بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل﴿ مائة وثمان وعشرون آية ﴾
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن عبد الله. وروي عن ابن عباس وأبي الزبير أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحد وهي قوله تعالى :﴿ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ﴾ إلى قوله :﴿ تعملون ﴾ وقال قتادة هي مكية إلا خمس آيات وهي قوله :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ﴾ وقوله :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ﴾ وقوله :﴿ وإن عاقبتم ﴾ إلى آخر السورة. وزاد مقاتل قوله :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه ﴾ الآية ﴿ وضرب الله مثلا قرية ﴾. وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية. والأول أولى وتسمى هذه سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم.
ﰡ
وقيل أن المراد بالأمر حكمه بذلك وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود وقيل المراد بإتيانه إتيان مباديه ومقدماته، وقال الضحاك: يعني الأحكام والحدود والفرائض.
(فلا تستعجلوه) أي فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت فإنه واقع لا محالة ولا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه، وقد كان المشركون يستعجلون العذاب كما قال النضر بن الحرث (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية. والمعنى قَرَب أمر الله فلا تستعجلوه
(سبحانه وتعالى عما يشركون) أي تنزه الله وترفع عن إشراكهم أو عن أن يكون له شريك، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب وقيام الساعة استهزاء وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك وإنه عاجز عنه، والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق لا من صفات الخالق فكان ذلك شركاً.
وهذه الجملة تنازع فيها العاملان، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة تحقيراً لشأنهم وحطاً لدرجتهم عن رتبة الخطاب، وفي قراءة سبعية بالتاء وما مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أو موصولة كما قاله السمين، أي عما يشركونه به و (ما) عبارة عن الأصنام.
فالتعبير بالروح عن الوحي على طريق الاستعارة التصريحية بجامع أن الروح به إحياء البدن والوحي به إحياء القلوب من الجهالات. وقيل المراد أرواح الخلائق وقيل الرحمة وقيل الهداية لأنها تحيا بها القلوب كلما تحيا الأبدان بالأرواح قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره.
وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل، ويكون الباء على هذا بمعنى مع.
وعن ابن عباس قال: الروح أمر من أمر الله وخلق من خلق الله وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من
بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته.
(أن أنذروا) قال الزجاج أي ينزلهم بأن أنذروا أو المعنى بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس. وعبارة البيضاوي وأن مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الدال على القول أو مصدرية في موضع الجر بدلاً من الروح، أو النصب بنزع الخافض أو مخففة من الثقيلة.
(أنه لا إله إلا أنا) أي مروهم بتوحيدي واعلموهم ذلك مع تخويفهم لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً والضمير في أنه للشأن (فاتقون) رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود، والخطاب للمستعجلين على طريق الالتفات وهو تحذير لهم من الشرك بالله والفاء فصيحة.
وفي الشهاب إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول فاتقون في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة؛ وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى، وهذا متفرع عليها انتهى. وفيه تنبيه على الأحكام الفرعية بعد التنبيه على الأحكام العلمية بقوله أنه لا إله إلا الله، فقد جمعت هذه الآية بين الأحكام الأصلية والفرعية.
ثم إنه سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد فقال
ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدمه وخصه بالذكر فقال
(فإذا هو) بعد خلقه على هذه الصفة (خصيم) كثير الخصومة والمجادلة والمعنى أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته (مبين) ظاهر الخصومة وواضحها، وقيل يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) قيل نزلت في أبىّ بن خلف والأولى أنها عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة فإنه لا اعتبار بخصوص السبب إذا اقتضى المقام العموم كما تقرر.
قال الكرخي أن هذه ذكرت لتقرير الاستدلال على وجود الصانع الحكيم لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الغي والكفر.
ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع والامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها فقال
ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم، قال الواحدي تم الكلام عند هذا ثم ابتدأ فقال (لكم فيها دفء) ويجوز أن يكون تمامه عند قوله لكم. والأول أولى وأحسن والدفء السخانة وهو ما
(ومنافع) أي ما ينتفعون به من الأطعمة والأشربة، قاله ابن عباس وهي درها وركوبها ونتاجها والحراثة ونحو ذلك، وقد قيل أن الدفء النتاج واللبن قال في الصحاح الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال والدفء أيضًا السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأول فلا بد من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها وأن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً، وقيل المراد بالمنافع النتاج خاصة، وقيل الركوب.
(ومنها) أي من لحومها وشحومها (تأكلون) وخص هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل وغيره نادر فالأكل من غيرها كالدجاج والبط والأوز وصيد البر والبحر يجري مجرى التفكه به، وقيل تقديم الظرف للفاصلة لا للحصر.
ولما كانت منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل قدمه على الأكل
يقال سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً إذا غدوت بها إلى المرعى وقدم الإراحة على التسريح مع أنه خلاف الواقع لأن منظرها عند الإراحة أجمل وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب
وخص هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب، وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في هذا الوقت فإنه يسمع للإبل رغاء وللبقر خوار وللشياه ثغاء يجاوب بعضها بعضاً.
قال الجوهري: الشق المشقة، ومنه قوله تعالى (إلا بشق الأنفس) وحكى أبو عبيدة فتح الشين وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً والمكسور بمعنى النصف، يقال أخذت شق الشاة وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بذهاب نصف الأنفس من التعب.
قد امتن الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم ثم خص الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعم العام أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس، قال ابن عباس: لو تكلفتموه لم تطيقوه إلا بجهد شديد (إن ربكم لرءوف رحيم) حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.
ثم علَّل سبحانه خلق هذه الأنواع الثلاثة بقوله (لتركبوها) وهذه العلّة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها (وزينة) عطف على محل لتركبوها لأنها في محل نصب على أنه علة لخلقها، ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها، لأن الركوب فعل المخاطبين والزينة فعل الزائن وهو الخالق.
والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال خلقتها لتركبوها فتدفعوا بواسطتها عن أنفسكم ضرر الإعياء والمشقة، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل
وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين وغيرهم إلى حل لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، ولا حجة لأهل القول الأول في التعليل بقوله لتركبوها، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب.
وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدمنا أن هذه السورة مكيّة.
والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال، وقد أوضح الشوكاني هذه المسألة في مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت: نحرنا على عهد رسول الله ﷺ فرساً فأكلناه (١).
وأخرج أبو عبيد وابن شيبة والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله ﷺ لحوم
_________
(١) مسلم ١٩٤٢ البخاري/٢٢٠٢.
وثبت أيضًا في الصحيحين من حديث جابر قال: نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في الخيل (٢).
وأما ما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام وفيه مقال، ولو فرضنا أن الحديث صحيح لم يقو على معارضة أحاديث الحل، على أنه يمكن أن هذا الحديث المصرح بالتحريم متقدم على يوم خيبر فيكون منسوخاً.
(ويخلق مالا تعلمون) من الأشياء العجيبة والغريبة مما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدده هاهنا، وقيل المراد من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوه، وقيل هو ما أعده الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر وقيل هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه؛ وقيل عين تحت العرش وقيل نهر من النور وقيل أرض بيضاء.
ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لم يعلم به العباد ولا يأتي عليه الحصر والعد.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ " إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء، ثم ساق من أوصافها ما يدل
_________
(١) الترمذي كتاب الصيد باب ٩ - أبو داوود كتاب الأطعمة باب ٢٥.
(٢) مسلم ١٩٤١ - البخاري ١٩٠٩.
(ومنها) الضمير راجع إلى السبيل بمعنى الطريق لأنها تذكر وتؤنث أو لأنها في معنى سبل فأنِّث على معنى الجمع؛ وقيل راجع إليها بتقدير مضاف أي ومن جنس السبيل (جائر) مائل عن الحق والجور العدول عن الاستقامة، وقيل أن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق أي عادل عنه فلا يهتدي إليه، قيل وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل أهل الملل الكفرية. فقصد السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر.
وقيل قصد السبيل السنة المطهرة والجائر البدع المحدثة المضلة. قال ابن عباس: على الله أن يبين الهدى والضلالة ومنها جائر، قال السبل المتفرقة، وقال قتادة: وعلى الله بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته ومنها جائر، قال من السبل ناكب عن الحق. وعن عليّ كان يقرأ ومنكم جائر.
(ولو شاء لهداكم أجمعين) أي ولو شاء أن يهديكم جميعاً هداية موصلة إلى الطريق الواضح الصحيح والمنهج الحق الصريح لفعل ذلك ولكنه لم يشأ بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها كما قال وهديناه النجدين، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين وقد اقتضت المشيئة الربانية بكون البعض مؤمناً والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.
قال الزجاج: كل ما نبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل الشجر كل ما له ساق لقوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز.
(فيه تسيمون) أي في الشجر ترعون مواشيكم، يقال سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة، واسمتها أي أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم الإبعاد في المرعى، قال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها.
وهذه الآية مبنية على مكارم الأخلاق، وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بنفسه. وأما الآية الأخرى (كلوا وارعَوا أنعامكم) فمبنية على قوله ﷺ " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول "
ثم أشار إلى سائر الثمرات إجمالاً فقال (ومن كل الثمرات) كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله ويخلق ما لا تعلمون ومن تبعيضية إذ كلها إنما يوجد في الجنة وما أنبتت الأرض بعض من كلها للتذكرة.
(إن في ذلك) الإنزال والإنبات (لآية) عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرد بالربوبية (لقوم يتفكرون) في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته، وقد ذكر لفظ الآية في هذه السورة سبع مرات خمس بالإفراد واثنتان بالجمع قال الكرماني: ما جاء الإفراد فلوحدة المدلول وهو الله تعالى، وما جاء منها بلفظ الجمع فلمناسبة مسخرات انتهى.
وختم هذه الفاصلة بالتفكر لأن النظر في ذلك يعني إنبات النبات بالماء يحتاج إلى مزيد تأمل واستعمال فكر، ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان مع رطوبة الأرض فإنها تنتفخ وينشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها تغوص منه عروق في الأرض ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطباع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع.
ومن تفكر في ذلك علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلاً عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة تعالى عن ذلك علواً كبيراً ذكره الخازن وأبو السعود.
_________
(١) وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتبه فوائد جمة للزيتون.
(إن في ذلك) التسخير وما بعده (لآيات لقوم يعقلون) أي يعملون عقولهم في هذه الآيات الدالة على وجود الصانع وتفرده وعدم وجود شريك له وختم الفاصلة الثانية بالعقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، وجمع الآيات ليطابق قوله مسخرات، وقيل أن
(إن في ذلك) التسخير لهذه الأمور مع اختلاف طبائعها وأشكالها مع اتحاد موادها (لآية) واضحة (لقوم يذكرون) فإن من تذكر اعتبر ومن اعتبر استدل على المطلوب، قيل وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة، وخص الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالواحدانية فلا عقل له، وخص الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له، وفي هذا من التكلف ما لا يخفى.
والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدم في أفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر، وبيانه أن كُلاًّ من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات ظاهرة غير خفية فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة.
ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال (لتأكلوا منه لحماً طرياً) المراد به السمك ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة، قال قتادة: يعني حيتان البحر، وقال السدي: وما فيه من الدواب وبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود وبه قوام البدن.
وتسميته لحماً هو مذهب المالكية بخلاف الشافعية والحنفية وعلى هذا فلو حلف لا يأكل لحماً لا يحنث بأكل السمك ولإظهار قدرته في خلقه عذباً طرياً في ماء ملح؛ والطراوة ضد اليبوسة أي غضا جدداً؛ ويقال طريت كذا أي جددته وأطريت فلانا مدحته بأحسن ما فيه ويقال بالغت في مدحه وجاوزته.
(وتستخرجوا منه) أي من البحر وهو الملح فقط (حلية) أي لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) والحلية اسم لما يتحلى به واصلها الدلالة على الهيئة كالعمة وفي المصباح حلى الشيء بعيني وبصدري من باب تعب حلا وحسن عندي وأعجبني، وحليت المرأة حلياً ساكن اللام لبست الحلي وجمعه حلي، والأصل على فعول مثل فلس وفلوس والحلية بالكسر الصفة والجمع حلى مقصور وتضم الحاء وتكسر وحلية السيف زينته.
قال ابن فارس: ولا تجمع وتحلت المرأة لبست الحلي أو اتخذته وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي أو اتخذته لها لتلبسه وحليت السويق جعلت فيه شيئاً حلواً حتى حلا.
وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة فإن ذلك ممنوع قد ورد الشرع بمنعه من جهة كونه تشبهاً بهن لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان؛ وعن أبي جعفر قال: ليس في الحلي زكاة ثم قرأ هذه الآية أخرجه أبي شيبة.
أقول وفي هذا الاستدلال نظر والذي ينبغي التعويل عليه إن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها.
(وترى الفلك مواخر فيه) أي ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدورها، قال عكرمة ومخر السفينة شقها الماء بصدرها، قال الجوهري: مخر السابح إذا شق الماء بصدره ومخر الأرض شقها للزراعة، وقيل مواخر جواري قاله ابن عباس وأصل المخر الجري.
في المختار مخرت السفينة من باب قطع ودخل إذا جرت تشق الماء مع صوت وقيل معترضة، وقيل تذهب وتجيء، قال الضحاك: السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة وقيل مواقر أي مملوءة متاعاً وقال أبو عبيدة: صوائح وقيل ملججة (١) قال ابن جرير: الماخر في اللغة صوت هبوب الريح عند شدتها ولم يقيد بكونه في الماء.
(ولتبتغوا من فضله) أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا أو فعل ذلك لتبتغوا
_________
(١) يقال لججت السفينة أي خاضت اللجة أهـ صحاح.
ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كونه فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.
ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى فقال
(و) جعل فيها (أنهاراً) لأن الإلقاء هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله (وألقيت عليك محبة مني) وذكر الأنهار عقب الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال قال السيوطي كالنيل ولم يذكر في المثال غير هذا لأنه من أهل مصر.
(و) جعل فيها (سبلاً) وأظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان وهي الطرق، وقال السدي: هي الطرق في الجبال (لعلكم تهتدون) بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون أو إلى توحيد ربكم.
(وبالنجم) المراد به الجنس (هم يهتدون) به في سفرهم ليلاً؛ وقرأ ابن وثاب وبالنجم بضمتين والمراد النجوم فقصره أو هو جمع نجم كسقف وسقف وقيل المراد بالنجم هنا الجدي والفرقدان، قاله الفراء. وقيل الثريا وبنات نعش وقيل العلامات الجبال، وقيل هي النجوم لأن من النجوم ما يهتدى به ومنها علامة لا يهتدى بها.
وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار، وقيل هو الاهتداء إلى القبلة، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك.
قال الأخفش: تم الكلام عند قوله (وعلامات) وقوله (وبالنجم) الخ كلام منفصل عن الأول.
