تفسير سورة الشمس

فتح البيان
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الشمس
هي خمس عشرة آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وعن بريده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة العشاء ﴿ والشمس وضحاها ﴾ وأشباهها من السور " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي، وقد تقدم حديث جابر في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى.
وعن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بالليل إذا يغشى والشمس وضحاها " أخرجه الطبراني، وعن عقبة بن عامر قال :" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها والضحى " أخرجه البيهقي في الشعب.

(والشمس وضحاها) أقسم سبحانه بهذه الأمور، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وقال قوم إن القسم بهذه الأمور ونحوها مما تقدم ومما سيأتي هو على حذف مضاف أي ورب الشمس، وهكذا سائرها، ولا ملجىء إلى هذا ولا موجب له، وقوله: (وضحاها) هو قسم ثان، وقال الرازي المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.
وقد أقسم تعالى بأنواع مخلوقاته المشتملة على المنافع العظيمة ليتأمل المكلف فيها ويشكر عليها لأن ما أقسم الله تعالى به يحصل منه وقع في القلب، وأقسم الله في هذه السورة بسبعة أشياء إلى قوله: (قد أفلح من زكاها) فأقسم بالشمس وضحاها فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر أثر الصبح صارت الأموات أحياء، وتكاملت الحياة وقت الضحوة، وهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها انتهى.
قال مجاهد أي ضوؤها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس لأنه إنما يكون عند ارتفاعها، وكذا قال الكلبي، وقال قتادة: ضحاها نهارها كله، قال الفراء: الضحى هو النهار، وقال المبرد: أصل الضحى الصبح، وهو نور الشمس، وقيل الضحوة ارتفاع النهار، والضحى فوق ذلك.
قال القرطبي: الضحى مؤنثة يقال ارتفعت الضحى فوق الضحو، وقد تذكر، فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ومن ذكّر ذهب إلى أنها اسم فعل
251
نحو صرد ونغر، قال أبو الهيثم: الضحى نقيض الظل: وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله الضحى فاستثقلوا الياء فقلبوها ألفاً قيل والمعروف عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس وبعد ذلك قليلاً، فإذا زاد فهو الضحاء بالمد.
قال المبرد: الضحى والضحوة مشتقان من الضح وهو النور فأبدلت الألف والواو من الحاء.
واختلف في جواب القسم ماذا هو، فقيل هو قوله: (قد أفلح من زكاها) قاله الزجاج وغيره وحذفت اللام لأن الكلام قد طال فصار طوله عوضاً منها، وقيل محذوف أي لتبعثن وقيل تقديره ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً، وأما قوله: (قد أفلح من زكاها) فكلام تابع لقوله: (فألهمها فجورها وتقواها) على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، وقيل هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (والشمس وضحاها) والأول أولى.
252
(والقمر إذا تلاها) أي تبعها وذلك بأن طلع بعد غروبها، يقال تلا يتلو تلواً إذا تبع، قال المفسرون وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور، وقال الزجاج تلاها حين استدار فكان يتلو الشمس في الضياء والنور، يعني إذا كمل ضوؤه فصار تابعاً للشمس في الإنارة يعني كان مثلها في الإضاءة وذلك في الليالي البيض.
وقيل إذا تلا طلوعه طلوعها، قال قتادة إن ذلك ليلة الهلال إذا سقطت رؤى الهلال، قال ابن زيد إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب، وقال الفراء تلاها أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس، قال ابن عباس تلاها تبعها.
252
والأولى أن يفسر تلوه لها بكون ضوئه يخلفها ويجيء بعد مغيبها سواء كان ذلك من غير تراخ وهو في النصف الأول من الشهر، أو بعد مدة وذلك في النصف الثاني من الشهر فإن القمر إذا طلع في نصف الليل يقال أنه تلاها في ظهور الضوء أي خلفها فيه ولو بعد تخلل مدة ظلمة فليتأمل.
