله عنه ؛ ابتغاء مرضات الله، أو فارقوا أوطانهم وديارهم في طلب معرفة الله، كما فعل كثير من الصوفية، فقلَّ أن تجد وليّا إلا وهاجر من بلده ؛ لإقامة دينه وجبر قلبه، وإفراغ سره لربه، من بعد ما ظُلموا بإيذاء الخلق - كما هو سنة الله في خواصه - لنبوئنهم في الدنيا حسنة، وهي معرفة الشهود والعيان في الباطن، واستقامة الدين والعافية في الظاهر. هذا في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر ؛ إذ فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس، وحط الرؤوس، ودفع الفلوس، أو على ضروب الفاقات، ونزول البليات، وركوب الأهوال والآفات، إذ لا يأتي الجمال إلا بعد الجلال، ولا تأتي الحلاوة إلا بعد المرارة١ :
لا تَحْسَب المجْد تمرًا أنت آكلُه لنْ تبلُغَ المجْدَ حتَّى تلْعَقَ الصبْرا
وعلى ربهم يتوكلون، أي : مفوضين في أمورهم كلها لله، ليس لهم مع الله اختيار، ولا لهم عن أنفسهم إخبار، بل هم كالميت بين يدي الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر... آمين.

ولا بد من الواسطة في الوصول إلى هذا، إما رسول أو خليفته، كما قال تعالى :
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على قريش، حيث قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا :﴿ وما أرسلنا من قَبْلِكَ ﴾ يا محمد ﴿ إلا رجالاً ﴾ بشرًا، ﴿ يوحى إليهم ﴾ كما يُوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشرًا، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحى إليه على ألسنة الملائكة ؛ إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم ﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ : أهل الكتاب، أو علماءهم الأحبار، أي : الذين لم يسلموا، لأنهم لا يتهمون في شهادتهم، من حيث إنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم إلى تصديق من لم يؤمن من أهل الكتاب أقرب من تصديقكم المؤمنين منهم، فاسألوهم ؛ ليخبروكم : هل كانت الرسل ملائكة أو بشرًا، ﴿ إن كنتم لا تعلمون ﴾ ذلك.
قال البيضاوي : وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكًا للدعوة العامة. وأما قوله :﴿ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ﴾ [ فَاطِر : ١ ] ؛ فمعناه : رسلاً إلى الأنبياء. وقيل : لم يُبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال. ورُدَّ بما رُوي أنه عليه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين. وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم. ه. ومفهوم قوله :" الدعوة العامة " : أن الدعوة الخاصة ؛ كالأنبياء - عليهم السلام-، فإن الله يبعث إليهم الملك ليعلمهم أمر دينهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما لم يبعث الله في الدعوة العامة - وهي دعوة الرسالة - إلا رجالاً من البشر، كذلك لم يبعث الله في الدعوة الخاصة - وهي دعوة الولاية إلى سر الخصوصية - إلا رجالاً من البشر أحياء، يُربون التربية النبوية العرفية، فلا يصلح للتربية النساء ؛ لقلة عقلهن، ولا الجن ؛ لانحرافه عن الاعتدال الذي في البشر، ولا الميت ؛ لعدم وجود بشريته ؛ فإنَّ بشرية الحي تمد البشرية، والروحانية تمد الروحانية.
فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ. ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا تُرضع. وقولنا :" التربية العرفية " ؛ أعني : بالصحبة العرفية، وأما التربية الغيبية، على وجه خرق العادة، كطيران الشيخ إلى المريد، أو المريد إلى الشيخ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفًا لإحدى الجهتين، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة، بخلاف التربية العرفية، فلا يكون صاحبها، في الغالب، إلا معتدلاً كاملاً.
وقوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ ؛ هم العارفون بالله، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب ؛ كأسرار التوحيد، وأمر الخواطر، رجعنا إليهم ؛ لأنهم أهل الذوق والكشف، يُجيبون سائلهم بالهمة والحال، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل، إن أتاهم متعطشًا لهفانًا، وكذا ما أشكل في أمر الدنيا، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه، فينبغي الرجوع إليهم ؛ لأنهم ينظرون بنور الله، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر. وأما أمور الدين، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه، وإن لم يكن له علم بالظاهر، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم لا تعلمون ﴾ ؛ يُفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقي، فلا يحتاج إلى سؤالهم، حيث صفت مرآة قلبه، وقد يكون الولي ذاكرًا، باعتبار قوم، وغير ذاكر، باعتبار آخرين، الذين هم أنهض منه حالاً، وأصوب مقالاً. والله تعالى أعلم.

قلت :﴿ بالبينات ﴾ : يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية، على التقديم والتأخير، أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فاسألوا أهل الذكر، أو بأرسلنا ؛ مضمرًا، وكأنه جواب سائل قال : بم أُرسلوا به ؟ فقال : بالبينات، أو : صفة لرجال، أي : رجالاً ملتبسين بالبينات، أو : بيوحى. انظر البيضاوي.
ثم قال تعالى :﴿ بالبينات والزُّبر ﴾ أي : أرسلناهم بالمعجزات والكتب. ﴿ وأنزلنا إليك الذكر ﴾ أي : القرآن ؛ لأنه تذكير ووعظ، ﴿ لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ﴾ من الأحكام، مما أمروا به ونهوا عنه، ومما تشابه عليهم منه. والتبيين أعم من أن ينص على المقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه، كالقياس ودليل العقل. قاله البيضاوي. قال ابن جزي : يحتمل أن يريد : لتبين القرآن بسردك نَصَّهُ وتعليمِهِ، أو لتُبين معانيه بتفسير مُشكله، فيدخل في هذا ما سنته السنة من الشريعة. ه. ﴿ ولعلهم يتفكرون ﴾ في عجائبه وأسراره، فيخوضون بسفن أفكارهم في تيار بحر معانيه وأنواره، فينتبهون للحقائق والشرائع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما لم يبعث الله في الدعوة العامة - وهي دعوة الرسالة - إلا رجالاً من البشر، كذلك لم يبعث الله في الدعوة الخاصة - وهي دعوة الولاية إلى سر الخصوصية - إلا رجالاً من البشر أحياء، يُربون التربية النبوية العرفية، فلا يصلح للتربية النساء ؛ لقلة عقلهن، ولا الجن ؛ لانحرافه عن الاعتدال الذي في البشر، ولا الميت ؛ لعدم وجود بشريته ؛ فإنَّ بشرية الحي تمد البشرية، والروحانية تمد الروحانية.
فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ. ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا تُرضع. وقولنا :" التربية العرفية " ؛ أعني : بالصحبة العرفية، وأما التربية الغيبية، على وجه خرق العادة، كطيران الشيخ إلى المريد، أو المريد إلى الشيخ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفًا لإحدى الجهتين، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة، بخلاف التربية العرفية، فلا يكون صاحبها، في الغالب، إلا معتدلاً كاملاً.
وقوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ ؛ هم العارفون بالله، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب ؛ كأسرار التوحيد، وأمر الخواطر، رجعنا إليهم ؛ لأنهم أهل الذوق والكشف، يُجيبون سائلهم بالهمة والحال، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل، إن أتاهم متعطشًا لهفانًا، وكذا ما أشكل في أمر الدنيا، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه، فينبغي الرجوع إليهم ؛ لأنهم ينظرون بنور الله، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر. وأما أمور الدين، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه، وإن لم يكن له علم بالظاهر، فالعلماء قائمون بهذا الأمر.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم لا تعلمون ﴾ ؛ يُفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقي، فلا يحتاج إلى سؤالهم، حيث صفت مرآة قلبه، وقد يكون الولي ذاكرًا، باعتبار قوم، وغير ذاكر، باعتبار آخرين، الذين هم أنهض منه حالاً، وأصوب مقالاً. والله تعالى أعلم.

ثم هدد أهل المكر بأهل الخصوصية، فقال :
﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ * ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ * ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ مكروا السيئات ﴾ : صفة لمحذوف، أي : المكرات السيئات، والتخوّف، قيل : معناه : التنقص، وهو أن تنقصهم شيئًا فشيئًا. رُوي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم توقف في معناها، فقال على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال : هذه لغتنا، التخوف : التنقص. فقال : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ فقال : نعم. قال شاعرنا أبو كثير يصف ناقته١ :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَاً كَمَا تَخوَّفَ عُودَ النَّبَْعةِ السفَنُ
فقال عمر : عليكم بديوانكم ؛ لا تضلوا، قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ؛ فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أفأمِنَ الذين مَكروا ﴾ المكرات السيئات برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، حيث قصدوا ردّ دينه، وصدوا الناس عن طريقه، ﴿ أن يَخْسِفَ اللهُ بهم الأرض ﴾ كما خسف بقارون، ﴿ أو يأتيهُم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ أي : بغتة من حيث لا يظنون، كما فعل بقوم لوط.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل، يُخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين، وقد تقدم هذا مرارًا.

١ البيت لابن مقبل في ملحق ديوانه ص٤٠٥، ولسان العرب (خوف)، وتهذيب اللغة ٧/٥٩٤، ولذي الرمة في ملحق ديوانه ص١٩١٧، ولسان العرب (سفن)، ولزهير بن أبي سلمى في أساس البلاغة (خوف)، وليس في ديوانه، ولعبد الله بن عجلان الهندي في تاج العروس (خوف)، ولقعنب ابن أم صاحب في سمط اللآلي ص٧٣٨..
﴿ أو يَأخذهم في تقلبهم ﴾ ؛ في متاجرهم ومسايرهم في طلب معاشهم، ﴿ فما هم بمعجزين ﴾ ؛ بفائتين قدرتنا حتى نعجز عن أخذهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل، يُخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين، وقد تقدم هذا مرارًا.
﴿ أو يأخذهم على تَخوُّفٍ ﴾ : على تنقص، بأن ينقص أموالهم وأنفسهم، شيئًا فشيئًا، حتى يهلكوا جميعًا، من غير أن يهلكهم جملة واحدة. وعليه يترتب قوله :﴿ فإن ربكم لرؤوف رحيم ﴾ حيث لم يهلكهم دفعة واحدة، أو : على تخوف : على مخافة بأن يهلك قومًا قبلهم، فيتخوفوا، فيأتيهم العذاب وهم متخوفون. وهو قسيم قوله :﴿ وهم لا يشعرون ﴾، وقوله :﴿ فإن ربكم لرؤوف رحيم ﴾ أي : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما خوف به أهل المكر بالأنبياء والرسل، يُخوف به أهل المكر بالأولياء والمنتسبين، وقد تقدم هذا مرارًا.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار ؛ لأنه سبب النجاة من الاغترار، فقال :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ * ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ * ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾
قلت : الاستفهام للإنكار، و﴿ من شيء ﴾ : بيان ل " ما ". والضمير في ﴿ ظلاله ﴾ يعود على ﴿ ما ﴾، أو على ﴿ شيء ﴾. و﴿ سُجَّدًا ﴾ : حال من الظلال، وكذا جملة :﴿ وهم داخرون ﴾، وجمعه بالواو ؛ لأنه من صفة العقلاء. وقال الزمخشري : هما حالان من الضمير في ﴿ ظلاله ﴾ ؛ إذ هو بمعنى الجمع ؛ لأنه يعود على قوله :﴿ من شيء ﴾، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أوَلَمْ يرَوا ﴾ أي : أهل المكر والخدع بالرسل والمؤمنين، ﴿ إلى ما خلق الله من شيء ﴾ ؛ من الأجرام والأشكال ؛ كالجبال والأشجار والبحار ؛ ليظهر لهم كمال قدرته وقهره، فيخافوا سطوته وبطشه، حتى لا يمكروا بخواصه. حال كون ما خلق من الأجرام ﴿ يتفيّؤا ﴾ أي : يميل ﴿ ظلالُه عن اليمين والشمائل ﴾ أي : يرجع الظل من جانب إلى جانب، أي : يميل عن الأيمان والشمائل، وذلك أن الظل من وقت طلوع الشمس إلى الزوال يكون إلى جهة، ومن الزوال إلى الغروب يكون إلى جهة أخرى. ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس. والتفيؤ : من الفيء، وهو : الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة. وقال رُؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال : ظل وفيءٌ، ولا يقال قبله إلا ظل. ففي لفظ " يتفيأ "، هنا، تجوز.
وقال في سلوة الأحزان : فاء الظل : معناه : رجع بعكس ما كان من بكرة إلى الزوال ؛ وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى الزوال، إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت، ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس فيعم. والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله تعالى فيها فيئًا ؛ لأنه لا مُذهِبَ له، ولا تكون الفيأة إلا بعد ذهاب الظل، ولا ذهاب لظل الجنة، فلا يتعقل له فيأة. ه. واستعمال اليمين والشمال، في غير الإنسان، تجوز ؛ فإنهما في الحقيقة خاص بالإنسان. ه.
حال كون تلك الأجرام، أو الظلال ﴿ سُجَّدًا لله ﴾، قيل : حقيقة. قال الضحاك : إذا زالت الشمس سَجد كل شيء قبلَ القبلة، من نباتٍ أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال، لا الأشخاص. وقيل : هو عبارة عن الخضوع والطاعة، وميلان الظلال ودورانها بالسجود، كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض، على جهة الخضوع : ساجدًا، ثم استشهد لذلك.
ه. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والمتَّجَهُ : أنه خضوع وطاعة للمشيئة وانقياد، لا حقيقة ؛ لأنه لا يقال فيه، كذلك : أو لم يروا، وإنما يُرَى الانقياد. وخص الظل ؛ لأنه مشهود ذلك فيه، ولو حاول صاحبه عدمه أو ضده، لم يستطع، بخلاف الأفعال الاختيارية، فإن الجبر فيها غير محسوس، فظهر سر الإشارة للظلال. والله أعلم. ه.
قال البيضاوي : المراد من السجود : الاستسلام، سواء كان بالطبع أو الاختيار، يقال : سجدت النخلة، إذا مالت لكثرة الحمل، وسجد البعير، إذا طأطأ رأسه ليركب. أو ﴿ سُجّدًا ﴾ : حال من الظلال ﴿ وهم داخرون ﴾ : حال من الضمير، والمعنى : ترجع الظلال، بارتفاع الشمس وانحدارها، بتقدير الله تعالى، من جانب إلى جانب، منقادة إلى ما قُدِّر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض، ملتصقة بها، على هيئة الساجد، والأجرام في أنفسها أيضًا داخرة، أي : صاغرة منقادة لأفعال الله. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية، وأحاطت به القهرية، فلا بدّ من الخضوع لأحكام الواحد القهار، تكليفية كانت أو تعريفية، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان، قيد بسلاسل الامتحان. وبهذا امتاز الخصوص من العموم، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار في عنقهم، تجرهم إلى مراد ربهم، فاستسلموا لها، وانقادوا، وخضعوا، وتأدبوا لها، فاستحقوا التقريب والاصطفائية. والعموم جهلوا هذه السلسلة، أو علموها، ولم يقدروا على الاستسلام لها ؛ فاستحقوا البُعد من حضرة الحق ؛ إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب. وبالله التوفيق.
و﴿ من دابة ﴾ : يحتمل أن يكون بيانًا ل ﴿ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ معًا ؛ لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب، ويحتمل أن يكون بيانًا ل ﴿ ما في الأرض ﴾ خاصة، فعلى الأولى : يكون عطف الملائكة عليه، من عطف الخاص على العام ؛ تشريفًا لهم، وعلى الثاني : من عطف المباين.
﴿ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : ينقاد لإرادته، وتأثير قدرته ؛ طبعًا، ولتكليفه وأمره ؛ طوعًا ؛ ليصح إسناده إلى عامة أهل السماوات والأرض. وقوله :﴿ من دابة ﴾ : بيان لهما ؛ لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية، سواء كان في أرض أو سماء، ﴿ والملائكةُ ﴾ ؛ عطف على المبين به، عطف خاص على عام، أو عطف المجردات على الجسمانيات، وبه احتج من قال : إن الملائكة أرواح مجردة. قاله البيضاوي. قلت : وهو خلاف الجمهور. بل الملائكة : أجسام لطيفة نورانية متحيزة، لها مادة نورانية وتشكيل مخصوص، غير أن الله تعالى أعطاها قوة التشكيل ؛ لأنها قريبة من أسرار المعاني الأزلية. وعبَّر الحق تعالى ب " ما " ؛ ليشمل العقلاء وغيرهم.
ثم قال تعالى في وصف الملائكة :﴿ وهم لا يستكبرون ﴾ عن عبادته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية، وأحاطت به القهرية، فلا بدّ من الخضوع لأحكام الواحد القهار، تكليفية كانت أو تعريفية، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان، قيد بسلاسل الامتحان. وبهذا امتاز الخصوص من العموم، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار في عنقهم، تجرهم إلى مراد ربهم، فاستسلموا لها، وانقادوا، وخضعوا، وتأدبوا لها، فاستحقوا التقريب والاصطفائية. والعموم جهلوا هذه السلسلة، أو علموها، ولم يقدروا على الاستسلام لها ؛ فاستحقوا البُعد من حضرة الحق ؛ إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب. وبالله التوفيق.
﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ ؛ هو تقرير وبيان ؛ لنفي الاستكبار عنهم، أي : يخافون عظمة ربهم من فوقهم ؛ إذ هم محاطون بأفلاك أسرار الجبروت، مقهورون تحت القدرة والمشيئة أو : يخافون عذاب ربهم أن يُرْسَل عليهم من فوقهم، أو : يخافون ربهم وهو من فوقهم بالقهر والغلبة. والجملة : حال من الضمير في ﴿ يستكبرون ﴾، أو بيان له وتقرير ؛ لأن من خاف ربه لم يستكبر عن عبادته، ﴿ ويفعلون ما يُؤمرون ﴾ من الطاعة وتدبير الأمور التي أمرهم بتدبيرها. وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية، وأحاطت به القهرية، فلا بدّ من الخضوع لأحكام الواحد القهار، تكليفية كانت أو تعريفية، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان، قيد بسلاسل الامتحان. وبهذا امتاز الخصوص من العموم، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار في عنقهم، تجرهم إلى مراد ربهم، فاستسلموا لها، وانقادوا، وخضعوا، وتأدبوا لها، فاستحقوا التقريب والاصطفائية. والعموم جهلوا هذه السلسلة، أو علموها، ولم يقدروا على الاستسلام لها ؛ فاستحقوا البُعد من حضرة الحق ؛ إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب. وبالله التوفيق.
ثم نهى عن الشرك الجلي والخفي، فقال :
﴿ وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ * ﴿ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ * ﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ إلهين اثنين ﴾، إلهين : مفعول أول، واثنين : تأكيد، والثاني : محذوف، أي : معبودين لكم، وفائدة التأكيد : التنبيه على أن المقصود هو النهي عن الاثنينية ؛ تنبيهًا على أن الاثنينية تنافي الألوهية، كما ذكر الواحد في قوله :﴿ إنما هو إله واحد ﴾ ؛ إثبات الوحدانية دون الإلهية. قاله البيضاوي. وعبارة صاحب المطول : لفظ إلهين حامل لمعنى الجنسية - أعني : الإلهية - ومعنى العدد - أعني : الاثنينية - وكذا لفظ " الله " حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له الكلام في الأول : النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله ؛ لا إثبات جنسه، فَوَصَفَ الإلهين باثنين وإله بواحد ؛ إيضاحًا لهذا الغرض وتفسيرًا له. ه. ويحتمل أن يكون " اثنين " مفعولاً أولاً، و " إلهين " مفعولاً ثانيًا.
وقوله :﴿ فإياي ﴾ : مفعول بفعل محذوف، أي : ارهبوا، ولا يعمل فيه ( ارهبون ) ؛ لأنه أخذ مفعوله، وهو : ياء المتكلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين ﴾، بأن تعبدوا الله تعالى، وتعبدوا معه الأصنام، ﴿ إنما هو إله واحد ﴾ لا شريك له ولا ظهير، ولا معين ولا وزير، ﴿ فإياي فارهبون ﴾، عَدَلَ من الغيبة إلى التكلم ؛ مبالغةً في الترهيب، وتصريحًا بالمقصود، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد، فإياي فارهبون، لا غيري.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه، غاب عن ثنوية الأكوان، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
و﴿ واصبًا ﴾ : حال من ﴿ الدين ﴾.
﴿ وله ما في السماوات والأرض ﴾ ؛ خلقًا وملكًا وعبيدًا، ﴿ وله الدين ﴾ أي : الطاعة والانقياد ﴿ واصباً ﴾ : لازماً، أو : واجباً وثابتاً ؛ لما تقرر أنه الإله وحده، والحقيق بأن يرهَبَ منه، فلا يُدَان لأحد إلا هو. وقيل :﴿ وله الدِّينُ ﴾ أي : الجزاء ﴿ واصِبًا ﴾ أي : دائمًا، فلا ينقطع ثوابه لمن آمن، ولا عقابه لمن كفر. ﴿ أفغير الله تتقون ﴾ مع أنه ليس بيد غيره نفع ولا ضر ؟ !
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه، غاب عن ثنوية الأكوان، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
و﴿ ما بكم ﴾ : إما شرطية، أو موصولة متضمنة معنى الشرط ؛ باعتبار الإخبار دون الحصول ؛ فإن استقرار النعمة بهم يكون سببًا للإخبار بأنها من الله، لا سببًا لحصولها منه ؛ لأن جواب الشرط يكون مسببًا عن فعله، واستقرار النعمة بهم ليس سببًا في حصولها من الله، وإنما هو سبب في الإخبار بأنها من الله. فتأمله. وأصله للبيضاوي، والجملة : يحتمل أن تكون استئنافية، أو حالية، فيتصل الكلام بما قبله، أي : كيف تتقون غير الله، والحال أن ما بكم من نعمة فمنه وحده ؟
كما قال :﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ﴾ أيْ : وأيّ شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله وحده، ﴿ ثم إذا مسكم الضرُّ فإليه تجأرون ﴾ أي : فلا تتضرعون عند الشدة إلا إليه، ولا تستغيثون إلا به.
والجؤار : رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه، غاب عن ثنوية الأكوان، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
﴿ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ منكم بربهم يشركون ﴾ وهم : كفاركم، ففي وقت الشدة ينسون أصنامهم، وفي الرخاء يرجعون إليها. فعلوا ذلك ؛ ﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه، غاب عن ثنوية الأكوان، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
واللام في ﴿ ليكفروا ﴾ : لام الأمر على وجه التهديد، كقوله بعدُ :﴿ فتمتعوا ﴾ فعلى هذا يبتدأ بها، وقيل : هي لام العاقبة، فعلى هذا توصف بما قبلها ؛ لأنها في الأصل لام كي، وهو بعيد.
﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ من نعمة الكشف عنهم، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة، أو يكون تهديدًا، أي : ليكفروا ما شاؤوا فسوف يعلمون، كقوله :﴿ فتمتعوا ﴾ بكفركم. ﴿ فسوف تعلمون ﴾ عاقبة أمركم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال في التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا غير الله ؛ لما حققهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية. هـ. فمن فتح الله بصيرته، لم يشهد مع الحق سواه ؛ إذ الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فما حجبك عن الحق وجود موجود معه ؛ إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهم موجود معه ". فمن غاب عن ثنوية نفسه، غاب عن ثنوية الأكوان، ووقع على عين الشهود والعيان. فما ظهر في الوجود إلا أسرار ذاته وأنوار صفاته. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جهالة أهل الشرك سفاهة رأيهم، فقال :
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾، * ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، * ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾، * ﴿ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُواءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾، * ﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
قلت : الضمير في ﴿ يجعلون ﴾، للكفار، وفي ﴿ يعملون ﴾، لهم، أو للأصنام.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويجعلون ﴾ أي : كفار العرب ﴿ لما لا يعلمون ﴾ إلاهيتهم ببرهان ولا حجة، وهم الأصنام. أو : لِمَا لا علم لهم من الجمادات التي يعبدونها، ﴿ نصيبًا مما رزقناهم ﴾ من الزرع والأنعام، بقولهم : هذا لله وهذا لشركائنا، ﴿ تالله لتُسألُنَّ ﴾ ؛ سؤال توبيخ وعتاب. ﴿ عما كنتم تفترون ﴾، من أنها آلهة بالتقرب إليها، أو عما كنتم تفترون على الله من أنه أَمَرَكم بذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التوحيد الكامل، أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد ؛ إذ لا فاعل سواه.
وقوله تعالى :﴿ وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى... ﴾ الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن ؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث :" مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار " ١. إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.