قال السدي: علامات النهار الجبال وعلامات الليل النجوم. وقال ابن عباس: معالم الطرق بالنهار الجبال ويهتدون بالنجم بالليل، قال قتادة: إنما
ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال
وأطلق عليها لفظ (من) إجراء لها مجرى أولي العلم جرياً على زعمهم بأنها آلهة أو مشاكلة لقوله (أفمن يخلق) لوقوعها في صحبته أو هو من عكس التشبيه. وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكاً لخالقه، تعالى الله عما يشركون.
(أفلا تذكرون) مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرد التذكر لها لا يحتاج إلى دقيق الفكر والنظر، قال قتادة في الآية: الله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئاً، ولا تملك لأهلها ضراً ولا نفعاً.
ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم قال
قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل
يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظم نعمك معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشيء منها لا تحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا واغفر لنا واسبل ذيول سترك على عوراتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرد التقصير في شكر نعمك فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك، وما أحسن ما قال من قال:
العفو يرجى من بني آدم | فكيف لا يرجى من الرب |
ثم بين لعباده أنه عالم بجميع ما يصدر منهم لا يخفى عليه خافية فقال
ثم شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله كمن لا يخلق عاجزة عن أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال
(وهم يُخلقون) أي وصفهم أنهم يخلقون فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؛ ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال بخلاف قوله (أفمن يخلق كمن لا يخلق) فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال.
ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهمٍ فقال
وقيل قد تم الكلام عند قوله (وهم يخلقون) ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل، وأيان بفتح الهمزة وكسرها لغتان.
وفي الآية قول آخر وهو أن أيان ظرف لقوله
ولما زيف سبحانه طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر وهو وحدانيته سبحانه وهو نتيجة ما قبله، ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) جاحدة للوحدانية لا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير (وهم مستكبرون) عن قبول الحق متعظمون عن الإذعان للصواب مستمرون على الجحد.
وقوله (إن الله) فاعل لا جرم وقد مر تحقيق الكلام في لا جرم بأبسط من هذا قال أبو مالك لا جرم، يعني الحق، وقال الضحاك لا كذب (يعلم ما يسرون) من أقوالهم وأفعالهم (وما يعلنون) من ذلك (إنه لا يحب المستكبرين) أي لا يحب هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدم.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، فقال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؛ فقال: " إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر من بطر الحق وغمطُ الناس " (١).
_________
(١) مسلم ٩١.
قال العلماء؛ كل ذنب يمكن ستره وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان وهو أصل العصيان كله، وفي الحديث الصحيح " أن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم " (١) أو كما قال ﷺ " تصغر لهم أجسامهم في المحشر حين يضرهم تصغيرها وتعظم لهم في النار حين يضرهم عظمها " ذكره القرطبي.
والحاصل أن النبي ﷺ قد بينَّ ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمط الناس، فهذا هو الكبر المذموم، وقد ساق صاحب الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها، بل المقام مقام ذكر ما له علاقة بتفسير الكتاب العزيز. ثم شرع في ذكر شيء من قبائح المشركين فقال
_________
(١) الترمذي كتاب القيامة باب ٤٧ - الإمام أحمد ٢/ ١٧٩.
وقيل القائل هو من يفد عليهم أو بعضهم لبعض، وقيل القائل
وقيل هو كلام مستأنف أي ليس ما تدعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأولين، والأساطير الأباطيل والترهات التي يتحدث الناس بها عن القرون الأولى وليس من كلام الله في شيء ولا مما أنزله أصلاً في زعمهم، وهي جمع أسطورة كأحاديث وأضاحيك وأعاجيب جمع أحدوثة وأضحوكة وأعجوبة.
قال الرازي في الآية: وهذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. (ومن أوزار الذين يضلونهم) أي ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم لأن " من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها " (١) كما ورد في
_________
(١) مسلم ١٠١٧.
(بغير علم) حال من الفاعل والمعنى أن الرؤساء يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام، وقيل إنه حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال قاله الزمخشري وعليه جرى القاضي وفائدتها الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم إذ كان عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين الحق والباطل ولا يقنعوا بالتقليد البحت العمى.
ورجح الأول بأنه من المحدث عنه والمسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية والمعنى أنهم يقدمون على الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلته ومثل هذه الآية قوله (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وقوله (ولنحمل خطاياكم).
وقد تقدم في الأنعام الكلام على قوله (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فمعناه وزراً لا مدخل لها فيه ولا تعلق له بها بتسبب ولا غيره، قال ابن عباس: يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم، وعن مجاهد نحوه وزاد لا يخفف ذلك عمن أطاعكم من العذاب شيئاً.
(ألا ساء ما يزرون) أي بئس شيئاً يزرونه ويحملونه، وفي ذلك وعيد وتهديد لهم، ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدمين فقال:
والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين الماكرين الذين يحاولون إلحاق الضر بالمحقين المؤمنين، ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له ﷺ بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم.
(فأتى الله) أي أتى أمر الله وهو الريح التي أخربت (بنيانهم) قال المفسرون أرسل الله ريحاً فألقت رأس الصرح في البحر وخر عليهم الباقي بالزلزلة من أسفله فأهلكهم وهم تحته (من القواعد).
قال الزجاج: أي من الأساطين، وقيل من أصوله وأساسه بكسر الهمزة جمع أس وأما بالفتح فجمعه أسس بضمتين قيل لما سقط تبلبلت ألسن الناس بالفزع فتكلموا يومئذ بثلاث وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل.
وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية هكذا ذكره البغوي وفي هذا نظر لأن صالحاً كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية، وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم كل هؤلاء عرب، والمعنى أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها.
(فخرَّ عليهم السقف) بفتح السين وضمها مع سكون القاف وبضمها وضم القاف أي أنه سقط عليهم السقف لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها قال ابن الأعرابي وإنما قال (من فوقهم) ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته والعرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان
وقد اختلف في هؤلاء الذين خرَّ عليهم السقف فقيل هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح، قاله ابن عباس، وعن مجاهد نحوه، وقيل أنه بختنصر وأصحابه، وقيل هم المقتسمون الذين تقدم ذكرهم في سورة الحجر.
وقيل المعنى على العموم يعني أنهم لما رتبوا منصوبات ليمكروا بها على أنبياء الله وأهل الحق من عباده أهلكهم الله وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنياناً وثيقاً شديداً ودعموه بالأساطين فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم فأهلكهم، فهو مثل ضربه لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره ومنه المثل السائر على ألسنة الناس من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه، وهذا ما اختاره القاضي كالكشاف، والأول أولى، ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال قتادة: أتاها أمر الله من أصلها فخرَّ عليهم السقف من فوقهم والسقف أعالي البيوت فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم.
(وأتاهم العذاب) أي الهلاك (من حيث لا يشعرون) به بل من حيث أنهم في أمان لا يخطر العذاب ببالهم.
ثم بينَ سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا فقال
ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله (الذين كنتم تشاقون) قرأ نافع بكسر النون على الإضافة والباقون بفتحها أي تخاصمون الأنبياء والمؤمنين (فيهم) والمعنى على قراءة الكسر تخاصمونني وتعادونني وتخالفونني، وقد ضعف أبو حاتم هذه القراءة والمشاقة عبارة عن كون كل واحد من الخصمين في شق غير شق صاحبه والمعنى ما لهم لا يحضرون معكم ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم.
(قال الذين أوتوا العلم) وهم في الموقف قيل هم العلماء قالوا لأممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إلى وعظهم وكان هذا القول منهم على طريق الشماتة وقيل هم الأنبياء، وقيل الملائكة والظاهر الأول لأن ذكرهم بوصف العلم يفيد وصف يذكرون به هو أشرف من هذا الوصف وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق لأن المراد الاستدلال على الظهور فقط.
(فألقوا السلم) أي أقروا بالربوبية وانقادوا عند الموت ومعناه الاستسلام قاله قطرب، وقيل معناه المسالمة أي سالموا وتركوا المشاقة قاله الأخفش، وقيل معناه الإسلام أي أقروا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر (ما كنا نعمل من سوء) تفسير للسَّلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه.
ويجوز أن يكون المراد بالسوء هنا الشرك ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب أو من شدة الخوف ومن لم يجوّز الكذب على أهل القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءاً في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم، ومثله قوله (والله ربنا ما كنا مشركين).
فلما قالوا هذا أجاب عليهم أهل العلم بقولهم (بلى) كنتم تعملون السوء (إن الله عليم بما) أي بالذي (كنتم تعملون) فيجازيكم عليه ولا ينفعكم هذا الكذب شيئاً. وقال عكرمة عنى بذلك ما حصل من الكفار يوم بدر.
(خالدين فيها) حال مقدرة لأن خلودهم مستقبل (فلبئس مثوى
ثم اتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء فقال
والمعنى للذين أحسنوا أعمالهم بالإيمان في الدنيا مثوبة حسنة مضاعفة من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة. وقال قتادة: أحسنوا أي آمنوا بالله وكتبه ورسله، وأمروا بطاعة الله وحثوا عباد الله على الخير ودعوهم إليه.
قال الضحاك: هي النصر والفتح، وقال مجاهد: هي الرزق الحسن. وقيل الحياة الطيبة وهي استحقاق المدح والثناء أو فتح أبواب المشاهدات والمكاشفات. قاله الكرخي.
(ولدار الآخرة) أي مثوبتها وهي الجنة (خير) مما أوتوا في الدنيا (ولنعم دار المتقين) دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه
(يدخلونها) أي تلك الجنات ولا يرحلون عنها ولا يخرجون منها (تجري من تحتها) أي من تحت دور أهلها وقصورهم ومساكنهم (الأنهار لهم فيها) أي في الجنات (ما يشاءون) أي ما يقع عليه مشيئتهم صفواً عفواً يحصل لهم بمجرد ذلك، وهذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة، وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريد في الدنيا.
(كذلك) أي الأمر كذلك أو مثل ذلك الجزاء (يجزي الله المتقين) المراد بهم كل من يتقي الشرك وما يوجب النار من المعاصي
وقال مجاهد: طيبين أحياء وأمواتاً قدر الله لهم ذلك، أو فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس وقيل طيبين كلمة جامعة لكل معنى حسن حملاً لها على العموم فدخل فيه جميع ما ذكر.
(سلام عليكم) معناه يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون السلام إنذاراً لهم بالوفاة.
الثاني: أن يكون تبشيراً لهم بالجنة لأن السلام أمان، وفي الكرخي يقولون لهم عند الموت سلام عليكم أي لا يلحقكم بعد مكروه، فهي حال مقارنة.
واستشهد له في الدر المنثور بما أخرجه مالك وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ونحوه في الكشاف وقال أبو حيان: الظاهر أن السلام إنما هو في الآخرة، ولذلك جاء بعده ادخلوا الجنة فهو من قول خزنة الجنة، وعليه فهي حال مقدرة.
(ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) أي بسبب عملكم، قيل يحتمل هذا وجهين الأول: يكون تبشيراً بدخول الجنة عند الموت، والثاني: أن يكون ذلك لهم في الآخرة. ولا ينافي هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح " سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله "، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " (١) وقد قدمنا البحث عن هذا.
_________
(١) مسلم ٢٨١٨ ومن لفظ اعملوا وفي آخر أبشروا بدل اعملوا - البخاري ٢٤٢٧.
ويحتمل أن يقال أنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله بقوله: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم (أو يأتي أمر ربك) أي عذابه في الدنيا المستأصل لهم، أو المراد بأمر الله القيامة، والمراد بكونهم ينظرون أنهم ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر إنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب وصار منتظراً له.
وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدقونه قيل أو مانعه خلو فإن كلاًّ من الموت والعذاب يأتيهم، وإن اختلف الوقت. وإنما عبر بأو دون الواو إشارة إلى كفاية كل واحد من الأمرين في تعذيبهم كما أفاده أبو السعود.
(كذلك) أي مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء (فعل الذين من قبلهم) من طوائف الكفار فأتاهم أمر الله فهلكوا (وما ظلمهم الله) بتدميرهم بالعذاب فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بما ارتكبوه من القبائح وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما يؤول إليه
(نحن) تأكيد لضمير عبدنا لا لتصحيح العطف لوجود الفواصل وإن كان محسناً له (ولا آباؤنا) الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من الكفر والشرك بالله.
قال الزجاج: أنهم قالوا هذا على وجه الاستهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين انتهى. وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام.
(ولا حرّمنا من دونه من شيء) من السوائب والوصائل والبحائر ونحوها ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة، أي لو كان ما قاله الرسول حقاً من المنع من عبادة غير الله والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكياً ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فأنه قد شاء الله ذلك وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه،
(كذلك فعل الذين من قبلهم) من طوائف الكفر فإنهم أشركوا بالله وحرموا ما لم يحرمه وجادلوا رسلهم بالباطل واستهزؤوا بهم ثم قال (فهل على الرسل) الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من الشرائع التي رأسها توحيده وترك الشرك به (إلا البلاغ المبين) إلى من أرسلوا إليهم، بما أمروا بتبليغه بلاغاً واضحاً يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم والبلاغ مصدر بمعنى الإبلاغ ثم إنه سبحانه أكد هذا وزاده إيضاحاً فقال:
(واجتنبوا الطاغوت) أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال وهو من الطغيان يذكر ويؤنث، ويقع على الواحد كقوله يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به وعلى الجمع كقوله تعالى أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم، والجمع طواغيت والتقدير واجتنبوا عبادتها فالكلام على حذف المضاف.
(فمنهم) أي فمن هذه الأمم التي بعث الله إليها برسله (من هدى الله) أي أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت فآمن (ومنهم من حقت عليه الضلالة) أي وجبت وثبتت بالقضاء السابق في الأزل لإصراره على الكفر والعناد فلم يؤمن.
قال الزجاج: إعلم أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة وهو من وراء
وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته واجتناب الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلال، وأنهم بعد ذلك فريقان فمنهم من هدى ومنهم من حقت عليه الضلالة فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلا البعض إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا.
(فسيروا في الأرض) سير المعتبرين المتفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك وفي الفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) رسلهم من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود أي كيف ما آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان بالعذاب.
ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وآله وسلم مؤكداً لما تقدم فقال
وفي السمين قراءة العامة إن تحرص بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي اللغة العالية لغة الحجاز وقرئ بكسر الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة لبعضهم.
(فإن الله) تعليل للجواب (لا يهدي من يضل) قرئ يهدي بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه أي فإن الله لا يرشد من أضله وقرئ بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول على أنه لا يهديه هاد كائناً من كان وهما سبعيتان، فهذه الآية كقوله في الآية الأخرى
قال النحاس: حكى عن المبرد معنى لا يهدي من يضل من علم ذلك منه وسبق له عنده (وما لهم من ناصرين) ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ومن زائدة.
ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال
(جهد أيمانهم) أي جاهدين غاية اجتهادهم فيها وذلك أنهم كانوا يقسمون بآياتهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيماً أقسموا بالله، والجهد بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة وانتصابه على المصدرية وظاهره أنه استئناف إخبار وجعله الزمخشري نسقاً على وقال الذين أشركوا.
