تفسير سورة النحل

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة النحل من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ أَيْ: عذابه لمَنْ أقام على الشرك أي: قد فرب ذلك ﴿فلا تستعجلوه﴾ فإنَّه نازلٌ بكم لا محالة ﴿سبحانه﴾ براءةٌ له من السُّوء ﴿وتعالى﴾ ارتفع بصفاته ﴿عما يشركون﴾ عن إشراكهم
﴿ينزل الملائكة﴾ يعني: جبريل عليه السَّلام وحده ﴿بالروح﴾ بالوحي ﴿من أمره﴾ والوَحْيُ من أمر الله سبحانه ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ يريد: النَّبيِّين الذين يختصُّهم بالرِّسالة ﴿أن أنذروا﴾ بدلٌ من الرُّوح أَيْ: أعلموا أهل الكفر ﴿أنه لا إله إلاَّ أنا﴾ مع تخويفهم إنْ لم يقرُّوا ﴿فاتقون﴾ بالتَّوحيد والطَّاعة ثمَّ ذكر ما يدلُّ على توحيده فقال:
﴿خلق السماوات﴾ الآية
﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ يعني: أُبيَّ بن خلف ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ﴾ مخاصمٌ ﴿مبين﴾ ظاهرُ الخصومة وذلك أنَّه خاصم النبيَّ صلى الله علي وسلم في إنكاره البعث وقوله:
﴿لكم فيها دفء﴾ يعني: ما تستدفئون به من الأكسية والأبنية من أشعارها وأصوافها وأوبارها ﴿ومنافع﴾ من النَّسل والدَّرِّ والرُّكوب
﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ زينةٌ ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾ تردُّونها إلى مَراحها بالعشايا ﴿وحين تسرحون﴾ تخرجونها إلى المرعى بالغداة
﴿وتحمل أثقالكم﴾ أمتعتكم ﴿إلى بلد﴾ لو تكلَّفتم بلوغه على غير الإِبل لشقَّ عليكم والشِّقِّ: المشقَّة ﴿إنَّ ربكم لرؤوف رحيم﴾ حيث منَّ عليكم بهذه المرافق وقوله:
﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾ لم يُسمِّه فالله أعلم به
﴿وعلى الله قصد السبيل﴾ أَي: الإِسلام والطَّريق المستقيم يُؤدِّي إلى رضا الله تعالى كقوله: ﴿هذا صراط مستقيم﴾ ﴿ومنها﴾ ومن السَّبيل ﴿جائر﴾ عادلٌ مائل كاليهوديَّة والنَّصرانية ﴿ولو شاء لهداكم﴾ أرشدكم ﴿أجمعين﴾ حتى لا تختلفوا في الدِّين وقوله:
﴿ومنه شجر﴾ يعني: ما ينبت بالمطر وكلُّ ما ينبت على الأرض فهو شجر ﴿فيه تسيمون﴾ ترعون مواشيكم وقوله:
﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لقوم يتفكرون﴾
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يعقلون﴾
﴿وما ذرأ لكم﴾ أَيْ: وسخَّر لكم ما خلق في الأرض ﴿مختلفاً ألوانه﴾ أَيْ: هيئته ومناظره يعني: الدَّوابَّ والأشجار وغيرهما
﴿وهو الذي سخر البحر﴾ ذلَّله للرُّكوب والغوص ﴿لتأكلوا منه لحماً طرياً﴾ السَّمك والحيتان ﴿وتستخرجوا منه حلية تلبسونها﴾ الدُّرَّ والجواهرَ ﴿وترى الفلك﴾ السُّفن ﴿مواخر فيه﴾ شواقّ للماء تدفعه بِجُؤْجُئِها بصدرها ﴿ولتبتغوا من فضله﴾ لتركبوه للتِّجارة فتطلبوا الرِّبح من فضل الله
﴿وألقى في الأرض رواسي﴾ جبالاً ثابتةً ﴿أن تميد﴾ لئلا تميد أَيْ: لا تتحرَّك ﴿بكم وأنهاراً﴾ وجعل فيها أنهاراً كالنِّيل والفرات ودجلة ﴿وسبلاً﴾ وطرقاً إلى كلِّ بلدةٍ ﴿لعلكم تهتدون﴾ إلى مقاصدكم من البلاد فلا تضلُّوا
﴿وعلامات﴾ يعني: الجبال وهي علاماتُ الطُّرق بالنَّهار ﴿وبالنجم﴾ يعني: جميع النُّجوم ﴿هم يهتدون﴾ إلى الطُّرق والقِبلة في البرِّ والبحر
﴿أفمن يخلق﴾ يعني: ما ذُكر في هذه السُّورة وهو الله تعالى ﴿كمَنْ لا يخلق﴾ يعني: الأوثان يقول: أَهما سواءٌ حتى يسوَّى بينهما في العبادة؟ ﴿أفلا تذكرون﴾ أفلا تتعظون كما اتَّعظ المؤمنون
﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ مرَّ تفسيره ﴿إنَّ الله لغفور﴾ لتقصيركم في شكر نعمه ﴿رحيم﴾ بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم وقوله:
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يخلقون﴾
﴿أموات﴾ أَيْ: هي أمواتٌ لا روح فيها يعني: الأصنام ﴿غير أحياء﴾ تأكيد ﴿وما يشعرون أيان يبعثون﴾ وذلك أنَّ الله سبحانه يبعث الأصنام لها أرواحٌ فيتبرَّؤون من عابديهم وهي في الدُّنيا جماد لا تعلم متى تُبعث وقوله:
﴿إلهكم﴾ ذكر الله سبحانه دلائل وحدانيته ثمَّ أخبر أنَّه واحد ثمَّ أتبع هذا إنكار الكفَّار وحدانيَّته بقوله: ﴿فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة﴾ جاحدةٌ غير عارفة ﴿وهم مستكبرون﴾ ممتنعون عن قبول الحقِّ
