تفسير سورة سورة يس من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة يس مكية
وهي ثلاث وثمانون آية وخمس ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يس ﴾ أي : يا إنسان أو هو من أسماء الله
﴿ والقرآن الحكيم ﴾ : ذي الحكمة، وهو قسم
﴿ إنك لمن المرسلين ﴾ إلى جميع الثقلين
﴿ على صراط مستقيم ﴾ : دين قويم وشرع لا عوج له خبر بعد خبر، أو حال
﴿ تنزيل العزيز الرحيم ﴾ أي : هو منزل، وقراءة النصب بتأويل نزل تنزيلا، أو أعني
﴿ لتنذر ﴾ متعلق بتنزيل ﴿ قوما ما أنذر آباؤهم ﴾ أي : قوما غير منذر آباؤهم الأولون، قيل : ما مصدرية، فيكون مفعولا مطلقا أو موصولة، فيكون مفعولا ثانيا أي : لتنذرهم الذي أنذر آباؤهم الأقدمون ﴿ فهم غافلون ﴾
﴿ لقد حق القول ﴾ : كلمة العذاب ﴿ على أكثرهم فهم لا يؤمنون ﴾
﴿ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ﴾ يعني : في أعناقهم لا أيديهم، فإن الغل لا يكون إلا في العنق دون الأيدي ﴿ فهي ﴾ أي : الأغلال ﴿ إلى الأذقان ﴾ أي : واصلة إليها ﴿ فهم مقمحون ﴾ المقمح : الذي يرفع رأسه ويغض بصره
﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم ﴾ : غطينا على أبصارهم غشاوة ﴿ فهم لا يبصرون ﴾ مثل تصميمهم على كفرهم، وأنه لا سبيل إلى تجاوزهم عنه ؛ بأم جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين السدين لا يبصرون قدامهم ولا خلفهم في أنهم متعامون عن النظر في آيات الله، متأملين في مبدئهم ومعادهم. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- إن الأول مثل بخلهم عن الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] وعن محيي السنة وغيره إنها في أبي جهل حين أخذ حجرا ؛ ليدمغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رفعه لصقت يده إلى عنقه، ولزق الحجر بيده حتى عاد إلى قومه فقام آخر بأني أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو عليه السلام يصلي، فأعمى الله بصر الكافر، يسمع صوته ولا يراه*
﴿ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ سبق في أول سورة البقرة
﴿ إنما تنذر ﴾ أي : إنذارا نافعا يترتب عليه البغية ﴿ من اتبع الذكر ﴾ : القرآن بالتأمل والعمل ﴿ وخشي الرحمن بالغيب ﴾ : غائبا عنه الرحمن فلا يراه، أو غائبا عن عذاب الرحمن ﴿ فيشره بمغفرة وأجر كريم ﴾ : حسن
﴿ إنا نحن نحيي الموتى ﴾ : عند البعث ﴿ ونكتب ما قدموا ﴾ : من أعمالهم الصالحة التي باشروها بأنفسهم ﴿ وآثارهم ﴾ : ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة، فعمل بها أحد اقتداء بهم، فيجزون عليها أيضا، وقريب منه ما قال بعض السلف المراد : ما أرثوا من الهدى والضلال، أو المراد آثار خطابهم إلى الطاعة والمعصية، وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرية فنزلت ﴿ سنكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ فثبتوا في منازلهم* وهذا المعنى رواه غير الطبراني**، وفيه إشكال لأنهم صرحوا بأن السورة بكمالها مكية ﴿ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾ : اللوح المحفوظ.