(لا يبعث الله من يموت) من عباده زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات، عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان مما يتكلم به والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا وكذا فقال له الشرك إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وعن عليّ قال نزلت فيَّ.
(بلى وعداً عليه حقاً) هذا إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم ووعداً مصدر مؤكد لما دل عليه بلى وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله والتقدير وعد البعث وعداً عليه وحقه حقاً لا خلف فيه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) إن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير إما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي جرت عادته بمراعاتها وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناع البعث.
وقيل هي لام التبليغ، قاله أبو السعود أي أيُّ شيء كان مما عز وهان كما في قولك قلت له قم فقام، وهذا الكلام من باب التمثيل على معنى أنه لا
قلت: هكذا قال أكثر المفسرين وهو يخالف ظاهر النظم القرآني والحق ما دلت عليه الآية من القول وهو على حقيقته وأنه جرت العادة الإلهية وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى، وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالة ما يحار فيه العقول والألباب.
وقيل نزلت في أبي جندل بن سهيل، وقيل نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين.
(لنبوّأنهم في الدنيا حسنة) قيل المراد نزولهم المدينة قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة، وقيل المراد الرزق الحسن قاله مجاهد، وقيل النصر على عدوّهم، قاله الضحاك، وقيل ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات، وقيل ما بقي لهم فيها من الثناء وصار لأولادهم من الشرف ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور والمعنى لنبوّأنهم مباءة
(ولأجر الآخرة) أي جزاء أعمالهم الكائن في الآخرة وهو النعيم الكائن في الجنة التي هي المراد بالآخرة (أكبر) وأعظم من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده ومنه قوله تعالى وإذا رأيت ثَمَّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً (لو كانوا) أي هؤلاء الظلمة (يعلمون) ذلك، وقيل أن الضمير راجع إلى المؤمنين المهاجرين أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا وهو إسكانهم المدينة.
ولما كان كفار مكة مقرّين بأن اليهود والنصارى هم أهل العلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل صرف الخطاب إليهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب فقال (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أي فاسألوا أيها المشركون إن شككتم فيما ذكر مؤمني أهل الكتاب فإنهم سيخبرونكم بأن جميع الأنبياء كانوا بشيراً أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده
عن سعيد بن جبير قال: نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة، وقد استدل مجوز والتقليد بهذه الآية وقالوا أمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من له علم والجواب أن هذه الآية الشريفة واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيده السياق المذكور قبل هذا اللفظ الذي استدلوا به وبعده، وبه قال ابن جرير والبغوي وأكثر المفسرين، واستوفاه السيوطي في الدر المنثور، وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق والسباق.
وعلى فرض أن المراد السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر، والذكر هو كتاب الله وسنة رسوله لا غيرهما، ولا أظن مخالفاً يخالف في هذا لأن هذه الشريعة المطهرة هي إما من الله عز وجل وذلك هو القرآن الكريم أو من رسوله ﷺ وذلك هو السنة المطهرة ولا ثالث لذلك.
وإذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن والحديث فالآية الكريمة حجة على المقلدة لا لهم، لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر فيخبرونهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا وقال رسوله ﷺ كذا فيعمل السائلون بذلك، وهذا هو غير ما يريده المقلد المستدل بها فإنه إنما استدل بها على جواز ما هو فيه من الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال عن الدليل فإن هذا هو التقليد ولهذا رسموه بأنه قبول قول الغير من دون مطالبة بحجه.
فحاصل التقليد أن المقلد لا يسأل عن كتاب الله ولا عن سنة رسوله ﷺ بل يسأل عن مذهب إمامه فقط فإذا جاوز ذلك إلى السؤال عن الكتاب والسنة فليس بمقلد، وهذا يسلمه كل مقلد ولا ينكره.
وإذا تقرر أن المقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ لم يكن مقلداً علمت أن هذه الآية الشريفة على تسليم أن السؤال ليس عن الشيء الخاص الذي يدل عليه السياق، بل عن كل شيء من الشريعة كما يزعمه المقلد تدفع في وجهه وترغم أنفه وتكسر ظهره، فإن معنى هذا السؤال الذي شرعه الله تعالى هو السؤال عن الحجة الشرعية وطلبها من العالم فيكون هو راوياً وهذا السائل مُستَروياً، والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم ولا يطالبه بالحجة، فالآية هي دليل الاتباع لا دليل التقليد.
وبهذا ظهر لك أن هذه الحجة التي احتج بها المقلد هي حجة داحضة على فرض أن المراد المعنى الخاص وهي عليه لا له على فرض أن المراد المعنى العام.
أحدها: ما تقديره أي رجالاً متلبسين بالبينات وهو وجه حسن. ذكره الزمخشري ولا محذور فيه.
الثاني: ما أرسلناهم بهما ذكره الحوفي والزمخشري وغيرهما وبه بدأ في الكشاف.
الثالث: تقديره ما أرسلنا بهما إلا رجالاً حكاه ابن عطية.
الخامس: أنه منصوب بتقدير أعني والباء زائدة.
السادس: أنه متعلق بمحذوف كأنه قيل بم أرسلوا، فقيل أرسلوا بهما، كذا قدّره الزمخشري.
قال السمين: وهو أحسن من تقدير أبي البقاء يعني لموافقته للدال عليه لفظاً ومعنى، والبينات الحجج الواضحة والبراهين الساطعة، والزبر الكتب والصحف وقد تقدم الكلام على هذا في آل عمران.
(وأنزلنا إليك) يا محمد ﷺ (الذكر) أي القرآن، وسماه ذكراً لأن فيه مواعظ وتنبيها للغافلين، ثم بيَّن الغاية المطلوبة من الإنزال فقال (لتبين للناس) جميعاً (ما نزل إليهم) في هذا الذكر من الأحكام الشرعية والوعد والوعيد وبيان الكتاب يطلب من السنة والمبين لذلك المجمل هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قيل متى وقع تعارض بين القرآن والحديث وجب تقديم الحديث لأن القرآن مجمل والحديث مبين بدلالة هذه الآية، والمبين مقدم على المجمل، وقيل المحكم مبين والمتشابه مجمل بطلب بيانه من السنة، فهذه الآية محمولة على ما أجمل فيه دون المحكم المبين المفسر (ولعلهم يتفكرون) أي إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا ويعملوا به.
قال مجاهد: يعني نمروذ بن كنعان وقومه وعن قتادة قال: مكرهم الشرك. وقال الضحاك: تكذيبهم الرسل وعملهم بالمعاصي، أو هو سعيهم
(أن) أي أفأمنوا من أن (يخسف الله بهم الأرض) كما خسف بقارون وقرون من قبلهم، يقال خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض خسوفاً أي غاب به فيها، ومنه قوله فخسفنا به وبداره الأرض وخسف هو في الأرض وخسف به.
(أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) به أي حال غفلتهم عنه ومن جهة لا تخطر ببالهم كما فعل بقوم لوط وغيرهم؛ وقيل يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا في ذلك اليوم ولم يكن في حسبانهم.
وقيل المراد في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، وقيل في حال تقلبهم في الليل على فرشهم، وقيل في اختلافهم، وقيل في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار والتقلب بالمعنى الأول مأخوذ من قوله لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله وقلبوا لك الأمور.
(فما هم بمعجزين) أي بفائتين ولا ممتنعين ولا سابقين
يقال تخوفه الدهر وتخونه بالفاء والنون تنقصه، قال الهيثم بن عدي: التخوف بالفاء التنقص لغة لأزد شنوءه. وقال ابن قتيبة: هذه لغة هذيل وقيل على تخوف على عجل، قاله الليث بن سعد، وقيل على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل على تخوف أن يعاقب ويتجاوز. قاله قتادة.
وعن ابن عباس على أثر موت صاحبه: وعنه أيضاً وتنقص من أعمالهم. وعن عمر أنه سألهم عن هذه الآية فقالوا: ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردوه من الآيات، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقى أعرابياً فقال: يا فلان ما فعل ربك؟ قال قد تخيفته يعني تنقصته، فرجع إلى عمر فأخبره فقال قد رأيته ذلك.
وعبارة البيضاوي روي أن عمر قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم، قال شاعرنا أبو بكر يصف ناقته:
تخوف الرحل منها تامكا قردا | كما تخوف عود النبعة السفن |
وعن مجاهد قال: على تخوف يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً وقال الضحاك والكلبي: هو من الخوف يعني يهلك طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم ما أصابهم؛ والحاصل أنه سبحانه خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء، أو بآفات تحدث دفعة، أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم.
ثم إنه سبحانه ختم الآية بقوله (فإن ربكم لرؤوف رحيم) لا يعاجل بالعذاب بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقكم للعقوبة.
ثم لما خوف سبحانه الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير العالم العلوي والسفلي ومكانهما مصدراً بالاستفهام الإنكاري فقال:
(إلى ما خلق الله) ما مبهمة مفسرة بقوله (من شيء) له ظل وهي الأجسام فهو عام أريد به الخاص وخرج به الملك والجن (يتفيأ ظلاله) أي تميل وتدور وتنتقل من جانب إلى جانب وتكون أول النهار على حال وتتقلص ثم تعود في آخر النهار على حالة أخرى قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظل وهو ما لم تنله.
واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو الموافق لمعنى الآية هاهنا، وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم، وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده والظلال جمع ظل وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة.
(عن اليمين والشمائل) أي عن جهة أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها استعارة أو مجاز من إطلاق المقيد على المطلق، قال أبو السعود: استعير لهما ذلك من يمين الإنسان وشماله، وقيل المراد باليمين يمين الفلك وهو جهة. المشرق لأن الكواكب منه تظهر آخذة في الارتفاع والسطوع ومن الشمائل شماله وهي جهات المغرب المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. قال الفراء: وحد اليمين لأنه أراد واحداً من ذوات الإظلال وجمع الشمال لأنه أراد كلها لأن ما خلق الله لفظ مفرد ومعناه جمع.
وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجمع ايجازاً في اللفظ كقوله ويولون الدبر، وبه قال الزمخشري ودلت الشمائل على أن المراد بها الجمع، وقيل أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله وجعل الظلمات والنور، وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم.
وقيل المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وأنها واحدة
وقال قتادة والضحاك: أما اليمين فأول النهار وأما الشمال فآخر النهار دائماً وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه؛ ومنه تظهر الحركة القوية والشمائل جمع شمال على غير قياس والقياس أشمل كذراع وأذرع.
(سجداً) جمع ساجد كشاهد وشهد وراكع وركع أي حال كون الظلال ساجدة (لله) قال الزجاج يعني أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة وقال أيضاً سجود الجسم انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة.
قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، وقيل أن الظلال ملتصقة بالأرض كالساجد عليها فلما كانت يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ (وهم) أي والحال أن الظلال (داخرون) أي خاضعون صاغرون والدخور الصغار والذي يقال دخر الرجل فهو داخر وادخره الله ولما وصفها بالطاعة والانقياد لأمره وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل.
وقد دخل في عموم ما فيهما جميع الأشياء الموجودة فيهما، قال قتادة: لم يدع شيئاً من خلقه إلا عبده له طائعاً أو كارهاً، وعن الحسن قال: يسجد من في السماوات طوعاً ومن في الأرض طوعاً وكرهاً وإنما خص الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء انقياد الجمادات ومن بيانية بياناً لما في الشقين أو بيانا لما الثانية فقط.
(و) عطف (الملائكة) على ما قبلهم عطف خاص على عام تشريفاً لهم وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه، وقيل أفرد الملائكة لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو تكون في السماء خلق يدبون (وهم) أي والحال أنهم (لا يستكبرون) عن عبادة ربهم، والمراد الملائكة ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله، والمعنى يسجد لله
وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان وتقررت في القلوب قيل وهذه المخافة هي مخافة الإجلال واختاره الزجاج فقال: يخافون ربهم خوف مجلين ويدل على صحة هذا المعنى قوله وهو القاهر فوق عباده وقوله إخباراً عن فرعون وإنا فوقهم قاهرون.
(ويفعلون ما يؤمرون) به من طاعة الله يعني الملائكة أو جميع من تقدم ذكره وحمل هذه الجملة على الملائكة أولى لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها.
ولما بيَّن سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضيّة منقادة له خاضعة لجلاله أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله
وقال أبو البقاء: هو مفعول ثان وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتة، وقيل أن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك، وقيل أنه تأكيد لإلهين وعليه أكثر الناس، وكلام الزمخشري هنا يفهم منه إنه ليس بتأكيد، وقيل أن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها وإنما خلاف المشركين في الواحدية.
ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب فقال: (فإياي فارهبون) أي إن كنتم راهبين شيئاً فإياي فارهبون لا غيري فالتركيب أفاد الحصر، وقيل التقدير إياي ارهبوا فارهبون وقدره ابن عطية: ارهبوا إياي فارهبون.
قال الشيخ: وهو ذهول عن القاعدة النحوية وقد يجاب عنه والرهب مخافة مع حزن واضطراب وقد مر هذا في أول البقرة.
ثم لما قرر سبحانه وحدانيته وأنه الذي يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل في ملكه وتحت تصرفه فقال
(وله الدين واصباً) أي ثابتاً واجباً دائما لا يزول والدين هو الطاعة والإخلاص، قال الفراء: واصباً معناه دائماً. وروي عنه أيضاً الواصب الخالص والأول أولى ومنه قوله سبحانه ولهم عذاب واصب أي دائم.
وقيل الوصب التعب والإعياء أي حب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، قال مجاهد الدين الإخلاص وواصباً دائماً، وقال أبو صالح: يعني لا إله إلا الله.
وعن ابن عباس: دائماً واجباً، وفي البيضاوي: واصباً لازماً، وقال الشهاب: الوصب ورد في كلامهم بمعنى اللزوم والدوام، وفي القاموس وصب يصب دام وثبت كأوصب وعلى الأمر واظب وأحسن القيام عليه، وفي المصباح وصب الشيء وصوباً دام ووصب الدين وجب.
والاستفهام في قوله (أفغير الله تتقون) للتقريع والتوبيخ أو للتعجب والإنكار والفاء للتعقيب، والمعنى إذا كان الدين أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره فكيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة أو رهبة في غير الله.
ثم امتن سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال:
ثم بين تلون الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: (ثم إذا مسكم الضر) أي الشدة والأمراض والأسقام أو أي ضر كان، والضر المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان (فإليه) سبحانه لا إلى غيره (تجأرون) تتضرعون وتستغيثون وتضجون في كشفه فلا كاشف له إلا هو، يقال جأر يجأر جؤراً إذا رفع صوته بالدعاء في تضرع.
قال مجاهد: تتضرعون بالدعاء وقال السدي: تضجون بالدعاء، وفي القاموس جأر جأراً وجؤراً بوزن غراب رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا والنبات طال والأرض طال نبتها.