﴿لا جرم﴾ حقا ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ الآية أَيْ: يُجازيهم بذلك ﴿إنه لا يحب المستكبرين﴾ لا يمدحهم ولا يُثيبهم
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أساطير الأولين﴾ الآية نزلت في النَّضر بن الحارث وذكرنا قصَّته
﴿ليحملوا أوزارهم﴾ هذه لام العاقبة لأنَّ قولهم للقرآن: أساطير الأولين أدَّاهم إلى أن حملوا أوزارهم كاملة لم يُكفَّر منها شيء بنكبةٍ أصابتهم في الدُّنيا لكفرهم ﴿ومن أوزار الذين يضلونهم﴾ لأنَّهم كانوا دعاةَ الضَّلالة فعليهم مثل أوزار من اتَّبعهم وقوله: ﴿بغير علم﴾ أَيْ: يضلُّونهم جهلاً منهم بما كانوا يكسبون من الإثم ثم صنيعهم فقال: ﴿ألا ساء ما يزرون﴾ أَيْ: يحملون
﴿قد مكر الذين من قبلهم﴾ وهو نمروذ بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السَّماء فيقاتل أهلها ﴿فأتى الله﴾ فأتى أمر الله وهو الرِّيح وخَلْقُ الزَّلزلة ﴿بنيانهم﴾ بناءهم ﴿من القواعد﴾ من أساطين البناء التي يعمده وذلك أنَّ الزَّلزلة خُلقت فيها حتى تحرَّكت بالبناء فهدمته وهو قوله: ﴿فخرَّ عليهم السقف من فوقهم﴾ يعني: وهم تحته ﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ من حيث ظنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه
﴿ثم يوم القيامة يخزيهم﴾ يُذلُّهم ﴿ويقول أين شركائي﴾ أَي: الذين في دعواكم أنَّهم شركائي أين هم ليدفعوا العذاب عنكم ﴿الذين كنتم تشاقون﴾ تخالفون المؤمنين ﴿فيهم قال الذين أوتوا العلم﴾ وهم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفَّار في القيامة: ﴿إنَّ الخزي اليوم والسوء﴾ عليهم لا علينا
﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ مرَّ تفسيره في سورة النِّساء وقوله: ﴿فألقوا السلم﴾ أَي: انقادوا واستسلموا عند الموت وقالوا: ﴿ما كنا نعمل من سوء﴾ شرك ﴿بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من الشرك والتكذيب ثم قيل لهم:
﴿فادخلوا أبواب جهنم﴾ الآية وقوله: ﴿فلبئس مثوى﴾ مقام ﴿المتكبرين﴾ عن التَّوحيد وعبادة الله سبحانه
﴿وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم﴾ هذا كان في أيَّام الموسم يأتي الرَّجل مكَّة فيسأل المشركين عمَّا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أساطير الأولين ويسأل المؤمنين عن ذلك فيقولون: ﴿خيراً﴾ أَيْ: ثواباً لمَنْ آمن بالله ثمَّ فسَّر ذلك الخير فقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في هذه الدنيا حسنة﴾ قالوا: لا إله إلاَّ الله ثوابٌ مضاعف ﴿ولدار الآخرة﴾ وهي الجنَّة ﴿خير﴾ من الدُّنيا وما فيها
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لهم فيها ما يشاؤون كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾
﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين﴾ طاهرين من الشِّرك
﴿هل ينظرون إلاَّ أن تأتيهم الملائكة﴾ لقبض أرواحهم ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ بالقتل والمعنى: هل يكون مدَّة إقامتهم على الكفر إلاَّ مقدار حياتهم إلى أن يموتوا أو يُقتلوا ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ وهو التَّكذيب يعني: كفَّار الأمم الخالية ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بتعذيبهم ﴿وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظلمون﴾ بإقامتهم على الشِّرك
﴿فأصابهم﴾ هذا مؤخَّر في اللَّفظ ومعناه التَّقديم لأنَّ التَّقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الآية ثمَّ يقول: ﴿وما ظلمهم الله﴾ الآية ومعنى: أصابهم ﴿سيئات ما عملوا﴾ أَيْ: جزاؤها ﴿وحاق﴾ أحاط ﴿بهم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ من العذاب
﴿وقال الذين أشركوا﴾ يعني: أهل مكَّة: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عبدنا من دونه من شيء﴾ أَيْ: ما أشركنا ولكنَّه شاءه لنا ﴿وَلا حَرَّمْنَا من دونه من شيء﴾ أَيْ: من السَّائبة والبحيرة وإنَّما قالوا هذا استهزاءً قال الله تعالى: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ أي: من تكذيب الرُّسل وتحريم ما أحلَّ الله ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ أَيْ: ليس عليهم إلاَّ التَّبليغ وقد بلَّغتَ يا محمَّدُ وبلَّغوا فأمَّا الهداية فهي إلى الله سبحانه وتعالى وقد حقَّق هذا فيما بعد وهو قوله:
