ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١)قال أهل التفسير وأهل اللغة إن معناه الحمد للَّهِ الذي أنزل على عبده
الكتاب قيماً ولم يجعل له عِوَجاً. ومعنى قيِّم مستقيم، والعِوَجُ - بكسر العين - فيما لا يرى له شخص، وما كان له شخص قيل فيه عَوَج بفتح العين.
تقول: فِي دينه عِوَج، وفي العَصَا عَوَج - بفتح العين -.
وتأويله الشكر للَّهِ الذي أنزل على محمد الكتابَ مستقيماً ولم يجعل له
عِوَجاً، أي لم يجعل فيه اختلافاً كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
* * *
وقوله: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢)
أي لينذرهم بالعذاب البائس.
(مِنْ لَدُنْه) مِنْ قِبَلِهِ.
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)
* * *
وقوله: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣)
(مَاكثين) منصوب على الحال في معنى خالدين.
* * *
وقوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥)
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ).
وتقرأ كلمة بالرفع والنصب، فمن نصب فالمعنى كبرت مقالتهم
" اتخَذَ اللَّهَ وَلَداً " كلمةً، فكلمةً منصوب على التمييز.
ومن قرأ كلمة بالرفع فالمعنى عظمت كلمة هي قولهم: " اتخذ اللْه ولداً " ويجوز في كبرت كبرْتْ كلمة - بتسكين الباء، ولا أعلم أحداً قرأ بها.
* * *
وقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)
تأويله فلعلك مهلك نفسك، وقال بعضهم قاتل نفسك.
والمعنى واحد.
قال الشاعر:
أَلا أَيُّهذا الباخِعُ الوَجْدُ نفْسَه... لِشيءٍ نَحَتْهُ عن يَدَيْهِ المَقادِرُ
المعنى ألا أيهذا الذي أهلك الوجد نفسه.
ومعنى (عَلَى آثَارِهِمْ)، أيْ مِن بَعدِهم.
(إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا).
يعنى بالحديث القرآن، و (أسفاً) منصوب لأنه مصدر في موضع الحال،
وآسِفٌ.
قال الشاعر:
أَرَى رَجُلاً منهم أَسِيفاً كأَنَّمَا... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفًّا مُخَضَّبا
* * *
وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧)
أي لنختبرهم، و (أَيُّهُمْ) مرفوعٌ بالابتداء، إلا أن لفظه لفظ الاستفهام
المعنى لِيخْبرَ أهذا أحسن عملا أم هذا، فالمعنى: (إنا جعلنا ما على الأرض
زينة لها)، أي اختباراً ومحنة، فالحَسَن العَمَلِ من زهِدَ فيما زيِّنَ له من
الدنيا، ثم أعلمهم أنه مبيدٌ ومُفنٍ ذلكَ كلَّه مقال:
(وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨)
والصَعيد الطريق الذي لا نبَاتَ فيه، والجرُز الأرض التي لا تنبت شيئاً
كأنها تأكل النَبْتَ أكلًا، يقال أرْضِ جُرزٌ، وَأرضُون أجرَازٌ.
* * *
وقوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
(٩)
والرقِيم قيل إنه اسم الجبل الذي كان فيه الكهف، والكهف كالفَجِّ
وكالغَارِ في الجبل، وقيل إن الرقيم اسم القرية التي كانوا فيها.
وقيل إن الرقيم لَوْحٌ كان فيه كتابٌ في المكان الذي كانوا فيه - واللَّه أعلم.
وقيل كان المشركون سألوا النبي - ﷺ - عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، وذلك أنهم أعياهم أمر النبي - ﷺ - بمكة فصارتْ جماعة منهم إلى يثرب فَاعلَمَتْ جماعةً من رؤساء إليهود بقصة رسول اللَّه - ﷺ - فقالت إليهود
إنَّ اسمه عندنا مكتوب وأن يبعث على فترة مِنَ الرسلِ فاسألوه عن هذه الأشياء فإن أجاب عنها فهو نبي، فصارت الجماعة من المشركين إلى مكة وجمعوا
فروى بعضهم أنه قال: سأخبركم بها ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عنه الوحي أياماً ونزلت: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
فأخبرهم النبي - ﷺ - بما أوحى الله إليه وأنزله الله في كتابه مما دل على حقيقة نبوته.
ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّ قصًةَ أصحاب الكهف ليست بعجيبة
من آيات اللَّه، لأنَّا نشاهد من خلق السَّمَاوَات والأرض وما بينهما مما يدل على توحيد اللَّه ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف فقال جلَّ وعزَّ:
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩)
أي: حتى نُبَيِّنَ قِصتَهُمْ.
* * *
وقوله: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠)
ومعنى أَوَوْا إليه صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية جمع فتى مثل غلام
وغِلْمَة، وصَبِيَ وَصِبْيَة، وَفِعْلَة من أسماءِ الجمع، وليس ببناء يقاس عليه، لا
يجوز غُراب وغِرْبة، ولا غَنى وغنية.
وقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً).
أي أعْطِنَا من عندِكَ رَحْمَةً، أي مَغْفِرةً ورزقاً.
(وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).
يجوز في (رَشَداً) (رُشْداً) إلا أنه لا يُقْرأ بها ههنا لأن فواصل الآيات على
فَعَلٍ نحو أمَدٍ وعدَدٍ، فَرَشدٌ أحْسَنُ في هذا المكان أي أرشدنا إلى ما يقرب
منك ويزلف عندك.
معنى (ضربنا على آذانهم) منعْناهم - أن يسمعوا، لأن النائم - إذا سمع
انتبه. فالمعنى أنمناهم، ومنعناهم السمعِ.
و (عدداً) منصوب على ضربين:
أحدهما على المصدر، المعنى نَعُدُّ عدَداً، ويجوز أن يكون نعتاً للسنين.
المعنى سنين ذات عَدَدٍ، والفائدةُ في قولك عدد في الأشياء المعدودات أنك
تريد توكيد كثرة الشيءِ لأنه إذا قل فُهِمَ مِقْدَارُهُ ومقدار عدده، فلم يحتجِ إلى أن يُعَدّ، فإذا كثُرَ احتاج إلى أن يعد، فالعدد في قَوْلكَ أقمت أياماً عدَداً أنك تُرِيدُ بها الكثرة.
وجائز أن تؤكد بعدَدٍ معنى الجماعة في أنها قد خرجت من
معنى الواحد.
* * *
فمعنى قوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢)
أي بعثناهم من نومهم، ويقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو
من النوم إلى الانتباه مبعوث.
وتأويل مبعوث أنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن
التصرف والانْبعاث.
وقوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا).
الأمد الغَايَةُ، و (أمداً) منصوب على نوعين، وهو على التمييز مَنْصُوب
وإن شئت كان منصوباً على أحصى أمَداً فيكون العامل فيه أحصى، كأنه قيل لنعلَمَ أهؤلاء أحصى للأمد أم هؤلاء، ويكونُ منصُوباً بـ لبثوا، ويكون أحصى متعلقاً بـ (لِمَا) فيكون المعنى أي الحزبين أحصى للُبثهم في الأمد.
* * *
وقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤)
(لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا).
أي قد قلنا إذَنْ جوراً.
و (شطَطاً). منصوب على المصدر، المعنى لقد قلنا
قال الشاعر:
ألَا يَا لَقَوْمي قد أشطت عواذِلي... وَيزْعمن أني أقْصَر اليوم باطلي
* * *
وقوله: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥)
أنكر الفتية عبادة قومِهم، وأن يعبدوا مع الله غيره، فقالوا هؤلاء قومنا
اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون.
ولولا في معنى هلَّا، المعنى هلَّا يأتون عليهم بحجة بَينَةٍ، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة.
* * *
وقوله: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦)
موضع (ما) نصب، المعنى إذا اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون إلا اللَّه
فإنكم لن تتركوا عبادته.
(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ).
أي اجعلوا الكهف مَأْوَاكًمْ
(يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِهِ).
أي يَنْشرْ لكم مِنْ رِزْق
(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
يقال هو مِرْفَق اليد بكسر الميم وفتح الفاء، وكذلك مِرْفَقُ الأمْر مثل
مِرْفق اليَدِ سواء.
قال الأصْمَعي: لا أعرف غير هدا. وقَرَأتِ القراء مَرْفِقاً -
وذكر قطرب وغيرُه من أهل اللغة اللغَتَيْن جَميعاً في
مَرْفقِ الأمر ومِرْفَق اليَدِ.
وقالوا جميعاً المِرْفَق لليد بكسر الميم. هو أكثَرُ في اللغة وأجود.
* * *
وقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧)
في (تَزَاوَرُ) ثلاثة أوجه: تَزَاوَرُ، وتَزْوَرُّ - بغير ألف، على مثال تَحْمَرُّ.
وتَزْوَارُّ على مثال تحمارُّ، ووجه رابع تزَاور. والأصل فيه تتزَاورُ فأدغمت التاء في الزاي.
* * *
(وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشَمَال).
(تَقْرِضُهم) بكسر الراء، وتَقْرُضهم - بضم الراء -.
والكسر القراءة عليه، وتأويله تعدل عنهم وتتركهم.
قال ذوالرئةَ:
إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوازَ مُشْرِفٍ... شِمالاً وعن أَيمانهنَّ الفَوارِسُ
يَقرِضنَ يتركن، وأصل القرض القطع والتفرقة بين الأشياء، ومن هذا
قولك: اقْرِضْبي دِرْهَماً، تأويله اقطع لي مِنْ مَالِك دِرْهماً.
وقوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ).
أي في متسع منه
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ).
قيل إنَّ بابَ الكهفِ كان بِإزَاءِ بَنَاتِ نَعْشٍ، فلذلك لم تكن الشمس
الشمس لا تقربهم في مطلعها ولا عند غروبها.
وقوله: (ذَلِكِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ).
أكثر اللغة فهو المهتدي بإثبات الياء، وفي المصحف في هذا.
الموضع بغير ياء وهذا في هذا الموضع كالذي في الأعراف، فهذا هو الوجه، وهو في الأعراف بالياء وفي الكهف بغير ياء. -
وحذف الياء جائز في الأسماء خاصة ولا يجوز في الأفعال، لأن حذف الياء في الفعل دليل الجزم.