والآية مسوقة للتعجب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضر مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدم في الأنعام ويونس، ويأتي إن شاء الله تعالى في سبحان.
قال الزجاج: هذا خاص بمن كفر وقابل كشف الضر عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فيكون من في منكم للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعاً والفريق هم الكفرة، وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار فمن للبيان، وبه قال الزمخشري كأنه قيل إذا فريق كافر وهم أنتم. قاله السمين.
واللام في
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب (فتمتعوا) بما أنتم فيه من ذلك (فسوف تعلمون) عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. قال الحسن هذا وعيد.
ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال
وقيل المعنى إنهم أي الكفار يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئاً
وقال قتادة: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله وجزءوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لهم، وعن السدي قال: هو قولهم هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا.
(تالله لتسألن) أقسم بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة، وهذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وهو من بديع الكلام وبليغه، وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ (عما كنتم تفترون) أي تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا.
ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال
وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة، قال وهو قول الجمهور والأول أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي.
(وهو كظيم) أي ممتلئ من الغم غيظاً وحنقاً، يقال كظمت الغيظ كظماً وكظوماً ما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ، وربما قيل كظمت على الغيظ وكظمني الغيظ فأنا كظيم ومكظوم، وكظم البعير كظوماً لم يجتر، قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره، وقيل أنه المغموم الذي يطبق فاه من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو سد فم البئر. قاله علي بن عيسى، وقد تقدم في سورة يوسف.
(أيمسكه على هون) قال اليزيدي: الهون الهوان بلغة قريش، وكذا حكى عن الكسائي، وحكى عنه أيضاً أنه البلاء والمشقة. وقال الفراء: الهون القليل بلغة تميم. وعن الأعمش: أنه قرأ أيمسكه على سوء (أم يدسه في التراب) أي يخفيه فيه بالوأد كما كانت تفعله العرب، والدس إخفاء الشيء في الشيء فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردداً بين هذين الأمرين،
(ألا ساء ما يحكمون) حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه، وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم، ومثله قوله تعالى (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى) قال السدي: بئسما حكموا بقول شيء لا يرضونه لأنفسهم فكيف يرضونه لي.
وقيل: الله نور السماوات والأرض مثل نوره. الآية: وقيل: ليس كمثله شيء، قاله ابن عباس (وهو العزيز) الذي لا يغالب فلا يضره نسبته إليه ما لا يليق به (الحكيم) في أقواله وأفعاله.
ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظم كفرهم بين سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة فقال
وقد قيل على هذا كيف يعم بالهلاك وفيهم من لا ذنب له، وأجيب بأن إهلاك الظالم انتقاماً منه وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من غيرهم فبشؤم ظلم الظالمين ولله الحكمة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ومثل هذا قوله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
وفي معنى هذه الآية أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إذا أراد الله بقوم
قال سعيد بن جبير: ما ترك عليها من دابة: ما سقاهم المطر، وعن السدي نحوه، أي يمسك المطر بسبب ظلمهم وانقطاعه يوجب انقطاع النسل وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء، وذلك يستلزم أن لا يبقى في العالم أحد من الناس؛ وقال قتادة: قد فعل ذلك في زمن نوح، أهلك الله ما على الأرض من دابة إلا ما حمل في سفينته.
وهذا إيذان بأن ما أتوه من القبائح فقد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه؛ وعن ابن مسعود قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره. ثم قال أي والله زمن غرق قوم نوح. وعنه قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ هذه الآية. وعن أنس نحوه.
وعن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. قال أبو هريرة بلى والله إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم.
(ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) معلوم معين عنده تعالى وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم أو أجل عذابهم، وفي هذا التأخير حكمة بالغة، منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم.
(فإذا جاء أجلهم) الذي سماه لهم (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدم عليه ولا تأخر عنه والساعة المدة القليلة، وقد تقدم تفسير هذا وتحقيقه.
_________
(١) مسلم ٢٨٧٩ بلفظ " ثم بعثوا على أعمالهم " - البخاري ٢٥٥٨.
(٢) مسلم ٢٨٨٢ - البخاري كتاب البيوع باب ما ذكر في الأسواق.
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائحهم فقال (وتصف ألسنتهم الكذب) والذي تصفه ألسنتهم من الكذب هو قولهم (أن لهم) الخصلة أو العاقبة (الحسنى) قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن أي الجنة كقوله ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده الحسنى، وقرئ الكذب بضمتين على أنه صفة للألسن وهو جمع كذب فيكون المفعول على هذا أن لهم الحسنى، قال مجاهد: قول كفار قريش لنا البنون وله البنات وعن قتادة نحوه.
ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله: (لا جرم) تركيب مزجي من لفظ لا ولفظ جرم ومعناه الفعل أي ثبت أو المصدر أي حقاً (أن لهم) مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى (النار) الموقدة والعذاب الدائم (وأنهم مفرطون) بفتح الراء تخفيفاً أي مقدمون إلى النار.
قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة: أي متروكون منسيون في النار وبه قال مجاهد وعن سعيد بن جبير نحوه، وبه قال الكسائي والفراء فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته.
وقال قتادة والحسن: معجلون إليها مقدمون في دخولها من أفرطته أي قدمته في طلب الماء والفارط هو الذي يتقدم إلى الماء والفراط المتقدمون في طلبه والوراد المتأخرون، ومنه قوله ﷺ " أنا فرطكم على
وقرئ مفرطون بكسر الراء وتشديدها أي مضيعون أمر الله فهو من التفريط في الواجب.
ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم فقال مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم
_________
(١) مسلم ٢٤٩.
ويحتمل أن يكون عبارة عن يوم القيامة وما بعده فيكون للحال الآتية ويكون الوليّ بمعنى الناصر والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصور منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة وإذا كان الناصر منحصراً فيه لزم أن لا نصرة من غيره.
ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا وهو على وجهين: الأول: أن يراد البعض الذي قد مضى وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني: أن يراد البعض الحاضر وهو وقت نزول الآية والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في وليهم لكفار قريش أي فهو ولي هؤلاء اليوم، أو على حذف
ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم فقال:
(وهدى) عطف على لنبين (ورحمة لقوم يؤمنون) بالله سبحانه ويصدقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب لأنهم هم المنتفعون.
ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرده بالإلهية بذكر آياته العظام وبيناته الفخام فقال
(إن في ذلك) الإنزال والإحياء (لآية) أي علامة دالة ودلالة واضحة على وحدانيته وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم (لقوم يسمعون) كلام الله سماع تدبر وإنصاف ويفهمون ما يتضمنه من العبر ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، فالمراد سمع القلوب لا سمع الآذان لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لم يسمع وكأنه أصم.
والظاهر أن العبرة هي قوله (نسقيكم مما في بطونه) فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة قرئ من سقى يسقي ومن أسقى يسقي قيل هما لغتان وقرئ بالتاء على أن الضمير راجع إلى الأنعام وبالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه وهما ضعيفان وجميع القراء على القراءتين الأوليين والفتح لغة قريش والضم لغة حمير.
وقيل أن بين سقى وأسقى فرقاً فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال سقيته وإن كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه ومن تبعيضية أو ابتدائية والضمير في بطونه راجع إلى الأنعام، قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد، وقال الزجاج: لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث فيقال هو الأنعام وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير.
وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور، قال الفراء وهو صواب، وقال المبرد: هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس (هذا ربي) يعني هذا الشيء الطالع وكذلك (إني مرسلة إليهم
الذي ذكرنا انتهى.
ومن ذلك قوله (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره) وحكى الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث لأن الذكور لا ألبان لها، وبه قال أبو عبيدة، وحكى عن الفراء أنه قال: النعم والإنعام واحد يذكر ويؤنث ولهذا تقول العرب هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الإنعام وهو كقول الزجاج، ورجحه ابن العربي فقال: إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة (من بين فرث ودم) الفرث الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً بل يسمى روقاً وهو ثفل الكرش يقال أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها.
وقال البيضاوي: الفرث الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش والمعنى أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش وهو الفرث ويكون منه الدم فيكون أسفله فرثاً وأعلاه دما وأوسطه.
(لبناً) فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش كما هو فسبحان من هذه بعض حكمته (خالصاً) من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحدٌ وذلك إن الحيوان إذا أكل العلف طبخه الكرش ثم انقسم إلى أقسام ثلاثة ثفل وفوقه اللبن وفوقه الدم ثم تسلط الكبد عليها فترسل الدم إلى العروق واللبق إلى الضروع ويبقى الثفل في الكرش حتى ينزل إلى الخارج والحاصل أن الله تعالى خلق اللبن في مكان وسط بين الفرث والدم (سائغاً للشاربين) أي لذيذاً هنيئاً لا يغص به من شربه يقال ساغ الشراب يسوغ سوغاً أي سهل مدخله في الحلق وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.
وقيل تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ويكون تكرير منه للتأكيد وإنما ذكر الضمير في منه لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف وهو العصير كأنه قال من عصير ثمرات تتخذون منه والسكر بفتحتين ما يسكر من الخمر، وقيل إنه من أسماء الخمر وقيل أنه في الأصل مصدر سمى به الخمر.
(ورزقاً حسناً) هو جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالتمر والزبيب والخل والدبس، قال ابن عباس: السكر ما حرم من ثمرتهما والرزق الحسن ما حل وعنه قال السكر الحرام، والرزق زبيبه وخله وعنبه ومنافعه، وأيضاً قال السكر النبيذ والرزق الزبيب فنسختها آية إنما الخمر والميسر، وعنه قال فحرم الله بعد ذلك السكر مع تحريم الخمر لأنه منه ثم قال (ورزقاً حسناً) فهو الحلال من الخل والزبيب والنبيذ أو أشباه ذلك فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين.
وعن ابن عمر أنه سئل عن السكر فقال: الخمر بعينها وعن ابن مسعود قال: السكر الخمر وبالجملة فقد كان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر وبه جزم السيوطي اعتماداً على قولهم في السورة أنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها، والمائدة مدنية وتحريم الخمر فيها وهي آخر القرآن نزولاً كما ثبت في الحديث.
ورجح هذا ابن جرير فقال: أن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن فاللفظ مختلف والمعنى واحد مثل (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).
قال الزجاج: قول أبي عبيدة هذا لا يعرف وأهل التفسير على خلافه. وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ قالوا وإنما يمتن الله على عباده، بما أحله لا بما حرمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر.
(إن في ذلك) المذكور من إخراج اللبن واتخاذ السكر والرزق من الثمرات (لآية لقوم يعقلون) أي لدلالة لمن يستعمل العقل ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية.
(أن اتخذي من الجبال بيوتاً) أي بأن اتخذي على أن (أن) هي المصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية لأن في الإيحاء معنى القول، وبهذا قال الزمخشري وغيره ومن منع وهو أبو عبد الله الرازي قال: لا نسلم انها مفسرة، كيف وقد انتفى شرط التفسير بأن المراد من الإيحاء هو الإلهام اتفاقاً، وليس فيه معنى القول وحينئذ فهي مصدرية، كأنه قيل أوحى ربك باتخاذ بعض الجبال بيوتاً ورده في الغني بأن الإلهام فيه معنى القول من حيث الدلالة على المعنى.
وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدم أو للحمل على المعنى أو لكون النحل جمعاً وأهل الحجاز يؤنثون النحل، والمعنى سخرها لما خلقها له وألهمها رشدها وقدر في نفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتاً على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال لكان فيها فرج خالية ضائعة، ولما حصل المقصود فألهمها الله تعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل ولا فرجة خالية.
وألهمها أيضًا أن يجعلوا عليهم أميراً كبيراً نافذ الحكم فيهم، وهم يطيعونه ويمتثلون أمره ويكون هذا الأمير أكبرهم جثة وأعظمهم خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكهم، كذا حكاه الجوهري.
ومن في من الجبال (و) كذا في (من الشجر و) كذا في (مما يعرشون) للتبعيض، أي مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجباح (١) والحيطان وغيرها، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب، يقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها وهما سبعيتان وبابه نصر وضرب كما في المختار.
والظاهر أن من في (مما) بمعنى في إذ لا معنى لكونها تبنى من بناء الناس بل الظاهر أنها تبنى في بنائهم ويكون المراد من بنائهم الكوارة ومن بنائها بيتها الذي تمج فيه العسل، فإن من المشاهد أنها تبني لها بيتاً داخل الخلية من الشمع ثم تمج فيه العسل شيئاً فشيئاً.
والظاهر أن (من) في الموضعين الأولين بمعنى في أيضًا كما صرح به الشهاب ويكون المراد ببيوتها ما تبنيه من الشمع كما تقدم، فالشمع تارة تبنيه في الجبال وتارة في الأشجار، وهذا في النحل الوحشيّ، وتارة تبنيه في الخلايا، وهذا في النحل الأهلي فإن النحل قسمان كما ذكره الخازن.
_________
(١) الجبح ويثلث خلية العسل الجمع أجبح وأجباح. أهـ قاموس.
(ذللاً) حال من السبل وهي جمع ذلول أي مذللة غير متوعرة، واختار هذا الزجاج وابن جرير، وقيل حال من النحل، يعني مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطونها. واختار هذا ابن قتيبة.
قال مجاهد: طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته، وعن قتادة قال مطيعة.. قال السدي ذليلة (يخرج من بطونها) مستأنفة عدل به عن خطاب النحل تعديداً للنعم وتعجيباً لكل سامع وتنبيهاً على العبر وإرشاداً إلى الأيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الضعيف الشبيه بالذباب.
(شراب) المراد به في الآية هو العسل قاله ابن عباس (مختلف ألوانه) يعني أن بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أزرق وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألوانها ومأكولاتها، وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والإزهار ويستحيل في بطونها عسلاً. وفي هذا دليل على قدرته.
(فيه) أي في الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل، وإلى هذا ذهب الجمهور (شفاء للناس) قال مجاهد: العسل فيه الشفاء وفي القرآن. وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف أن الضمير راجع إلى القرآن، ويكون التقدير فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين.
وعن ابن مسعود قال: أن العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور وعنه مرفوعاً قال رسول الله ﷺ " عليكم بالشفاءين العسل والقرآن " (١) وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء؛ منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي " (٢).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد أن رجلاً أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه، استطلاقاً، قال اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه ثم جاء فقال: مما زاده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً، فذهب فسقاه فبرأ (٣).
_________
(١) ابن ماجة كتاب الطب الباب السابع.
(٢) البخاري كتاب الطب باب ٣ رقم ٢٢٥٠ مسلم ٢٢٠٥.
(٣) مسلم ٢٢١٧. البخاري ٢٢٥١.
ومما يدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل الأصول، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيماً لمرض أو أمراض لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم.
والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب أنه إذا استعمل مفرداً كان دواء لأمراض خاصة، وأن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض.