﴿ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولاً﴾ كما بعثناك في هؤلاء ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ بأن اعبدوا الله ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ الشيطان وكلَّ من يدعو إلى الضلاَّلة ﴿فمنهم مَنْ هدى الله﴾ أرشده ﴿ومنهم مَنْ حقَّت﴾ وجبت ﴿عليه الضلالة﴾ الكفر بالقضاء السابق ﴿فسيروا في الأرض﴾ معتبرين بآثار الأمم المكذِّبة ثمَّ أكَّد أنَّ مَنْ حقَّت عليه الضَّلالة لا يهتدي وهوقوله:
﴿إن تحرص على هداهم﴾ أَيْ: تطلبها بجهدك ﴿فإنَّ الله لا يهدي مَنْ يضل﴾ كقوله: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ﴾
﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أغلظوا في الأيمان تكذيباً منهم بقدرة الله على البعث فقال الله تعالى: ﴿بلى﴾ ليبعثنَّهم ﴿وعداً عليه حقاً﴾
﴿ليبيِّن لهم﴾ بالبعث ما اختلفوا فيه من أمره وهو أنَّهم ذهبوا إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين﴾ ثمَّ أعلمهم سهولة خلق الأشياء عليه بقوله:
﴿إنما قولنا لشيء﴾ الآية
﴿والذين هاجروا﴾ نزلت في قومٍ عذَّبهم المشركون بمكَّة إلى أن هاجروا وقوله: ﴿في الله﴾ في رضا الله ﴿لنبوئنهم في الدنيا حسنة﴾ داراً وبلدةً حسنةً وهي المدينة ﴿ولأجر الآخرة﴾ يعني: الجنَّة
﴿الذين صبروا﴾ على أذى المشركين وهم في ذلك واثقون بالله تعالى مُتوكِّلون عليه
﴿وما أرسلنا من قبلك﴾ ذكرنا تفسيره في آخر سورة يوسف وقوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر﴾ يعني: أهل التَّوراة فيخبرونكم أنَّ الأنبياء كلَّهم كانوا بشراً
﴿بالبينات﴾ أَيْ: أرسلناهم بالبيِّنات بالحجج الواضحة ﴿والزبر﴾ الكتب ﴿وأنزلنا إليك الذكر﴾ القرآن ﴿لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ في هذا الكتاب من الحلال والحرام والوعد والوعيد ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ في ذلك فيعتبرون
﴿أفأمن الذين مكروا السيئات﴾ عملوا بالفساد يعني: عبادة الأوثان وهم مشركو مكَّة ﴿أن يخسف الله بهم الأرض﴾ كما خسف بقارون ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: من حيث يأمنون فكان كذلك لأنَّهم أُهلكوا يوم بدر وما كانوا يُقدِّرون ذلك
﴿أو يأخذهم في تقلبهم﴾ للسَّفر والتِّجارة ﴿فما هم بمعجزين﴾ بممتنعين على الله
﴿أو يأخذهم على تخوّف﴾ على تنقض وهو أن يأخذ الأوَّل حتى يأتي الأخذ على الجميع ﴿فإنَّ ربكم لرؤوف رحيم﴾ إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة
﴿أو لم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ له ظلٌّ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ ﴿يتفيَّأ﴾ يتميَّل ﴿ظلاله عن اليمين والشمائل﴾ في أوَّل النَّهار عن اليمين وفي آخره عن الشِّمال إذا كنت مُتوجِّهاً إلى القبلة ﴿سجداً لله﴾ قال المُفسِّرون: ميلانها سجودها وهذا كقوله: ﴿وظلالهم بالغدو والآصال﴾ وقد مرَّ ﴿وهم داخرون﴾ صاغرون يفعلون ما يُراد منهم يعني: هذه الأشياء التي ذكرها أنَّها تسجد لله
﴿ولله يسجد﴾ أَيْ: يخضع وينقاد بالتَّسخير ﴿ما في السماوات وما في الأرض من دابة﴾ يريد: كلَّ ما دبَّ على الأرض ﴿والملائكة﴾ خصَّهم بالذِّكر تفضيلاً ﴿وهم لا يستكبرون﴾ عن عبادة الله تعالى يعني: الملائكة
﴿يخافون ربهم من فوقهم﴾ يعني: الملائكة هم فوق ما في الأرض من دابَّة ومع ذلك يخافون الله فلأَنْ يخافَ مَنْ دونهم أولى ﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ يعني: الملائكة وقوله:
﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هو إله واحدٌ فإياي فارهبون﴾
﴿وله الدين واصباً﴾ دائماً أَيْ: طاعته واجبةٌ أبداً ﴿أفغير الله﴾ الذي خلق كلَّ شيء وأمر أن لا تتَّخذوا معه إلهاً ﴿تتقون﴾
﴿وما بكم من نعمة﴾ من صحَّة جسمٍ أو سعة رزق أو متاع بمالٍ وولدٍ فكلُّ ذلك من الله ﴿ثمَّ إذا مسكم الضرُّ﴾ الأسقام والحاجة ﴿فإليه تجأرون﴾ ترتفعون أصواتكم بالاستغاثة