وحذف الياء في الأسماء واقع إذا لم يكن أمع الاسم، الألف واللام، نحو مهتدٍ ومُقْتَدٍ، فأدخلت الألف واللام وترك الحذف على ما كان عليه. ودلت الكسرة على الياء المحذوفة.
* * *
وقوله: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨)
الأيقاظ: المنتبهونَ، والرقود النيامُ، وواحد الأيقاظ يقط ويقظان والجمع
أيقاظ.
قال الراجز:
ووجدوا إخْوتهم أيْقَاظاً
وقيل في التّفسير إنهم كانوا مُفَتحِي الأعْين، الَّذي يراهُم يتوهمهم
منتبهين وقيل لكثرة تقلبهم يظن أنهم غير نيام، ويدل عليه
(ونُقلِّبهُمْ ذاتَ اليَمِينِ وذَاتَ الشمِاَلِ)
ويجوز وَتَحْسِبُهُم، وتحسَبهم.
(وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).
والوصيد فناء البيت، وفناء الدار.
بكسر الواو، وتقرأ لوُ اطلعت عليهم بضم الواو، والكسر أجود، لأن
الواو ساكنة والطاء ساكنة، فكسرت الواو لالتقاء السَّاكنين، وهذا هو الأصل.
وجاز الضم لأن الضم من جنس الواو، ولكنه إذا كان بعد الساكن مضْمُوم
فالضَم هُنَاكَ أحْسَنُ منه ههنا. نحو (أوُ انْقُصْ) - واو انقص بالضم والكسر - وقوله: (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا).
(فَراراً) منصوب على المصدر، لأن معنى وَلَّيْتَ فرَرْت منهم.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا).
ورَعْباً ورُعُباً، ورُعْباً منصوب على التمييز، تقول: امتلأت ماء وامتلأت
فَرَقاً، أي امتلأت مِنَ الفَرَقِ ومن الماء.
وقيل في التفسير إنهم طالت شعورهم جدا وأظفارهم، فلذلك كان
الرائي لو رآهُمْ لَهَرَبَ منهم مَرْعُوباً.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩)
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ).
فيها أرْبَعَةُ أوجه - بفتح الواو وكسر الراء، وبورْقكم بتسكين الراء
وبوِرْقِكُمْ - بكسر الواو وتسكين الراء، يقال وَرِق، ووَرْق، ووِرْق، كما قيل: كَبِدٌ، وكَبْدٌ، وكِبْدٌ. وكسر الوَاو أردؤها. ويجوَزَ " بِوَرِقْكُمْ " تدغم القاف في الكاف وتصِيرُ كافاً خَالِصَةً.
* * *
وقوله: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا).
(أيها) مرفوع بالابتداء، ومعنى (أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) أي أي أهلها أزكى
طعاماً، وأزكى خبر الابتداء، وطعاماً منصوب على التمييز.
وقيل: إن تأويلَ
وقوله: (فَلْيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ).
وفَلِيَأتِكًمْ - بإسكان اللام وكسرها - والقراءة بإسكان اللام.
والكسرُ جائز.
قوله: (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا).
قيل لا يُعْلِمَنَ بكم، أي إنْ ظُهِرَ عَلَيْه فلا يُوقِعَنَّ إخْوَانَهُ فيما يقع فيه.
* * *
وقوله: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)
أي يقتلوكم بالرجم، والرجْمُ مِنْ أخبَثِ القَتْل.
(أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).
" إذاً " تدل على الشرط، أي ولن تُفْلِحُوا إن رَجَعْتُم إلى مِلَّتِهِمْ.
* * *
وقوله: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١)
أي أطلعنا عَلَيْهم (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي ليعلم الذين يُكَذبُونَ
بِالبَعْثِ أنَّ وعدَ الله حق، ويزداد من يؤمن به إيمَاناً.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ).
أي يَتَنَاظَرون في أمرهم، فيجوز أن يكون " إذْ " مَنْصوباً
بقوله (أعثرنا عليهم) فيكون المعنى وكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا عليهم إذ وقعت المنازعة في أمرهم، ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: ْ لِيَعْلَمُوا، أي لِيَعْلَموا في وقت منازعتهم.
هذا يدل - واللَّه أعلم - أنه لما ظهر أمْرُهُمْ غلب المؤمنون بالبعث
والنشُورِ لأن المَساجِدَ للمؤمنين.
* * *
وقوله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢)
(ثَلَاثَةٌ) مرفوع بخبر الابتداء، المعنى سيقول الذين يتنازعون في أمرهم؛
هم ثَلاثَةٌ رَابعُهُم كلبهم.
(رَجْمًا بِالْغَيْبِ).
أي يقولون ذلك رجماً، أي ظنَّا وتخرصاً.
قال زهير
وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتمو... وما هُوَ عنها بالحَديث المُرَجَّمِ
(وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ).
(وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).
دخول الواو ههنا وإخراجها من الأول واحِدٌ، وقد يجوز أن يكون الواو
يدخل ليدل على انقطاع القصة وأن الشيء قد تمَّ.
وقوله: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ).
روي عن ابن عباس أنه قال، كان أصحاب الكهف سبعة، وأنا من
القليل الذين يعلمونهم، وقول ابن عباس إذا صح عنه فهو من أوثَق التفسير.
وقوله: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا).
أي لا تأتِ في أمْرِهم بغير ما أوحي إليك، أي أفْتِ في قِصتِهِمْ بالظاهِر
الذي أنزل إليك.
أي في أصحاب الكهف.
(مِنْهُمْ أَحَدًا).
أي من أهل الكتاب.
* * *
وقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
موضع (أن) نصبٌ، المعنى: لا تقولن إني أفعل أبداً إلا بمشيئة اللَّه، فإذا
قال القائل: إني أفعل ذلك إن شاء اللَّه فكأنَّه قال: لا أفعل إلا بمشيئة اللَّه.
وقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤)
أي أي وقت ذكرت أنك لم تستثنِ، فاستَثْنِ، وقل: إن شاء اللَّه.
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا).
أي قل عسى أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون
أقرب في الرشد وأدَل من قصة أصحاب الكهف.
* * *
وقوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥)
جائز أن يكون (سنين) نصباً، وجائز أن تكون جرًّا.
فأما النصبُ فعلى معنى فلبثوا في كهفهم سنِين ثلاَثَمائةٍ، ويكون على تقدير آخر " سِنين " معطوفاً على ثَلاَثٍ عطف البيان والتوكيد، وجائز أن تكون (سنين) من نعت المائة، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث
كما قال الشاعر
فجعل سُودًا نعتاً لحلوبةٍ، وهو في المعنى نعت لجملة العَدَدِ، فجَائز أن
يكون: ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ، مَحْمولاً على قوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثةٌ رابعُهم كلبُهم
ْوًيقُولُونَ لَبِثوا فِي كَهْفِهِمْ وهذا القول دليله قوله: (قلِ اللَّهُ أعلَمُ بِمَا لَبِثًوا).
ويجوز - وهو الأجود عندي - أنه إخْبَارٌ عن الله أخبرهم بطول لُبْثِهِم.
وأعلَمَ أنَّهُ أعلَمُ بذلك.
وكان هذا أبلغ في الآية فيهم أن يكون الصحيح أنهم
قد لبثوا هذا العدَدَ كلَّهُ.
فأمَّا قوله: (وازْدَادوُا تِسْعاً).
فلا يكون على معنى وازْدَادُوا تسع لَيَال، ولا تسع ساعاتٍ، لأن العدَدَ
يعرف تفسيره، وإذا تقدم تفسيره استغنى بما تقدم عن إعادة ذكر التفسير.
تقول: عندي مائة درهم وخمسة فيكون الخمسة قد دل عليها ذكر
الدرهم
وكذلك قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
قال أبو العباس محمد بن يزيد: (وَعَشْرًا) معناه وعشر مُدَدٍ، وتلك المدد كل مدة منها يوم ولَيلَة، والعرب تقول: ما رأيته منذ عشر.
وأتيته لِعَشْرٍ خَلَونَ، فيغلِّبُون الليالي على ذكر الأيام، والأيام داخلة في الليَالِي والليالي مع اليوم مُدة معلومَةْ مِنَ الدهْرِ، فتأنيث عشر يدل على أنه لا يراد به أشْهُر فهذا أحسن ما فُسِّر في هذه الآية.
وقوله: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)
(أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ).
أصحاب الكهف وغيرهم:
وقوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
قرئت: (وَلَا يُشْرِكْ) عَلَى النهْي.
والآية - واللَّه أعلم - تَدُلُ عَلَى أحَدِ مَعْنَيْينِ:
أحدهما أنه أجْرَى ذكر علمه وقدرته، فأعلم عزَّ وجلَّ أنه لا يُشْرِكُ في
حُكمِه مما يخبر به من الغَيْبِ أحَداً، كما قال: (عَالِمِ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أحَدَاً) وكذلك إذا قرئت: وَلَا تُشْركْ - بالتاء - في حكمه أحَداً، أي لا تَنْسُبَنَّ أحَداً إلى عِلْمِ الغَيْب، ويكون - واللَّه أعلم، وهو جيَدٌ بالغ - على معنى أنه لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم اللَّه، أو بما يدل عليه حكم اللَّه، وليس لأحَدٍ أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكاً للَّهِ في حكمه، يأمر بحكم كما أمر اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧)
أي لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا عَنْ أمره ونَهْيِه، ولا ملجأ إلا إليه.
وكذلك: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ).
أي ما أخبر الله به، وما أمر به فَلَا مُبَدِّلَ له.
* * *
وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)
وقرئت بالغُدوَةِ والعَشي، وبالغَدَاةِ والعشَي أجوَدُ في قول جَمِيع العُلَماءِ
لأن " غَدْوَة " معرفة لا تدخلها الألف واللام، والذين أدخلوا الألف واللام
والإخلاص له، ويَعْبُدونه يريدون وجهه، أي لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه.
وقوله: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ).
أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
روي أن جماعة من عظماء المشركين قالوا للنبي عليه السلام،: باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم كرائحة الضَّأنِ، وهم مَوَال وليسوا بأشراف لِنُجالِسَك ولنَفْهَمَ عنك، يعنون خَبَّاباً، وصُهَيْباً وعَمَّاراً - وبِلَالًا ومن أشبهَهُم، فأمره اللَّه بأن لا يفعل ذلك وأن يجعل إقباله على المؤمنين وألا يلتفت إلى غيرهم فقال: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
أي كان أمْرُهُ التفريطُ، والتفريط تقديم العجزِ.
