ﰡ
قدّح الإراحة على السّرح، مع أنها مؤخرة عنها في الواقع، لأن الأنعام وقت الإراحة –وهي ردّها عشاء إلى مَرَاحها- أجمل وأحسن من سَرْحها، لأنها تقبل مالئة البطون، حافلة الضُّروع، متهادية في مشيها، بخلاف وقت سرْحها، وهو إخراجها إلى المرعى.
وحّد الآية في هذه السورة في خمسة( ١ ) مواضع، نظرا لمدلولها.
وجمعها في موضعين( ٢ ) لمناسبة قوله قبلها ﴿ والنّجوم مسخَّرات بأمره ﴾ [ النحل : ١٢ ].
٢ - الأول قوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ الثاني قوله: ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون﴾ آية (١٢ و٧٩)..
إن قلتَ : المراد ب " من لا يخلق " الأصنام، فكيف جيء ب " من " المختصّة بأولي العلم ؟ !
قلتُ : خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سمّوها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم، ونظيره قوله تعالى :﴿ ألهم أرجل يمشون بها ﴾ الآية [ الأعراف : ١٩٥ ].
إن قلتَ : ما فائدة قوله في وصف الأصنام ﴿ غير أحياء ﴾ بعد قوله : " أموات " ؟
قلتُ : فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة، احترازا عن أموات يعقب موتَها حياة، كالنّطف، والبيض، والأجساد الميتة، وذلك أبلغ في موتها، كأنه قال : أموات في الحال، غير أحياء في المآل.
قوله تعالى :﴿ وما يشعرون أيّان يبعثون ﴾ [ النحل : ٢١ ].
إن قلتَ : كيف عاب الأصنام بأنهم لا يعلمون، مع أن المؤمنين كذلك ؟
قلتُ : معناه وما تشعر الأصنام متى تبعث عُبّادها ؟ فكيف تكون آلهة مع الجهل ؟ بخلاف المؤمنين فإنهم يعلمون أنه يوم القيامة.
وأما قوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] فمعناه وزرا لا مدخل لها فيه، ولا تعلّق له بها بتسبّب ولا غيره.
ونظير هاتين الآيتين، سؤالا وجوابا، قوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ﴾ [ العنكبوت : ١٢ ].
وقبلَ ما في الجاثية ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ [ الجاثية : ٢٨ ] ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ [ الجاثية : ٣٠ ] وبعده ﴿ سيئات ما عملوا ﴾ [ الجاثية : ٣٣ ].
وقبل ما في الزمر ﴿ ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾ [ الزمر : ٢٤ ] وبعده ﴿ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ الحجر : ٨٤ ].
٢ - في الزمر: ﴿فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بعجزين﴾ آية (٥١)..
إن قلتَ : هذا يدلّ على أن المعدوم شيء، وعلى أن خطاب المعدوم جائز، مع أن الأول منتف عند أكثر العلماء، والثاني بالإجماع.
قلتُ : أما تسميته " شيئا " فمجاز بالأول، وأما الثاني فلأن ذلك خطاب تكوين، لا خطاب إيجاد( ١ )، فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب، لأنه إنما يكون بالخطاب.
وقال في العنكبوت( ٢ ) :﴿ وليتمتّعوا فسوف يعلمون ﴾ [ العنكبوت : ٦٦ ] باللام والياء، على القياس، إذ هو معطوف على اللام ومدخولها في قوله :﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٦ ] ومدخولها غائب.
٢ - في العنكبوت: ﴿ليكفروا بما آتيناهم وليتمتّعوا فسوف يعلمون﴾ آية (٦٦)..
ترك لفظ " ظهر " هنا، احترازاً عن الجمع بين الظائين : في ظهرها، وظلمهم، بخلافه في فاطر( ١ )، إذ لم يُذكر فيها " بظلمهم ".
فإن قلتَ : الآية تقتضي مؤاخذة البريء، بظلم الظالم، وذلك لا يحسن من الحكيم ؟ !