قلت وحديث البخاري أن أخي استطلق بطنه الحديث أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء، لأن قوله ﷺ صدق الله أي أنه شفاء، فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا.
وقد اعترض على هذا الحديث بعض الملحدين ومن في قلبه مرض بكونه خلاف ما أجمع عليه الأطباء من أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال وأجاب عنه الخازن على الطريق الجاري على صناعة الطب وأورده الشيخ سليمان الجمل ثم قال: ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك انتهى.
وعن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا خرج طلى عليه العسل، وعن أبي وجرة أنه كان يكتحل
وقال البيضاوي: شفاء للناس إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه، وقيل أن هذا القول خرج مخرج الأغلب وأنه في الأغلب فيه شفاء ولم يقل أنه شفاء لكل الناس ولكل داء لكنه في الجملة دواء، وأن نفعه أكثر من مضرته ومنافعه كثيرة جداً، قال السدي: شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره.
(إن في ذلك) المذكور من أمر النحل (لآية لقوم يتفكرون) أي يعملون أفكارهم عند النظر في صنيع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها، ومن تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعاً أنه لا بدّ له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه.
ولما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة وخصائص القدرة القاهرة أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر فقال
قال النيسابوري: أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولها: سن النشوء والنماء وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد.
وثانيها: سن الوقوف وهو من ثلاث وثلاثين إلى أربعين سنة وهو غاية القوة وكمال العقل.
ورابعها: سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر وفيها يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال على أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقيل ثمانون وقيل تسعون سنة قاله قتادة ومثل هذه الآية قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) وعن السدي قال: هو الخرف، وعن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر؛ وعن طاووس العالم: لا يخرف وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح وغيره أنه كان يتعوذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر (١).
ثم علّل سبحانه رد من يرده إلى أرذل العمر بقوله (لكيلا) اللام لام التعليل وكي حرف مصدر ونصب ولا نافية، وقيل اللام هنا للصيرورة والعاقبة (يعلم بعد علم) كان حصل له (شيئاً) منه لا كثيراً ولا قليلاً أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم، وقيل المراد بالعلم هنا العقل؛ وقيل المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك، وقيل لكي يصير كالصبي الذي لا عقل له.
وقال الزجاج: المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفاً فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه قادر على نقله من العلم إلى الجهل وأنه قادر على إحيائه بعد إماتته فيكون ذلك دليلاً على صحة البعث بعد الموت.
(إن الله عليم) بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء (قدير) على تبديل ما يشاء من الأشياء وعلى ما يريد.
_________
(١) مسلم ٢٧٠٦ - البخاري ١٣٥٠.
ثم لما بيّنَ سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ذكر طرفاً من أحواله لعله يتذكر عند ذلك فقال
وكما جعل التفاوت بين عباده في المال جعله بينهم في العقل والعلم والفهم والخلق والخلق والجهل وقوة البدن وضعفه والحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك من الأحوال، وعن ابن عباس في الآية قال: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، وعن مجاهد قال: هذا مثل لآلهة الباطل مع الله، وقيل معنى الآية أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم بدليل قوله.
(فما الذين فُضلوا) أي فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم كالموالي والسادة (برادّي رزقهم) الذي رزقهم الله إياه (على ما ملكت أيمانهم) من المماليك (فهم) أي المالكون المماليك (فيه) أي في الرزق (سواء) أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم فالفاء على هذا للدلالة على أن
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعبدة الأصنام كما تقدم والمعنى إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ولا ترضون بذلك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء، والحال إن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ذكر معنى هذا ابن جرير.
ومثل هذه الآية قوله سبحانه (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما زرقناكم) وفي هذه الجملة أوجه (أحدها) تقديره أفهم فيه سواء ومعناه النفي أي ليسوا مستوين فيه (والثاني) أنها إخبار بالتساوي أي إنما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواء: قال أبو البقاء: إنها واقعة موقع فعل تقديره يستووا، وقيل أن الفاء في " فهم " بمعنى حتى.
(أفبنعمة الله يجحدون) حيث يفعلون ما يفعلون من الشرك. والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك وقراءة الغيبة أولى لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطاباً لكان ظاهره للمسلمين والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع والفاء للعطف على مقدر أي أيشركون به فيجحدون نعمته.
ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا تظنوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم جميعاً وهم في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم، فيكون المعطوف عليه المقدر فعلا يناسب هذا المعنى كأن يقال ألا تفهمون ذلك فتجحدون نعمة الله.
قال أبو عبيدة: الحفد العمل والخدمة، وهذا أصله في اللغة قال الخليل ابن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم والأعوان. وبه قال الحسن وعكرمة والضحاك. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد وروي هذا عن ابن عباس والحفيد ولد الابن ذكراً كان أو انثى وولد البنت كذلك.
وتخصيصه بولد الذكر وتخصيص ولد الأنثى بالسبط عرف طارئ على أصل اللغة، وقيل الحفدة الأختان قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحى وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وقيل الحفدة الأصهار.
قال الأصمعي: الختن من كان من قبل المرأة كابنها وأخيها وما أشبههما والأصهار منهما جميعا، يقال أصهر فلان إلى بني فلان فهو صاهر، وقيل هم أولاد إمرأة الرجل من غيره وقيل أولاد الرجل الذين يخدمونه وقيل البنات الخادمات لأبيهن.
(ورزقكم من الطيبات) التي تستطيبونها وتستلذونها من أنواع الأثمار والحبوب والحيوان والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله، ومن للتبعيض لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلا في الجنة والمرزوق في الدنيا أنموذج منها.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله: (أفبالباطل يؤمنون) الاستفهام للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر أي أيكفرون بالله فيؤمنون بالباطل، وفي تقديم بالباطل على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به والباطل هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع، وقيل هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما.
(وبنعمة الله) أي ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر (هم يكفرون) بإضافتها إلى غيره، وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد، وعن ابن جريج الباطل هو الشيطان ونعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم.
عن قتادة قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقاً من السماوات والأرض ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً، وفي شيئا ثلاثة أوجه:
أحدها: إنه منصوب على المصدر، أي لا يملك لهم ملكاً، أي شيئاً من الملك.
والثاني: إنه بدل من رزقاً، وهذا غير مفيد، إذ ليس فيه بيان ولا تأكيد.
والثالث: إنه منصوب برزقاً على إنه اسم مصدر وهو يعمل عمل المصدر على خلاف في ذلك، وبه قال الفارسي. ورد عليه ابن الطراوة بأن الرزق اسم المرزوق كالرعي والطحن، ورد عليه بأن الرزق أيضاً مصدر.
(ولا يستطيعون) الضمير راجع إلى (ما) وجمع جمع العقلاء بناء على
ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه فقال
قال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلاً فإنه واحد لا مثيل له، وكانوا يقولون إن إله العالم أجلَّ من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك وعلَّل النهي بقوله (إن الله) علم (يعلم) ما عليكم من العبادة (وأنتم لا تعلمون) ما في عبادتها من سوء العاقبة والتعرض لعذاب الله سبحانه أو أنه تعالى يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمون فدعوا رأيكم دون نصه.
ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختل.
وعن ابن عباس قال: يعني اتخاذهم الأصنام، يقول لا تجعلوا معي إلهاً غيري فإنه لا إله غيري، ثم علمهم كيفية ضرب الأمثال في هذا الباب فقال:
(ومن) أي الذي، وقيل موصوفة، واختاره الزمخشري كأنه قيل وحراً من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا (رزقناه) ليطابق عبداً (منا) أي من جهتنا (رزقاً حسناً) والمراد به أنه مما يحسن في عيون الناس لكونه رزقاً كثيراً مشتملاً على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها (فهو ينفق منه) في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البر والمعروف (سراً وجهراً) أي في حال السر وحال الجهر، والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه وأن الثواب فيه أكثر.
(هل يستوون) أي الحر والعبد الموصوفان بالصفات المتقدمة، وجمع الضمير لمكان (من) لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، وقيل إنه أريد بالعبد، والوصول الذي هو عبارة عن الحر الجنس أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين، والاستفهام للإنكار أي هل يستوي العبيد والأحرار مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه.
وحاصل المعنى إنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزقه الله رزقاً حسناً فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الرب الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونهما وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تنفع ولا تضر، وقيل المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن. وقال ابن عباس بمعناه بأطول من هذا، والغرض إنهما لا يستويان في الرتبة والشرف.
(الحمد) كله (لله) وحده حمد نفسه لأنه المنعم المستحق لجميع المحامد لا يستحق غيره من العباد شيئاً منه فكيف تستحق الأصنام منه شيئاً ولا نعمة منها أصلاً لا بالأصالة ولا بالتوسط، وقيل أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد، وقيل أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد ﷺ أو لمن رزقه الله رزقاً حسناً، وقيل إنه لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال الحمد لله أي على قوة هذه الحجة.
(بل أكثرهم لا يعلمون) ذلك حتى يعبدوا من تحق له العبادة ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفى العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم أو هم يتركون الحق عناداً مع علمهم به فكانوا كمن لا علم له وخص الأكثر بنفي العلم إما لكونه يريد الخلق جميعاً وأكثرهم المشركون أو ذكر الأكثر وهو يريد الكل، أو المراد أكثر المشركين لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم.
ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع فقال
ثم وصف الأبكم فقال (لا يقدر على شيء) من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه وعدم قدرته على النطق، وهو إشارة إلى العجز التام
ثم وصفه بصفة رابعة فقال (أينما يوجهه) أي يرسله ويصرفه في طلب الحاجة أو كفاية المهم (لا يأت بخير) قط لأنه عاجز أخرس لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول (هل يستوي هو) في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها.
(ومن يأمر) الناس (بالعدل) مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم ويقدر على التصرف في الأشياء وهو سليم الحواس نفاع ذو كفاية ورشد وديانة (وهو) في نفسه (على صراط مستقيم) أي على دين قويم وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط.
وإنما قابل الأوصاف الأول بهذين الوصفين المذكورين للآخر لأن حاصل أوصاف الأول عدم استحقاقه لشيء، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين الأمرين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له، قال ابن عباس: يعني بالأبكم الكافر وبالآمر بالعدل المؤمن.
وهذا المثل في الأعمال، وعلى هذا تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر، وقيل هي على الخصوص، والذي يأمر بالعدل رسول الله ﷺ والأبكم هو أبو جهل وقيل الأبكم أبي بن خلف والآمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون.
وقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان ومولى له كافر، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما.
ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين مدح نفسه بقوله
(وما أمر الساعة) التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه، وهو إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين، أو المعنى ما أمر قيام الساعة في سرعته وسهولته (إلا كلمح البصر) أي كرجع طرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه، واللمح النظر بسرعة ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة ولذا قال.
(أو هو) أي بل أمرها (أقرب) منه بأن يكون من زمان نصف تلك الحركة بل في الآن الذي تبتدأ فيه، فإن الله تعالى يحيي الخلق دفعة، وما يوجد دفعة كان في آن أي جزء غير منقسم.
وليس هذا من قبيل المبالغة بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدة ما
وقيل المعنى هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة، ومثله قوله سبحانه (إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) ولفظ (أو) ليس للشك بل للتمثيل أو للتخيير، وقيل دخلت لشك المخاطب، وقيل هي بمنزلة بل (إن الله على كل شيء قدير) ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته.
ثم أنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالّة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال
(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي ركب فيكم هذه الأشياء وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع والمعنى جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوباً عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر النعم وعبادته والقيام بحقوقه.
ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك، وذلك بعد الإخراج وقدم السمع على البصر لأنه طريق تلقي الوحي
ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على كمال قدرته فقال
(وما يمسكهن) في قبضهن وبسطهن ووقوفهن في الجوّ (إلا الله) سبحانه بقدرته الباهرة فإن ثقل أجسامها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها ولا اعتمدت على شيء تحتها (إن في ذلك) التسخير على تلك الصفة (لآيات) ظاهرة تدل على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة (لقوم يؤمنون) بالله سبحانه وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها.
(وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً) لا ذكر سبحانه بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة وهي الأنطاع والأدم جعلها بيوتاً كالخيام والقباب والأخبية والفساطين، قال مجاهد وهي خيام العرب وقيل ذلك في بعض الناس كالسودان فإنهم يتخذون خيامهم من الجلود ويجوز أن يتناول المتخذة من الصوف والوبر والشعر فإنها من حيث أنها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها.
(تستخفونها) أي يخف عليكم حملها في الأسفار وغيرها ولهذا قال (يوم ظعنكم) أي في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم، والظعن بفتح العين ْوسكونها وهما لغتان قرئ بهما كالنهر والنهر وهو سير أهل البادية للانتجاع
(ويوم إقامتكم) أي حضركم والمعنى لا يثقل عليكم حملها في الحالين (و) جعل لكم (من أصوافها وأوبارها وأشعارها) والأنعام تعم الإبل والبقر والغنم كما تقدم والأصواف للغنم والأوبار للإبل والأشعار للمعز وهي من جملة الغنم فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منهما لواحد من الثلاثة أعني الإبل ونوعي الغنم ولم يذكر القطن والكتان لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.
(أثاثاً) هو متاع البيت وأصله الكثرة والاجتماع ومنه شعر أثيث أي كثير مجتمع يقال أث أي كثر وتكاثف، وقيل للمال أثاث إذا كثر، قال الخليل: أثاثاً أي منضماً بعضها إلى بعض من أث إذا كثر.
قال الفراء: لا واحد له (ومتاعاً) هو ما يتمتع به بأنواع التمتع، قال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما وعلى قول أبي زيد الأنصاري أن الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد، والمتاع يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.
وقيل أن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل من الفرش والأكسية ويتزين به، ومعنى (إلى حين) إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن يبلى ويفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة.
ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام أو أبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك، نبه سبحانه على ذلك فقال
(وجعل لكم من الجبال أكنانا) جمع كن وهو ما يستكن به من المطر وشدة الحر والبرد وفي المختار الكن السترة والجمع أكنان والأكنة الأغطية، وقال الكسائي كن الشيء ستره وبابه رد، وفي القاموس الكن بالكسر وقاء كل شيء وستره كالكنة والكنان كسرهما والكن البيت جمعه أكنان وأكنة وكنه كناً وكنونا وأكنه وكننه واكتنه ستره واستكن استتر كاكتن والكنة جناح يخرج من حائط أو سقيفة فوق باب الدار أو ظله هنالك أو مخدع انتهى.
وهي هنا الغيران والأسراب في الجبال ونحوه جعلها الله سبحانه عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها لأن الإنسان غني أو فقير فالغني يستصحب معه الخيام في سفره ليسكن فيها، وإليه الإشارة في الآية المتقدمة، والفقير يسكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف وإلى هذه الإشارة في هذه الآية وكانت بلاد العرب شديدة الحرارة وحاجتهم إلى الظلال وما يدفع شدة الحر وقوته أكثر فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة.