* * *
وقوله: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)
المعنى وقل الدي أتيتكم به الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
هذا الكلام ليس بأمْرٍ لَهُمْ، ما فعلوه منه فهم فيه مطيعون، ولكن كلام
وعيد وإنذار قد بين بعده ما لكل فريق مِنْ مؤمِن وكافر.
قال عزَّ وجلَّ: (إِنَا أعْتَدْنَا للظَّالِمينَ نَاراً).
معنى أعتدنا جعلناها عِتَاداً لهم كما تقول: جعلت هذا عُدةً لهذا.
والعِتادُ: الشيء الثابت اللازم.
وقوله: (أحَاطَ بِهِمْ سُرادِقُهَا).
الشقة في المضرب والحائط المشتمل على الشيء.
وقوله: (كَالمُهْلَ).
يعنى أنهم يغاثون بماء كالرّصَاصِ المُذَابِ أىِ الصُّفرِ والفِضَّةِ، وكل
ما أذَبْتَه من هذه الأشياء فهو مُهْل.
وقيل المهل: دُرْدِيُّ الزَّيت أيضاً.
وقيل المهل صَدِيدُ الجرح.
(يَشْوِي الْوُجُوهَ).
أي إذا قُدِّمَ ليشْرَبَ أشْوَىَ الوَجْهُ مِنْ حرارته.
(بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا).
(مُرْتَفَقًا) منصوب على التمييز، و (مُرْتَفَقًا) منزلاً.
وقال أهل اللغة (مُرْتَفَقًا): متكأً.
وأنشدوا.
إنْي أَرِقتُ فبتُّ الليلَ مُرتفقاً... كأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
خبر (إِنَّ) هنا على ثلاثة أوجه:
فأحدها أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً منهم "، ولم يحتج إلى ذكر منهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه يحبط عمل غير المؤمنين، قال عزَّ وجلَّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
ويجوز أن يكون خبر (إِنَّ): (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ)
ويكون قوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) قَدْ فُصِلَ به بين الاسم وخَبَرِه، لأن فيه ذكر ما في الأول، لأن من أحسن
عملاً بمنزلة الذين آمنوا.
وَوَجْهُ ثالث، أنْ يكون الخبر (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)
في معنى إنا لا نضيع أجرهم، لأن ذكر " مَنْ " كذكر الذي، وذكر
حُسْنِ العَمَل كذِكْرِ الإيمان.
فيكون كقولك: إن الذين يعملون الصالحات إن الله لا يضيع أجر من آمن، فهو كقولك إن اللَّه لا يضيع أجرهم.
(أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)
ومعنى (جناتُ عَدْنٍ) جنات إقَامة.
وقيل في التفسير جنات عَدْن، جنات من الأربع الجِنَانِ التي أعدها الله لأوليائه.
(يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ).
أساور جمع أسْوِرة، وأسْوِرَة جمع سوار. يقال هُو سِوَارٌ في اليد
بالكَسْرِ، وَقَدْ حُكِيَ سَوار وحكي قطرب إسْوَار، وذكر أن أساور جمع إسْوَار، على حذف الياء، لأن جمع أسوار أساوير.
والسندس والإستبرق نوعان من الحرير.
(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا).
الأرائك واحدتها: أريكة، والأرائك الفرش في الحجال.
و (مُرْتفقاً) منصوب على التمييز وقد فسرنا المرتفق.
* * *
وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢)
كان المشركون سألوا النبي - ﷺ - بمشورة إليهود عليهم أن يسألوا النبي - ﷺ - عن قصة أصحاب الكهف وعن الروح وعن هذين الرجلين، فأعلمه اللَّه الجواب
وأنه مثل له عليه السلام وللكفار، ومثل لجميع من آمن باللَّهِ وجميع
من عَنَدَ عنه وكفر به، فقال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ).
(رَجُلَين) منصوب على معنى المفعول على معنى واضرب لهم مثلاً مثل
رجُلين.
(وَحَفَفَناها بنخل) أي جعلنا النخل مُطِيفاً بهما، يقال: قد حفَّ القوم
بِزَيْدٍ إذَا كانُوا مُطيفين به.
(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً).
فأَعلم اللَّه أن عمارتهما كامِلةٌ متصلة لا يفصل بينهما إلا عمارةٌ، وأعْلَمنا
أنهُمَا كاملتان في تأدية حملهما من نخلهما وأعنابهما والزرع الذي بينهما.
فقال: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣)
أي لم تنقص منه شيئاً، وقال آتت ولم يقل آتتا، رده على (كِلْتَا) لأن لفظ
(آتتا) لكان جائزاً أن يكون المعنى الجَنتَانِ كلتاهما آتتا أكلَهُمَا.
(وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا).
ولو قرئت نَهْراً لكان جائزاً.
يقال نَهَر ونَهْر، فأعلمنا أن شُرْبَهُمَا. كان من ماء نهر وهو من أغزر الشرْب.
* * *
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤)
وقرئت ثُمُر، وقيل الثمَرُ مَا أخرجته الشجر، والثمُرُ المال، يقال قد ثمَّر
فلان مَالًا. والثمُرُ هَهُنا أحْسَنُ، لأن قوله: (كِلْتَا الجَنتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها).
قَد دَلَّ على الثمَرِ، وتجوز أن يكون ثَمَرٌ جمع ثَمَرة. وثمارٌ وثُمرٌ.
وقوله: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا).
مالًا، ونفراً، منصوبان على التمييز، وأخبره أنه أعز منه ناصراً، أي
يخبر أنَّ نُصَّارَهُ كثير.
* * *
وقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا
(٣٥)
وكل من كفر باللَّهِ فَنَفْسَهُ ظَلَم، لأنه يولجها النار ذاتَ العَذَاب الدائِمِ.
فأي ظُلْم للنفس فوق هذا.
* * *
وقوله: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦)
فأخبر بكفره بالساعة وبكَفره بفناء الدنيا.
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).
فدل على أن صَاحِبَهُ المؤمن قد أعلمه أن السَّاعَةَ تَقُومُ وأنه يبعث،
الآخرة خيراً مما أعطاني في الدنيا، لأنه لم يُعطِني هَذا في الدنْيَا إلا وهو
يزيدني إن كان الأمر عَلَى هَذَا في الآخرة، فقال له صاحبه منكراً له بهذا
القول:
(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧)
أي ثم أكملك، فأنكرت أمر البعث حتى شككت فيه، وقد أعْلَمَنَا أن
الشاكَّ في أمْر اللَّهِ كافِرٌ، وأن بعض الظنِّ إثم أي باطِل، وقد قال اللَّه تعالى:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧).
ثم أعلَمَهُ صاحبهُ أنه مُوَحِّدٌ للَّهِ، وأن كل ما قدر عليه الِإنسان
من ملك ونعْمةٍ فلا قوة له ولا قدرة عليه إلا باللَّهِ، فقال:
(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨)
فدل خِطَابهُ على أنَّ صَاحِبَ الجنتين مشرك عابدٌ مع الله غيرَه، وفي
قوله: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) خَمسةُ أوْجُه (١):
لَكِنَّ هو الله ربي - بتشديد النون
وفتحها، ويوقف عليها بالألف، ويوصل بغير ألف، ويُقْرَأ: لكنا هو الله رَبي
بالألف موصولة، ويقرأ لكِنْ هو اللَّه رَبي بسكون النون.
ويجوز - ولا أعلم أحداً قرأ به - لكنَنَ هُوَ اللَّه رَبي بنونين مَفْتُوحَتَين، ويجوز لكنَنَا هو الله ربي بنونين وألف.
فمن قرأ بتشديد النون فالمعنى لكن أنا هو الله ربي فطرحت
الهمزة على النون فتحركت بالفتح واجتمع حرفان من جنس واحد، فأُدغِمَت النون الأولى في الثانية، وحذفت الألف في الوصل لأنها تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ومن قرأ: لكنَّا فأثبت الألف في الوصل كما كان تثبيتها لي
قوله: ﴿لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي﴾: قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ.
والأصلُ في هذه الكلمةِ «» لكنْ أنا «فَنَقَلَ حركةَ همزةِ» أنا «إلى نون» لكن «وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ» أنا «اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ» أنا «وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ.
وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً.
وإعرابُ ذلك: أن يكونَ» أنا «مبتدأ و» هو «مبتدأ ثانٍ، و» هو «ضمير الشأن، و» اللهُ «مبتدأ ثالث. و» ربي «خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في» ربي «. ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ» هو «أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ» هو «عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه ﴿بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ» هو «مبتدأً، ومابعده خبرُه، وهو خبرُه خبرُ» لكنَّ «. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ» لكنَّ «من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً.
وقرأ أبو عمروٍ» لكنَّهْ «بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون» أنا «، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ. وعن حاتم الطائي:» هكذا فَرْدِي أَنَهْ «.
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو:» رَوَى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لَحِقَ «لكن». قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكن» وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ «لكنَّا» لكنَّ واسمَها وهو «ن»، والأصل: «لكنَّنا» فحذف إحدى النونات نحو: ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ وكان حقُّ التركيبِ أن يكون «ربنا»، «ولا نُشرك بربِّنا» قال: «ولكنه اعتبر المعنى فأفرد».
وهو غريب جداً.
وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ «لكنَّ» مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع.
وقرأ عبدُ الله «لكنْ أنا هو» على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه «لكنْ هو الله» بغير «أنا». وقرئ أيضاً «لكنَنَا».
وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ «. [وقال:]» ونحوُه -يعني إدغامَ نون «لكن» في نون «ن» بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل:
٣١٦٤ - وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ... وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ» لكنَّ «، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه:
٣١٦٥ - فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي... ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك». قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو:
٣١٦٦ -......................... ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فأدخل اللامَ في خبر «لكنَّ». وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر «إنَّ»، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ.