قلتُ : المراد بالظلم هنا : الكفر، وبالدّابة : الدّابة الظالمة وهي الكافر، كما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقاله في العنكبوت( ١ ) بإثباتها، ليوافق التعبير بها في قوله قبلُ :﴿ ولئن سألتهم من نزّل من السماء ماء ﴾ [ العنكبوت : ٦٣ ].
وأثبتها في قوله في الحج( ٢ ) ﴿ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ﴾ ليوافق التعبير بها قبلُ في قوله :﴿ فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ﴾ الآية [ الحج : ٥ ].
٢ - في الحج: ﴿ومنكم من يُردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا﴾ آية (٥)..
قوله تعالى :﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ﴾ [ النحل : ٧٢ ]. قال هنا بزيادة " هم " وفي العنكبوت( ١ ) بدونها.
لأن ما هنا اتّصل بقوله :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ﴾ إلى آخره، وهو بالخطاب، ثم انتقل إلى الغيبة فقال :﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ﴾ فلو ترك " هم " ( ٢ ) لالتبست الغيبة بالخطاب، بأن تُبدل الياء تاء.
٢ - في المصورة: "فلو ترهم"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبتناه، فلو ترك "هم" لالتبس الأمر..
غلّب فيه من يعقل، على من لا يعقل، فعبّر بالواو والنون، إذ في من يُعبد، من يعقل كالعُزَيْر، والمسيح، ومن لا يعقل كالأصنام، وأفرد " يملك " نظرا إلى لفظ " ما " وجمع ﴿ يستطيعون ﴾ نظرا إلى معناها( ١ )، كما قال تعالى :﴿ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ﴾ [ الزخرف : ١٢، ١٣ ].
فإن قلتَ : ما فائدة نفي استطاعة الرزق، بعد نفي ملكه ؟ !
قلتُ : ليس في " يستطيعون " ضمير مفعول هو الرّزق، بل الاستطاعة منفيّة عنهم مطلقا، في الرّزق وغيره، وبتقدير أن فيه ضميرا، لا يلزم من نفي الملك نفي استطاعته، لجواز بقاء الاستطاعة على اكتساب الملك، بخلاف هؤلاء، فإنهم لا يملكون، ولا يستطيعون أن يملكوا ! !
فائدة ذكره " مملوكا " بعد قوله " عبدا " الاحتراز عن الحُرّ، فإنه عبد الله تعالى، وليس مملوكا لغيره، وفائدة ﴿ لا يقدر على شيء ﴾ بعد قوله : " مملوكا " الاحتراز عن المأذون له، والمكاتَب، لقدرتهما على التصرف استقلالا.
قوله تعالى :﴿ هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ النحل : ٧٥ ].
إن قلتَ : لم جمع ولم يُثنِّ، مع أن المضروب به المثل اثنان : مملوك، ومن رزقه الله رزقا حسنا ؟ !
قلتُ : جُمع باعتبار جنسي المماليك، والمالكين.
أو نظرا إلى أن أقلّ الجمع اثنان( ١ ).
إن قلتَ : " أو " للشك، وهو على الله مُحال، فما معنى ذلك ؟
قلتُ : " أو " هنا بمعنى الواو، أو للشك بالنسبة إلينا، أو بمعنى " بل " ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وأرسلناه إلى مائة أو يزيدون ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ]، وقوله :﴿ فهي كالحجارة أو أشد قسوة... ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] وأورد على الأخير أن " بل " للإضراب( ١ )، وهو رجوع عن الإخبار، وهو على الله محال.. ويُجاب بمنع أنه مُحال، بناء على جواز وقوع النسخ في الأخبار، وهو جائز عند الأشاعرة مطلقا، خلافا للمعتزلة فيما لا يتغيّر.
وخصّ الحرّ، والخير بالذكر( ١ )، لأن الخطاب بالقرآن أول ما وقع بالحجاز، والوقاية من الحرّ، أهمّ عند أهله، لأن الحرّ عندهم أشد من البرد، والخير مطلوب العباد من ربهم، دون الشرّ.
