تفسير سورة النحل

بيان المعاني
تفسير سورة سورة النحل من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

عصم من فتنة الدجال. وفي رواية: من آخرها. فعلى من أراد الحفظ من فتنته- عصمنا الله منها بيقين- فليحفظ عشرا من أولها وعشرا من آخرها عملا بالروايتين.
ويوجد سورة أخرى فقط مختومة بما ختمت به هذه السورة وهي الإخلاص في ج ١.
وليعلم أن كلمة الشرك المزجور عنها تكررت في القرآن في مواضع كثيرة لأنها أعظم شيء مكروه عند الله، ولهذا فإن كل شيء داخل تحت المشيئة بالعفو عنه والمغفرة إلا الشرك، لأنه الكفر الظاهر، وقد شبه به الرياء إذ ورد الرياء هو الشرك الخفي، لعظم وزره عند الله، راجع الآية ٣٣ من سورة الأعراف في ج ٢ والآيتين ٢٢/ ٧٩ من الإسراء أيضا، وسنبحث عنه كلما مررنا بما ينم عليه في اللفظ والمعنى كما جعلنا ذلك قبل. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة النحل عدد ٢٠- ٧٠- ١٦
نزلت بمكة بعد الكهف، عدا الآيات ١٢٦ و ١٢٧ و ١٢٨، وهي مئة وثمان وعشرون آية، والفان وثمنمئة وأربعون كلمة، وسبعة آلاف وسبعمئة وسبعة أحرف.
وتسمى سورة النعم، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا بما ختمت به، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» بقيام الساعة أي يأتي، وجاء بلفظ الماضي لأنه محقق الوقوع، قال الشيخ عبد القاهر:
إن إخبار الله تعالى بالتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع، إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى الماضي المحقق وقوعه «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» أيها الناس فإنه آت لا محالة «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» ١ به غيره، وهذا مما يعد سببا لتلو هذه السورة التي قبلها، إذ ختمها بذم الشرك، وبدأ هذه بتقبيحه أيضا، قال ابن عباس لما نزلت (اقتربت الساعة) المارة في ج ١ قال الكفار إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قربت فأمسكوا عما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه
210
لا ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا، فنزل قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ).
فأشفقوا، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل (أتى أمر الله) فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنوا أنها أتت حقيقة، فنزل (فلا تستعجلوه).
ويطعن في هذا عدم نزول سورة الأنبياء أو شيء منها قبل هذه السورة، تدبر.
واعلم أن هذه الآية لما نزلت على حضرة الرسول قال بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعيه بمدهما، أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد، ورويا في السنن مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى وضم السبابة والوسطى. قال تعالى «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ» الوحي سمي روحا لأن فيه حياة القلوب، أو أن الباء بمعنى مع، أي ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل عليه السلام، وهذه الآية تقارب في المعنى الآية ٥٧ من سورة الشورى المارة، وهذا الإنزال «مِنْ أَمْرِهِ» جل أمره «عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الذين اصطفاهم لرسالته آمرا لهم «أَنْ أَنْذِرُوا» الناس وأخبروهم «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» ٢ لتنالوا رحمتي والعاقبة الحسنة مني أنا، ذلك الإله العظيم الذي «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» ٣ به غيره وهو الذي «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» ٤ مظهر الخصام له كأنه لم يخلقه مما يعلم أو كأنه خلق نفسه ونسي ما كان عليه من الضعف اغترارا بما صار إليه. نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي كما نزلت فيه آية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية ٧٧ من سورة يس المارة إلى قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) في ج ١، وهي عامة في كل مخاصم لله وفي آياته.
قال تعالى «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ» أيها الناس «فِيها دِفْءٌ» من صوفها ووبرها وشعرها تستدفئون به بما تعملون منها من اللباس والخباء للاستظلال وغيرها «وَمَنافِعُ» من درّها وركوبها ونسلها وتحميلها «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» ٥ من لحمها وسمنها ولبنها واقطها وجبنها وزبدها وهو مما يعتمد عليه غالبا للتقوت، أما أكل الطيور والأسماك فيجري مجرى التفكه، وإنما قدم منفعة اللباس على منفعة الأكل لأنها أكثر وأعظم من منفعة الأكل إذ قد يكون من غيرها من الحيوان
211
«وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ» يقال للرجل جمال بالتخفيف وبالتشديد على التكثير، وجميل وللمرأة جميلة وجملاء قال:
فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال
أي أنها زينة وبهاء لصاحبها عدا منافعها «حِينَ تُرِيحُونَ» وقت ما تردونها من المرعى إلى مراجعها «وَحِينَ تَسْرَحُونَ» ٦ بها جمال أيضا وقدم الرواح على التسريح لأنها ترجع أجمل مما تغدو فيه تتبختر مشيتها مجتمعة متمتعة من المرعى ملأى بطونها حافلة ضروعها، ويفرح بها عند رجوعها أكثر منه عند ذهابها لأنها تكون خاوية البطون والضروع متفرقة مسرعة يخاف عليها الوحش والضباع والنهب.
قال تعالى «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ» بدونها «إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» الشق نصف الشيء، وعليه يكون المعنى لم تبلغوا ذلك البلد الذي تريدونه بغيرها إلا بنقصان نصف قوة أنفسكم «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» ٧ بخلقه إذ سخر لهم هذه الأنعام لاستراحتهم «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ» خلقها لكم أيضا «لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» تتباهون بها كالأنعام إلا أنها لا تؤكل ولا يستفاد من درها ووبرها، وفيها من المنافع ما لم تكن في تلك عدا الإبل فإنها جامعة للأمرين، ولذلك عجّبهم الله بها، راجع الآية ١٧ من الغاشية المارة «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» ٨ أيها الناس من أدوات الركوب والحمل كالعجلات والسيارات والطائرات والسفن البخارية والقطارات والغواصات مما علمتم ومما لا تعلمون أيضا أنواعا وأجناسا نخلقها لكم بعد لمنافعكم والمزينة أيضا، عدا أصناف الحيوانات البرية والبحرية مما تنتفعون به ومالا، وليس المراد من هذه الآية بيان التحليل والتحريم بل تنبيه العباد على نعمه تعالى عليهم.
مطلب جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم الله على خلقه:
الحكم الشرعي يجوز أكل لحوم الخيل والبغال المتولدة من الخيل، أما المتولدة من الحمر الأهلية فلا، وعليه الشافعي وأحمد وكثير من أهل العلم، وقال مالك وأبو حنيفة ومن نهج نهجهم وهو قول ابن عباس لا يجوز أكل لحوم الخيل، لأن الله تعالى عدّ ما هو للأكل على حدة وما هو للركوب على حدة، ودليل الأكل
212
هو ما أخرجه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت:
نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه. وما رويا عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل، وأن القرآن في هذه الآيات تكلم عن الركوب والزينة وسكت عن الأكل فدار الأمر بين التحريم والإباحة فوردت السنة بالإباحة لأكل الخيل وتحريم الحمر الأهلية والبغال منها تبعا لها، لأن الحيوان ينسب إلى أمه، فأخذنا بالسنّة جمعا بين النصين، لأن السنّة مبينة لكتاب الله تعالى وشارحة له، فالأخذ بها جائز، أما ما قيل إنها ناسخة لكتاب الله فلا، راجع بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة وفي الآية ١٤٦ من الأنعام المارة، ولبحثه صلة واسعة تأتي إن شاء الله في الآية ١٠٦ من البقرة في ج ٣. «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ» الموصل للإيمان به، وهذا على غير الوجوب، إذ لا يجب عليه شيء ولكن بمحض الفضل، وقصده بيان استقامته بالآيات والبراهين، فعليكم أيها الناس اتباعها وسلوكها «وَمِنْها جائِرٌ» معوج مائل عن الاستقامة فلا تسلكوها لأنها مسلك أهل الزيغ والبدع والأهواء والطيش «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» ٩ إلى الطريق الحق، ولكنه لم يشأ ذلك لأمر اقتضته حكمته، ولو كان لما بقي محل لخلق النار ولا معنى للتفاضل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ» ينبت لكم «شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» ١٠ أنعامكم ودوابكم وكل ما له حاجة في الرعي،
وكذلك «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» كالجوز والبرتقال وأنواع المشمش والإجاص والخوخ والكثرى وغيرها، لأنه تعالى ذكر في كتابه أمهات الأشياء وعبر عن البقية بلفظ الثمرات والفاكهة، والأب فيما يخص الحيوان من جميع أجناس وأصناف النباتات «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكر من أجناس الحيوان وأصناف الثمار وأنواع النبات «لَآيَةً» عظيمة دالة على قدرة القادر ووحدانيته «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ١١ فيها فيعقلون معناها ويفقهون مغزاها «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافعكم أيها الناس «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» لمنافعكم أيضا بصرفها كيف يشاء ويختار «إِنَّ فِي ذلِكَ» التسخير الجاري على نظام بديع
213
لا يتغير على كر الدهور «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ١٢ فوائد تسخيرها ويستدلون بها على مراده منها «وَما ذَرَأَ» خلق وبرأ «لَكُمْ فِي الْأَرْضِ» من حيوان ونبات ومعادن ومياه «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» وأشكاله وهيئته وكيفيته وكميته وماهيته وطعمه وريحه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الاختلاف مع اتحاد الأصل في الغالب وكونها كلها من الماء خلقه ومقرتا «لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» ١٣ فيها فيعتبرون ويتعظون ويعترفون بكمال القدرة لله تعالى، وفي هذه الآية دلالة على عقم قول المنجمين إن هذه الكواكب هي نفسها الفعالة المتصرفة في شئون العالم السفلي، لأنه تعالى يقول مسخرة مذللة مقهورة بأمره لمنافع خلقه، وقد أسهبنا البحث بهذا في الآيتين ١١٠/ ١١٢ من سورة الصافات المارة فراجعها وما تشير إليها من المواضع ففيها كفاية. وبعد أن ذكر الله تعالى بعض النعم الموجودة في السماء والأرض أتبعها بما هو في الماء فقال «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا» مع أنه مالح ليعلم خلقه أنه قادر على إخراج الضد من الضد «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» كاللؤلؤ والمرجان واليسر وغيرها «وَتَرَى» أيها الإنسان «الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» جواري في البحر بسرعة مقبلة ومدبرة بشدة مع أن الريح واحدة والمخر الشق لأن السفينة تشق الماء شقا حالة جريها فيه «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الربح في تجارتكم والتنقل للاعتبار والزيارة وحمل الأثقال ولتفكروا كيف تبلغ بكم المواقع التي تقصدونها بسيرها «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ١٤ هذه النعم وتقوموا بحقها من توحيد الله وطاعته وتمجيده وتعظيمه، لأن الركوب في البحر من أعظم النعم لما فيه من قطع المسافات البعيدة في زمن قصير بالنسبة للسير بالبر ولعدم الاحتياج للحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل فيه:
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة نظن وقوفا والزمان بنا يسري
واستدل بهذه الآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة، وإليه ذهب الكثير، وأخرج عبد الرزاق بن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث:
غاز أو حاج أو معتمر. وجاء في رواية أخرى: لا يركب البحر إلا غاز أو
214
حاج أو معتمر، مصدر بالنهي وممنطق بالحصر. قال تعالى «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لأنه تعالى لما خلقها خلقها طائفة عائمة، فصارت تمور وتتحرك بالهواء، فأثقلها بالجبال راجع الآية ٩ من سورة لقمان والآية ١٩ من سورة الحجر المارتين والآية ٢ من سورة الرعد في ج ٣، «وَأَنْهاراً» جعل فيها للشرب والسقي وغيرها «وَسُبُلًا» طرقا وفجاجا تسلكونها بأسفاركم في السهل والجبل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ١٥ إلى المكان الذي تريدونه فلا تضلون قصدكم ولا يصعب عليكم بلوغه «وَعَلاماتٍ»
جعل فيها أيضا لتستدلون بها على المواقع كالجبال والوديان والروابي والأنهار والأشجار والعيون في تنقلاتكم النهارية «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» ١٦ في الليل كالثريا وسهيل والجدي وبنات نعش والفرقدين والبلدة والقلادة والنثرة والعبور والميزان، فإنها ترشدكم على القبلة والشمال والشرق والغرب تهتدون بها إلى قصدكم بمعرفة الجهات الطالعة منها والسائرة إليها. ولما ذكر الله تعالى من عجائب صنعه وغرائب إبداعه وعظيم حكمته مما هو مخلوق له وكل شيء مخلوق له قال على سبيل الإنكار لتاركي عبادته مع هذه النعم التي غمرهم بها «أَفَمَنْ يَخْلُقُ» أيها الناس مثل هذه المخلوقات العظيمة «كَمَنْ لا يَخْلُقُ» شيئا مثل أوثانكم وتساوون هذا الخلاف الجليل بها مع أنها عاجزة عن حفظ نفسها «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ١٧ أن مخلوقاته كلها بما فيها أوثانكم التي لا تخلق ولا ترزق لا تستحق للعبادة، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة الحق القادر على كل شيء.
هذا، وقد عبر الله تعالى عن الأوثان بلفظ من الدالة على من يعقل مع أنها جمادات وينبغي أن يعبر عنها بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأنهم لما سموها آلهة أجريت مجرى من يعقل على زعمهم، فخاطبهم جل جلاله على قدر عقولهم فيها وفي الآية الآتية بعد «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» يا بني آدم لأنها كثيرة منها ظاهرة ومنها خفية، ومنها ما أنتم متيقظون لها وما أنتم غافلون عنها لا تعرفون قدرها، لأن المعافى الآمن لا يعرف نعمتهما إلا عند طروء الخوف والمرض، والسميع البصير لا يعرف نعمتهما إلا عند فقدهما، وكذلك بقية الأعضاء والمأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والأموال والأولاد والنساء والسكن لا يعلم قدرها إلا عند
215
زوالها، وقد أنعم الله نعما كثيرة لا يحصيها إلا هو «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ» لعباده إذا نسوا نعمه فتيقظوا وتابوا وقاموا بشكرها «رَحِيمٌ» ١٨ بهم يعفو عما سلف منهم ومن رحمته التجاوز عن قصورهم وتكثير نعمه عليهم وإمهالهم بالعقوبة ليرجعوا إليه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» ١٩ من أقوالكم وأفعالكم «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونها آلهة «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» مما ذكر أبدا «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» ٢٠ بصنعكم وبعمل أيديكم التي هي من خلقنا، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى دلت على أنها لا تخلق شيئا، وهذه تدل على أنها نفسها مخلوقة ففيها زيادة في المعنى ونادرة أخرى وهي
«أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» فكيف يكون الميت إلها، ومن شأن الإله أن يكون حيا يحي ويميت مجيبا لمن دعاه «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» ٢١ للحساب والجزاء والعقاب وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى يبعثها يوم القيامة بخلاف سائر الجمادات، والحكمة من بعثها تكذيب عابديها وتبرؤها منهم إذ يجعلها القدير صالحة للكلام إظهارا لبطلان زعمهم فيها من الشفاعة لهم والتقرب إلى الله بعبادتهم. فيا بني آدم «إِلهُكُمْ» الذي يستحق العبادة ويفعل الخير والشر «إِلهٌ واحِدٌ» هو الله لا إله غيره الذي تجدونه غدا في الآخرة ينعم الطائع بالجنة ويعذّب العاصي بالنار «فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ» هذا الإله العظيم جاحدة وحدانيته «وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» ٢٢ عن عبادته خاضعون لعبادة الأوثان مائلون لحبها.