و﴿ لهم ما يشتهون ﴾، يجوز أن يكون ﴿ ما يشتهون ﴾ : مبتدأ، وخبره :﴿ لهم ﴾، وأن يكون مفعولاً بفعل مضمر، أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن يكون معطوفًا على البنات، وهذا منعه البصريون ؛ لاتحاد الفاعل والمفعول، وهو الواو، وضمير لهم في الغيبة، فلا يقال : زيد ضربه، وإنما يقال : ضرب نفسه، ولا يقال : أنا ضربتني، ويجوز ذلك في أفعال القلوب. وقال البيضاوي : ولا يبعد تجويزه في المعطوف، كما في الآية.
﴿ ويجعلون لله البنات ﴾ ؛ من قولهم : الملائكة بنات الله، وكانت خزاعة وكنانة، يقولون ذلك. ﴿ سبحانه ﴾، تنزيهًا له عن ذلك، ﴿ ولهم ما يشتهون ﴾، أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وهم البنون، والمعنى : أنهم يجعلون لله البنات التي يكرهونها - وهو منزه عن الولد -، ويختارون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التوحيد الكامل، أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد ؛ إذ لا فاعل سواه.
وقوله تعالى :﴿ وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى... ﴾ الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن ؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث :" مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار " ١. إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.

﴿ وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ﴾، أي : أُخبر بولادتها عنده. ﴿ ظلّ ﴾، أي : صار. ﴿ وجههُ مُسودًّا ﴾، متغيرًا تغير مغتم ؛ من الكآبة والحياء من الناس، ﴿ وهو كظيم ﴾، ممتلئ غيظًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التوحيد الكامل، أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد ؛ إذ لا فاعل سواه.
وقوله تعالى :﴿ وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى... ﴾ الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن ؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث :" مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار " ١. إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.

﴿ يتوارى ﴾، يختفي، ﴿ من القوم ﴾، أي : من قومه ؛ حياء منهم، ﴿ من سوء ما بُشِّرَ به ﴾ ؛ من قُبِح المبشر به، متفكرًا في نفسه، ﴿ أيُمسكُه على هُونٍ ﴾، أي : يتركه عنده، على ذل وهوان، ﴿ أم يَدُسه في التراب ﴾، أي : يخفيه فيه ويئده، وهي : الموؤودة، وتذكير الضمير ؛ للفظ " ما "، ﴿ ألاَ ساءَ ﴾، بئس، ﴿ ما يحكمُون ﴾، حكمهم هذا ؛ حيث نسبوا لله تعالى البنات، التي هي عندهم بهذا المحل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التوحيد الكامل، أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد ؛ إذ لا فاعل سواه.
وقوله تعالى :﴿ وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى... ﴾ الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن ؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث :" مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار " ١. إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.

﴿ للذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ ﴾، أي : صفة السوء، وهي : الحاجة إلى الولد المنادية بالموت، واستبقاء الذكور ؛ استظهارًا بهم، وكراهة البنات ووأدهن ؛ خشية الإملاق. ﴿ ولله المثَلُ الأعلى ﴾، أي : الصفة العليا، وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق، والجود الفائق، والنزاهة عن صفات المخلوقين، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال. وقال الأزهري : المثل الأعلى، أي : التوحيد والخلق والأمر، ونفي كل إله سواه. ويتَرجم عن هذا كله بقول :" لا إله إلا الله ". ه. ﴿ وهو العزيز ﴾ في ملكه، ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه، أي : المنفرد بكمال القدرة والحكمة، فالقدرة مُظهرة للأشياء في أوقاتها، والحكمة تسترها برداء أسبابها وشروطها. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التوحيد الكامل، أن يتنزهوا عن شبهة الشرك في أعمالهم وأموالهم، فلا يشركون فيما رزقهم الله، من الأموال، أحدًا من المخلوقين، يجعلون لهم نصيبًا في أموالهم، على قصد الحفظ، أو إصلاح النتاج، كما تفعله العامة مع الصالحين، فإن ذلك مما يقدح في صفاء التوحيد ؛ إذ لا فاعل سواه.
وقوله تعالى :﴿ وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى... ﴾ الآية، فيه ذم وتهديد لمن يكره البنات، وينقبض من زيادتهن ؛ لأن فيه نزغة من فعل الجاهلية، بل ينبغي إظهار البسط والبرور بهن أكثر من الذكور، ولا شك أن النفقة عليهن أكثر ثوابًا من الذكور، وفي الحديث :" مَنِ ابْتُلِيَ بهذه البَنَاتِ، فأحْسَنَ إليْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار " ١. إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة تُرغب في الإحسان إليهن. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حكمة إمهاله تعالى للكفار، فقال :
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولو يُؤاخذ اللهُ الناسَ بظلمهم ﴾، أي : بكفرهم، ومعاصيهم الصادرة من بعضهم، ﴿ ما ترك عليها ﴾، أي : على الأرض ﴿ من دابة ﴾ : نسمة تدب عليها، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود :( كاد الجُعَل يهلك في جُحره بذنب ابن آدم ). وقيل : لو هلك الآباء بكفرهم، لم يكن الأبناء، ﴿ ولكن يُؤخرهم إلى أجل مسمى ﴾، سماه لأعمارهم، أو لعذابهم، ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ﴾، عنه، ﴿ ساعة ولا يستقدمون ﴾، عليه، بل يهلكون، أو يُعذبون حينئذ لا محالة، فالحكمة في إمهال أهل الكفر والمعاصي ؛ لئلا يعم العذاب، كقوله :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ]، و( لعل الله تعالى يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله }. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابًا ؛ لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور، فإذا رأى حِلَق الذكر ومجالس العلم، رفع عنهم العذاب. وفي بعض الأخبار :" لَوْلاَ شُيوخٌ ركع، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وبَهَائمُ رُتَّعٌ، لصُبَّ عَليكُمُ العَذَابُ صَبًّا " ١.
١ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٣/٣٤٥، وابن عدي في الكامل في الضعفاء٤/١٦٢٢..
ثم ذكر وعيد الكفار، فقال :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ ﴾
قلت :﴿ أن لهم الحسنى ﴾ : بدل من ﴿ الكذب ﴾، ومن قرأ ﴿ مفرطون ﴾، بالكسر ؛ فاسم فاعل من الإفراط، وهو : تجاوز الحد، ومن قرأها بالفتح ؛ فاسم مفعول، من أفرط في طلب الماء، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد ؛ فمن التفريط.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويجعلون لله ما يكرهون ﴾، لأنفسهم من البنات، والشركاء في الرئاسة وأراذل الأموال، ﴿ وتصف ألسنتُهُم الكذبَ ﴾ مع ذلك، وهو ﴿ أن لهم الحسنى ﴾ عند الله، وهي الجنة. وهذا كقوله :﴿ وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ [ فُصّلت : ٥٠ ]. قال تعالى :﴿ لا جَرَمَ أنَّ لهم النارَ ﴾، أي : لا شك، أو حقًا أن لهم النار، ﴿ وأنهم مُفْرَطُون ﴾، مقدّمون إليها، أو متركون فيها، أو مفرطون في المعاصي والظلم، متجاوزون الحد في ذلك. أو مفرطون في الطاعة ؛ من التفريط.
الإشارة : الواجب في حق الأدب أن ما كان من الكمالات ينسب إلى الله تعالى، كائنًا ما كان، وما كان من النقائص ينسب إلى العبد، وإن كان، في الإيجاد والاختراع، كل من عند الله، وهو بهذا الاعتبار في غاية الحسن.
كما قال صاحب العينية رضي الله عنه :
وكُلُّ قَبِيحٍ إِنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِه أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالهُ فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :
﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ تالله لقد أرسلنا ﴾ رسلاً، ﴿ إلى أمم من قَبلكَ ﴾ يا محمد، ﴿ فزَيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم ﴾ السوء، فرأوها حسنة، فأسروا على قبائحها، وكذبوا الرسل، فصبروا حتى نُصروا. فاصبر كما صبروا، حتى تنصر كما انتصروا. فكان عاقبة من اتبع الشيطان : الهلاك والوقوع في العذاب، ﴿ فهو وليّهم ﴾، أي : متولي أمورهم ﴿ اليومَ ﴾، في الدنيا، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾، في الآخرة، أو : فهو وليهم يوم القيامة، على أنه حكاية حال آتية، أي : لا ولي لهم غيره في ذلك اليوم، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصر غيره ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق، فهو مُزين له في عمله، مُستدرج به وهو لا يشعر، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفي ذلك يقول أبو المواهب :
مَنْ فَاَتَهُ مِنْكَ وَصلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ وَمَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
ونَاظِرٌ في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ
والسَّمْعُ إنْ جَالَ فِيهِ مَنْ يُحَدِّثهُ سِوَى حدَيثِك أَمْسَى وَقرَهُ الصَّمَمُ
فهذه علامات الوصول إلى الحق، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق، ويصرف نظره في معاني أسرار التوحيد، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد، ومن لم يبلغ هذا المقام، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان، فيُزين له عمله، فيقف معه. وبالله التوفيق.