والاستدراكُ مِنْ قوله «أكفرْتَ»، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك: «زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قال الشاعر:
أَنا سَيْفُ العَشيرةِ فاعْرفوني جميعاً قد تَذَرَّيْتُ السَّنامَا
قال أبو إسحاق وألف أنا في كل هذا إثباتها شاذ في الوصل؛ ولكِن
مَنْ أثْبتَ فعلى الوقف كما أثبت الهاء في قوله: (وما أدراك ما هيه).
و (كتَابيَة).
ومن قرأ (لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي)، وهي لكن وحدها ليس معها اسم، ومن قرأ لكنَنَ لم يدغم لأن النونين من كلمتين، وكذلك من قال: لَكِنَنا بنونين وألف، على قياس لكن أنا، لم يدغم لأن النونين من كلمتين، وفي أنا في الوصل ثَلاث لغاتٍ أجودها أَنا قُمْتُ، مثل قوله (أنَا رَبكُمْ) بغير ألف في اللفظ، ويجوز أنَا قُمْتُ بإثبات الألف، هو ضعيف جداً، وحكوا أنْ قُمت بإسكان النون، وهو ضعيف أيضاً فأما (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) - فهو الجَيِّد بإثْبَاتِ الألِف، لأن الهمزة قد حُذِفَتْ من أنَا، فصار إثباتُ الألف عوضعاً من الهمزة.
فهذا جميع ما يحتمله هذا الحرف.
والجَيِّد البالغ ما في مصحف أُبَي بنِ كَعْبٍ ولم نذكره في هذه القراءات
لمخالفته المصحف وهو " لكن أنا هو الله ربي "، فهذا هو الأصل، وجميع ما قرئ به جيد بالغ، ولا أنكر القراءة بهذا، لأن الحذْف قد يقع فى الكتات
كثيراً في الياءات والهمزات، فيقرأ بالحذف وبالتمام نحو قوله:
من قرأ الداعي فمصيب، ومن قرأ الداع فمصيبً.
وكذلك من قرأ لكِنَّا، ولكن أنا فهو مصيب، والأجود اتباع القُراء
ولزوم الرواية، فإن القراءة سنة، وكلما كثرت الرواية في الحرف وكثرت به القراءة فهو المتبع، وما جاز في العربية ولمِ يقرأ به قارئ فلا تَقْرأنَّ به فإن
القراءة به بدعة، وكل ما قَلَّتْ فيه الرواية وضعُفَ عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ، ولا ينبغي أن تقرأ به.
* * *
وقوله (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩)
والجنة البستان. ومعنى: (ولولا) هلَّا، وتأويل الكلام التوبيخ.
(قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ).
(ما) في موضع رفع، المعنى قلت: الأمر ما شاء اللَّه.
ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب على معنى الشرط والجزاء، ويكون الجواب مضمراً، ويكون التأويل أيُّ شيء شاء اللَّه كان، ويضمر الجواب كما أضْمِرَ جواب لَو في قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ)
المعنى لكان هذا القرآن.
وقوله: (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
الاختيار النصب بغير تَنْوينٍ على النفي كما قال لا ريب فيه، ويجوز لا
قوةُ إلا باللَّه على الرفع بالابتداء، والخبر " باللَّه " المعنى أنه لا يقوى أحد في
ديدنه ولا في مِلْك يمينه إلا باللَّه، ولا يكون له إلا ما شاء اللَّه.
وقوله: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ).
(أَقَلَّ) مَنْصُوبٌ، وهو مفعول ثانٍ بـ ترني، وأنا يصلح لشيئين، إن شئت
كانت توكيداً للنُونِ والياء، وإن شئت كانت فصلاً، كما تقول: كنتَ أنْت
المفعول الثاني لِتَرنِي.
وقوله: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ).
جائز أن يكون أراد في الدنيا، أو في الآخرة.
(وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ).
وهذا موضع لطيف يحتاج أن يُشرَحَ وهو أن الحُسْبانَ في اللغةِ - هو
الحِسَابُ قال تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) المعنى بحساب، فالمعنى
في هذه الآية أن يرسل عليها عَذَاب حُسْبانٍ، وذلك الحُسْبَانُ هو حِسَابُ ما
كسبَتْ يداك.
وقوله (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)
الصعيد الطريق الذي لا نبات فيه، وكذلك الزَلَق.
(أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١)
معناه غائراً، يقال ماءٌ غَوْرٌ، ومياه غورٌ، وغور مصدر مثل عَدْل ورضِىً.
وقوله: (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا).
أي يغور فلا تَقْدِرُ على أثَرٍ تطلبُه من أجْلِهِ.
* * *
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢)
أي أحاط اللَّهُ العَذَابَ بثمره.
(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا).
* * *
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
أيْ حيطانُهَا قائمة لا سُقُوفَ عليها، وقد تهدَّمَتْ سقُوفُها فصارت في
قرارها والعُرُوش: السقوفُ، فصارت الحيطان كأنَّها على السقوف.
* * *
وقوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣)
(ينصرونه) محمول على معنى فئة، المعنى ولم يكن له أقوام ينصرونه.
ولوكان ينصره لجاز، كما قال: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
(وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا).
وما كان هو أيضاً قادراً على نصر نفسه.
* * *
وقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤)
وتقرأ (الوِلايةُ) - بكسر الواو وفتحها -
(لِلَّهِ الْحَقِّ)، وتقرأ (الحقُّ)، المعنى: في مثل تلك الحال بيانُ الولاية للَّهِ.
أي عند ذلك يتيين نَصْرُهُ، ولي اللَّه - يتولى الله إياه.
فمن قرأ (الحقُّ) بالرفع، فهو نعتٌ للولاية، ومن قرأ (الحقِّ) فهو
بالجر فهو نعت للَّهِ - جلَّ وعزَّ.
ويجوز (الحقَّ)، ولا أعلم أحداً قرأ بها.
ونصبه على المصدرِ في التوكيد، كما تقول: هنالك الحقَّ، أي أحُقُّ الحقَّ.
وقوله: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا).
وعُقْباً، ويجوز و (خَيْرٌ عُقْبَى) على وزن بُشْرَى، وثواباً وعُقْباً منصوبان
على التمييز.
* * *
وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)
(فَأَصْبَحَ هَشِيمًا).
والهَشِيمُ النبات الجافَ الذي تسفيه الريح.
(تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ).
ويقرأ الريح، وفي تذروه لغتان لَا يُقْرأ بِهمَا: تُذْرِيه - بضم التاء وكسر
الراء، وتَذْرِيه بفتح التاء. أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الحَيَاةَ الدنيا زَائِلةٌ، ودَليل ذَلِك أنَّ مَا مَضَى منها بمنزلة ما لم يكن، وأعلم أن مثلها هذا المثل.
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا).
أي على الإنشاء، والِإفناء، مقتدراً.
فإن قال قائل: " فالكلام كان اللَّه "، فتأويله أنَّ مَا شَاهَدْتَم من قدرته
ليس بحادث عنده، وأنه كذلك كان لم يزل.
هذا مذهب سيبويه، وقال الحسَنُ: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)
أي كان مُقْتَدِرًا عليه قبل كونه.
وقال بَعْضُهُمْ: " كان " مِنَ اللَّه بمنزلة كائن ويكون.
وقولُ الحسنِ فِي هذَا حسنٌ جميل ومذهب سيبويه والخليل مذهب النحويين الحُذاقِ كما وَصَفْنَا، لأنهم يقولون: إنما خوطبت العربُ بلغتِها ونزل القرآن بما يَعْقِلُونه ويتخاطبون به، والعربُ لا تعرف كان في معنى يكون، إلا أن يدخل على الحرف آلةٌ تنقلها إلى معنى الاستقبال، وكذلك لا يعرف الماضي في معنى الحال.
فهذا شرح ما في القرآن من هذا الباب نحو قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، وقد فسرناه قبل هذا الموضع.
(الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) هي الصلوات الخمس، - وقيل هي: سبحان اللَّه
والحمد للَّهِ ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر.
والْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ - واللَّه أعلم -
كل عمل صالح يبقى ثوابه، فالصلوات الخمس وتوحيد اللَّه وتعظيمه داخل
في الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وكذلك الصدقات والصيام والجهاد وَأعْمَالُ الخير
والبر كُلِّهَا.
* * *
وقوله: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧)
(يَوْمَ) منصوب على معنى التلاوة والذكر، المعنى واذكر يوم نسير الجبال.
ويجوز أن يكون نصبه على " والبَاقِيَاتُ الصالِحاتُ خير يوم يسير الجبال " أي: خير في القيامة من الأعمال التي تبقى آثامها.
وقوله (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، معناه ظاهرة، وقد سُيِّرَت جبالها، واجتثت
أشجارها، وذهبت أبْنِيَتُهَا فبقيتْ ظَاهِرَةً، وقد ألقت ما فيها وتخلت.
وقوله: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).
أي لَمْ نُخَلِّفْ أحَداً مِنْهُم.
* * *
(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨)
معناه أنهم كلهم ظاهرون للَّهِ، تُرَى جماعَتُهم كما يُرَى كل واحدٍ منهم.
لا يَحْجُبُ واحدٌ واحداً.
وقوله: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
أي بعثناكم كما خَلَقْنَاكم.
وجاء - في التفسير أنهم يُحْشَرُونَ عُرَاةً غُرْلا حُفاةً.
معنَى غُرْلًا، جمع أغْرَل وهو الاقْلَفُ.
أي بل زَعمتم أن لن تبْعَثوا، لأن الله جل ثناؤه، وعدَهُم بالبَعْثِ.
* * *
وقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)
معناه - والله أعلم - وُضِعَ كتابُ كُل امْرئ بِيَمينهِ أو شماله.
(فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا).
كل من وقع في هلكةٍ دعا بالويل.
(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)
أي لا تاركاً صغيرةً.
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
أي إنما يعاقبهم فيضع العقوبة موضعها في مُجازاة الذنُوبِ.
وأجمع أهل اللغة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
* * *
وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠)
قوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) دليل على أنه أمر بالسجود مع الملائكة، وأكثر
ما في التفسير أن إبليس من غير الملائكة وقد ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ أنه كان منَ
الجِنِ بمنزلة آدم من الإنس، وقد قيل إن الجِن ضَربٌ من الملائكة، كانوا
خُزانَ الأرض، وقيل خزان الجنانِ.