مطلب لا جرم ولفظها وإعرابها وقدم لسان العرب وتبلبل الألسن وذم الكبر:
«لا جَرَمَ» قال البصريون إن لا من لا جرم ردّ لكلام سابق مثل قوله تعالى (لا أُقْسِمُ) وهو هنا إنكار قلوبهم التوحيد واستكبارهم عنه، وجرم فعل ماض بمعنى ثبت وحق ووجب وعلى هذا قوله:
ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وان مع ما في حيّزها فاعلة أي ثبت وحق علم الله تعالى بسرهم وعلانيتهم وعدم محبته للمستكبرين المشار إليهم في قوله «أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
216
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ»
٢٣ عن عبادته والإنابة لطاعته والانقياد لأمره، وعليه يكون المعنى أن من حق العالم بالسرّ والعلانية أن لا ينكر وحدانيته ولا يستكبر عن عبادته، ويجوز أن تكون بمعنى كسب وفاعله يعود على ما قبله والجملة بعدها محلها النصب على أنها مفعولة لها، وبه قال الزجاج، وقيل لا عاملة وجرم اسمها باعتباره مصدرا مبنيا على الفتح وخبرها الجملة في أن واسمها وخبرها، فتكون مثل لا بدّ من التبديد وهو التفريق، أي لا من بطلان دعوة الجحود والاستكبار عن عبادة الله، لأن بطلانها أمر ظاهر مقطوع به. قال الفراء هذا هو أصل لا جرم لكنه كثر استعماله فصار بمعنى حقا. ومن العرب من لفظها مثل لفظ لا بد بضم الجيم وسكون الراء وفتح الميم، لأن فعل وفعل اخوان كرشد ورشد وعدم وعدم ذكره الكشاف، وهذه اللفظة تؤيد القول باسميتها، وقال الخليل إن جرم مع لا مركب تركيب خمسة عشر وبعد تركيبها صار معناها معنى فعل، وعليه فإن ان وما بعدها يعدها في تأويل مصدر فاعل لها، وقالوا إن لا جرم يعني عن القسم، تقول لا جرم لآتينك، وعليه تكون الجملة بعدها جواب القسم. وفي عموم هذه الآية يدخل كل متكبر سواء عن عبادة ائمه أو على خلقه.
روى مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر، فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحبّ أن يكون نوبه حسنا ونعله حسنا؟ قال إن الله جميل يحب الجمال. أي ان هذا من النظافة وهي مطلوبة وليست من الكبر المذموم، والكبر بطر الحق أي جعل الحق باطلا وغمط الناس حقهم أي احتقارهم فلم توهم شيئا وغمص بمعنى غمط، لأن كلّا بمعنى انتقص وازدرى، والتكبر والكبر والاستكبار ألفاظ متقاربة يجوز استعمال بعضها مقام بعض مع فرق بالمعنى، والمفهوم من عدم الحب البغض، لأن من لا يحبه الله يبغضه.
قال تعالى «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ» المتكبرين «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على نبيكم «قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ٢٤ كما قالوا في الآية ٥ من سورة الفرقان في ج ١، وإنما قالوا وفاهوا بهذا «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» لم ينقص منها شيء لأن ثواب ما فعلوه من صلة رحم وإقراء ضيف وغيره وما أصابهم من
217
البلاء في الدنيا كافأهم الله عليه فيها من الرزق والأولاد والعافية وغيرها، فلا يكفر الله بها شيئا من أوزارهم لإعطائه لهم بدلها بالدنيا فتبقى أعمالهم السيئة ثابتة عليهم تامة «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» أي ويحملون مع أوزارهم بعض أوزار أتباعهم، لأن الرؤساء عليهم وزرهم وشيء من أوزار أتباعهم. أخرج مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا. «بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي يضلونهم من حيث لا يعلمون أن طريقهم الذي يدعون إليه ضلالة، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على من له لب «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» ٢٥ أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من الأمم السابقة بأنبيائها كما مكر قومك بك يا سيد الرسل، وقد قص الله عليه مكر قوم إبراهيم وهود وصالح بأنبيائهم وهم عرب مثل قومك، وبهذا يبطل قول من قال إن أصل لسان الناس السريانية، وان تبلبل الألسن كان بعد نمرود، فإذا كان لهذا القول صحة فيكون قبل عاد وثمود وقبل صالح وهود، لأن قومهما كانوا عربا، ولأن أهل اليمن كانوا عربا، لأن جرهم منهم، وكان قبلهم طسم وجديس يتكلمون بالعربية بما يدل عن أن لسان العرب كان قديما، لأن الله أرسل هودا وصالحا وهما من ذرية نوح عليه السلام قبل إبراهيم وهما عربيان، ولم يرسل للعرب من ذرية إبراهيم غيرهما وشعيب عربي أيضا وأرسل إليهم إسماعيل عليه السلام قبله وقد تعلم العربية من جرهم، ومن ذريته محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ومما يدل على قدم لسان العرب قوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) الآية ٣١ من الأحزاب في ج ٣، وهذه الآية عامة في كل ما كر كايد مبطل يحاول إلحاق الضرر بالغير. قال تعالى «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» أي جاء أمره باستئصال واقتلاع أساطين بنيانهم وأصوله، لأن القواعد أس البناء «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» جاء الظرف تأكيدا لأن الخرور لا يكون إلا من فوق، والأحسن أن يقال يحتمل أنهم عند سقوطه لم يكونوا تحته، فلما قال من فوقهم
218
علم يقينا أنهم تحته فخر عليهم فأهلكوا جميعا «وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» ٢٦ وهم في مأمن منه معتمدون على قوة بنيانهم. قال المفسرون المراد بهذا نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل المارّ ذكره في الآية ٣٤ من سورة القصص في ج ١ بطول خمسة آلاف ذراع ارتفاعا بالهواء، وعرض ثلاثة آلاف ذراع، فأهب الله تعالى عليه الريح فسقط عليهم وهلكوا، واقتدى به أخوه فرعون إذ أمر وزيره هامان ببناء صرح له راجع الآية ٣٦ من سورة المؤمن المارة، قالوا وقد تبلبلت الألسن من الفزع فتكلم الناس بثلاث وسبعين لغة، وعاش بعد ذلك مدة ثم أهلكه الله ببعوضة على ما هو المشهور نقلا عن ابن عباس ومقاتل وكعب، «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ» فلا يقتصر على عذابهم الدنيوي هذا بل يذلّهم في الآخرة ويهبننهم أيضا «وَيَقُولُ» لهم بمعرض التوبيخ «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ» تخاصمون المؤمنين على قراءة فتح النون، وعلى كسرها يكون المعنى تخاصمون الحضرة الإلهية «فِيهِمْ» في الدنيا، والمشاقة وجود كل من الخصمين في شق أي طرف غير شق صاحبه، والمعنى هاتوهم ليدفعوا عنكم العذاب كما كنتم تزعمون، فيكتون ويخرسون «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» أي أنبياؤهم وصلحاؤهم الذين كانوا معهم في الدنيا يدعونهم إلى الإيمان وكانوا يعرضون عنهم، ومقول القول «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» ٢٧ وهذا شماتة بهم وزيادة في هوانهم ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» استسلموا وأخبتوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والاستهزاء، وقالوا معتذرين «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» في الدنيا، جحدوا كفرهم وخبثهم من شدة الخوف وعظم الهول
ولما رأوه من الإهانة، فقال لهم الذين أوتوا العلم «بَلى» كنتم تعملون الأسواء كلها في دنياكم فلا تنكروا «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٢٨ فيحق عليهم القول وتقول لهم الملائكة «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» ٢٩ عن اتباع الرسل والإيمان بهم جهنم. وذكر الأبواب في الآية دليل على تفاوت منازل أهل النار في العذاب، وذكر الخلود لزيادة همهم وغمهم وحزنهم بقطع أملهم
219
من الخلاص «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» بعد إنهاء حال الكفرة، وقد أفردوا بالذّكر ليطلعوا على حال الكافرين ومصيرهم فيفرحوا ويتم سرورهم بثمرة أعمالهم التي كان الكفرة يضحكون منها وتقر أعينهم بانتقام الله تعالى لهم منهم فيدخلون الجنة وقد أمنوا على أنفسهم وعرفوا حال أعدائهم «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» على رسلكم «قالُوا خَيْراً» نصب على تقدير أنزل فاطبق الجواب على السؤال لأن القول لا ينصب المفرد ورفع أساطير بالآية الأولى ٢٤ على تقدير حذف المبتدأ المقدر وهو هو وأساطير خبره، ولأنهم عدلوا بالجواب عن السؤال ولم يعتقدوا كونه منزلا، فلم يستحسن الوقف على أساطير لعدم تمام الكلام واستحسن الوقف في هذه الآية على (خيرا) لتمام الكلام، ولهذا حسن الابتداء بقوله «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» لهم من الدنيا لقوله تعالى «وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» ٣٠ في الآخرة التي هي
«جَنَّاتُ عَدْنٍ» لهم «يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لتمام النعمة وبهجة النظر «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» فيها من كل ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن «يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» ٣١ في الآخرة الدائمة وهؤلاء المتقون هم «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ» طاهرين، وهذا بمقابلة (ظالمي أنفسهم) في بيان فريق أهل النار في الآية الأولى «يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» وبمقابلة قول ملائكة العذاب للكافرين (أدخلوا أبواب جهنم) تقول ملائكة الرحمة «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٣٢ في دنياكم. واعلم أن ما جاء في هذه الآية وفي قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) الآية ٧٣ من سورة الزخرف المارة ونظيرتها الآية ٤٣ من سورة الأعراف في ج ١ والآية ١٩ من سورة الطور والآية ٢٤ من سورة الحاقة الآتيتين يدل على أن الجنة تكون للشخص بمقابل عمله الحسن.
مطلب التوفيق بين الآيات والحديث بسبب الأعمال وفي آيات الصفات:
وهذه الآيات لا تتنافى مع قوله صلّى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته، لأن معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، أما التوفيق للإخلاص فيها وقبولها
220
فيكون برحمة الله وفضله ليس إلا، وعليه فيصح أن يقال لم ندخل الجنة بمجرد العمل، وهذا هو مراده صلّى الله عليه وسلم وهو على حد قول العبد لسيده تفضلتم علي يا سيدي بما لم أكن أهله، فيقول له السيد بل بحسن خدمتك وأدبك. ويصح أن يقال تدخل الجنة بسبب الأعمال برحمة الله وفضله ومنّه، لا بالوجوب كما قال بعضهم، لأن الله لا يجب عليه شيء لأن الكون وما فيه ملكه وتحت سلطانه وله أن يفعل فيه ما يشاء، فلو عذب الطائع وأناب العاصي أيعارضه أحد؟ كلا لا يسأل عما يفعل، قال صاحب الزبد في عدم جواز نسبة الظلم إليه تعالى:
وله أن يؤلم الأطفالا ووصفه بالظالم استحالا
لأن الظلم تصرف فى حق الغير فيما لا يحل، والله جل شأنه متصرف في ملكه لأن الكل تحت قبضته، فلو أن أحدا هدم داره أو أحرق متاعه هل لأحد معارضته وهل عليه عقاب ما؟ كلا البتة، فإذا كنا نحن العبيد لنا التصرف المطلق فيما ملكناه الله لأن ملكنا له مجاز، فكيف يعترض أحد على المالك الحقيقي إذا تصرف في ملكه.