قلت :﴿ وهدى ورحمة ﴾ : معطوفتان على " لتبين "، وانتصبا على المفعولية من أجله، أي : لأجل البيان والهدى والرحمة.
﴿ وما أنزلنا عليك الكتاب ﴾ : القرآن. ﴿ إلا لتُبين لهم ﴾ : للناس. ﴿ الذي اختلفوا فيه ﴾، من التوحيد، والقَدَر، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال، ﴿ وهُدًى ورحمةً لقوم يؤمنون ﴾ به، فإنهم المنتفعون بإنزاله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق، فهو مُزين له في عمله، مُستدرج به وهو لا يشعر، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفي ذلك يقول أبو المواهب :
مَنْ فَاَتَهُ مِنْكَ وَصلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ وَمَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
ونَاظِرٌ في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ
والسَّمْعُ إنْ جَالَ فِيهِ مَنْ يُحَدِّثهُ سِوَى حدَيثِك أَمْسَى وَقرَهُ الصَّمَمُ
فهذه علامات الوصول إلى الحق، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق، ويصرف نظره في معاني أسرار التوحيد، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد، ومن لم يبلغ هذا المقام، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان، فيُزين له عمله، فيقف معه. وبالله التوفيق.

ثم ذكر دلائل توحيده وباهر قدرته، وفي معرفتهما معرفة ذاته، فقال :
﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والله أنزل من السماء ماءً ﴾، مطرًا. ﴿ فأحيا بِهِ الأرض بعد موتها ﴾، أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها، فكانت هامدة غبْراءٍ، غير منبتة، شبيهة بالميت، فصارت، بعد إنزال المطر، مخضرة مهتزة رابية شبيهة بالحي. ﴿ إن في ذلك لآيةً لقوم يسمعون ﴾، سماع تدبر وإنصاف ؛ فإن هذه الآية ظاهرة، تُدرك بأدنى تنبيه وسماع، غير محتاجة إلى كثرة تفكر واعتبار.
الإشارة : والله أنزل من سماء الغيوب ماء العلوم النافعة، فأحيا به أرض النفوس الميتة بالغفلة والجهل، فصارت مبتهجة بأنوار التوحيد وأسرار التفريد، وفي ذلك يقول الشاعر :
إنَّ عرفَان ذي الجلال لعزٌ وضياءٌ وبهجة وسُرور
وعلى العارفين أيضًا بَهَاءٌ وعليهمْ من المحبَّة نُور
فَهنيئًا لمن عرفك إلهي هو والله دهرَه مسرورُ
ثم ذكر دليلا آخر، فقال :
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ ﴾ * ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
قلت : سقى وأسقى : لغتان، على المشهور. والضمير في :﴿ بطونه ﴾ : للأنعام، وذكِّره باعتبار ما ذكر، كقوله :﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ [ عَبَسَ : ١١، ١٢ ]، أو : باعتبار الجنس، وعَدَّه سيبويه في المفردات المبنية على : أفعال، كأخلاق وأكباش، فهو عنده، اسم جمع، كقوم ورهط، فلفظه مفرد ومعناه جمع، فذكَّره هنا : مراعاة للفظه، وأنثه في سورة المؤمنين : مراعاة لمعناه. ومن قال : إنه جمع " نعَم "، جعل الضمير للبعض ؛ فإن اللبن لبعضها دون جميعها.
و﴿ من ﴾، في قوله :" مما " ؛ للتبعيض، و﴿ من بين فرث ﴾ ؛ لابتداء الغاية، و﴿ من ثمرات ﴾ : يتعلق بمحذوف، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل، يدل عليه ﴿ نُسقيكم ﴾ الأول.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإنّ لكم ﴾، أيها الناس، ﴿ في الأنعام ﴾، وهي : الإبل والبقر والغنم، ﴿ لعبرةً ﴾، ظاهرة تدل على كمال قدرته، وعجائب حكمته، وهي أنا ﴿ نُّسْقيكم مما في بطونه ﴾، أي : بعض ما استقر في بطونه من الغذاء، ﴿ من بين فَرْثٍ ﴾ ؛ وهو ما في الكرش من القذر، ﴿ ودمٍ ﴾ ؛ وهو ما تولد من لباب الغذاء، ﴿ لبنًا خالصًا ﴾، من روائح الفرث، صافيًا من لون الدم. والمعنى : أن الله يخلق اللبن متوسطًا بين الفرث والدم يكتنِفَانِه، ومع ذلك فلا يُغير له لونًا ولا طعمًا ولا رائحة. وعن ابن عباس :( إن البهيمة إذا اعتلفت، وانطبخ العلف في كرشها، كان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا ). ثم وصفه بقوله :﴿ سائغًا للشاربين ﴾ ؛ سهل المرور في حلقهم، حتى قيل : لم يغصَّ أحدٌ قَط من اللبن. ورُوِيَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما استخرج الحق، جلّ جلاله، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، استخرج مذهب أهل السنة، القائلين بالكسب، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة، بين قوم أفرطوا، وقوم فرطوا.
واستخرج أيضًا مذهب الصوفية - أعني : المحققين منهم - من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة، بين قوم تفسقوا، وقوم تزندقوا، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة، وهو، إن لم يكن عن غلبة سُكْرٍ، كُفْرٌ. واستخرج، أيضًا، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض، فأهل السلوك المحض محجوبون عن الله، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله، وأهل التربية برزخ بين بحرين، الجذب في بواطنهم، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق، سَكَرًا في قلوبهم، بشهود محبوبهم، ورزقًا حسنًا ؛ معرفة في أسرارهم، وعبودية في ظواهرهم، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع، كل واحد في محله. وبالله التوفيق.


١ انظر السيوطي في الرد المنثور٤/٢٨..
و﴿ تتخذون ﴾ : استئناف لبيان الإسقاء، أو يكون ﴿ ثمرات ﴾ : عطفًا على ﴿ مما في بطونه ﴾، أو يتعلق ﴿ من ثمرات ﴾ بتتخذون، أي : تتخذون من ثمرات النخيل سَكَرًا. وكرر ﴿ منه ﴾ للتأكيد، أو يكون ﴿ تتخذون ﴾ : صفة لمحذوف، أي : شيء تتخذون منه سكرًا.
﴿ و ﴾ نُسقيكم، أيضًا، ﴿ من ثمرات النخيلِ والأعنابِ ﴾، أي : من عصيرهما. ثم بيَّن كيفية الإسقاء فقال :﴿ تتخذون منه ﴾، أي : مما ذكر ﴿ سَكَرًا ﴾ يعني : الخمر، سميت بالمصدر، ونزل قبل تحريم الخمر، فهي منسوخة بالتحريم. وقيل : هي على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر، ولا تعرُّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم، وهذا هو الصحيح. وفي دعوى النسخ نظر ؛ لأن النسخ إنما يكون في الأحكام المشروعة المقررة، وهنا ليس كذلك، إنما فيه امتنان واعتبار فقط. ﴿ و ﴾ تتخذون من ثمراتها ﴿ رزقًا حسنًا ﴾ ؛ كالتمر، والزبيب، والدبْس - وهو ما يسيل من الرطب -، والخلُّ، والربُّ، وقيل : السَّكَرُ : المائع من هاتين الشجرتين ؛ كالخل، والرُّب، والرزق الحسن : العنب والتمر. ﴿ إنَّ في ذلك لآية ﴾ دالة على كمال قدرته تعالى، ﴿ لقوم يعقلون ﴾ ؛ يستعملون عقولهم بالتأمل، والنظر في الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما استخرج الحق، جلّ جلاله، من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، استخرج مذهب أهل السنة، القائلين بالكسب، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة، بين قوم أفرطوا، وقوم فرطوا.
واستخرج أيضًا مذهب الصوفية - أعني : المحققين منهم - من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة، بين قوم تفسقوا، وقوم تزندقوا، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة، وهو، إن لم يكن عن غلبة سُكْرٍ، كُفْرٌ. واستخرج، أيضًا، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض، فأهل السلوك المحض محجوبون عن الله، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله، وأهل التربية برزخ بين بحرين، الجذب في بواطنهم، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق، سَكَرًا في قلوبهم، بشهود محبوبهم، ورزقًا حسنًا ؛ معرفة في أسرارهم، وعبودية في ظواهرهم، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع، كل واحد في محله. وبالله التوفيق.

ثم ذكر دليلا آخر، فقال :
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
قلت :﴿ أن اتخذي ﴾ : مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل، أو مصدرية، أي : بأن اتخذي. و﴿ من ﴾ : للتبعيض في الثلاثة مواضع، ﴿ ثم كُلِي ﴾ : عطف على ﴿ اتخذي ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأوْحَى ربك إلى النحل ﴾، أي : ألهمها، وقذف في قلوبها ذلك. والوحي على ثلاثة أقسام : وحْيُ إلهام، ووحيُ منام، ووحْيُ أحكام. وقال الراغب : أصل الوحي : الإشارة السريعة، إما بالكلام ؛ رمزًا، وإما بصوت مجرد عن التركيب، أو بإشارة ببعض الجوارح، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء : وحي، وذلك أضْرُبٌ ؛ إما برسول مشاهَد، وإما بسماع كلام من غير معاينة، كسماع موسى كلام الله، وإما بإلقاءٍ في الروع، وإما بإلهام، نحو :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾ [ القَصَص : ٧ ]، وإما تسخير، كقوله :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾، أو بمنام، كقوله صلى الله عليه وسلم :" انقطع الوحي، وبقي المبشرات ؛ رؤيا المؤمن " ١.
ثم بيَّن ما أوحي إليها فقال :﴿ أنِ اتخذي ﴾، أو بأن اتخذي ﴿ من الجبال بيوتًا ﴾ تأوين إليها، كالكهوف ونحوها، ﴿ ومن الشجر ﴾ بيوتًا، كالأجْبَاح٢ ونحوها، ﴿ ومما يَعرِشُون ﴾، أي : يهيئون، أو يبنون لك الناس من الأماكن، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض ؛ لأنها لا تُبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش ؛ من كرْم أو سقف، ولا في كل مكان منها. وإنما سمي ما تبنيه، لتتعسل فيه، بيتًا ؛ تشبيهًا ببناء الإنسان ؛ لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسْمة، التي لا يقوى عليها حُذَّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره : للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت : وليس للنحل فعل في الحقيقة، وإنما هو صنع العليم الحكيم في مظاهر النحل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما كان العسل فيه شفاء للناس ؛ لأن النحل ترعى من جميع العشب، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، فإذا كان بهذه المنزلة، كان فيه شفاء للقلوب، كل من صحبه، بصدق ومحبة، شفاه الله، وكل من رآه، بتعظيم وصدق، أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف : هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيب منه شيئًا، يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صفوه شيء، قد شغله واحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء... إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي : قال أبو بكر الوراق : النحلة لَمَّا تبعت الأمر، وسلكت سبيلها على ما أمرت به، جعل لعابها شفاء للناس، كذلك المؤمن، إذا اتبع الأمر، وحفظ السر، وأقبل على مولاه، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق، ومن نظر إليه اعتبر، ومن سمع كلامه اتعظ، ومن جالسه سعد. هـ.

١ روي الحديث بلفظ: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، أخرجه البخاري في التعبير باب ٥، ومسلم في الصلاة حديث٢٠٧، ومالك في الرؤيا حديث ٣، وأحمد في المسند ١/٢١٩، ٣/٢٦٧، ٥/٤٥٤، ١٢٩..
٢ الأجباح: جمع جبح، وهو موضع النحل في الجبل..
و﴿ من ﴾ : للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من جميع الشجر، وقيل : من كل الثمرات التي تشتهيها، فتكون للبيان. و﴿ ذُللاً ﴾ : حال من السبل، أو من الضمير في ﴿ اسلكي ﴾.
ثم قال لها :﴿ ثم كُلِي من كل الثمرات ﴾ التي تشتهيها، حلوها ومرها. قيل : إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة. ﴿ فاسْلُكي ﴾، أي : ادخلي ﴿ سُبل ربك ﴾ ؛ طُرقه في طلب المرعى، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبلَ ربك، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه ؛ لأنها خلقه وملْكه. ﴿ ذُللاً ﴾ : مطيعة منقادة لما يراد منك، أو اسلكي طرقَه، مذللة مسخرة لكِ، فلا تعسر عليك وإن توعرت، ولا تضل عن العْود منها وإن بَعُدت. قال مجاهد : لم يتوعَّر على النحل قط طريق.
﴿ يخرجُ من بطونها شرابٌ ﴾ : وهو العسل، عَدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ؛ لأنه محل الإنعام عليهم، والمقصود من خلق النحل وإلهامه ؛ لأجلهم. وسماه شرابًا ؛ لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل، وهو ظاهر كلام سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تحقيره للدنيا، قال :( أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة - أو قيء نحلة-، وأشرف لذة فيها مَبَال في مبال ).
وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل. قاله ابن عطية. قلت : والذي ألفيناه، ممن يتعاطاهم، أنه يخرج من دبرهم.
وقوله :﴿ مختلفٌ ألوانه ﴾، أي : أبيض، وأحمر، وأسود، وأصفر، بحسب اختلاف سن النحل، ومراعيها. وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه. ومنه قول عائشة للنبي - عليه الصلاة والسلام - :( جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ )١، وهو نبت مُنتن الرائحة، شُبهت رائحته برائحة المغافير٢.
ثم قال تعالى :﴿ فيه شفاء للناس ﴾، إما بنفسه، كما في الأمراض البلغمية، أو مع غيره، كما في سائر الأمراض ؛ إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه. قاله البيضاوي. قال السيوطي : قيل : لبعضها، كما دل عليه تنكير شفاء، أو لكلها بضميمةٍ إلى غيره. - أقول : وبدونها بنية -. وقد أمر به صلى الله عليه وسلم من استطلق بطنه، رواه الشيخان. ه. قال ابن جزي : لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل، كالمعاجن، والأشربة النافعة من الأمراض. وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء، فكأنه أخذه من العموم. وعلى ذلك يدل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أن رجلاً جاء إليه فقال : أَخي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فقال :" اسْقِهِ عَسَلاً "، فَذَهَب ثُمَ رَجَع، فقال : قَدْ سَقَيْتُهُ فَما نَفعَ، قال :" فاذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلاً، فَقَد صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ "، فَسَقَاهُ فشفاه الله عزّ وجلّ " ٣.
﴿ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ﴾، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر، عَلِمَ قطعًا، أنه لا بدّ له من قادر مدبر حكيم، يلهمها ذلك ويحملها عليه، وهو الحق تعالى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما كان العسل فيه شفاء للناس ؛ لأن النحل ترعى من جميع العشب، فتأخذ خواص منافعها. وكذلك العارف الكامل يأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، فإذا كان بهذه المنزلة، كان فيه شفاء للقلوب، كل من صحبه، بصدق ومحبة، شفاه الله، وكل من رآه، بتعظيم وصدق، أحياه الله. وقد قالوا في صفة العارف : هو الذي يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيب منه شيئًا، يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صفوه شيء، قد شغله واحد عن كل شيء، ولم يشغله عن الواحد شيء... إلى غير ذلك من نعوته. وقال الورتجبي : قال أبو بكر الوراق : النحلة لَمَّا تبعت الأمر، وسلكت سبيلها على ما أمرت به، جعل لعابها شفاء للناس، كذلك المؤمن، إذا اتبع الأمر، وحفظ السر، وأقبل على مولاه، جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق، ومن نظر إليه اعتبر، ومن سمع كلامه اتعظ، ومن جالسه سعد. هـ.