فإن قال قائل: فكيف استثنى مع ذكر الملائكة، فقال فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، فكيف وقع الاستثناء وليس هو من الأول، فالجواب في هذا أنه أُمر
مَعَهُمْ بالسجود فاستثنى من أنه لَمْ يَسْجُد، والدليل جملى ذلك أنك تقول:
أمرت عَبْدِي وأخوتي فأطاعوني إلا عبدي، وكذلك قوله عزَّ وجلَّ:
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)، ورب العالمين ليس كمثله شيء، وقد جرى ذكره في
ولا يقدر أحد أن يعرف معنى الكلام غيرَ هذا.
(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).
فيه ثلاثة أوجه، يجوز أن يكون معناه: خرج عن أمْر رَبِّهِ، يقال: فسقت
الرطبة إذا خرجت عن قِشْرهَا، وقال قطرب: يجوز أن يكون معناه فسق عن رَدِّ أمْرِ رَبِّه، ومذهب سيبويه والخليل وهو الحق عندنا أن معنى (فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أتاه الفسق لما أمِرَ فعصى، فكان سبَبَ فسقِه أمْرُ رَبِّه، كما تقول أطعمه عن جوع وكساه عن عُرْي.
المعنى كان سَبَبَ فسقه الأمْر بالسُّجودِ لَما كان سببَ
الِإطعام الجوعُ، وسبب الكُسْوة العُرْى.
وقوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).
معناه أنه بئس ما استبدل به الظالمون من رب العزة جلَّ وعزَّ، إبليس.
* * *
وقولُه: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)
أي لم يكونوا مَوْجُودين إذ خلقت السَّمَاوَات والأرض.
(وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا).
ويقرأ (وَمَا كُنْتَ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) - بفتح التاء - المعنى في فتحها: ما
كنتَ يا محمدُ لتتخذ الْمُضِلِّينَ أنصاراً، وضم التاء هي القراءة، وعليها
المعنى.
يخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بقدرته، وأنه لا يعتضِدُ فيها ولا في نُصْرتِه
بالْمُضِلِّينَ والاعتضادُ التقوى. وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلانٍ، معناه استعنتُ به.
و (عَضُدًا) فيه. خمسة أوجه (١)، وجهان منها كثيران جَيِّدان، وهما
وقرأ عيسى «عَضْداً» بفتح العين وسكون الضاد، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم: سَبْع ورَجْل في: سَبْع ورَجْل. وقرأ الحسن «عُضْداً» بالضم والسكون: وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها. وعنه أيضاً «عَضَداً» بفتحتين و «عُضُداً» بضمتين. والضحاك «عِضَداً» بكسر العين وفتحِ الضاد. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ.
والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ. ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال: فلان عَضُدي. ومنه ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ [القصص: ٣٥] أي: سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقد رويت عَضِد بِكَسْر الضَّادِ
ويجوز في عَضِد بكسر الضاد (عَضْداً).
* * *
وقوله: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢)
أضافهم إليه على قولهم.
وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقً).
جعلنا بينهم من العذاب مَا يُوبِقُهم، أي يُهْلِكُهمْ، والمَوْبِقُ المَهْلِكُ.
يقال وَبِقَ الرجل يَوْبَقُ، وَبَقاً ويقال يَيْبَقُ، وبائق، وفيه لغة أخرى وبَقَ يبقُ
وَبُوقاً، وهو وَابِقٌ، والأولُ هُوَ وَبِقٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)
القراءة (وَرَأَى)، ويجوز " ورَاءَ " المجرمون مثل ورَاعَ، كما قال كُثَير:
وكل خليلِ رَاءني فهو قائل... من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ
قوله: (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا).
معناه أيْقَنُوا. وقد بيَّنَّا ذلك.
(وَلَمْ يَجدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا).
أي معدلًا، قال أبُو كَبير:
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)
أي من كل مثل يحتاجون إليه، أي بَيَّناهُ لَهُمْ.
وقوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
معناه كان الكافِرُ، ويدل عليه قوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ).
فإن قال قائل: وهل يجادل غيرُ الإنسان؟
فالجواب في ذلك أن إبليس قد جادل، وأن كل ما يعقل من الملائكةِ والجِنِّ يجادل، وَلَكِن الإنسانَ أكثر هذه الأشياء جَدَلاً.
* * *
وقوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥)
موضع (أن) نصب.
المعنى وما منع الناس من الإيمان (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).
المعنى إلا طلَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ -.
وسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أنهم غاينوا إلعذاب، فطلَبَ المشركون أن قالوا:
(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا).
ويقرأ قِبَلاً - بكسر القاف وفتح الباء -، ويجوز قُبْلاً - بتسكين الباء - ولم
يَقْرا بها أحدٌ.
وموضع (أن) في قوله (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) رفع، وتأويل قِبَلًا مُعَايَبةً،
ويجوز أن يكون تأويل قُبُلًا بمعنى من قُبُل أي مما يقابلهم.
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧)
(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا).
هؤلاء قد أخبر اللَّه عنهم أنهم من أهل الطبع فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ).
(أَكِنَّةً) جمع كنانة، وهو الغطاء، وهو مثل عِنَان وأَعِنة.
فأَعلم اللَّه عزَّ وجل أن هؤلاء بأعيانهم لن يهتدوا أَبداً.
* * *
وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨)
الموئل المنجا، يقال وَأَل يَئلُ إذَا نجا.
* * *
وقوله: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)
المعنى وأهل تلك القرى أهلكناهم، يعنى به من أهْلَكَ من الأمَمُ
الخالية، نحو عاد وثمود وقوم لوط ومن ذُكِرَ بالهَلاَكِ.
وقوله: (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً).
أي أجَلًا، وفيها ثلاثة أوجه (١): لِمُهْلَكِهِمْ، وتأويل الْمُهْلَكِ على ضربين.
على المصدر، وعلى الوقت، معنى المصدر لإهْلَاكهم، ومعنى الوَقتِ لِوَقْتِ
هلاكهم وكل فعل ماض على أفعل فالمصدر منه مُفْعَل، أو إفْعَال، واسمُ
الزمَانِ منه مُفْعَل، وكذلك اسم المكان، تقول أدخَلْتُه مُدْخَلاً، وهذا مُدْخَله
أي المكانُ الذي يدخل زيد منه، وهذا مُدْخَلُه أي وقت - إدخاله، ويجوز أن
يقرأ (لمَهْلِكِهم) على أن يكون مَهْلك اسماً للزمَانِ على معنى هَلَك يهلِكُ.
وهذا زمن مَهْلِكِه مثل جلس يجلس، إذا أردت المكان أو الزمَانَ، فإذا أردت
المَصْدَرَ قلت مَهْلَك بفتح اللام مثل مجلَس، يقال: أتَتْ الناقةُ عَلَى مَضْرِبها
قوله: «لِمَهْلِكِهِمْ» قرأ عاصم «مَهْلَك» بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين.
فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف «مَهْلَك» فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله. وقال: «إنَّ» هَلَك «يتعدَّى دون همز وأنشد:
٣١٧٤ - ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا... ف» مَنْ «معمولٌ ل» هالكٍ «وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. ف» مَنْ تعرَّج «فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في» هالِك «ضميرَ» مَهْمه «ونَصَبَ» مَنْ تعرَّج «نَصْبَ» الوجهَ «في قولِك:» مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ «ثم أضاف الصفة وهي» هالك «إلى معمولها، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رفعٍ. فهو كقولك:» زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ «، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو: هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر:
٣١٧٥ - فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً... والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ
وقال الهذلي:
٣١٧٦ - أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها... وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ
وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه:» إنه زمانٌ «ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان.
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً. قال:» وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ «. وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و» مُهْلَك «فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه، وأَنْ يكون زماناً، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وموضع (تلكَ القرَى) رفع بالابتداء، والقرى صفة لها مُبَيّنَة، وأهلكناهم
خبر الابتداء. وَجَائِزُ أن يكون موضع (تلك القرى) نَصْباً ويكون (أهكناهم)
مُفسِّراً للناصِب، ويكون المعنى وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم.
* * *
وقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠)
وإن شئْتَ قلت بالِإمَالةِ والكسْرِ، وهي لغة تميم، وأهل الحجاز.
يفتحونَ وُيفَخِّمُونَ.
ويروى في التفسير أنَّ فتاه " يُوشَع بنُ نون ".
(لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ).
معنى (لَا أَبْرَحُ) لا أزال، ولو كان لا أزول كان محَالًا، لأنه إذا لم
يزل من مكانه لم يقطع أَرْضاً، ومعنى لا أبرح في معنى لا أزال - موجود في
كلام العرب.
قال الشاعر:.
وأَبرَحُ ما أَدامَ الله قَوْمي... على الأَعداء مُنْتَطِقاً مُجِيدا
أي لا أزال.
(آتِنا غَدَاءَنَا).
وقوله: (حُقباً).
الحقبُ ثمانون سنةً، وكان مجمع البحرين الموضع الذي وعد فيه
موسى بلقاء الخضِر عليه السلام.
وأحب الله عزَّ وجلَّ أن يُعْلمَ موسى - وإن كان قد أوتي التوراة أنه قد أُوتيَ غيره من العلم أيضاً ما ليس عنده، فَوعِدَ بلقاء الخضِر.
* * *
(فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١)
يعنى به موسى ويوشَع.
(نِسِيَا حُوتَهُمَا)
وكانت فيما روي سمكة مملوحة، وكانت آية لموسى في الموضع الذي
يلقى فيه الخَضِر.
(فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).
أحيا اللَّه السمكة حتى سربَت في البحر، و (سَرَبًا) منصوب على جهتين.
على المفعول كقولك: اتخذت طريقي في الشرب، واتخذت طريقي مكان
كذا وكذا، فيكون مفعولًا ثانياً كقولك اتخذت زيداً وَكِيلاً.
ويجوز أن يكون " سَرَباً " مَصْدَراً يدل عليه (فاتخذَ سبِيلَه في البحر) فيكون المعنى نَسيَا حوتَهُمَا فجعل الحوتُ طريقَه في البحر ثم بين كيف ذلك، فكأنه قال: سَرَبَ الحُوتُ سَرباً، ومعنى نسيا حوتهما، كان النسيان مِنْ يُوشَع أن تقدمه، وكان النسيانُ من موسى أن يأمره فيه بشيء.