(وجعل لكم سرابيل) جمع سربال وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها، قال الزجاج كل ما لبسته فهو سربال (تقيكم الحر) أي تدفع عنكم ضرر الحر والبرد وهو ما عليه أكثر المفسرين من أنه من حذف المعطوف للعلم به.
قال الشهاب في الريحانة في الآية نكتة لطيفة لم ينبهوا عليها وهو أنه إنما اقتصر على الحر لأنه أهم هنا لما عرف من غلبة الحر على ديار العرب ثم إن ما يقي الحر يحصل به برودة في الهواء في الجملة فوقاية الحر إنما هي لتحصيل البرد، وهذا فيه من اللطف ما هو ألطف من النسيم، فلِلَّه در التنزيل فكم فيه من أسرار لا تتناهى انتهى، ونظيره بيدك الخير أي والشر لأن
(وسرابيل تقيكم بأسكم) وهي الدروع والجواشن وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح تتقون بها الطعن والضرب والرمي والمعنى أنها تقيكم البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحرب (كذلك) الإتمام البالغ (يتم نعمته عليكم) فإنه سبحانه قد منَّ على عباده بصنوف النعم المذكورة هنا وبغيرها وهو بفضله وإحسانه سيتم نعمة الدين والدنيا (لعلكم تسلمون) أي إرادة أن تسلموا فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلا الإسلام والانقياد للحق.
وقرأ ابن عباس وعكرمة من السلامة من الجراح، وقرأ الباقون من الإسلام قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح، وقيل الخطاب لأهل مكة أي لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية والحمل على العموم أولى وأفرد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر.
(فإنما عليك البلاغ) لما أرسلت به إليهم وقد فعلت ذلك بهم (المبين) أي الواضح وليس عليك غير ذلك وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسلية له، وهذا قبل الأمر بالقتال فتكون الآية منسوخة الحكم وهو لا يظهر إلا لو قدر جواب الشرط فأعرض عنهم ولا تقاتلهم مع أن أكثر المفسرين قدروه بقولهم فلا عتب عليك ولا مؤاخذة في عدم إيمانهم لأنك بلغت ما أمرت بتبليغه وهدايتهم من الله لا إليك، وهذا لا ينافي أن يكون مأموراً بقتالهم.
ثم استأنف لبيان توليهم فقال
وقيل هي الإسلام وجيء بثم للدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن من عرف النعمة حقه أن يعترف لا أن ينكر (وأكثرهم الكافرون) بالله أو الجاحدون لنعم الله. وعبر هنا بالأكثر عن الكل لأنه قد يذكر الأكثر ويراد به الجميع وإليه أشار في التقرير أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان كفر بعضهم كفر جهل وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول ﷺ مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته ومثل هذه الآية قوله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين).
قال ابن عباس: شهيدها نبيها، على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله (وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) قال ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه وذلك اليوم هو يوم القيامة.
(ثم لا يؤذن للذين كفروا) في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر كقوله سبحانه (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) أو في كثرة الكلام أو في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف أو في حالة شهادة الشهود، بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود أو لا يؤذنا لهم في معارضة الشهود بإلقاء معذرة أو ادلاء بحجة بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك، وإيراد (ثم) هاهنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبئ عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء.
(ولا هم يستعتبون) أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله من العبادات، لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضاء، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب. والمعنى أنهم لا يسترضون أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم. لأن الآخرة ليست بدار عمل ولا تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون.
وأصل الكلمة من العتب وهو الموجدة، يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه وبابه ضرب ونصر، فإذا أفاض عليه ما عاتب فيه عليه، قيل عاتبه فإذا
وفي الخطيب أي لا تزال عتباهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون؛ يقال استعتبت فلاناً أي أزلت عتباه، انتهى. واستفعل بمعنى أفعل غير مستنكر.
قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، وعاتبه معاتبة وعتاباً واعتبه سره بعدما ساء واستعتب واعتب بمعنى واستعتب أيضاً طلب أن يعتب، أي استرضاه فأرضاه.
(قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو) أي نعبدهم ونتخذهم آلهة (من دونك) ونطيعهم، ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذاب بينهم، قالى أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين بهذا القول حالة الذنب على تلك الأصنام تعللا بذلك واسترواحاً مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة. ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه.
فإن قيل أن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها إن هؤلاء شركاؤنا وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها.
فالجواب بأن مرادهم من قولهم هؤلاء شركاؤنا، هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة، والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال لتخجيل المشركين وتوبيخهم. وهذا كما قالت الملائكة بل كانوا يعبدون الجن يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم. قال الكرخي: أن المثبت لهم هنا النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم لها والمنفي عنهم في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم ودفع العذاب عنهم فلا تنافي.
(زدناهم عذاباً) لأجل الإضلال لغيرهم (فوق العذاب) الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل المعنى زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم أي أشد منه وقيل أن هذه الزيادة هي إخراجهم من حر النار إلى برد الزمهرير وغير ذلك. وعن ابن مسعود قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال ينهشونهم في جهنم، وروي مثله عن البراء مرفوعاً أخرجه الخطيب وغيره.
وقال سعيد بن جبير: حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفاً، وعن ابن عباس قال: خمسة أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون بعضها بالليل وبعضها بالنهار.
وقد روى ابن مردويه عن جابر عن النبي ﷺ قال " الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار، فذلك قوله (زدناهم عذاباً فوق العذاب) (بما كانوا يفسدون) بصدهم الناس عن سبيل الله مع ما
وقال الخطيب: كرر سبحانه التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة وهو إن الشهادة تقع على الأمم لا لهم وتكون بحضرتهم (وجئنا بك) يا محمد؛ وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه عليه الصلاة والسلام، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع.
(شهيداً) تشهد (على هؤلاء) أي على هذه الأمم، وقيل على أمتك وقومك، هكذا قال الجلال، وسنده قوله سابقاً (ويوم نبعث من كل أمة شهيداً) الخ ومثله في البيضاوي، وفي الشهاب عليه، وقيل الآية مسوقة لشهادته على الأنبياء فتخلوا عن التكرار، ورد بأن المراد بشهادته على أمته تزكيته وتعديله لهم وقد شهدوا على تبليغ الأنبياء، وهذا لم يعلم مما مر وهو الوارد في الحديث، وقد تقدم مثل هذا في البقرة والنساء.
(ونزلنا عليك) في الدنيا (الكتاب) أي القرآن والجملة مستأنفة (تبياناً لكل شيء) أي بياناً له والتاء للمبالغة فالتبيان أخص من مطلق البيان على قاعدة أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، ونظيره من المصادر التلقاء ولم يأت غيرهما وفي الأسماء كثير نحو التمساح والتمثال.
ومثل هذه الآية قوله سبحانه (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ومعنى كونه تبياناً لكل شيء أن فيه البيان البليغ لكثير من الأحكام والإحالة فيها بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله ﷺ فيما يأتي به من الأحكام وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك.
قال الكرخي: إما بتبيينه في نفس الكتاب أو بإحالته على السنة لقوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) أو بإحالته على الإجماع كما قال تعالى (ويتبع غير سبيل المؤمنين) الآية. أو على القياس كما قال (فاعتبروا يا أولي الأبصار) والاعتبار النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها وكلها مذكورة في القرآن، فكان تبياناً لكل شيء فاندفع ما قيل، كيف قال الله ذلك ونحن نجد كثيراً من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصاً كعدد ركعات الصلاة ومدة المسح والحيض ومقدار حد الشرب ونصاب السرقة وغير ذلك، ومن ثم اختلفت الأمة في كثير من الأحكام. أهـ.
وفي هذا التقرير بحث ونظر ذكر في محله فليراجعه؛ ولذلك قال الشهاب على قول البيضاوي بالإحالة إلى السنة أو القياس وفيه تأمل. انتهى. وقد احتج بهذه الآية جمع من أهل العلم على منع التقليد.
(وهدى) للعباد من الضلالة (ورحمة) لهم (وبشرى للمسلمين) خاصة دون غيرهم، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة لهم لأنهم المنتفعون بذلك. ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك فقال.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٦٤٠ - تخريج المشكاة ١٦٣.
وقيل العدل استواء العلانية والسريرة والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية، وقيل العدل التوحيد والإحسان التفضل، وقيل العدل خلع الإنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
وقيل العدل التوحيد والإحسان الإخلاص، وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل ولا يقول إلا ما هو حسن. وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره، والعدل هو المساواة في كل شيء من غير شطط ولا وكس.
ْوالأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن تكون عبادة في الدين على حالة متوسطة ليست بمائلة إلى جانب الإفراط وهو الغلو المذموم في الدين ولا إلى جانب التفريط وهو الإخلال بشيء مما هو من أمر الدين اعتقاداً كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر، وعملاً كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب وخلقاً كالجود المتوسط بين البخل والتبذير.
وأما الإحسان فمعناه البغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها ولم يذكر متعلقات العدل والإحسان والبغي ليعم جميع ما يعدل فيه ويحسن به وإليه وينبغي فيه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله
(وإيتاء ذي القربى) ما تدعو إليه حاجتهم وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام وترغيب في التصدق عليهم، وهو من باب عطف الخاص على العام إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان، وقيل من باب عطف الندوب على الواجب، ومثل هذه الآية قوله (وآت ذا القربى حقه) وإنما خص ذوي القربى لأن حقهم آكد فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه الشريف وجعل صلتها من صلته وقطيعتها من قطيعته فيستحب أن يصلهم من فضل ما رزقه الله فإن لم يكن له فضل فدعاء حسن وتودد.
(وينهى عن الفحشاء) هي الخصلة التزايدة في القبح من قول أو فعل، وقيل هي الزنا وقيل البخل (والمنكر) وهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها، وقيل هو الشرك (والبغي) قيل هو الكبر، وقيل هو الظلم وقيل الحقد وقيل التعدي، وحقيقته تجاوز الحد فيشمل هذه المذكورة ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر وإنما خص بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره ووبال عاقبته وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه (إنما بغيكم على أنفسكم) وهذه الآية من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعن عبد الملك بن عمير أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب قال إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ثم قال لقومه كونوا في هذه الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً وكونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه آخراً.
_________
(١) مسلم/٨.
وعن عكرمة أن النبي ﷺ قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له: يا ابن أخي أعد عليّ فأعادها عليه فقال له الوليد والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، وعن الحسن أنه قرأ هذه الآية إلى آخرها؛ ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه وزجر عنه.
وفي المستدرك عن ابن مسعود وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر، قال البيضاوي: وبسببها أسلم عثمان بن مظعون ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة ولعل إيرادها عقب قوله (ونزلنا عليك الكتاب) للتنبيه عليه.
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله (يعظكم) بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه (لعلكم تذكرون) أي إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به فإنه كاف في باب الوعظ والتذكير.
(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) أي بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها بزيادة الأسماء والصفات، وقيل أن تأكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً، وحكى القرطبي عن ابن عمر أن التوكيد هو أن يحلف مرتين فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه.
وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالإيمان المؤكدة لا بغيرها مما لا تأكيد فيه فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من
وقال الزجاج: الأصل الواو والهمزة بدل منها، وقيل ليست الهمزة بدلاً من الواو كما زعمه أبو إسحاق لأن الاستعمالين في المادتين متساويان فليس ادعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر وتبع مكي الزجاج في ذلك ثم قال ولا يحسن أن يقال الواو بدل من الهمزة ولذلك تبعه الزمخشري أيضاً.
وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله ﷺ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " (١) حتى بالغ في ذلك ﷺ فقال " والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " (٢) وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما ويخص أيضاً من هذا العموم يمين اللغو لقوله سبحانه (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو وقد تقدم بسط الكلام على الإيمان في البقرة.
(وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) أي شهيداً إما على التشبيه فهو استعارة أو باستعماله في لازم معناه فهو مجاز مرسل، وقيل حافظاً، وقيل ضامناً وقيل رقيباً لأن الكفيل يراعي حال المكفول له (إن الله يعلم ما تفعلون) من وفاء العهد ونقضه فيجازيكم بحسب ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر وفيه ترغيب وترهيب.
ثم أكد وجوب الوفاء تحريم النقض فقال
_________
(١) مسلم ١٦٥٠.
(٢) مسلم ١٦٤٩ - البخاري ١٤٧٦.
وعن عبد الله بن كثير معناه، وقيل هي امرأة حمقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم قرشية فالمشبه به معين على هذا، وفي الكرخي المراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه من غير تعيين لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عن الفعل إذا كان قبيحاً والدعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم بدون التعيين إذ لا يلزم في التشبيه أن يكون المشبه به موجوداً في الخارج.
(أنكاثا) جمع نكث بكسر النون ما ينكث فتله ليغزل ثانياً بمعنى منكوث أي منقوض يقال نكث الرجل العهد نكثاً من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث، قال ابن قتيبة هذه الآية متعلقة بما قبلها والتقدير وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً أي أقطاعاً وأجزاء.
(تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم) قال الجوهري: الدخل المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وقيل الدخل ما أدخل في الشيء على فساده، وقال الزجاج: غشاً وغلا، وقيل أصل الدخل العيب والعيب ليس من الشيء الذي يدخل فيه (أن تكون أمة) أي بأن تكون جماعة أو لأجل وجدانكم أمة (هي أربى من أمة) جماعة أي أكثر عدداً منها وأوفر مالاً، يقال ربى الشيء يربو إذ كثر، قال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالإيمان قيل وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا
(إنما يبلوكم الله به) أي يختبركم بكونكم أكثر وأوفر لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء أم تنقضون اغتراراً بالكثرة، فالضمير في به راجع إلى مضمون الجملة المتقدمة، أي إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ليعلم ما تصنعون أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم.
(وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) فيوضح الحق والمحقين ويرفع درجاتهم ويبيّنَ الباطل والمبطلين فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه أو يبينِّ لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل.
ثم بينَّ سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال
ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الإيمان نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة فقال
قال في الجمل وعلى هذا فهو تأسيس لا تأكيد ولا تكرير، قال أبو حيان: لم يتكرر النهي وإنما الذي سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلاً معللاً بشيء خاص هو إن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي بقوله هذا استئنافاً للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلاً على العموم، أي في كل حال، فيشمل جميع الصور من الخديعة في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك.
قال الواحدي: قال المفسرون وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله ﷺ عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين، واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله فتزل قدم بعد ثبوتها، من المبالغة، وبما في قوله وتذوقوا السوء بما صددتم لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام؛ وعلى تسليم أن هذه
(فتزل قدم) أي قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق (بعد ثبوتها) عليها ورسوخها فيها؛ قيل وافراد القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أية قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام كثيرة، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه.