١ أخرجه البخاري في الطلاق باب ٨، والحيل باب ١٢، ومسلم في الرضاع حديث ٨٨ (الطلاق حديث٢٣)، وأحمد في المسند٦/٥٩..
٢ المغافير: جمع مغفور ومغفار، وهو صمغ له رائحة كريهة، يسيل من شجر العرفط، ويؤكل، أو يوضع في ثوب، ثم ينضخ بالماء فيشرب..
٣ أخرجه البخاري في الطب باب ٤، ٢٤، ومسلم في السلام حديث ٩١، والترمذي في الطب باب ٣١، وأحمد في المسند٣/١٩، ٢٠، ٩٢..
ثم ذكر دلالة أخرى على قدرته، وهي : الإحياء والإماتة، فقال :
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والله خلقكم ﴾ : أظهركم إلى عالم الشهادة، ﴿ ثم يتوفاكم ﴾ : يردكم إلى عالم الغيب عند انتهاء آجالكم، ﴿ ومنكم مَن يُردُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ ﴾، أي : أخسه، يعني : الهرَم والخرف، الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل. وقيل : هو : خمس وتسعون سنة، وقيل : خمس وسبعون سنة، والتحقيق : أن ذلك لا ينضبط بسن. ﴿ لكي لا يَعْلَم بعد عِلْمٍ شيئًا ﴾ ؛ ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية، في نقصان العقل والنسيان وسوء الفهم. وليس المراد نفي العلم بالكلية، بل عبارة عن قلة العلم ؛ لغلبة النسيان. وقيل : المعنى : لئلا يعلم زيادة على علمه شيئًا. قال عكرمة :( من قرأ القرآن لم يصر بهذه المنزلة ).
قلت : جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي تخصيص القارئ للقرآن بالمتبع له، وأنه الذي يُمتعه الله بعقله حتى يموت، وهو الذي يشهد له الحس، أي : الوجود في الخارج، بالصدق، لوجود الخرف في كثير ممن يحفظه. قاله في الحاشية.
﴿ إن الله عليم قدير ﴾، أي : عليم بمقادير الأشياء وأوقاتها، قدير على إيجاد الأشياء وإعدامها، عند انتهاء آجالها، فيميت الشاب النشط عند تمام أجله، ويبقي الهرم الفاني إلى انقضاء أجله. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن تفاوت أعمار الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم، وعدل أمزجتهم، على قدر معلوم، ولو كان في ذلك بمقتضى الطبائع لم يقع التفاوت إلى هذا المبلغ. ه.
الإشارة : الخلق والتوفي هو من جملة الظهور والبطون، عند أهل التوحيد الخاص، والرد إلى أرذل العمر لا يلحق العارفين بالله. وقد قيل، في استثناء قوله :
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ العَصر : ٣ ]، من الرد إلى أسفل سافلين : إن الصالح لا يدركه الخَرف، وإن أدركه الهرم. وذلك دليل على سعادته، وعدم تشويه صورته في الآخرة، والله تعالى قادر على وقاية أوليائه مما يشين به أعداءه عاجلاً. وفي الحديث :" إذا قرأ الرجلُ القرآنَ، واحتْشَى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي : امتلأ - وكانتْ هناك غزيرةٌ - يعني : فقه نفس ومعرفة -، كان خليفةً من خلفاء الأنبياء ".
ثم سفه رأي من أشرك بعد هذه الدلائل، فقال :
﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق ﴾، فمنكم غني ومنكم فقير، ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم، ﴿ فما الذين فُضِّلوا ﴾، وهم الموالي، أي : السادات، ﴿ برادِّي رِزقهم ﴾ : بمعطي رزقهم ﴿ على ما ملكتْ أيمانُهم ﴾ : على مماليكهم، أي : ليس الموالي بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها، شركة بينهم وبين مماليكهم، ﴿ فهُم ﴾، أي : المماليك، ﴿ فيه سواءٌ ﴾ مع ساداتهم. وهو احتجاج على وحدانيته تعالى، وإنكارٌ ورد على المشركين، فكأنه يقول : أنتم لا تسَوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، بل تأنفون من ذلك، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي في ألوهيتي ؟ ! وهذا كقوله :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ [ الرُّوم : ٢٨ ]. ويحتمل أن يكون ذمًا وعتابًا لمن لا يحسن إلى مملوكه، حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما في الحديث :" أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون " ١.
﴿ أفبنعمة الله يجحدون ﴾، حيث يجعلون له شركاء، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا هذه الحجج، بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، أو حيث بخسوا مماليكهم مما يجب لهم من الإنفاق. على التفسير الثاني.
الإشارة : والله فضَّل بعضكم على بعض في أرزاق العلوم، والأسرار والمواهب، فمنكم غني بالله، ومنكم فقير منه في قلبه، ومنكم عالم به، ومنكم جاهل، ومنكم قوي اليقين، ومنكم ضعيف، فما الذين فُضِّلوا بالعلوم اللدنية والأسرار الربانية، برادِّي تلك العلوم على الجهلة وضعفاء اليقين، بأن يُطلعوهم على أسرار الربوبية قبل استحقاقها - فإن ذلك بخس بحقها - حتى يرونهم أهلاً لها ؛ بأن يبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، ويملكون لهم رقابهم يتصرفون فيها تصرف المالك في مملوكه، فحينئذ يشاركونهم فيما منحهم الله من أرزاق العلوم وأسرار الفهوم، وقد قيل : لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
سأكْتُمُ عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي ولا أنْثُرُ الدُرّ النَّفيس على البَهم
فإنْ قَدَّر اللهُ الكَريمُ بِلُطْفِهِ ولاقَيتُ أهلاً للعُلُوم وللحِكَمْ
بَذلْتُ عُلُومِي واستَفَدْتُ عُلومَهُم وإِلاَّ فمخْزُونٌ لَدَيّ ومُكْتَتمْ
فمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ومَنْ مَنَعَ المستوجِبين فَقَد ظَلَمَ
١ أخرجه مسلم في الزهد حديث ٧٤..
ثم ذكرهم بالنعم التي لا قدرة لأحد عليها، فقال :
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾.
قلت : الحفدة : جمع حافد، وهو الخديم المسرع في الخدمة، والحفْد في اللغة : الخدمة، ومنه في القنوت :" وإليك نسعى ونحفد "، أي : نسرع في خدمتك. وسموا أولاد الأولاد حفدة ؛ لأنهم يُسرعون في خدمة جدهم، حين كبر ولزم الدار، وقيل : هم البنات ؛ لأنهن يخدمن الدار.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا ﴾ ؛ حيث خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطفة الرجال، والنساء خلقهن لكم، لتتأنسوا بهن، ولتتمتعوا بهن في الحلال، وليكون أولادكم مثلكم. ﴿ وجعل لكم من أزواجكم بَنين ﴾، من صلبكم، ﴿ وحفَدةً ﴾، أولاد أولادكم أو بناتكم ؛ فإن البنات يخدمن في البيوت أشد الخدمة، أو الأصهار من قِبل النساء، أو الخدَم، ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾، من اللذائذ والمشتهيات ؛ كأنواع الثمار والحبوب والفواكه، والحيوان، أكلاً وركوبًا وزينة، أو الحلالات، و " من " : للتبعيض ؛ فإن طيبات الدنيا أنموذج من نعيم الآخرة. ﴿ أفَبِالباطل يؤمنون ﴾، وهو : أن الأصنام تنفعهم ؛ لأن الأصنام باطلة لا حقيقة لوجودها، وإضافة النفع لها : كفرٌ بنعمة الله، ولذلك قال :﴿ وبنعمة الله هم يكفرون ﴾، حيث أضافوها إلى أصنامهم، أو حيث حَرَّموا منها ما أحله الله لهم كالبحائر والسوائب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : والله جعل لكم من أنفسكم المطهرة، أصنافًا من العلوم اللدنية. قال أبو سليمان الداراني :( إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدي إليها عالم علمًا ). وجعل لكم من تلك العلوم بنين روحانيين، وهو التلامذة، يحملون تلك العلوم، وحفدة : من ينقل ذلك عنهم إلى يوم القيامة، ورزقكم من الطيبات، وهي حلاوة المعرفة عند العارفين، وحلاوة الطاعات عند المجتهدين. أفبالباطل - وهو ما سوى الله - يؤمنون، فيقفون مع الوسائط والأسباب، ويغيبون عن مسبب الأسباب، وبنعمة الله - التي هي شهود الحق بلا وسائط - هم يكفرون.
ثم عاب على من وقف مع غير الله، فقال :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾، ﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾. قلت :﴿ رِزْقًا ﴾ : مفعول بيملك، فيحتمل أن يكون مصدرًا، أو اسمًا لما يرزق، فإن كان مصدرًا، فشيئًا : مفعول به ؛ لأن المصدر ينصب المفعول، وإن كان اسمًا، فشيئًا : بدل منه. وجمع الضمير في ﴿ يستطيعون ﴾، وأفرده في ﴿ يمْلك ﴾ ؛ لأن ﴿ ما ﴾ مفردة ؛ لفظًا، واقعة على الآلهة، فراعى أولاً : اللفظ، وفي الثاني : المعنى.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويعبدون من دون الله ﴾، أي : غيره. ﴿ ما لا يَملك لهم رزقًا من السماوات ﴾ ؛ بالمطر، ﴿ والأرض ﴾ ؛ بالنبات، فلا يرزقونهم من ذلك ﴿ شيئًا ولا يستطيعون ﴾ : لا يقدرون على شيء من ذلك ؛ لعجزهم، وهم الأصنام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من ركن إلى شيء دون الحق تعالى، أو اعتمد عليه في إيصال المنافع أو دفع المضار، تصدق عليه الآية، وتجر ذيلها عليه، فلا تجعلوا لله أمثالاً تعتمدون عليهم وتركنون إليهم، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو تعلمون ولا تعملون، ولقد قال من عَلِمَ ذلك وتحقق به :
حَـرَامٌ عَلَـى مَـنْ وَحَّـد الله رَبَّـهُ وأَفْرَدَهُ أَن يجتدي أَحـَـدًا رِفْـدا
فَيَا صَاحِبِي قِفْ عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أمُوتُ بِها وَجْدًا وأحْيَا بِها وجَدا
وقـُلْ لـمـلـوكِ الأرْضِ تَجْهـدَ فَذَا المُلْكُ مُلكٌ لا يُبَاعُ ولا يُهْدَى
قال سهل رضي الله عنه :" ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار، فأيما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غَيْرِهِ، سلط عليه إبليس ". وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله عنه : من علامة المعرفة : ألا تسأل حوائجك، قلَّتْ أو كثُرت، إلا من الله سبحانه، مثل موسى عليه السلام ؛ اشتاق إلى الرؤية، فقال :﴿ رب أرني أنظر إليك ﴾، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال :﴿ رب إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير ﴾. هـ. وقال في التنوير : اعلم، رحمك الله، أن رفع الهمة عن المخلوقين، وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحليّ للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس... الخ كلامه رضي الله عنه.

﴿ فلا تضربوا لله الأمثالَ ﴾ ؛ لا تجعلوا له أشباهًا تشركونهم به، أو تقيسونهم عليه، فإنَّ ضرب المثل تشبيه حال بحال، ﴿ إنَّ الله يعلمُ ﴾ ألاَّ مِثلَ لَه، أو فساد ما يقولون عليه من القياس، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ ذلك، ولو علمتموه لما تجرأتم عليه، فهو تعليل للنهي، أي : إنه يعلم كنه الأشياء، وأنتم لا تعلمون، فدعوا رأيكم، وقفوا عندما ما حد لكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من ركن إلى شيء دون الحق تعالى، أو اعتمد عليه في إيصال المنافع أو دفع المضار، تصدق عليه الآية، وتجر ذيلها عليه، فلا تجعلوا لله أمثالاً تعتمدون عليهم وتركنون إليهم، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو تعلمون ولا تعملون، ولقد قال من عَلِمَ ذلك وتحقق به :
حَـرَامٌ عَلَـى مَـنْ وَحَّـد الله رَبَّـهُ وأَفْرَدَهُ أَن يجتدي أَحـَـدًا رِفْـدا
فَيَا صَاحِبِي قِفْ عَلَى الحَقِّ وَقْفةً أمُوتُ بِها وَجْدًا وأحْيَا بِها وجَدا
وقـُلْ لـمـلـوكِ الأرْضِ تَجْهـدَ فَذَا المُلْكُ مُلكٌ لا يُبَاعُ ولا يُهْدَى
قال سهل رضي الله عنه :" ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار، فأيما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غَيْرِهِ، سلط عليه إبليس ". وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله عنه : من علامة المعرفة : ألا تسأل حوائجك، قلَّتْ أو كثُرت، إلا من الله سبحانه، مثل موسى عليه السلام ؛ اشتاق إلى الرؤية، فقال :﴿ رب أرني أنظر إليك ﴾، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال :﴿ رب إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير ﴾. هـ. وقال في التنوير : اعلم، رحمك الله، أن رفع الهمة عن المخلوقين، وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحليّ للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس... الخ كلامه رضي الله عنه.

ثم ضرب مثلا لنفسه، ولمن يعبد معه، فقال :
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
قلت :﴿ عبدًا ﴾ : بدل من ﴿ مَثَلاً ﴾، و﴿ مَن ﴾ : نكرة موصوفة، أي : عبدًا مملوكًا، وحرًا رزقناه منا رزقًا حسنًا، وقيل : موصولة. و﴿ سرًّا وجهرًا ﴾ : على إسقاط الخافض، وجمع الضمير في :﴿ يستوون ﴾ ؛ لأنه للجنسين، و﴿ رجلين ﴾ : بدل من :﴿ مَثَلاً ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ضَرَبَ اللهُ مثلاً ﴾، لضعف العبودية، وعظمة الربوبية، ثم بيَّنه فقال :﴿ عبدًا مملوكًا لا يقدرُ على شيءٍ ﴾، وهذا مثال للعبد، ﴿ ومن رزقناه ﴾، أي : وحرًا رزقناه، ﴿ مِنا رزقًا حسنًا فهو ﴾ يتصرف فيه كيف يشاء، ﴿ ينفق منه سرًا وجهرًا ﴾، وهذا : مثال للرب تبارك وتعالى، مَثَّلَ ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسًا، ومَثَّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
وقيل : هو تمثيل للكافر المخذول، والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك ؛ للتمييز من الحر ؛ فإنه أيضًا عبدٌ لله. وبسلْب القدرة عن المكاتب والمأذون في التصرف، فإن الأصنام إنما تشبه العبد الْقِنّ ؛ الذي لا شوب حرية فيه، بل هي أعجز منه بكثير، فكيف تضاهي الواحد القهار، الذي لا يعجزه مقدور ؟ ولذلك قال :﴿ هل يستوون ﴾ ؟ أي : العبيد العجزة، والمتصرف بالإطلاق. ﴿ الحمد لله ﴾ على بيان الحق ووضوحه ؛ لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره، فضلاً عن العبادة ؛ لأنه مولى النعم كلها. ﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾، أي : لا علم لهم : فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية، منعوت بعظمة الألوهية، وعبيده موسومون بنقائص العبودية، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله في باطنه بكمالات الربوبية ؛ من قوة وعلم، وغنى وعز، ونصر وملك، فليتحقق في ظاهره بنقائص العبودية ؛ من ذل، وفقر، وضعف، وعجز، وجهل. فبقدر ما تجعل في ظاهرك من نقائص العبودية يمدك في باطنك بكمالات الربوبية ؛ " تحقق بوصفك يمدك بوصفه "، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرًا بين خلقه، لا منفردًا وحده ؛ إذ ليس فيه كبير مجاهدة ؛ إذ كل الناس يقدرون عليه، وإنما التحقق بالوصف - الذي هو ضامن للمدد الإلهي - هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.
ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال :﴿ وضَرَبَ اللهُ مثَلاً ﴾، ثم بيًّنه بقوله :﴿ رجلين أحدهما أبْكَمُ ﴾ ؛ وُلد أخرس، لا يَفهم ولا يُفهم، ﴿ لا يقدر على شيء ﴾ من الصنائع والتدابير ؛ لنقصان عقله، ﴿ وهو كَلٌّ ﴾ أي : ثقيل عيال ﴿ على مولاه ﴾ الذي يلي أمره، ﴿ أينما يُوجهه ﴾ : يُرسله في حاجة أو أمر ﴿ لا يأتِ بخير ﴾ ؛ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. ﴿ هل يستوي هو ﴾، أي : الأبكم المذكور، ﴿ ومَن يأمر بالعدل ﴾ ؛ ومن هو مِنطيقٌ متكلم بحوائجه، ذو كفاية ورشد، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل، ﴿ وهو على صراط مستقيم ﴾، أي : وهو في نفسه على طريق مستقيم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعْي ؟
وهذا مثال للحق تعالى، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام، وقيل : للكافر والمؤمن. والأصوب : كون المَثَليْن معًا في الله مع الأصنام ؛ لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها في تبيين أمر الله، والرد على أمر الأصنام. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية، منعوت بعظمة الألوهية، وعبيده موسومون بنقائص العبودية، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله في باطنه بكمالات الربوبية ؛ من قوة وعلم، وغنى وعز، ونصر وملك، فليتحقق في ظاهره بنقائص العبودية ؛ من ذل، وفقر، وضعف، وعجز، وجهل. فبقدر ما تجعل في ظاهرك من نقائص العبودية يمدك في باطنك بكمالات الربوبية ؛ " تحقق بوصفك يمدك بوصفه "، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرًا بين خلقه، لا منفردًا وحده ؛ إذ ليس فيه كبير مجاهدة ؛ إذ كل الناس يقدرون عليه، وإنما التحقق بالوصف - الذي هو ضامن للمدد الإلهي - هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.
ثم بين كمال علمه وقدرته، بعد أن ذكر كمالات ذاته، فقال :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولله غيبُ السماواتِ والأرض ﴾، أي : يعلم ما غاب فيهما، كان محسوسًا أو غير محسوس ؛ قد اختص به علمه، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال :﴿ وما أمرُ الساعةِ ﴾، أي : قيام القيامة، في سرعته وسهولته، ﴿ إلا كلمح البصر ﴾، كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، ﴿ أو هو أقرب ﴾ : أو أمرها أقرب منه ؛ بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل أقل ؛ لأن الحق تعالى يحيي الخلائق دفعة واحدة، في أقل من رمشة عين، و " أو " للتخيير، أو بمعنى بل. ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾، فيقدر على أن يُحيي الخلائق دفعة، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما غاب في سماوات الأرواح من علوم أسْرار الربوبية، وفي أرض النفوس من علوم أحكام العبودية، هو في خزائن الله، يفتح منهما ما شاء على من يشاء ؛ إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده، بأن يميته عن نفسه، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج، فيُخرجه إلى هذا العالم جاهلاً، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ، وبصره للنظر والاعتبار، وقلبه للشهود والاستبصار، حتى يصير عالمًا عارفًا بربه، من الشاكرين الذين يعبدون الله، شكرًا وقيامًا برسم العبودية. وبالله التوفيق.
قلت :﴿ أمهات ﴾ : جمع أم، زيدت فيه الهاء ؛ فرقًا بين من يعقل ومن لا يعقل، قاله ابن جزي. والذي لغيره حتى ابن عطية : إنما زيدت ؛ لمبالغة والتأكيد. وقرئ : بضم الهمزة، وبكسرها ؛ اتباعًا للكسرة قبلها.
ثم دلَّ على قدرته فقال :﴿ والله أخرجكم من بُطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا ﴾ ؛ جهالاً، ﴿ وجعل لكم السمعَ ﴾، أي : الأسماع، ﴿ والأبصارَ والأفئدة ﴾، أي : القلوب، فتكتسبون، بما تُدركون من المحسوسات، العلوم البديهية، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار، ثم تُدركون معرفة الخالق، ﴿ لعلكم تشكرون ﴾، نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أظهركم أولاً من العدم، ثم أمدكم ثانيًا بضروب النعم، طورًا بعد طور، حتى قدمتم عليه.
وقدَّم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر ؛ لأنه أنفع للقلب من البصر، وأشد تأثيرًا فيه، وأعم نفعًا منه في الدين ؛ إذ لو كانت الناس كلهم صمًا، ثم بُعِثت الرسل، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم ؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع ؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام، وإنما أفرده، وجمع الأبصار والأفئدة ؛ لأن متعلق السمع جنس واحد، وهي الأصوات، بخلاف متعلق البصر، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان، والأنوار والظلمات، وسائر المحسوسات، وكذلك متعلق القلوب ؛ معاني ومحسوسات، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما غاب في سماوات الأرواح من علوم أسْرار الربوبية، وفي أرض النفوس من علوم أحكام العبودية، هو في خزائن الله، يفتح منهما ما شاء على من يشاء ؛ إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده، بأن يميته عن نفسه، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج، فيُخرجه إلى هذا العالم جاهلاً، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ، وبصره للنظر والاعتبار، وقلبه للشهود والاستبصار، حتى يصير عالمًا عارفًا بربه، من الشاكرين الذين يعبدون الله، شكرًا وقيامًا برسم العبودية. وبالله التوفيق.
ثم حض على التفكير، الذي هو سبب المعرفة وشبكة العلوم، فقال :
﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ﴾ * ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ * ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾ * ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾.
قلت :﴿ مسخرات ﴾ : حال من ﴿ الطير ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم يروا ﴾، وفي قراءة :﴿ ألم تروا ﴾ ؛ بتوجيه الخطاب لعامة الناس، ﴿ إلى الطير مسخراتٍ ﴾ : مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية، ﴿ في جو السماء ﴾ ؛ في الهواء المتباعد من الأرض. ﴿ ما يُمسكهنَّ ﴾ فيه ﴿ إلا اللهُ ﴾ ؛ فإن ثِقلَ جسدها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها، ﴿ إنَّ في ﴾ تسخيره ﴿ ذلك ﴾ لها ﴿ لآيات ﴾ ؛ لعبرًا ودلالة على قدرته تعالى ؛ إذ لا فاعل سواه ؛ فإنَّ إمساك الطيران في الهواء هو على خلاف طباعها، لولا أن القدرة تحملها، ففيه آيات ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ ؛ لأنهم هم المنتفعون بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي : بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا - وهي العبودية -، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام ؛ بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله ؛ حقيقة ؛ هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم :
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل
والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة ؛ لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها : كناية عن قوتها، وتكبيرها ؛ على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هي سراج القلب -، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر :
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب : وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته.