253
(والنهار إذا جلاها) أي أضاءها، قاله ابن عباس، وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تنجلي تمام الإنجلاء فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه وقيل الضمير عائد إلى الظلمة أي جلى الظلمة وإن لم يجر للظلمة ذكر لأن المعنى معروف، قال الفراء تقول أصبحت باردة أي أصبحت غداتنا باردة، والأول أولى، ومنه قول قيس ابن الخطيم:
تجلت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وقيل المعنى جلى ما في الأرض من الحيوانات وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل، وقيل جلى الدنيا وقيل جلى الأرض.
(والليل إذا يغشاها) أي يغشى الشمس فيذهب بضوئها فتغيب وتظلم الآفاق وقيل يغشى الآفاق وقيل الأرض، وإن لم يجر لهما ذكر لأن ذلك معروف، والأول أولى.
قال الخطيب: وجيء به مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب: إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع انتهى.
والمعنى يغطيها بظلمته أي فيزيل ضوؤها فالنهار يجليها ويظهرها والليل يغطيها ويزيل ضوؤها فالضمير في الفواصل من أول السورة إلى هنا للشمس.
وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا للشمس في الحقيقة لكن بحسب أربعة أوصاف أولها الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار، وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار
253
الحيوان وتحرك الإنسان للمعاش، ومنها تلو القمر للشمس بأخذه الضوء عنها، ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار، ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل، ومن تأمل قليلاً في عظمة الشمس انتقل منها إلى عظمة خالقها فسبحانه ما أعظم شأنه.
254
(والسماء وما بناها) يجوز أن تكون ما مصدرية أي والسماء وبنيانها، ويجوز أن تكون موصولة وبه قال أبو البقاء أي والذي بناها، وإيثار (ما) على (من) لإرادة الوصفية لقصد التفخيم كأنه قال والقادر العظيم الشأن الذي بناها ورجح الأول الفراء والزجاج ولا وجه لقول من قال أن جعلها مصدرية مخل بالنظم ورجح الثاني ابن جرير قال ابن عباس الله بنى السماء.
(والأرض وما طحاها) الكلام في (ما) هذه كالكلام في التي قبلها ومعنى طحاها بسطها على الماء كذا قال عامة المفسرين كما في قوله: (دحاها) قالوا طحاها ودحاها واحد أي بسطها من كل جانب، والطحو البسط، وقيل معنى طحاها قسمها وقيل خلقها والأول أولى، والطحو أيضاًً الذهاب، قال أبو عمرو بن العلاء طحا الرجل إذا ذهب في الأرض، يقال ما أدري أين طحا، ويقال طحا به قلبه إذا ذهب به.
(ونفس وما سواها) الكلام في (ما) هذه كما تقدم، ومعنى سواها خلقها وأنشأها وسوى أعضائها وعدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. قال عطاء يريد جميع ما خلق من الإنس والجن، التنكير للتفخيم أو للتكثير، وقيل المراد نفس آدم:
(فألهمها فجورها وتقواها) أي عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح، والإلهام إلقاء الشيء في القلب بطريق الفيض ينشرح له الصدر ويطمئن، فإطلاقه على الفجور تسامح، وقد دفع بحمل الإلهام على مطلق البيان.
قال مجاهد عرفها طريق الفجور والتقوى والطاعة والمعصية، قال الفراء
254
فألهمها عرفها طريق الخير والشر كما قال: (وهديناه النجدين).
قال محمد بن كعب: إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به، قال ابن زيد جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور، واختار هذا الزجاج، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله في قلب عبد شيئاًً فقد ألزمه ذلك الشيء قال: وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره، قال ابن عباس: في الآية علمها الطاعة والمعصية، وعنه قال ألهمها من الخير والشر وعنه قال: ألزمها فجورها وتقواها.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين أن رجلاً قال: " يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قد قضي عليهم ومضى في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة قال بل شيء قد قضي عليهم، قال فلم يعملون إذن؟ قال من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وسيأتي في السورة التي بعد هذه نحو هذا الحديث.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله ﷺ يقول: " اللهم آت نفسي تقواها، " وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وزاد كان إذا تلا هذه الآية (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) قال فذكره وزاد أيضاًً وهو في الصلاة، وأخرج حديث زيد بن أرقم مسلم أيضاًً وأخرج نحوه أحمد من حديث عائشة.