﴿ثمَّ إذا كشف الضر عنكم﴾ يعني: مَنْ كفر بالله وأئرك بعد كشف الضُّرَّ عنه
﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ ليجحدوا نعمة الله فيما فعل بهم ﴿فتمتعوا﴾ أمر تهديد ﴿فسوف تعلمون﴾ عاقبة أمركم
﴿ويجعلون﴾ يعني: المشركين ﴿لما لا يعلمون﴾ أَي: الأوثان التي لا علم لها ﴿نصيباً مما رزقناهم﴾ يعني: ما ذُكر في قوله: ﴿وهذا لشركائنا﴾ ﴿تالله لتسألنَّ﴾ سؤال توبيخٍ ﴿عمَّا كنتم تفترون﴾ على الله من أنَّه أمركم بذلك
﴿ويجعلون لله البنات﴾ يعني: خزاعة وكنانة زعموا أنَّ الملائكة بنات الله ثم نزه نفشه فقال تعالى: ﴿سبحانه﴾ تنزيهاً له عمَّا زعموا ﴿وَلَهُمْ مَا يشتهون﴾ يعني: البنين وهذا كقولهم: ﴿أم له البنات﴾ الآية
﴿وإذا بشر أحدهم بالأنثى﴾ أُخبر بولادة ابنةٍ ﴿ظلَّ﴾ صار ﴿وجهه مسودّاً﴾ متغيِّراً تغيُّرَ مغتمٍّ ﴿وهو كظيم﴾ ممتلئ غمّاً
﴿يتوارى﴾ يختفي ويتغيب مقدّراً مع نفسه ﴿أيمسكه على هون﴾ أيستحييها على هوانٍ منه لها ﴿أم يدسُّه﴾ يخفيه ﴿في التراب﴾ فعل الجاهليَّة من الوأد ﴿ألا ساء﴾ بئس ﴿ما يحكمون﴾ أَيْ: يجعلون لمن يعترفون بأنَّه خالقهم البناتِ اللاتي محلهنَّ منهم هذا المحل ونسبوه إلى اتِّخاذ الأولاد وجعلوا لأنفسهم البنين
﴿للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء﴾ العذاب والنَّار ﴿ولله المثل الأعلى﴾ الإِخلاص والتَّوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله
﴿ولو يؤاخذ الله الناس﴾ المشركين ﴿بظلمهم﴾ بافترائهم على الله تعالى ﴿ما ترك عليها من دابة﴾ يعني: أحداً من المشركين ﴿ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾ وهو انقضاء عمرهم
﴿ويجعلون لله ما يكرهون﴾ لأنفسهم وذلك هو البنات أَيْ: يحكمون له به ﴿وتصف ألسنتهم الكذب﴾ ثمَّ فسَّر ذلك الكذب بقوله: ﴿أنَّ لهم الحسنى﴾ أَي: الجنَّة والمعنى: يصفون أنَّ لهم مع قبح قولهم الجنَّة إن كان البعث حقّاً فقال الله تعالى: ﴿لا﴾ أَيْ: ليس الأمر كما وصفوه ﴿جرم﴾ كسب قولهم هذا ﴿أنَّ لهم النار وأنَّهم مُفرْطون﴾ متروكون فيها وقيل: مُقدَّمون إليها وقوله:
﴿فهو وليُّهم اليوم﴾ يعني: يوم القيامة وأُطلق اسم اليوم عليه لشهرته وقوله:
﴿لتبين لهم الذي اختلفوا فيه﴾ أَيْ: تُبيِّن للمشركين ما ذهبوا فيه إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون فتقوم الحجَّة عليهم ببيانك وقوله: ﴿وهدى﴾ أَيْ: والهداية والرَّحمة للمؤمنين وقوله:
﴿والله أنزل﴾ ظاهرٌ إلى قوله: ﴿يسمعون﴾ أَيْ: سماع اعتبار يريد: إنَّ في ذلك دلالة على البعث
﴿وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة﴾ لدلالةً على قدرة الله تعالى ووحدانيَّته ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ﴾ وهو سرجين الكرش ﴿ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين﴾ جائزاً في حلوقهم
﴿ومن ثمرات﴾ أَيْ: ولكم منها ما ﴿تتخذون منه سكراً﴾ وهو الخمر نزل هذا قبل تحريم الخمر ﴿ورزقاً حسناً﴾ وهو الخلُّ والزَّبيب والتَّمرُ ﴿إنَّ في ذلك لآية لقومٍ يعقلون﴾ يريد: عقلوا عن الله تعالى ما فيه قدرته
﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ ألهمها وقذف في أنفسها ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ﴾ هي تتَّخذ لأنفسها بيوتاً إذا كانت لا أصحاب لها فإذا كانت لها أرباب اتِّخذت بيوتها ممَّا تبني لها أربابها وهو قوله: ﴿ومما يعرشون﴾ أَيْ: يبنون ويسقفون لها من الخلايا
﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ ربك﴾ طرق ربِّك تطلب فيها الرَّعي ﴿ذللاً﴾ منقادة مُسخَّرة مطيعة ﴿يخرج من بطونها شراب﴾ وهو العسل ﴿مختلف ألوانه﴾ منه أحمر وأبيض وأصفر ﴿فيه﴾ في ذلك الشَّراب ﴿شفاء للناس﴾ من الأوجاع التي شفاؤها فيه
﴿والله خلقكم﴾ ولم تكونوا شيئاً ﴿ثمَّ يتوفاكم﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر﴾ وهو أردؤه يعني: الهرم ﴿لكي لا يعلم بعد علم شيئاً﴾ يصير كالصبيِّ الذي لا عقل له قالوا: وهذا لا يكون للمؤمنين لأنَّ المؤمن لا ينزع عنه علمه وإن كبر ﴿إنّ الله عليم﴾ بما يصنع ﴿قدير﴾ على ما يريد