و﴿ سكنًا ﴾ : مصدر وُصف به، أي : شيئًا سكنًا، أو : فَعَلٌ ؛ بمعنى مفعول. و ﴿ أثاثًا ﴾ : مفعول بمحذوف، أي : وجعل من أوبارها أثاثًا.
﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا ﴾ : موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدَر. و " مِنْ " للبيان، أي : جعل لكم سكنًا، أي : موضعًا تسكنونه، وهو بيوتكم، ﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا ﴾، هي القباب المتخذة من الأدم، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبَر والصوف والشعر، فإنها، من حيث إنها نابتة على جلودها، كأنها من جلودها، ﴿ تستخفونها ﴾ أي : تجدونها خفيفة، يخف عليكم حملها وثقلها ﴿ يوم ظعنكم ﴾، أي : سفركم، وفيه لغتان : الفتح والسكون، ﴿ ويوم إقامتكم ﴾ : حضوركم، أو نزولكم، ﴿ و ﴾ جعل ﴿ من أصوافها ﴾، أي : الغنم، ﴿ وأوبارها ﴾، أي : الإبل، ﴿ وأشعارها ﴾، أي : المعز، ﴿ أثاثًا ﴾ : متاعًا لبيوتكم ؛ كالبسُط والأكسية، ﴿ ومتاعًا ﴾ تمتعون به ﴿ إلى حينٍ ﴾ : إلى مدة من الزمان، فإنها، لصلابتها، تبقى مدة مديدة، أو : إلى مماتكم، أو : إلى أن تقضوا منها أوطاركم، أو : إلى أن تبلى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي : بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا - وهي العبودية -، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام ؛ بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله ؛ حقيقة ؛ هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم :
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل
والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة ؛ لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها : كناية عن قوتها، وتكبيرها ؛ على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هي سراج القلب -، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر :
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب : وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته.

﴿ والله جعل لكم مما خلق ﴾، من الشجر والجبال والأبنية، وغيرها، ﴿ ظِلالاً ﴾، تتقون بها حر الشمس، ﴿ وجعل لكم من الجبال أكنانًا ﴾ ؛ جمع كَن، ما تكنون، أي : تستترون به من الحر والبرد، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها، ﴿ وجعل لكم سرابيل ﴾، جمع سربال : ثيابًا من الصوف والكتان والقطن وغيرها، ﴿ تقيكم الحرَّ ﴾ والبرد، وخص الحر بالذكر، اكتفاء بأحد الضدين ؛ أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم. ﴿ وسرابيل تقيكم بأسكم ﴾ : حربكم، كالطعن والضرب. وهي : الدروع، وتسمى : الجواشن، جمع جَوشن، وهو الدرع. ﴿ كذلك ﴾ ؛ كإتمام هذه النعم، بخلق هذه الأشياء المتقدمة، ﴿ يُتم نعمتَه عليكم ﴾ في الدنيا، بخلق ما تحتاجون إليه، ﴿ لعلكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ تُسْلمون ﴾، أي : تنظرون في نعمه، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه. وفي قراءة : بفتح التاء، أي : تسلمون من العذاب بالإيمان، أو تنظرون فيها، فتوحدون، وتَسلمون من الشرك، أو من الجراح ؛ بلبس الدروع.
سورة النحل
مكية، إلا قوله :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به... ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] الآية، نزلت في غزوة أحد. وهي مائة وثمان وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله :﴿ حتى يأتيك اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٩ ] ؛ وهو الموت وما بعده من البعث والحساب.
﴿ فإِن تولوا ﴾ : أعرضوا، ولم يقبلوا منك، أو لم يُسلموا. ﴿ فإِنما عليك ﴾ يا محمد ﴿ البلاغُ المبين ﴾، أي : الإبلاغ البين، فلا يضرك إعْراضهم حيث بلَّغْتَهُمْ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي : بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا - وهي العبودية -، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام ؛ بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله ؛ حقيقة ؛ هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم :
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل
والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة ؛ لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها : كناية عن قوتها، وتكبيرها ؛ على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هي سراج القلب -، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر :
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب : وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته.

﴿ يعرفون نِعْمَةَ الله ﴾، أي : يُقرون بأنها من عنده، ﴿ ثم يُنكرونها ﴾ بإشراكهم وعبادتهم غيرَ المنعِم بها، وبقولهم : إنها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب كذا، أو بإعراضهم عن حقوقها. وقيل : نعمة الله : نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عرفوها بالمعجزات، ثم أنكروها عنادًا. ﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾ ؛ الجاحدون ؛ عنادًا. وذكر الأكثر ؛ إمَّا لأن بعضهم لم يعرف الحق ؛ لنقصان عقله، أو لتفريطه في النظر، أو لم تقم عليه الحجة ؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو كان فيهم من داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك. وإما لأنه أقام الأكثر مقام الكل، كقوله :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النّحل : ٧٥ ]. قال بعضه البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال الورتجبي : بيَّن الحقُّ تعالى قدرته في إمساكه أطيار الأرواح في هواء الملكوت وسماء الجبروت، حتى ترفرفت بأجنحة العرفان والإيقان، على سرادق مجده وبساط كبريائه، مسخرات بأنوار جذبه، ما يمسكهن إلا الله، بكشف جماله لها، أمسكها به عن قهر سلطانه وسُبحات جلاله، حتى لا تفنى - أي : تتلاشى - في بهائه. هـ.
والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا - وهي العبودية -، تسكنون فيها وتأوون إليها، بعد طيران الفكرة في جو أنوار الملكوت، وميادين أسرار الجبروت. أو الحضرة تسكن فيها قلوبكم، فتصير مُعَشَّشَ أرواحكم، إليها تأوون، وفيها تسكنون. وجعل لكم منازل تنزلون فيها عند السير إلى حضرة ربكم، وهي المقامات التي يقطعها المريد، ينزل فيها ويرتحل عنها. وجعل لكم من أردية الأكوان وألوانها واختلاف أصنافها، تمتعًا بشهود أنوار مكونها فيها، إلى انطوائها وظهور أضدادها بقيام الساعة، فتظهر القدرة وتبطن الحكمة، ويظهر المعنى ويبطن الحس.
والله جعل لكم مما خلق من الأكوان ظلالاً، والظلال لا وجود لها من ذاتها، فكذلك الأكوان لا وجود لها مع الحق، وإنما هي ظلال. والظلال ليست بموجودة ولا مفقودة. وجعل لكم من جبال العقل أكنانًا، تستترون بنوره من جذب الاصطلام ؛ بمواجهة أنوار الحضرة. وجعل لكم سرابيل الشرائع تقيكم حَرَّ الحقيقة، وسرابيل الحقائق تقيكم بأس سهام الأقدار، فإنَّ من عرف الله ؛ حقيقة ؛ هان عليه ما يُواجَهُ به من المكاره. وفي هذا المعنى أنشد بعضهم :
نِلْبِسٍ عمَامْ مِنِ الماءْ وِنْشِدِّهَا شَدِّ مَائِلْ
وِنِلْبِسْ مِنِ الثَّلْجِ بُرْنُسْ إِذا حِمِتِ الْقَوائِلْ
وِنِشْعِلْ مِنِ الرِّيحْ قَنْدِيلْ وِمْنِ الضَّبْابْ فَتَائِل
والمراد بعمامة الماء : كناية عن الحقيقة ؛ لأنها كالماء لحياة النفوس. وميل شدها : كناية عن قوتها، وتكبيرها ؛ على الشريعة. والمراد ببرنس الثلج : برد التشريع، فإذا قويت الحقيقة، وخاف من الاحتراق، نزل إلى برد التشريع. والمراد بالريح : هبوب نسيم الواردات الإلهية، يشعل منها قنديل الفكرة - التي هي سراج القلب -، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهذه حالة السائر، وأما الواصل فقد سكن النور في قلبه، فلا يحتاج إلى سراجٍ غيره تعالى. وفي ذلك يقول الشاعر :
كُلُّ بَيْتٍ أنت سَاكنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلى سُرُجِ
وَجْهُكَ المَحْمُودُ حُجَّتُنَا يوم يأْتِي الناس بالحجج
والمراد بالضباب : وجود السِّوى، فإنه يحترق عند اشتعال الفكرة. والله تعالى أعلم. وباقي الآية ظاهر إشارته.

ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه النعم، التي هي دلائل قدرته، فقال :
﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ * ﴿ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ * ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يومَ نبعثُ من كل أمة ﴾ من الأمم ﴿ شهيدًا ﴾، أي : رسولاً يشهد لها أو عليها، بالإيمان أو بالكفر، وهو يوم القيامة، ﴿ ثم لا يُؤْذَنُ للذين كفروا ﴾ في الاعتذار ؛ إذ لا عذر لهم. أو : في الرجوع إلى الدنيا. وعبَّر ب " ثم " ؛ لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع من الاعتذار، مع ما فيه من الإقناط الكلي. ﴿ ولا هم يُستعتَبون ﴾ : لا يطلب منهم العتبى، أي : الرجوع إلى ما يرضي الله. والمعنى : أنهم لا يؤذن لهم في الاعتذار عما فرطوا فيه مما يرضي الله، ولا يطلب منهم الرجوع إلى تحصيله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم : العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم : الأولياء الكبراء، أعني : العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
﴿ وإذا رأى الذين ظلموا ﴾ : كفروا، ﴿ العذاب ﴾ : جهنم، ﴿ فلا يُخفف عنهم ﴾ العذابُ ﴿ ولا هم يُنظرون ﴾ ؛ يُمهلون عنه إذا رأوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم : العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم : الأولياء الكبراء، أعني : العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
﴿ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءَهم ﴾ : أوثانهم التي دعوها شركاء الله، أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر ؛ بالحمل عليه، ﴿ قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعُو من دونك ﴾، أي : نعبدهم ونطيعهم من دونك. وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك. ﴿ فأَلْقَوا إليهم القولَ ﴾، قالوا لهم :﴿ إنكم لكاذبون ﴾، أي : أجابوا بالتكذيب في أنهم شركاء الله، أو أنهم عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم ؛ كقوله :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ﴾ [ مريَم : ٨٢ ]، وقوله :﴿ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ [ القَصَص : ٦٣ ]، أو لأنهم لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم : العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم : الأولياء الكبراء، أعني : العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
﴿ وألْقَوا إلى الله يومئذ السَّلم ﴾، أي : الاستسلام، أي : استسلموا لحكمه ﴿ يومئذ ﴾، بعد أن تكبروا عنه في الدنيا، ولا ينفع يومئذ، ﴿ وضلّ عنهم ﴾، أي : غاب وضاع وبطل ﴿ ما كانوا يفترون ﴾ من أن آلهتهم تنصرهم وتشفع لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم : العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم : الأولياء الكبراء، أعني : العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
﴿ الذين كفروا وصدُّوا ﴾، الناس، ﴿ عن سبيل الله ﴾ ؛ بالمنع من الإسلام، والحمل على الكفر، ﴿ زدناهم عذابًا ﴾ ؛ بصدهم، ﴿ فوق العذابِ ﴾، المستحق بكفرهم. قال ابن مسعود :" عقارب، أنيابها كالنخل الطوال، تلسعهم ". وعن عبيد بن عمير : عقارب كالبغال الدُّلْم - أي : السود جدًا -، والأدلم : الشديد السواد. وذلك العذاب ﴿ بما كانوا يُفسدون ﴾، أي : بكونهم مفسدين ؛ بصدهم عما فيه صلاح العالم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم : العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم : الأولياء الكبراء، أعني : العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
قلت :﴿ تبيانًا ﴾ : حال من الكتاب، وهو مصدر، قال في القاموس : والتبيان : مصدر شاذ. وفي ابن عطية : والتبيان : اسم، لا مصدر. والمصادر في مثله مفتوحة، كالترداد والتكرار. ه. وقال في الصحاح : لم يجئ على الكسر إلا هذا، والتِّلقاء. ه.
﴿ و ﴾ اذكر أيضًا :﴿ يومَ نبعثُ في كل أمةٍ شهيدًا عليهم من أنفسهم ﴾، يعني : نبيهم ؛ فإنَّ نبي كل أمة بعث منها. ﴿ وجئنا بك ﴾، يا محمد، ﴿ شهيدًا على هؤلاء ﴾، على أمتك، أو على هؤلاء الشهداء، ﴿ ونزَّلنا عليك الكتابَ ﴾ : القرآن، ﴿ تبيانًا ﴾ : بيانًا بليغًا، ﴿ لكل شيءٍ ﴾، من أمور الدين على التفصيل، أو الإجمال، بالإحالة على السنة أو القياس. ﴿ وهُدىً ﴾، من الضلالة، ﴿ ورحمة ﴾، بنور الهداية لجميع الخلق.
وإنما حُرم المحروم ؛ لتفريطه، ﴿ وبُشرى ﴾، بالجنة وغيرها، ﴿ للمسلمين ﴾ : الموحدين خاصة. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد بعث الله في كل دهر وعصر شهيدًا يشهد على أهله، ويكون حجة عليهم يوم القيامة، وهم صنفان : صنف يشهد على من فرط في أحكام الشريعة، وهم : العلماء الأتقياء، وصنف يشهد على من فرط في أسرار الحقيقة، وهم : الأولياء الكبراء، أعني : العارفين بالله، فمن فرط في شيء منهما قامت عليه الحجة ؛ فإذا اعتذر لا ينفعه، وإذا طلب الرجوع لا يجده، وإذا أحاط به عذاب الحجاب لا ينفك عنه. وكل من أحب شيئًا من دون الله، تبرأ منه يوم القيامة، وكل من أنكر الخصوصية على أولياء زمانه، وصد الناس عنه ؛ تضاعف عذابه، وكثف حجابه يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أن القرآن فيه تبيان كل شيء، ذكر آية تضمنت أصول الأحكام، فيها تبيان كل شيء ؛ إجمالا، فقال :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٩٠ )
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إنَّ الله يأمر بالعدل ﴾، أي : التوحيد، أو الإنصاف، أو فعل الفرائض، ﴿ والإحسانِ ﴾، وهو : فعل المندوبات. وذلك في حقوق الله تعالى، وفي حق عباده، أو العدل في الأحكام، كل واحد فيما ولي فيه ؛ «كلكم راع ». والإحسان إلى عباد الله، بَرهم وفَاجرهم. قال ابن عطية : العدل : هو فعل كل مفروض ؛ من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف، وإعطاء الحق. والإحسان هو : فعل كل مندوب إليه.
وقال البيضاوي :﴿ إن الله يأمر بالعدل ﴾ : بالتوسط في الأمور ؛ اعتقادًا، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب، المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً، كالتعبد بأداء الواجبات، المتوسط بين البطالة والترهب، وخُلُقًا، كالجود المتوسط بين البخل والتبذير، والإحسان : إحسان الطاعات، وهو إما بحسب الكمية، كالتطوع بالنوافل، أو بحسب الكيفية، كما قال - عليه الصلاة والسلام - :«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ». ﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾ : وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيص بعد تعميم ؛ للمبالغة.
﴿ وينهى عن الفحشاء ﴾ : عن الإفراط في متابعة القوة الشهوية، كالزنى ؛ فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها، ﴿ والمنكر ﴾ : ما ينكر على متعاطيه في إيثاره القوة الغضبية، ﴿ والبغي ﴾ : الاستعلاء والاستيلاء على الناس، والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي هي مقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد من الإنسان شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه :«هي أجمع آية في القرآن للخير والشر ». وصارت سبب إسلام عثمان بن مظعون، فلو لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة للعالمين، ولعل إيرادها عقب قوله :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء ﴾ ؛ للتنبيه عليه. ه.
وفي القوت : هي قطب القرآن. ه. وعن عثمان بن مظعون : أنه قال : لَمَّا نزلت هذه الآية ؛ قرأتُها على أبي طالب، فعجب، وقال : آلَ غالبٍ، اتبعوه تُفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق. ه. قال ابن عطية :﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾ : لفظ يقتضي صلة الرحم، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، وتركه مبهمًا أبلغ ؛ لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية - وإن علت - يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب ذي القربى، داخل تحت العدل والإحسان، لكنه تعالى خصه بالذكر ؛ اهتمامًا به وحضًا عليه. ه.
﴿ يَعِظُكُم ﴾، بما ذكر من التمييز بين الأمر والنهي، والخير والشر، ﴿ لعلكم تذكَّرون ﴾ : تتعظون فتنهضون إلى ما أمرتكم به وندبتكم إليه، وتنكفوا عما نهيتكم عنه وحذرتكم منه.
الإشارة :﴿ إن الله يأمر بالعدل ﴾ ؛ بالتوسط في الأمور كلها، كالتوسط في السير والمجاهدة ؛ فإن الإسراف يوقع في الملل، قال - عليه الصلاة والسلام- :«لا يكن أحدكم كالمنبت ؛ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى ». وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا :«إنَّ اللهَ لا يملَ حتى تَملوا ». والله ما رأيت أحداً أسرف في الأحوال فوصل إلى ما قصد، إلا النادر، وخير الأمور أوسطها. ويأمر بالإحسان، وهو : مقام الشهود والعيان. ﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾ ؛ قرابة الدين، وهم : الإخوان في الله، ما يستحقونه من النصح والإرشاد، ﴿ وينهى عن الفحشاء ﴾ : الركون لغير الله، ﴿ والمنكر ﴾ : التكبر على عباد الله، ﴿ والبغي ﴾ : ظلم أحد من خلق الله، من الفيل إلى الذرة.
وقال في الإحياء : بين التبذير والإقتار المذمومين وسط، وهو المحمود المأمور به، والواجب منه شيئان : واجب بالشرع، وواجب بالمروءة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحدًا منهما فهو بخيل، كالذي يمنع أداء الزكاة، ويمنع أهله وعياله النفقة، أو يؤديها لا بطيب نفسه، بل بتكلف، ومشقة. وكالذي يتيمم الخبيث من ماله، ولا يعطي من أطيبه وأوسطه، فهذا كله بُخل. وأما واجب المروءة فهو : ترك المضايفة والاستقصاء في المحقرات، وذلك يختلف ؛ فيستقبح من الغني ما لا يستقبح من الفقير، ويستقبح من الرجل مع أقاربه ما لا يستقبح مع الأجانب، وكذلك الجار والمماليك والضيف. ه.
وقال الورتجبي : إن الله تعالى دعا عباده إلى الاتّصاف بصفته، منها : العدل والإحسان والشفقة والرحمة، والقدس، والطهارة عما لا يليق به. فهو العادل والمحسن، والرحمن الرحيم، غير ظالم جائر، وهو مُنزه عن جميع العلل، فمن كُسِي أنوار هذه الصفات، بنعت الذوق والمباشرة، واستحلى تربيتها يخرج عادلاً محسنًا، رؤوفًا رحيمًا، طاهرًا مطهرًا، صادقًا مصدقًا، وليًا، حبيبًا محبوبًا، مريدًا مرادًا، مُراعَى محفوظًا، يعدل بنفسه فيدفعها عن الشك والشرك، ورؤية الغير وطلب العوض في العبودية، ويأخذ منها الإنصاف بينها وبين عباد الله، ويحسن إلى من أساء إليه، ويعبد الله بوصف الرؤية وشهود غيبه، ويراعي ذوي القرابة، في المعرفة والمحبة ؛ من المريدين والصادقين، ويرحم الجهال من المسلمين، وينهى نفسه عن مباشرة فواحش الأنانية، ومباشرة الهوى والشهوة، ويدفعها عن الظلم ؛ باستكباره عن العبودية، ويأمرها بإذعانها عند تراب أقدام أولياء الله ؛ لتكون مطمئنة في عبودية الحق، ذاكرة لسلطان ربوبيته، وقهر جبروته وملكوته وإحاطته بكل ذرة، وفناء الخليقة في حقيقته. ه.
ومن مكارم الأخلاق الداخلة تحت العدل : الوفاء بالعهد، كما قال تعالى :
﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ * ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّواءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
قلت :﴿ وقد جعلتم ﴾ : حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأوفوا بعهد الله ﴾ ؛ كالبيعة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وللأمراء، والأيمان، والنذور، وغيرها، ﴿ إذا عاهدتم ﴾ الله على شيء من ذلك، ﴿ ولا تَنقضوا الأيمان ﴾ ؛ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان، ﴿ بعد توكيدها ﴾ ؛ بعد توثيقها بذكر الله، أو صفته أو أسمائه، ﴿ وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ﴾ ؛ شاهدًا ورقيبًا بتلك البيعة ؛ فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه، ﴿ إن الله يعلم ما تفعلون ﴾، في نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في الحديث.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
و﴿ أنكاثًا ﴾ : حال من الغزل، وهو : جمع نِكْث - بالكسر - بمعنى : منكوث، أي : منقوض. و﴿ أن تكون ﴾ : مفعول من أجله، و﴿ تتخذون ﴾ : جملة حالية من ضمير " تكونوا ".
﴿ ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها ﴾ : أفسدته، ﴿ من بعد قوة ﴾، أي : إبرام وإحكام ؛ ﴿ أنكاثًا ﴾، أي : طاقات، أي : صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد : تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل : هي " ريطة بنت سعد القرشية " ؛ فإنها كانت خرقاء - أي : حمقاء - تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه. ﴿ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ﴾، أي : لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل : ما يدخل الشيء، ولم يكن منه، يقال : فيه الدخل والدغل، وهو قصد الخديعة.
تفعلون ذلك النقض ؛ لأجل ﴿ أن تكون أُمةٌ هي أربى من أمةٍ ﴾ : بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً، من جماعة أخرى، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية ؛ لكثرتها. نزلت في العرب، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها، غدرت الأولى، وحالفت الثانية. وقيل : الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش ؛ إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
﴿ إنما يبلوكم ﴾ : يختبركم ﴿ اللهُ به ﴾ ؛ بما أمر من الوفاء بالعهد ؛ لينظر المطيع منكم والعاصي. أو : بكون أمة هي أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم ؟ ﴿ وليُبَيننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ﴾، في الدنيا ؛ حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
﴿ ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدة ﴾ ؛ أهل دين واحد متفقين على الإسلام، ﴿ ولكن يُضل من يشاء ﴾ بعدله، ﴿ ويهدي من يشاء ﴾ بفضله، ﴿ ولتُسألنَّ يوم القيامة ﴾ ؛ سؤال تبكيت ومجازاة، ﴿ عما كنتم تعملون ﴾ في الدنيا ؛ لتُجازوا عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
﴿ ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم ﴾، كرره تأكيدًا ؛ مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود، ﴿ فتزِلَّ قدمٌ ﴾، عن محجة الإسلام، ﴿ بعد ثُبوتها ﴾ : استقامتها عليه، والمراد : أقدامهم، وإنما وُحد ونُكِّر ؛ للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم، فكيف بأقدام كثيرة ؟ ﴿ وتذوقوا السُّوءَ ﴾ : العذاب في الدنيا، ﴿ بما صددتم عن سبيل الله ﴾، أي : بصدكم عن الوفاء بعهد الله، أو بصدكم غيركم عنه ؛ فإن من نقض البيعة، وارتد، جعل ذلك سُنَّة لغيره، ﴿ ولكم عذابٌ عظيم ﴾ في الآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
﴿ ولا تشتروا بعهد الله ﴾، أي : لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم ﴿ ثمنًا قليلاً ﴾ : عرضًا يسيرًا من الدنيا، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل : هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد، ﴿ إِنَّما عند الله ﴾ من النصر والعز، وأخذ الغنائم في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، ﴿ هو خيرٌ لكم ﴾ مما يعدونكم، ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ ذلك فلا تنقضوا، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
﴿ ما عندكم ﴾ من أعْرَاضِ الدنيا ﴿ يَنْفَذُ ﴾ ؛ ينقضي ويفنى، ﴿ وما عند الله ﴾ من خزائن رحمته، وجزيل نعمته ﴿ باقٍ ﴾ لا يفنى، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد ؛ طمعًا في العَرَضِ الفاني، ﴿ وليجزين الذين صبروا ﴾، على الوفاء بالعهود، أو على الفاقات وأذى الكفار، أو مشاق التكاليف، ﴿ أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون ﴾، بما يرجح فعله من أعمالهم، كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال ؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.

وهذه الحالة التي أقامهم الحق تعالى فيها هي الحياة الطيبة، أشار إليها الحق تعالى بقوله :
﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ مَن عَمِلَ صالحًا ﴾ ؛ بأن صحبه الإخلاص، وتوفرت فيه شروط القبول، ﴿ من ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمن ﴾ ؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب، ﴿ فلنحيينَّهُ حياة طيبةً ﴾ في الدنيا، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي : يعيش عيشًا طيبًا، فإنه، إن كان موسرًا، فظاهر، وإن كان معسرًا يطيبُ عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم، بخلاف الكافر، فإنه : إن كان معسرًا فظاهر، وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه، وقيل : في الآخرة، أي : في الجنة. ه. ﴿ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ من الطاعة، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
الإشارة : الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد ؛ حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر، والعلائق في الباطن، فاطمأنت قلوبهم بالله، وسكنت أرواحهم في حضرة الله، وتحققت أسرارهم بشهود الله، فدام سرورهم، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية، كما قال ابن الفارض في مدحها :
وإنْ خَطَرَتْ يومًا على خاطرِ امرئ أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
هذا في الخطور، فما بالك بالسكون ودوام الحضور ؟ وقال أيضًا في شأنها :
فما سكنَتْ والهمّ يومًا بموضع كذلك لا يسكُنْ مع النَّغَم الغَم
وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم ؛ لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان، وسكونهم في جنة العرفان، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل : أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان، فيقلبون الشرِّيات خيريات، والمعاصي طاعات، والإساءة إحسانًا، والجلال جمالاً. . . وهكذا، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ ؟ وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ، وهم في حضرة الكريم الغفار ؟ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين.
ومن جملة الحياة الطيبة : التنعم بحلاوة القرآن، ولا يتحقق ذلك إلا بالبعد والحفظ من خوض الشيطان، ولذلك أمر بالتعوذ منه عند قراءته، فقال :
﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ * ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فإِذا قرأتَ القرآنَ ﴾ ؛ أردت قراءته، كقوله :﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ﴾ [ المَائدة : ٦ ]، ﴿ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾، أي : فسل الله أن يعيذك من وسواسه ؛ لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة ؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحق عند التلاوة، وعن عطاء : أنه واجب. ومذهب مالك : أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة : يتعوذ في كل ركعة ؛ تمسكًا بظاهر الآية ؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة. وهو تابع للقراءة في السر والجهر، وعن ابن مسعود : قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال :" قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي : الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى :﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾
[ الذَّاريات : ٥٠ ]. فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. هـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك ؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... ﴾ [ فَاطِر : ٦ ] الآية. وبالله التوفيق.


١ أخرجه أحمد في المسند ٦/٣٩٤، وابن عراق في تنزيه الشريعة١/٣٠٩..
ثم قال تعالى :﴿ إِنه ليس له سلطانٌ ﴾، أي : تسلط وولاية، ﴿ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾، أي : لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون أوامره، ولا يصغون إلى وساوسه، إلا فيما يحتقر، على ندور وغفلة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي : الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى :﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾
[ الذَّاريات : ٥٠ ]. فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. هـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك ؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... ﴾ [ فَاطِر : ٦ ] الآية. وبالله التوفيق.

﴿ إِنما سلطانه ﴾، أي : تَسَلُّطُهُ، ﴿ على الذين يتولونه ﴾ : يحبونه ويطيعونه، ﴿ والذين هم به ﴾، أي : بالله، أو : بسبب الشيطان، ﴿ مشركون ﴾ ؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي : الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى :﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾
[ الذَّاريات : ٥٠ ]. فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. هـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك ؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... ﴾ [ فَاطِر : ٦ ] الآية. وبالله التوفيق.