255
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)
256
(قد أفلح من زكاها) أي قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب وظفر بكل محبوب، وقد قدمنا أن هذا جواب القسم على الراجح، قال الزجاج: صار طول الكلام عوضاً عن اللام، أي والأصل فيه (لقد) وتبعه القاضي قال الشهاب وعند النحاة أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جواباً للقسم تلزمه اللام وقد، ولا يجوز الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام أو في ضرورة، وأصل الزكاة النمو والزيادة ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال ابن عباس يقول قد أفلح من زكى الله نفسه أي بالطاعة.
(وقد خاب من دساها) أي خسر من أضلها وأغواها بالمعصية قال أهل اللغة دساها أصله دسسها من التدسيس وهو إخفاء الشيء في الشيء، فمعنى دساها في الآية أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.
وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها فتقصدها الضيوف، وكانت لئام العرب تنزل الهضاب والأمكنة المنخفضة ليخفى مكانها عن الوافدين.
وقال ابن الأعرابي المعنى دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم قال ابن عباس قد خاب من دس الله نفسه فأضله، وعنه قال دساها يعني مكر بها، وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الآية " أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير " أخرجه أبو حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك،
256
وجويبر ضعيف، وتكرير (قد) فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونها والإيذان بتعلق القسم به أيضاًً اصالة.
257
(كذبت ثمود) رسولها صالحاً (بطغواها) أنث الفعل لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم، والطغوى اسم من الطغيان كالدعوى.
قال الواحدي قال المفسرون: معناه الطغيان حملهم على التكذيب، والطغيان مجاوزة الحد في المعاصي والباء للسببية كما قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وقيل بطغواها أي بعذابها الذي وعدت به وسمي العذاب طغوى لأنه طغى عليهم فتكون الباء على هذا للتعدية، وبدأ في الكشاف بأنها للاستعانة مجازاً يعني فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول ظلمني بجرأته على الله، وقال محمد بن كعب بطغواها أي بأجمعها.
قرأ الجمهور بفتح الطاء وهو مصدر بمعنى الطغيان، وإنما قلبت الياء واواً للفرق بين الاسم والصفة لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيراً نحو تقوى وسروى، وقرىء بضم الطاء وهو مصدر أيضاًً كالرجعى والحسنى ونحوهما، وقيل هما لغتان، واختير التعبير بالطغوى لأنه أشبه برؤوس الآيات قال ابن عباس اسم العذاب الذي جاءها الطغوى فقال كذبت ثمود بعذابها.
(إذ انبعث أشقاها) العامل في الظرف كذبت أو بطغواها أي حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف فعقر الناقة، ومعنى انبعث انتدب لذلك وقام به يقال بعثته على الأمر فانبعث به، ويضرب بقدار المثل فيقال أشأم من قدار، وهو أشقى الأولين وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً، ومعنى قدار في الأصل الجزار، وقد تقدم بيان هذا في الأعراف.
(فقال لهم رسول الله) يعني صالحاً بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى (ناقة الله) قال الزجاح أي ذروا ناقة الله، وقال الفراء حذرهم إياها وكل تحذير فهو نصب أي ذروا عقرها،
257
والإضافة للتشريف كبيت الله (و) احذروا (سقياها) وهو شربها من الماء وكان لها يوم ولهم يوم، قال الكلبي ومقاتل قال لهم صالح ذروا ناقة الله فلا تعقروها وذروا سقياها وهو شربها من النهر فلا تعرضوا لها يوم شربها.
258
(فكذبوه) بتحذيره إياهم واستمروا على تكذيبه (فعقروها) أي عقرها الأشقى وإنما أسند العقر إلى الجميع لأنهم رضوا بما فعله، قال قتادة إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم، قال الفراء عقرها اثنان، والعرب تقول هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، فلهذا لم يقل أشقياها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: " خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) قال انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة " (١).
