مائة وإحدى عشرة آية
قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس وابن الزبير وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزا والأول أصح وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ) ١.
وأخرج مسلم والبخاري وغيرهما عن البراء قال : قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( اقرأ فلان فإن السكينة نزلت للقرآن ) ٢ وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني، وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث.
وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قرأ سورة الكهف كانت له نورا من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره ) ٣.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء قالوا : بلى يا رسول الله قال : سورة أصحاب الكهف ) أخرجه ابن مردويه٤.
وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة ) وفي الباب أحاديث وآثار وفيما أوردناه كفاية مغنية.
٢ مسلم ٧٩٥ ـ البخاري ١٦٩٨..
٣ المستدرك كتاب فضائل القرآن ١/٥٦٥..
٤ ضعيف الجامع ٢١٥٩ ـ الأحاديث الضعيفة ٢٤٨٢..
ﰡ
وقال الشوكاني رحمه الله: علم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما هو في حيز الصلة لما قبله، ووجه كون إنزال الكتاب وهو القرآن نعمة على رسول الله ﷺ لكونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد وأحوال الملائكة والأنبياء وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها؛ وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبي صلى الله عليه وسلم.
(ولم يجعل له) أي فيه (عوجاً) أي شيئاً من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، أي فيما لا يدرك بالبصر بل بالبصيرة، وبالفتح في الأعيان أي فيما يدرك به، كذا قيل، ويرد عليه قوله سبحانه (لا ترى فيها عوجاً ولا أَمْتاًْ) يعني الجبال وهي من الأعيان. قال الزجاج: المعنى لم يجعل فيه اختلافاً كما قال: (ولو كان من عند غير
ثم فصل سبحانه ما أجمل في قوله [قَيِّماً] فقال (لينذر) وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى لينذر الكافرين (بأساً) أي عذاباً (شديداً من لدنه) أي صادراً من عنده نازلاً من لدنه (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) قرئ يبشر مشدداً ومخففاً وأجري الموصول على موصوفه المذكور لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
(أن لهم أجراً حسناً) هو الجنة قاله السدي حال كونهم
ثم كرر الإنذار وذكر المنذر بخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره فقال
(كبرت كلمة) قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله ولداً، ومعنى الكلام على التعجب أي ما أكبرها كلمة، ثم وصف الكلمة بقوله (تخرج من أفواههم) وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها، وكثيراً ما يوسوس الشيطان في قلوب الناس من المنكرات ما لا يتمالكون أن يتفوهوا به، بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر.
والخارج من الفم وإن كان مجرد الهواء لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل أو المعنى هذا الذي
ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال (إن) أي ما (يقولون إلا) قولاً (كذباً) لا مجال للصدق فيه بحال. ثم سلى رسول الله ﷺ بقوله
وفي السمين ولعل قيل للإشفاق على بابها وقيل للاستفهام وهو رأي الكوفيين، وقيل للنهي (على آثارهم) أي على فراقهم من بعد توليهم عنك وإعراضهم أو هلاكهم (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) أي القرآن (أسفاً) أي غيظًا وحزناً. قاله قتادة. وقال مجاهد: جزعاً ونصبه على المفعول له وجواب إن محذوف دل عليه الترجي تقديره فلا تحزن، وهذا عند الجمهور وعند غيرهم هو جواب متقدم.
عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البختري في نفر من قريش وكان رسول الله ﷺ قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء من النصيحة فأحزنه حزناً شديداً فأنزل الله سبحانه (فلعلك باخع نفسك). الآية.
والمعنى إنا جعلنا ما عليها مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من الحيوانات والنبات والشجر والأنهار والجماد وغير ذلك من النعم كالذهب والفضة والمعادن كقوله سبحانه (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) قال ابن عباس: يعني الرجال والعلماء زينة الأرض، وعن سعيد بن جبير مثله، وقال الحسن: هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة.
(لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) اللام للغرض أو العاقبة، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان، قال الزجاج: أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحنن أهذا أحسن عملاً أم ذلك، قال الحسن: أيهم أزهد وأشد للدنيا تركاً، ومثله عن الثوري وقال مقاتل: أيهم أصلح فيما أوتي من المال، وقال قتادة: أيهم أتم عقلاً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله ﷺ هذه الآية فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله قال: " ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله "
ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال
والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد إفناء ما على الأرض، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت أيضاً على أن الأرض لا تبقى وهو قوله (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قال قتادة: الصعيد الجبال التي ليس فيها زرع.
(جرزاً) يابسًا قال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات فيها من قولهم امرأة جَرُوز إذا كانت أكولاً، وسيف جُراز إذا كان مستأصلاً وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض إذا أكلت ما عليها، ويقال سنة جُرُز وسنونُ أَجْرَاز لا مطر فيها وأرض جُرُز وأرضون أَجْرَاز لا نبات بها، وجرزاً نعت " لصعيداً " فكأنه مجاز علاقته المجاورة.
وعن الحسن الجرز الخراب، أي نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك. ومعنى النظم القرآني لا تحزن يا محمد بما وقع من هؤلاء من التكذيب فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازونهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال سبحانه بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط لا تحسب
ومعنى عجباً ذات عجب، والكهف هو الغار الواسع في الجبل، فإن كان صغيراً سمي غاراً والجمع كُهُوف في الكثرة وأَكْهُف في القلة؛ والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف ففيه فلان بن فلان من مدينة كذا خرج في وقت كذا من سنة كذا.
قال الفراء: ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة والرقم الكتابة. وعن قتادة أن الرقيم دراهمهم التي كانت معهم.
وقال ابن عباس: الرقيم كتاب مرقوم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل أن الرقيم اسم كلبهم قاله أنس، وقيل: هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار.
قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله لأن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم، وقال ابن عباس: يقول الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
_________
(١) أي مفتوح العين في الماضي مكسورها في المضارع فيقال أوى يأوي مثل ما يقال ضَرَب يضرِب.
فلما أمروهم بعبادة غير الله ذهب كل واحد منهم إلى بيت أبيه وأخذ منه زاداً ونفقة وخرجوا فارين هاربين حتى أووا إلى كهف في جبل قريب من المدينة فاختفوا فيه وصاروا يعبدون الله ويأكلون ويشربون ويبعثون أحداً منهم خفية ليشتري لهم الطعام من المدينة وهم خائفون من اطلاع أهل المدينة عليهم فيقتلوهم لعدم دخولهم في دينهم، فجلسوا يوماً بعد الغروب يتحدثون فألقى الله عليهم النوم وذلك قوله تعالى
(فقالوا ربنا آتنا من لدنك) أي من عندك (رحمة) التنوين إما للتعظيم أو للتنويع وتقديم من لدنك للاختصاص أي رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء والرزق في الدنيا (وهيئ لنا من أمرنا رشداً) أي أصلح لنا من قولك هيأت الأمر فتهيأ والمراد بِأَمْرِهِم الأمرُ الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك أسداً وتقديم المجرورَيْن للاهتمام بهما أي اجعل أمرنا رشداً أو يسر لنا طريق رضاك.
(فضربنا على آذانهم) قال المفسرون: أنَمناهم والمعنى سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سماع الأصوات أي ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيها للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ففي الكلام تجوز بطريق الاستعارة التبعية، وهذا النوم من جملة الرحمة التي طلبوها فكأنه قال فاستجبنا دعاءهم ومن جملة استجابته أن أنمناهم وقلبناهم في نومهم ذات اليمين وذات الشمال.
(في الكهف سنين عدداً) أي ذوات عدد على أنه مصدراً وبمعنى معدودة على أنه بمعنى المفعول. ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة، قال الزجاج: أن الشيء إذا قل مقدار عدده لم يحتج إلى العدد وإن كثر احتاج إلى أن يعدّ وقيل يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون.
(أيّ الحزبين) من قوم الفتية أهل الهدى وأهل الضلالة فالمراد بالحزبين
(أحصى) أي أضبط (لما لبثوا أمداً) وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، قال ابن جريج: إنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة وما مصدرية أي أحصى لِلبُثْهِم أو بمعنى الذي واللام زائدة، وقيل على بابها من العلة أي لأجل قاله أَبُو الْبَقَاء، وما بمعنى الذي والأمد الغاية.
وقيل إن أحصى أفعل تفضيل واختاره الزجاج والتبريزي ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم أفلس من ابن اْلمُذَلَّق (١) وأعدى من الْجَرَب، وقال أبو علي والزمخشري وابن عطية: أن أحصى فعل ماض.
_________
(١) ويروى بالدال وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد بيتة ليلة وعرف أبوه وأجداده بالإفلاس قال الشاعر في أبيه: إنك إذ ترجو تميماً ونفعها.. كراجي الندى والعرف عند المذلّق
(آمنوا بربهم) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نسق الكلام لقيل آمنوا بنا (وزدناهم هدى) بالتثبيت والتوفيق وفيه التفات من
(إذ قاموا) اختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال فقيل إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي رب السماوات والأرض فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا فقاموا جميعاً.
(فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) قاله مجاهد: وقال أكثر المفسرين إنه كان لهم ملك جبار يقال له (دقيانوس) وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه، وقد أمرهم بالسجود للأصنام فقالوا ربنا رب السماوات والأرض، أي قالوا جملاً ستاً، ثلاثة بين يدي ملكهم آخرها قوله شططاً، وثلاثة بعد انصرافهم عن مجلسه ذماً لقومهم آخرها قوله كذباً، وقال عطاء ومقاتل: إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم.
(لن ندعو من دونه إلهاً) أي لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً (لقد قلنا إذاً شططاً) أي قولاً ذا شطط، أي إفراط في الكفران دعونا إلهاً غير الله فرضاً أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة، والشطط الغلو ومجاوزة الحد المقدر في كل شيء، يقال شَطَّت الدار بعدت، وشَطَّ فلان في حكمه شطوطاً وشططاً جار وظلم، وَشَطَّ في القول أغلظ، وشط في السوم أفرط، والجميع من بابي ضرب وقتل، وقال قتادة: شططاً كذباً. وقال السدي جوراً.
(لولا يأتون عليهم بسلطان بين) أي هَلَّا يأتون على عبادتهم لها بحجة نيرة ظاهرة تصلح للتمسك بها، وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال، وهذه جملة طلبية وليست صفة لآلهة لفساده معنى وصناعة.
قال الزمخشري: وفي الآية دليل على فساد التقليد وإنه لا بدّ في الدين من الحجة حتى يتضح ويثبت.
(فمن) أي لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً) بنسبة الشريك إليه فزعم أن له شريكاً في العبادة، ثم قال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم
(وما يعبدون إلا الله) عطف على الضمير المنصوب وما موصولة أو مصدرية أي إذا اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله أو وعبادتهم إلا عبادة الله، وعلى
وقيل هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فيكون ما على هذا نافية (فأووا) أي ألجئوا وصيروا (إلى الكهف) واجعلوه مأواكم. قال الفراء: هو جواب إذ ومعناه اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم، وقيل هو دليل على جوابه، أي إذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً أو إذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف.
(ينشر) أي يبسط ويوسع (لكم ربكم) مالك أمركم (من رحمته) في الدارين (ويهيئ) أي يسهل وييسر (لكم من أمركم) الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين (مرفقاً) بكسر الميم وفتحها لغتان قرئ بهما مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع وقيل فتح الميم أقيس وكسرها أغلب، وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فَهُما لغتان.
وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر والمرفق من الإنسان.. وقال الكسائي: الكسر في مرفق اليد، وقيل المرفق بالكسر ما ارتفقت به والمرفق بفتح الميم الأمر الرافق، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله والتقديم (١) في الموضعين يفيد الاختصاص، وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه أو أخبرهم به نبي عصرهم.
_________
(١) أي تقديم الجار والمجرور في ينشر لكم، ويهيئ لكم.
(وإذا غربت تقرضهم) القرض القطع، قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم، قَرَضْتُ المكانَ عَدَلْت عنه، تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا؟ فيقول إنما قَرَضْتُه إذا مر به وتجاوز عنه.
وقال الفارسي: معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم يزول بسرعة كالقرض يسترد، وقد ضعِّف بأنه كان ينبغي أن يقرأ تقرضهم بضم التاء لأنه من أقرض؛ والمعنى أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الداخل للكهف وإذا غربت تمر.
(ذات الشمال) أي جهة شمال الكهف لا تصيبه لا في ابتداء النهار ولا في آخر الليل، بل تعدل عن سمته إلى الجهتين (وهم في فجوة منه) الفجوة المكان المتسع، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر:
أَلْبَسْتَ قومَكَ مَخزاةً ومنقصةً | حتى أُبيحُوا وَخَلَّوا فجوَةَ الدار |
الأول: أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظل جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها لأن الله سبحانه حجبها عنهم كرامة.
والثاني: أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال مستقبلاً
ويؤيد القول الأول قوله (ذلك من آيات الله) فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا؛ وعلى الثاني يكون المعنى أن شأنهم وحديثهم من آيات الله والأول أولى. وقد قيل إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته.
وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى من دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار، وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر.
والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم والتأذي بحرّ أو برد.
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: (من يهد الله) إلى الحق مثل أصحاب الكهف (فهو المهتد) الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح (ومن يضلل) أي يضلله الله ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه (فلن تجد له ولياً مرشداً) أي ناصراً يهديه إلى الحق.
ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال
(ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) أي نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم ولحومهم، قاله سعيد بن جبير، وتعجب منه الإمام الرازي وقال: أن الله قادر على حفظهم من غير تقليب.
ولقائل أن يقول لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن جعل لكل شيء سبباً في أغلب الأحوال، قاله الكرخي، قيل تقلبة واحدة في كل سنة مرة في يوم عاشوراء. وقال ابن عباس: ستة أشهر على ذلك الجنب اليمين وستة أشهر على ذي الجنب الشمال وعلى هذا كان لهم تقلبتان في السنة، وقيل كل تسع سنين. وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملَك بأمر الله فيضاف إلى الله تعالى. قاله القرطبي والأول أولى.
قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم، ولا أدري أي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق بتفسير الكتاب العزيز وما الذي حملهم على هذا الفضول الذي لا مستند له في السمع ولا في العقل.
(بالوصيد) قال أبو عبيد وأبو عبيدة: هو فناء الباب وكذا قال المفسرون، وقيل العتبة، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت.
وقال ابن عباس: بالوصيد بالفناء وبالباب، وقيل بفناء الكهف، وقيل الصعيد والتراب، قال بعضهم كلب أحب قوماً فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عند الإيمان وكلمة الإسلام وحب النبي وآله وصحبه، وقول الله (ولقد كرمنا بني آدم) الآية، وفي هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال المحبين للصالحين والأنبياء والعلماء المخالطين للأولياء والأصفياء.
(لو اطلعت عليهم) أي لو نظرت إليهم وهم على تلك الحالة (لوليت منهم فراراً) أي لفررت منهم هارباً (ولملئت منهم رعباً) أي خوفاً وفزعاً يملأ الصدر قرئ رعباً بسكون العين وضمها وسبب الرعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها.
قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ماتوا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يَبْلَ لهم ثوب ولم تتغير لهم صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليهم أهم. ذكره القرطبي.
وقيل اللام للصيرورة لأن البعث لم يكن للتساؤل قاله ابن عطية والصحيح أنها على بابها من السببية والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار (قال قائل) أي واحد (منهم) وهو كبيرهم ورئيسهم (مكسلمينا) (كم لبثتم) في النوم قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة والجملة مبينة لما قبلها من التساؤل.
(قالوا) أي قال بعضهم وقيل قال الستة الباقون جواباً على سؤال من سأل منهم قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله سبحانه آخر
(قالوا) متوقفين في قدر مدة لبثهم (ربكم أعلم بما لبثتم) إما على طريق الاستدلال أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه أي أنكم لا تعلمون مدة لبثكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين في قوله سابقاً لنعلم أي الحزبين.
وقد استدل ابن عباس على أن عددهم سبعة بهذه الآية لأنه قد قال في الآية قال قائل منهم وهذا واحد، وقالوا في جوابه لبثنا وهو جمع وأقله ثلاثة ثم قالوا وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة.
(فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) كأنه قال القائل منهم يعني يمليخا اتركوا ما أنتم عليه من المحاورة وخذوا في شيء آخر مما يهمكم وفيما تنتفعون به والفاء للسببية أي فأرسلوا واحداً منكم إلى البلد، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ويقال لها الرقة وفي الحديث (وفي الرقة ربع العشر) وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم يقال عندي رِقون والباء للمصاحبة والملابسة.
وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة أفُسوس بضم الهمزة كما قاله النيسابوري وهي مدينتهم التي كانوا فيها من مدائن الروم ويقال لها اليوم
(فلينظر أيها أزكى طعاماً) أي لينظر أي أهلها أطيب طعاماً وأحل كسباً أو أرخص سعراً وأي استفهامية أو موصولة.
قال ابن عباس: أحل وأطهر ذبيحة لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت أو أكثر بركة، وقيل يجوز أن يكون الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طيب أبا علي أن الأب هو زيد وفيه بعد:
(فليأتكم برزق منه) أي من الورق أي بَدَلَه أو من قوت وطعام تأكلونه واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً وفيه قوم يخفون إيمانهم؛ ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام (وليتلطف) أي يدقق النظر حتى لا يُعْرَف أو لا يُغْبَن والأول أولى ويؤيده (ولا يشعرن بكم أحداً) من الناس أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف.
ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال
(ولن تفلحوا إذاً أبداً) في إذاً معنى الشرط والجزاء كأنه قال إن رجعتم إى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قيل وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق وكانت من ضربة دقيانوس إلى السوق فلما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقال له من أين وجدت هذه الدراهم؛ قال: بعت بها أمس شيئاً من التمر وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف الملك صدقه ثم قص عليه القصة فركب الملك وركب أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف.
(و) ليعلموا (أن الساعة) أي القيامة (لا ريب فيها) أي لا شك في حصولها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من بعث الأرواح والأجساد جميعاً وحشرها (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) أي أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل في أمر أصحاب الكهف في قدر مكثهم وفي عددهم وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم، وقيل قال المسلمون: نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على
(فقالوا ابنوا عليهم بنياناً) لئلا يتطرق الناس إليهم كما حفظت تربة رسول الله ﷺ بالحظيرة، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية فقال بعضهم ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن أعين الناس، وقيل يتنازعون متعلق بمحذوف هو اذكر.
ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله ويمكن أن يقال إن أولئك القوم مازالوا متنازعين فيما بينهم قرناً بعد قرن منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار ويؤيد ذلك أن خبرهم كان مكتوباً على باب الغار كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما قاله المفسرون.
ثم قال سبحانه حاكياً لقول المتنازعين فيهم وفي عددهم وفي مدة لبثهم وفي نحو ذلك مما يتعلق بهم (ربهم أعلم بهم) من هؤلاء المتنازعين فيهم قالوا ذلك تفويضاً للعلم إلى الله سبحانه، وقيل هو من كلام الله سبحانه رداً لقول المتنازعين فيهم أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع فإني أعلم بهم منكم والأول هو الظاهر قاله الكرخي.
(قال الذين غلبوا على أمرهم) يعني يندوسيس وأصحابه قاله الخازن أي كانت الكلمة لهم وكان كلامهم هو النافذ لأن ملك الوقت كان من جملتهم وكان مؤمناً وأما الملك الذي خرجوا هاربين منه فقد مات في مدة نومهم (لنتخذن عليهم مسجداً) يصلي فيه المسلمون ويعتبرون بحالهم. وذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم والأول أولى.
قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث ولنشور لأن المساجد للمؤمنين.
قيل إنما أتى بالسين في هذا لأن في الكلام طياً وإدماجاً تقديره فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم ليقولون، ولم يأت بها في باقي الأفعال لأنها معطوفة على ما فيه السين فأعطيت حكمه من الاستقبال، والمعنى يقولون لك يا محمد ويخبرونك على ثلاثة أقوال: الأولان: للنصارى. والثالث: للمؤمنين.
(ثلاثة رابعهم كلبهم) أي هم ثلاثة أشخاص حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم (ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) الكلام فيه كالكلام فيما قبله قاله السدي: هم النصارى، وقيل اليهود كما في البيضاوي.
قال أبو علي الفارسي: قوله رابعهم كلبهم وسادسهم كلبهم جملتان استغني عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله ثلاثة والتقدير هم ثلاثة. هكذا حكاه الواحدي.
(رجماً بالغيب) أي راجمين أو يرجمون رجماً والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين ودليل ولا برهان كما قاله الطيبي وغيره والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلون بأنهم ثلاثة والقائلون بأنهم خمسة، قال قتادة: رجماً قذفاً بالظن، ولم يقل هذا في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، والرجم بمعنى الرمي وهو استعارة للتكلم بما لم يطلع عليه لخفائه عنه تشبيهاً له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضاً والباء فيه للتعدية على تشبيه الظن بالحجر الرمي على طريق الكناية.
وقيل زائدة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت، وهذا ما جنح إليه الزمخشري وصرح به البيضاوي واختاره ابن هشام، وقيل إنها واو العطف كأنه قيل هم سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل واو الحال فيؤول المعنى إلى أنهم يقولون ذلك مع هذا الحال وهو كون ثامنهم كلبهم واقعاً لا محالة ويلزم منه أن يكونوا سبعة.
قال ابن هشام: وقول جماعة الأدباء كالحريري ومن النحوين كابن خالويه ومن المفسرين كالثعلبي أنها واو الثمانية لا يرضاه نحوي لأنه لا يتعلق به حكم إعرابي ولا سر معنوي. قال الكرخي: هي في التحقيق واو العطف، لكن لما اختص استعمالها بمحل مخصوص تضمنت أمراً غريباً واعتباراً لطيفاً ناسب أن تسمى باسم غير جنسها فسميت بواو الثمانية لمناسبة بينها وبين سبعة، وذلك لأن السبعة عندهم عند تام كعقود العشرات لاشتمالها على أكثر مراتب أصول الأعداد، والثمانية عند مستأنف فكان بينهما اتصال من وجه وانفصال من وجه، وهذا هو المقتضي للعطف. وهذا المعنى ليس موجوداً بين السبعة والستة. انتهى ملخصاً من الكرخي.
ثم أمر الله نبيه ﷺ أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال (قل ربي أعلم) أي أقوى علماً وأزيد في الكيفية (بعدَّتهم) منكم أيها المختلفون؛ فإن مراتب اليقين متفاوتة في القوة، وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون
ثم أثبت العلم على ذلك لقليل من الناس فقال (ما يعلمهم) أي ما يعلم ذواتهم فضلاً عن عددهم، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف (إلا قليل) من الناس عن ابن مسعود قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وعن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم.
وذكر بعض المفسرين لأسمائهم خواص ومنافع ليست من التفسير في شيء ثم نهى الله سبحانه رسوله ﷺ عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال:
(فلا تمار فيهم) أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم؛ والمراء في اللغة الجدال، يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل. قال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك؛ ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهراً واضحاً فقال (إلا مراء ظاهراً) أي غير متعمق فيه، وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب من غير تجهيل لهم ومن غير رد عليهم.
وقال الرازي: هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال (ولا تستفت فيهم) أي في شأنهم (منهم) أي من الخائضين فيهم (أحداً) منهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي. وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له.
قال ابن عباس: يعني اليهود، وقال القرطبي: النصارى وهو الأولى، قال البيضاوي: لا تسأل سؤال مسترشد ولا سؤال متعنت، يريد فضيحة المسؤول وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق، وفي الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
قيل وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا في حال ملابسته لمشيئة الله، وهو أن تقول إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله لا مطلقاً بل بإذن الله، فحذف الوقت وهو مراد، أولا تقولن أفعل غداً إلا قائلاً إن شاء الله، فحذف القول ونقل شاء إلى لفظ الاستقبال حملاً على المعنى. قاله الأخفش والمبرد والكسائي.
وقيل: التقدير إلا بأن يشاء الله، أي متلبساً بقول إن شاء الله، والمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله فليس إلا أن يشاء الله من القول الذي نهى عنه، وقيل الاستثناء جار مجرى التأبيد، كأنه قيل لا تقولنه أبداً، كقوله (وما يكون لنا
وعن ابن عمر قال: كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه وإذا
كان غير موصول فهو حانث.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي رواية تسعين تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته " (١).
وعن عكرمة قال: معنى إذا نسيت إذا غضبت. وعن الحسن قال: إذا نسيت إذا لم تقل إن شاء الله. وقيل الآية في الصلاة ويدل له حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ " مَن نسي صلاةً فليُصلِّها إذا ذَكَرَها " (٢) أقم الصلاة لذكري متفق عليه. والأول أولى.
_________
(١) مسلم ١٦٥٤ - البخاري ١٣٤٧.
(٢) مسلم ٦٨٤ - البخاري ٣٨٤.
وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسي، وأقرب من ذلك رشداً وأدنى منه خيراً ومنفعة، والأول أولى.
قال الفراء: ومن العرب من يضع سنين موضع سنة. قال أبو علي الفارسي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع، وفي مصحف عبد الله ثلثمائة سنة، وقال الأخفش: لا تكاد العرب تقول مائة سنين.
قال ابن جرير: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلثمائة سنة، وقال بعضهم لبثوا ثلثمائة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه ﷺ أن هذه المدة في كونهم نياماً وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر الله أن يرد علم ذلك إليه فقال:
وقال القرطبي: إنه لما قال وازدادوا تسعاً لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام؛ فاختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمر الله برد العلم إليه في التسع فهي على هذا مبهمة والأول أولى، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم منه بحسب لغتهم أن التسع أعوام بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات.
قال القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال ولا تسع ساعات لوجود لفظ السنين. وعن الزجاج إن المراد بثلثمائة سنة شمسية وثلثمائة وتسع سنين قمرية. وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب، وقال الشهاب: وأما احتمال كون السنين شمسية أو قمرية وكون التسع سنين أو شهوراً أو أياماً فليس بشيء، قال الضحاك عن ابن عباس: لما نزلت ولبثوا في كهفهم ثلثمائة قيل يا رسول الله أياماً أم أشهراً أم سنين، فأنزل الله سنين وازدادوا تسعاً.