ومن أقبح وسوسة الشيطان : الطعن في القرآن، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾
قلت :﴿ والله أعلمُ بما يُنزَّل ﴾ : معترض بين الشرط، وهو :﴿ إذا ﴾ وجوابه، وهو :﴿ قالوا ﴾ ؛ لتوبيخ الكفار، والتنبيه على فساد سندهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ ﴾ ؛ بأن نسخنا الأولى ؛ لفظًا أو حكمًا، وجعلنا الثانية مكانها، ﴿ والله أعلم بما يُنزّل ﴾ من المصالح، فلعل ما يكون في وقت، يصير مفسدة بعده، فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ، يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه. فإذا نسخ، لهذه المصلحة، ﴿ قالوا ﴾ أي : الكفرة :﴿ إِنما أنت مُفتَر ﴾ : كذاب مُتَقوِّل على الله، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، قال تعالى :﴿ بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن، ولا يميزون الخطأ من الصواب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام ؛ فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه ؛ لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أن يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى أعلم.
و﴿ هدى وبشرى ﴾ : عطف على :" ليُثبت ".
﴿ قل نزّله روحُ القُدُس ﴾، يعني : جبريل. والقدس : الطهر والتنزيه ؛ لأنه روح مُنزه عن لوث البشرية. نزله ﴿ من ربك ﴾ ملتبسًا ﴿ بالحق ﴾ : بالحكمة الباهرة، أو مع الحق في أمره ونهيه وإخباره، أو أنزله حقًا، ﴿ ليُثَبتَ الذين آمنوا ﴾ على الإيمان ؛ لأنه كلام الله، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. ﴿ و ﴾ أنزله ﴿ هدىً وبُشرى للمسلمين ﴾ المنقادين لأحكامه، أي : نزله ؛ تثبيتًا وهداية وبشارة للمسلمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام ؛ فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه ؛ لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أن يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى أعلم.
﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إِنما يُعلِّمِه بَشَرٌ ﴾، يعنون : غلامًا نصرانيًا اسمه : جبَر، وقيل : يعيش. قيل : كانا غلامين، اسم أحدهما : جبَر، والآخر يَسارٌ، وكانا يصنعان السيوف، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما، ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش : هذان هما اللذان يعلمان محمدًا ما يقول. قال تعالى في الرد عليهم :﴿ لسانُ الذي يُلحدون إِليه أعجمي ﴾ أي : لغة الرجل الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة إليه، وينسبون إليه تعليم القرآن، أعجمي، ﴿ وهذا ﴾ القرآن ﴿ لسانٌ عربي مبين ﴾ ؛ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي : والجملتان مستأنفتان ؛ لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون، - أي : القرآن - ما تلقفه منه ؟ وثانيهما : هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن، كما هو معجز باعتبار المعنى، معجز باعتبار اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سُوقي، سمع منه، بعض أوقات، كليمات عجمية، لعله لم يعرف معناها ؟ ! فطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام ؛ فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه ؛ لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أن يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من طعن في كلام الله، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ * ﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ * ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِنَّ الذين لا يؤمنون ﴾ ؛ لا يُصدِّقون ﴿ بآيات الله ﴾، ويقولون : هي من عند غيره، ﴿ لا يهديهم الله ﴾ إلى سبيل النجاة، أو إلى اتباع الحق، أو إلى الجنة. ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة. وهذا في قوم عَلِمَ أَنهم لا يؤمنون، كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ]. وقال ابن عطية : في الآية تقديم وتأخير، والمعنى : إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله. ولكنه قدَّم وأخر ؛ تهممًا بتقبيح أفعالهم. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ﴿ فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله :﴿ ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ﴾ : من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. ﴿ ففروا إلى الله ﴾. هـ.

قلت :﴿ من كفر ﴾ : شرطية مبتدأ، وكذلك ﴿ من شرح ﴾. و﴿ فعليهم غضب ﴾ : جواب عن الأولى والثانية ؛ لأنهما بمعنى واحد، ويكون جوابًا للثانية، وجواب الأولى : محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل :﴿ من كفر ﴾ : بدل من ﴿ الذين لا يؤمنون ﴾، أو من المبتدأ في قوله :﴿ أولئك هم الكاذبون ﴾، أو من الخبر. و﴿ إلا من أكره ﴾ : استئناف من قوله :﴿ من كفر ﴾.
قال البيضاوي : هددهم على كفرهم، بعد ما أماط شبهتهم، ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم، فقال :﴿ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ﴾ ؛ لأنهم لا يخافون عذابًا يردعهم عنه، ﴿ وأولئك هم الكاذبون ﴾ على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب ؛ لأن تكذيب آيات الله، والطعن فيها، بهذه الخرافات أعظم الكذب. وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة. أو الكاذبون في قولهم :﴿ إنما أنت مفتر ﴾، ﴿ إِنما يعلمه بشر ﴾. ه. والكلام كله مع كفار قريش.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ﴿ فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله :﴿ ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ﴾ : من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. ﴿ ففروا إلى الله ﴾. هـ.

قلت :﴿ من كفر ﴾ : شرطية مبتدأ، وكذلك ﴿ من شرح ﴾. و﴿ فعليهم غضب ﴾ : جواب عن الأولى والثانية ؛ لأنهما بمعنى واحد، ويكون جوابًا للثانية، وجواب الأولى : محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل :﴿ من كفر ﴾ : بدل من ﴿ الذين لا يؤمنون ﴾، أو من المبتدأ في قوله :﴿ أولئك هم الكاذبون ﴾، أو من الخبر. و﴿ إلا من أكره ﴾ : استئناف من قوله :﴿ من كفر ﴾.
ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان ؛ طوعًا أو كرهًا، فقال :﴿ من كفر بالله من بعد إِيمانه ﴾، فعليهم غضب من الله، ﴿ إِلا مَن أُكْرِه ﴾ على التلفظ بالكفر، أو على الافتراء على الله، ﴿ وقلبُه مطمئن بالإِيمان ﴾ ؛ لم تتغير عقيدته، ﴿ ولكن من شرح بالكفر صدرًا ﴾، أي : فتحه ووسعه، فاعتقده، وطابت به نفسه، ﴿ فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم ﴾ ؛ إذ لا أعظم من جرمه.
رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه - وهما ياسر وسمية - على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين، وطعنوها بحربة في قبلها، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال، فماتت - رحمة الله عليها - وقتلوا ياسرًا زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا ؛ مُكرهًا، فقيل : يا رسول الله، إن عمارًا كفر، فقال :" كَلا، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ ". فَأَتَى عمَّار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْكي، فَجَعَلَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَيْنَيْه، ويقول :" مَا لك، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ " ١.
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه، إعزازًا للدين، كما فعل أبواه.
لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين، فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله. وقال : ما تقول فيَّ ؟ فقال : أنت أيضًا، فخلى سبيله، وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله، فقال : ما تقول فيَّ ؟ فقال : أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الآخر فقد صدع بالحق، فهنيئًا له " ٢ ه. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي : وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر، وأما الإكراه على فعل وهو كفر، كالسجود للصنم، فاختلف ؛ هل يجوز الإجابة إليه أو لا ؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز له الإجابة إليه ؛ كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله. ه. وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها، فذكر عن مالك : أن القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف ؛ للدرء عن ماله، لظالم، بخلاف الدرء عن النفس والبدن، فإنه لا يحنث، قولاً واحدًا، إلا إذا تبرع باليمين، ففي لزومه خلاف. وانظر المختصر في الطلاق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ﴿ فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله :﴿ ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ﴾ : من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. ﴿ ففروا إلى الله ﴾. هـ.


١ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٣٥٧..
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤/٢٥٠..
ثم علل نزول العذاب بهم، فقال :﴿ ذلك ﴾، الوعيد ﴿ بأنهم استحبُّوا الحياةَ الدنيا على الآخرة ﴾، أي : بسبب أنهم آثروها عليها، ﴿ وأنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾، الذين سبق لهم الشقاء، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان في قلوبهم، ولا يعصمهم من الزيغ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ﴿ فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله :﴿ ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ﴾ : من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. ﴿ ففروا إلى الله ﴾. هـ.

﴿ أولئك الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ﴾ ؛ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه، ﴿ وأولئك هم الغافلون ﴾، الكاملون في الغفلة، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل في العواقب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ﴿ فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله :﴿ ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ﴾ : من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. ﴿ ففروا إلى الله ﴾. هـ.

﴿ لا جَرَمَ ﴾ : لا شك ﴿ أنهم في الآخرة هم الخاسرون ﴾ ؛ حيث ضيعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، ﴿ فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾، أي : بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. هـ.
قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله :﴿ ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا ﴾ : من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. هـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والأهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه ؛ فرارًا، وإلى ربه ؛ اضطرارًا. ﴿ ففروا إلى الله ﴾. هـ.

ثم رغب في التوبة، فقال :
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ إن ﴾ الثانية : تأكيد، والخبر للأول.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثم إِن ربك للذين هاجروا ﴾ من دار الكفر إلى المدينة، ﴿ من بعد ما فُتنوا ﴾، أي : عُذبوا على الإسلام ؛ كعمار بن ياسر، وأشباهه ؛ من المعذبين على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر :" فتنوا " ؛ بفتح التاء، أي : فتنوا المسلمين وعذبوهم، فتكون فيمن عذب المسلمين، ثم أسلم وهاجر وجاهد، كعامر بن الحضرمي، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق، ﴿ إِن ربك من بعدها ﴾ ؛ من بعد الهجرة والجهاد والصبر، ﴿ لغفور رحيم ﴾، أي : لغفور لما مضى قبلُ، رحيم ؛ يجازيهم على ما صنعوا بعدُ.
الإشارة : من نزلت به قهرية، أو حصلت له فترة، حتى رجع عن طريق القوم، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه، وجاهد نفسه في ترك شواغل دنياه، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله ؛ ﴿ إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾ ؛ يغفر له ما مضى من فترته، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر يوم الجزاء لمن صبر وهاجر، أو الخسران لمن جحد وكفر، فقال :﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾
قلت :﴿ يوم ﴾ : منصوب ب " اذكر "، أو ب " غفور رحيم ".
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر ﴿ يوم تأتي كلُّ نفس تُجادِلُ عن نفسها ﴾ ؛ عن ذاتها، وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها ؛ ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ( ٣٤ ) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ( ٣٥ ) وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ ( ٣٦ ) ﴾ [ عَبَسَ : ٣٤-٣٦ ]، ﴿ وتُوفَّى كلُّ نفس ﴾ جزاء ﴿ ما عملت ﴾ على التمام، ﴿ وهم لا يُظلمون ﴾ : لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة.
الإشارة : النفس التي تجادل عن نفسها، وتوفى ما عَمِلَتْ من خير أو شر، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة. وأما النفس المطمئنة بالله، الفانية في شهود ذات الله، لا ترى وجودًا مع الله ؛ فلا يتوجه عليها عتاب، ولا يترتب عليه حساب ؛ إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب، بل هي في عداد السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم المتوكلون. أو تقول : هي في عداد من يلقى الله بالله، فليس لها شيء سوى الله، فحجته، يوم تجادل النفوس، هو الله. كما قال الشاعر :
وجهك المحمود حُجتنا يوم يأتي الناسُ بالحُجج
وبالله التوفيق.
ثم ضرب مثلا لمن كفر النعم، فقال :
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾
قلت :﴿ قرية ﴾ : بدل من :﴿ مثلاً ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وضرب اللهُ مثلاً ﴾، ثم فسره بقوله :﴿ قريةً ﴾ : مكة، وقيل : غيرها. ﴿ كانت آمنة ﴾ من الغارات، لا تُهَاجُ، ﴿ مطمئنة ﴾ لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف، ﴿ يأتيها رزقها ﴾ : أقواتها ﴿ رغدًا ﴾ : واسعًا ﴿ من كل مكان ﴾ من نواحيها، ﴿ فكفرتُ بأنعُم الله ﴾ ؛ بطرت بها، أو بنبي الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف ﴾، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره ؛ يقول الشاعر١ :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا غَلِقَتْ لِضحكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
فقد استعار الرداء للمعروف، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء ؛ لما يلقى عليه، والمعنى : أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به، فإن كانت مكة، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم، وإن كان غيرها، فمن كل عدو، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ضرب الله مثلاً ؛ قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين ؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه ؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها، وبالله التوفيق.

١ البيت لكثير في ديوانه ص٢٨٨، ولسان العرب (غمر)، (ضحك)، (ردي)، وتهذيب اللغة ٨/١٢٨، ومقاييس اللغة ٣/٣٠٢، وتاج العروس (غمر)، (ضحك)، (ردى)، وبلا نسبة في المخصص ٣/٣، ١٦/٣٢..
﴿ ولقد جاءهم رسولٌ منهم ﴾، يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم. ﴿ فكذَّبوه فأخذهم العذاب ﴾ : الجوع والقحط، ووقعة بدر، ﴿ وهم ظالمون ﴾ ؛ ملتبسون بالظلم، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ضرب الله مثلاً ؛ قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين ؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه ؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها، وبالله التوفيق.
ثم أمر بالشكر، الذي هو قيد النعم، فقال :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ * ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا ﴾، أمرهم بأكل ما أحل لهم، وشُكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم ؛ صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي :﴿ واشكروا نعمتَ الله ﴾ ؛ لتدوم لكم، ﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾، فلا تنسبوا نعمه إلى غيره، كشفاعة الأصنام وغيرها.
﴿ إنما حرّم عليكم الميتةَ والدمَ ولحم الخنزيرِ وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم ﴾، تقدم تفسيرها في البقرة والمائدة١. قال البيضاوي : أمرهم بتناول ما أحل لهم، وعدد عليهم محرماته، ليعلم أن ما عداها حل لهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق - جلّ جلاله -، لمن بقي على العهد ؛ من شكر النعم ؛ بالإقرار بفضل الواسطة :﴿ فكلوا مما رزقكم الله ﴾، من قوت اليقين وفواكه العلوم، ﴿ واشكروا نعمة الله ﴾، إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.

١ انظر تفسير الآية ١٧٣ من سورة البقرة، وتفسير الآية ٣ من سورة المائدة..
قلت :﴿ الكذب ﴾ : مفعول بتقولوا، و﴿ هذا حلال وهذا حرام ﴾ : بدل منه، أي : لا تقولوا الكذب، وهو قولكم :﴿ هذا حلال وهذا حرام ﴾، و﴿ ما ﴾ في قوله :﴿ لما تصف ﴾ ؛ ويجوز أن ينتصب الكذب ب ﴿ تصف ﴾، ويكون " ما " مصدرية. ويكون قوله :﴿ هذا حلال وهذا حرام ﴾ معمولاً ل " تقولوا "، أي : لا تقولوا : هذا كذا وهذا كذا ؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله :﴿ ولا تقولوا لما تَصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام ﴾، لما لم يحله الله ولم يحرمه، كما قالوا :
﴿ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا. . . ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ] الآية. ه. تقولون ذلك ؛ ﴿ لتفتروا على الله الكذب ﴾، بنسبة ذلك إليه. ﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ﴾ أبدًا ؛ لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم، فحُرموا فلاح الآخرة، ولذلك قال :﴿ متاع قليل ولهم عذاب أليم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق - جلّ جلاله -، لمن بقي على العهد ؛ من شكر النعم ؛ بالإقرار بفضل الواسطة :﴿ فكلوا مما رزقكم الله ﴾، من قوت اليقين وفواكه العلوم، ﴿ واشكروا نعمة الله ﴾، إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.
﴿ متاع قليل ﴾، أي : لهم تمتع في الدنيا قليل، يفنى ويزول. ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ في الآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق - جلّ جلاله -، لمن بقي على العهد ؛ من شكر النعم ؛ بالإقرار بفضل الواسطة :﴿ فكلوا مما رزقكم الله ﴾، من قوت اليقين وفواكه العلوم، ﴿ واشكروا نعمة الله ﴾، إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.
﴿ وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصَصنَا عليك من قبل ﴾ في سورة الأنعام بقوله :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] الآية، ﴿ وما ظلمناهم ﴾ بالتحريم، ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ ؛ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين، وما حرم على اليهود ؛ ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق - جلّ جلاله -، لمن بقي على العهد ؛ من شكر النعم ؛ بالإقرار بفضل الواسطة :﴿ فكلوا مما رزقكم الله ﴾، من قوت اليقين وفواكه العلوم، ﴿ واشكروا نعمة الله ﴾، إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.
ثم حض على التوبة لمن وقع في شك من هذا، فقال :
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّواءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السُّوء ﴾ ؛ كالشرك، والافتراء على الله، وغير ذلك، ﴿ بجهالةٍ ﴾، أي : ملتبسين في حال العمل بجهالة، كالجهل بالله وبعقابه، وعدم التدبر في عواقبه ؛ لغلبة الشهوة عليه، ﴿ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾ عملهم، ﴿ إن ربك من بعدها ﴾، أي : التوبة، أو الجهالة، ﴿ لغفور ﴾ لذلك السوء، ﴿ رحيمٌ ﴾ بهم ؛ يثيبهم على الإنابة.
الإشارة : كل من أساء الأدب، ثم تاب وأناب، التحق بالأحباب. قال بعضهم :" كل سوء أدب يثمر أدبًا فهو أدب ". والتوبة تتبع المقامات ؛ فتوبة العوام : من الهفوات، وتوبة الخواص : من الغفلات، وتوبة خواص الخواص : من الفترات عن شهود الحضرات. وبالله التوفيق.
ولما رغب في الشكر ذكر أنه من ملة خليله إبراهيم عليه السلام، ودين حبيبه –عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-، تحريضا عليه، فقال تعالى :
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ * ﴿ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ * ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِنَّ إِبراهيم كان أُمةً ﴾، أي : إمامًا قدوة ؛ قال تعالى :
﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]، قال ابن مسعود :" الأُمة : معلّم الناس الخيرَ "، أو أمة وحده، اجتمع فيه ما افترق في غيره، فكان وحده أمة من الأمم ؛ لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا في أشخاص كثيرة، كقول الشاعر١ :
ولَيْسَ عَلَى الله بمُسْتَنْكَرٍ أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِد
وهو رئيس الموحدين، وقدوة المحققين، جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة. ولذلك عقَّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين. أو : لأنه كان وحده مؤمنًا وسائر الناس كفارًا، قاله البيضاوي. وكان ﴿ قانتًا لله ﴾ ؛ مطيعًا قائمًا بأوامره، ﴿ حنيفًا ﴾، مائلاً عن الباطل، ﴿ ولم يَكُ من المشركين ﴾، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه، وأنتم مشركون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