* * *
وقوله: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣)
والصخرة موضع المَوْعِد.
(فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ).
وهذا قَوْلُ يُوشَع لِمُوسَى، حين قال موسى (آتنا غَدَاءَنَا).
وكانت السمكة من عُدَّةِ غدائهما، فقال:
(وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).
كَسْرُ الهاء وضمها جَائِزَان في (أَنْسَانِيهُ)، (أَنْ أذكره) بدلٌ من الهاء
لاشتمال الذكر على الهاء في المعنى، والمعنى وما أنساني أن أذكره إلا
الشيطانُ.
(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا).
(عَجَبًا) منصوب على وجهين، على قول يوشع: واتخذ الحوت سبيله
في البحر عجباً، ويجوز أن يكون قال يوشع: اتخذ الحوت سبيله في البحر.
فأجابه موسى فقال: (عَجَبًا)، كأنَّه قال: أعْجَبُ عَجَباً.
ثم قال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي).
الأكثر في الوقف (نَبْغِ) على اتباع المصحف.
وبعد " نبغ " آيةً ويجوز وهو أحسن في العربية (ذلك ما كنا نبغي) في الوقف. أما الوصل فالأحسن فيه نبغي بإثبات الياء، وهذا مذهب أبي عمرو، وهو أقوى في العربية.
ومعنى قول موسى (عليه السلام): (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)، أي ما كنا نريد.
لأنه وعد بالخَضِر في ذلك المكان الذي تتسرب فيه السمكة.
(فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا).
أي رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثَر قَصَصاً، والقصص اتباع
الأثر.
(٦٥)
يعنى به الخضِرُ، وقيل إنما سمي الخَضِر لأنه كان إذا صلى في
مكان اخضَّر ما حوله.
وفيما فعله موسى - وهو من جلَّةِ الأنبياء، وقد أوتيَ التوراةَ، من طلبه
العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحَدٍ أن يترك طلب العلم.
وإن كان قد بلغ نهايته وأحاط بأكثر ما يدركه أهل زمانه، وأنْ يتواضع لمن هو أعلم منه.
* * *
(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦)
ورَشَدًا، والفُعْلُ والفَعَل نحو الرُشْدُ والرشَدُ كثير في العربية نحو البُخْلُ
والبَخَلُ، والعُجْمُ والعَجَمُ، والعُرْبُ والعَرَبُ.
* * *
(قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧)
هدْا قول الخِضْرِ لمُوسَى، ثم أعلمه العلة في ترك الصبر فقال:
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨)
أي وكيف تصبر على ما ظاهِرُه منكر، والأنبياء والصالحون لا يَصبِرُون
على ما يرونه منكراً.
* * *
(قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩)
هذا قول موسى للخَضِر.
وقوله: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠)
أي إنْ أنْكَرتَهُ فلا تعجل بالمسألة إلى أن أبيِّن لك الوجه فيه، ونصب
امرئ القيس.
وَصِرنَا إلى الحسنى ورق حدِيثُنَا... ورُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبةً أَيَّ إِذلالِ
لأن معنى رُضْتُ أذلَلْتُ، وكذلك أحطت به في معنى خبرته.
* * *
وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١)
أي خرقها الخَضِرُ.
(قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا)، وليَغْرَقَ أهلُها، وكان خرقها مما يلي
الماء، لأن التفسير جاء بأنه خرقها بأن قلع لوحين مما يلي الماء، فقال:
(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).
ومعنى (إِمْرًا) شيئاً عَظِيماً مِنَ المنْكَر.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢)
فلما رأى موسى أن الخَرْقَ لم يَدْخل مِنْة الماء، وأنَّه لمْ يُضِر مَن فِي
السفينة:
(قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣)
ومعنى ترهقني تُغَشِّيني، أي عاملني باليسر لا بالعسر.
وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)
معناه فقتله الخَضِر، (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا).
(نُكْراً) ههنا معناه لقد جئتَ شيئاً أَنْكَرَ من الأمر الأول.
و (نُكْراً) منصوب على ضربين: أحدهما معناه أتيْتَ شيئاً نكراً، ويجوز أن
- يكون معناه: جئْتُ بشَيءٍ نكرٍ، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب.
* * *
(قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا
(٧٦)
أي بعد هذه المسألة: (فَلَا تُصَاحِبْني).
وُيقْرا فلا تصْحَبْني، وَقِرَاءة شَاذةٌ فَلاَ تُصْحِبْني..
فمن قرأ فلا تَصْحَبْني فإن معناه فَلَا تَكُونَنَّ صَاحِبِي، ومن قرأ فلا
تصاحبني فمعناه إنْ طلبتُ صِحبتك فلا تتابعني على ذلك.
ومن قرأ تُصْحِبْني، ففيها بأربعة أوجه، فأجْوَدها فلا تُتابعْنِي على ذلك، يقال قد أصحب المُهْرُ إذا انقاد، فيكون معناه فلا تتابعَني في شيء ألتمسه منك.
ويجوز أن يكونَ معناه: فَلَا تُصْحِبْني أحَداً ولا أعرف لهذا معنى لأن موسى
لم يكن سأل الخَضِرَ أن يصْحِبَهُ أحَداً.
وقوله: (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) (١).
ويقرأ من لَدُنِي بتخفيف النُّونِ، لأن أصل لّدُنْ الِإسكان، فإذا أضَفْتَها
إلى نَفْسِك زدت نوناً ليَعْلَمَ سُكُونُ النونِ الأولى، تقول من لَدُنْ زَيْدٍ، فتسكِنَ النُونَ ثم تضيف إلى نفسك، فتقول من لَدُنِى كما تقول عن زَيْدٍ وَعَني. ومن قال مِنْ لَدْنِي لم يجز أن يقولَ عَنِي ومِنِي بحدف النونِ، لأن لدن اسم غير متمكن، ومن وعن حرفانِ جاءا لمعنًى.
ولدُن مع ذلك أَثْقَلُ مِنْ " مِنْ " و " فَيْ ".
والدليل على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون قولهم: قَدْنِي في
قوله: ﴿فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾: العامَّةُ على «تصاحِبْني» من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: «فلا تَصْحَبَنِّي» مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ «فلا تُصْحِبْني عِلْمَك» فأظهر المفعول.
قوله: ﴿مِن لَّدُنِّي﴾ العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على «لَدُن» لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون «مِنْ» و «عَنْ» فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد.
ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل «لَدُن». إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: «لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب» لَدُنْ «مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية». وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ ب «لَدُ» لغةً في «لَدُن» حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون.
والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: «لَدُني» بالتخفيف.
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ «عَنْ» و «مِنْ» في قوله:
٣١٨٣ - أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ... لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على «لَدْ» الساكنة الدال، لغةً في «لدن» فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد «عَضْد» وبابِه.
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه ﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ [الآية: ١١]، وفي قوله في هذه السورةِ «مِنْ لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا.
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ «عُذُراً» بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً «عُذْرِي» مضافاً لياءِ المتكلم.
و ﴿مِن لَّدُنِّي﴾ متعلقٌ ب «بَلَغْتَ»، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عُذْرا».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ويجوز قَدِي بحذف النون لأن قَدْ اسم غير متمكنِ.
قال الشاعر (فجاء باللغتين).
قَدْنِيَ مِنْ نَصْر الخُبَيْبَيْن قَدِي
فأمَّا إسكانهم دال لَدْن فأسكنوها كما يقولون في عَضُد: عَضْدٍ.
فيحذفون الصفةَ.
وقوله: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)
زعم سيبويه أن معنى مثل هذا التوكيد، والمعنى هذا فراق بيننا أي هذا
فراق اتصالنا، قال: ومثل هذا أمر الكلام: أخزى اللَّه الكاذب مِنِي وَمِنْكَ، فذكر بيني وبينك ثانيةً توْكيد، وهذا لا يكونُ إلا بالواو ولا يجوز:
" هذا فراق بيْي فَبيْنِكَ " لأن معنى الواو الاجتماع، ومعنى الفاء أن يأتي الثاني في إثْر الأول.
* * *
وقوله: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)
مَسَاكِينُ: لَا يَنْصَرِفُ لأنه جمع لا يكون على مثال الواحد، وكذلك كل
جمع نحو مساجد ومفاتيح وطوامير، لَا يَنصرف كما ذكرنا.
وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم في باب ما لا ينصرف.
كان يأخذ كل سفينة لا عَيْبَ فيها غَصْباً، فإن كانت عائبة لم يعرض
لها. ووَرَاءَهُم: خلفهم، هذا الأجود الوجهين.
ويجوز أن يكون: كان رجوعهم في طريقهم عليه ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلمَ اللَّهُ الخَضِر خَبَرهُ.
وقيل: (كانَ وَرَاءَهُمْ) معناه كان قدَّامَهُمْ.
وهذا جاء في العربية، لأنه ما بين يَدَيْكَ
وَمَا قدَّامَك إذا توارَى عنك فقد صار وراءك.
قال الشاعر:
أَليسَ وَرائي إِنْ تَراخَتْ مَنِيَّتي... لزُومُ العَصا تُثْنى عليها الأَصابِعُ
* * *
وقوله: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)
(يُرْهِقَهُمَا) يحملهما على الرهق وهو الجهل.
وقوله (فخشينا) من كلام الخَضِرِ، وقال قوم لا يجوز أن يكون فخشينا عن اللَّه، وقالوا دليلنا على أن فخشينا من كلام الخضِر قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) وهذا جائز أن يكونَ عن اللَّه عزَّ وجلَّ: (فخشينا) لأن الخشية من اللَّه عزَّ وجلَّ معناه الكَرَاهَةُ، ومعناها من الآدميين الخَوْفُ.
وقوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١)
(فَأرَدْنَا).
بمعنى أراد اللَّه - جلَّ وعزَّ - لأن لفظ الإخْبَارِ عن اللَّه كذا أكْثَرُ من أن
يحصى.
ومعنى:. (وَأقْرَبَ رُحْماً).