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ حيث جعل بعضكم يملك العبيد وبعضكم مملوكاً ﴿فما الذين فضلوا﴾ وهم المالكون ﴿برادي رزقهم﴾ بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكونوا عبيدهم معهم ﴿فيه سواء﴾ وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمشركين في تصييرهم عباد الله شركاء له فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ ﴿أفبنعمة الله يجحدون﴾ حيث يتَّخذون معه شركاء
﴿والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ يعني: النِّساء ﴿وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة﴾ يعني: ولد الولد ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ من أنواع الثِّمار والحبوب والحيوان ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ يعني: الأصنام ﴿وبنعمة الله هم يكفرون﴾ يعني: التَّوحيد
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لهم رزقا من السماوات﴾ يعني: الغيث الذي يأتي من جهتها ﴿والأرض﴾ يعني: النَّبات والثِّمار ﴿شيئاً﴾ أَيْ: قليلاً ولا كثيراً ﴿ولا يستطيعون﴾ لا يقدرون على شيء
﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ لا تشبِّهوه بخلقه وذلك أنَّ ضرب المثل إنَّما هو تشبيه ذاتٍ بذاتٍ أو وصفٍ بوصفٍ والله تعالى منزَّه عن ذلك ﴿أن الله يعلم﴾ ما يكون قبل أن يكون ﴿وأنتم لا تعلمون﴾ قدر عظمته حيث أشركتم به
﴿ضرب الله مثلاً﴾ بيَّن شبهاً فيه بيانٌ للمقصود ثمَّ ذكر ذلك فقال: ﴿عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء﴾ لأنه عاجز مملوكٌ لا يملك شيئاً وهذا مثل ضربه الله لنفسه ولمَنْ عُبِدَ دونه يقول: العاجز الذي لا يقدر أن ينفق والمالك المقتدر على الإِنفاق لا يستويان فكيف يُسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرَّك وبين الله الذي هو على كل شيء قدير وهو رازقُ جميع خلقه ثمَّ بيَّن أنَّه المستحقُّ للحمد دون ما يعبدون من دونه فقال: ﴿الحمد لله﴾ لأنَّه المنعم ﴿بل أكثرهم لا يعلمون﴾ يقول: هؤلاء المشركون لا يعلمون أنَّ الحمد لي لأنَّ جميع النِّعم مني والمراد بالأكثر ها هنا الجميع ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ من الكلام لأنَّه لا يَفْهم ولا يُفهم عنه ﴿وهو كَلٌّ﴾ ثِقْلٌ ووبالٌ ﴿على مولاه﴾ صاحبه وقريبه ﴿أينما يوجهه﴾ يرسله ﴿لا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ لأنَّه عاجزٌ لا يَفهم ما يقال له ولا يُفهم عنه ﴿هَلْ يستوي هو﴾ أَيْ: هذا الأبكم ﴿ومَنْ يأمر بالعدل﴾ وهو المؤمن يأمر بتوجيد الله سبحانه ﴿وهو على صراط مستقيم﴾ دينٍ مستقيمٍ يعني: بالأبكم أُبيَّ بن خلف وكان كلاًّ على قومه لأنَّه كان يؤذيهم ومَن يأمر بالعدل حمزة بن عبد المطلب
﴿ولله غيب السماوات﴾ أَيْ: علم ما غاب فيهما عن العباد ﴿وما أمر الساعة﴾ يعني: القيامة ﴿إلاَّ كلمح البصر﴾ كالنَّظر بسرعةٍ ﴿أو هو أقرب﴾ من ذلك إذا أردناه يريد: إنه يأتي بها في أسرع من لمح البصر إذا أراده
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئاً﴾ أَيْ: غير عالمين ﴿وجعل لكم السَّمْعَ والأبصار﴾ أَيْ: خلق لكم الحواسَّ التي بها يعلمون ويقفون على ما يجهلون
﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ﴾ مذلَّلاتٍ ﴿فِي جوِّ السماء﴾ يعني: الهواء وذلك يدلُّ على مُسخِّرٍ سخَّرها ومدبِّرٍ مكَّنها من التَّصرُّف ﴿ما يُمسكهنَّ إلاَّ الله﴾ في حال القبض والبسط والاصطفاف
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ موضعاً تسكنون فيه ويستر عوراتكم وحرمكم وذلك أنَّه خلق الخشب والمدر والآلة التي يمكن بها تسقيف البيوت ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ﴾ يعني: الأنطاع والأدم ﴿بيوتاً﴾ وهي القباب والخيام ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ يخفُّ عليكم حملها في أسفاركم ﴿ويوم إقامتكم﴾ لا يثقل عليكم في الحالتي ﴿ومن أصوافها﴾ يعني: الضَّأن ﴿وأوبارها﴾ يعني: الإِبل ﴿وأشعارها﴾ وهي المعز ﴿أثاثاً﴾ طنافس وأكسية وبُسطاً ﴿ومتاعاً﴾ تتمتَّعون به ﴿إلى حين﴾ البلى