١ البيت لأبي نواس في ديوانه ١/٣٤٩، وبلا نسبة في شرح قطر الندى ص١١٤، وفي الديوان: "ليس على الله"، بدل: "وليس على الله"..
وكان ﴿ شاكرًا لأنعُمِه ﴾، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير. ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة، ﴿ اجتباه ﴾ : اختاره للنبوة والرسالة والخلة. ﴿ وهداه إلى صراط مستقيم ﴾ ؛ التي توصل إلى حضرة النعيم، ودعا إليها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
﴿ وآتيناه في الدنيا حسنة ﴾ ؛ بأن حببناه إلى كافة الخلق، ورزقناه الثناء الحسن في الملل كلها، حتى إِنَّ أرباب الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه. ورزقناه أولادًا طيبة، وعمرًا طويلاً في الطاعة والمعرفة، ومالاً حلالاً. ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ لحضرتنا، المقربين عندنا، الذين لهم الدرجات العلا ؛ كما سأله ذلك بقوله :﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [ الشُّعَرَاء : ٨٣ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
﴿ ثم أوحينا إليك ﴾ يا محمد، ﴿ أن اتبعْ ملةَ إِبراهيم ﴾ ؛ دينه ومنهاجه في التوحيد، والدعوة إليه بالرفق، والمجادلة بالتي هي أحسن، كل واحد بحسب فهمه. وكان ﴿ حنيفًا ﴾ ؛ مائلاً عما سوى الله، ﴿ وما كان من المشركين ﴾، بل كان قدوة الموحدين. كرره ؛ ردًا على اليهود والنصارى والمشركين في زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من تمسك بطاعة الله ظاهرًا، أو مال عما سوى الله باطنًا، وشكر الله دائمًا، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليًا إبراهيميًا، محمديًا، خليلاً حبيبًا، مقربًا، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته، وهداه إلى صراط مستقيم، وعاش في الدنيا سعيدًا، ومات شهيدًا، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ولما ادعت اليهود أنها على ملة إبراهيم دون غيرها، رد الله عليهم بأن السبت ليس من ملته، فقال :
﴿ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِنما جُعِل السبتُ ﴾، أي : فُرض تعظيمه وإفراده للعبادة، ﴿ على الذين اختلفوا فيه ﴾، على نبيهم، وهم : اليهود ؛ أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا وقالوا : نريد يوم السبت ؛ لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض، فألزمهم الله السبت، وشدَّد عليهم فيه. وقيل : لما أمرهم بيوم الجمعة، قَبِلَ بعضهم، وأبى أكثرهم، فاختلفوا فيه. وقيل : اختلافهم : هو أن منهم من حرَّم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ. والتقدير على هذا : إنما جعل وبال السبت - وهو المسخ -، ﴿ على الذين اختلفوا ﴾ ؛ فأحلوا فيه الصيد تارة، وحرموه أخرى، أو أحله بعضهم، وحرمه بعضهم، وذكرهم هنا ؛ تهديدًا للمشركين، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله، ﴿ وإِن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ ؛ فيجازي كل فريق بما يستحقه، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي.
الإشارة : الاختلاف على الأكابر ؛ كالشيوخ والعلماء، والتقدم بين أيديهم بالرأي والكلام، من أقبح المساوئ، وسوء الأدب يوجب لصاحبه العطب ؛ كالقطع عن الله، والبعد من ساحة حضرته. قال بعضهم : إذا جالست الكبراء ؛ فدع ما تعلم لما لا تعلم ؛ لتفوز بالسر المكنون. والله تعالى أعلم.
ثم أمر نبيه بالدعوة إلى الله، فقال :﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾. يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ادْعُ ﴾، يا محمد الناسَ، ﴿ إلى سبيل ربك ﴾ ؛ إلى طريقه الموصل إليه، وهو : الإسلام والإيمان، والإحسان ؛ لمن قدر عليه، ﴿ بالحكمة ﴾ ؛ بسياسة النبوة، أو بالمقالة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة، ﴿ والموعظة الحسنة ﴾ ؛ مواعظ القرآن ورقائقه، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة، ﴿ وجادلهم ﴾، أي : جادل معاندتهم، ﴿ بالتي هي أحسن ﴾ ؛ بالطرق التي هي أحسن طرق المجادلة ؛ من الرفق واللين، وإيثار الوجه الأيسر، والمقدمات التي هي أشهر ؛ فإن ذلك أنفع في تليين لهبهم، وتبيين شغبهم، فالأولى : لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية : لدعوة عوامهم، والثالثة : لدعوة معاندهم.
قال ابن جزي : الحكمة هي : الكلام الذي يظهر جوابه، والموعظة : هي : الترغيب والترهيب. والجدال هو : الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل، وهذه الآية تقتضي مهادنة نُسخت بالسيف. وقيل : إن الدعاء بهذه الطريقة، من التلطف والرفق، غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار، وأما العصاة فهي في حقهم مُحكمة إلى يوم القيامة باتفاق. ه.
﴿ إِنَّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾، أي : إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين، وهو المجازي للجميع.
الإشارة : الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال، يكون من أهل الحق والتحقيق لأهل الصدق والتصديق. والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق، يكون لأهل التردد في سلوك الطريق. والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذِكْرُ بيانِ الطريق، وفضيلة علم التحقيق، يكون لأهل الإنكار ؛ إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل : أن الدعاء بالحكمة ؛ لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة : لأهل التردد في الطريق. والدعاء بالمجادلة : لأهل الإنكار ؛ حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت : الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع في واحد ؛ إن جمع بين الظاهر والباطن. والله تعالى أعلم.
ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام ؛ لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير، فقال :
﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ * ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِنْ عاقبتم ﴾ من آذَاكُمْ، ﴿ فعَاقِبوا بمثل ما عُوقبتم به ﴾، أي : إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله، ولا تزيدوا عليه. والعقوبة، في الحقيقة، إنما هي في الثانية. وسميت الأولى عقوبة ؛ لمشاكلة اللفظ. وقال الجمهور : إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب، لما بَقَر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لئن أظْفَرَنِي اللهُ بِهمْ لأُمَثِّلَنَّ بسِبْعِينَ منهم " فنزلت الآية١، فكفّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وترك ما أراد من المُثْلَةِ. ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت أحاديث بذلك. ومقتضى هذا : أن الآية مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال. وتكون، على هذا، مكية كسائر السورة.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال، ثم ائتمن عليه، هل يجوز خيانته، في القدر الذي ظلمه فيه ؟ فأجاز ذلك قوم ؛ لظاهر الآية، ومنعه مالك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَك، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ " ٢ قاله ابن جزي.
﴿ ولئن صبرتم ﴾، ولم تعاقبوا من أساء إليكم، ﴿ لهو ﴾، أي : الصبر، ﴿ خيرٌ للصابرين ﴾ ؛ فإن العقوبة مباحة، والصبر أفضل من الانتقام، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يريد المخاطبين، كأنه قال : فهو خير لكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم، والتمسك بالأحسن في كل شيء، متمثلين لقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [ الزُّمَر : ١٨ ]. ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة.
فالصبر دأبهم، والرضى والتسليم خُلقهم.
وحقيقة الصبر هي : حبس القلب على حكم الرب، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة، والمعصية، والنعمة، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة إليها، وعن المعصية : بتركها، وعلى النعمة : بشكرها، وأداء حق الله فيها، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة : صبر في الله، وصبر لله، وصبر مع الله، وصبر بالله، وصبر على الله، وصبر عن الله. أما الصبر في الله : فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله : فهو الصبر على حضور القلب مع الله، على سبيل الدوام ؛ مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين، والثاني : صبر المحبوبين.
وأما الصبر بالله : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير، لكنه بالله لا بنفسه، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس، مشاهدًا لأسرار المعاني، ثم فقد ذلك من قلبه، وأحس بالبعد والطرد - والعياذ بالله - فليصبر، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب، ولا يتزلزل، ولا يتضعضع، ولا يبرح عن مكانه، مبتهلاً، داعيًا إلى الله، راجيًا كرم مولاه، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر ؛ قيامًا بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون، الذين كملت عبوديتهم، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات، قَرَّبهم أو أبعدهم.
رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه، فقال : أي صبر أشد على الصابر ؟ فقال له الشبلي : الصبر في الله، قال : لا، قال : الصبر لله، قال : لا، قال : الصبر مع الله، قال : لا، فقال له : وأي شيء هو ؟ فقال : الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة، كادت تتلف فيها روحه. هـ. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب، كما قال الشاعر :
إنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت مِنَّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه : كنت على بساط الأنس، وفتح على طريق البسط، فزللت زلة، فحجبت عن مقامي، فكيف السبيل إليه ؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخي، الكل في قهر هذه الخطة، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم، فأنشأ يقول :
قـف بالـديـار فـهـذه آثـارهـم تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كـم قـد وقفـتُ بربعهـا مستخبـرا عن أهله أو سائلاً أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. فقيل له في ذلك، فقال : هذه بابه، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها ؟ فقبله الحق تعالى، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له، من قِبَلِ الوحي : إنك من أهل النار ؛ فزاد في العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته، وتحقق بمقام الفناء، فحينئذ قد يسهل عليه أمره ؛ لكمال عبوديته، كما قال القائل :
وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ
تيقـنـت أَنَّ العَبْـدَ لا طَلـَـبٌ لَـهُ فَإِنْ قَرُبُوا فَضْلٌ وإِنْ بَعُدُوا عَدْلُ
وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وأما من لم تكمل معرفته، فقد ينكره ويذمه، كالعباد والزهاد والعشاق، فإنهم لا يطيقونه، فإما أن يختل عقلهم، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة. والله تعالى أعلم. وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


١ أخرجه البزار في كشف الأستار ٢/٣٢٧، وابن سعد في الطبقات الكبرى ٣/١٢، وابن كثير في تفسيره ٢/٥٩٢..
٢ أخرجه الترمذي في البيوع، حديث ١٢٦٤..
ثم صرح بالأمر لرسوله به ؛ لأنه أولى الناس به ؛ لزيادة علمه بالله، فقال :﴿ واصبر وما صبرك إِلا بالله ﴾ ؛ إلا بتوفيقه وتثبيته. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :" أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون ؟ " قالوا : نصبر كما ندبنا. ﴿ ولا تحزنْ عليهم ﴾ ؛ على الكافرين ؛ حيث لم يؤمنوا ؛ حِرْصًا عليهم. أو على المؤمنين ؛ لأجل ما فعل بهم. ﴿ ولا تَكُ في ضيق مما يمكرون ﴾، أي : لا يضيق صدرك بمكرهم، ولا تهتم بشأنهم، فأنا ناصرك عليهم. والضيق - بفتح الضاد مُخَفَّفًا - من ضَيِّقٍ ؛ كَمَيْتِ ومَيِّتٍ. وقرئ بالكسر، وهو مصدر. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدريْن، معًا، لِضاق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم، والتمسك بالأحسن في كل شيء، متمثلين لقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [ الزُّمَر : ١٨ ]. ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة.
فالصبر دأبهم، والرضى والتسليم خُلقهم.
وحقيقة الصبر هي : حبس القلب على حكم الرب، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة، والمعصية، والنعمة، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة إليها، وعن المعصية : بتركها، وعلى النعمة : بشكرها، وأداء حق الله فيها، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة : صبر في الله، وصبر لله، وصبر مع الله، وصبر بالله، وصبر على الله، وصبر عن الله. أما الصبر في الله : فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله : فهو الصبر على حضور القلب مع الله، على سبيل الدوام ؛ مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين، والثاني : صبر المحبوبين.
وأما الصبر بالله : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير، لكنه بالله لا بنفسه، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس، مشاهدًا لأسرار المعاني، ثم فقد ذلك من قلبه، وأحس بالبعد والطرد - والعياذ بالله - فليصبر، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب، ولا يتزلزل، ولا يتضعضع، ولا يبرح عن مكانه، مبتهلاً، داعيًا إلى الله، راجيًا كرم مولاه، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر ؛ قيامًا بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون، الذين كملت عبوديتهم، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات، قَرَّبهم أو أبعدهم.
رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه، فقال : أي صبر أشد على الصابر ؟ فقال له الشبلي : الصبر في الله، قال : لا، قال : الصبر لله، قال : لا، قال : الصبر مع الله، قال : لا، فقال له : وأي شيء هو ؟ فقال : الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة، كادت تتلف فيها روحه. هـ. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب، كما قال الشاعر :
إنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت مِنَّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه : كنت على بساط الأنس، وفتح على طريق البسط، فزللت زلة، فحجبت عن مقامي، فكيف السبيل إليه ؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخي، الكل في قهر هذه الخطة، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم، فأنشأ يقول :
قـف بالـديـار فـهـذه آثـارهـم تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كـم قـد وقفـتُ بربعهـا مستخبـرا عن أهله أو سائلاً أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. فقيل له في ذلك، فقال : هذه بابه، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها ؟ فقبله الحق تعالى، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له، من قِبَلِ الوحي : إنك من أهل النار ؛ فزاد في العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته، وتحقق بمقام الفناء، فحينئذ قد يسهل عليه أمره ؛ لكمال عبوديته، كما قال القائل :
وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ
تيقـنـت أَنَّ العَبْـدَ لا طَلـَـبٌ لَـهُ فَإِنْ قَرُبُوا فَضْلٌ وإِنْ بَعُدُوا عَدْلُ
وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وأما من لم تكمل معرفته، فقد ينكره ويذمه، كالعباد والزهاد والعشاق، فإنهم لا يطيقونه، فإما أن يختل عقلهم، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة. والله تعالى أعلم. وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

﴿ إِنَّ الله مع الذين اتقوا ﴾ الكفر والمعاصي، ﴿ والذين هم محسنون ﴾ في أعمالهم، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ". فهو معهم بالمحبة والوداد ؛ " فإذا أحببته كنت له ". والله تعلى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم، والتمسك بالأحسن في كل شيء، متمثلين لقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [ الزُّمَر : ١٨ ]. ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة.
فالصبر دأبهم، والرضى والتسليم خُلقهم.
وحقيقة الصبر هي : حبس القلب على حكم الرب، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة، والمعصية، والنعمة، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة إليها، وعن المعصية : بتركها، وعلى النعمة : بشكرها، وأداء حق الله فيها، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.
وأقسام الصبر ستة : صبر في الله، وصبر لله، وصبر مع الله، وصبر بالله، وصبر على الله، وصبر عن الله. أما الصبر في الله : فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله : فهو الصبر على حضور القلب مع الله، على سبيل الدوام ؛ مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين، والثاني : صبر المحبوبين.
وأما الصبر بالله : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير، لكنه بالله لا بنفسه، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس، مشاهدًا لأسرار المعاني، ثم فقد ذلك من قلبه، وأحس بالبعد والطرد - والعياذ بالله - فليصبر، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب، ولا يتزلزل، ولا يتضعضع، ولا يبرح عن مكانه، مبتهلاً، داعيًا إلى الله، راجيًا كرم مولاه، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر ؛ قيامًا بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون، الذين كملت عبوديتهم، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات، قَرَّبهم أو أبعدهم.
رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه، فقال : أي صبر أشد على الصابر ؟ فقال له الشبلي : الصبر في الله، قال : لا، قال : الصبر لله، قال : لا، قال : الصبر مع الله، قال : لا، فقال له : وأي شيء هو ؟ فقال : الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة، كادت تتلف فيها روحه. هـ. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب، كما قال الشاعر :
إنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت مِنَّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه : كنت على بساط الأنس، وفتح على طريق البسط، فزللت زلة، فحجبت عن مقامي، فكيف السبيل إليه ؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخي، الكل في قهر هذه الخطة، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم، فأنشأ يقول :
قـف بالـديـار فـهـذه آثـارهـم تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كـم قـد وقفـتُ بربعهـا مستخبـرا عن أهله أو سائلاً أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى
ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. فقيل له في ذلك، فقال : هذه بابه، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها ؟ فقبله الحق تعالى، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له، من قِبَلِ الوحي : إنك من أهل النار ؛ فزاد في العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته، وتحقق بمقام الفناء، فحينئذ قد يسهل عليه أمره ؛ لكمال عبوديته، كما قال القائل :
وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ
تيقـنـت أَنَّ العَبْـدَ لا طَلـَـبٌ لَـهُ فَإِنْ قَرُبُوا فَضْلٌ وإِنْ بَعُدُوا عَدْلُ
وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وأما من لم تكمل معرفته، فقد ينكره ويذمه، كالعباد والزهاد والعشاق، فإنهم لا يطيقونه، فإما أن يختل عقلهم، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة. والله تعالى أعلم. وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

Icon