(وتذوقوا السوء) أي العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما (بما صددتم) أي بسبب امتناعكم وصدودكم (عن سبيل الله) وهو الإسلام أو بسبب صدكم لغيركم عن الإسلام، فإن من نقض البيعة وارتد اقتدى به غيره في ذلك فكان فعله سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها، ولهذا قال (ولكم عذاب عظيم) أي متبالغ في العظم، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا.
ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال
(إنما عند الله) وفي رسم أن هذه اختلاف بين المصاحف العثمانية ففي بعضها وصلها بما، وفي بعضها فصلها عنها كما ذكر ابن الجزري، أي ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع وما عنده في الآخرة من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع (هو خير لكم) ثم علل النهي عن أن يشتروا
ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال
ومعلوم لكل عاقل إن ما ينفد ويزول وأن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل أما نعيم الآخرة فظاهر؛ وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع.
ثم قال (ولنجزين) بالنون ففيه التفات، وقرئ بالياء واللام هي الموطئة للقسم أي والله لنجزين (الذين صبروا) بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاق التكليف والفاقة وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الأذى (أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) من الطاعات، قيل وإنما خص أحسن أعمالهم لأن ما عداه وهو الحسن مباح والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل المعنى ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من أعمالهم، كقوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
وقيل (أحسن) هنا ليس للتفضيل بل بمعنى الحسن أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل لا إنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن، كذا قيل، وفيه ما لا يخفى من العدة
(وهو مؤمن) جعل سبحانه الإيمان قيداً في الجزاء المذكور لأن عمل الكافر لا اعتداد به لقوله سبحانه (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال (فلنحيينه حياة طيبة) وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بماذا تكون، فقيل بالرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل.
روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك، وقيل بالقناعة قاله الحسن البصري وزيد بن وهب، ووهب بن منبه، وروي أيضاً عن عليّ وابن عباس قال: وكان رسول الله ﷺ يدعو " اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف عليً كل غائبة لي بخير ".
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه " (١) وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول
_________
(١) مسلم ١٠٥٤.
وقيل بالكسب الطيب والعمل الصالح، قاله ابن عباس، وقيل بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحاك، وقيل هي حياة الجنة، روي هذا عن مجاهد وقتادة وغيرهما وحكي عن الحسن أنه قال: لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وقيل الحياة الطيبة هي السعادة، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل هي المعرفة بالله، حكي ذلك عن جعفر الصادق رضي الله عنه.
وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة، وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة وقيل رزق يوم بيوم.
وقال السدي: إنما هي تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها، وقال سهل بن عبد الله التستري: هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويرد تدبيره إلى الحق، وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق.
وأكثر المفسرين على أن الحياة الطيبة هي في الدنيا لا في الآخرة، لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وقد قدمنا قريباً تفسير الجزاء بالأحسن ووحد الضمير في (لنحيينه) وجمعه في لنجزينهم حملاً على لفظ (من) وعلى معناه.
ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية فقال
_________
(١) الترمذي كتاب الزهر باب ٣٥ - الإمام أحمد ٥/ ٢٥٥.
قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة: معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، وهذا على مذهب الأكثرين من الفقهاء والمحدثين من أن الاستعاذة تطلب قبل القراءة، وليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن، ومثله إذا أكلت فقل بسم الله.
قال الواحدي: وهذا إجماع الفقهاء أن الاستعاذة قبل القراءة إلا ما روي عن أبي هريرة وابن سيرين ومالك وحمزة من القراء فإنهم قالوا: الاستعاذة بعد القراءة ذهبوا إلى ظاهر الآية، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وداود الظاهري.
وأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنها قبل القراءة كما تقدم، ومعنى فاستعذ بالله اسأله سبحانه أن يعيذك (من الشيطان الرجيم) أي من وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً، وتعقيبه لذكر العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القبيل.
وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهم لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى كذا قيل وتوجيه الخطاب إلى رسول الله ﷺ للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته، فكيف بسائر أمته، قال السيوطي في الآية، أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم انتهى.
وهذا بيان للأفضل وإلا فأصل السنة يحصل بأي صيغة كانت من صيغ الاستعاذة، وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب، وروي عن
عطاء الوجوب أخذاً بظاهر الأمر، والضمير في
(وعلى ربهم يتوكلون) أي يفوضون أمورهم إليه في كل قول وفعل فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم وإن وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس (إلا عبادك منهم المخلصين) وقال الله فيهم (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين).
ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان فقال:
وجواب إذا قوله (قالوا) أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ (إنما أنت) يا محمد ﷺ (مفتر) أي كاذب مختلق على الله فتقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال:
(بل أكثرهم لا يعلمون) شيئاً من العلم أصلاً أو لا يعلمون حقيقة القرآن وهو أنه اللفظ المنزل من عند الله على محمد ﷺ للإعجاز بسورة منه المتعبد بتلاوته أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي لا يعلمها إلا الله سبحانه فقد تكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره.
وفيه التخفيف على العباد ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف.
ثم بينَّ سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم افتراه فقال
_________
(١) كانت هذه الآية أوضح دليل لنا على وجود النسخ في القرآن حين نشرنا بحثاً وافياً في الموضوع في كتابنا (الإيمان وآثاره والشرك ومظاهره) وذلك عندما أعلن بعض العلماء الذين نحترمهم رأيه في عدم وجود النسخ في القرآن والكتاب عموماً، مهم جداً.
(ليثبت الذين آمنوا) على الإيمان فيقولون كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضاً إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم وقرئ من الإثبات (وهدى وبشرى للمسلمين) معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً لهم وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصائل لغيرهم.
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال
وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا فقيل هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر وكان نصرانياً حداداً رومياً فأسلم، وكان قريش إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أمياً قالوا إنما يعلمه جبر.
وقيل اسمه عايش أو يعيش عبد لبني الحضرمي وكان يقرأ الكتب الأعجمية، وقيل غلام لبني عامر بن لؤي، وقيل عنوا سلمان الفارسي، وقيل عنوا نصرانياً بمكة اسمه بلعام وكان يقرأ التوراة، وقيل عنوا رجلاً نصرانياً كان اسمه أبا ميسرة يتكلم بالرومية، وفي رواية اسمه عداس وقيل أرادوا بالبشر غلامين اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر، وكانا صيقليَّين يعملان السيوف بمكة، وكانا يقرآن كتاباً لهم، وقيل كانا يقرآن التوراة والإنجيل وكان النبي ﷺ يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه فقال المشركون إنما يتعلم منهما؛ قاله عبد الله بن مسلم الحضرمي.
ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال (لسان الذي يلحدون إليه) أي لغته وكلامه (أعجمي) والإلحاد الميل يقال لحد وألحد أي مال عن القصد ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه، وقد تقدم في الأعراف، والمعنى لسان الذي يميلون إليه ويشيرون ويزعمون أنه يعلمك أعجمي يقال رجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصحان والعجمة الإخفاء وهي ضد البيان والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بها أعجمياً.
قال الفراء والراغب: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان في العرب والأعجمي هو الذي أصله من العجم، وقال أبو علي الفارسي: العجمي المنسوب إلى العجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم وكذلك الأعجم والأعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب.
(وهذا) أي القرآن (لسان) أي كلام (عربي مبين) وسماه لساناً لأن العرب تقول للقصيدة والبيت لساناً أو أراد باللسان البلاغة فكأنه قال وهذا قرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه من العجم وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي تشيرون إليه وقد عجزتم أنتم عن معارضة سورة منه وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة.
فثبت بهذا أن الذي جاء به محمد ﷺ وحي أوحاه الله إليه، وليس هو من تعليم البشر الذي تشيرون إليه ولا هو آت به من تلقاء نفسه بل هو وحي من الله عز وجل وهاتان الجملتان مستأنفتان سيقتا لإبطال طعنهم ودفع كذبهم.
ولما ذكر سبحانه جوابهم وبخهم وهددهم فقال
ثم لما وقع منهم نسبة الافتراء إلى رسول الله ﷺ رد عليهم بقوله
وقال القرطبي: أجمع المفسرون وأهل العلم على أن من أكره على الكفر
وحكى عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتداً في الظاهر وفيما بينه وبين الله على الإسلام وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة.
وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة إنما جاءت في القول وأما في الفعل فلا رخصة مثل أن يكره على السجود لغير الله، ويدفعه ظاهر الآية فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل كما تقدم، والمعنى إلا من كفر بإكراه والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله ﷺ أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: " تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ومن لم تكن به قوة فليذهب أول الليل فإذا سمعتم بي قد استقرت لي الأرض فالحقوا بي ".
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوه إياه قال أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله ﷺ فأخبروه بأمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف كان قلبك حين قلت، أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ " قال: لا. فأنزل الله (إلا من أكره وقلبه مطمئن
وقيل نزلت في جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر، والأول أولى، والحق أن الآية عامة في كل من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وإن كان السبب خاصاً، وفيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب.
(ولكن) الاستدراك واضح لأن قوله إلا من أكره قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا، وقوله (مطمئن) لا ينفي ذلك الوهم (من) موصولة أو شرطية والأول أولى.
(شرح بالكفر صدراً) أي اختاره ورضي به وطابت به نفسه (فعليهم) فيه مراعاة معنى (من) ولو راعى لفظها لأفرد وقال فعليه (غضب من الله ولهم عذاب عظيم) في الآخرة.
عن ابن عباس قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي ﷺ وذكر آلهتهم بخير فتركوه، فلما أتى النبي ﷺ قال " ما وراءك؟ " قال: شر، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: " كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئناً بالإيمان، قال " إن عادوا فعد "، فنزلت (إلا من أكره) الخ. قال: فذاك عمار بن ياسر، ولكن من شرح بالكفر صدراً عبد الله بن أبي سرح (١)، أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت فيه.
وعن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة وعن ابن عباس قال: هو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله ﷺ فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي ﷺ أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن وعكرمة مثله، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه وعيد.
_________
(١) المستدرك، كتاب التفسير ٢/ ٣٥٧.
ثم وصفهم بقوله
الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله.
الثانية: أنهم استحقوا عذابه العظيم.
الرابعة: أنهم حرمهم الله من الهداية.
الخامسة: أنه طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
السادسة: أنه جعلهم من الغافلين.
قال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا بذلك إليهم أن الله قد جعل لكم مخرجاً فأخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجى من نجى وقتل من قتل.
(من بعد ما فتنوا) أي فتنتهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرئ فتنوا على البناء للفاعل وهي سبعية أيضاً، أي للذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام (ثم جاهدوا) في سبيل الله (وصبروا) على ما أصابهم من الكفار وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف (إن ربك من بعدها) أي من بعد الفتنة التي فتنوها أو بعد المهاجرة أو الجهاد أو الصبر أو جميع ذلك (لغفور رحيم) أي كثير الغفران والرحمة لهم.
ومعنى الآية على قراءة البناء للفاعل واضح ظاهر، أي إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم، وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور فالمعنى أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم رحيم بهم.
وأما إذا كان سبب الآية هو هذا عبد الله بن أبي سرح الذي ارتد عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إليه، فالمعنى أن هذا المفتون في دينه بالردة إذا أسلم وجاهد وصبر فالله غفور له رحيم به.
وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان وبالنفس الثانية الذات فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها بل يقول نفسي نفسي ومعنى المجادلة عنها الاعتذار بما لا يقبل منه كقوله (والله ربنا ما كنا مشركين) ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة.
(وتوفى كل نفس) جزاء (ما عملت) في الدنيا من خير أو شر (وهم لا يظلمون) من جزاء أعمالهم بل يوفون ذلك كاملاً من غير زيادة أو نقصان
وذهب الأكثرون إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله ﷺ وقال: " اللهم أشدد وطأتك على مضر وأجعلها عليهم سنين كسني يوسف " (١) فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد بذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولاً أولياً.
وأيضا يكون الوعيد أبلغ والمثل أكمل وغير مكة مثلها، وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها. وعن ابن عباس قال: يعني مكة وعن عطية مثله وزاد فقال: ألا ترى أنه قال
_________
(١) مسلم ٦٧٥ - البخاري ٤٨٣.
والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبي ﷺ فتقدير الآية ضرب الله مثلاً لقريتكم، أي بيَّن الله لها شبهاً، ثم وصف القرية بأنها (كانت آمنة) غير خائفة.
(مطمئنة) غير منزعجة، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون، وعن ابن شهاب قال القرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب.
قلت ولا أدري أي دليل على هذا التعيين ولا أي قرينة قامت له على ذلك ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله وأي وقت أذاقها الله
وصح عنه ﷺ أنه قال " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " (يأتيها رزقها) أي ما يرتزق به أهلها (رغداً) أي واسعاً يقال رغد العيش بالضم رغادة اتسع ولأن فهو رغد ورغيد ورغد ورغد رغداً من باب تعب لغة فهو راغد وهو في رغد من العيش أي رزق واسع، وأرغد القوم بالألف أخصبوا والرغيد الزبد (من كل مكان) من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها أي من نواحيها من البر والبحر.
(فكفرت) أي كفر أهلها (بأنعم الله) التي أنعم بها عليهم وهي جمع نعمة كالأشد جمع شدة، وقيل كالأدرع جمع درع على ترك الاعتداد بالتاء وقيل جمع نعم مثل بؤس وأبؤس ويحتمل أنه جمع نعماء بفتح النون والمد وهي بمعنى النعمة وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله.
(فأذاقها الله) أي أهلها (لباس الجوع والخوف) أي أثرهما فقحطوا سبع سنين وسمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة وأصلها الذوق بالفم ثم استعيرت لمطلق الإيصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين إدراك اللمس والذوق.
روي أن ابن الراوندي الزنديق، قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً ﷺ ما كان نبياً أما كان عربياً، كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي.
وقد أجاب علماء البيان هذا أن تجريد الاستعارة وذلك أنه استعار
قال الرازي: والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقها، والتقدير: أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختيار قال الشاعر:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها | وسيق إلينا عذبها وعذابها |
(ولقد جاءهم) يعني أهل مكة (رسول منهم) أي من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضررهم (فكذبوه) فيما جاء به (فأخذهم العذاب) النازل بهم من الله سبحانه (وهم) أي والحال أنهم في حال أخذهم العذاب لهم (ظالمون) لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم بالإضرار لهم وصدهم عن سبيل الله.
وهذا الكلام من تمام المثل الضروب وقيل أن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر والأول أولى.
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة أمرهم بأن يأكلوا مما زرقهم الله من الغنائم ونحوها وقال
وقيل أن الفاء (فكلوا) داخلة على الأمر بالشكر، وإنما دخلت على الأمر بالأكل لأن الأكل ذريعة إلى الشكر (واشكروا نعمة الله) التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها (إن كنتم إياه تعبدون) ولا تعبدون غيره أو أن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادة الله تعالى.