أي أقرب عَطْفاً وأمَسُّ بِالقَرابَةِ، والرُّحْمُ والرَّحْمُ في اللغةِ العطف
والرحمةُ
قال الشاعر:
* * *
وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)
وتقرأ أن يُضِيفُوهُمَا. يقَالُ: ضِفْتُ الرجلَ نزلت عليه، وأضَفْتُه وضَيَّفْتُه، إذا أنزلتُه وقَرَبْتُه
وقوله (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ).
أي فأقامه الخَضِرُ، ومعنى جِدَاراً يُريدُ - والِإرادة إنما تكون في الحيوانِ
المبين، والجدار لا يُريد إرادة حقيقيةَ، إلَّا أن هيئته في التهيؤ للسقوط قد
ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالِإرادة إذ الصورتان
واحدة، وهذا كثير في الشعر واللغة.
قال الراعي يصف الِإبِل:
في مَهْمَةٍ قَلِقَتْ به هاماتُها قَلَقَ الفُؤُوسِ إِذا أَردنَ نُضولا
وقال الآخر:
يُريدُ الرمحُ صدرَ أَبي بَراء... ويَعدِلُ عن دِماءِ بَني عَقيل
ويقرأ: أَنْ يَنْقَضَّ، وأَنْ يَنْقَاضَّ (١)، فينقض يسقط بسرعة.
وينقاضَّ ينشق طولًا.
يقال انقاضَّ سِنُّه إذا انشقَت طُولاً
وقوله؛ (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).
وُيرْوَى: لَتَخِذْت، وذلك أنهما لما نزلا القرية لم يُضَيفْهُمَا أهْلُهَا، ولا
قوله: ﴿أَن يَنقَضَّ﴾ مفعولُ الإِرادة. و «انقَضَّ» يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش «يريد ليُنْقَضَ» مبنياً للمفعول واللامِ، كهي في قولِه ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]. وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه ﴿يُرِيدُ أَن يُنقَضَ﴾ بغير لام كي.
وقرأ الزُّهْري «أنْ يَنْقَاضَ» بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: «هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ» أي: هَدَمْتُه فانهدم «. قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال:» مثل: يَحْمارّ «ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال:» وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «.
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين» يَنْقاص «بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه:» وتقول العرب «انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً». وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة:
٣١٨٥ -......................................... مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل: إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان. وأُنْشِد لأبي ذؤيب:
٣١٨٦ فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه... لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
لتخذت عليه أجراً، يقال تَخِذَ يتْخَذُ في اتَّخَذَ يَتخذُ، وأصل تَخِذْ من أخَذْت
وأصل اتَخَذت ائْتَخذْت (١).
* * *
وقوله: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)
(وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا).
قيل كان الكنز عِلْماً، وقيل كان الكنزِ مالًا، والمعروف في اللغة أن الكَنْزَ
إذَا أفْرِدَ فمعناه المالُ المدْفُونَ والمدَّخَرُ فإذا لم يكن المال قيل: عنده
عِلْمٍ وله كَنْزُ فَهْمٍ، والكنز ههنا بالمال أشبَهُ، لأن العلم لا يكاد يتعدم
إلا بمعلِّمٍ، والمال لا يحتاج أن ينتفع فيه بغيره، وجائز أن يكون الكنْزُ كان
مالاً مكتوباً فيه عِلم، لأنه قد رويَ أنه كان لوحاً مِن ذَهَب عليه مكتوب:
" لا إله إلا الله محمد رسول الله "، فهذا مال وَعِلْم عظيم، هو توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ وإعلام أن محمداً مبعوث.
وقوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
(رَحْمَةً) منصوب على وجْهَيْن:
أحدهما قوله (فَأَرَاد ربُك) وأردْنَا مَا ذَكَرْنَا
رحمةً أي للرحمة، أي فعلنا ذلك رَحْمةً كما تقول:
أنقَذْتكَ من الهلكة رحمة بك.
ويجوز أن يكون (رَحْمَةً) منصوباً على المصدر.
لأن معنى (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا)
رحمهما الله بذلك.
وجميع ما ذكر من قوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا).
ومن قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا)، معناه رحمهما اللَّهُ رحمة.
وقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
يدل على أنه فعله بوحي الله عزَّ وجلَّ.
وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣)
قوله: «لاتَّحّذْتَ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتَخِذْتَ» بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ. والباقون:: لاتَّخَذْتَ «بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ. واختُلِفَ: هل هما مِن الأَخْذ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال: تَخِذَ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو:
٣١٨٧ -............................ تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ
أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع. والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)
يقال إنه سمي ذا القرنين لأنه كانت، له ضَفِيرتان، وُيروَى عن علي عليه
السلام أنه قال سمي ذا القرنين لأنه ضَرَبَ على جانب رَأسه الأيمن، وجانب
رأسه الأيسر، أي ضرب على قرني رأسه.
ويجوز أن يكون على مذهب أهل اللغة أن يكون سُمِّيَ ذا القرنين لأنه بلغ قطري الدنيا - مشرقِ الشمسِ ومَغْرِبها
* * *
وقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) [فَاتَّبَعَ] سَبَبًا (٨٥)
ويقرأ (فَأَتْبَعَ) أي آتيناه من كل شيء ما يَبْلُغُ بِهِ فِي التمَكُّنِ أقْطَارَ
الأرْضِ.
(سَبَبًا) أي عِلْمأ يوصلهُ إلى حَيْثُ يريد، كما سخر الله عزَّ وجل
لسليمان الريحَ.
ومعنى (فَأتبْعَ سَبَباً).
- واللَّه أعلم - أي فاتبع سبَبَاً من الأسباب التي أوتيَ.
* * *
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيةٍ)
ويُقْرأ (حَمِئَةٍ) بالهمز فَمَن قرأ حَمِئةٍ أراد في عين ذَاتِ حمأةٍ، ويقال حَمأتُ
البئر إذَا أخرجتُ حَمْأتَها، وأحْمأتها - إذا ألقيت فيها الحَمْأةَ، وحمِئَتْ هي تحمأ فهي حمئة إدَا صارت فيها الحمأة.
ومن قرأ حَامِيَةً بغير همز أراد حارَّةً، وقد تكون حارَّةً ذات حَمْأةٍ.
(وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا).
أي عند العين.
وقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).
* * *
(قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا
(٨٧)
أي فسوفْ نعذِّبُه بالقتل وعَذَاب اللَّهِ إيَّاهُ بالنار أنْكَرُ من عذاب القتل.
وقوله: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨)
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ [جَزَاءُ] الْحُسْنَى)
وتُقرأ (جَزَاءً الْحُسْنَى)، المعنى فله الحسنى جزاءً، وجزاء مصدر
موضوع في موضع الحال.
المعنى فله الحسنى مَجْزِيًّا بها جزاءً.
ومن قرأ (جَزَاءُ الْحُسْنَى)، أضَافَ جزاء إلى الحسنى.
وقد قرئ بهما جميعاً (١).
(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).
أي نقول له قولًا جميلاً
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩)
أي سببًا آخر مما يوصله إلى قُطْر من أقطار الأرض.
* * *
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠)
أي: لم نجعل لهم شيئاً يُظلهُمْ من سقف ولا لباس.
وقوله: (كَذَلِكَ) يجوز أن يكون وجدها تطلع على قوم كذلك القبيل
الذين كانوا عند مغرب الشمس، وأن حكمهم حكم أولئك.
وقولها (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢)
أي سبباً ثالِثاً مما يبلُغُهُ قُطراً من أقطَارِ الأرْض.
قوله: ﴿جَزَآءً الحسنى﴾: قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب «جزاءً» وتنوينِه. والباقون برفعِه مضافاً. فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ، أي: يَجْزِي جزاء. وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه. وقد يُعْترض على الأولِ: بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها، فكذا لا يَتَوسَّط. وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ، وهو إلى الجوازِ أقربُ.
الثالث: أنه في موضع الحالِ. والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء، والخبرُ الجارُّ قبلَه. و «الحُسْنى» مضاف إليها. والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ. وقيل: الفَعْلَة الحسنى.
الرابع: نصبُه على التفسيرِ. قاله الفراء. يعني التمييزَ. وهو بعيدٌ.
وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنَّ المبتدأَ محذوفٌ، وهو العاملُ في «جزاءَ الحسنى» التقديرُ: فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى. والثاني: أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله:
٣١٩٦ -............................... ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
ذكره المهدويُّ.
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق «جزاءً» مرفوعاً منوناً على الابتداء. و «الحُسْنى» بدلٌ أو بيان، أو منصوبةٌ بإضمار «أَعْني»، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٩٣)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السُّدَّيْنِ)
ويقرأ (بَيْنَ السَّدَّيْنِ). وقيل ما كان مسدوداً
خلقة فهو سُدٌّ، وما كان من عمل الناس فهو سَدٌّ.
وقوله: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا).
ويقرأ يُفقَهون، فمعناه لا يكادون يُفْهِمُونَ.
* * *
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)
وتقرأ بالهمز في يأجوج ومأجوج، ويقرأ بغير همر، وهما اسْمان
أعجَميًانِ لا ينصرفان لأنهما معرفة.
وقال بَعضُ أهل اللغة: من هَمَزَ كأنَّه يجعله من أجَّةِ الحرِّ، ومن قوله
مِلْحٌ أجَاجٌ.
وأجَّةُ الحَر شدتُهُ وتَوَقُدُه.
ومن هذا قولهم أجَّجْتُ النَّارَ ويكون التقدير في يأجُوج يفعُول، وفي مَأجُوج مفعول، وجائز أن يكون ترك الهمز على هذا المعنى، ويجوز أن يكون " مَاجوج " فاعول، وكذلك ياجوج، وهذا لو كان الاسمانِ عَرَبيينِ لكان هذا اشتقاقهما، فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية.
وقوله: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا).
وَتُقْرأ (خَرَاجاً). فمن قرأ خَرْجاً، فالخَرْجُ الفَيْءُ -، والخَرَاجُ الضرِيبَة
وقيل الجزْيَةُ، والخراج عند النحويين الاسم لما يُخْرَج من الفرائض في الأموال، والخَرْجُ المصْدَرُ (١).
وقوله عزَّ وجلَّ: (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
أي تجعل بيننا وبين يأجُوج ومَاجُوجَ.