﴿ واضرب ﴾ : مثل ﴿ لهم مثلا أصحاب القرية ﴾ أي : مثلها بيان أو بدل من مثلا، أو هما مفعولا اضرب، لما فيه من معنى الجعل، وقدم المفعول الثاني، ﴿ إذ جاءها ﴾ بدل اشتمال من أصحاب ﴿ المرسلون ﴾ : رسل الله أو رسل عيسى بأمر الله
﴿ إذ أرسلنا إليهم اثنين ﴾ : وادعيا الرسالة ﴿ فكذبوهما فعززنا ﴾ : قويناهما ﴿ بثالث ﴾ برسول ثالث ﴿ فقالوا ﴾ أي : الرسل الثلاثة ﴿ إنا إليكم مرسلون ﴾ : من ربكم، أو من رسول ربكم،
﴿ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ﴾، وإنما الرسول ملك، وهذا شبهة أكثر الكفرة أن الرسول لا بد أن يكون ملكا﴿ وما أنزل الرحمن من شيء ﴾ أي : وحيا ورسالة ﴿ إن أنتم إلا تكذبون ﴾ : في ادعاء الرسالة
﴿ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ﴾ استشهدوا بما هو يجري مجرى القسم وهو علم الله
﴿ وما علينا إلا البلاغ المبين ﴾ : التبليغ الظاهر المبرهن بالمعجزات
﴿ قالوا إنا تطيرنا ﴾ : تشاءمنا ﴿ بكم ﴾ فإنه لم يدخل مثلكم على قرية إلا وعذب أهلها﴿ لئن لم تنتهوا ﴾ : عن مقالتكم ﴿ لنرجمنكم ﴾ : بالحجارة أو بالشتم ﴿ وليمسّنّكم منا عذاب أليم ﴾
﴿ قالوا طائركم ﴾ : شؤمكم ﴿ معكم ﴾ فإن قبائحكم التي لا تفارقكم سبب الشؤم ﴿ أئن ذُكّرتم ﴾ جوابه محذوف، أي : أئن وُعظمتم تطيرتم بالواعظ ووعدتموه بالتعذيب ؟ ! ﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ : قوم عادتكم الإسراف في الضلال، ولذلك تتطيرون بواعظ من الله
﴿ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ﴾ : يسرع شفقة على الرسل اسمه حبيب يعمل الحبال أو كان نجارا أو قصارا، ويتعبد في غار بقرب بلدهم، وكان كثير الصدقة سقيما، لما سمع همهم بقتل رسلهم جاء لنصح قومه ونصرة رسل الله ﴿ قال يا قوم اتبعوا المرسلين ﴾
﴿ اتبعوا من لا يسألكم أجرا ﴾ : من لا غرض له ﴿ وهم مهتدون ﴾ فقيل له : أنت تصدق هؤلاء وتذم ديننا فقال :﴿ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ﴾
﴿ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ﴾ : بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم، فاعبدوا أنتم أيضا إياه، ووحدوه وصدقوا رسله
﴿ أأتخذ من دونه ﴾ : من دون الله ﴿ آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ﴾ : لا تمنع شفاعتهم عني شيئا من العذاب ﴿ ولا ينقذون ﴾ : ولم يقدروا على إنقاذي
﴿ إني إذا لفي ضلال مبين ﴾ : إن أعدل عن عبادة قادر نافع ضار إلى عاجز
﴿ إني آمنت بربكم ﴾ الذي كفرتم به ﴿ فاسمعون ﴾ أي : قولي أو الخطاب للرسل، ومعناه : اشهدوا لي بذلك عند ربكم، فوطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، أو رجموه حتى قتلوه، فلما قتلوه
﴿ قيل ﴾ أي : قال الله له :﴿ ادخل الجنة ﴾ : بشره وأذن له في الدخول، فلما رأى عناية الله ﴿ قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي ﴾ ما مصدرية أو موصولة، والباء صلة يعلمون، وقيل الباء صلة غفر وما استفهامية أي : يعلمون أنه غفر لي بأي شيء أراد الإيمان بالله، والمصابرة بإعزاز دينه ﴿ وجعلني من المكرمين ﴾ : تمني علمهم بحاله ؛ ليعلموا أنه على الحق فيردعوا عن الكفر، أراد نصح قومه في حياته ومماته
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:﴿ قيل ﴾ أي : قال الله له :﴿ ادخل الجنة ﴾ : بشره وأذن له في الدخول، فلما رأى عناية الله ﴿ قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي ﴾ ما مصدرية أو موصولة، والباء صلة يعلمون، وقيل الباء صلة غفر وما استفهامية أي : يعلمون أنه غفر لي بأي شيء أراد الإيمان بالله، والمصابرة بإعزاز دينه ﴿ وجعلني من المكرمين ﴾ : تمني علمهم بحاله ؛ ليعلموا أنه على الحق فيردعوا عن الكفر، أراد نصح قومه في حياته ومماته
﴿ وما أنزلنا على قومه ﴾ : قوم الحبيب ﴿ من بعده من جند من السماء ﴾لإهلاكهم ونصرة رسلنا، ولم نحتج في إهلاكهم إلى جند، بل الأمر أيسر ﴿ وما كنا منزلين ﴾ الجند من السماء في إهلاك الأمم المكذبة، فإنزال الجند من السماء لنصرة نبيه المصطفى عليه أكمل الصلوات وأفضل التسليمات من خاصيته لشرفه، أو معناه : وما صح في حكمتنا إنزال جند عليهم ؛ لأنا قدرنا على إهلاكهم بأهون وجه، وعن بعض معناه : وما أنزلنا على قومه من بعده برسل أخرى برسالة من السماء إليهم.
﴿ إن كانت ﴾ أي : العقوبة ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ : من جبرائيل بعثه الله فأخذ بعضادتي باب بلدتهم، فصاح ﴿ فإذا هم خامدون ﴾ : ميتون كالرماد لم يبق في البلدة روح يتردد في جسد، واعلم أن بعض السلف وأكثر المتأخرين على أنهم رسل عيسى، وأسماؤهم يحيى، ويونس، وشمعون، والقرية أنطاكية، وذكروا أن ملك القرية وأكثر أهلها آمنوا بعد تقويتهما بثالث وظهور معجزاتهم، ومن بقي على الكفر أهلكوا، وكلام بعض السلف دال على أنهم رسل الله وأسماؤهم صادق، وصدوق، وشكوم، وهو ظاهر القرآن انظر إلى قوله :﴿ ما أنتم إلا بشر مثلنا ﴾ وأيضا ذكر المؤرخون أن أول مدينة آمنت برسل عيسى هي أنطاكية، وفي القرآن أن أهل هذه القرية أهلكوا لكفرهم، وأيضا صرح كثير من السلف في قول الله :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ﴾ [ القصص : ٤٣ ] أن الله ما أهلك من الأمم عن آخرهم بالعذاب بعد إنزال التوراة، بل أمر المؤمنين بقتال المشركين، فكيف يكون هلاك قرية رسل عيسى ؟والله أعلم.
﴿ يا حسرة على العباد ﴾ : نداء للحسرة، كأنه قيل : تعالى فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري، والظرف إما لغو أو صفة ﴿ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ﴾.
﴿ ألم يروا ﴾ : يعلموا ﴿ كم أهلكنا قبلهم من القرون ﴾ : علق ألم يروا عن العمل لفظا فيما بعده ؛ لأن كم لا يكون معمولا لما قبله ﴿ أنهم إليهم لا يرجعون ﴾ بدل الكل من جملة كم أهلكنا على المعنى، فإن عدم الرجوع والإهلاك واحد.
﴿ وإن كل لما جميع لدينا محضرون ﴾ : إن نافية ولما المثقلة بمعنى إلا، والظرف لجميع بمعنى مجموع أو لمحضرون أي : ما كلهم إلا مجموعون لدينا يوم الحشر محضرون.
﴿ وآية لهم الأرض الميتة ﴾ : اليابسة التي لا نبات فيها ﴿ أحييناها ﴾ بالمطر استئناف لبيان كونها آية أو ﴿ آية لهم ﴾ : مبتدأ وخبر و﴿ أحييناها ﴾ خبر الأرض، والجملة تفسير الآية ولا يبعد أن يكون ﴿ أحييناها ﴾، لا بتقدير قد ﴿ وأخرجنا منها حبا ﴾ أي : جنسه ﴿ فمنه يأكلون ﴾.
﴿ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره ﴾ : من ثمر المذكور، قيل الضمير لله، فإن ثمر الله بخلقه ﴿ وما عملته أيديهم ﴾ أي : الثمر لم تعمله أيدي الناس، بل خلق الله، ولهذا قال :﴿ أفلا يشكرون ﴾ وعن بعض أن ﴿ ما ﴾ موصولة عطف على ثمره، والمراد : ما يتخذ منه كالدبس.
﴿ سبحان الذي خلق الأزواج ﴾ : الأنواع ﴿ كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ﴾ : الذكر والأنثى ﴿ ومما لا يعلمون ﴾ : من مخلوقات شتى لا يعرفون، فكأنه قال : الأزواج قسمان : معلوم وغير معلوم
﴿ وآية لهم الليل نسلخ ﴾ : نزيل ﴿ منه النهار فإذا هم مظلمون ﴾ : داخلون في الظلام.
﴿ والشمس تجري لمستقر لها ﴾ اسم مكان وفسر النبي المنزل عليه القرآن أن مستقرها تحت العرش تذهب وتسجد هناك، وإذا كان العرش كرة محيطة فتحتيتها باعتبار مكان خاص من العرش الله ورسوله أعلم به، وظاهر بعض الأحاديث دال على أنه قبة ذات قوام تحمله الملائكة فوق هذا الجانب من الأرض، فحينئذ يكون وقت الظهيرة أقرب ما يكون إلى العرش، وفي نصف الليل أبعد فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع، وعن بعض أنه اسم زمان أي الوقت الذي تستقر فيه، وتنقطع جريها وهو يوم القيامة ﴿ ذلك ﴾ الجري الخاص ﴿ تقدير العزيز العليم ﴾
﴿ والقمر ﴾ نصب بشريطة التفسير ﴿ قدّرناه منازل ﴾ هي ثمانية وعشرون ينزل كل ليلة في واحد، فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس ﴿ حتى عاد كالعرجون ﴾ : كالعذق وهو العود الذي عليه الثمر ﴿ القديم ﴾ : العتيق اليابس
﴿ لا الشمس ينبغي لها ﴾ يصح لها، ويَتَسَهّل عليها ﴿ أن تدرك القمر ﴾ : فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه، فتطمس نوره﴿ ولا الليل سابق النهار ﴾ أي : ولا يطلع القمر بالنهار، وله ضوء يطمس نور الشمس فسلطانها بالنهار وسلطانه بالليل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر قبل القيامة، فعلى هذا المراد من الليل والنهار آيتاهما وهما النيران، أو المراد لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار. أيضا متعاقبان بحساب معلوم إلى يوم القيامة، أو المراد أنها لا تجتمع معه في فلك واحد، ولا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار ﴿ وكل في فلك يسبحون ﴾ أي : وكلهم، والضمير لهما ولسائر النجوم فإن ذكرهما مشعر بها أو لهما لاختلاف مطالعها كأنهما شموس وأقمار، ولإطلاق السباحة التي هي للعقلاء جُمعا بالواو والنون
﴿ وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ﴾ المراد سفينة نوح، فإنها مشحونة مملوءة من الأمتعة والحيوانات، والمراد ذرياتهم التي في أصلاب آبائهم أي : حملنا فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم ذرياتهم، وتخصيص الذرية ؛ لأنه أبلغ في الامتنان، وأدخل في التعجب مع الإيجاز، وقيل : حملنا صبيانهم أو أولادهم الذين يبعثونهم إلى التجارة، فالمراد السفن مطلقا
﴿ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ﴾ : من السفن التي بعد سفينة نوح، أو المراد الإبل فإنها سفينة برّ
﴿ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ ﴾ : مغيث ﴿ لهم ولا هم ينقذون ﴾ : ينجون من الغرق
﴿ إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ﴾ أي : لا ينجو لجهة إلا لرحمة منا، ولتمتيع بالحياة إلى أجل مقدر.
﴿ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم ﴾ أي : من الوقائع التي مضت ﴿ وما خلفكم ﴾ من أمر الساعة، أو المراد : ما تقدم من الذنوب وما تأخر، أي : من مثلها ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ : لتكونوا على رجاء رحمة، وجواب إذا مقدر، وهو مثل أعرضوا عنه، ويدل عليه ما بعده.
﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ﴾ أي : أمروا بالإنفاق على فقراء الصحابة قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاءالله أطعمه } : فمن لم يرزق الله مع قدرته لا نعطيه ؛ لنوافق مشيئة الله ﴿ إن أنتم إلا في ضلال مبين ﴾ حيث اتبعتم محمدا، وأمرتمونا بالإنفاق على من أراد الله فقره قيل : هذا قول الله للكفار
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٦:﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ﴾ أي : أمروا بالإنفاق على فقراء الصحابة قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاءالله أطعمه } : فمن لم يرزق الله مع قدرته لا نعطيه ؛ لنوافق مشيئة الله ﴿ إن أنتم إلا في ضلال مبين ﴾ حيث اتبعتم محمدا، وأمرتمونا بالإنفاق على من أراد الله فقره قيل : هذا قول الله للكفار
﴿ ويقولون متى هذا الوعد ﴾، يعنون البعث ﴿ إن كنتم صادقين ﴾.
﴿ ما ينظرون ﴾ : ما ينتظرون ﴿ إلا صيحة واحدة ﴾ هي النفخة الأولى ﴿ تأخذهم وهم يَخصّمون ﴾ : مشتغلون في متاجرهم بخصوماتهم، لا يخطر ببالهم القيامة.
﴿ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ : لمفاجأة القيامة فيموتون في مكان يكونون فيه، ولا يتمكنون من الرجوع إلى بيوتهم.
﴿ ونفخ في الصور ﴾ : نفخة البعث ﴿ فإذا هم من الأجداث ﴾ : القبور :﴿ إلى ربهم ينسلون ﴾ : يسرعون
﴿ قالوا يا ويلنا ﴾ تعال فهذا أوانك ﴿ من بعثنا من مرقدنا ﴾ يرفع الله عنهم العذاب بين النفختين، فيحسبون أنهم كانوا نياما ﴿ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ﴾ من كلام المؤمنين أو الملائكة في جوابهم كأنه قيل : بعثكم الرحمان الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل، أو من كلامهم ردّا على أنفسهم وتحسرا، وما إما مصدرية أي وعده وصدقهم، أو موصولة أي : الذي وعده الرحمن، وصدقه بمعنى صدق فيه المرسلون
﴿ إن كانت ﴾ أي : الفعلة، ﴿ إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ﴾ : بمجرد تلك الصيحة، وليس الأمر فيها بعسير
﴿ فاليوم لا تظلم نفس شيئا ﴾ : من الظلم، ﴿ ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ هذا حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم
﴿ إن أصحاب الجنة اليوم ﴾ : يوم القيامة بعد دخول الجنة ﴿ في شُغُل ﴾ : عظيم لا يحيط به الأفهام ﴿ فاكهون ﴾ : متلذذون خبر بعد خبر، أو الأول ظرف للثاني
﴿ هم وأزواجهم في ظلال ﴾ من أشجار الجنة وقصورها ﴿ على الأرائك ﴾ هي السرر في الحجال ﴿ متكئون ﴾
﴿ لهم فيها فاكهة ﴾ : جميع أنواعها ﴿ ولهم ما يدّعون ﴾ يدعون به لأنفسهم، فهو من الدعاء، أو يتمنون من قولهم : ادع على ما شئت، بمعنى : تمنه على
﴿ سلام ﴾ أي : لهم سلام الله، أو بدل مما يدعون ﴿ قولا من ربرحيم ﴾ يقال لهم قولا من جهته، أي : يسلّم الله عليهم بغير واسطة، تعظيما لهم، وهذا غاية مناهم
﴿ وامتازوا اليوم ﴾ : انفردوا عن المؤمنين ﴿ أيها المجرمون ﴾ : الكافرون عن الضحاك لكل كافر بيت من النار، يُردم بابه بالنار، يكون فيه أبدا، لا يَرى ولا يُرى،
﴿ ألم أعهد إليكم ﴾ العهد : الوصية، أي : ألم أوصيكم بلسان أنبيائي، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعا ﴿ يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ أن مفسرة أو مصدرية ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾
﴿ وأن اعبدوني ﴾ عطف على أن لا تعبدوا ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ : بليغ في استقامته، إشارة إلى عبادته
﴿ ولقد أضل منكم جِبِلاّ ﴾ : خلقا :﴿ كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ﴾ : فتدركوا إضلاله وعداوته، يعني أنه أمر واضح لمن له أدنى عقل في الحديث " إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم، فيخرج منها عتق ساطع مظلم، ثم يقول :﴿ ألم اعهد إليكم يا بني آدم ﴾ إلى قوله :﴿ هذه جهنم التي كنتم توعدون ﴾
﴿ اصلوها ﴾ : ادخلوها وذوقوا عذابها ﴿ اليوم بما كنتم تكفرون ﴾ : بكفركم في الدنيا
﴿ اليوم نختم على أفواههم ﴾ : نمنعها عن التكلم عن السلف، إنه يدعي الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه عمله فيجحد، ويقول : أي ربّ وعزتك لقد كتب على الملك ما لم أعلمه فيقول له الملك عملت كذا في يوم كذا ؟ فيقول : لا وعزتك أي رب فحينئذ ختم على فيه، ويشهد على جوارحه ﴿ وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ﴾ : بإنطاق الله إياها ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ : من المعاصي
﴿ ولو نشاء لطمسنا ﴾ الطمس : تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة ﴿ على أعينهم فاستبقوا ﴾ أي : ابتدروا﴿ الصراط ﴾ أي : الطريق الذي اعتادوا سلوكه نصبه بالمفعولية ؛ لتضمنه معنى ابتدروا، أو بنزع الخافض يعني إلى ﴿ فأنى يبصرون ﴾ أي لا يبصرون الطريق
﴿ ولو نشاء لمسخناهم ﴾ قردة وخنازير أو حجارة أو أزْمَنّاهم ﴿ على مكانتهم ﴾ أي : مكانهم ﴿ فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ﴾ أي لا ذهابا ولا رجوعا، ولفواصل الآي قال : ولا يرجعون أو معناه، ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه وحاصله أنهم أحقاء بالطمس والمسخ، ونحن قادرون لكنا نمهلهم لحكمة ورحمة منا.
﴿ ومن نعمّره ﴾ نطل عمره ﴿ ننكسه ﴾ نقلبه ﴿ في الخلق ﴾ : فتنقص جوارحه بعد الزيادة، وتضعف بعد القوة ﴿ أفلا يعقلون ﴾ : أن القادر على ذلك قادر على البعث، أو على الطمس والمسخ
﴿ وما علمناه الشعر ﴾ رد لما قال قريش : إن محمدا لشاعر ﴿ وما ينبغي له ﴾ : الشعر عن ابن عباس، وغيره : ما ولد عبد المطلب ولدا ذكرا، ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما نحو :( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب }* فهو اتفاقي بحسب سليقته من غير قصد إليه ﴿ إن هو ﴾ أي : ليس الذي أتى به ﴿ إلا ذكر ﴾ : عظة من الله ﴿ وقرآن مبين ﴾ : واضح الدلالة على أنه من الله
﴿ لينذر ﴾ : الرسول ﴿ من كان حيا ﴾ : حي القلب والبصيرة فإنه المنتفع به ﴿ ويحق القول ﴾ : كلمة العذاب ﴿ على الكافرين ﴾ : المصرين على الكفر
﴿ أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ﴾ : مما علمناه نحن بلا شريك، وإسناد العمل إلى الأيدي استعارة تفيد المبالغة في التفرد بالإيجاد ﴿ أنعاما ﴾ مفعول خلقنا ﴿ فهم لها مالكون ﴾أي : خلقناها لهم، وملكناها إياهم فهم لها مالكون متصرفون مختصون بالانتفاع
﴿ وذللناها ﴾ : صيرناها منقادة ﴿ لهم فمنها ركوبهم ﴾ : مركوبهم ﴿ ومنها يأكلون ﴾
﴿ ولهم فيها منافع ﴾ : من الجلود والأصواف وغيرهما ﴿ ومشارب ﴾ من اللبن جمع مشرب اسم مكان، أو مصدر ﴿ أفلا يشكرون ﴾ : رب هذه النعم
﴿ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ﴾ : طمعا في أن يتقوا بهم، والأمر بالعكس لأنهم ﴿ لا يستطيعون نصرهم وهم لهم ﴾
﴿ لا يستطيعون نصرهم وهم لهم ﴾ : لأصنامهم ﴿ جند محضرون ﴾ : في الدنيا يغضبون للآلهة ويحفظونها، أو في الآخرة عند الحساب أي : الأصنام لعبادها جند محضرة عند الحساب ؛ ليكون أبلغ في خزيهم ؛ لأنهم في هذا اليوم أعداء.
﴿ فلا يحزنك قولهم ﴾ : تكذيبهم وكفرهم ﴿ إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ : فنجازيهم
﴿ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ﴾ أخس شيء وأمهنه ﴿ فإذا هو خصيم مبين ﴾ : بين الخصومة لا يتأمل في بدء أمره، ولا يستحي، نزلت إلى آخر السورة حين جاء أبي ابن خلف أو عاص ابن وائل معه عظم رميم، وهو يذره في الهواء، ويقول : يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ فقال عليه السلام :( نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار ).
﴿ وضرب لنا مثلا ﴾ : أمرا عجيبا ﴿ ونسي خلقه ﴾ : ابتداء خلقنا إياه ﴿ قال ﴾ بيان للمثل :﴿ من يحي العظام وهي رميم ﴾ : بالية اسم لما بلى من العظام غير صفة، قيل : هو كبغيّا في ﴿ وما كانت أمك بغيا ﴾ [ مريم : ٢٠ ] في أنها معدولة عن فاعلة فإسقاط الهاء ؛ لأنها معدولة عن باغية
﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ﴾ : يعلم كيف يخلقه، لا يتعاظمه شيء
﴿ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ﴾ مع مضادة الماء بالنار، والمراد الزّنار التي تورى بها الأعراب، وأكثرها من شجري المرخ والعفار الخضراوين ﴿ فإذا أنتم منه توقدون ﴾ فمن كان قادرا على هذا، كيف لا يقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضّا فيبس ؟ ! قيل معناه : الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا يوقد به النار، قادر كذلك على كل شيء
﴿ أو ليس الذي خلق السموات والأرض ﴾ : مع عظم شأنهما ﴿ بقادر على أن يخلق مثلهم ﴾ : في الصغر فإن خلق الصغير أسهل عندكم أو مثلهم في أصول الذات، والصفات وهو المعاد ﴿ بلى ﴾ جواب من الله، وفيه إشعار بأنه لا جواب سواه ﴿ وهو الخلاّق ﴾ : كثير المخلوقات ﴿ العليم ﴾ : كثير المعلومات
﴿ إنما أمره ﴾ : شأنه، ﴿ إذا أراد شيئا أن يقول له كن ﴾ : تكون ﴿ فيكون ﴾ فيحدث أي : لا يعسر عليه شيء، ولا يمنع دون إرادته، وقراءة نصب فيكون للعطف على يقول
﴿ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ﴾ يعني هو المالك المتصرف فيه ﴿ وإليه ترجعون ﴾ : للجزاء.
والحمد لله أولا وآخرا.