إن قلتَ : بل وكلّهم كافرون ؟ !
قلتُ : المراد بالأكثر هنا الجمع.
إن قلتَ : ما فائدة قولهم ذلك، مع أنه تعالى عالم بهم ؟ !
قلتُ : لما أنكروا الشّرك بقولهم :﴿ والله ربّنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] عاقبهم الله بإصمات ألسنتهم، وأنطق جوارحهم( ١ )، فقالوا عند معاينة آلهتهم :﴿ ربنا هؤلاء شركاؤنا ﴾.
فأقرّوا بعد إنكارهم طلبا للرحمة، وفرارا من الغضب، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب، لا على وجه إعلام من لا يعلم، أو أنهم لما عاينوا عظيم غضب الله، قالوا ذلك رجاء أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم، فيخفّ عنهم العذاب.
قوله تعالى :﴿ فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ﴾ [ النحل : ٨٦ ].
" فألقوا " أي الشركاء كالأصنام ﴿ إليهم القول ﴾ فُسّر القول بقوله :﴿ إنكم لكاذبون ﴾ أي في قولكم : إنكم عبدتمونا !.
فإن قلتَ : لم قالت الأصنام للمشركين ذلك، مع أنهم كانوا صادقين فيه ؟ !.
قلتُ : قالوه لهم لتظهر فضيحتهم، حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم.
فإن قلت : كيف أثبت للأصنام نُطقا هنا، ونفاه عنه في قوله في الكهف :﴿ فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ﴾ ؟ ! [ النحل : ٨٦ ].
قلتُ : المثبت لهم هنا، النّطق بتكذيب المشركين، في دعوى عبادتهم لها، والمنفيّ عنها في الكهف النّطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم، ودفع العذاب عنهم، فلا تنافي.
إن قلتَ : إذا كان كذلك، فكيف اختلفت الأئمة في كثير من الأحكام ؟ !
قلتُ : لأن أكثر الأحكام ليس منصوصا( ١ ) عليه فيه، وبعضها مستنبط منه، وطرق الاستنباط مختلفة، فبعضها بالإحالة إما على السنة، بقوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ الحشر : ٧ ] وقوله :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ [ النجم : ٣ ] أو على الإجماع بقوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ] والاعتبار : النّظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.
قاله هنا بلفظ " ما " وفي الزمر بلفظ " الذي " موافقة في كل منهما لما قبله، إذ قبل ما هنا ﴿ إنما عند الله هو خير لكم ﴾ [ النحل : ٩٥ ] وقوله ﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ﴾ [ النحل : ٩٦ ] وقبل ما هناك ﴿ أسوأ الذي كانوا يعملون ﴾ [ فصلت : ٢٧ ] وقوله ﴿ والذي جاء بالصدق ﴾ [ الزمر : ٣٣ ].
إن قلتَ : ما معنى إضافة النفس إلى النفس، مع أن النفس لا نفس لها ؟
قلتُ : النفس تقال للروح، وللجوهر القائم بذاته، المتعلق بالجسم، تعلّق التدبير، ولجملة الإنسان، ولعين الشيء وذاته، كما يقال : نفس الذهب والفضّة محبوبة أي ذاتهما.
فالمراد بالنفس الأولى الإنسان، والثانية ذاته، فكأنه قال : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمّه شيء آخر غيره، كل يقول : نفسي، نفسي.
قاله هنا بحذف النون، وفي النمل( ١ ) بإثباتها، تشبيها لها بحروف العلّة، وخصّ ما هنا بحذفها موافقة لقوله قبل ﴿ قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] ولسبب نزول هذه الآية، لأنها نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين قُتل عمّه " حمزة " ومُثِّل به، فقال صلى الله عليه وسلم : لأفعلنّ بهم ولأصنعنّ، فأنزل الله تعالى :﴿ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾ الآية [ النحل : ١٢٦ ]، فبالغ في الحذف، ليكون ذلك مبالغة في التسلية، وإثباتها في النمل، جاء على القياس، ولأن الحزن ثَمَّ، دون الحزن هنا.