وحكى النقاش ما معناه إنهم لبثوا ثلثمائة سنة شمسية بحساب الأمم، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ﷺ ذكر التسع إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين، ونحوه ذكر القونوي أي باختلاف سني الشمس والقمر لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث، سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. انتهى.
أقول: هذا يبتنى على حساب الكبس، والكبس عندهم مختلف وقد حققناه في كتابنا لقطة العجلان فراجعه. وعن ابن عباس قال: أن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوى أبعد ما بين السماء والأرض، ثم تلا
قال القرطبي: اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا أو هم نيام وأجسادهم محفوظة، فروي عن ابن عباس أنه قال: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة، ومشى الناس معه في بعض غزوات الشام إلى موضع الكهف فوجدوا عظاماً.
وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد "، ذكره ابن عيينة ونحوه في التوراة والإنجيل وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في التذكرة، فعلى هذا هم نيام لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة بل يموتون قبل الساعة، انتهى والله أعلم.
ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا بقوله (له غيب السماوات والأرض) أي ما خفي فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شيء، ثم زاد في المبالغة والتأكيد فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال (أبصر به وأسمع) فأفاد هذا التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين وأنه يستوي في علمه الغائب والحاضر والخفي والظاهر والصغير والكبير واللطيف والكثيف.
وكان أصله ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء على سبيل المجاز والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش، والبحث مقرر في علم النحو، والهاء لله تعالى، وقيل هو أمر حقيقة لا تعجب وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام أي أبصر بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور وأسمع به العالم والأول أولى، وقرئ أبصر وأسمع فعلاً ماضياً
(ما لهم) أي لأهل السماوات والأرض، وقيل لأهل الكهف؛ وقيل لمعاصري محمد ﷺ من الكفار (من دونه من ولي) أي من موال يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم وفي هذا بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره (ولا يشرك في حكمه أحداً) قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه وقرئ بالفوقية وإسكان الكاف على أنه نهي للنبي ﷺ أن يجعل لله شريكاً في حكمه والمراد بحكم الله ما يقتضيه أو علم الغيب والأول أولى ويدخل علم الغيب في ذلك دخولاً أولياً فإن علمه سبحانه من جملة قضائه.
(لا مبدل لكلماته) أي لا قادر على تبديلها وتغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده؛ قال الزجاج: أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدل له وعلى هذا يكون التقدير لا مبدل لحكم كلماته.
(ولن تجد من دونه ملتحداً) أي ملتجأً، وأصل اللحد الميل، وقال أبو عبيدة: ألحد إلحاداً جادل ومارى ولحد جار وظلم وألحد في الحرم استحل حرمته وانتهكها والملتحد اسم الموضع وهو الملجأ، قال الزجاج: لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه، والمعنى إنك إن لم تتبع القرآن وتتلوه وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه. وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف.
ثم شرع سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال
(بالغداة والعشي) ذكرهما كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات، وقيل في طرفي النهار، وقيل المراد صلاة العصر والفجر. وقرئ غدوة وأنكره النحاس وقال ولا تكاد العرب تقول الغدوة، ومعنى (يريدون وجهه) أنهم يرتقبون بدعائهم رضا الله سبحانه لا عرض الدنيا. وعن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم: عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب
_________
(١) اسم السورة.
(٢) الأولى أن يقال: هذه الآية أفادت معنى جديداً هو أمره بمجالستهم والمصابرة معهم. لأن قوله: " وهذه الآية أبلغ " تدل على الموازنة بين الآيات في البلاغة والقرآن الكريم كله في غاية البلاغة.
وزاد أبو الشيخ عن سلمان أن رسول الله ﷺ قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات ".
وعن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله ﷺ وهو في بعض أبياته واصبر نفسك الآية فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ".
وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت فقال رسول الله ﷺ " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم ". وفي الباب روايات. وعن ابن عمر قال: إنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس وعن ابن عباس مثله وقيل نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر.
ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال (ولا تعدُ عيناك عنهم) أي لا تتجاوز إلى غيرهم، قال الفراء: معناه لا تصرف عينيك عنهم؛ وقال الزجاج: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة واستعماله بعن لتضمينه معنى النبو، من عدوته عن الأمر أي صرفته عنه، وقال: معناه لا تحتقرهم عيناك عَبَّرَ بهما عن صاحبها.
(تريد زينة الحياة الدنيا) أي مجالسة أهل الترف والشرف والغنى وصحبة أهل الدنيا والمعنى حال كونك مريداً لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد
(ولا تطع من أغفلنا قلبه) أي جعلناه غافلاً (عن ذكرنا) بالختم عليه نهى رسول الله ﷺ عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله.
(و) مع هذا فهم ممن (اتبع هواه) وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد (وكان أمره فرطاً) أي متجاوزاً عن حد الاعتدال من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً على الخيل فهو على هذا من الإفراط، وقيل هو من التفريط وهو التقصير والتضييع والأول أظهر.
قال الزجاج: ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه. وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وذلك أنه دعا النبي ﷺ إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله هذه الآية يعني من ختمنا على قلبه يعني التوحيد واتبع هواه يعني الشرك وكان أمره فرطاً يعني فرطاً في أمر الله وجهالة به.
وعن ابن بريدة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حار وعنده سلمان عليه جبة صوف فثار منه ريح العرق في الصوف فقال عيينة: يا محمد إذا نحن أتيناك فَأَخْرِج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم فأنزل الله (ولا تطع) الآية.
وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية وهي قوله (ولا تطرد الذين) الآية عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع
ثم بيَنّ سبحانه لنبيه ﷺ ما يقوله لأولئك الغافلين فقال
_________
(١) مسلم ٢٤١٣.
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) قيل هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تهديد شديد وتخويف وردع لا تخيير وإباحة، ويكون المعنى قل يا محمد الحق من ربكم، وبعد أن تقول لهم هذا القول من شاء أن يؤمن بالله ويصدقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر.
وقال ابن عباس: يقول من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وهو قوله (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين).
ثم أكد الوعيد وشدده فقال (إنا أعتدنا) أي أعددنا وهيأنا (للظالمين) الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه (ناراً) عظيمة (أحاط بهم) أي اشتمل عليهم (سرادقها) واحد السرادقات، قال الجوهري وهي
وقال الراغب: السرادق فارسي معرب وليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا يقال بيت مسردق، وقال ابن الأعرابي: سرادقها سورها؛ وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط والمعنى أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه، وعن ابن عباس قال: حائط من نار.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال " سرادق النار أربعة جدر كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة " (١) وأخرج أحمد والبخاري والحاكم وصححه عن يعلى ابن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البحر هو من جهنم ثم تلا (ناراً أحاط جهم سرادقها) " (٢).
(وإن يستغيثوا) من حر النار أي يطلبوا الإنقاذ من شدة العطش (يغاثوا) فيه مشاكلة إذ لا إغاثة لهم بالماء الآتي ذكره بل إتيانهم به وإلجاؤهم بشربه غاية الإضرار، والإغاثة هي الانقاذ من الشدة فكأنه قال يضروا ويعذبوا (بماء كالمهل) وهو الحديد المُذاب.
قال الزجاج: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المُذاب أو الصفر، وقيل هو دردي الزيت أي ما بقي في أسفل الإناء ووجه المشابهة الثخن والرداءة في كل.
وقال أبو عبيدة والأخفش: العكر وهو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس، وقيل هو ضرب من القطران، أخرج أحمد
_________
(١) المستدرك كتاب الأهوال ٤/ ٦٠١ - الإمام أحمد ٣/ ٢٩.
(٢) المستدرك كتاب الأهوال ٤/ ٥٩٦.
وعن ابن مسعود أنه سئل عن المهل فدعا بذهب أو فضة فأذابه فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حراً من هذا. وعن ابن عمر: هل تدرون ما المهل؛ المهل مهل الزيت، يعني آخره.
ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه (يشوي الوجوه) إذا قدم عليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته، والشيّ الإنضاج بالنار من غير إحراق (بئس الشراب) شرابهم هذا الذي يغاثون به (وساءت) النار (مرتفقاً) متكأً، يقال ارتفقت أي اتكأت، وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد، ويقال ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه.
وقال القتيبي: هو المجلس والمنزل، وقيل المجتمع، وبه قال مجاهد، وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله (وحسنت مرتفقاً) وإلا فأي ارتفاق لأهل النار وأي متكأ.
_________
(١) الترمذي كتاب جهنم باب ٤ - الإمام أحمد ٣/ ٧١.
(تجري من تحتهم الأنهار) لأن أفضل المساكن ما كان يجري فيه الماء، وقد تقدم الكلام في كيفية جري الأنهار من تحتها (يحلون فيها من أساور من ذهب).
قال الزجاج: أساور جمع أَسْوِرَة وهي جمع سوَار وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، وجاء في آية أخرى من فضة، وفي أخرى من ذهب ولؤلؤ، فيلبسون الأساور الثلاثة، فيكون في يد الواحد منهم سوار من ذهب وآخر من فضة وآخر من لؤلؤ. فعلم من هذا أن كُلاًّ من هذه الآية ومن آية هل أتى على الإنسان، ومن
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (١).
(ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق) عطف على يحلون وبني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتهم وأن غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيّنهم به بخلاف اللبس فإن الإنسان يتعاطاه بنفسه. وقدم التحلي على اللباس لأنه أشهى للنفس، وخص الأخضر لأنه الموافق للبصر، ولكونه أحسن الألوان.
قال الكسائي: السندس الرقيق واحده سندسة، والإستبرق ما ثخن واحده استبرقة، وكذا قال المفسرون، وقيل ليسا جمعين، وقيل الاستبرق هو الديباج، وقيل هو المنسوج بالذهب، قال القتيبي: وهو فارسي معرب، قال الجوهري: وتصغيره أبيرق قال السمين: وهل استبرق عربي الأصل مشتق من البريق أو معرب أصله استبره، خلاف بين اللغويين.
قال مرثد بن عبد الله: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة، وعن عكرمة قال: الاستبرق الديباج الغليظ، وعن مجاهد مثله، وفي آية الرحمن (بطائنها من استبرق) أي الفرش فيقاس عليها اللباس الذي الكلام فيه فظهارة الكل من سندس وبطانته من استبرق قال المحلى في سورة " هل أتى " فالاستبرق بطانة ثيابهم والسندس ظهارتها.
(متكئين فيها على الأرائك) أصل اتكأ أو تكأ وأصل متكئين موتكئين والاتكاء التحامل على الشيء أي يجلسون متربعين ومضطجعين. أخرج ابن
_________
(١) مسلم ٢٥٠.
قال الزجاج: الأرائك جمع أريكة وهي السرر في الحجال وقيل هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت، وعن ابن عباس قال: الأرائك السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ، وعنه قال لا يكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة وعن عكرمة: الأرائك هي الحجال على السرر، وفي القاموس الأريكة كسفينة سرير في حجلة، أو كل ما يتكأ عليه من سرير ومنصة وفراش، أو سرير متخذ مزين في قبة أو بيت فإن لم يكن فيه سرير فهو حجلة والجمع أرائك.
(نعم الثواب) ذلك الذي أثابهم الله به وهو الجنة (وحسنت) تلك الأرائك في الجنات (مرتفقاً) أي متكأً ومقراً ومجلساً ومنتفعاً ومسكناً ومنزلاً وقد تقدم قريباً. وقد اشتمل هذا القول على خمسة أنواع من الثواب: الأول: لهم جنات عدن، الثاني: تجري من تحتهم الخ، الثالث: يحلون فيها، الرابع: ويلبسون، الخامس: متكئين.
وقيل هما أخوان مخزوميان من أهل مكة أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد،
(جعلنا لأحدهما) هو الكافر (جنتين) قال السدي: الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كانا جنتين ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي فرطس نهر الجنتين، قال ابن أبي حاتم: وهو نهر مشهور بالرملة.
(من أعناب) بيان لما في الجنتين أي من كروم متنوعة جمع عنب والعنبة الحبة (وحففناهما بنخل) الحف الإحاطة ومنه (حافين من حول العرش) ويقال حيف القوم بفلان يحفون حفاً أي أطافوا به فمعنى الآية وجعل النخل مطيفاً بالجنتين من جميع جوانبهما وهذا مما يوثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مُوزَرَة بالأشجار المثمرة (وجعلنا بينهما) أي بين الجنتين وهو وسطهما (زرعاً) يقتات به ليكون كل واحد منهما جامعاً للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والتركيب الأنيق.
ثم أخبر الله سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدي حملها وما فيها فقال
(ولم تظلم منه شيئاً) أي لم تنقص من أكلها شيئا في بعض السنين بل في كل سنة يأتي ثمرها وافياً؛ يقال ظلمه حقه أي أنقصه، ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام وتقل في عام، قال ابن عباس: لم ينقص كل شجر الجنة أطعمة.
قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر وجمع الثمر ثمار مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر (١) أثمار مثل عنق وأعناق. انتهى. والثمرة مؤنث والجمع ثمرات مثل قصبة وقصبات، والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا، فيقال ثمر الأراك وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل، كما يقال ثمر النخل وثمر العنب.
قال الأزهري: أثمر الشجر أطلع ثمره أول ما يخرجه فهو مثمر؛ ومن هنا قيل لما لا نفع فيه ليس له ثمرة؛ وقيل الثمر جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، سمي ثمراً لأنه يثمر ويزيد مأخوذ من ثمَّر ماله بالتشديد إذا كثَّره، وقيل الثمر هو الذهب والفضة خاصة. قاله مجاهد.
(فقال) الكافر (لصاحبه) المؤمن (وهو يحاوره) أي والكافر يحاور المؤمن والمعنى يراجعه الكلام ويجاوبه، والمحاورة المراجعة والتحاور التجاوب وحاصل ما قاله من القول الشنيع ثلاث مقالات الأولى (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) النفر الرهط وهو ما دون العشرة وأراد هاهنا الأتباع. والخدم والأولاد والعشيرة.
_________
(١) هناك فرق بين ثمر وعنق لأن " ثمر " جمع ثمار، وأما عنق فمفرد.
وقال المحلي: لم يقل جنتيه إرادة: للروضة. وعبارة الشهاب أفرد الجنة مع أن له جنتين لنكتة وهي أن الإضافة تأتي لما تأتي له اللام فالمراد بها العموم والاستغراق أي كل ما هو جنة له ينتفع بها فيفيد ما إفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه انتهى؛ وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون.
(وهو) أي ذلك الكافر (ظالم لنفسه) بكفره وعُجْبه قال قتادة: كفور لنعمة ربه مستأنف بياني لسبب الظلم (قال) أي الكافر لفرط غفلته وطول أمله (ما أظن أن تبيد) أي تفنى وتنعدم (هذه) الجنة التي تشاهدها (أبداً)
قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا وقيام الساعة (ولئن رددت إلى ربي) اللام هي الموطئة للقسم والمعنى أنه والله أن يرد إلى ربه فرضاً وتقديراً كما زعم صاحبه واللام في (لأجدن) جواب القسم والشرط أي لأجدن يومئذ (خيراً منها) على الإفراد على ما في مصاحف أهل البصرة والكوفة أي من هذه الجنة، وفي مصاحف مكة والمدينة والشام منهما (منقلباً) هو المرجع والعاقبة لأنها فانية وتلك باقية قال هذا قياساً للغائب على الحاضر، وأنه كما كان غنياً في الدنيا سيكون غنياً في الآخرة اغتراراً منه بما صار فيه من الغنى الذي هو الاستدراج له من الله
(ثم من نطفة) وهي المادة القريبة (ثم سواك رجلاً) أي صيرك
وجعلك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وعدل أعضاءك وَكَلَّمك، وهو ظاهر
كلام الحوفي، وقيل إنه حال، ومن الجائز أن يسويه غير رجل، وهو كقولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، والأول أولى، وإنما جعل كفره بالبعث كفراً بالله، لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله، فلذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، وفي هذا تلويح بالدليل على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة.
ثم نفى عن نفسه الشرك بالله تعالى فقال (ولا أشرك بربي أحداً) فيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركاً ثم أقبل عليه يلومه على الثانية فقال:
وِقوله (لا قوة إلا بالله) من جملة مقول، أي هلا قلت هاتين الجملتين تحضيضاً له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز، وأن ما تيسر له من عمارتها وحسنها ونضارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوته وقدرته.
وهذا نصح من المؤمن للكافر وتوبيخ له على قوله (ما أظن أن تبيد هذه أبدًا) قال الزجاج: لا يقوي أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله ولا يكون إلا ما شاء الله.
أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله ﷺ كلمات أقولهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً، وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته "، وقرأ هذه الآية (١) وفي إسنادهِ عيسى بن عون. وروي عن أنس نحوه موقوفاً.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٠٢٨ - سلسلة الأحاديث الضعيفة ٢٠١٢.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي ﷺ قال له " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " (٢)، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في فضل هذه الكلمة.
ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال (إن ترن) الرؤية علمية أو بصرية (أنا أقل منك مالاً وولداً) أي لأجل ذلك تكبرت وتعظمت عليَّ ويجوز في أنا وجهان أحدهما: أن يكون مؤكد الياء المتكلم، والثاني: أنه ضمير الفصل بين المفعولين، وأقل مفعول ثان أو حال بحسب الوجهين في الرؤية، إلا أنك إذا جعلتها بصرية تعين في أنا أن يكون توكيداً لا فصلاً، لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر.
وقرأ عيسى بن عمر أقلُّ بالرفع ويتعين أنا مبتدأ وأقل خبره، والجملة إما في موضع المفعول الثاني وإما في موضع الحال على ما تقدم في الرؤية، ومالاً وولداً تمييزان وجواب الشرط قوله:
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ١٧٢ بلفظ: " هل لك بكنز من كنوز الجنة؟ ".
(٢) مسلم ٢٧٠٤ - البخاري ١٤٢٣.
وقال ابن الأعرابي: الحسبانة السحابة والوسادة والصاعقة وقال قتادة: حسباناً عذاباً، وقال النضر بن شميل: الحسبان سهام يرمى بها الرجل في جوف قصبة تنزع من قوس ثم يرمى بعشرين منها دفعة، والمعنى يرسل عليها مرامي من عذابه إما برد وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب.
(فتصبح صعيداً زلقاً) مثل الجرز، قاله ابن عباس، أي فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله سبحانه عليها حسباناً أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها ولا يثبت عليها قدم.
وقال قتادة: أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء، وفي اللغة من جملة معاني الصعيد وجه الأرض، وزلقاً أي تزل فيه الأقدام لملامستها، يقال مكان زلق بالتحريك أي دحض، وقيل رملاً هائلاً، وهو في الأصل مصدر قولك زَلَقَت رجله تَزْلُقُ زلقاً وأزْلَقَها غيره، والمَزْلَقَةَ الموضع الذي لا تثبت عليه قدم وكذا الزلاقة، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة أو أريد به المفعول وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها وأشجارها بالذهاب والإهلاك فلم يبق له أثر.
(فلن تستطيع له طلباً) أي لن تستطيع لطلب الماء الغائر فضلاً عن وجوده ورده ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل تدركه بها، وقيل المعنى فلن تستطيع طلب غيره عوضاً عنه.
ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال
(فأصبح) أي صار صاحبها الكافر (يقلب كفيه) أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ويصفق بكف على كف وهو كناية عن الندم والتحسر كأنه قيل فأصبح يتندم (على ما أنفق فيها) أي في عمارتها وإصلاحها من الأموال، وقيل المعنى يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم في يده مال، وهو بعيد جداً، قال قتادة: يصفق على ما أنفق فيها متلهفاً على ما فاته.
(وهي خاوية على عروشها) أي والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمها التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض مأخوذ من خوت النجوم تخوى إذا سقطت ولم تمطر في نوئها ومنه قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) قيل وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل والزرع لأنه الأصل وأيضاً ذكر إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي. والعرش شبه بيت من جريد
(ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً) هذه الجملة معطوفة على جملة يقلب كفيه أو حال من ضميره أي وهو يقول يعني أنه تذكر موعظة أخيه المؤمن فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى عند مشاهدته الهلاك لجنته بأنه لم يشرك بالله حتى تسلم جنته من الهلاك، أو كان هذا القول منه على حقيقته لا لما فاته من الغرض الدنيوي بل لقصد التوبة من الشرك والندم على ما فرط منه، والأول هو الأقرب إذ يؤيده قوله:
_________
(١) الثُّمامَ: عشب من الفصيلة النجيلية يسمو إلى مائة وخمسين سنتيمتراً.
(وما كان) في نفسه (منتصراً) أي ممتنعاً بقوته عن إهلاك الله لجنته وانتقامه منه وقادراً على واحد من هذه الأمور.
(أنزلناه من السماء فاختلط) أي تكاثف وغلظ (به) أي بسبب نزول الماء (نبات الأرض) حتى استوى والتف بعضه على بعض أو امتزج الماء بالنبات فَرَوَى وحسن.
وعلى هذا كان حق التركيب أن يقال فاختلط بنبات الأرض، لكن لما
كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته.
(فأصبح) أي صار النبات عن قريب (هشيماً) يابساً والهشيم الكسير واحده هشيمة وهو اليابس وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وَتَفتت، ورجل هشيم ضعيف البدن وتهشم عليه فلان إذا تعطف، واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده. قال ابن قتيبة: كل ما كان رطباً فيبس فهو هشيم.
(تذروه) تفرقه وتنثره، قال أبو عبيدة وابن قتيبة: تذروه تنسفه (الرياح) قال ابن كيسان: أي تذهب به وتجيء والمعنى متقارب، وقرئ تذريه، يقال ذرته الريح تذروه وأذرته تذريه. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته (وكان الله على كل شيء) من الأشياء (مقتدراً) أي كامل القدرة يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء.
وهذا إشارة إلى قياس حذفت كبراه ونتيجته. ونظمه هكذا: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وكل ما هو زينتها فهو هالك غير باق ينتج المال والبنون هالكان، ثم يقال وكل ما هو هالك فلا يفتخر به، فالمال والبنون لا يفتخر بهما، ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله:
(والباقيات الصالحات) أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الأبد، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات (خير) أي أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين (عند ربك ثواباً) وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها (وخير أملاً) يعني أن الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا.
وبهذا يعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.
عن عليّ قال: المال والبنون حَرْثُ الدنيا والعمل الصالح حَرْثُ الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. عن ابن عباس قال: الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله " (١).
وأخرج الطبراني وغيره عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات ". وأخرج النسائي والطبراني في الصغير والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعاً: خذوا جُنَّتَكم. قيل يا رسول الله من أي عدو قد حضر؟ قال: " بل جُنَّتُكم من النار قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
_________
(١) المستدرك كتاب الدعاء ١/ ٥١٢.
وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات. وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة ولا فائدة في ذكرها هاهنا.
وعن قتادة: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات، فيندرج فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس وأعمال الحج والعمرة وصيام رمضان والكلام الطيب وغير ذلك اندراجاً أولياً.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٢٠٩ - الروض النضير ١٠٩٢.
والخطاب في قوله (وترى الأرض بارزة) لرسول الله ﷺ أو لكل من يصلح للرؤية، والرؤية بصرية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان.
وقيل المراد ببروزها بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه (وألقت ما فيها وتخلت) وقال (وأخرجت الأرض أثقالها) فيكون المعنى وترى
(وحشرناهم) أي الخلائق، ومعنى الحشر الجمع أي جمعناهم إلى الموقف من كل مكان وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ماض مراد به المستقبل أي ونحشرهم، وكذلك وعرضوا ووضع الكتاب الآتيان. والثاني: أن الواو للحال أي نفعل التسيير في حال حشرهم ليشاهدوا تلك الأهوال، والثالث: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال، قاله الزمخشري. قال الشيخ: والأولى أن تكون الواو للحال.
(فلم نغادر) فلم نترك (منهم أحداً) والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة، يقال غادره وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر، لأن الغادر يترك الوفاء للمغدور؛ قالوا: وإنما سمي الغدير غديراً لأن الماء ذهب وتركه والسيل غادره، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها، والغديرة الشعر الذي نزل حتى طال.
ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ أو قلنا لهم (لقد جئتمونا كما خلقناكم) أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم (أول مرة) أو كائنين كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلاً لا مال ولا ولد، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي بعثناكم واعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله (لقد جئتمونا) معناه بعثناكم وبه قال الزمخشري.
(بل زعمتم) هذا ضرب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث، أي زعمتم في الدنيا (أن لن نجعل لكم موعداً) نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب.
(فترى المجرمين مشفقين مما فيه) أي خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع من الأعمال السيئة لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع والمجازاة بالعذاب الأليم (ويقولون) إذا رأوها (يا ويلتنا) يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك وهو مصدر لا فعل له من لفظه ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وطلبوا هلاكهم لئلا يروا ما هم فيه وقد تقدم تحقيقه في المائدة.
وأقول صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي فيدخل تحت ذلك كل ذنب يتصف بالصغر وكل ذنب يتصف بالكبر فلا يبقى شيء من الذنوب إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب ملتبساً بين كونه صغيراً أو كبيراً فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه، وهذا لا ينافي قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية. إذ لا يلزم من العد عدم التكفير إذ يجوز أن تكتب الكبائر ليشاهدها العبد يوم القيامة ثم تكفر عنه فعلم قدر نعمة العفو عليه، قاله الكرخي والاستفهام للتعجب منه في ذلك.
(ووجدوا ما عملوا) في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة أو وجدوا جزاء ما عملوا (حاضراً) مكتوباً مثبتاً في كتابهم (ولا يظلم ربك أحداً) أي لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب وجرم ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه وإنما سمي هذا ظلماً بحسب عقولنا لو خليت ونفسها ولو فعله الله لم يكن ظلماً في حقه لأنه لا يسئل عما يفعل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " (١) أخرجه الترمذي وقال: لا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى.