وعن عمار بن ياسر قال قال رسول الله ﷺ لعلي " ألا أحدثك بأشقى الناس قال بلى قال رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذا يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه، يعني لحيته " أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والبغوي والطبراني وابن مردويه والحاكم وأبو نعيم في الدلائل.
(فدمدم عليهم ربهم) أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب (بذنبهم) الذي هو الكفر والتكذيب والعقر، وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده يقال دمدمت على الشيء أي أطبقت عليه ودمدم عليه القبر
_________
(١) وهو قدار بن سالف. روى البخاري في " صحيحه " ٨/ ٥٤٢ عن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي - ﷺ - يخطب وذكر الناقة، والذي عقر، فقال رسول الله - ﷺ -: (إذ انبعث أشقاها) انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة " ورواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم.
258
أي أطبقه، وناقة مدمومة إذا لبسها الشحم والدمدمة إهلاك باستئصال، كذا قال المؤرج.
قال في الصحاح دمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض وطحطحته، ودمدم الله عليهم أهلكهم ودمدمت على الميت التراب أي سويته عليه.
قال ابن الأنباري دمدم أي غضب، والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل، وقال ابن الأعرابي دمدم إذا عذب عذاباً تاماً.
والضمير في (فسواها) يعود إلى الدمدمة أي فسوى الدمدمة عليهم وعمهم بها فاستوت في صغيرهم وكبيرهم، وقيل: يعود إلى الأرض أي فسوى الأرض عليهم فجعلهم تحت التراب، وقيل يعود إلى الأمة أي ثمود، قال الفراء: سوى الأمة أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوى بينهم فلم يفلت منهم أحداً إلا من آمن مع صالح وكانوا أربعة آلاف.
قرأ الجمهور فدمدم بميم بين الدالين وقرأ ابن الزبير فدهدم بهاء بينهما: قال القرطبي وهما لغتان كما يقال امتقع لونه واهتقع لونه، وفي القاموس دمم الأرض سواها كدهدم ودمدم عليهم، فتلخص أن دمدم بدال واحدة ودمدم بدالين معناهما واحد.
259
(ولا يخاف عقباها) أي فعل الله بهم ذلك غير خائف من عاقبة ولا تبعة، والضمير في عقباها يرجع إلى الفعلة، أو إلى الدمدمة المدلول عليها بدمدم.
قال السدي والضحاك والكلبي إن الكلام يرجع إلى العاقر لا إلى الله سبحانه أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع، وقيل لا يخاف رسول الله عليه الصلاة والسلام عاقبة إهلاك قومه ولا يخشى ضرراً يعود عليه من عذابهم، لأنه قد أنذرهم، والأول أولى.
قرأ الجمهور ولا يخاف بالواو، وقرىء بالفاء وهما قراءتان سبعيتان، أما
259
الواو فيجوز أن تكون للحال أو لاستئناف الأخبار، والفاء للتعقيب، وهو ظاهر، والمعنى لا يخاف عاقبتها كما تخاف الملوك عاقبة ما تفعله، فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم، وأنهم أذلاء عند الله.
وفي القاموس أعقبه الله بطاعته جازاه، والعقبى جزاء الأمر.
260
سورة والليل
هي إحدى وعشرون آية وهي مكية عند الجمهو، وقيل مدنية قال ابن عباس نزل بمكة وعن ابن الزبير مثله، عن جابر بن سمرة قال: " كان النبي - ﷺ - يقرأ في الظهر والعصر (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ونحوها، أخرجه البيهقي في سننه.
وعن أنس: أن رسول الله - ﷺ - صلى بهم الهاجرة فرفع صوته فقرأ والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فقال له أبيّ بن كعب يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء قال " لا ولكن أردت أن أوقت لكم " أخرجه الطبراني في الأوسط وقد تقدم حديث " فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ".
وعن ابن عباس إني لأقول أن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل، قال الرازي نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وإنفاقه على المسلمين، وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
261

بسم الله الرحمن الرحيم

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١)
263
Icon