﴿والله جعل لكم مما خلق﴾ من البيوت والشَّجر والغمام ﴿ظلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ يعني: الغِيران والأسراب ﴿وجعل لكم سرابيل﴾ قمصاً ﴿تقيكم الحر﴾ تمنعكم الحرَّ والبرد فترك ذكر البرد لأنَّ ما وقى الحرَّ وقى البرد فهو معلوم ﴿وسرابيل﴾ يعني: دروع الحديد ﴿تقيكم﴾ تمنعكم ﴿بأسكم﴾ شدَّة الطَّعْن والضَّرب والرَّمي ﴿كَذَلِكَ﴾ مثل ما خلق هذه الأشياء لكم ﴿يتمُّ نعمته عليكم﴾ يريد: نعمة الدُّنيا والخطاب لأهل مكَّة ﴿لعلَّكم تسلمون﴾ تنقادون لربوبيته فتوحِّدونه
﴿فإن تولوا﴾ أعرضوا عن الإِيمان بعد البيان ﴿فإنما عليك البلاغ المبين﴾ وليس عليك من كفرهم وجحودهم شيء
﴿يعرفون نعمة الله ثمَّ ينكرونها﴾ يعني: الكفَّار يُقرُّون بأنَّها كلَّها من الله تعالى ثمَّ يقولون بشفاعة آلهتنا فذلك إنكارهم ﴿وأكثرهم﴾ جميعهم ﴿الكافرون﴾
﴿ويوم﴾ أَيْ: وأنذرهم يوم ﴿نبعث﴾ وهو يوم القيامة ﴿من كلِّ أمة شهيداً﴾ يعني: الأنبياء عليهم السَّلام يشهدون على الأمم بما فعلوا ﴿ثم لا يؤذن للذين كفروا﴾ في الكلام والاعتذار ﴿ولا هم يستعتبون﴾ ولا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله تعالى
﴿وإذا رأى الذين ظلموا﴾ أشركوا ﴿العذاب﴾ النَّار ﴿فلا يخفف عنهم﴾ العذاب ﴿ولا هم ينظرون﴾ يمهلون
﴿وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم﴾ أوثانهم التي عبدوها من دون الله ﴿قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا﴾ وذلك أنَّ الله يبعثها حتى تُوردهم النَّار فإذا رأوها عرفوها فقالوا: ﴿ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول﴾ أَيْ: أجابوهم فقالوا لهم: ﴿إنكم لكاذبون﴾ وذلك أنَّها كانت جماداً ما تعرف عبادة عابديها فيظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا مَن لم يشعر بالعبادة وهذا كقوله تعالى: ﴿سيكفرون بعبادتهم﴾
﴿وألقوا إلى الله يومئذ السلم﴾ استسلموا لحكم الله تعالى ﴿وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون﴾ بطل ما كانوا يأملون من أنَّ آلهتهم تشفع لهم
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون﴾
﴿ويوم نبعث في كلِّ أمَّة شهيداً﴾ وهو يوم القيامة يبعث الله فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴿عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وهو نبيُّهم لأنَّ كلَّ نبيٍّ بُعث من قومه ﴿وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾ على قومك وتمَّ الكلام ها هنا ثمَّ قال: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً﴾ بياناً ﴿لكلِّ شيء﴾ ممَّا أُمر به ونهي عنه
﴿إنَّ الله يأمر بالعدل﴾ شهادة أن لا إله إلاَّ الله ﴿والإِحسان﴾ وأداء الفرائض وقيل: بالعدل في الأفعال والإِحسان في الأقوال ﴿وإيتاء ذي القربى﴾ صلة الرَّحم فتؤتي ذا قرابتك من فضل ما رزقك الله ﴿وينهى عن الفحشاء﴾ الزِّنا ﴿والمنكر﴾ الشِّرك ﴿والبغي﴾ الاستطالة على النَّاس بالظُّلم ﴿يعظكم﴾ ينهاكم عن هذا كلِّه ويأمركم بما أمركم به في هذه الآية ﴿لعلكم تذكرون﴾ لكي تتَّعظوا
﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾ يعني: كلَّ عهدٍ يحسن في الشريعة الوفاء به ﴿ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها﴾ لا تحنثوا فيها بعد ما وكَّدتموه بالعزم ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً﴾ بالوفاء حيث حلفتم والواو للحال
﴿ولا تكونوا كالتي نقضت﴾ أفسدت ﴿غزلها﴾ وهي امرأة حمقاء كانت تغزل طول يومها ثمَّ تنقضه وتفسده ﴿من بعد قوة﴾ الغزل بإمراره وفتله ﴿أنكاثاً﴾ قطعاً وتم الكلام هاهنا ثمَّ قال: ﴿تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم﴾ أَيْ: غشَّاً وخديعةً ﴿أن تكون﴾ بأن تكون أو لأن تَكُونَ ﴿أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ أَيْ: قوم أغنى وأعلى من قوم وذلك أنهم كانوا يحالفون قوماً فيجدون أكثر منهم وأعزَّّ فينقضون حلف أولئك ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزُّ فنُهوا عن ذلك ﴿إنما يبلوكم الله به﴾ أَيْ: بما أمر ونهى ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تختلفون﴾ في الدنيا عن أيمان الخديعة فقال:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عما كنتم تعملون﴾
﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها﴾ تزلّ عن الإِيمان بعد المعرفة بالله تعالى وهذا إنَّما يستحقُّ في نقض معاهدة رسول الله ﷺ على نصرة الدِّين ﴿وتذوقوا السوء﴾ العذاب ﴿بما صَدَدتُم عن سبيل الله﴾ وذلك أنَّهم إذا نقضوا العهد لم يدخل غيرهم في الإِسلام فيصير كأنهم صدُّوا عن سبيل الله وعن دين الله
﴿ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً﴾ لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً من الدنيا ﴿إنما عند الله﴾ أَيْ: ما عند الله من الثَّواب على الوفاء ﴿هو خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ ذلك
﴿ما عندكم ينفد﴾ يفنى وينقطع يعني: في الدُّنيا ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من الثَّواب والكرامة ﴿باق﴾ دائمٌ لا ينقطع ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على دينهم وعمَّا نهاهم الله تعالى ﴿أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ يعني: الطَّاعات وقوله:
﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ قيل هي القناعة وقيل: هي حياة الجنَّة
﴿فإذا قرأت القرآن﴾ أَيْ: إذا أردت أن تقرأ القرآن ﴿فاستعذ بالله﴾ فاسأل الله أن يعيذك ويمنعك ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: حجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الضَّلالة والمعنى: ليس له عليهم سلطان الإِغواء
﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه﴾ يُطيعونه ﴿والذين هم به﴾ بسببه وطاعته فيما يدعوهم إليه ﴿مشركون﴾ بالله
﴿وإذا بدلنا آية﴾ أَيْ: رفعناها وأنزلنا غيرها لنوعٍ من المصلحة ﴿والله أعلم﴾ بمصالح العباد في ﴿بما ينزَّل﴾ من النَّاسخ والمنسوخ ﴿قالوا﴾ يعني: الكفَّار ﴿إنما أنت مفترٍ﴾ كذَّابٌ تقوله من عندك ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ حقيقةَ القرآن وفائدةَ النَّسخ والتَّبديل
﴿قل نزله روح القدس﴾ جبريل عليه السَّلام ﴿من ربك﴾ من كلام ربِّك ﴿بالحق﴾ بالأمر الحقِّ ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما فيه من الحجج والآيات ﴿وهدىً﴾ وهو هدىً
﴿ولقد نعلم أنَّهم يقولون إنما يُعلِّمه﴾ القرآنَ ﴿بشرٌ﴾ يعنون عبداً لبني الحضرمي كان يقرأ الكتب ﴿لسان الذي يلحدون إليه﴾ لغةُ الذي يميلون القول إليه ويزعمون أنَّه يُعلِّمك ﴿أعجميّ﴾ لا يُفصح ولا يتكلَّم بالعربية ﴿وهذا﴾ يعني القرآن ﴿لسان﴾ لغى ﴿عربيّ مبين﴾ أفصح ما يكون من العربيَّة وأبينه ثم أخير أن الكاذبين هم فقال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله﴾ لأنَّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلاَّ الله هذا من قول البشر ثمَّ سمَّاهم كاذبين بقوله: ﴿وأولئك هم الكاذبون﴾
﴿مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه﴾ هذا ابتداء كلام وخبره في قوله: ﴿فعليهم غضب من الله﴾ ثمَّ استثنى المُكره على الكفر فقال: ﴿إلاَّ مَنْ أكره﴾ أَيْ: على التَّلفظ بكلمة الكفر ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صدراً﴾ أَيْ: فتحه ووسَّعه لقبوله
﴿ذلك﴾ الكفر ﴿بأنهم استحبوا الحياة الدنيا﴾ اختاروها ﴿على الآخرة وأنَّ الله﴾ لا يهديهم ولا يريد هدايتهم ثمَّ وصفهم بأنَّهم مطبوعٌ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأنَّهم غافلون عمَّا يُراد بهم ثمَّ حكم عليهم بالخسار وأكد ذلك بقوله:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم وأولئك هم الغافلون﴾
﴿لا جرم﴾ أَيْ: حقَّاً ﴿أنهم في الآخرة هم الخاسرون﴾ المغبونون
﴿ثم إن ربك للذين هاجروا﴾ يعني: المُستضعفين الذين كانوا بمكَّة ﴿من بعد ما فتنوا﴾ أَيْ: عُذِّبوا وأُوذوا حتى يلفظوا بما يرضيهم ﴿ثمَّ جاهدوا﴾ مع النبي ﷺ ﴿وصبروا﴾ على الدِّين والجهاد ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعدها﴾ أَيْ: من بعد تلك الفتنة التي أصابتهم ﴿لغفور رحيم﴾ يغفر لهم ما تلفَّظوا به من الكفر تقيَّة
﴿يوم تأتي﴾ أَيْ: اذكر لهم ذلك اليوم وذكِّرهم وهو يوم القيامة ﴿كلُّ نفس﴾ كلُّ أحدٍ لا تهمُّه إلاَّ نفسه فهو مخاصمٌ ومحتجٌ عن نفسه حتى إنَّ إبراهيم عليه السَّلام ليدلي بالخلَّة ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ أَيْ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ لا يُنْقَصُونَ ثمَّ أنزل الله تعالى في أهل مكَّة وما امتُحنوا به من القحط والجوع قوله تعالى:
﴿وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة﴾ ذات أمنٍ لا يُغار على أهلها ﴿مطمئنة﴾ قارَّةً بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوفٍ أو ضيقٍ ﴿يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان﴾ يُجلب إليها من كلِّ بلدٍ كما قال: ﴿يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء﴾ ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ حين كذَّبوا رسوله ﴿فأذاقها الله لباس الجوع﴾ عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين ﴿والخوف﴾ من سرايا النَّبيِّ ﷺ التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم ﴿بما كانوا يصنعون﴾ من تكذيب النبيِّ ﷺ وإخراجه من مكَّة
﴿ولقد جاءهم﴾ يعني: أهل مكَّة ﴿رسول منهم﴾ من نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه ﴿فكذبوه فأخذهم العذاب﴾ يعني: الجوع
﴿فكلوا﴾ يا معشر المؤمنين ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ من الغنائم وهذه الآية والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحيم﴾
﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ أَيْ: لوصف ألسنتكم الكذب والمعنى: لا تقولوا لأجل الكذب وسببه لا لغيره: ﴿هذا حلال وهذا حرام﴾ يعني: ما كانوا يحلونه ويحرمونه إليه ثمَّ أوعد المفترين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يفلحون﴾
﴿متاع قليل﴾ أَيْ: لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ ثم يردون إلى عذاب أليمٍ
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ من قبل﴾ يعني: في سورة الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية ﴿وما ظلمناهم﴾ بتحريم ما حرَّمنا عليهم ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ بأنواع المعاصي
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ أَيْ: الشِّرك ﴿ثم تابوا من بعد ذلك﴾ آمنوا وصدَّقوا ﴿وأصلحوا﴾ قاموا بفرائض الله وانتهوا عن معاصيه ﴿إن ربك من بعدها﴾ من بعد تلك الجهالة ﴿لغفور رحيم﴾
﴿إنَّ إبراهيم كان أمة﴾ مؤمناً وحده والنَّاس كلُّهم كفَّارٌ ﴿قانتاً﴾ مُطيعاً ﴿لله حنيفاً﴾ لأنَّه اختتن وقام بمناسك الحج وقوله:
﴿شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
﴿وآتيناه في الدنيا حسنة﴾ يعني: الذِّكر والثَّناء الحسن في النَّاس كلِّهم ﴿وإنَّه في الآخرة لمن الصالحين﴾ هذا ترغيبٌ في الصَّلاح ليصير صاحبه من جملة مَنْ منهم إبراهيم عليه السَّلام مع شرفه
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حنيفاً﴾ أمر باتِّباعه فِي مناسك الحجِّ كما علَّم جبريل عليه السَّلام إبراهيم عليه السَّلام
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ وهم اليهود أمروا أن يتفرَّغوا للعبادة في يوم الجمعة فقالوا لا نريده ونريد اليوم الذي فرغ الله سبحانه فيه من الخلق واختاروا السَّبْتَ ومعنى اختلفوا فيه أَيْ: على نبيِّهم حيث لم يطيعوه في أخذ الجمعة فجعل السَّبْتَ عليهم أَيْ: غَلَّظَ وضيَّق الأمر فيه عليهم
﴿ادع إلى سبيل ربك﴾ دين ربِّك ﴿بالحكمة﴾ بالنُّبوَّة ﴿والموعظة الحسنة﴾ يعني: مواعظ القرآن ﴿وجادلهم﴾ افتلهم عمَّا هم عليه ﴿بالتي هي أحسن﴾ بالكلمة اللَّيِّنة وكان هذا قبل الأمر بالقتال ﴿إن ربك هو أعلم﴾ الآية يقول: هو أعلم بالفريقين فهو يأمرك فيهما بما هو الصَّلاح
﴿وإن عاقبتم﴾ الآية نزلت حين نظر النبي ﷺ إلى حمزة وقد مُثِّل به فقال: واللَّهِ لأُمَثِلنَّ بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السَّلام بهذه الآيات فصبر النبي ﷺ وكفَّر عن يمينه وأمسك عمَّا أراد وقوله سبحانه: ﴿ولئن صبرتم﴾ أَيْ: عن المجازاة بالمثلة ﴿لهو﴾ أَيْ: الصَّبر ﴿خير للصابرين﴾ ثمَّ أمره بالصَّبر عزماً فقال:
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ﴾ أَيْ: بتوفيقه ومعونته ﴿ولا تحزن عليهم﴾ على المشركين بإعراضهم عنك ﴿وَلا تَكُ فِي ضيق مما يمكرون﴾ لا يضيق صدرك من مكرهم
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الفواحش والكبائر ﴿والذين هم محسنون﴾ في العمل بالنَّصرة والمعونة
Icon