راجع الآية ٢٨ من سورة الأعراف في ج ١ والآية ٧٣ من سورة الزخرف المارة ولهذا البحث صلة في الآية ١٩ من سورة الطور والآية ٢٤ من سورة الحاقة الآتيتين فراجعه تجد ما يسرك إن شاء الله القائلَ لْ يَنْظُرُونَ»
هؤلاء الجاحدون نبوتك يا سيد الرسل المنكرون وحينا إليكِ لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ»
بقبض أرواحهمَ وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ»
بعذابهم الدنيوي، وهذه الآية من آيات الصفات التي أشرنا إليها غير مرة بأن مذهب السلف الصالح إبقاؤها على ظاهرها ومذهب الخلف وبعض المتكلمين، على تأويلها بما يناسبها، راجع الآية ٦٧ من سورة الزمر المارة وما ترشدك إليهَ ذلِكَ»
مثل فعل هؤلاءَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»
من الكفر والتكذيبَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ»
بتعذيبهم من أجلهَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
٣٣ بما عملوا من الخبائث «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» في دنياهم «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٣٤ على الرسل وما جاءوهم به من عندنا جزاء كسبهم هذا بما لا تطيقه أجسامهم «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
221
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ»
وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء، ولو قالوه اعتقادا جازما لأصابوا المرمى، ويؤذن قولهم أن لا فائدة من بعثة الرسل، لأن المشيئة الله، لو أراد لم يحرم شيئا ولم نعبد شيئا، وهذا أيضا اعتراض منهم على الله جار مجرى العلة في أحكام الله تعالى، وهو باطل لأنه لا يجوز أن يقال لم فعل الله كذا، ولم لم يفعل كذا، لأن أفعال الله لا تقلل، وكان في حكمة الله تعالى وسنته إرسال الرسل ليأمروا عباده بعبادته، وينهوهم عن الإشراك به والتعدي على الغير، وإن الهداية والإضلال أمرهما في الحقيقة إليه، وهذه سنته في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه. ولما كانت سنته بإرسال الرسل إلى الكافرين قديمة لا محدثة ولا طارئة ولم يبتدعها ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم كان قولهم (لو شاء الله) إلخ جهلا، لاعتقادهم أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثتهم وهو أيضا اعتقاد باطل. قال تعالى «كَذلِكَ» مثل فعلهم هذا «فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» إذ كذبوا الرسل وأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحله «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ٣٥ هذا استفهام تقريري، أي ليس عليهم إلا التبليغ القولي وليس عليهم قسرهم على الإيمان وجبرهم على الهداية وإجبارهم على الرشد، راجع الآية ١٤٩ من سورة الأنعام المارة «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» كما بعثناك في أهل مكة وأمرنا كلا من الرسل أن يقولوا لقومهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» مبالغة في الطغيان والطاغية ويطلق على كل من عبد من دون الله حاشا الملائكة وعزيز وعيسى وعلي عليهم السلام وغيرهم من الصالحين لعدم علمهم ورضاهم «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ» فتاب وأناب واتبع طريقهم الموصل إليه ففاز برضائه «وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» فلم ينتفعوا بهدى رسولهم لسابق ثقائهم في علم الله وإرادته إضلالهم لسوء طويتهم فهلكوا وخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، وهذه الآية كافية للدلالة على أن الله تعالى هو الهادي والمضل دون اعتراض، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا» أيها الناس «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ٣٦ حيث بقيت مساكنهم خاوية بسبب العذاب الذي حل
222
بهم، وفيها تنبيه على أنكم يا أهل مكة إذا أصررتم على الكفر يكون مصيركم مثلهم، قال تعالى «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ» يا سيد الرسل وتجتهد كل الاجتهاد لا يغير ما هو مدون في أزلنا أبدا «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ» أبدا ولو أطبق الخلق على إضلال من هداه لن يقدروا أيضا «وَما لَهُمْ» الضالين «مِنْ ناصِرِينَ» ٣٧ يمنعونهم من عذاب الله المقدر لهم ولا يقدر أحد أن يهديهم أيضا، «وَأَقْسَمُوا» هؤلاء الكفرة الضالون «بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» قال ابن الجوزي أتى رجل مسلم يتقاضى دينه من كافر، فقال فيما قال والذي أرجوه بعد الموت، فقال الكافر أترجو وتزعم هذا والله لا يبعث من يموت. فنزلت هذه الآية ردا عليه وتكذيبا له، وهو قوله «بَلى» يبعث من يموت «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجزا على طريق عدم جواز الخلف على الله إن الله لا يخلف الميعاد ومن أصدق من الله قيلا «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ٣٨ كيفية
ذلك، لأنهم يقولون إن هذه البنية إذا بليت وتفرقت أجزاؤها امتنع عودها بعينها، لأن الشيء إذا عدم فقد فني ولم تبق له ذات ولا حقيقة، ولم يعلموا أن الله تعالى الذي بدأ خلقهم قادر على إعادتهم كما كانوا عليه، وهو أهون عليه لأن خلقهم من لا شيء على غير مثال والصعوبة إنما تكون في الابتداع لا في التقليد، فهذه السيارات والطائرات والراد والكهرباء وغيرها بعد أن اخترعت هان على العاملين عملها وكان العقل لا يصدق وجودها لو لم يشاهدها، فالفضل فيها للمبتدع لا للمقلد. واعلم أن الحكمة في إعادة الخلق أحياء في الآخرة «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ» الله الذي خلقهم أول مرة «الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ» في الدنيا حقيقة وعيانا «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» ٣٩ في إنكارهم البعث وتكذيبهم ما أخبرهم به الرسل من وجود الحساب والعقاب والجنة والنار ويتحقق أن الله تعالى إذا أراد شيئا كان لا محالة بدليل قوله «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ٤٠ حالا بين الكاف والنون، أي يوجد عند وجود هذين الحرفين بل بينهما. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له
223
ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. واعلموا أيها الناس أن خلقكم وبعثكم عندنا كشيء واحد لا يصعب علي شيء من ذلك والإيجاد والإعدام عندنا سواء لا يتخلف شيء عن أمرنا طرفة عين، فانظروا أيها الناس واعلموا أن لا كلمة على الخلاق فيما يخلق ويفني.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» في الدنيا «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» عظيمة وحسنى جليلة ونعما جسمية «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» في الإحسان إليهم وأعظم أجرا إذا صبروا على ما أصابهم في الدنيا «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ٤١ ما أعد الله لهم في الآخرة على صبرهم لزادوا في اجتهادهم على العبادة وفي صبرهم على أذى الكافرين وغيرهم. نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة بسبب أذى المشركين إليهم، وفيها دليل على أن الهجرة إذا لم تكن خالصة لوجه الله للتمكن من القيام بأوامره وعبادته كما ينبغي كانت كالانتقال من بلد لآخر للتجارة أو الزيارة لا مزيّة لها ولا شرف فيها ولا ثواب، يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلخ. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ صَبَرُوا» على ظلم المشركين وأذاهم في سبيل الله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ٤٢ في أمورهم كلها. واعلم أن الصبر والتوكل مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، لأن الصبر قهر النفس وحبسها على أعمال البر واحتمال الأذى من الخلق وعلى الشهوات المباحات وعلى المصائب وعن المحرمات والتوكل انقطاع عن الخلق، فبهذا المنتهى والأول المبتدأ.
مطلب التعويض الثاني بالهجرة وعدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن:
وهذه الآية الثانية التي يعرض الله تعالى بها لرسوله بالهجرة، والأولى ٢٠ من سورة المؤمن المارة. قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا» يا أهل مكة إن لم ترشدكم عقولكم إلى التصديق بهذا الذي قصصناه عليكم «أَهْلَ الذِّكْرِ» الذين أنزل عليهم قبلكم من اليهود والنصارى،
224
وقولوا لهم هل أرسل الله نبيا إلا رجلا فيما سبق من الأمم إلى الأمم «إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ٤٣ أمرهم الله أن يسألوا أهل الكتابين لأنهم يعتقدون ذلك لعلمهم بما أنزل الله في كتبهم من هذا. نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين الله أعظم وأجل أن يرسل رجلا إلى الناس ولو أراد لأرسل ملكا. فرد الله عليهم زعمهم واستشهد على بطلانه بأهل الكتابين لأنهم لا يعلمون «بِالْبَيِّناتِ» المعجزات «وَالزُّبُرِ» الكتب المنزلة مثلهم، أي اسألوهم عن هذا كما سألتموهم قبلا عن حقيقة محمد وكلفوكم أن تسألوه عن الروح وأصحاب الكهف وذى القرنين، وقد أجابكم كما ذكروه لكم ومع هذا كله لم تصدقوا نذرعا بقولكم كيف يكون بشرا رسولا، عتوا وعنادا لا غير. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ» القرآن وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه للعاقل يذكره بأمر دينه ودنياه، وإنما أنزلناه عليك يا سيد الرسل «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ٤٤ فيه فيؤمنون، والمراد من التبيين في هذه الآية بيان ما أجمل في القرآن من المتشابه، أما الحكم منه فهو مبين مفسّر لا يحتاج إلى التبيين، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على أنه متى تعارض الحديث مع القرآن وجب الأخذ بالحديث، لأن الرسول هو المبين للقرآن بنص هذه الآية وبنص قوله (ما ينطق عن الهوى) لأن القرآن مجمل والحديث مبين له، والمبين مقدم على المجمل، ولأن المنزل عليه لا يتكلم في نفسه بل بوحي من ربه. وهذا الاستدلال بغير محله، لأن القرآن منه محكم ومنه متشابه، فالمحكم مبين لا يحتاج إلى البيان ويجب الأخذ بظاهره دون حاجة إلى تأويل أو تفسير أو قياس أو استحسان، سواء أخالف الحديث أم لا، لأن الحديث الذي نراه مخالفا لبعض القرآن لا يعمل به، ولعله موضوع لمعنى لا نعرفه، أو أنه مكذوب على حضرة الرسول، والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من الحديث وأهل العلم. قال تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) لا يتبدل حكمها ولا يتغير معناها من بدء الكون إلى آخره (وأخر متشابهات) إلى أن قال (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وهم الأنبياء فمن دونهم ممن هو على آثارهم في العلم والعمل، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٧ من آل عمران في ج ٣
225
بصورة مسهبة إن شاء الله. واعلم أن القائل بهذا قائل بأن الحديث ينسخ القرآن وهو قول لا وجه له، كيف وقد قال تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) الآية ٦٦ من سورة يونس المارة، والنسخ بالسنية تبديل فكيف يجوز أن يقال به فضلا عن أن جهابذة الأصوليين لم يعترفوا به، وما قيل بجوازه فهو قيل ضعيف مستنده حديث الترمذي وغيره (لا وصية لوارث) بأنه نسخ آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) الآية ١٨٦ من سورة البقرة ج ٣، مع أن هذه الآية مخصصة بآية المواريث الآتية في سورة النساء كما سيأتي بحثها إن شاء الله، وقد ألمعنا إلى بطلانه في المقدمة في بحث النسخ، وسيأتي توضيحه في الآية ١٠٦ من سورة البقرة ج ٣ عند قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ، واعلم أنه لا يجوز بوجه من الوجوه أن يؤخذ بالحديث إذا عارض ظاهر القرآن، وهو دليل على عدم صحته، لأنه لا يتصور أن بصدر من حضرة الرسول قول يخالف ظاهر كلام الله، كيف وهو الذي لا ينطق عن هوى وعليه أنزل القرآن وهو دليله وحجته وبرهانه. قال تعالى «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا» المنكرات «السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بمن قبلهم «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» ٤٥ كما أهلك من قبلهم فجأة حال غفلتهم من نزول العذاب «أَوْ يَأْخُذَهُمْ» على غرة «فِي تَقَلُّبِهِمْ» في الأرض عند أسفارهم بها ذاهبين أو آئبين «فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» ٤٦ الله ولا فائتيه ولا قادرين على الهرب منه «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» بأن يريهم إهلاك أناس أمامهم فيخافوا من وقوعه بهم أو يحدثه بهم تدريجا فيعذبهم فيهلكوا بين الخوف والعذاب أول بأول بصورة تدريجية حتى يقضى على آخرهم
«فَإِنَّ رَبَّكُمْ» أيها الناس القادر على تسليط أنواع العذاب والهلاك عليكم «لَرَؤُفٌ» كثير الشفقة عليكم «رَحِيمٌ» ٤٧ بكم لا يعجل عقوبتكم بل يمهلكم لترجعوا إليه وتتوبوا مما أذنبتم به إليه.
وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما تنفطر منه القلوب وترتعد منه الفرائض.
والمكر المشار إليه هو أن قريشا لما عجزت عن صد دعوة الرسول صارت تحيك الدسائس لتخلص منه، وصاروا يعقدون الاجتماعات في دار الندوة ويتذاكرون
226
في كيفية إهلاكه أو إخراجه من بين أظهرهم، فأنزل الله هذه الآية بوعدهم بها بإنزال أصناف العذاب والهلاك إذا هم فعلوا به شيئا، وهذا من مقدمات الأسباب الداعية إلى هجرته صلّى الله عليه وسلم التي قرب أوان إذن الله تعالى له بها. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» المراد بهذه الرؤية البصرية لا القلبية، ولذلك وصلت بإلى إذ يراد منها الاعتبار ولا يكون إلا بنفس الجارحة التي يمكن معها النظر إلى نفس الشيء ليتأمل بأحواله ويتفكر فيه فيعتبر ويتعظ «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» يقال للظل بالعشي فيء من فاء إذا رجع، وفي الصباح ظل لأنه مما نسخته الشمس والفيء ينسخها. قال حميد بن ثور في هذا:
أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العفاة تروق
فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق
وأراد بالسرحة امرأة على طريق الكناية، أي تنشر ظلاله انتشارا «عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» ٤٨ صاغرون ذليلون، قال ذو الرمة:
فلم يتق إلا داخر في مخيس ومنحجر في غير أرضك في حجر
المخيس السجن «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» ٤٩ عن السجود لعظمته بل يتواضعون ويخشعون ويخضعون لهيبة جلاله «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» ٥٠.
مطلب من أنواع السجود لله وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة:
وهذه الآية شاملة لنوعي السجود، لأنه سجود طاعة وعبادة كسجود الملائكة والآدميين وسجود انقياد وخضوع كسجود الضلال والدواب، وجاء بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل تغليبا لأنه أكثر مما يعقل كتغليب المذكر على المؤنث وجمعها جمع من يعقل، لأنه وصفها بصفته، لأن السجود من شأن من يعقل، وهذه السجدة من عزائم السجود وقد بينا ما يتعلق فيه في الآية ٣٧/ ٣٨ من سورة فصلت المارة فراجعه ترشد لما تريده فيه.
«وَقالَ اللَّهُ» تعالى يا ابن آدم إني نهيتكم كما نهيت
227
آباءكم من قبل على لسان رسلي أن «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ» الإله الذي يعبد في السماء والأرض هو «إِلهٌ واحِدٌ» فرد صمد لا رب غيره ولا إله سواه ولا يستحق العبادة إلا إياه، وإنما قال واحد لأن الاسم الحامل معنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منها هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وقيل لك إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وإذا أريدت الدلالة على الجنسية فلا حاجة للتاكيد كما تقول واحد اثنين، ولهذا البحث صلة في الآية ٢٣ من سورة الأنبياء الآتية عند قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية إن شاء الله، «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» ٥١ لا ترهبوا غيري أبدا، وقد جاء بالالتفات من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ من الترهيب، والرهب خوف مع حزن واضطراب، قال تعالى «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» ثابتا دائما واجبا لازما، قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال أمية بن الصلت:
وله الدين واصبا وله الملا ك وحمد له على كل حال
ثم خاطب خلقه على طريق الاستفهام بقوله جل قوله «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» ٥٢ أيها الناس بعد أن عرفتم ما قصصناه عليكم من كمال عزّته وكبير قدرته وعظيم سلطانه وجليل عفوه «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» لا من غيره فيجب عليكم شكر نعمه «ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» ٥٣ تضجّون بالدعاء وتصيحون بالاستغاثة ليكشفه عنكم، والجوأر رفع الصوت بالاستغاثة قال الأعشى:
يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» ٥٤ لأنهم يضيفونه إلى أسباب أخر ولا يعلمون أنه هو مسبب الأسباب فإذا كان الضر
228
من القحط وأنعم الله عليهم بالغيث أضافوه إلى الكواكب وإذا كان مرضا أضافوا الشفاء إلى العقاقير، وإذا كان ريحا أو ولدا أضافوه إلى كسبهم، وما ذلك إلا «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من تلك النعم بدل أن يشكروها ويحمدوا المنعم بها عليهم «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ٥٥ عاقبة كفركم وجحدكم، وفي العدول من الغيبة إلى الخطاب على قراءة الفعلين بالتاء زيادة في التهديد والوعيد وقرأهما بعض القراء بالياء. ثم شرع جل شأنه يعدّد مساوئهم فقال «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ» لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها من أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تحمي ولا تشفع «نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ» من الأنعام راجع الآية ١٣٨ من سورة الأنعام المارة تجدها مفصلة هناك، ثم أقسم بذاته الكريمة فقال «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ» أيها الكفرة «عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» ٥٦ في الدنيا من هذه الأشياء القبيحة وغيرها، وهذا السؤال يكون حتما يوم القيامة عن عدها آلهة، وتخصيص بعض نعمه إليها وتخظيظها بنصيب منها تشبيها لها بالآلهة «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ» وهم يكرهوهن لأنفسهم وذلك أن فرقا منهم كخزاعة وكناية يزعمون أن الملائكة بنات الله «سُبْحانَهُ» وتنزه وتعالى عن ذلك «وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» ٥٧ من الذكور، أي كيف ينسبون النوع المحبوب إليهم والمكروه إلى ربهم «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» من الكآبة والحياء من الناس كأنه جاء بشيء منكر فاحش «وَهُوَ كَظِيمٌ» ٥٨ ممتلىء غضبا وحنقا وحزنا على ما حل به من الغم وعلى زوجته أيضا كما أشرنا إليه في الآية ١٧ من لزخرف المارة «يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ» يتغيب عنهم ويستتر منهم «مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ» لئلا يرونه فيعيّرونه ثم يتفكر ماذا يصنع بها «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» بأن يتركه حيا فيربيه على هوان لنفسه ومذلة لها كأن ذلك المولود من زنى وقد ذكر الضمير باعتبار عوده إلى ما بشر به «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» فيدفئه حيا فيئده حتى يموت تحته ويتخلص من عاره وشناره. قال تعالى ذامّا صنيعهم هذا بقوله «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» ٥٩ في هذه القسمة وهذا الحياء وهذه السنة وهذا الإباء وهذا الوأد، راجع الآية ٨ من سورة التكوير في ج ١ فيما يتعلق بهذا.