والسر في ذلك إن نذر الروح لغير خالق الروح لا يجوز وإن كان حكم جميع المأكولات والمشروبات والأموال المنذورة للتقرب إلى غير الله سبحانه هكذا فإنها شرك وحرام، ولكن ثوابها الذي كان يعود إلى الناذر جاز جعله للغير كما جاز للإنسان أن يعطي ماله من شاء بخلاف روح الحيوان فإنه ليس بمملوك للإنسان حتى يعطيه لأحد غير الله، وإنما وجب الأجر في إنفاق المال لأن المال شيء ينتفع به في الحال.
ولما كان الموتى لا ينتفعون بعين المال جعل طريق إيصال النفع إليهم أن تجعل الأموال المعطاة لأهل الاستحقاق لهم فيعود ثوابها إليهم، وأما روح الحيوان فلا يصلح للانتفاع في حياة الإنسان فكيف بعد مماته ومضي الأزمان.
وأما الأضحية عن الميت التي ورد بها الحديث فمعناها أن الأجر الذي كاد يثبت في إزهاق الروح لله سبحانه وتعالى يعطى لذلك الميت لا أنه يذبح لأجله ويرفع به الصوت للتقرب إليه.
وهذه الآية الكريمة جاءت في أربعة مواضع من التنزيل ومعناها ما رفع به الصوت لغير الله لا ما ذبح باسم غير الله، فمن رفع الصوت بحيوان لغيره
_________
(١) أحمد بن حنبل ١/ ٢١٧.
كيف ولم يرد به عرف ولا وقع في شعر قط، هذه كتب اللسان العربي ودفاتر اللغات على وجه البسيطة ليس في أحد منها الإهلال بمعنى الذبح، وإنما يقال الإهلال لرؤية الهلال ولبكاء الطفل وللتلبية بالحج لا للذبح، فليس معنى أهللت لله ذبحت له، في القاموس استهل الصبي رفع صوته بالبكاء كأهلَّ وكذا كل متكلم رفع صوته أو خفض، وأهلَّ نظر إلى الهلال والملبي رفع صوته بالتلبية.
وقال الجوهري: استهل الصبي أي صاح عند الولادة وأهلَّ المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية وأهل بالتسمية على الذبيحة، وقوله تعالى (وما أهلَّ لغير الله به) أي نودي عليه بغير اسم الله، وأصله رفع الصوت انتهى.
ولو سلم إن معناه ذبح لغير الله فأين هذا من معنى ذبح باسم غير الله حتى تنتهض به الحجة، فالقول بأن الإهلال في هذه الآية ونظائرها بمعنى الذبح وغير الله بمعنى اسم غير الله يقرب بتحريف كلامه سبحانه وتعالى حاشاه عن ذلك.
وقد حكى النظام النيسابوري في تفسيره إجماع أهل العلم على أن ذبيحة المسلم التي قصد بذبحها التقرب إلى غير الله ذبيحة مرتد، وقد صار هو مرتداً أيضاً وكان الكفار في الجاهلية إذا خرجوا من ديارهم رفعوا الأصوات بأسماء الأصنام في الطرق والشوارع وإذا وصلوا إلى مكة المكرمة طافوا الكعبة مع أن طوافهم هذا لم يكن يقبل عند الله ولهذا نزل قوله تعالى: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).
فكذلك فيما نحن فيه إذا رفع أحد الصوت بحيوان أنه لفلان أو لأجله أو
وإذا تقرر لك أن الإهلال بمعنى رفع الصوت في اللغة لا بمعنى الذبح علمت أن الذي فسره بالذبح قد غلط غلطاً بيناً أو تجوّز ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعدد الحقيقة أو تأول رفع الصوت بالذبح بناء على سبب النزول وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد فسرنا الإهلال في البقرة والمائدة والأنعام بما فسر به جمهور المفسرين وهو تسامح سبق به القلم، وإنما الحق في المقام تفسيره برفع الصوت وإلغاء قيد الذبح ليتناول النظم الكريم كل حيوان رفع به الصوت لغير الله سبحانه وتعالى سواء ذبح باسم الله أو باسم غيره، وعليه تدل اللغة العربية وهي الأصل المقدم في تفسير كلام الله العزيز على الجميع ما لم يعارضه نص مقدم أو ناقل مرجح أو دليل مساو، والذي فسرنا به الآية هنا قد فسرها به الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمه الله في تفسيره وهو الصواب وبالله التوفيق.
ثم ذكر الله سبحانه الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال (فمن اضطر) أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك حال كونه (غير باغ) على مضطر آخر (ولا عاد) متعد قدر الضرورة وسد الرمق (فإن الله غفور رحيم) لا يؤاخذه بذلك، وقيل معناه غير باغ على الوالي ولا متعد على الناس بالخروج لقطع الطريق، فعلى هذا لا يباح تناول شيء من المحرمات في سفر المعصية.
ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال:
قال مجاهد: في البحيرة والسائبة، وقيل يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي.
وقيل في الكلام حذف بتقدير القول أي فتقول هذا حلال وهذا حرام أو قائلة هذا حلال وهذا حرام، وقيل لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، وقرئ كذب بضم الثلاثة على أنه نعت للألسنة، وقرئ ككتف نعتاً لما أو بدلاً منها، ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام.
عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
قلت صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتياً من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسول الله ﷺ كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة وأنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاواهم ويمنعوا من جهالاتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها | أعمى على عوج الطريق الحائر |
(لتفتروا) اللام هي لام العاقبة لا لام الغرض، أي فيتعقب ذلك افتراؤكم (على الله الكذب) بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه.
(إن الذين يفترون على الله الكذب) أي افتراء كان (لا يفلحون) بنوع من أنواع الفلاح والفوز بالمطلوب لا في الدنيا ولا في الآخرة بدليل ما بعده
ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال
(من قبل) متعلق بقصصنا أو بحرمنا. قال الحسن: يعني في سورة الأنعام؛ وعن قتادة مثله وقال حيث يقول: (وعلى الذين هادوا -إلى قوله- وإنا لصادقون) وتحريم الشيء إما لضرر فيه وإما لبغي المحرم عليهم، فقوله إنما حرم عليكم الخ، إشارة للقسم الأول وهذا إشارة للقسم الثاني.
(وما ظلمناهم) بذلك التحريم بل جزيناهم ببغيهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) حيث فعلوا أسباب ذلك فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم. ثم بين سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال:
(ثم تابوا من بعد ذلك) أي من بعد عملهم للسوء، وفيه تأكيد، فإن " ثم " قد دلت على البعدية فأكدها بزيادة ذكر البعدية (وأصلحوا) أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه؛ ثم كرر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال (إن ربك من بعدها) أي من بعد التوبة (لغفور) كثير الغفران (رحيم) أي واسع الرحمة.
ولما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم، وكان إبراهيم عليه السلام من الموحدين، وهو قدوة كثير ممن ذكره الله في آخر هذه السورة قال
قال الواحدي: قال أكثر المفسرين معنى الأمة المعلم للخير وبه قال ابن
وقيل أنه كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار، فلهذا المعنى كان أمة وحده ومنه قوله ﷺ في زيد بن عمرو بن نفيل: " يبعثه الله أمة وحده لأنه كان فارق الجاهلية ". قال مجاهد: قيل بمعنى مأموم أي الذي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير كما قال تعالى (إني جاعلك للناس إماماً). وحكى ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: أن هذا مثل قول العرب فلان رحمة وعلامة ونسابة يقصدون بهذا التأنيث التناهي في المعنى الذي يصفونه به، والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد، كقوله فنادته الملائكة، وإنما ناداه جبريل وحده، وإنما سمي إبراهيم أمة لأنه اجتمع فيه من صفات الفضل وسمات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع من أمة.
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما من عبد تشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم، والأمة الرجل فما فوقه، إن الله يقول إن إبراهيم كان أمة " أخرجه ابن مردويه وقد تقدم معنى القنوت في البقرة.
(حنيفاً) الحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، أي مسلماً
(وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي في أعلى مقاماتهم في الجنة، وقيل من بمعنى مع، وهذا حسبما وقع منه السؤال لربه حيث قال (وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم) اللهم إني أسألك إن تجعلني ممن يصدق عليه هذا الدعاء وإني من ذرية خليلك إبراهيم وما ذلك عليك بعزيز وآتني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقني عذاب النار إنك أنت التواب الرحيم.
وحاصل ما ذكر من الصفات هنا تسعة بل عشرة إذ قوله سبحانه
قال الراغب: الفرق بينهما إن الملة لا تضاف إلا إلى النبي ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمة، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها والمراد بملته الإسلام الذي عبر عنه آنفاً بالصراط المستقيم.
وقيل والمراد اتباعه ﷺ ولملته عليه السلام في التوحيد والدعوة إليه، وقال ابن جرير: في التبري من الأوثان والتدين بدين الإسلام، وقيل في مناسك الحج، وقيل في الأصول دون الفروع. وقال أبو السعود في الأصول والعقائد وأكثر الفروع دون الشرائع المتبدلة بتبدل الإعصار انتهى. وقيل في جميع شريعته إلا ما نسخ، وهذا هو الظاهر.
وفي الكرخي: إنما جاز اتباع الأفضل المفضول لسبقه إلى القول والعمل به، قال القرطبي وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول فيما يؤدي إلى الصواب ولا درك على الفاضل في ذلك، فإن النبي ﷺ أفضل الأنبياء عليهم السلام وقد أمر بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم فقال تعالى (فبهداهم اقتده)
(حنيفا) حال من إبراهيم، وجاز مجيء الحال منه لأن الملة كالجزء منه، وقد تقرر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه أو كان جزء أو كالجزء من حيث صحة الاستغناء بالثاني عن الأول، إذ يصح أن يقال أن اتبع إبراهيم حنيفاً.
(وما كان من المشركين) تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها، أي كرر رداً على زعم المشركين أنهم على دينه.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة أن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره فخالفوه وقالوا أن السبت أفضل، فقال الله له دعهم وما اختاروا لأنفسهم.
وقيل أن الله أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع فاختلف اجتهادهم فيه فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق؛ وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق، فألزم الله كُلاًّ منهم ما أدى إليه اجتهاده وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلمهم إلى اجتهادهم فضلاً منه ونعمة.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم عليه السلام، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة.
وعن مجاهد في الآية قال: أراد الجمعة فأخذوا السبت مكانها، وعن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قالا باستحلالهم إياه، رأى موسى عليه السلام رجلاً يحمل حطباً يوم السبت فضرب عنقه.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد " (١) وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه. (وإن ربك ليحكم بينهم) أي بين المختلفين فيه (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) فيجازى فيه كُلاًّ بما يستحقه ثواباً وعقاباً كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال
_________
(١) مسلم ٨٥٥ - البخاري ١٧٧.
(والموعظة الحسنة) وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي
ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل ولهذا قال سبحانه (وجادلهم بالتي هي أحسن) أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف وإيثار الوجه الأيسر والمقدمات التي هي أشهر فإن ذلك أنفع في تسكين شرهم وهو ردّ على من يأبى المناظرة في الدين وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً.
قيل أن الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام:
الأول: هم العلماء وهم المشار إليهم بقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة).
والثاني: هم أصحاب النظر السليم والخلقة الأصلية وهم غالب الناس وهم المشار إليهم بقوله (والموعظة الحسنة).
والثالث: هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهم المشار إليهم بقوله وجادلهم الخ، وقال مجاهد في الآية أعرض عن أذاهم إياك ولا تقصر في تبليغ الرسالة، وعلى هذا فالآية منسوخة بآية السيف، قال بعضهم لا حاجة إلى دعوى النسخ إذ الأمر بالمجادلة ليس فيه تعريض للنهي عن المقاتلة.
(إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) لما حث سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الرشد والهداية ليس إلى النبي ﷺ وإنما ذلك إلى الله تعالى وهو الأعلم بمن يضل.
(وهو أعلم بالمهتدين) أي بمن يبصر الحق فيقصده غير متنعت، وإنما شرّع لك الدعوة وأمرك بها قطعاً للمعذرة وتتميماً للحجة وإزاحة للشبهة وليس
ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال
قال ابن جرير: نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها ونحوه في البيضاوي، وهذا صواب لأن الآية وإن قيل أن لها سبباً خاصاً كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ بالشر عقوبة مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي، للمشاكلة وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز.
ثم حث سبحانه على العفو فقال (ولئن صبرتم) عن العاقبة بالمثل وعن الانتقام بتركه بالكلية (لهو) بضم الهاء وسكونها قراءتان سبعيتان أي فالصبر (خير للصابرين) من الانتصاف ووضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم، وفي تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق والقصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة ولا تدلق لها بالنسخ، وقيل هي منسوخة بآيات القتال وبه قال ابن عباس والضحاك ولا وجه لذلك.
أخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار:
وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ وقف على حمزة حيث استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال " رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمت وصولاً للرحم فعولاً للخير، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك " فنزل جبريل والنبي ﷺ واقف بخواتيم سورة النحل (وإن عاقبتم) الآية فكفر النبي ﷺ عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر، وعن ابن عباس مرفوعاً نحوه أخرجه الطبراني وابن المنذر وغيرهما (٢).
وهذا القول من النبي ﷺ كأنه كان باجتهاد منه وعليه فلينظر هل قوله تعالى (ولئن صبرتم) الخ نسخ لهذا الاجتهاد أو تنبيه على خطئه تأمل، وعنه قال هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ.
ثم أمر سبحانه رسوله ﷺ بالصبر فقال
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٥٩.
(٢) المستدرك كتاب حمزة ٣/ ١٩٧.
وقال هنا: (تك) بحذف النون ليكون ذلك مبالغة في التسلية وأثبتها في النمل على القياس ولأن الحزن ثم دون الحزن هنا وإلى ذلك أشار في التقرير (مما يمكرون) أي من مكرهم بك فيما يستقبل من الزمان و (ما) مصدرية أو بمعنى الذي.
ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال
(والذين هم محسنون) بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا به منها أو بالعفو عن الجاني، وقيل المعنى محسنون في أصل الانتقام، فيكون الأول إشارة إلى قوله (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والثاني إشارة إلى قوله (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) وقيل الذين اتقوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله والذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.
وعن الحسن قال؛ اتقوا فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم، والعموم أولى، وقيل لهرم بن حيان عند الموت أَوصِ فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراءوتسمى سورة سبحان وسورة الإسراء مائة وإحدى عشرة آية وهي مكية: وبه قال ابن عباس، وعن ابن الزبير مثله إلا ثلاث آيات، قوله: (وإن كادوا ليستفزونك) نزلت حين جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفد ثقيف وحين قالت اليهود ليست هذه بأرض الأنبياء وقوله: (رب أدخلني مدخل صدق) وقوله: (إن ربك أحاط بالناس) وزاد مقاتل قوله إن الذين أوتوا العلم من قبله وقيل الآيات الثمان.
وعن ابن مسعود قال في هذه والكهف ومريم إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي، وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣)