تفسير سورة يس

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة يس من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَة يس
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

جاء في التفسير (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)
معناه يا إنسانُ، وجاء يا رجل وجاء يا محمدُ
والذي عند أهل العربية أنه بمنزلة " الم " افتتاح السُّورَةِ، وجاء
أن معناه القسم، وبعضهم أعنى بعضَ العَرَب تقول: يَاسِنَ وَالقُرْآنَ
بفتح النون، وهذا جائز في العربية، والتسكين أجودُ لأنها حروف
هجاء.
وقد شرحنا أشباه ذلك.
فأمَّا من فتح فعلى ضربين:
على أن (يس) اسم للسورة حكاية كأنَّه قال: اتْلُ يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف، ويجوز أن يكون فتحَ لالتقاء السَّاكنين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)
معناه أن آياتِه أحكمتْ وَبُيِّنَ فِيهَا الأمْرُ والنهيُ والأمثال وأقاصيص
الأمم السالفة.
* * *
(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)
هذا خطاب لمحمد - ﷺ - وهو جَوابُ القَسَمِ جواب (والقُرْآن إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم).
أي: على طريق الأنبياء الذين تقدموك. وأحسن ما في العربية
أن يكون (لَمِنَ المرسلين) خَبرُ " إنَّ " ويكون (على صراط مستقيم)
خبراً ثانياً، فالمعنى إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة
مستقيمة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)
تقرأ (تَنْزِيلُ) - بالرفع والنصب - فمن نصب فعلى المصدر على
معنى نَزَّلَ اللَّه ذلك تنزيلا.
ومن رفع فعلى معنى الذي أنزل إليك تنزيلُ العزيز الرحيم.
* * *
(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦)
جاء في التفسير لتنذر قوماً مِثْلَ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ.
وجاء لتنذر قوماً لم يُنْذرْ آبَاؤُهم، فيكونُ (مَا) جُحْداً - وهذا - واللَّه أعلم - الاختيار؛ لأن قوله " فَهُمْ غَافِلُونَ " دليل على معنى لم ينذر آباؤهم وإذا كان قد أنذر آباؤهم فهم غافلون ففيه بُعْدٌ، ولكنه قد جاء في التفسير. ودليل النفي قوله: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤).
ولوكان آباؤهم منذرين لكانوا مُنْذَرِينَ دَارِسِين لكتب - والله
أعلم.
* * *
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)
القول ههنا - واللَّه أعلم - مثل قوله: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
المعنى لقد حق القول على أكثرهم بكفرهم وعِنَادِهم.
أَضَلَّهم اللَّه وَمَنَعَهُمْ مِنَ الهُدَى.
وقوله جلَّ وعزَّ (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
وقرأ ابن عباس وابن مسعود رحمهما اللَّه: إنا جعلنا (فِي أيْمَانِهِمْ).
وقرأ بعضهم (في أَيْدِيهم أَغلَالًا)، وهاتان القراءتان لا يجب أن يقرأ
بواحدة منهما؛ لأنهما بخلاف المصحف.
فالمعنى في قوله في أعناقهم
ومن قرأ (في أيمانهم) ومن قرأ (في أيديهم) فمعنى واحد.
وذلك أنه لا يكونُ الغُل في العنقُ دُونَ اليَدِ ولا في اليد دون العُنُق، فالمعنى إنا جعلنا في أعْنَاقِهِمْ وفي أيمانهم أَغْلَالًا.
(فَهِيَ إلَى الأذْقَانِ).
كناية عن الأيدي لَا عن الأعناق، لأن الغُل يجعل اليد تلي
الذقْنَ، والعُنُق هو مُقَارِبٌ للذقَن، لَا يجعَلُ الغُلُّ العُنَقَ إلى الذقَنِ.
وقوله: (فَهُمْ مُقْمَحُونَ).
المُقْمَحُ " الرافع رأسِه الغَاضُّ بَصرِه، وقيل للكانونين شَهْرَا قِمَاح
لأن الِإبل إذَا وَرَدَتْ الماءَ ترفع رُءوسَها لِشدةِ بَرْدِه، ولذا قيل شهرا
قِمَاح، وإنما ذكرت الأعناق ولم تذكر الأيدي إيجازاً واختصاراً لأن
الغل يتضمَّنُ العُنُقَ واليَدَ.
ومن قرأ (في أيمانهم) فهو أيضاً يدل على العُنُق.
ومثل هذا قول المُثَقَّب:
فما أَدْرِي إذا يَمَّمْتُ أَرْضاً... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلِيني؟
أَأَلخَيْر الذي أنا أَبْتَغيهِ... أمِ الشَّر الذي هو يَبْتَغِيني
وإنما ذكر الخير وحده، ثم قال أَيُّهما يليني، لأن قد علم أَنً
الإنسان الخيرُ والشر مُعرَّضَانِ له، لا يدري إذا أَمَّ أَرْضاً أَيَلْقاه هذا أم
هذا، ومثله من كتاب اللَّه: (سَرَابِيل تَقِيكمُ الْحَرَّ)، ولم يذكر البرد.
لأن ما وَقَى هذا وَقَى هذا.
* * *
(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
(٩)
(سَدًّا) و (سُدًّا) - بالفتح والضمِ - ومعناهما واحدٌ.
وقد قيل: السد فعل الإنْسَانِ والسُّد خلقة المسدود.
وفيه وجهان: أحدهما قد جاء في التفسير، وهو أَن قوماً أرادوا بالنبي - ﷺ - سوءاً فحال اللَّه بينهم وبين ذلك فجعلوا بمنزلة من هذه حاله، فجعلوا بمنزلة من غُلَّتْ يمينه وسُدَّ
طريقه من بين يديه ومن خَلْفِهِ وَجُعِلَ على بَصَرِهِ غِشَاوة، وهو معنى
(فَأغْشَيْنَاهُمْ).
. ويقرأ فَأعْشَيْنَاهُمْ بالعَيْن غير معجمة، فحال اللَّه بينهم وبين
رسوله وكان في هؤلاء أبو جهل فيما يُرْوَى، ويجوز أن يكون وصَفَ
إضْلاَلَهُم فقال: (إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إلَى الأذْقَانِ)، أي
أضللناهم فأمسكنا أيديهم عن النفقة في سبيل اللَّه والسعيِ فيما
يقرب إلى اللَّهِ (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا)، كما
قال: (خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوِبهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) الآية.
والدليل على هذا قوله: (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤمِنُونَ)، لأن من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الِإنذار.
* * *
(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
أي من استمع القران واتبعه.
(وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ).
أي خاف الله من حيث لا يراه أحد.
(فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).
المعنى من اتبع الذكر وخشي الرحمن فبشره بمغفرةٍ وَأَجْرٍ
كريم.
المغفرة هى العفو عن ذنوبه، وأجر كريم بالجنة.
* * *
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢)
ما أسلفوا من أعْمَالِهم، ونكتب آثارهم أي من سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً
كتِبَ له ثوابها، ومن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كتبَ عَليه عقابها.
وقد قيل: (وتُكتَبُ آثارُهم) أي خطَاهمْ، والأول أكثر وأبْيَن.
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
(مَثَلًا) مفعول منصوب به، معنى قول الناس: اضرب له مثلًا أي
اذكر له مثلاً، ويقال: عندي من هذا الضرب شيء كثير، أي مِنْ هذَا
المِثَال وتقول: هذه الأشياء على ضرب واحد أي عَلَى مِثال واحدٍ.
فيعني اضرب لهم مَثَلًا: مثل لهم مَثَلًا.
وقوله: (أصْحَابَ القَرْيَةِ).
أي خبر أصحاب القرية.
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
(إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ).
جاء في التفسير أنهم أهل إنطاكية، وجه إليهم عيسى اثنين
فَكَذبُوهُمَا قال: (فَعَزَزْنَا بِثَالِث).
ويقرأ فَعَزَزْنا - بالتشديد والتخفيف - ومعنى فعززنا فقويْنَا
وشدَّدْنَا الرسالة بثالث أي برسول ثالث:
(فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) إلى - قوله (الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
فأعلمهم الرسُلُ إنما عليهم البلاغُ.
* * *
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨)
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ)
أي نَشَاءَمْنَا.
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ).
أي لنقتلنكم رَجْماً.
* * *
(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ)
ويجوز طَيْرُكُم معكم.
لأنه يقال طَائر وَطَير في معنى واحد، ولا أعلم أحَداً قرأ ههنا
طيركم بغير ألف، والمعنى قالوا شُؤْمُكُم مَعَكُمْ.
(أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ).
أي أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرتم، ويقرأ أَأَنْ ذُكِرتُم، أي لأن ذكِرْتُمْ (١).
* * *
وقوله: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠)
هذا رجل كان يعبد اللَّه في غارٍ في جَبَل، فلما سمع بالمرسلين
جاء يسعى، أي يَعْدُو إليهم، فقال: أتريدون أَجْراً على ما جئتم به
فقال المرسلون: لا، وكان يقال لهذا الرجل فيما رُوي حبيبُ النجار
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿طَائِرُكُم﴾: العامَّةُ على «طائر» اسمَ فاعل أي: ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب. وقرأ الحسن - فيما رَوَى عنه الزمخشري - «اطَّيُّرُكم» مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرَاً. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في «شرح التسهيل» في باب المصادر قال: «إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال: اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأ تدارُؤاً، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ. وقد رَوَى غيرُه عنه» طَيْرُكم «بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدراً، وظنَّ أنَّ ألف» قالوا «همزةُ وَصْلٍ.
قوله:»
أإنْ ذُكِّرْتُمْ «قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها» إنْ «الشرطيةُ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم: من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة. واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ، فالتقديرُ عند سيبويهِ:» أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون «وعند يونسَ» تطيَّرُوا «مجزوماً، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ. وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء.
وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرَّاً لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله:
٣٧٧٧ أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلاً... فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما
ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضاً كذلك، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين. وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة. وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي: ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخباراً بذلك.
وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ، وجوابُه محذوفٌ أيضاً.
وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ»
أَيْنَ «بصيغةِ الظرفِ. وهي» أين «/ الشرطيةُ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي: أين ذُكرتم فطائرُكم معكم، أو صَحِبَكم طائرُكم، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه» طائرُكُمْ معكم «ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع»
ذُكِرْتُمْ «بتخفيفِ الكاف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فأقبل على قومه فقال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) - إلى قوله - (فَاسْمَعُونِ).
فأشهد الرسلَ على إيمانِه - قال قتادة: هذا رجل دَعَا قومه إلى
الله ومخضَهُمُ النَصِيحَةَ فقتلوه على ذلك وأقبلوا يرجمونه وهو يقول:
اللهم اهد قومي اللهم اهد قومي، فأدخله الله الجنَّةَ فهو حيٌّ فيها
يرزق، والمعنى فلما عَذبَهُ قومه، قِيلَ ادْخُلِ الجنَّةَ.
فلما شاهدها قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧).
أي بمغفرة ربي لي، (من المكرمين) أي من المُدْخَلِينَ الجنةَ.
وقيل أيْضاً بما غفر لي* ربي أي ليتهم يعلمون بالعمل والإيمان الذي
غفر لي به رَبِّي، ويجوز " بِمَ غَفَرَ لِي رَبِّي "، على معني بأي شيء غفر
لي ربي، ويجوز ِ أن يكون " بما " في هذا المعنى بإثبات الألف، تقُول:
قد علمت بما صَنَعْتَ هذا، وقد علمت بم صنعت هذا، أي قد علمت
بأي شيء صنعت هذا، وحذف الألف في هذا المعنى أجود.
* * *
(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
المعنى لم نُنْزِلْ عَلَيهِمْ جُنْداً، لم نَنْتَصِرْ للرسول الذي كَذَبُوهُ
بِجُنْدٍ.
* * *
ومعنىْ (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (٢٩)
ما كانت إلا صيحة واحدةً، إلا أَنْ صِيحَ بهم صيحة واحدة فماتوا
معذبين بها، ويقرأ (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةٌ) - قَرَأ بها أَبُو جَعْفَرٍ المدني وحدَهُ.
وهي جيدة في العربية، فمن نصب فالمعنى ما وقعت عليهم عقوبة الأ
صيحةً واحدةً.
(فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
أي ساكنون قَدْ ماتُوا وصاروا بمنزلة الرماد الخَامِدِ الهَامِدِ.
* * *
(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٣٠)
وقرئت يا حسرةَ الْعِبادِ بغير على، ولكني لا أحب القراءة بشيء
خالف المصحف ألبتةَ.
وهذه من أصعب مسألة في القرآن.
إذا قالَ القَائِلُ: ما الفائدة في مناداة الحسرة، والحسرة مما لا يجيب؟
فالفائدة في مناداتها كالفائدة في مناداة ما لا يعقل، لأن النداء باب تنبيه.
إذَا قلت يا زيدُ فإن لم تكن دعوته لتخاطبه لِغير النداء فلا معنى للكلام، إنما
تقول يا زيد فتنبهه بالنداء ثم تقول له: فعلت كذا وافعل كذا، وما
أحببت مما له فيه فائدة، ألا ترى أنك تقولُ لَمِنْ هُوَ مُقْبِل عَلَيْكَ: يا
زيد ما أَحْسَنَ مَا صَنَعْتَ، ولو قلت له: ما أَحْسَن مَا صَنَعْتَ كنت قد
بلغت في الفائدة ما أفهمت به، غير أن قولك يا زيد أوكد في الكلام.
وأبلغ في الإفهام.
وكذا إذا قلت للمخاطب أنا أعجب مما فعلتَ، فقد -
أَفدْتَه أنك متعجب، ولو قلت: واعجباه مما فعلت، ويا عجباه أتفعل
كذا وكذا، كان دعاؤك العجب أبلغَ في الفائدة.
والمعنى يَا عَجبُ أقبل، فإنه من أوقاتك، وإنما نَداءُ العَجَبِ تنبيه لتمكن علم المخاطب بالتعجب من فعله.
وكذلك إذَا قُلتَ: - ويلْ لزيدٍ أَوْ وَيلَ زَيْدٍ: لم فعل
كذا وكذا كان أبلغ. وكذلك في كتاب اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وكذلك (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
وكذلك (يا حَسْرةً على العِبَادِ).
والمعنى في التفسير أن استهزاءهم بالرسُل حَسْرة عليهم.
والحَسْرَةُ أَن يَرْكَبَ الإنسانَ مِنْ شِدة الندَمِ ما لا نهاية له بعده حتى
يبقى قلبُه حَسِيراً (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)
أي: فيخافون أن يعجَّل لَهُم في الدنيا مثلُ الذي عُجِّل لغيرهم
مِمن أُهْلِكَ، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبداً.
وموضع " كَمْ "
نصبُ بـ (أَهْلَكْنَا) لأن " كَمْ " لا يعمل فيها ما قبلها، خبراً كانت أو
استفهاماً. تقول في الخبر: كم سِرْتُ، تريد سرت فراسخ كثيرةً، ولا
يجوز سرت كم فرسخاً، وذلك أن كم في بابها بمنزلة رُبَّ، وأن أصلها
الاستفهام والإبهام، فكما أنك إذا استفهمت فقلت للمخاطب: كم
فرسخاً سرت لم يجز سرتَ كم فرسخاً، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما
قبله، فكذلك إذا جُعِلَتْ كم خَبَراً فالإبهامُ قائم فيها.
و (أَنَّهُمْ) بدل من معنى (ألم يروا كم أهلكنا).
والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكنا أنهم لا يرجعون.
ويجوز (إِنهم لا يَرْجِعُونَ) بكسر " إنَّ " ومعنى ذلك الاستئناف.
المعنى هم إليهم لا يَرْجِعُون (٢).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿ياحسرة﴾: العامَّةُ على نصبِها. وفيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والمنادى محذوفٌ تقديره: يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً. والثاني: أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله:
٣٧٨٢ أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ... نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا
ومعنى النداءِ هنا على المجازِ، كأنه قيل: هذا أوانُكِ فاحْضُرِي. وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه «يا حَسْرَةٌ» بالضم، جعلها مُقْبِلاً عليها، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين ﴿ياحسرة العباد﴾ بالإِضافة. فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي: يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي: يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم. وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز. وابن جندب «يا حَسْرَهْ» بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ. وقال صاحب «اللوامح»: «وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه، ثم وصلوا على تلك الحال». وقرأ ابن عباس أيضاً «يا حَسْرَةَ» بفتح التاء من غير تنوين. ووجْهُها أنَّ الأصل: يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء. ومنه:
٣٧٨٣ ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي... بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني
أي: بلهفا بمعنى لَهْفي.
وقُرئ «يا حَسْرتا» بالألف كالتي في الزمر، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس، وتكون التاءُ لله تعالى، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ. وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك.
قوله: «ما يَأْتِيْهم» هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم.
قوله: «إلاَّ كانوا» جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ «يَأْتيهم». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
و ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «كم» قال ابن عطية: «وكم هنا خبريةٌ، و» أنهم «بدلٌ منها، والرؤيةُ بَصَرية». قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب» أهلَكْنا «. ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك. وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون» أنَّهم «بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ. ولو سُلِّطت أَهْلكنا على» أنهم «لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ: أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون، لم يكن كلاماً. لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ» يَرَوْا «مفعولُه» كم «فتوَهَّم أنَّ قوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول: ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون. وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية». قلت: وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول: «كم» قد جعلها خبريةً، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ، فيقولون: «ملكتُ كم عبدٍ» فلم يَلْزَمْ الصدرَ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل «كم» منصوبةً ب «يَرَوْا» و «أنهم» بدلٌ منها، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ.
الثاني: أنَّ «أنَّهم» بدلٌ من الجملةِ قبلَه. قال الزجاج: «هو بدلٌ من الجملة، والمعنى: ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى». قال الشيخ: «وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو». قلت: بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ «يَرَوْا» فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم.
الثالث: قال الزمخشري: «ألم يَرَوْا» ألم يعلموا، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في «كم» لأنَّ «كم» لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك: «ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» وإنْ لم يعملْ في لفظِه، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون: بدلٌ مِنْ «كم أهلَكْنا» على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه: ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم «.
قال الشيخ: «قولُه لأنَّ»
كم «لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ» ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو: «على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟». وقوله: «أو للخبر» والخبرية فيها لغتان: الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون: «ملكتُ كم غلامٍ» أي: ملكتُ كثيراً من الغِلْمان. فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على «كم» لأنها بمعناها. وقوله: «لأنها أصلها الاستفهامُ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ» بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر. وقوله: «لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة» يعني معنى «يَرَوا» نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ «يَرَوْا» ب يعلموا.
وقوله: «كما نفذ في قولك: ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ «إنَّ» فإنَّ «إنَّ» التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ. وقوله: «إنهم إليهم» إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى. أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ «يَرَوْا» معلَّقَةٌ فتكون «كم» استفهاميةً فهي معمولةٌ ل «أهلكنا»، و «أهلكنا» لا يَتَسَلَّط على ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾. وقد تقدَّم لنا ذلك. وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال: تقديره: أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل. وهذا لا يَصِحُّ هنا. لا تقول: ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم، وفي بدلِ الاشتمال نحو: «أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه» يصحُّ: «أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ، وسُرِق ثوبُ زيد».
الرابع: أَنْ يكونَ «أنهم» بدلاً مِنْ موضع «كم أهلَكْنا»، والتقدير: ألم يَرَوْا أنهم إليهم. قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ «كم أهلَكْنا»، ليس بمعمولٍ ل «يَرَوْا».
قلت: قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها.
الخامس: - وهو قولُ الفراء - أن يكون «يَرَوْا» عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ. وقوله «الجملتين» تجوُّزٌ؛ لأنَّ «أنهم» ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه.
السادس: أنَّ «أنهم» معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى، تقديره: قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون. ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن «إنهم» بكسر الهمزةِ على الاستئناف، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها. والضميرُ في «أنهم» عائدٌ على معنى «كم» وفي «إليهم» عائدٌ على ما عاد عليه واو «يَرَوْا». وقيل: بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو «يَرَوْا». والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٣٢)
من قرأ بالتخفيف (لَمَا) فما زائدة مؤكدة، والمعنى إنْ كل
لجميع لدينا مُحْضَرُونَ، ومعناه وَمَا كُلٌّ إلا جميع لدينا مُحْضَرونَ،.
ويقرأ (لَمَّا) بالتًشْدِيد ومعنى (لَمَّا) ههنا (ألَّا)، تقول سألتك لَمَّا فعلت.
وتفسير الآية أنَّهم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا.
* * *
وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣)
(الْمَيْتَةُ)
ويقرأ بالتشديد
وأصل الميْتة الميِّتَة، والأصل التشديد، والتخفيف أكثر، وكلاهما
جائز.
(وَآيَةٌ) مرفوعة بالابتداء، وخبرها (لَهُمْ) أي وعلامة تدلهم على
التوحيد وأَن اللَّه يبعث الموتى إحياءَ الأرض الميتَةِ.
ويجوز أن يكون آية مرفوعة بالابتداء، وخبرها الأرض الميتة.
* * *
وقوّله: (وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥)
ويجوز ثُمْره - بإسكان الميم وضَم الثاء.
(وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ).
ويقرأ (وَمَا عَمِلَتْ) بغير هاء (١)، وموضع " ما " خفض.
المعنى ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم.
ويجوز أن تكون (ما) نفياً، على معنى ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيْدِيهِمْ.
هذا على إثبات الهاء، وإذا حذفت الهاء فالاختيار أن يكون " ما " في موضع خفض، ويكون (ما) في معنى الذي، فيحسن حذف الهاء، ويكون هذا على قوله:
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ في «ما» هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ أي: ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة. وفيه تَجَوُّزٌ على هذا. والثاني: أنها نافيةٌ أي: لم يعملوه هم، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى.
وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون «وما عَمِلَتْه» بإثباتِها. فإنْ كانَتْ «ما» موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١] بالإِجماع. وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل. وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي: ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على «ثَمَرِه» وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ، وبحذفِها فيما عداها. / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً، وجعفر خالَفَ مصحفَه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها.
الثالث: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة. والرابع: أنها مصدريةٌ أي: ومِنْ عَمَلِ أيديهم. والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤).
* * *
وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
(سُبْحَانَ) تَبْرئَةُ اللَّه من السوءِ وتنزيهه.
ومعنى الأزواج، الأجناس كلها من النبات والحيوان وغيرها.
(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ).
مما خلق اللَّه من جميع الأنواع والأشباه.
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
ومعنى نسلخ نُخْرِجُ منه النهار إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء
النهار، وذلك من العلامات الدالة على توحيد اللَّه - وقدرته.
* * *
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)
المعنى وَآيَةٌ لَهُمُ الشَمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرَ لَهَا.
أي لأجَل قَدْ أُجِّلَ لَهَا وقدِّرَ لها.
ومن قرأ " لا مُسْتَقَر لها " فمعناه أنها جارية أبداً لا تثبت في مكانٍ.
* * *
(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
يقرأ بالرفْع والنصب، فمن نصب فعلى " وَقَدَّرْنَا القَمَرَ مَنَازِلَ
قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ " والرفع على معنى وآية لهم القَمَرُ قَدَّرْنَاهُ.
ويجوز أن يكون على الابتداء و (قَدَّرْنَاهُ) الخبر.
(حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).
العُرجونُ عودُ العِذقِ الذي يسمى الكباسة.
وحقيقة العرجون
أنه العود الذي عليه العذق، والعرجون عود العذق
الذي تركبه الشماريخ من العذق، فإذَا جَفَّ وَقدُمَ دَق وَصَغُرَ
فحينئذ يشبه الهِلَالَ في آخر الشهر، وفي أول مطلعه.
وتقدير (عُرْجُون) فُعْلُول. منَ الانعراج (١).
* * *
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
المعنى لا يذهب أحدهما بمعنى الآخر.
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
لكل وَاحِدٍ منهما فَلَك، ومعنى يسبحون يَسيرُونَ فيه بانبساط.
وكل من انبسط في شيء فَقَدْ سَبحَ فيه، ومن ذلك السباحة في الماء.
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)
خوطب بهذا أَهْلُ مَكَةَ، وقيل حَمَلْنَا ذُريتَهُمْ لأن من حمل مع
نوح عليه السلام في الفلك فهم آباؤهم، وذُرياتُهُم.
والمشحون في اللغة المملوء، شحنت السفينة إذا ملأتها.
وشحنت المدينة وأشحنتها إذا مَلأتها.
* * *
وقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢)
الأكثر في التفسير أن مِنْ مِثْلِه من مثل سفينة نوح، وقيل من مثله
يغنَى به الإبل، وأن الإبل في البريَّةِ بمنزلة السُّفُنِ في البحر.
* * *
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣)
أي فلا مُغِيثَ لهم.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ﴾: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه، والباقون بنصبِه. فالرفعُ على الابتداء، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين، وهي قوله: «والشمسُ تجري» فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها. وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ: إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين. قال: لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ: «زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره»، ولو لم يَقُلْ «في داره» لم يَجُز. ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس. وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى: ﴿والسمآء رَفَعَهَا﴾ [الرحمن: ٧] بعد قوله: ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٥].
قوله: «منازلَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ «قَدَّرنا» بمعنى صَيَّرْنا. الثاني: أنه حالٌ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل «منازل» تقديرُه: ذا منازلَ. الثالث: أنه ظرفٌ أي: قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس.
قوله: «كالعُرْجُون» العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم. وفي وزنِه وجهان، أحدهما: أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ، وهذا هو المرجَّحُ. والثاني: وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ، ووزنُه فُعْلُوْن، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون. والعُرْجُوْن: عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ. وهو تشبيهٌ بديعٌ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء: دقتِه واستقواسِه واصفرارِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤)
منصوبة مفعول لها، المعنى: ولا يُنْقَذُونَ إِلَّا لرَحْمَةٍ مِنَّا وَلمَتَاعٍ إِلَى حِينٍ.
إلى انقضاء الأجل.
* * *
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
ما أسلفتم من ذُنُوبكم، وما تعملونه فيما تستقبلون، وقيل ما بين
أيديكم وَمَا خلفكم، على معنى اتقُوا أن ينزل بكم من العذاب مثلُ
الذي نزلْ بالأمَمِ قَبْلَكُمْ، وَمَا خَلْفَكُمْ، أي اتقوا عذاب الآخرة.
وَمِثْلُه (فَإن أعرضوا فَقَدْ أنْذَرْتُكُم صَاعِقَةً مثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثمود).
* * *
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٧)
أي أطعموا وتصَدَّقُوا.
(قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَ).
كأنهم يقولون هذا على حد الاستهزاء.
وجاء في التفسير أنها نَزَلَتْ في الزنادقة، وقيل في قوم من اليهود.
* * *
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨)
متى إنجاز هذا الوعْد، أردنا ذلك.
* * *
(مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
في (يَخِصِّمُونَ) أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
سكونُ الخاء والصاد مع تشديد الصادِ على جمع بين ساكنين، وهو أشد الأربعة وَأَرْدَؤُهَا، وكان بعض من
يروي قراءة أهل المدينة يذهب إلى أن هذا لم يُضْبَطْ عن أهل المدينة
كما لم يضبط عن أبي عمْرٍو إلى بارِئكم.
وإنَّمَا زعم أن هذا تُخْتَلَسُ فيه الحركة اختلاساً وهي فتحة الخاء، والقول كما قال.
والقراءة الجيِّدَة (يَخَصِّمُونَ) بفتح الخاء، والأصل يَخْتَصِمُونَ.
فطرحت فتحة التاء على الخاء، وأدغمت في الصاد، وكسرُ الخاء جيِّدٌ أيضاً - تكسر الخاء لِسُكُونها وسُكُونِ - الصاد.
وَقُرِئَتْ يختصمون، وهي جيدة أيضاً ومعناها يأخذهم وبعضهم يَخْصِمُ بَعْضاً، ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عِنْدَ أنْفُسهم يخصمون
في الحجة في أنهم لا يبعثون، فتقوم الساعة وهم متشاغلون في متصرفاتهم (١).
* * *
(فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
لا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أَمْرِهِ.
(وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).
لا يلبث إلى أن يصير إلى أهله ومنزله. يموت في مكانه.
* * *
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
الصور كما جاء في التفسير القرن الذي ينفُخ فيه إسْرافيلُ.
وقد قال أَبُو عُبَيدة: إنَّ الصورَ جمع صُورَة، وصورة جمعها صور.
كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)
وما قرأ أحد أحْسنَ صُورَكُمْ وَلَا قرأ أحد: وَنُفِخَ في الصُّوَرِ من وجه يثبُتُ.
والأجداث القبور، واحدها جَدَثٌ، وَيَنْسِلُونَ: يخرجون بسرعة.
* * *
وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
هذا وقف التمام، وهذا قول المشركين (٢).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿يَخِصِّمُونَ﴾: قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ. والمعنى: يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً، فالمفعولُ محذوفٌ. وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها، فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور.
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ. والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما. وقرأ جماعةٌ «يِخِصِّمُون» بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا. وقرأ أُبَيٌّ «يَخْتَصِمُون» على الأصل. قال الشيخُ: «ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم».
قلت: هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ في البقرةِ [الآية: ٢٠]، و ﴿لاَّ يهدي﴾ في يونس [الآية: ٣٥].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿ياويلنا﴾: العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ. وهو «وَيْل» مضافٌ لِما بعده. ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها. و «لنا» جارٌّ ومجرور «. انتهى. ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا. وابن أبي ليلى:» يا وَيْلتنا «بتاء التأنيث، وعنه أيضاً» يا ويْلتا «بإبدال الياءِ ألفاً. وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول: يا ويلتي.
والعامَّةُ على فتح ميم»
مَنْ و «بَعَثَنا» فعلاً ماضياً خبراً ل «مَنْ» الاستفهامية قبلَه. وابن عباس والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر. و «بَعْثِنا» مصدرٌ مجرور ب مِنْ. ف «مِنْ» الأولى تتعلَّق بالوَيْل، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث.
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي: مِنْ رُقادِنا، وأن يكونَ مكاناً، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ. والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً.
قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ﴾ في «هذا» وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه. ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله «مِنْ مَرْقَدِنا». وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة: إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى، أو مِنْ قولِ الملائكةِ. والثاني: أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول. والثاني من الوجهين الأولين: «هذا» صفةٌ ل «مَرْقَدِنا» و «ما وَعَد» منقطعٌ عَمَّا قبله.
ثم في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم. وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا وَعْدُ الرحمن. وقد تقدَّم لك أولَ الكهف: أنَّ حَفْصاً يقف على «مَرْقَدنا» وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل «مَرْقَدِنا». وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه. و «ما» يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه. ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي: وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون. والأصل: صَدَقَنا فيه. ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّه. وتقدَّم قراءتا «صيحة واحدة» نصباً ورفعاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
(هذا) رفع بالابتداء، والخبر (مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ)، وهذا قول
المشركين، أعني هذا ما وعد الرحمن، ويجوز أن يكون " هذا " من
نعت مرقدنا على معنى من بَعَثَنا من مَرْقَدِنَا هَذَا الذي كنا راقدين فيه.
ويكون ما وعد الرحمن وصدق المرسلون على ضربين:
أحدهما على إضمار هذا.
والثاني على إضمار حق، فيكون المعنى حق ما وعد الرحمن.
والقول الأول أعني ابتداء هذا عليه التفسير، وهو قول أهل
اللغة.
* * *
(إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (٥٣)
و (إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) وقد مضى إعْرَابُهما.
(فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ).
فالمعنى إن إهلاكَهُمْ كان بصيحة وبعثهم وَإحْيَاءَهم بصيحة.
* * *
(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
المعنى من جوزي فإنما يجازى بعمله.
* * *
(إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥)
و (فَاكِهُونَ) تفسيره فرحون.
وجاء في التفسير أَنَّ شُغْلَهُمْ افتضاض الأبكار، وقيل في شغل عما فيه أهل النار، ويقرأ في شُغُل وَشُغْل وَشُغْل وشُغُل. يجوز في العربية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦)
وظُلَلٍ، ويجوز ظُلُلٍ.
(عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).
وهي الفرش في الحجال، وَقِيلَ انهَا الفرش، وقيلَ الأسِزةُ.
وهي على الحقيقة الفرش كانت في حجال أو غير حجال.
* * *
(لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧)
أي ما يَتمَنوْنَ، يقال: فلان في خَيْرِ مَا ادَّعَى، أي ما تمنى، وهو
مأخوذ من الدعاء.
المعنى كل مما يدعو أهلُ الجنةِ يَأتِيهِمْ.
* * *
(سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
(سَلَامٌ) بدل من (ما) المعنى لهم ما يتمنون به سلام، أي وهذا
مُنَى أهل الجنة أن يسلِّمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عَلَيْهم.
و (قَوْلًا) منصوب على معنى لهم سلام يقوله اللَّه - عزَّ وجلَّ - قَوْلاً.
* * *
(وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أي انفردوا عن المؤمنين.
* * *
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠)
وتقرأ أعْهِدْ - بالكسر، والفتحُ أكثر، على قولك عَهِدَ يَعْهَدُ.
والكسر يجوز على ضربين:
على عَهدَ يَعْهِدُ، وعلى عهِدَ يَعْهِد مثل حَسِبَ يَحْسِبُ، ومعناه ألم أتقدم إليكم بِعَهْدِ الِإيمان وترك عبادة الشيطان (١).
* * *
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)
(جُبْلًّا)
ويقرأ (جِبِلًّا) - بكسر الجيم والباء، ويُقْرأ جُبُلًا - بضم الجيم والباء
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَعْهَدْ﴾: العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة. وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها. وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ. وقرأ ابنُ وثَّاب «أَحَّدْ» بحاءٍ مشددةَ. قال الزمخشري: «وهي لغةُ تميمٍ، ومنه» دَحَّا مَحَّا «أي: دَعْها معها، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً، حين أُريد الإِدغامُ. والأحسنُ أَنْ يُقال: إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً. وهي لغةُ هُذَيلٍ. فلمَّا أُدْغِم قُلب الثاني للأول، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ. وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران. وقال ابن خالويه:» وابن وثاب والهذيل «أَلَمْ إعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ. ورُوي عن ابنِ وثَّاب «اعْهِد» بكسرِ الهاءِ. يُقال: عَهِد وعَهَد «انتهى. يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب. وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي» عَهَدَ «بفتحها. وقولُه:» سوى الياء «وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ. وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون: يِعْلَمُ.
وقال الزمخشري فيه:»
وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعِمُ، وضَرَب يَضْرِب «يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين: إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه. وحكى الزمخشري أنه قُرِئ» أَحْهَدْ «بإبدالِ العينِ حاءً، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ» أَحَّد «: أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
- وتُقْرَأُ جُبْلاً على إسكان الباء وضم الجيم، ويجوز جَبْلًا بفتح الجيم
وَجِبْلًا بكسر الجيم، ويجوز أيْضاً جِبَلاً - بكسر الجيم وفتح الباء بغير
تشديد اللام، على جمع جِبْلَةٍ. وجِبَل، والجِبْلَةُ في جميع ذلك معناه
خليقة كثيرة وخلق كثير (١).
* * *
وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦)
المطموس الأعمى الذي لا يُتَبَين له جَفْن. لَا يُرَى شَفْرُ عينه، أي
لو نشاء لأعْميْنَاهُمْ فعدلوا عن الطريق فمن أَيْنَ يُبْصرونَ لو فعَلْنا ذلك
بهم.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ
(٦٧)
(مَكَانَتِهِمْ)
ومكاناتهم، والمكانة والمكانُ في معنىً وَاحدٍ.
(فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ).
أي لم يقدروا على ذَهاب وَلَا مَجِيءٍ.
* * *
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (٦٨)
(نَنْكُسْهُ)
وَ (نُنَكِّسْهُ) وَ (نَنْكِسْهُ)، يقال نكسْتُه أَنْكُسُه وأَنْكِسُهُ جميعاً، ومعناه من
أطَلْنا عُمْرَهُ نَكَّسْنَا خلقَه، فَصَارَ بدلُ القوة ضَعْفَاً وَبَدَلُ الشبَابِ هَرَماً (٢).
* * *
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
أي ما علمنا محمداً - ﷺ - قولَ الشِعْرِ.
(وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أي ما يتسهل له ذلك.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
أي الذي أتى به النبي - ﷺ -
وزعم الكفار أنه شعر ما هو بشعر.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿جِبِلاًّ﴾: قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ. والباقون بضمتين، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما. وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام. والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام. والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون. وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء. وقُرِئ «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة. وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ «جِيْلاً» بالياء، مِنْ أسفلَ ثنتان، وهي واضحةٌ.
وقرأ العامة: «أفلَمْ تكونوا» خطاباً لبني آدم. وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة. والضمير للجِبِلِّ. ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ ﴿التي كانوا يُوعَدُونَ﴾ لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿نُنَكِّسْهُ﴾: قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً. والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً، مِنْ نَكَسَه، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وَلَيسَ يوجب هذا أن يكون النبي - ﷺ - لم يتمثل ببيت شعر قط.
إنما يوجب هذا أن يكون النبي عليه السلام ليس بشاعر، وأن يكون القرآن الذي أتى به من عند اللَّه، لإنه مُبَاين لكلام المخلوقين وأوزان أشعار
العرب، والقرآن آية مُعجزة تدل على أن نبوة النبي - ﷺ - وآياته ثابتة أبداً.
* * *
وقوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠)
يجوز - أن يكون المضمر في قوله (لِيُنْذِرَ) النبي عليه السلام.
وجائز أن يكون القرآن
ومعنى: (مَنْ كَانَ حَيًّا).
أي من كان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافِرَ كالميِّت في أنه لم
يتدبَّرْ فَيَعْلَمَ أن النبي - ﷺ - وما جاء به حق.
(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ).
ويجوزُ (وَيَحُقَّ القَوْلَ)، أي يوجب الحجة عليهم.
ويجوز ُ لِتُنْذِر من كان حيًّا - بالتاء - خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم.
ويجوز لِينْذَرَ أَيْ لِيَعْلَمَ، يقال نَذِرْتُ بكذا وكذا، أَنْذَرُ مثل عَلِمْتُ أَعْلَمُ.
* * *
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١)
معنى (مَالِكُونَ)، ضابطون، لأن القَصْدَ ههنا إلى أنها ذليلة لَهُمْ
ألا ترى إلى قوله (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ)
ومثله مِنَ الشعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا... أملِكُ رأسَ البعير إن نفرا
أي لا أضبط رأس البعير.
* * *
وقوله: (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢)
معناه مَا يَرْكبُون، والدليل قراءة من قرأ (فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ)
ويجوز رُكُوبُهم - بضم الراء ولا أعلم أحداً قرأ بها، على معنى فمنها رُكُوبُهم وأكلُهُم وَشُرْبُهُمْ (١).
* * *
(لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
أي هم للأصنام ينتصرون، والأصنام لا تستطيع نصرهم.
* * *
وقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨)
جاء في التفسير أن أُبَيَّ بن خَلَفٍ جاء إلى النبي - ﷺ - بعظم بَالٍ " ففركه ثم ذَرَّاهُ، وقال مَنْ يحيي هذا؟
فكان جوابه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
فابتداء القُدْرَةِ فيه أَبَينُ منها في الإعادة.
ويقال إن عبد اللَّه بن أْبي كان صاحب القصةِ؛ ويقال العاص بن وائل. وأعْلَمهم أن خلق السَّمَاوَات والأرض أبلغ في القدرة، وعلى إحياء الموتى فقال:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١)
وقال في موضع آخر: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿رَكُوبُهُمْ﴾: أي: مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ. وقرأ أُبيٌّ وعائشة «رَكوبَتُهم» بالتاء. وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا، وجعلهما الزمخشري: في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة. وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة. والحسن وأبو البرهسم والأعمش «رُكوبُهم» بضم الراء، ولا بدَّ من حذف مضاف: إمَّا من الأولِ، أي: فمِنْ منافعها رُكوبُهم، وإمَّا من الثاني، أي: ذو ركوبِهم. قال ابن خالويه: «العربُ تقول: ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ، وحَلُوب وحَلُوْبَة، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت، ورَكَبى حَلَبى، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة]» وأنشد:
٣٧٨٨ رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ... تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ
والمَشارِبُ: جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً. والضمير في «لا يَسْتَطيعون» إمَّا للآلهةِ، وإمَّا لعابديها. وكذلك الضمائرُ بعده.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقال: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
معناه تنزيه اللَّه من السوء ومن أن يوصف بغير القدرة، الذي
بيده ملكوت كل شىء أى القدرة على كل شيء.
(وإليه تُرْجَعُونَ).
وَتَرْجِعُونَ أي هوْ يبعثكم بعد موتكم.
Icon