229
قال تعالى «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ» كراهية الإناث ووأدهن خشية العار أو الفقر «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى» نزاهته عن ذلك وتعاليه وغناه عن العالمين أجمع، وهذه الجملة لم تكرر في القرآن إلا في الآية ٢٧ من سورة الروم الآتية «وَهُوَ الْعَزِيزُ» المتمتع في كبريائه الغالب، الغير محتاج لأحد من خلقه «الْحَكِيمُ» ٦٠ في إمهال عباده المتطاولين عليه لأمر يعلمه لأنه لا يؤاخذهم على ما يبدر منهم من الظلم والتعدي حالا بل بمهلهم ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ» مثل هذا وأشباهه «ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» بل لدمّر كل من على الأرض حالا «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» لإيمان من يؤمن منهم وإصرار من بصر «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ٦١ عنه لحظة، وهذه الآية ونظيرتها في المعنى الآية ٤٥ من سورة فاطر في ج ١ عامة في كل ظالم مخصوصتين في قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) الآية ٣٥ من سورة فاطر المذكورة، لأن في جنس الناس يدخل الأنبياء والصالحون ومن لا يطلق عليهم اسم الظلم، فاتقوا الله أيها الظلمة فلا تحملوا أوزاركم وأوزار غيركم بظلمكم، فقد يهلك بظلمكم وشؤمكم خلق كثير لا دخل لهم في أعمالكم، وقد فعل الله تعالى ذلك في قوم نوح عليه السلام عدا من كان في السفينة وأدخل الدواب التي لا تعقل بالهلاك عقوبة لكم، لأن أكثرها مخلوقة لمنافعكم وأنتم تظلمون أنفسكم وتتجاوزون حقوق الله وتتعدون حدوده. واعلم أن البلاء قد يعم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية ١٥ من سورة الأنفال في ج ٣، قال أبو هريرة: إن الحيارى لتهلك في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل لتعذب في جحرها بذنب ابن آدم. واعلموا أن الله لو يؤاخذكم بما يقع منكم لا نقطع نسلكم ولم يبق على وجه الأرض أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
«وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» لأنفسهم، وهذا بمقابلة قوله (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) في الآية المارة ٥٧ «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ» مع ذلك إذ يتمنون «أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» العاقبة الحسنة عند الله وهي الجنة في الآخرة وهو كذب محض
230
وافتراء على الله، وهذا ردّ لقول الخبيث منهم (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الآية ٥٠ من سورة فصّلت المارة والآية ٣٦ من سورة الكهف أيضا.
قال تعالى «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» في الآخرة لا شيء لهم غيرها «وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» ٦٢ معجلون إليها، والفرط التقدم إلى الماء قبل القوم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض، لأنه صلّى الله عليه وسلم يقف على حوضه الكوثر يوم القيامة ويرد عليه المؤمنون به. قال تعالى «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» رسلا كما أرسلناك إلى هذه الأمة «فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» كما زين لقومك أعمالهم القبيحة بالفاء الوسوسة إليهم وقبولها منهم وإلا ففي الحقيقة إن المزين هو الله تعالى، راجع الآية ٣٩ من سورة الحجر المارة والآية ٣٥ المارة من هذه السورة، والذين يتبعون ما يزين لهم الشيطان رغبة به «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ» في الدنيا التي هم فيها لأن اليوم المعروف معروف في زمان الحال كالآن وصدر بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، ويسمى مثل هذا حكاية الحال الماضية، وهو استعارة من الحضور الخارجي إلى الحضور الذمني، والمراد به مدة الدنيا، لأنها كلها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة، وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ٦٣ في الآخرة لكفرهم بالله واتخاذهم أولياء من دونه. قال تعالى «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» يا محمد «إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» من البعث وغيره لا لعة أخرى وهذا معنى الاستثناء المفرغ أي ما أنزلناه إلا لهذه الغاية، وهذه الآية قريبة في المعنى من الآية ٣٩ المارة قبلها، ولقوله تعالى في الآية ٤٤ المارة أيضا وتشمل كل شيء اختلفوا فيه من أمر الدين والدنيا، لأنه داخل ضمنها «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ٦٤ به فينتفعون بهديه ورشده أما غير المؤمنين فلن ينتفعوا به وهو عليهم عمى، راجع الآية ٤٤ من سورة فصلت المارة «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» جدبها ويبسها لأنه موت بحقها «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإحياء بعد الإماتة «لَآيَةً» دالة على البعث للإنسان بعد موته بالنسبة «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ٦٥ آيات الله سماع قبول فيعونها ويتدبرونها ويعقلون ما فيها، لأن
231
سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع، بل لا بدّ من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية ٢٢ من سورة فاطر في ج ١.
مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:
هذا وبعد أن عدد الله تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ» المار ذكرها بصدر هذه السورة «لَعِبْرَةً» كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها، ثم بين هذه العبرة بقوله «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية ٢٣ في نظير هذه الآية، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها، قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
وقال الكسائي إنما يفرد ويذكر على تقدير المذكور وذلك كقوله:
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
وهذا شائع وفي القرآن سائغ، قال تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الآيتين ٥٤/ ٥٥ من سورة المدثر في ج ١، وقال تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) الآية ٣٨ من الأنعام المارة، وإنما يكون هذا في التأنيث المجازي تدبر.
«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» الفرث في الكرش ما دام فيها، نخرج «لَبَناً خالِصاً» من شوائب الكدورة، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا، بدلالة قوله «سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» ٦٦ لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير، ذلك تدبير الحكيم
232
القدير الذي هو بكل شيء خبير. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) وهو كذلك، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا.
وقرىء سيغا بالتخفيف والتشديد، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة.
هذا، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان حيوانا، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول، فيجذب بقدرة الله تعالى الصافي إلى الكبد، والكثيف إلى الأمعاء، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى، ومنها إلى المثانة، ويذهب الدم في العروق، وهي الأوردة الثابتة في الكبد، فيحصل الهضم الثالث، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه.
هذا مصير الصافي من الغذاء، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور، لأن القوة الجاذبة من أمر الله، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها. وأما الكثيف الذي نزل الى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن الله تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما بضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وكان نوح عليه السلام يقول الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه. والله أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال الله لا تعلل، ولعل الله تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات الله تعالى، وكيفية
233
تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه:
حكم حارت البرية فيها... وحقيق بأنها تحتار
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما. هذا، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته، وتمام حكمته، وتناهي رحمته بعباده، وغاية رأفته بهم، قسرا، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ» لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ» من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم «سَكَراً» مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة، وخمرا بلغة العرب، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به، قال الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم... إذا مجرى فيهم المزاء والسكر
والمزاء نوع من الأشربة المسكرة. قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما، وما لا يسكر من الأنبذة، لأن الله تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل. وقال ابن عباس: هو الخلّ بلغة الحبشة، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال حرم الله الخمر بعينها القليل منها والكثير. والسكر بضم السين من كل شراب، أخرجه الدارقطني.
234
والى حل شرب النبيذ إلى ما دون الإسكار، وذهب إبراهيم النخعي وأبو جعفر والطحاوي وسفيان الثوري، وأجازه أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إذا لم يسكر، أما الخمرة فقليلها وكثيرها حرام، أسكرت أو لم تسكر. قال تعالى «وَرِزْقاً حَسَناً» كالتمر والزبيب والعنب والدبس والأشربة المتخذة منهما التي تشرب آنيّا والخل أيضا.
مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي:
هذا وفي وصفه تعالى الرزق الحاصل منهما بالحسن يفيد أن السكر غير حسن، وأن التمييز بين السكر وبين الرزق الحسن في الذكر، عدّه، أي السكر غير حسن، وذلك يدل على التحريم الذي سينزله بعد في القسم المدني، ولهذا عرض على قبح تناوله لعدم وصفه بالحسن ورمز إلى أن السكر وإن كان مباحا إذ ذاك فهو مما يحسن اجتنابه، وهذه أول آية نزلت في الخمر على القول بأن المراد بالسكر الخمر، ولهذا فلا وجه للقول بأن هذه الآية منسوخة، لأنها ذكرت في معرض تعداد نعم الله على عباده، وكان نزولها بزمن مباح فيه شربها، لأن التحريم طرأ بصورة تدريجية، فضلا عن أن السكر يحتمل معاني كثيرة كما مر آنفا، والنسخ يقتضي أن يكون صريحا لشيء صريح لا يحتمل التأويل والتفسير، بخلاف ما هنا، وقد ألمعنا في المقدمة بأن هذه الآية أول آية أنزلت في الخمر مطلقا، ولم ينزل غيرها في مكة، وان الآيات الثلاث في البقرة والنساء والمائدة نزلن في المدينة، وسنوضح هذا البحث في الآيات ٢٢٠ و ٤٣ و ٩٤ من السور المذكورة على طريق اللف والنشر المرتب فراجعها «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من النعم «لَآيَةً» باهرة «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ٦٧ أن لهذه الأشياء خالقا مدبرا ومبدعا حكيما. قال تعالى «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» ٦٨ من شجر الكرم ويسقفونه ويبنون من غيره بيوتا للنحل لتقذف فيها العسل رزقا للخلق «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ومن أوراقها وأشجارها وتطلق الثمرة على الشجرة «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ» الذي ألهمك أن تسلكها وتدخلي فيها لإخراج العسل «ذُلُلًا» مسخرة منقادة لأربابها عند إرادتهم نقلها من
235
محل لآخر لتمام الانتفاع بها «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» أبيض وأحمر وأصفر وما بينها بحسب السن والفعل والمرعى، فالذي تأكله من ذلك يحيله الله تعالى في بطونها عملا، وفي بطون القرّ حريرا، وفي الغير قذرا، فتفكروا رحمكم الله من غذاء واحد مطعوم وملبوس وسماد، وكذلك شجر الفواكه تسقى بماء واحد وأرض واحدة وتعطي أنمارا مختلفة حلوا وحامضا ومزا وغير ذلك.
راجع الآية ٤ من سورة الرعد في ج ٣، وفي اختلاف ألوانها عبرة أيضا والمؤثر واحد جلت قدرته، وقد جعل «فِيهِ» أي الشراب الخارج من بطون النحل «شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ال فيه للجنس فيصدق على الواحد والمتعدد لأنه شفاء لبعض الأمراض، وقد يضر بعضها وحده، أما إذا مزج بأجزاء أخر ففيه نفع لأكثر الأمراض «إِنَّ فِي ذلِكَ» العسل الخارج من النحل وهو يأكل ما يأكل غيره من الطيور والحيوان «لَآيَةً» عظيمة وعبرة جليلة «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ٦٩ في عجيب صنع المبدع الأعظم. والمراد بالوحي هنا التسخير، لأن الوحي أصله الإشارة السريعة، فيكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، ويكون بصوت مجرد، فما كان من هذا النوع للأنبياء فهو وحي، وما كان للأولياء فهو إلهام، وما كان للطير والحيوان والجماد فهو تسخير، راجع الآية ٥١ من سورة الشورى المارة تعلم أقسام الوحي وقد أسهبنا بحثه في المقدمة فراجعها. ومن بدايع الصنع الذي ألهمه الله إلى النحل بناء بيوتها على شكن مسدس من أضلاع متساوية، لا خلل فيها ولا زيادة ولا نقص، والأعظم من ذلك أنها تبدأ بنائه من طرفه لا من وسطه، وهذا مما يعجز عنه البشر غالبا، ومن عجائب القدرة أن لها أميرا نافذ الحكم على أفرادها وهو أكبرها جثة ويسمى يعسوب، ولها على باب كل خليّة بواب لا يمكن غيرها من الدخول، وقد ألهمها الله تعالى الخروج إلى المرعى والرجوع إلى محلها أينما كان لا تضله أبدا، وحتى الآن لم يعرف بوجه حقيقي خروج العسل من فمها أو من دبرها، والآية صالحة لكلا الأمرين، لأن الله تعالى قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) فالذي يخرج من الفم أو من الدبر يصدق عليه أنه خارج من البطن، فسبحانه جل كلامه أن يتطرق إليه الخلل كيف وهو تنزيل من حكيم حميد صانه من
236
طرق الباطل عليه. واعلم أن النحل على نوعين أهلي يأوي إلى البيوت لا يستوحش من الناس، ووحشي يأوي للجبال والكهوف والأشجار. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. راجع الآية ٨٢ من سورة الإسراء في ج ١ لتقف على آيات الشفاء كان ابن عمر رضي الله عنهما كلما خرجت به قرحة لطخها بالعسل، وتلا هذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله اسقه عسلا، فسقاه ثم جاء فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا، فقال لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله: صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرىء. وما قاله بعض الملحدين اعتراضا على هذا الحديث من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به إسهال، فهو ناشيء عن جهله وحمقه وقلة عقله وعقيدته، لأن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخمة والهيضة وغيرهما، وقد أجمع الأطباء على أن علاج مثلهما يترك إلى الطبيعة أولا، فإن احتاجت إلى معين أعطي شربة تعينه على تنظيف أمعائه، فيحتمل أن ذلك الشخص من هذا القبيل، فكان أمره صلّى الله عليه وسلم له بشرب العسل السهل جاريا على قاعدة الطب والأطباء يخبرون على ذلك، وفيه دليل على حذقه صلّى الله عليه وسلم بالطب دون تعليم من أحد، وفضلا عن هذا فلا يبعد أن حضرة الرسول علم بتعليم الله إياه أن شفاء ذلك الرجل يكون بالعسل فكان شفاؤه به على رغم أنف كل معترض، وهو مما جرّب أيضا، إلا أن من لا يعنقد به لا ينفعه جزاء وفاقا. قال تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ» يا ابن آدم وجعل للبثكم في الدنيا أجلا لا تتعدونه «ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» بحلوله أطفالا وصبيانا وشبابا وكهولا وشيوخا، يحسب آجالكم المقدرة عنده، فمنكم من يحتفظ بكمال عقله ورشده إلى وفاته مهما بلغ من العمر «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» الهرم والخوف إذ ينقص منهم القوى ويفسد الحواس ويضعف العقل فيكون حالهم من هذه الحيثية كحال الطفولة، ومن هنا تصور الردّ إلى أرذل العمر وقد بينه الله تعالى بقوله «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» أي
237
يصير كالصبي الذي لا عقل له بسبب نسيانه ما علمه قبلا فيصير بعد العلم جاهلا والقوة ضعيفا والسمن نحيفا ليربكم الله قدرته في أنفسكم، فلا مجال لتأويل آخر لمعنى الأرذل، ولا تتقيد هذه الآية والحالة التي يصير إليها الإنسان بسن أو شخص. ونظير هذه الآية الآية ٦٨ من سورة يس في ج ١ وهي (ومن نعمره ننكه في الخلق) أخرج بن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة، وهو يختلف باختلاف الأمزجة والأمكنة، فربّ معمر لم تنقص قواه وغير معمر فسدت جوارحه، والتقيد بالسن مبني على الغالب. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات. قال:
لا طيب للنفس ما دامت منغّصة لذاته بادكار الشيب والهرم
وهذا يعم المؤمن والكافر ولا وجه لتخصيصه بالكافر، لأن ظاهر الآية أو الحديث ينافي ذلك التخصيص لمجيئها على الإطلاق، وقد أوردنا في قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) الآية من سورة والتين المارة في ج ١ أن الصالح قد لا يخرف، وليس كل صالح نراه هو صالح في الحقيقة، فكم صالح قد يبتليه الله تعالى بأمراض مزمنة لزيادة درجاته في الجنة، وما جاء عن عكرمة أن من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ليس على إطلاقه لأنا شاهدنا علماء وقراء فلجوا وخرفوا، ورأينا على العكس من يعمر ويموت بكمال عقله بل وقواه وجوارحه، وإن شيخنا الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها عاش ١٢٧ سنة ولم يفقد من قواه شيئا وخاصة ذاكرته، تغمده الله برحمته التي يختص بها من يشاء ولم نر أورع منه «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بكل شيء قبل خلقه وما يؤول إليه بعد خلقه وبعد موته «قَدِيرٌ» ٧٠ على تبديل الخلق من حال إلى حال
«وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ» فوسعه علي أناس وضيقه على آخرين، وكما فضلوا بالرزق فضلوا بالخلق والخلق والعقل والصحة والحسن والعلم والصوت والمعرفة وغير ذلك فهم منقادون إلى ما قدر لهم في الأزل متفاوتون في كثير من الأشياء بمقتضى الحكمة الإلهية، ولكن «فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ» معطيه ومضيفيه «عَلى ما مَلَكَتْ
238
أَيْمانُهُمْ»
من الإماء والعبيد لأنهم لا يرضون أن يتساووا معهم فيه طلبا للتفاضل الذي هو غريزة في البشير «فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ» من حيث المعيشة لا من حيث الملكية، لأنها خاصة بالأسياد، فإذا كان البشر لا يرضي التساوي مع بعضه، فكيف أنتم يا أهل مكة تساوى أصنامكم مع الله، والملائكة معه في العبادة وهم عباده، وكيف يرضى الله أن تجعلوا عبيده وخلقه شركاء معه «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ٧١ أولئك الكفرة يأكلون رزقه ويعبدون غيره وينكرون نعمه «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ» أيها الناس «مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» من جنسكم ونوعكم والخطاب يشمل آدم فمن دونه ومن خصصه بآدم نظر إلى أن الله خلق زوجته منه، إلا أن جمع الأنفس والأزواج يأباه، واستدل بعضهم في هذه الآية على عدم جواز نكاح الجن، ولفظ الآية يدل على الجنس، إذ لا يحصل الإنس بغيره، قال تعالى (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الآية ٢١ من الروم الآتية، وقال تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) الآية ١٨٨ من البقرة في ج ٣، فيبعد أن يكون من غير جنسه لأن الإنس فيها بعد قضاء الحاجة غير متصور، «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً» الحافد لغة المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة، ومنه قول القانت (وإليك نعى ونحفد) في دعاء القنوت لدى السادة الحنفية، وشرعا على ولد الولد، وإنما خص الحفدة لأنهم قد يكونون أحب إليهم من أولادهم، قال:
ابن ابننا من ابننا نحب الابن تشر الحفيد لب
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم على ما قيل أزواج البنات، ويقال لهم أصهار، وأنشدوا لذلك:
ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية عيوني لأصهار اللئام تدور
والأول أولى لأنه الذائع المشهور المتعارف، «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» مما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات وحسن وزها من اللباس والسكن «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ» أولئك الكفرة فيقولون إن لله شريكا وأنه لا يبعث
239
من يموت «وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ» التي من جملتها الإيمان به، لأنه من أعظم النعم، وكل نعمة دونه «هُمْ يَكْفُرُونَ» ٧٢ استفهام تعجب من حالهم القبيح «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً» أي لا يملك شيئا من الرزق البتة «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» ٧٣ على شيء أصلا من أسباب الرزق وغيره، لأنها جماد محتاجة لمن يتعاهدها «فَلا تَضْرِبُوا» أيها الكفار «لِلَّهِ الْأَمْثالَ» بأن تجعلوا له شريكا تعبدونه على عدّه واعتباره شريكا لله مماثلا له، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الآية ٣٢ من البقرة في ج ٣، «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ» بأنه لا مثيل له ولا شريك «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ٧٤ ذلك ولا تعرفون كنه ذاته فلهذا تجاسرتم على ضرب المثل له بما لا يليق بجلاله ولا يناسب عظمة كماله «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» عاجزا عن كل شيء لا مكاتبا ولا مأذونا، وإنما خصه الله بالمملوكية لا شتراكه هو والحر بالعبودية فميز بينهما في هذا الوصف، والمراد بالشيء هنا النفقة مما رزق، وهذا من المبهم، وهو من بديع الكلام «وَمَنْ» أي رجلا سيدا «رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» وهو حر قادر على جميع أنواع التصرف بماله وبنفسه وبواسطة غيره «فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ» أي الرزق على الغير «سِرًّا وَجَهْراً» لا يعارضه معارض «هَلْ يَسْتَوُونَ» الأحرار السادة والعبيد المملوكون؟ كلا لا يستوون، ولم يقل يستوبان لإرادة الجمع، ولما نهاهم الله عن ضرب الأمثال لقلة علمهم بها ضرب لنفسه مثلا فقال مثلكم في إشراككم الأوثان بالله الرحمن، كمثل من سوى بين العبد العاجز المملوك والحر السيد القوي الكريم، فكما لا يستويان وكذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، مع أنهما في الصورة البشرية سواء، وإن كان لا يجوز التسوية بين هؤلاء عندكم فكيف تسوون بين الخالق الرزاق وبين الأوثان العاجزة عن كل شيء، مع أنه لا يجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال «الْحَمْدُ لِلَّهِ» المستحق الحمد وحده لا أوثانكم «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ٧٥ أن الحمد يختصّ بالله ويظنون جهلا أن منه لأوثانهم «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ» أخرس ولادة،
240
إذ ليس كل أبكم أخرس ولا كل أخرس أبكم «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» لعجزه عن كل شيء، والمراد بالشيء هنا الأمر بالعدل والاستقامة كما يدل عليه عجز الآيات، وهذا من المبهم «وَهُوَ كَلٌّ» ثقيل «عَلى مَوْلاهُ» سيده الذي يعوله لأنه «أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ» فلا ينجح ولا يفلح، لأنه لا يفهم ولا يفهم، أخبروني أيها العقلاء «هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ» ذو الرأي والرشد يعلم مرادهم ويحثهم على سلوك الطريق السوي «وَهُوَ» في ذاته ينفع العام والخاص و «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٧٦ في أقواله وأفعاله وأحواله لا يوجهه لأمر إلا وقد أنهاه بحنكة وحكمة دون أن تزوده بالوصية، وفي مثله يقال أرسل حكيما ولا توصه، فهل يستويان هذا وذاك؟ كلا، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه المقدسة ولما يقيض به على عباده من النعم وللأصنام التي هي جماد لا تنطق ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع مع ثقلها على عابديها لاحتياجها للخدمة والحفظ من التعدي «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده خاص به علم ما يقع ممن فيهما لا يعلمه أحد من خلقه ويعلم زمن انتهائهما، لا علم لأحد بذلك غيره، «وَما أَمْرُ السَّاعَةِ» التي يقوم بها الناس من قبورهم ويساقون فيها إلى المحشر «إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ» قدر انفتاح الجفن أو طبقه «أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» من ذلك لأن التمثيل بلمح البصر بالنسبة للبشر إذ لا يرون أقل منه حتى يمثوا به، أما عند الله فهو أقل لأن لمح البصر يحتاج إلى حركة، والحركة لا بدّ أن تأخذ شيئا من الزمن، وأمر الله لا يحتاج لذلك، لأنه إذا قال لشيء كن كان بين الكاف والنون، تأمل كيفية إحضار عرش بلقيس في الآية ٤٠ من سورة النمل في ج ١، و (أو) هنا مثلها في قوله تعالى (أَوْ يَزِيدُونَ) في الآية ١٤٧ من الصافات المارة جريا على
عادة الناس، ولذلك قال (كلمح بالبصر) ولو كان يوجد لفظ يدل على أدنى من ذلك متعارف بينهم للسرعة لقاله، ومثل هذا مثل (أف) الواردة في الآية ٢٣ من الإسراء في ج ١، فلو كان يوجد لفظ متعارف يدل على أدنى منه في مراتب الضجر لذكره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ٧٧ في كل ما يتصور وهو قادر على إقامة الساعة حالا، ثم صرب مثلا على قدرته فقال
241
«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» البتة لأنكم تولدون على حالة أقل من البهائم إدراكا لا تعرفون معه الحجر من الثمر، والقرّ من الحر، والنفع من الضر «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتعقلوا بها بصورة تدريجية «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ٧٨ الله الذي منحكم تلك القوى وقدركم فيها على إزالة الجهل الذي ولدتم عليه وقد ركبها فيكم لتستعملوها لما خلقت له أداء لشكرها، وتشكروا المنعم بها عليكم، لا أن تضعوها بغير موضعها وتقابلوها بالكفر، قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ» الفضاء الواسع ما بينها وبين الأرض، وقد يراد به الهواء وجوف السماء، قالوا إن الطير مهما ارتفع لا يتجاوز اثني عشر ميلا، إذ ينقطع الهواء فإذا تجاوزت هذا القدر لا تستطيع العوم ولا الوقوف، وقد تموت بسبب انقطاع الهواء «ما يُمْسِكُهُنَّ» شيء عند قبض أجنحتهن من الوقوع «إِلَّا اللَّهُ» لأنه في حالة نشر أجنحتهن، يقال إن الهواء يمسكها مع أنه قد لا يوجد هواء، لان الجو كالأرض مختلف أحواله فكما يوجد في الأرض أودية يوجد في الجو خبن لا هواء فيه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإمساك بدون واسطة «لَآياتٍ» بالغات تدل على كمال القدرة الإلهية «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ٧٩ بها وإنما خصّ المؤمنين لأنهم أهل الاعتبار والانتفاع بآيات الله وإسنادها لذاته المقدسة «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» المبنية بالحجر والمدر والخشب وغيره «سَكَناً» تقرون فيه «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً» ومن أشعارها وأوبارها وصوفها خيما وأقبية وأخبية عند ما تريدون التنقل من المرعى والنزهة «تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ» رحيلكم إلى البوادي لرعي أنعامكم «وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ» أيضا في منازلكم إذ لا يهمكم حملها ولا يثقل عليكم نصبها ونقصها «وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها» جعل لكم أيضا «أَثاثاً» من فرش، ولباس، وغرائز لحفظ الألبسة والحبوب، وبسط وزرابي وغيرها مما تحتاجونه لبيوتكم وأنفسكم «وَمَتاعاً» وأشياء أخرى، لأن الأثاث يطلق على جميع حوائج البيت، والمتاع يطلق على ما ينتفع به ويتمتع فيه في البيت خاصة، ومن قال إن المتاع والأثاث شيء واحد فقد جهل هذا الفرق،
242
والله أعلم بما يقول، فلو كانا بمعنى واحد لما أفردهما أي ان الله تعالى جعل لكم ذلك لنتمتعوا به «إِلى حِينٍ» ٨٠ مدة مقدرة من الزمن
«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ» من الأشجار والزروع والمغر والوديان والكهوف «ظِلالًا» تستظلون بها من الحر والقر والمطر والخوف «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً» تسكنون بها، إذ جعل فيها مداخل وأسرابا لكم ولأنعامكم وحيوانانكم تتقون بها من الثلج والبرد والهواء الشديد بما يكفي للفقير الذي لا بيت له يلتجأ إليه، أما الغني فعنده الخيام والقساطيط بما يغنيه عن ذلك «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ» ثيابا وأكسية وقمصانا من القطن والحرير والصوف والوبر لكل بحسبه «تَقِيكُمُ الْحَرَّ» والبرد، واكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالته عليه، وإن ما يقي الحر يقي البرد وقدمه بالذكر لأنه الغالب عندهم «وَ» جعل لكم «سَرابِيلَ» أخرى دروعا وجواشن جمع جوشن وهو الصدر في الحديد أو النحاس يلبسه المجاهد على صدره «تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ» هلاككم في الحرب فتمنع وصول قواطع السلاح إلى أجسادكم «كَذلِكَ» مثل ما أتم عليكم نعمة التي بها قواكم «يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» في أمور دينكم ودنياكم حالا ومستقبلا «لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» ٨١ لله وتؤمنون به وتخلصون العبادة إليه وتذرون ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل بعد تعداد هذه النعم العظيمة المسبغة عليكم، وقد بلغتهم وأمرتهم ونهيتهم ونصحتهم وقمت بما أمرت به، فلا تبعة عليك «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ٨٢ الظاهر فمن أطاعك فثواب طاعته لنفسه، من عصاك فعقاب عصيانه عليها إذ لم تؤمر بقسرهم بعد. وبعد أن عدد الله تعالى هذه النعم العظيمة وأظهر لخلقه عدم تأثرهم مما ذكرهم به قال «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» التي غمرهم بها بأنها منه «ثُمَّ يُنْكِرُونَها» قولا وفعلا لأنهم ينسبون كسبها لفعلهم وفعل آبائهم الذين ورثوها عنهم «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» ٨٣ بها فلا يستعجلونها لطلب رضائه ولا يعترفون بها أنها منه إلا من لم يبلغ حد التكليف أو من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته ولم يفعلها لنقص في عقله فليس عليه شيء، أما من يعرفها أنها من الله وينكرها عنادا فذلك هو الكافر. وبعد ان ذمتهم الله تعالى
243
على عدم تقديرهم تلك النعم، شرع يخوفهم عاقبة أمرهم بذكر أحوال القيامة فقال «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً» نبيا يشهد لهم وعليهم بما عملوا في دنياهم «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» بإدلاء الحجج هناك والمجادلة والعذر كما كانوا في الدنيا «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ٨٤ لأن العتاب يطلب لإزالة الوجدة التي في نفس الخصم ليسترضيه، فعدم طلبه ذلك دليل على بقاء غضبه، ولا يمكن استرضاء الرب إلا بالتوبة، ولات هناك توبة، ولو كانت لما بقي للنار من حاجة، لأنهم عند ما يساقون للعذاب ويرون أن في التوبة خلاصا يتوبون كلهم «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ» وأدخلوا فيه فلا محل لقبول العذر والاسترضاء «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ» بسبب ذلك «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ٨٥ لأجله بل يناغتهم ويحيط بهم. فيا سيد الرسل اذكر لقومك هذا ليتذكروا ويتدبروا من الآن «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ» في الدنيا يوم القيامة في الموقف «قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» فاسألهم يا رب وخذهم كما أوقعونا في العذاب وانتقم لنا منهم لإغرارهم إيانا بالدنيا بأنهم يشفعون لنا في هذا اليوم، ولما أسمع الله كلام العابدين إلى معبوديهم الذين اشاروا إليهم من الأصنام وغيرها «فَأَلْقَوْا» أجابوهم بصنف حالا دون رؤية وتأمل فرموا وطرحوا «إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» نبذوه نبذا وهو جملة «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» ٨٦ بذلك لأنكم لم تعبدونا ولم تشركونا مع الله بالعبادة ولم نتعهد لكم بالشفاعة، ولا يقال إنها جماد لا تنطق لأن الله الذي بعثها وأعادها في الآخرة خلق فيها قوة النطق لتكذيب عابديها وترد عليهم «وَأَلْقَوْا» العابدون لما سمعوا منها ذلك «إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ» يوم كذبتهم أوثانهم وتبرأت منهم «السَّلَمَ» الاستسلام لحكم الله تعالى إذ أيسوا مما كانوا يرجونه «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ٨٧ في الدنيا من أنها تشفع لهم، لأن الأوثان بعد أن ردت عليهم بما ذكر الله ولوا عنهم وغابوا لئلا يروهم مرة ثانية كراهية لهم ونفورا منهم «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنفسهم «وَصَدُّوا» غيرهم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فمنعوهم عن الإيمان به «زِدْناهُمْ» بسبب صدهم غيرهم «عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ» الذي استحقوه «بِما كانُوا
244
يُفْسِدُونَ»
٨٨ غيرهم مرّ ما فيها في الآية ٢٥ المارة فراجعها «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ» من الأمم السابقة «شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» لأن كل نبي
يبعث بلسان قومه ومن قبيلته غدا لوط عليه السلام فإنه ليس منهم ولكن لما تزوج منهم وقطن معهم عد منهم أو أنه من باب التغليب «وَجِئْنا بِكَ» يا أكرم الرسل «شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» أمتك من قريش وغيرهم بما كان منهم وجاءت هذه الآية بمعنى التكرار للآية ٨٤ المارة قبلها والتأكيد للآية ٣٦ المارة أيضا تشديدا للتهديد وزيادة في الوعيد ليذكر قومه فيها وينبههم للتيقظ لعاقبتها «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» من الحدود والأحكام والحلال والحرام والقصص والأخبار «وَهُدىً» من الضلال «وَرَحْمَةً» للناس المخبتين لأوامره ونواهيه وحرمانا للكفرة المفرطين به المهملين ما فيه «وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ٨٩ خاصة بالجنة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» بين الناس وإليهم «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» بما يمكن من الصلة إليهم بحسب الطاقة، قال عليه الصلاة والسلام بلوا أرحامكم ولو بالسلام «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ»
التطاول على الناس ظلما «يَعِظُكُمْ» ربكم أيها الناس بما ينفعكم فى الدنيا والآخرة، فعظوا أنفسكم به وغيركم بالحسنى «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ٩٠ بها فتحصدون ثمرها.
مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي الله عنهم وفي العهود:
وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر، ولذلك اعتاد الخطباء قراءتها على المنابر يوم الجملة لأنها عظة جامعة للمأثورات والمنهيّات، قالوا إن أول من قرأها على المنبر الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو الذي منع سبب سيدنا علي كرم الله وجهه على المنبر الذي اعتاده من قبله من ملوك الأمويين عليهم ما يستحقونه من الله إذا كان وقع منهم ذلك، فيكون رضي الله عنه قد أبدل الشر بالخير كما أبدل حضرة الرسول الكفر بالإيمان، قال عبد الله بن عباس: مررت بقوم يسبون عليا وكان معي العباس فقال لي خذني إليهم فلما أوقفته عليهم، قال لهم أيكم السابّ لله؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب لرسول الله؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب
245
لعلي؟ قالوا أما هذا فقد وقع، فقال إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ الله تعالى، ومن سب الله فقد كفر.
ثم تركهم وأدبرنا، فقال لي كيف رأيتهم حينما سمعوا ما قلت؟ فقلت له يا أبت:
نظروا إليك بأعين محمرة نظر الذليل إلى العزيز القاهر
فقال زدني يا بني، فقلت:
زرق الوجوه مصفرة ألوانهم نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال زدني، فقلت:
أحياؤهم تنعى على أمواتهم ومسبة أمواتهم للغابر
فقال لا فض الله فاك يا بني. الحكم الشرعي: اختلف العلماء رحمهم الله في حكم من سب الصحابي على أقوال أصحها أنه يفسق، والحديث على فرض صحته جار مجرى التهديد. قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لكفت في كونه تبيانا لكل شيء. وقال أهل المعاني ما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وقال بعض أهل العلم إن الله تعالى جمع في هذه الآية ثلاثا من المأمورات وثلاثا من المنهيات: ذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وقابله بالفحشاء وهي أقبح شيء من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن تعفوا عمن ظلمك، وتحسن لمن أساء إليك، وتصل من قطعك وأرحامك والفقراء والمساكين، وقابله بالمنكر وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وتسيء لغيرك، وذكر إيتاء القربى وهو التودد إليهم والشفقة والإنفاق عليهم، وقابله بالبغي وهو التكبر عليهم وظلمهم حقوقهم وقطيعتهم، راجع الآية ٣٢ من الأعراف والآية ٣٦ من الإسراء في ج ١ تجد ما يتعلق بهذا مستوفيا. روى عكرمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي، فأعادها فقال له الوليد والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. وأخرج البارودي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه، فأتى قومه
246
فانتدب رجلين، فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال نحن رسل أكثم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية، قالوا ردد علينا هذا القول، فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوها، فأتيا أكثم، فأخبراه، فلما سمع الآية قال إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهي عن مذامها، فكونوا في هذا الأمر رأسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، عرض عليهم بكلامه هذا طلبا لأن يكونوا أول أتباعه لئلا يسبقهم أحد فيتقدم عليهم لدى محمد صلّى الله عليه وسلم ودينه. وأخرج الطبراني وأحمد والبخاري في الأدب عن ابن عباس أن هذه الآية صارت سببا لاستقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبّته للنبي صلّى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع، أي بموضعها هذا من هذه السورة. وهذا يؤذن بأن نزولها كان متأخرا عنها، وهذا مغزى ما ذكرناه في المقدمة، وفي الآية ١٠٠ من سورة الكهف المارة.
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» أحدا باسم الله تعالى، لأنه من آكد الحقوق، وقدمنا ما يتعلق بالعهود في الآية ٣٤ من سورة الإسراء فراجعها.
الحكم الشرعي: وجوب الوفاء به إذا كان فيه صلاحا، وإلا فلا، قال صلّى الله عليه وسلم:
من خلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
لأن العهد يمين وكفارته كفارة يمين وهذا من العام المخصص بالسنة، قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين بايعوا حضرة الرسول في الموسم قبل الهجرة، وسيأتي بيانها إن شاء الله في الآية ١٠ من سورة الممتحنة والفتح في ج ٣، وبعد أن أمر الله تعالى بإيفاء العهد نهى عن النكث فيه فقال «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها» باسم الله تعالى فتحنثوا، وكيف يليق بكم ذلك «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» على الوفاء به وهو الشهيد على كل شيء «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» ٩١ من الوفاء والبر والنقض والحنث، ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال «وَلا تَكُونُوا» أيها المعاهدون المؤكدون عهودكم بالأيمان «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» في إبرامه وإحكامه وجملة (من بعد قوة) معترضة بين ما قبلها
247
وقوله تعالى «أَنْكاثاً» طاقات الخبوط المنقوضة بعد الغزل أو القتل «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا» دغلا وخيانة وخديعة بأن تظهروا الوفاء وتبطنوا النقض، وهذا هو معنى الدخل، لأنه الذي يدخل بالشيء على طريق الإفساد بسبب «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى» أكثر عددا وأوفر مالا «مِنْ أُمَّةٍ» أخرى وذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يحالفون الخلفاء، فإذا وجدوا قوما أقوياء أكثر منهم وأعز نقضوا عهدهم معهم وحالفوا الأكثر عددا والأعز مكانة، فذم الله تعالى صنيعهم هذا وقال «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» أي الوفاء بالعهد ويختبركم لينظر أتتمسكون بعهدكم وما وكدتموه بالإيمان من بيعة الرسول أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم فتنقضونه كما كان يفعله من قبلكم «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» ٩٢ في الدنيا فيثيب المحق ويعاقب المبطل «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقطع مادة الاختلاف «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٩٣ من خير أو شر ثم كرر ما بمعنى الآية الأولى تأكيدا وتهديدا وإعلاما بعظم نقض العهد فقال «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» أيها الناس الحذر الحذر من هذا «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» تزلق أقدامكم عن محجة الإسلام والإيمان بعد أن ثبتها الله فيهما بتوفيقكم إليهما وتعرضوا أنفسكم لما تكرهون «وَتَذُوقُوا السُّوءَ» في الدنيا بذم الناس «بِما صَدَدْتُمْ» غيركم «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» لأن من نقض العهد فقد علّم غيره نقضه فكأنه صده عن الوفاء به «وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ٩٤ في الآخرة جزاء عملكم ذلك، ثم أكد ثالثا فقال «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الذي عاهدتم به رسوله عليه، لأنه هو المقصود في هذا الكون كلّه المطلوب بأن تنقاد له الخلق أجمع ويوقى له بما يريده منهم، لأن هذه المعاهدة هي التي سببت الهجرة إلى المدينة إذ جعلت لهم أصحابا فيها، فكذلك أكد الله تعالى عليها هذه التأكيدات لإيجاب الإيفاء بها، وهكذا كل عهد لعموم لفظ الآية، وإياكم أيها الناس أن تأخذوا لقاء نقضه «ثَمَناً» ثم وصف هذا الثمن بكونه «قَلِيلًا» لأنه مهما كثر فهو قليل بنسبة نقض العهد الذي لا يقابله ثمن لما يترتب عليه من
248
الخزي والعار في الدنيا والعذاب والعقاب في الآخرة، وبالنسبة لما يترتب على الوفاء به من المدح في الدنيا والثواب في الآخرة «إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ» من الأجر العظيم على الوفاء بالعهد «هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» مما تتعجلون أخذه من حطام الدنيا على نقضه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ٩٥ ماهية العوضين وعاقبتهما في الدارين، واعلموا أيها الناس أن «ما عِنْدَكُمْ» من متاع الدنيا جميعه «يَنْفَدُ» يفنى فيها لا تأخذون معكم منه شيئا للآخرة إلا وباله «وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» لكم ثوابه لا يقنى ويصحبكم في الآخرة، لأن من أخذ مالا على نقض العهد فقد فضل ما عنده البالي الذي يحمل ورزه في الآخرة على ما عند الله الباقي أجره المضاعف خيره في الدار الدائمة. روى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا» على ضراء العهد والبر بأيمانهم والمحافظة على وعودهم «أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٩٦ في الدنيا فنعطيهم بمقابلة الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الأحسن منها «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» في دنياه من وفاء العهد وغيره «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» لأن من لا إيمان له لا ثواب له في الآخرة، لأن الله تعالى يكافئه على عمله الصالح في دنياه حتى يلقى الله وليس له عنده شيء من الخير: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، بعيش رغيد وجاء مديد ومال ولد وصحة وقناعة وأمن مماة حياته مع زوجة صالحة وإخوان صالحين حتى يلقى الله راضيا مرضيا «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ» بالآخرة «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ٩٧ وهذا وعد حق من الله الحق، والله لا يخلف وعده. واعلم أن هذه الآيات وإن كانت نزلت في الذين عاهدوا حضرة الرسول أوّل معاهدة عاهدها الناس له فهي عامة في كل عهد حق فيه صلاح، لأن نزولها في الجماعة الذين عاهدوا حضرة الرسول في الموسم في ٨ محرم الحرام سنة ٥٢ من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة لا يخصصها أو يقيدها بها، بل هي عامة، راجع الآية ١١٣ من آل عمران في ج ٣ تجد تفصيل هذه المعاهدة إن شاء الله، وإنما أخرناها عن موقعها هنا لما رأينا أن ذكرها هناك أكثر مناسبة، ومن الله التوفيق.
249
ثم التفت جل جلاله إلى حبيبه فخاطبه بقوله «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ» أيها الإنسان الكامل «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» ٩٨ وهذا الخطاب شامل لجميع الأمة، وقدمنا في المقدمة ما يتعلق بالاستعاذة فراجعها ففيه كفاية «إِنَّهُ» الشيطان «لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ» ولا قدرة «عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا» لضعف كيده وقوة يقينهم «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ٩٩ بدفع وساوسه والتغلب عليه «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ» ويتخذونه وليا من دون الله ويركنون لدسائسه «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ» بإغوائه ووساوسه وإغرائه «مُشْرِكُونَ» ١٠٠ بالله غيره ولما قال المشركون إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ما هو إلا مفتر يتقول من تلقاء نفسه، وذلك حينما يسمعون آية لين بعد آية شدة، وهذا هو المراد والله أعلم بهذا التبديل المزعوم من قبلهم مثل ذكر العفو بعد القصاص، وكظم الغيظ بعد الأمر بالمقابلة، والفطر بالسفر بعد الأمر بالصيام وهكذا، ومنه تبديل الكعبة عن بيت المقدس في التوجه بالصلاة أنزل الله
«وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» لحكمة نراها، وهذا معنى قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» وهذه جملة اعتراضية فيها توبيخ للكفرة وتنبيه على فساد رأيهم جاءت بين صدر هذه الآية وبين قوله تعالى «قالُوا» كفار قريش يا محمد «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» بما تسنده لربك وإنك تقول اختلافا من نفسك، قال تعالى ردا عليهم «بَلْ» هو من عندنا ليس من قبل محمد و «أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ١٠١ فائدة هذا التبديل وما يترتب عليه من المصالح، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في المقدمة، وله صلة ستأتي في الآية ١٠٧ من سورة البقرة ج ٣ إن شاء الله.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة المعترضين علينا رجما بالغيب المتهمين جنابك بالافتراء إن ما نتلوه عليكم «نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ» جبريل عليه السلام وأضيف إلى القدس أي الطهر كإضافة حاتم الجود وطلحة الخير إضافة بيانية، أي الروح المقدس «مِنْ رَبِّكَ» نزل به عليك «بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ» به «الَّذِينَ آمَنُوا» على إيمانهم فيزدادوا يقينا به «وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ١٠٢ وفي هذه الجملة تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغير المسلمين، واعلم أن من قال بعدم
250
وجود النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني وغيره ممن ذكرناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة قال إن هذا التبديل المشار إليه في هذه الآية هو لبعض الأحكام المبينة في التوراة وغيرها من الكتب القديمة، وهو من سنة الله القائل على لسان رسوله عيسى بن مريم (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية ٥١ من آل عمران الآتية في ج ٣ والآية ٤٤ من سورة الزخرف المارة. ومن قال بالنسخ قال هو كتبديل استقبال القبلة بالكعبة وما يضاهي ذلك. قال تعالى «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ» فيما بينهم «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» نزلت هذه الآية عند ما قال المشركون بعضهم لبعض إن محمدا يتعلم ما يتلوه علينا من القصص والأخبار من آدمي مثله، وليس هو كما يزعم أنه من عند الله، واختلفوا في الذي يتعلم منه، فمنهم من قال إنه عايش غلام حويطب، ومنهم من قال جبر غلام رومي لعامر الحضرمي، ومنهم من قال إنه بسار، ومنهم من قال إنه سلمان الفارسي أو عداس غلام عتبة بن ربيعة، أو بلعام غلام أيضا، لأنهم كلهم يقرءون، سبب هذه النسبة أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا آذاه المشركون قعد لأحدهم يسمع منه شيئا من القرآن ليستميلهم إلى الإيمان، لأنهم أهل كتاب يعرفون ما جاء في كتبهم مما هو موافق لما جاء في القرآن، وذلك ترويجا للنفس وتسلية لما أهمه من أمر قومه وما يتهمونه به، فكذبهم الله تعالى بقوله «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ» يميلون عليه ويشيرون «إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ» والأعجمي وإن سكن في البادية والحاضرة العربية يعجز أن يتكلم بفصاحة العرب، فضلا عن بلاغة القرآن الذي عجز عن مباراته فصحاء العرب الذين ينزل بلغتهم، وهؤلاء العبيد ليسوا بعرب ولا فصحاء فيستحيل عليهم التكلم بالعربية الفصيحة «وَهذا» القرآن الذي نتلوه عليك يا سيد الرسل هو «لِسانُ» واضح فصيح بليغ «عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» ١٠٣ يستحيل على جميع الناس النطق بمثله وإذا استحال عليهم النطق به فمن باب أولى أن يستحيل عليهم تعليمه أو الإتيان بمثله فثبت بهذا البرهان أن الذي جاء به محمد هو وحي إلهي ليس من نفسه ولا من تعليم الغير. وقال بعض العلماء المراد باللسان هو القرآن نفسه لأنه يطلق على القصيدة والكلمة، قال الشاعر: لسان السوء تهديه إلينا.
251
أي كلام السوء وليس بشيء لمخالفته الظاهر. واعلم يا محمد أن هؤلاء المتقوّلين ضلّال لا يؤمنون بآيات الله و «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ» لفهمها بالدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ١٠٤ في الآخرة، ثم أشار إليهم بأن محمدا لا يفتري الكذب بقوله «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ» الكفرة «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسوله «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» ١٠٥ ومحمد براء ومعصوم مما يتهمونه به.
مطلب في الكفر تضية، والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا.
واعلم أن الكذب من الكبائر لأنه إيجاد ما لم يوجد، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جرار قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن يسرق؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن بكذب؟ قال لا، قال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي) إلخ. «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» مختارا طائعا وجب قتله في الدنيا وفي الآخرة هو خالد في جهنم «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ» على كلمة الكفر من شخص يتحقق إيقاع الضرر منه فأجرى كلمه الكفر على لسانه تقية كما تجوز موالاة الكفرة تقية على ما يأتي في الآية ٣٩ من آل عمران في ج ٣، لأن التوسل لخلاص النفس بلفظ الكفر ظاهرا «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» فلا وزر عليه لأنها رخصة من الله تعالى أعتق بها نفسه، وقد تفضل الله تعالى على عباده بها والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإذا قبلها وأخذ بها فلا بأس عليه، وإذا لم يقبلها ولم يأخذ بها وأبى أن يكفر وقتل من أجل إيمانه فقد أخذ بالعزيمة ولا وزر عليه بل يثاب، لأن الأفضل في مثل هذا أن يؤخذ بالعزيمة لا بالرخصة، لاحتمال عدم القتل، لأن بلالا وصهيبا وخبابا وسالما أوذوا بالضرب والحرق بالنار وألبسوا أدراع الحديد ووضعوا بحر الشمس في تلك البلاد الحارة، وقد وضعت عليهم الأحجار الحارة لإجبارهم على الكفر، فصبروا ولم يكفروا بلسانهم، ثم تركوا ولم يقتلوا وفازوا بخير الدارين، أما من أكره على شرب الخمر أو أكل لحم الميتة أو الخنزير ومما هو دون المكفرات كالربى والقمار
252
فليس له أن يأخذ بالعزيمة بل يجب عليه الأخذ بالرخصة، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة فهو آثم، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» والعياذ بالله بعد أن كفر بلسانه وطابت نفسه به وبقي عليه «فَعَلَيْهِمْ» أي الكافرين وجمع الضمير باعتبار معنى من «غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ١٠٦ في الآخرة «ذلِكَ» الغضب والعذاب «بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا» وزخارفها وآثروها «عَلَى الْآخِرَةِ» وكفروا بطوعهم واختيارهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» ١٠٧ ولا يوفقهم للرشد والإيمان «أُولئِكَ» الذين استحبوا الكفر على الإيمان هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» فلم يجعلهم ينتفعون بها لأنهم صرفوها إلى غير ما خلقت لها «وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ١٠٨ عن الله وعما يراد بهم المتوغلون في الغفلة الكاملة، لأن الغفلة عن تدبير العواقب هي غاية في الغفلة ونهاية في اللهو «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» ١٠٩ حقا لأنهم ضيعوا رءوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما يفضي للخلود بالنار ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير ما وجب
هذا ولما أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان بالله فأبي ياسر وسمية فقتلوهما وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام لمرضاة الله، رحمهما الله رحمه واسعة، ووافقهم عمار على ما شاءوا من كلمات الكفر بلسانه بعد أن شاهد قتل أبويه فأخبر محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك فقال كلا إن عمارا ممتلىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء وهو يبكي، فقال ما وراءك؟ قال شرّ، نلت منك يا رسول الله أي أنه تكلم فيه مثل ما أراد الكفرة منه بسبب تعذيبه بعد قتل أبويه، قال كيف وجدت قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان، فجعل يمسح عينيه وقال إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت هذه الآيات. وهي عامة في كل من هذا شأنه، لأن نزولها فيمن ذكر لا يقيدها، وإن المكره على الكفر ليس بكافر، وقد استثنى المكره بالآية إذ ظهر منه ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا.
قال تعالى «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا» فرارا بدينهم إلى ديار غير ديارهم
253
«مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا» عذبوا وأوذوا من أجل إيمانهم بالله «ثُمَّ جاهَدُوا» أنفسهم على التثبت بإيمانهم «وَصَبَرُوا» على ما نالهم من أذى المشركين ومر الغربة وذلّها «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي الفتنة التي ألجأتهم إلى الكلام بما ينافي الإسلام تقية، خشية القتل «لَغَفُورٌ» لهم على ما صدر منهم بالنظر لما وقر في قلوبهم «رَحِيمٌ» ١١٠ بهم لا يؤاخذهم على ما وقع منهم حالة الإكراه، وهذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة أخي أبى جهل من الرضاع وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، حينما عذبهم المشركون على إيمانهم، فأعطوهم من الكلام القبيح ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم أعلنوا إيمانهم وهاجروا من مكة، وبعد عودتهم من الهجرة بعد نزول آية السيف في المدينة جاهدوا مع المؤمنين أعداءهم الكفرة، وبما أن الجهاد متأخر عن زمن هجرتهم عبّر الله تعالى عنه بثم المفيدة للتراخي، وهؤلاء الذوات محميون بحماية الله تعالى بدليل قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ) إلخ، ومن كان الله له فلا يبالي من شيء، لأنه وليه وناصره، وهذه الآية الثالثة التي يعرض الله تعالى بها لنبيه في الهجرة ليتريض إليها ويمرن نفسه عليها. وما قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد بعد إسلامه كما أشرنا إليه في الآية ١٩٣ من الأنعام المارة، وأنه عند فتح مكة شرفها الله استجار بعثمان لأنه أخوه لأمه وقبل إسلامه، فقيل ضعيف، لا يكاد يصح، إلا إذا كانت الآية مدنية، والقول بمدنيتها أضعف من القول في نزولها فيه، لأن هذه السورة مكية ولم يستثنى منها إلا الآيات الثلاث الأخيرات على قول الجمهور، لهذا فلا يلتفت إلى غير ما ذكرناه.
قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» وتدافع وتخاصم عنها، ونفس الشيء عينه وذاته، فالنفس الأولى جملة الإنسان، والثانية عينه وذاته، فكأنه قيل كل إنسان يجادل عن ذاته لا عن غيره مهما كان قريبا له وحبيبا، لأن انشغاله بنفسه في ذلك الوقت العصيب ينسيه قريبه وحبيبه لعظم ما يشاهد ويلاقي من الهول، فيقول الكافر أضلنا كبراؤنا وأطعنا ساداتنا ما كنا مشركين وما حرمنا ولا حللنا من شيء فيتشبثون بكل ما يمكنهم من طرق الدفاع
254
ليتخلصوا مما حل بهم، ولات حين خلاص، وهذه الآية لا تنافي الآية ٨٤ المارة وهي (ثم لا يؤذن للذين كفروا) إلخ، لأن يوم القيامة يوم طويل شديد الهول تختلف فيه أحوال الناس فترى الكفرة مرة لا يؤذن لهم بالكلام، وأخرى يبكون وتارة يجادلون، وطورا يحاورون شركاءهم وأوثانهم «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها لا يغير عقابها كلام ولا جدال «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ١١١ شيئا بل يجازون على الخير بأحسن منه وعلى الشر بمثله.
مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل الله على عباده:
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً» واسعا كافيا يبسر وسهولة «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية ٥٦ من سورة القصص المارة في ج ١، بدعوة ابراهيم عليه السلام الواردة بالآية ١٥٦ من البقرة في ج ٣، لأن المراد بالقرية مكة «فَكَفَرَتْ» أهاليها وسكانها «بِأَنْعُمِ اللَّهِ» المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ» الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من «الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» جزاء «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» ١١٢ لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا.
واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية ٦٠ من سورة العنكبوت الآتية والمراد من
255
قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر، إذ قال العقلاء:
(ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية) وبعد الإنعام عليهم بهذه الثلاثة أنعم الله عليهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فكفروا به وكذبوه وآذوه وأرادوا قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة عنهم وسلط عليهم بعد هجرته البلاء والشدة والجوع والخوف بسبب تكذيبهم له وإرادة إخراجهم إياه من بلده حينما حاكوا المكر فيه، كماه سيأتي تفصيله في الآية الأخيرة من سورة المطففين في بحث الهجرة. وما قاله الحسن من أن هذه الآية مدنية وأن المراد بالقرية هي المدينة تحذيرا لأهلها مما أصاب أهل مكة قول مخالف لجمهور العلماء والمفسرين يؤيده قوله تعالى «وَلَقَدْ جاءَهُمْ» أي أهل مكة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» يعرفون مكانته قبل النبوة «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» في الدنيا بالجوع والقتل والأسر والخوف والجلاء «وَهُمْ ظالِمُونَ» ١١٣ أنفسهم وغيرهم بالكفر. قال تعالى «فَكُلُوا» أيها الناس «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً» وذروا ما تفترون من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها راجع الآية ١٣٠ من سورة المائدة في ج ٣ في تفسيرها، «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ» عليكم «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» ١١٤ تخصونه وحده بالعبادة «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» لأنها كلها تضر بأبدانكم وتختطف صحتكم وتوقعكم في الأمراض القتالة، وقد اكتشف الأطباء في عصرنا هذا وجود دودة قتالة في الخنزير سموها (ترنجيويس) وأجمعوا على أنها لا تموت بالطبخ بل تنتقل لآكل لحمه وتعيش في المعدة وتميت آكلها، ولذا منعوا أكله قبل المعاينة، حتى ان الأمير كيين هجروه بتاتا كما يقال، إلا أنهم قد هجروا الخمر قبلا ثم عادوا إليه، وفضلا عن هذا، فإن أكله يورث الجذام ويقلل الغيرة، ومنه يعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا وصيانة وجودنا وعقلنا من الخلل «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» وفي الآية ٤ من سورة المائدة الآتية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهي بمعناها «فَمَنِ اضْطُرَّ» لأكل شيء من ذلك «غَيْرَ باغٍ» على الناس «وَلا عادٍ» على نفسه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ١١٥ بهؤلاء المضطرين وسنأتي على تفسير هذه الآية بصورة مفصلة واضحة وبيان مضار هذه
256
المحرمات مع بيان الحكم الشرعي فيها في الآية المذكورة من سورة المائدة ج ٣ إن شاء الله، وقدمنا بعض ما يتعلق فيها في الآية ١٤٥ من سورة الأنعام المارة فراجعها «وَلا تَقُولُوا» أيها الناس «لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» من تلقاء أنفسكم لأن التحليل والتحريم من خصائص الله تعالى، وذلك أنهم كانوا يحللون ويحرمون برأيهم وينسبونه إلى الله تعالى، كما تقدم في الآية ١٣٨ من سورة الأنعام المارة. يدل على هذا قوله جل قوله «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» ١١٦ بل يخيبون ويخسرون، وان متاعهم في هذه الدنيا وما هم عليه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» لأن الدنيا مهما طال أمدها فهي قليلة، ولا تطمئن النفس الزكية إليها لتوقع المصائب والفتن والشحناء بين أهلها عداوة وبغضاء من أجل حطامها الزائل، وأشد ما يكون إذا وقع بين الأقارب، وفلما ترى المتصافين فيها لله، قال:
والمرء يخشى من أبيه وأمه ويخونه فيها أخوه وحاره
فإذا كان أقرب وأحب الناس إلى الرجل فيها يخافهم ويخشهم فتبا لهم من دار وسحقا لها من إقامة، هذا ما يلاقونه في الدنيا، وأما في الآخرة فيقول الله تعالى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ١١٧ لا تطيقه قواهم «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» هو ما تقدم في الآية ١٤٦ من الأنعام المارة، «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ١١٨ بتحريم أشياء على أنفسهم لم يحرمها الله كلحوم الإبل وغيرها، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية ١٦٠ من النساء في ج ٣، «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ» كلمة جامعة لكل قبح «بِجَهالَةٍ» غير متدبرين عاقبته ولا معاندين الله فيه عصيانا عليه، وإنما بسبب غلبة شهوتهم الناشئة عن الجهل قال:
وما كانت ذنوبي عن عناد ولكن بالشقا حكم القضاء
«ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الذي عملوه من السوء وندموا وتابوا توبة نصوحا، يدل عليه قوله تعالى «وَأَصْلَحُوا» أنفسهم واستقامت أحوالهم «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي التوبة «لَغَفُورٌ» لما سبق منهم «رَحِيمٌ» ١١٩
257
بهم تشير هذه الآية إلى عظيم فضل الله، وجليل رحمته، وكبر كرمه، وسعة مغفرته، وكثرة لطفه على عباده وعطفه عليهم إذ تكفل لمن هذا شأنه بالعفو، ومن كان الله كفيله فهو تاج رابح، وتقدم ما يتعلق بعظيم فضل الله وعفوه في الآية ١٦٠ من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع المتعلق بها هذا البحث فراجعها. ونظير هذه الآية الآية ١٧ من سورة النساء في ج ٣، «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» لاجتماع صفات الكمال والخير فيه وتلبسه بالأخلاق الحميدة، وهذه الصفات قد لا توجد في شخص واحد ولهذا سماه الله أمة:
وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ولأنه كان وحده مؤمنا بالله والناس كلهم كافرون، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل يبعثه الله أمة وحده. لمفارقته الجاهلية وما كانت عليه من عبادة الأوثان وهي جارية مجرى كلام العرب. يقولون فلان رحمة وفلان نسّابة، إذا كان متناهيا في المعنى الموصوف به «قانِتاً» خاضعا مطيعا «لِلَّهِ» وحده «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين إلى دين الإسلام، وهو أول من اختتن وضحى وأقام مناسك الحج «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ١٢٠ قط لأنه من صفره نشأ على التوحيد فكان مؤمنا بالله مخلصا له وكان في جميع أحواله
«شاكِراً لِأَنْعُمِهِ» كلها التي منها توفيقه للإيمان ونصرته على عدوه بالحجة الدامغة وانجاؤه من النار، ولهذه الخصال الكريمة «اجْتَباهُ» ربه للنبوة وشرفه بالرسالة واصطفاه للخلة «وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٢٢١ في أقواله وأفعاله ووفقه لدين الإسلام وطريقه القويم «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن جعلنا ذكره فيها دائما مثمرا حسنا عند كل ملة وأمة، فلا تجد قوما إلا ويعرفوه بفضله ويذكرونه بالخير، هكذا كان عليه الصلاة والسلام في الدنيا «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» ١٢٢ للقاء الله ولأعلى مقامات الجنة «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل في هذا القرآن الكريم «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ١٢٣ لأن ملته ودينه هو الحق وكل محق يدين بدينه، وقيل في هذا:
258
ولا تكرار في هذه الآية، لأن الأولى تتضمن أنها سجيته عليه السلام، وهذه يأمر الله بها حبيبه محمدا بأن يسلك طريقة جده إبراهيم، وفيها ردّ صريح على العرب وغيرهم الحاضرين والسالفين القائلين إنه كان مشركا، لأنها جاءت نافية عنه مادة الشرك منذ نشأته كما أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كما زعم اليهود والنصارى، راجع الآية ٦٧ من آل عمران ج ٣، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم يتعبد على شريعته ويتدين بدينه الذي ألهمه الله إياه إلى أن كمل الله له شريعته الناسخة لكل الشرائع والموافقة لكل عنصر وعصر إلى آخر الدوران ليقتدي بها وبأمر أمته باتباعها، قال تعالى «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ» فرض ووجب احترامه وعدم العمل به كسائر الأيام «عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» مع نبيهم وهم اليهود لأن موسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعه وأن يتفرغوا في كل أسبوع يوما للعبادة فيه، فأبوا إلا السبت محتجين بأنه اليوم الذي فرغ الله به من الخلق، وهذا الاختلاف لم يقل به بعضهم دون بعض منهم من أراده، ومنهم من أباه، كلا، بل أنهم كلهم اتفقوا عليه خلافا لنبيهم الذي وافقهم على رغبتهم، لأن الخلاف كان بينهم وبينه، وكذلك عيسى عليه السلام أمرهم بتعظيم يوم الجمعة فأبوا إلا الأحد محتجين بأنه اليوم الذي بدأ فيه الخلق، وهذا الاختلاف من سعادة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ تفضل الله عليها به فقبلته ولم تختلف على نبيها فيه.
مطلب يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية الإرشاد والنصح والمجادلة وما يتعلق فيهما:
وسبب تعظيمه أن الله تعالى خلق آدم فيه، وتاب عليه فيه. وأطاف سفينة نوح فيه، وأرساها فيه، وقيل دعوة يونس فيه، ونجاه فيه، وإجابة دعوة زكريا فيه، وكان تمام الخلق فيه، ولأن الفرح والسرور إنما يكونان عند التمام والكمال فلأن يكون التعظيم له أولى من يوم البدء والفراغ: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نحن الآخرون أي (في الوجود والزمن) السابقون (في الفضل ودخول الجنة) يوم القيامة بيد أنهم (غير أن الذين) أوتوا الكتاب من قبلنا فاختلفوا فيه وأوتيناه من بعدهم فهذا (إشارة إلى يوم الجمعة) يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه (على نبيهم فلم يقبلوه) فهدانا الله تعالى له
259
فهم لنا تبع فغد لليهود وبعد غد للنصارى. ومن قال إن الاختلاف وقع بينهم أوّل فقال جعل بمعنى وبال، أو قال إن في الكلام حذفا وهو كلمة وبال، أي إنما وبال السبت، أو إنما جعل وبال السبت ولعنته التي مسخوا فيها قردة وخنازير على المختلفين فيه، وتقدمت قصة النسخ في الآية ١٦٤ من الأعراف في ج ١، وقال بعضهم إنما فرض عليهم السبت، ولما بعث عيسى نسخ بالأحد، كما أن شريعته عدلت بعض أحكام التوراة، ثم نسخ الأحد بالجمعة، لأن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم ناسخة لكل الشرائع، فكان أفضل الأيام الجمعة، وأفضل الرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
«وَإِنَّ رَبَّكَ» يا خاتم الرسل «لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» وبين غيرهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ١٢٤ من السبت وغيره كتحريم الإبل وحل الخنزير وقليل الخمر والزواج بالمحرمات وغير ذلك مما ابتدعوه، ولم ينزل الله به برهانا، قال تعالى يا سيد الرسل «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» من بعثت إليهم قاطبة «بِالْحِكْمَةِ» بالحجة المزيلة للشك المزيحة للشبهة بالتؤدة واللين والرفق وإيراد الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة والحجج القاطعة لتأييد دعوتك «وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» الرقيقة اللطيفة بخطاب مقنع للخصم مقرون بالعبر المؤثرة والعظة النافعة والأمثلة الظاهرة بقصد نصحهم وطلب خيرهم وإرادة ميلهم إلى كلامك وجنوحهم إلى رشدك وهديك.
وهذه طريقة ثانية لأصول الدعوة إلى الله لأن الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال، والموعظة الحسنة مزج الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة والشدة باللين. والطريقة الثانية هي المبينة بقوله جل قوله «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من غيرها بأن تناظر معانديهم بالطريقة الحسنة التي هي أحسن طرق المجادلة، وتبدي لهم لين العريكة وخفض الجانب والرفق بالمخاطبة، بلا غلظة ولا فظاظة ولا تعنيف، وتأتي لهم بكل ما يوقظ القلب ويجلو العقل وتنبسط له النفس وينشرح له الفؤاد، بوجه مطلق ملئه البشاشة، كي يكون إرشادك أوقع في قلوبهم، وهديك أنفع في نفوسهم، وكلامك أنفع لصلاحهم، ودلالتك أميل لقلوبهم. واعلم أن هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها العلماء والمتصدرون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها من سمات من ورثوا عنه العلم الذي هو صفوة خلق الله صلّى الله عليه وسلم، ويجب أن
260
تكون طريقتهم في النصح والهدى على نحو ما ذكرنا مع تحمل الأذى وثقل الثقلاء وعناد المعاندين وشقاق العتاة، وإذا ابتلوا بالمناظرة أن يكون سبيلهم فيها منبثقا عن هذه الأحوال الثلاثة، وذلك بأن يناظروا الطبقة الراقية بالأصل الأول، وغيرهم من أصحاب الفطرة السليمة بالثاني، والمعاندين المتشدقين بالثالث، لينفعوا وينتفعوا، وإذا لم يستعملوا هذه الطرق التي علمها الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلم وأمره جلّ أمره بسلوكها وقابلوا الناس بالفظاظة وبالشدة والغلظة والعنف والأنفة والتكبر والتجهيل شامخين بما آتاهم الله من فضله، فيوشك أن يضلوا ويضلوا ويكون عملهم وبالا عليهم في الدنيا والآخرة، لأن المعتبر في دعوة الخلق إلى الخالق استعمال الصناعات الثلاث المذكورة التي هي البرهان والخطابة والجدل من بين الصناعات الخمس المبينة في علم المنطق، وسهل القول المذكور في علم البيان وفصيح اللفظ المشار إليه في علم البديع ليتيسر له ما يريده من النفع التام لما يرضي الملك العلام، وهذا هو الطريق النافع لقبول الإرشاد، لأن الآية تشعر إلى الاقتصار عليها «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» الذين لا تؤثر فيهم الدعوة بطرقها الثلاث لسابق شفائهم «وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ١٢٥ الذين ينتفعون بدعوتك، إلا أن التبليغ للفريقين من واجب الرسل حتى لا تبقى حجة لمعتذر وهو من بعدهم من واجب العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، وهذه الآيات المدنيات الثلاث من هذه السورة كما قاله المفسرون بدليل ما أخرجه النحاس عن طريق مجاهد عن الخبر أنها أي هذه السورة نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحد، ولهذا عدت مدينة كما عدت الآية ٥٤ من الزخرف المارة مكية مع أنها نزلت في بيت المقدس ليلة الإسراء، لأن العبرة أن جميع ما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا وكل ما نزل بعدها يعد مدنيا كما أشرنا إليه في المقدمة في بحث المكي والمدني. قال تعالى «وَإِنْ عاقَبْتُمْ» أحدا أيها الناس على فعل يستوجب العقوبة «فَعاقِبُوا» المسيء «بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» منه أي كما فعل بكم افعلوا به بلا زيادة ولا نقص إن شئتم «وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» على الإساءة وعفوتم عن المسيء «لَهُوَ» الصبر والصفح «خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» ١٢٦ عليه من المتشفي بالقصاص
261
عند الله تعالى الذي يعظم الأجر للصابر، وعند الناس لما يطرونه من الثناء عليه في وجهه والمدح بغيابه بخلاف التقاصص، إذ لا يقال للمقتص إلا أنه أخذ حقه ولم يعف ولم يصفح ولم يقبل الرجاء بالعفو. هذا ولما مثل المشركون بقتلى أحد بقروا بطن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وجدعوا انفه وقطعوا مذاكيره وأذانه وأخذت هند بنت عتبة أم معاوية قطعة من كبده ومضغتها لتأكلها تشفيا به فلم تقدر أن تسيغها فأخرجتها وأرسلتها، فتأثر رسول الله ﷺ لما رأى ذلك وقال رحمك الله رحمة واسعة ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم، ثم قال والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك فأنزل الله هذه الآية، فقال ﷺ بل أصبر وأحتسب، وكفر عن يمينه. وإنما قلت تأثر ﷺ لأنه بشر يعتريه ما يعتري البشر، وقد بكى على ابنه إبراهيم واغتاظ لابن بتمه، ورأى مرة النساء يبكين في جنازة وقد انتهرهن عمر رضي الله عنه فقال
عليه السلام دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب. هذا وسمى الفعل الأول عقوبة للمزاوجة في الكلام، يعني إن أساء إليكم أحد فقابلوه بإساءته مثلا بمثل، راجع الآية ٣٩ فما بعدها من سورة الشورى المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث مستوفيا. وقد أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في استيفاء الحقوق في القصاص، لأن الزيادة ظلم تأباه شريعة الله العادل. وما قيل إن هذه الآية منسوحة قول لا يلتفت إليه بل هي محكمة لأنها واردة في تعليم حسن الآداب وكمال الأخلاق والنصفة في استيفاء الحقوق وترك التعدي النهى عنه. ومثل هذه الأمور لا يدخلها النسخ أبدا. قال تعالى يا خاتم الرسل اعمل بهذا «وَاصْبِرْ» على ما أصابك من أذى قومك «وَما صَبْرُكَ» على ما يؤذيك ويحزنك «إِلَّا بِاللَّهِ» بتوفيقه ومعونته لك «وَلا تَحْزَنْ» على ما وقع على عمك فإن له فيها درجات في الجنة عند الله، وكذلك قومك لا تحزن «عَلَيْهِمْ» بسبب ما فعلوه فيه وعدم رعايتك وعن إعراضهم عنك ولا على قتلى أحد كلهم، فإنهم أفضوا إلى رحمة ربهم وعطفه ولا يضرهم ما مثله المشركون بهم لأنه مما يزيد في أجرهم «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ» هو الشدة التي يتكمش لها الوجه ويكفهر وينقبض فيها الصدر ويضيق بسبب ما وقع
262
من الغم والحزن فيه وقرىء بفتح الضاد وكسرها «مِمَّا يَمْكُرُونَ» ١٢٧ بك ويكيدون لك من الدسائس ويحيكونه لك من المصائد، فإنهم لن يصلوا إليك، وإني حافظك منهم، وناصرك عليهم. وفي هذه الآية رمز إلى استتباع أمته له في ذلك كله، لأن كل أمة تقتدي بإمامها وقد خوطب ابن عباس من قبل أحد معزّيه في هذا البيت:
كل يدين بدين الحق لو فطنوا وليس دين لغير الحق مشروع
اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الراس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
هذا على إنه يصح أن يقال فيه:
سأصبر حتى يعلم الناس أنني صبرت على شيء أمر من الصّبر
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا» السيئات واجتنبوا التعدي في القصاص وغيره وراقبوا ربهم في كل أمورهم مع خالقهم وخلقه «وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» ١٢٨ لأنفسهم ولغيرهم العافين عن الناس الكاظمين الغيظ ومن كان الله معه فهو آمن في الدنيا والآخرة، قال بعض الكمل: كمال الطريق الموصل إلى الله صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، وكمال الإنسان ان يعرف الحق لذاته والخير ليعمل به، فإذا أردت أيها الإنسان العاقل أن يكون الله معك بالعون والفضل والرحمة فكن مع المتقين الصادقين المحسنين ومنهم، فهؤلاء الذين أمرنا الله بمخالطتهم، قال تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الآية ١٥٢ من سورة التوبة في ج ٣، وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الآية ٢ من العلاق في ج ٣، وقال تعالى (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الآية ٩٢ من يوسف المارة. واعلم أن ترك الإساءة من الإحسان بل إحسان وزيادة، قيل ترك الإساءة إحسان وإجمال. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
263
Icon