_________
(١) الترمذي كتاب القيامة باب ٤ - الإمام أحمد ٤/ ٤١٤.
ثم إنه سبحانه عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال
(إلا إبليس) فإنه أبى واستكبر ولم يسجد (كان من الجن) مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه لم يكن من الملائكة فلهذا عمى، والاستثناء منقطع وإبليس هو أبو الجن وأصلهم كما أن آدم أصل الإنس وله ذرية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرية لهم، وقيل كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم.
وعلى هذا القول فقد نقل عن ابن عباس أن هذا النوع يتوالد وليس
معصوماً والاستثناء متصل وكونه، من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله
سبحانه (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) وذلك أن قريشاً قالت: إن الملائكة بنات الله فهذا يدل على أن الملك يسمى جناً وتعضده اللغة لأن الجن من الاجتنان وهو الستر فتدخل الملائكة فيه، فكل ملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة.
(ففسق عن أمر ربه) أي خرج عن طاعته بترك السجود لأدم عليه السلام قال الفراء: تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها لخروجهما منه، قال النحاس: اختلف في معناه على قولين: الأول مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعمى فكان سبب الفسق أمر ربه كما تقول أطعمه من جوع، والقول الآخر قول قطرب أن المعنى على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره.
وعن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن فكان إبليس منهم وكان يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً وعنه قال: كان خازن الجنان فسمي بالجان، وعن الحسن قال: قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة والله يقول كان من الجن وعنه قال: ما كان من الملائكة طرفة عين إنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس.
ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال (أفتتخذونه) كأنه قال أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه (و) تتخذون (ذريته) أي أولاده، وقيل أتباعه مجازاً، قال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقال مجاهد: من ذرية إبليس لاقس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة اللذان يوسوسان فيهما ومن ذريته مرة وبه
(أولياء من دوني) فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي (و) الحال أن (هم) أي إبليس وذريته (لكم عدو) أي أعداء وأفرده لكونه اسم جنس أو لتشبيهه بالمصادر كما في قوله: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) وقوله هم العدو أي كيف تصنعون هذا الصنيع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم بمن لم يكن لكم منه منفعة قط بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت.
(بئس للظالمين) الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه (بدلاً) عن الله سبحانه والتقدير بئس البدل إبليس وذريته.
وقيل الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين والمراد أنهم ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق ذلك، وقيل المعنى أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل لأنهم لم يكونوا مشاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله، وقيل ما أشهدت الملائكة فكيف يعبدونهم، وقيل جميع الخلائق والأول من هذه الوجوه أولى لما يلزم في الوجهين الأخرين من تفكيك الضميرين وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور.
وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ والمعنى ما استعنت بهم على خلقهما ولا شاورتهم وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعواناً، ووحد العضد لموافقة الفواصل. وقرئ ما كنت على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي ما كنت يا محمد متخذاً لهم عضداً ولا صح لك ذلك، وفي عضد لغات أفصحها فتح العين وضم الضاد وبها قرأ الجمهور.
ثم عاد سبحانه إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال
(وجعلنا بينهم) أي بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله أو بين المؤمنين والكفار (موبقاً) ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم واد عميق في جهنم فرق الله تعالى به بينهم؛ وبه قال أنس وزاد: من قيح ودم.
قال ابن الأعرابي: كل حاجز بين الشيئين فهو موبق، وقال الفراء: الموبق المهلك، وبه قال مجاهد وابن عباس، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة يقال وَبِق يَوْبَق فهو وَبِقٌ هكذا ذكره الفراء في المصادر، وحكى الكسائي وَبِق يَبِق وبوقاً فهو وابق، والمراد بالمهلك على هذا هو عذاب النار يشتركون فيه، والأول أولى لأن من جملة من زعموا أنهم شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح فالموبق هو المكان الحائل بينهم، وقال أبو عبيدة: الموبق هنا الموعد للهلاك، وقد ثبت في اللغة أَوْبَقَهُم بمعنى أهلكهم ولكن المناسب لمعنى الآية هو المعنى الأول.
قال الواحدي: اْلمَصْرِف الموضع الذي ينصرف إليه. وقال القتيبي: أي معدلاً ينصرفون إليه، وقيل ملجأً يلجأون إليه، والمعنى متقارب في الجميع.
ولما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال
قال الزجاج: المراد بالإنسان الكافر، واستدل عليه بقوله تعالى (ويجادل الذين كفروا بالباطل).
وقيل المراد به في الآية النضر بن الحرث؛ وقيل أراد أبي بن خلف، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر شيء يتأتى منه الجدل جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ أن النبي ﷺ طرقه وفاطمة ليلاً فقال ألا تصليان، فقلت يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) (١).
_________
(١) مسلم ٧٧٥ - البخاري ٦١٦.
وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأولين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال قتادة: عقوبة الأولين، وقال الزجاج: سنتهم هو قولهم (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية.
(أو يأتيهم العذاب) أي عذاب الآخرة (قبلاً) جمع قبيل، قاله الفراء أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل عياناً وجهاراً، قاله الأعمش، وقيل فجاءة. قاله مجاهد.
ويناسب ما قاله الفراء قراءة قُبُلاً بضمتين فإنه جمع قبيل نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب ويناسب التفسير الثاني، أي عياناً قراءة قبَلاً بكسر القاف وفتح الباء أي مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.
(ويجادل الذين كفروا بالباطل) مستأنف (ليدحضوا به) أي ليزيلوا
ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً ونحو ذلك (واتخذوا آياتي) أي القرآن (و) اتخذوا (ما أنذروا) به من الوعيد والتهديد، وما بمعنى الذي أو مصدرية، قاله أبو حيان (هزوا) أي لعباً وباطلاً، وقد تقدم هذا في البقرة.
(فأعرض عنها) أي عن قبولها فتهاون بها ولم يتدبرها حق التدبير ولم يتفكر فيها حق التفكر وتركها ولم يؤمن بها، وأتى بالفاء الدالة على التعقيب لأن ما هنا في الأحياء من الكفار فإنهم ذكروا فأعرضوا عقيب ما ذكروا، وقاله في السجدة بثم الدالة على التراخي، لأن ما هناك في الأموات من الكفار فإنهم ذكروا مرة بعد أخرى ثم أعرضوا بالموت فلم يؤمنوا.
(ونسي ما قدمت يداه) من الكفر والمعاصي فلم يتب عنها. وقال قتادة: ما سلف من الذنوب الكثيرة. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك والتشاغل والتغافل عن كفره المتقدم، وقيل هو على حقيقته.
(إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) أي أغطية جمع كنان، وفي القاموس إنه جمع كِنَ أيضاً؛ ونصه والكِن وقاء كل شيء وستره كَالْكِنَّة والْكِنان بكسرهما والجمع أكنان وأكنة والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم (أن يفقهوه) أي لئلا يفقهوه (و) جعلنا (في آذانهم وقراً) أي ثقلاً وصمماً يمنع من استماعه سماع انتفاع، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً) لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم.
(لن يجدوا من دونه) أي من دون الله أو العذاب، والثاني أولى وأبلغ لدلالته على أنهم لا ملجأ لهم، فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص (موئلاً) أي ملجأً يلجأون إليه ومرجعاً، وبه قال ابن عباس: وقال أبو عبيدة: منجأَ وبه قال ابن قتيبة وقيل محيصاً، وعن مجاهد قال محرزاً.
(وجعلنا لمهلكهم) في الآخرة، الهلك هو مصدر هلك وقال
وقالت فرقة منهم نوف البكالي: إنه ليس موسى بن عمران وإنما موسى ابن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد رده السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، منهم ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره، كيف ولو أراد شخصاً آخر لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز بينهما وتزيل الشبهة، فلما لم يميزه بصفة علمنا أنه موسى بن عمران، والمراد بفتاه هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف. وقيل إنه أخو يوشع وقيل إنه عبده، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي " (١) والأول أولى وأصح، وقد نبأه الله بعد موسى.
قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون وقد مضى ذكره في المائدة وفي آخر سورة يوسف. ومن قال إنه موسى بن ميشى قال: أن هذا الفتى لم يكن يوشع بن نون. قال الفراء: وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له
_________
(١) مسلم ٢٢٤٩ - البخاري ١٢٥١.
ومعنى (لا أبرح) لا أزال سائراً، ومنه قوله (لن نبرح عليه عاكفين)، وبرح إذا كان بمعنى زال يزال فهو من الأفعال الناقصة وخبره محذوف لدلالة ما بعده وهو (حتى أبلغ) أي أنتهي، قاله ابن زيد (مجمع البحرين) أي ملتقاهما. قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله حتى أبلغ غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية، فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل معناه: لا أفارقك حتى أبلغ، وقيل: يجوز أن يكون من برح التام بمعنى زال يزول فلا تستدعي خبراً بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه.
قيل: المراد بالبحرين بحر فارس والروم وهما نحو المشرق والمغرب، قاله قتادة وقيل: بحر الأردن وبحر القلزم، ومجمع البحرين عند طنجة، قاله محمد ابن كعب، وقيل بإفريقية، قاله أبي بن كعب؛ وقيل: أن ملتقاهما عند البحر المحيط. وقالت طائفة؛ المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان. وقد حكى عن ابن عباس ولا يصح.
(أو أمضي) أي أسير (حقباً) أي زماناً طويلاً، قال الجوهري: الحقب بالضم ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفاً، وقيل سنة واحدة بلغة قريش، وفي معناه الحقبة بالكسر والضم وتجمع الأولى على حقب بكسر الحاء كَقِرْبَة وقِرَب والثانية على حُقَب بضم الحاء كَغُرْفَة وَغُرَف.
وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً مبهمان غير محدودين وجمعه أحقاب، وسبب هذه العزمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؛ فقال أنا، فأوحى الله إليه أن عبداً لي بمجمع
وقيل: البين بمعنى الافتراق، أي البحران المفترقان يجتمعان هناك. وقيل الضمير لموسى وخضر، أي وصلا الموضع الذي يكون فيه اجتماع شملهما ويكون البين على هذا بمعنى الوصل لأنه من الأضداد والأول أولى (نسيا حوتهما) قال المفسرون: إنهما تزوَّدا حوتاً مملحاً مشقوق البطن في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقْدَانه أمارة لهما على وجدان المطلوب، والمعنى أنهما نسيا تَفَقُّدَ أمره.
وقيل: الذي نسي إنما هو فتى موسى لأنه وكل أمر الحوت إليه وأمره أن يخبره إذا فقده، وإنما أضاف النسيان إليهما لأنهما تزوّداه لسفرهما، والثاني أولى لقوله (فإنى نسيت الحوت) وهو كقولهم نسوا زادهم وإنما ينساه متعهد الزاد، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله فتحرك واضطرب في المكتل ثم انسرب في البحر، ولهذا قال:
(فاتخذ سبيله في البحر سرباً) أي اتخذ الحوت سبيلاً سرباً، وهو النفق الذي يكون في الأرض للضب ونحوه من الحيوانات. قال سعيد بن جبير: أثره يابس في البحر كأنه في جحر، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق، فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجباب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض.
قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كان عند الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال ولم يجد النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر ولهذا قال سبحانه:
(فإني نسيت الحوت) أي نسيت أن أذكر لك أمره، وما شاهدت منه من الأمور العجيبة وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما وأمارة لوجدان مطلوبهما، ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال:
ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً، وقال أبو الشجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شقة حوت بعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء من اللحم عليه قشرة رقيقة تحتها الشوك.
عن ابن عباس: قال الخضر بن آدم لصلبه ونسىء له في أجله حتى
ثم وصفه الله سبحانه فقال (آتيناه رحمة من عندنا) قيل الرحمة هي النبوة والهداية قاله ابن عباس، وقيل؛ النعمة التي أنعم الله بها عليه وهي الولاية وعليه الأكثر والجمهور من العلماء على أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة، والأصح ما ذهب إليه أهل الحديث من عدم حياته والله أعلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين:
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر خضر موسى وقولهم هذا من أظهر الكذب البارد، والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل، والذين يقولون إنه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطاً لا ريب فيه، وسبب غلطهم أنهم يرون في الأماكن المنقطعة وغيرها من يظن أنه من الزهاد ويقول إنه الخضر، ويكون ذلك شيطاناً قد تمثل بصورة آدمي.
وهذا مما علمناه في وقائع كثيرة حتى في المكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ رأسه رأس الجبل وقال أنا الخضر وأنا نقيب الأولياء وقال للرجل الرائي أنت رجل صالح وأنت وليّ الله ومدَّ يده إلى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب إليه فناوله إِياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل؛ ومثل هذه الحكاية كثيرة.
_________
(١) البخاري كتاب الأنبياء باب ٢٧ - الترمذي تفسير سورة ١٨/ ٣.
وأما الأحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا اجتمع به لأنهم كانوا أكمل علماً وإيماناً من غيرهم فلم يكن يمكن شيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد، ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وإنما هو شيطان جاء إليهم يضلهم، ولو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي ﷺ فيؤمن به ويجاهد معه كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء واتباعهم بقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه).
والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد ﷺ وأصحابه، وهو إن كان نبياً فنبينا أفضل منه، وإن لم يكن نبياً فأبو بكر وعمر أفضل منه، وهذا مبسوط في موضعه انتهى وسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذه القصة إن شاء الله تعالي.
(وعلمناه) من علم الغيب الذي استأثرنا به، وفي قوله (من لدنا علماً) تفخيم لشأن ذلك العلم وتعظيم له، قال الزجاج: وفيما فعل موسى وهو من أجله الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته وأن يتواضع لمن هو أعلم منه.
وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت الراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الأخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن، وقد زل أقدام أقوام من الضلال في هذا المقام في تفضيل الولي على النبي حيث قالوا؛ أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو ولي وهو كفر جلي والجواب ما ذكرناه.
واعلم أنه قد رويت في قصة موسى مع الخضر المذكورة في كتاب العزيز أحاديث كثيرة وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت في بعض
قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: " إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم (٢).
فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً قال فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً فقال موسى ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً.
_________
(١) مسلم ٢٣٨٠، البخاري ٦٤.
(٢) ثم بفتح الثاء أي هناك.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً.
قال وقال رسول الله ﷺ " فكانت الأولى من موسى نسياناً "، قال " وجاءَ عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر ".
ثم خرجا من السفينة فبينما. هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى: أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: وهذه أشد من الأولى، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً.
(قال) موسى (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً) أي عظيماً يقال أمر الأمر إذا كبر وعظم، وإمر الاسم منه، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة، وقال القتيبي: الإمر العجب، وبه قال قتادة، وقال الأخفش: أمر أمره يأمر إذا اشتد والاسم الإمر. وقال ابن عباس: أمراً نكراً. وعن مجاهد نحوه روى أن الماء لم يدخلها.
عن أبيّ بن كعب قال: لم ينس ولكنها من معاريض الكلام، أي أورده في صورة دلت على النسيان ولم يقصد نسيان الوصية بل نسيان شيء آخر حتى لا يلزم الكذب قاله الكازروني، قيل: كانت الأولى من موسى نسياً والثانية شرطاً والثالثة عمداً (ولا ترهقني) أي لا تكلفني (من أمري عسراً) مشقة في صحبتي. قال أبو زيد: أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك، والمعنى عاملني باليسر والعفو لا بالعسر، وقرئ عُسُراً بضمتين.
قال أبو عمر: الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت، وقال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان، وقال الفراء: الزاكية والزكية مثل القاسية والقسية، قال ابن عباس: زاكية مسلمة، وقال سعيد بن جبير: لم يبلغ الخطايا. وعن الحسن نحو (بغير) قتل (نفس) محرمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً (لقد جئت) أي فعلت (شيئاً نكراً) أي فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع، قرئ بسكون الكاف وضمها وهم سبعيتان، قيل معناه أنكر من
وعن قتادة قال: النكر أنكر من العجب، قيل استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس ولم يتأول للخضر بأنه يحل القتل بأسباب أخر. عن أبي العالية عند ابن المنذر وابن أبي حاتم قال: كان الخضر عبداً لا تراه الأعين إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام.
وأقول ينبغي أن ينظر من أين له هذا، فإن لم يكن مستنده إلا قوله " ولو رآه القوم الخ " فليس ذلك بموجب لما ذكره أما أولاً فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم.
وأما ثانياً فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه؛ ويدل عليه قول النبي ﷺ في الحديث المتقدم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء فسلموا الأمر لله. وعن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم، وفي لفظ ولكنك لا تعلم، وقد نهى رسول الله ﷺ عن قتلهم فاعتزلهم.
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبىّ بن كعب عنِ النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو
أدرك لأرهق بأبويه طغياناً وكفراً ". (١)
_________
(١) مسلم ٢٦٦١ - أبو داوود كتاب السنة باب ١٩.
ولهذا
ولذا قال (قد بلغت من لدني عذراً) في مفارقتك لي، يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرات. وهذا كلام نادم شديد الندامة اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف، وقرأ الجمهور لدني مخففاً وشددها الباقون، وعن أبيّ قال: أن النبي ﷺ قرأ من لدني عذراً مثقلة. أخرجه أبو داود والترمذي والطبراني وغيرهم. وقرأ الجمهور عذْرُاً بسكون الذال وقرئ بضمها، وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي ﷺ بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه.
فإن رددت فما في الرد منقصة | عليَّ قد ردّ موسى قبل والخضر |
(فوجدا فيها) أي في القرية (جداراً) طوله مائة ذراع وعرضه خمسون ذراعاً وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع (يريد أن ينقضّ) إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز، قال الزجاج: الجدار لا يريد إرادة حقيقة إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة يقال انقض الحائط إذا وقع وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء.
(فأقامه) أي فسواه الخضر بيده لأنه وجده مائلاً فرده كما كان، وقيل نقضه وبناه، وقيل أقامه بعمود، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله
(قال) موسى (لو شئت لتخذت) عن أبيّ إن الرسول ﷺ قرأ لتخذت مخففاً يقال تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل اتخذ (عليه أجراً) أي على إقامته وإصلاحه، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الجعل والأجرة ليتعشيا به أو تعريضاً بأنه فضول، والأول أولى، قال الفراء: معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر.
_________
(١) مسلم ٢٣٨٠ - البخاري ٦٤.
أخرج أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لقص الله علينا من خبره ولكن (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) (١) ولما قال الخضر لموسى بهذا أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال:
(سأنبئك) قبل فراقي لك (بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) أي الأمور الثلاثة المتقدمة، والمراد بالتأويل إظهار ما كان باطناً ببيان وجهه، قاله الشهاب وفي القرطبي المراد بالتأويل التفسير، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى مآله.
ثم شرع في البيان له فقال
_________
(١) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٧٤.
(يعملون في البحر) ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين (فأردت أن أعيبها) أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها (وكان وراءهم ملك) جملة حالية بإضمار قد قال المفسرون: يعني أمامهم، وعن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يقرأ أمامهم، وعن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك وكتب عثمان (وكان وراءهم) ووراء يكون أمام، وقد مر الكلام على هذا في قوله (ومن ورائه عذاب غليظ).
وقيل أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع عليه وما كان عندهم خبر بأنه (يأخذ كل سفينة) صالحة لا معيبة (غصباً) نصبه على المصدر المبين لنوع الأخذ، وقد قرأ ابن عباس وأبي بن كعب بزيادة صالحة والملك الغاصب كان اسمه الجلندي الأزدي وكان كافراً، وقيل كان اسمه هدد بن بدد، وقيل كان ملك غسان واسمه جيسورا ذكره القرطبي.
وعن قتادة: هي في مصحف عبد الله فخاف ربك (أن يرهقهما) أي يرهق الغلام أبويه يقال رهقه أي غشيه وأرهقه أغشاه، قال المفسرون: معناه
قيل ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله ويكون المعنى كرهنا كراهة من خشى سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا ضعيف جداً فالكلام كلام الخضر.
وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة فقيل: إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره، وقيل كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك ويكون معنى خشينا الخ أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد.
والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوغ له ذلك.
وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ فقيل: أن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحل في الشريعة المحمدية، ولكنه حل في شريعة أخرى فلا إشكال.
قال الزجاج: المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه المال المدفون فإذا لم يكن مالاً قيل كنز علم وكنز فهم، وقيل لوح من ذهب، وقيل علم في صحف مكتوبة مدفونة، عن قتادة قال: كان الكنز لمن قبلنا وحرم علينا وحرمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبن الرجل فيقول ما شأن الكنز أحل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله يحل من أمره ما شاء ويحرم ما شاء، وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه " عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله " وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة.
(وكان أبوهما صالحاً) فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما، فظاهر اللفظ أنه أبوهما حقيقة، وقيل هو الذي دفنه، وقيل هو الأب السابع من عند الدافن له. قاله جعفر بن محمد وقيل العاشر وكان يسمى كاشحاً وكان من الأتقياء قاله مقاتل، واسم أمهما دنيا. ذكره النقاش، ففيه ما يدل على أن الله يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا. قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما.
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله عز وجل يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم " (١). وعن ابن عباس نحوه وقال موضع حفظ الله في ستر من الله وعافية.
قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي. وقد
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١٨/ ٤٠.
(فأراد ربك) أي مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له، وإنما ذكر أولاً: فأردت لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، وثانياً: فأردنا لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل، وثالثاً: فأراد ربك لأنه إنعام محض وغير مقدور للبشر.
قال الشوكاني في الفتح الرباني: علم أنه قد وجد في الخضر عليه السلام المقتضى للمجيء بنون العظمة لما تفضل الله به عليه من العطايا العظيمة والمواهب الجسيمة التي من جملتها العلم الذي فضله الله به حين أخبر موسى عليه السلام لما سأله هل في الأرض أعلم منه؟ فقال عبدنا خضر كما هو ثابت في الصحيح، كان هذا وجهاً صحيحاً ومسوغاً صحيحاً للمجيء بنون العظمة تارة وعدم المجيء بها أخرى، فقال فأردت أن أعيبها، وقال فأردنا ملاحظاً في أحد الموضعين لما يستحقه من التعظيم تحدثاً بنعمة الله سبحانه عليه وفي الموضع الآخر قاصداً للتواضع وأنه فرد من أفراد البشر غير ناظر إلى تلك المزايا التي اختصه الله بها سبحانه مع كون ذلك هو الصيغة التي هي الأصل في تكلم الفرد.
ْومع هذا ففي تلوين العبارة نوع من الحسن آخر وهو الافتنان في الكلام فإنه أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظاً له، كما قيل في نكتة الالتفات، ويمكن أن يقال إن خرق السفينة لما كان باعتبار تحصيل مسماه أمراً يسيراً فإنه يحصل بنزع لوح من ألواحها، قال (فأردت أن أعيبها) ولما كان القتل مما تتعاظمه النفوس وتدخل فاعله الروعة العظيمة نزل منزلة ما لا يقدر عليه إلا جماعة. ويمكن أيضاً وجه ثالث وهو أن يقال لما كان خرق السفينة مما يمكن تداركه بأن يرد اللوح الذي نزعه كان ذلك وجهاً للإفراد لأنه يسير بالنسبة إلى ما لا يمكن تداركه وهو القتل.
(أن يبلغا أشدهما) أي كمالهما وتمام نموهما (ويستخرجا كنزهما) من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولو انقض لخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع بالكلية (رحمة من ربك) لهما وهو مصدر في موضع الحال أي مرحومين من الله سبحانه.
(وما فعلته عن أمري) أي عن اجتهادي ورأيي وهو تأكيد لما قبله فقد علم بقوله: فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه لأن تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أحوالهم لا يكون إلا بالنص، وليس في هذا دلالة على نبوة الخضر كما زعم الجمهور بل هو إلهام من الله سبحانه إليه.
(ذلك) المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها (تأويل ما لم تسطع عليه صبراً) أي ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه. ومعنى التأويل هنا هو المال الذي آلت إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من تسطع تخفيفاً، يقال اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، ففي هذا وما قبله جمع بين اللغتين.
وقد اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبياً وفي طول عمره وبقاء حياته وكونه باقياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته بعده على أقوال. كثيرة، فقيل هو ابن آدم لصلبه وهو ضعيف منقطع. وقيل إنه ابن قابيل بن آدم وهو معضل؛ وقيل إنه من سبط هارون أخي موسى وهو بعيد. وقيل إنه أرميا بن خلقيا ورده ابن جرير وقيل إنه ابن بنت فرعون، وقيل ابن
ثم قيل كان اسمه عامراً؛ وقيل بليا بن ملكان، وقيل كلمان بدل ملكان، وقيل معمر بن مالك وكنيته أبو العباس، وهذا متفق عليه. قاله النووي.
واحتج من قال إنه نبي بقوله تعالى (وما فعلته عن أمري) لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله والأصل عدم الواسطة.
قال الثعلبي: هو نبي في سائر الأقوال، ثم قيل نبي غير مرسل، وقيل أرسل إلى قومه فاستجابوا له ونصره الرماني ثم ابن الجوزي، وقيل كان ولياً وإليه ذهب جماعة من الصوفية، وبه قال علي بن أبي موسى من الحنابلة وابن الأنباري والقشيري، وقيل إنه ملك من الملائكة.
قال ابن جرير في تاريخه: إنه كان في أيام فريدون الملك في قول عامة أهل الكتاب الأول، وقيل كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن إبراهيم الخليل، وقصته هذه ذكرها جماعة منهم خيثمة بن سليمان.
وأما تعميره فقال ابن عباس: نسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال، وقال أبو محنف: أجمع أهل العلم بالأحاديث والجمع لها أنه أطول آدمي عمراً وشرب من عين الحياة، وقال الحسن: وكل الخضر بالبحور وإلياس بالفيافي، وإنهما يجتمعان في موسم كل عام، وروى أبان مرفوعاً إليه ﷺ اجتماعهما عند ردم يأجوج ومأجوج كل ليلة، وفي سنده متروكان.