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
(٩٥)
ويجوز.. ما مكَنَنِي بنونين، أي الذي مكنني فيه رَبِّي خَيرٌ لي مما
قوله: ﴿يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾: قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة، والباقون بألفٍ صريحة. واخْتُلِف في ذلك فقيل: هما أعجميان. لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة. ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية. وقيل: بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما: فقيل: اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها. وقيل: مِنَ الأَجَّة. وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ. وقيل: من الأجِّ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ. ومنه قوله:
٣١٩٧ -............................ تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ
وقيل: من الأُجاجِ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق. ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ. وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ. ولا ضَيْرَ في ذلك. ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ.
ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج، أي: اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل: مَوْجُوج. قاله أبو حاتم. وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ. وشذوذُه كشذوذِ «طائيّ» في النسب إلى طيِّئ. وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود. ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام. والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد. وقرأ رؤبة وأبوه العجاج «آجوج».
قوله: «خَراجاً» قرأ ابن عامر «خَرْجاً» هنا وفي المؤمنين بسكون الراء، والأخَوان «خراجاً» «فَخَراج» في السورتين بالألف، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو «فَخَراج» كقراءة الأخوين. فقيل: هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال. وقيل: الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام، وبغير ألف بمعنى الجُعْل، أي: نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك.
قال مكي رحمه الله: «والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام. وقيل: الخَرْج ما كان على الرؤوس، والخراج ما كان على الأرض، يقال: أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ، وخراجَ أرضِك. قاله ابن الأعرابي. وقيل: الخَرْجُ أخصُّ، والخَراجُ أعَمُّ. قاله ثعلب. وقيل: الخَرْجُ مصدرٌ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فمن قرأ (مَكَني) أدغم النون في النون لاجتماع النونين.
ومن قرأ (مَكنَنِي) بنونَيْنِ أظهر النونين لأنهما مِنْ كلِمَتَيْنِ.
الأولى من فعل والثانية تدخل مع الاسم المضمر.
وقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).
أي بعمل تعملونه معي لا بمال
(أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)
والردم في اللغة أكثر مِنَ السد، لأنَّ الردم ما جُعِلَ بعضه على بعْضٍ
يقال: ثوبٌ مُرَدَّمٌ، إذا كان قد رُقِعَ رُقعة فوق رُقعَة.
* * *
وقوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)
أي قطع الحديد، وواحد الزبَرِ زُبَرَة، وهى القطعة العظيمة.
وقوله: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ).
وتقرأ الصُّدُفَيْنِ والصُّدْفَينِ، وهُما نَاحِيتَا الجَبَلِ.
وقوله: (قَالَ انْفُخُوا).
وهو أن أخذ قِطعَ الحديد العِظَامِ وجعل بينها الحطب والفَحْمَ ووضع
عليها المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، وهو قوله: (حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَاراً).
والحديد إذَا أُحْمِيَ بالفحم والمِنْفَاخِ صارَ كالنَّارِ.
وقوله: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).
المعنى: أعطوني قِطْراً وهو النحاس. فصب النحاس المُذَابَ على
صَلْداً من حديد ونحاسٍ. ويقال إنه بناحية أرْمِينية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧)
أي ما قَدَرُوا أن يعلو عليه لارتفاعه وامْلِسَاسِه وما استطاعوا أنْ يَنْقُبُوه.
وقوله: (فما اسْطَاعُوا) (١) بغير تاء أصلها استطاعوا بالتاء، ولكن التاء والطاء من مخرج واحد، فحذفت التاء لاجْتِمَاعِهِمَا ويخف اللفظُ، ومِنَ العَرب من
يقول: فما استاعوا بغير طَاء، ولا تجوز القراءة بها.
ومنهم من يقول: فما أسْطَاعوا بقطع الألف، المعنى فما أطاعوا، فزادوا السين.
قال الخليل وسيبويه: زَادُوهُمَا عِوَضاً من ذهاب حركة الواو، لأن الأصل في أطاع أطْوَعَ.
فأمَّا من قرأ فما اسْطَاعوا - بإدغام السين في الطاء - فلاحِنٌ مخطئٌ.
زعم ذلك النحويون، الخليل ويونُس وسيبويه، وجميع من قال بقولهم. وَحُجتُهُمْ فِي ذلك أن السين ساكنة فإذا أدغمت التاء صارت طاء ساكنة، ولا يجمع بين ساكنين.
ومن قال: اطرح حركة التاء على السين فأقول: فما اسَطاعُوا فخطأ
أيضاً، لأن سين استفعل لم تحركْ قط.
* * *
وقوله: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
أي هذا التمكين الذي أدركتُ به السُّدَّ رحمةُ منْ ربي.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ [دَكًّا] وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
وتقرأ (دَكاءَ)، على فعلاء - يا هذا - والذكاء والذكاء، كل ما انسبط من
الأرْض من مُرتَفع.
يعنى أنه إذا كان يومُ القيامَةِ، أو في وقت خروجٍ يَأجْوج ومَأجُوجَ
صار هذا الجبل دَكًّا.
والدليل على أن هذا الجبل يصير دَكًّا قوله:
(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤).
قوله: ﴿فَمَا اسطاعوا﴾: قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها. والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي: «لمَّا لم يمكن إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك» - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن، وإن لم يكن حرف لين. وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو. وقد أنشد سيبويه «ومَسْحِيِ» يعني في قول الشاعر:
٣١٩٨ - كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ... ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ
يريد «ومَسْحِه» فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين. وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة. قال الزجاج: «مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ» وقال أبو علي: «هي غيرُ جائزة».
وقرأ الأعشى، عن أبي بكر «اصْطاعوا» بإبدال السين صاداً. والأعمش «استطاعوا» كالثانية. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ومعنى يموجون في الشيء يخوضون فيه ويكثرون القول.
فجائز أن يكون يعنى ب " يومئذٍ " يوم القيامة، ويكون الدليل على ذلك (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا).
ويجوز أن يكون (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي يوم انقضاء
أمر السَّدِّ.
وقوله (يَمُوجُ)، ماجوا متعجبين مِنَ السَّدِّ.
ومعنى (نفِخَ فِي الصْورِ).
قال أهل اللغة: الصور جمع صورة.
والذي جاء في التفسير أن الصور قرن يَنْفُخ فيه إسرافيل - واللَّه أعلم - إلا إن حملته أنه عند ذلك النفِخْ يكون بعث العباد ونشرهم
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)
تأويل عرضنا أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها ورأوها.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١)
جعل اللَّه عزَّ وجلَّ على أبصارهم غشاوة بكفرهم.
(وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا).
كانوا لعداوتَهم للنبي - ﷺ - لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلى عليهم، كما تقول للكاره لقولك ما تقدر أن تسمع كلامي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢)
وقرئت - وهي جَيِّدَةٌ - (أَفَحَسَبَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
تأويله أفيكْفيهم أن يتخذوا العبادَ - أولياء مِن دون اللَّه.
ثم بين عزَّ وجلَّ جزاءهم فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا).
يقال لكَل ما اتُّخِذَ ليمكث فِيه، أعتَدْت لفلان كذا وكذا، أي اتخَذْتُهُ عَتَاداً
له، ونُزُلاً، بمعْنَى مَنْزِلًا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣)
(بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)
منصوب على التمييز لأنه إذْ قال: (بِالْأَخْسَرِينَ)، دلَّ على أنه كان منهم
ما خسِروه، فبين ذلك الخَسْرَانَ فِي أيِّ نوعٍ وَقَع فأعلم - جلَّ وعزَّ - أنه لا
ينفع عملٌ عُمل مع الكفر به شيئاً فقال:
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)
كما قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
و (الذين) يصلح أنْ يكونَ جرًّا ورَفْعأ، فالجرُّ نعت للأخسرين.
والرفع على الاستئناف، والمعنى هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.
(وَهُمْ يَحْسَبُوَن).
وتقرأ (يحْسِبُون)
(أنَّهمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
أي يظنون أنهم بصدهم عن النبي - ﷺ - أنهم يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
وقوله - عزَ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧)
اختلف الناس في تفسير الفردوس، فقال قوم: الفردوسُ الأوْدِيةُ التي
وإنَ ثواب الله كُل موحدٍ... جنانٌ من الفرْدَوْسِ فيها يخلَّدُ
وحقيقته أنه البُستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين لأنه عند
أهل كل لغة كذلك، ولهذا قال حسان بن ثابت: " جِنان من الفردوس ".
وقولهم: إنه البستان يحقق هذا.
والجنة أيضاً في اللغة البُسْتَان، إلا أن الجنة التِي يَدْخُلُهَا المؤمنون فيها
ما يكون في البساتين، ويدل عليه قوله (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ).
وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨)
منصوب على الحال.
(لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا).
أي لا يُريدُونَ عنها تَحَوُلاً، يقال: قد حال في مكانه حِوَلاً، كما قالوا
في المصادر صَغُرَ صِغَراً، وعظُم عِظَماً، وعادني حبها عِوَداً.
وقد قيل أيضاً: إنّ الحِوَالَ الحيلَةُ، فيكون على هذا المعنى، لا يحتالون منزلاً غيرها
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)
(وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).
ذهباً، أي مثله من الذهب.
وقد فسرنا نصب التمييز فيما سلف من الكتاب.
وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ).
فيها قولان: قال بعضهم معناه فمن كان يخاف لقاء رَبِّه.
ومثله: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣).
قالوا: معناه مَا لكم لا تخافون للَّهِ عظمةً.
وقد قيل أيضاً فمن كان يرجو صلاح المنقلب عند ربِّه، فإذَا رَجَاهُ خَافَ أيضاً عذاب رَبِّه.
(فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا).
وتجوز " فَلِيَعْمَلْ " بكسر اللام، وهو الأصل، ولكنه يَثْقلُ في اللفظ، ولا
يكاد يقرأ به، ولو ابتُدِئ بغير الفاء لكانت اللام مكسورة.
تقول: لِيَعْمَلْ زيد بخيرٍ، فلما خالطتها الفاء، وكان بعد اللام الياء ثقلت الكسرة مع الياء.
وهي وحدها ثقيلة، ألا تراهم يقولون في فَخِذٍ فَخْذٍ.