وقال النووي في التهذيب. قال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم
قال ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصلحاء والعامة منهم، إنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. وقال بعضهم: إن لكل زمان خضراً وهي دعوى لا دليل عليها، وقال السهيلي: اسمه عاميل وإن أباه كان ملكاً، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات قبل انقضاء مائة سنة من الهجرة، ونصره أبو بكر العربي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته " لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن عليها اليوم " (١)؛ وله ألفاظ عند الشيخين وغيرهما عن جابر وابن عمر.
وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر، وما أبرد هذا الجواب وأبعده عن الصواب.
وأما اجتماعه مع النبي ﷺ وتعزيته لأهل البيت وهم مجتمعون لغسله ﷺ فقال لهم عليّ: هو الخضر فقد ذكره ابن عبد البر في التمهيد، وقيل اجتمع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاز ذلك جاز لقاء الخضر، رواه ابن أبي الدنيا عن أنس، وتعقبه الحافظ أبو الخطاب بن دحية وقال: لم يصح من طرقه شيء ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قصه الله من خبره، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل.
وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له أنا فلان فيصدقه، وحديث التعزية المتقدم موضوع وفيه ابن محرز متروك، قال مسلم صاحب الصحيح فلما رأيته كانت بعرة
_________
(١) مسلم ٢٥٣٧ - البخاري ١٠٥.
وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري وجامع الترمذي لكن لم يثبت ذلك مرفوعاً، وأخرج الطبراني في المعجم الكبير حديثاً طويلاً عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً إليه ﷺ في قصة الخضر يدل على كونه نبياً وسنده حسن لولا عنعنة بقية وهو ضعيف. وقد ذهب إلى أن الخضر مات عليُّ بن موسى الرضا والبخاري، وانكر أن يكون باقياً للحديث المتقدم، وهو عمدة من تمسك بأنه مات.
قال أبو حيان في تفسيره: الجمهور على أن الخضر مات، وبه قال ابن أبي الفضل المرسي، لأنه لو كان حياً لزمه المجيء إلى النبي ﷺ والإيمان به واتباعه، وقد روي عنه ﷺ أنه قال: لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي؛ وبذلك جزم ابن المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي. وأخرج مسلم من حديث جابر قال؛ قال رسول الله ﷺ قبل موته بشهر: " أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة " (١)، وله ألفاظ وطرق عند الترمذي وغيره.
وممن جزم أنه غير موجود الآن أبو يعلى الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزي، واستدل على ذلك بأدلة منها ما تقدم، ومنها قوله تعالى (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون).
قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. أخرجه البخاري.
فلو كان الخضر موجوداً لجاء إليه ونصره بيده ولسانه وقاتل تحت رايته،
_________
(١) مسلم ٢٥٣٨.
قال أبو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر وهل هو باق أم لا فإذا أكثر المغفلين مغترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم؛ وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة، وخبر رياح كالريح وما عدا ذلك من الأخبار كلها واهية الصدور والأعجاز لا يخلو حالها من أمرين؛ إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال الله (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد).
وفي تفسير الأصفهاني عن الحسن أن الخضر مات، وقد مر عنه أيضاً أنه حي، وإذا تعارضا تساقطا، واحتج ابن الجوزي أيضاً بما ثبت في صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال يوم بدر: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " (١)، ولم يكن الخضر فيهم، ولو كان يومئذ حياً لورد على هذا العموم، فإنه كان ممن يعبد قطعاً.
وقد بسط الحافظ بن حجر العسقلاني القول في بيان أحوال الخضر وأخباره قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي وردت أن الخضر وإلياس كانا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعده إلى الآن، وما جاء في بقائه بعد النبي ﷺ ومن نقل عنه أنه رآه وكلمه في أبواب مستقلة من كتابه الإصابة في معرفة الصحابة، وتكلم على أسانيدها جرحاً وتعديلاً وغالبها لا يخلو عن علة أو ضعف أو انقطاع أو إعضال أو وضع أو نكارة أو شذوذ، ولا يصلح شيء للاستدلال على حياة الخضر وبقائه إلى الآن أو إلى خروج الدجال.
_________
(١) مسلم ١٧٦٣ - الإمام أحمد ١/ ٣٠ ولم أجده في البخاري.
ومن قال إنه نبي أو مرسل أو حي باق لم يأت بحجة نيرة ولا سلطان مبين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وقد تكلم الحافظ على هذا الباب في فتح الباري أيضاً فمَنْ شاء الاطلاع على تفصيل ذلك فليرجع إليه وبالله التوفيق، ومنه الفتح والإصابة. ولما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال الثالث والجواب عنه، فالمراد بالسائلين في قوله (ويسألونك) هم اليهود أي سؤال تعنت (عن ذي القرنين) واختلفوا فيه اختلافاً كثيرا، فقيل هو الاسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا كلها بأسرها اليوناني باني الاسكندرية.
وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، وقيل هو ملك اسمه هرمس وقيل هردس، وقيل شاب من الروم وقيل كان نبياً وقيل كان عبداً صالحاً وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله من أولاد كهلان بن سبا.
وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: أن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام، والآخر كان قريباً من عيسى عليه السلام، وقيل هو أبو كرب الحميري وقيل هو ملك من الملائكة؛ ورجح الرازي القول الأول قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها النزيل إنما هو إسكندر اليوناني كما يشهد به كتب التواريخ قال فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الاسكندر.
قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم وكان
قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم، ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي من أنهما اثنان كما قدمنا ذلك وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر، وأما الثاني فهو الاسكندر المقدوني اليوناني وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس وكان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل.
هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب (البداية والنهاية) بما فيه كفاية (١)، وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال؛ وإنما بينا هذا يعني أنهما اثنان لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر فيقع بذلك خطأ كثير وفساد كبير.
كيف لا والأول كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً ووزيره الخضر، وقد قيل إنه كان نبياً، وأما الثاني فقد كان كافراً ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وكان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذاك انتهى.
قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً وسماه بالبداية والنهاية ولم نقف عليه والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكر الرازي وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين: المشهور
_________
(١) ابن كثير ٣/ ١٠٠.
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون (١) في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفاراً وإما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائماً على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين انتهى.
وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها وقرن الشمس من مغربها، وقيل إنه كان له ضفيرتان من شعر والضفائر تسمى قروناً، وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل كان له قرنان تحت عمامته، وقيل: إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر وقيل إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل
_________
(١) أي يروجون.
وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه ملك فارس والروم، وقيل لأنه ملك الروم والترك، وقيل: لأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب، وهذا هو القدر المعمور من الأرض، وقيل لأنه كان لتاجه قرنان.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أدري أتُبَّع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا " (١)؟ أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن عليّ بن أبي طالب قال؛ لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قوم فضربوه على قرنه فمات ثم أحياه الله لجهادهم، ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات فأحياه الله لجهادهم فلذلك سمي ذا القرنين وإن فيكم مثله.
وعن ابن عمر قال: ذو القرنين نبي، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " هو ملك يسيح الأرض بالأسباب "، أخرجه ابن أبي حاتم عن الأحوص بن حكيم عن أبيه وعن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة، وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه.
وقد أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن أن نفراً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء وكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم وأنه بنى الاسكندرية وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد، وإسناده
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٤٥٠.
وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وغيرهم، وفيه أشياء منكرة جداً وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه أبو الشيخ وغيره، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب وقد أمرنا بأن لى لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا.
واختلفوا أيضاً في وقته فقال قوم: كان بعد موسى، وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى، وقال قوم: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل، وقد حققنا ذلك في لقطة العجلان فراجعه.
وبالجملة فإن الله مكنه وملكه ودانت له الملوك، وروي أن الذين ملكوا الدنيا كلها أربعة مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود والاسكندر، والكافران نمروذ وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى (ليظهره على الدين كله) وهو المهدي ذكره القرطبي.
وعن السدي قال؛ قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين إنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال " ومن هو؟ " قالوا ذو القرنين قال: " ما بلغني عنه شيء " فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهذه الآيات
_________
(١) ابن كثير ٣/ ١٠٠.
ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال
قال المفسرون: والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس قاله الزجاج: وقيل من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهرالأعداء وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.
والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات، بمعنى واحد وهو بمعنى السير
قال كعب: أما أنا فإني أجد في التوراة تغرب الشمس في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب وأنشد ابن أبي حاصر:
فرأى مغيب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثاط حرمد |
قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء. ولذلك قال (وجدها تغرب) ولم يقل كانت تغرب، قاله البيضاوي، يعني على العادة من أن الشخص إذا كان في البحر
وفي القرطبي قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغرباً ومشرقاً حتى وصل إلى جرمها ومسها لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض لأنها أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهتي المغرب والمشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما إنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً) ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليه.
وقال القتيبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر وتكون الشمس تغيب وراءها أو عندها أو معها فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم. أهـ.
أقول ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مشرق الشمس ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره.
قال الكرخي: فالله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس وتوسيع العين وكرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين الشمس، فلم لا يجوز ذلك وإن كنا لا نعلم به لقصور عقولنا عن الإحاطة بذلك، وأيضاًً الأنبياء والحكماء لا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك. ألا ترى إلى ظن موسى فيما أنكره على الخضر. أهـ.
(ووجد عندها) أي عند العين أو الشمس (قوماً) قيل هم قوم عراة
هذا والأظهر أنهم كانوا أهل فترة لم يرسل إليهم أحد، ولما جاءهم ذو القرنين دعاهم إلى ملة إبراهيم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر؛ فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم فقال:
(قلنا يا ذا القرنين) يستدل بها من يزعم أنه كان نبياً فإن الله خاطبه بالوحي ومن قال إنه لم يكن نبياً أوّله بالإلهام، ويحتمل أن يكون الخطاب على لسان نبي غيره (إِما أن تعذب) إياهم بالقتل من أول الأمر (وإما أن تتخذ فيهم حُسناً) أي أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر، والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع، قيل: وإما للتقسيم دون التخيير، أي ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان، فالأول لمن أصرّ على الكفر والثاني لمن تاب منه والأول أولى.
قال النحاس: وَرُدّ على ابن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا فكيف يقول لربه عز وجل (ثم يرد إلى ربه) وكيف يقول فسوف نعذبه فيخاطبه بالنون، قال والتقدير قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين، قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عز وجل خاطبه
(وسنقول له) أي لمن آمن (من أمرنا يسراً) أي مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق أو أطلق عليه المصدر مبالغة
(وجدها تطلع على قوم) قيل: هم الزنج وقيل: هم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم حاحيالق واسمها بالسريانية مرقسا، وهم مجاورون يأجوج ومأجوج (لم نجعل لهم من دونها) أي الشمس (ستراً) يسترهم لا من
قال كعب: أرضهم لا تمسك الأبنية لرخاوتها وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. قال الزمخشري وعن بعضهم قال: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء القوم فقيل لي بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليَّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلوني سرباً لهم فلما طلع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم.
وقال مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض، وفي كتب الهيئة إن أكثر حال الزنج كذلك، وكذا حال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء.
وقيل المعنى لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى وكذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها وقيل المعنى كذلك يطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضى في هؤلاء مثل ما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين وهو الأصح ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول، ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال:
وقال أبو عبيدة وابن الأنباري وأبو عمرو بن العلاء: السد إن كان بخلق الله تعالى فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً.
وقال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فَسَد ما وراءه فهو سد، وسد نحو الضعف والضعف والفقر والفقر، والسدان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. قاله ابن عباس. وقيل موضع بين السدين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، وقيل هما جبلان عاليان جداً أملسان لا يستطاع الصعود عليهما كالسد الأتي، ويسمى كل واحد منهما سدا لأنه سد فجاج الأرض.
وفي الشهاب إطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي القاموس السد الجبل والحاجز أو لكونه ملاصقاً للسد فهو مجاز بعلاقة المجاورة.
وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً
وحكى أن الواثق بعث بعض من يثق به إليه ليعاينوه فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، وقيل جبلان في أواخر الشمال.
قال الرازي: والأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال سد الإسكندر ما بينهما، أي الفتحة وطولها مائة فرسخ، وليس ليأجوج ومأجوج طريق يخرجون منها إلى أرض العمارة إلا هذه الفتحة ومسكنهم وراء هذين الجبلين، وأرضهم متسعة جداً تنتهي إلى البحر المحيط.
(وجد من دونهما) أي من ورائهما مجاوزاً عنهما، وقيل أمامهما أي خارجة عنهما لا داخلة بناحية يأجوج ومأجوج. وقال الخطيب بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين (قوماً) أي أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد، فلذا (لا يكادون) أي لا يقربون (يفقهون) أي يفهمون (قولاً) ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم.
وقرئ بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان، أي لا يبينون لغيرهم كلاماً، وقرئ بفتح الياء والقاف أي لا يفهمون كلام غيرهم، والقراءتان صحيحتان ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم ولسانهم غريب مجهول لشدة عجمتهم فكلامهم مغلق قال ابن جريج هم الترك.
(إن يأجوج ومأجوج) اسمان عجميان لا اشتقاق لهما بدليل منع صرفهما للعلمية والعجمة، وبه قال الأكثر، وقيل عربيان مشتقان من أج الظليم في مشبه إذا هرول، وتأججت النار إذا تلهبت، وقرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم بالهمز.
قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف الهمز فيها أصل، كقولهم كَبْأَثَ وَرَثْأثَ وَاسْتَشْأَثَ الريح، ويحتمل إن تكون الهمزة أصلاً والألف بدلاً عنها أو بالعكس، لأن العرب تتلاعب بالأسماء العجمية، قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز فهو على وزن يفعول، مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل رأس.
وأما مأجوج فهو مفعول من أج والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق، قال وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. وقيل: اشتقاقهما من الأَوْجَة وهي الاختلاط أو شدة الحر، وقيل من الأوج وهو سرعة العدو، واختلف في نسبهم، فقيل: هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم، وقيل يأجوج ومأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم.
وقال كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء قال القرطبي: وهذا فيه نظر لأن الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره. وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة، ومنهم من يكون لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم.
(مفسدون في الأرض) بالنهب والبغي عند خروجهم، وقيل سيفسدون بعد خروجهم إلينا، واختلف في إفسادهم في الأرض فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا حملوه وأدخلوه أرضهم.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه غداً فيعودون إليه أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه إن شاء الله تعالى ويستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسراً وعلواً فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون، قال رسول الله صلى
وقد ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله ﷺ من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق "، قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث " (٢)، وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً وقد ذكرنا تفصيل حالهم في حجج الكرامة فراجعه (فهل نجعل لك خرجاً) هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين وقرئ خراجاً.
قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء ويقع على الجزية وعلى الغلة، والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفوائض في الأموال والخرج المصدر، وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض وقيل: الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله والخراج ما يجبيه السلطان، وقيل: هما بمعنى واحد قال ابن عباس خرجاً أي أجراً عظيماً وجعلاً من الأموال.
(على أن تجعل بيننا وبينهم سداً) أي ردماً حاجزاً بيننا وبينهم فلا يصلون إلينا، قال الخليل وسيبويه: الضم (٣) هو الاسم والفتح المصدر، وقال الكسائي: الضم والفتح لغتان بمعنى واحد وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما.
وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سُد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين.
_________
(١) الترمذي ٢/ ١٩٧ - الحاكم ٤/ ٤٨٨ - الإمام أحمد ٢/ ٥١٠.
(٢) مسلم ٢٨٨٠ - البخاري ١٥٨٢.
(٣) الضم: أي ضم السين في " سداً " ومثله الفتح.
قال الزجاج: بعمل تعملونه معي (أجعل بينكم وبينهم ردماً) حاجزاً حصيناً وهذا جواب الأمر، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل.
قال الهروي: يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد، وقيل: الردم أبلغ من السداد، السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكائفة بعضها فوق بعض، قال ابن عباس: الردم هو أشد الحجاب.
وقال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما أي تلاقيهما وكذا قال أبو عبيدة والهروي وقد يقال لكل بناء عظيم مرتفع صدف قاله أبو عبيدة؛ وفي البيضاوي الصدفين من الصدف وهو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر ومنه التصادف للتقابل وقال ابن عباس: الصدفين الجبلين، وقال مجاهد: رؤوس الجبلين، ومعنى الآية أنهم أعطوه زبر الحديد فجعل يبني بها بين الجبلين حتى ساواهما.
ثم (قال) للعملة (انفخوا) على هذه الزُّبَر بالكيران (حتى إذا
(قال آتوني أفرغ عليه قطراً) قال أهل اللغة هو النحاس الذائب وبه قال ابن عباس: والإفراغ الصب وكذا قال أكثر المفسرين، وقالت طائفة: القطر الحديد المذاب، وقالت طائفة أخرى منهم ابن الأنباري: هو الرصاص المذاب فدخل القطر بين زُبَره فصار شيئاً واحداً قيل: وهذا السد معجزة عظيمة ظاهرة لأن الزُّبْرَة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها والنفخ عليها لا يمكن إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين حتى تمكنوا من العمل فيه.
قال أبو علي الفارسي: هي غير جائزة وقرئ على الأصل (أن يظهروه) أي يعلوه قاله ابن جريج، وقال قتادة: أن يرتقوه فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته فكان ارتفاعه مائتي ذراع ولملاسته لا يثبت عليه قدم ولا غيره.
(وما استطاعوا له نقباً) يقال نقبت الحائط إذا خرقت فيه خرقاً فخلص ما وراءه، قال الزجاج: ما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته وسمكه وثخنه أي عرضه قيل: أن عرضه خمسون ذراعاً وطوله فرسخ وسعة الفتحة التي بين الجبلين مائة فرسخ.
وقال القتيبي: أي جعله مدكوكاً مبسوطاً ملصقاً بالأرض وقيل مساوياً للأرض فيغور فيها أو يذوب حتى يصير تراباً، وقال الحليمي قطعاً منكسرة ومن قرأ دكاء بالمد أراد التشبه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها أي مثل دكاء لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء وقرأ الباقون دكاً بالتنوين على أنه مصدر ومعناه ما تقدم ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الحال أي مدكوكاً، قال قتادة لا أدري آلجبلين يعني به أم بينهما؟
(وكان وعد ربي حقاً) أي بخروجهم أو وعده بالثواب والعقاب أو
ثم قال الله تعالى
وقيل الضمير في بعضهم للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا بعض الخلق من الجن والإنس يموج في بعض، وقيل المعنى وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السد وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض.
(ونفخ في الصور) أي القرن للبعث وقد تقدم تفسيره وفيه دليل على أن خروجهم من علامات قرب الساعة، قيل هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد (فجمعناهم جمعاً) فإن الفاء تشعر بذلك ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة والمعنى جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها تراباً جمعاً تاماً على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب في صعيد واحد.
ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله
ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التزيلية أو مجموعهما أراد أن يصفهم بالصم عن استماع الحق فقال: (وكانوا لا يستطيعون) أي لا يعقلون (سمعاً) قاله مجاهد، وقيل: لا يقدرون على الاستماع لا فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله ﷺ لغلبة الشقاوة عليهم ولشدة عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أبلغ مما لو قال: وكانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية.
وعن عكرمة أنه قرأ كذلك ومعناه أَكَافِئُهُم وَمُحْسِبُهم أن يتخذوا عيسى وعزيراً والملائكة أرباباً من دونه تعالى بل هم لهم أعداء يتبرأون منهم، وقيل يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله.
والمعنى أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني ولا أعاقبهم عليه، قال الزجاج: المعنى أيحسبون أن ينفعهم ذلك يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا كلا (إنا اعتدنا) هيأنا (جهنم للكافرين نزلاً) يتمتعون به عند ورودهم قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل، وفي القاموس ما يقتضي أن كل منزل يقال له نُزُل، ففي تقييد النزل بمكان الضيف نظر كما قال بعضهم إنه الذي يعد للضيف؛ وعلى هذا فيكون تهكماً بهم كقوله (فبشرهم
وعن عليّ قال: إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري، وعنه قال هم فجرة قريش، وعنه قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم
وقيل لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين وهؤلاء لا حسنات لهم.
قال ابن الأعرابي: العرب تقول ما لفلان عندنا وزن أي قدر لخسته ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته وسرعة طيشه وقلة تثبته، والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة.
وقرأ مجاهد يقيم أي فلا يقيم الله وقرأ الباقون بالنون وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنه ليأتي
ثم بيّنَ سبحانه عاقبة هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم فقال
_________
(١) مسلم ٢٧٨٥ - البخاري ٢٠٢٣.
ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمنين فقال
وحكى الزجاج: أنها الأودية التي تنبت ضروباً من النبت فقيل هو عربي وقيل أعجمي وقيل فارسي وقيل سرياني، وقد تقدم بيان النزل، والمعنى كانت لهم ثمار جنة الفرودس نزلاً معداً لهم مبالغة في إكرامهم.
أخرج الطبراني والحاكم وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله الفردوس فإنها سُرَّةُ الجنة وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش " (١).
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧١.
وأخرج الترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي وعبد بن حميد عن عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال: " إن في الجنة مائة درجة كل درجة منها ما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة ومن فوقها يكون العرش ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " (٢).
وعن السدي هو الكرم بالنبطية، وقال كعب: هي جنات الأعناب بالسريانية وعنه ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأوسعها وأفضلها وأرفعها وقيل: هي الجنة الملتفة بالأشجار التي تنبت ضروباً من النبات، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة وقد أوضحنا ما جاء في الجنان كلها ونعيمها من الأحاديث والآثار في كتاب سميناه مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام.
_________
(١) الإمام أحمد ٢/ ٣٣٥ - ٢/ ٣٣٩ ولم أجده في الصحيحين.
(٢) الترمذي كتاب الجنة باب ٤.
ولما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال
وقال قتادة: ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته، وقيل المراد بها معلوماته، قرئ تنفد بالتاء والياء وهما سبعيتان وذكر في الكشاف أن قبل هنا بمعنى غير أو بمعنى دون، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو إن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع قال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه | مع الجيد لبات لها ومعاصم |
(ولو جئنا بمثله مدداً) كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله (قل لو كان البحر) وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لو لم يجيء بمثله مدداً (ولو جئنا بمثله) أي البحر (مدداً لنفد) أيضاً والمدد الزيادة وقرئ مداداً وهي كذلك في مصحف أبيّ.
ثم بيَّن أن الذي أوحي إليه هو قوله (إنما إلهكم إله واحد) لا شريك له في الألوهية والملك وفي هذا إرشاد إلى التوحيد ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال (فمن كان يرجو لقاء ربه) الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين ويخاف المصير إليه، وقيل يؤمل رؤية ربه والبعث والجزاء (فليعمل عملاً صالحا) هو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله أي مستوفياً لمعتبر أنه شرعٌ عن ابن عباس قال: أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً آخر غيره وليست هذه في المؤمنين.
(ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) من خلقه سواء كان صالحاً أو طالحاً، حيواناً أو جماداً، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً.
وأقول إن دخول الشرك الجلي الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء. ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.
عن ابن عباس قال: قال رجل يا نبيِّ الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية.
وعنه قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله فنزل في ذلك (فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا فقال: " لا أجر له فأعظم الناس ذلك " فعاد الرجل فقال " لا أجر له " (٢)، وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشرك الأصغر.
وعنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك "، ثم قرأ (فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية (٣)، أخرجه أحمد والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن شداد أيضاً قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غني " (٤)، أخرجه أحمد وأبو نعيم الطيالسي.
واخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل " (٥).
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١٨/ ٦ - الإمام أحمد: ٤/ ٢١٥.
(٢) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧١.
(٣) الإمام أحمد ٤/ ١٢٦.
(٤) الإمام أحمد ٤/ ١٢٦.
(٥) الإمام أحمد ٣/ ٣٠.
وأخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه أنه قال: " أنا خير الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو الذي أشرك " وفي لفظ " فمن أشرك بي أحداً فهو له كله " (٢).
وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر وأن الله لا يقبله، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور في هذا الوضع فليرجع إليه، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية بل الشرك الجلي يدخل تحتها دخولاً أولياً وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدمنا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم الأصول.
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه عن حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم "، وأخرج ابن راهويه والبزار والحاكم وصححه والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ في ليلة (فمن كان يرجو لقاء ربه)
_________
(١) الإمام أحمد ٤/ ١٢٤.
(٢) مسلم ٢٩٨٥ - الإمام أحمد ٢/ ٣٠١.
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية (فمن كان يرجو لقاء ربه) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن، قال ابن كثير وهذا أثر مشكل فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا ما يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروي بالمعنى على ما فهمه (٢).
_________
(١) ابن كثير ٣/ ١١٠.
(٢) ابن كثير ٣/ ١١٠.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريمهي مكية وآياتها ثمان أو تسع وتسعون آية
قال ابن عباس: أنزلت بمكة. وعن ابن الزبير وعائشة مثله، وفي البيضاوي، إلا آية السجدة وفي الجلالين: إلا سجدتها فمدنية. أو وإلا (فخلف من بعدهم خلف) الآيتان وأخرج أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب: هل معك مما جاء به -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن الله شيء؟ قال: نعم: فقرأ عليه صدراً من (كهعيص) فبكى النجاشي (١) حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ثم قال النجاشي: أن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.
وقد تقدم في الجزء الأول من هذا التفسير أن أسماء السور وترتيبها وترتيب الآيات توقيفي ولم تذكر أمرأة باسمها صريحاًً في القرآن إلا مريم فذكرت فيه في ثلاثين موضعاً.
_________
(١) اخضل الشيء اخضلالاً واخضوضل أي ابتل إهـ صحاح، والأسقف رئيس من رؤساء النصارى في الدين والجمع أساقفة إهـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)