تفسير سورة سورة يس من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ يسۤ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ: يَا إنْسَان)، يَعْنِي مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، وقال أبو العاليةِ: (يَا رَجُلُ)، وقال سعيدُ بن جبير: (يَا مُحَمَّدَ صلى الله عليه وسلم)، قرأ أبُو عمرٍو وحمزةُ وعاصم بإظهار النُّون، وقرأ عيسَى بن عمر (يس) بالنصب تَشبيهاً بأينَ وكيفَ، وقرأ ابن أبي إسحاق (يس) بكسر النُّون تشبيهاً بأمسِ وحذامِ وقِطَامِ، وقرأ هَارون الأعور بضمِّ النون تشبيهاً بمُنذُ وحيثُ وقطُّ، وقرأ الآخَرون بإخفاءِ النُّون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ ﴾؛ أي الْمُحْكَمِ من الباطل، وَقِيْلَ: أُحكِمَ بالحلالِ والحرام والأمرِ والنهي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ وذلك أنَّ كفارَ مكَّة قالوا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: لَسْتَ مُرْسَلاً، فأقسمَ اللهُ تعالى بالقرآنِ الحكيم إنَّكَ مُرسَلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ يعني دينِ الإسلامِ وطريقِ الأنبياء عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ الذين مَضَوا قبلَكَ.
قولهُ تعالى: ﴿ تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ ﴾؛ أي هو تنْزِيلُ العزيزِ في مُلكهِ، الرحيمِ بخلقهِ، قال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: هَذا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ). وقولُ ابنِ عامر وأهلِ الكوفة (تَنْزِيلَ) بالنصب على المصدر، كأنَّهُ قَالَ: ونزَّلَ تَنْزِيلاً.
قولهُ تعالى: ﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ ﴾؛ مُتَّصلٌ بقولهِ ﴿ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ؛ أي لتُنذِرَ قَوماً لم يأْتِهم نذيرٌ قبلَكَ؛ لأنَّهم كانوا في الفَترَةِ وهو معنى قولهِ: ﴿ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾؛ أي عن حُجَجِ التَّوحيدِ وأدلَّةِ البعثِ، وَقِيْلَ: ﴿ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ عن أمرِ الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾؛ أي لقد حقَّتْ كلمةُ العذاب على أهلِ مكَّة لكثرة كفرهم فهم لا يُصدِّقون، وهذا إخبارٌ عن علمِ الله فيهم أنَّهم لا يُؤمنون، فقُتِلوا يومَ بدرٍ على الكُفرِ.
قولهُ تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً ﴾؛ أي في أعناقِهم وأيمانِهم أغْلاَلاً، ولَم يذكُرِ الأَيمانَ في الآيةِ لأنَّ الكلامَ دليلٌ عليهِ؛ لأن الغُلَّةَ لا يكون في العنُقِ دون اليدِ، ولا في اليدِ دون العنُقِ، وإنما تُغَلُّ الأيدي إلَى الأعناقِ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ ﴾؛ كنايةٌ عن الأيدِي دون الأغلالِ، وقولهُ تعالى: ﴿ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾؛ أي رَافِعُوا رؤوسِهم، والْمُقْمَحُ: الرافعُ رأسَهُ الغاضُّ بصرَهُ. واختلَفُوا فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ، فرُوي عن ابنِ عبَّاس: (أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ فِيْهِمْ أبُو جَهْلٍ، تَوَاطَؤُا عَلَى أنْ يَقْتُلُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا رَأوْهُ يُصَلِّي، وَحَلَفَ أبُو جَهْلٍ أنَّهُ إذا رَآهُ يُصَلِّي لَيَدْمَغَنَّهُ بالْحَجَرِ، فَأَتَوْهُ يَوْماً وَهُوَ يُصَلِّي، فَجَاءَهُ أبُو جَهْلٍ وَمَعَهُ الْحَجَرُ، فَرَفَعَ الْحَجَرَ لِيَدْمَغَنَّ بهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَبسَتْ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ وَالْتَزَقَ الْحَجَرُ إلَى يَدِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى أصْحَابهِ خَلَّصُواْ الْحَجَرَ، فَأَخْبَرَهُمْ بأَمْرِ الْحَجَرِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُغِيرَةَ: أنَا أقْتُلُهُ! وَأخَذ الْحَجَرَ وَدَنَا مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَطَمَسَ اللهُ عَلَى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ). فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾؛ أي جعَلنا من بين أيدِيهم غطاءً وسَدّاً ومِن خلفِهم كذلكَ فأَغْشَينا أبصارَهم حتى لم يَرَوا. قال الفرَّاءُ: (مَعْنَى أغْشَيْنَا: ألْبَسْنَا أبْصَارَهُمْ غِشْوَةً أيْ عَمًى)، وعن ابنِ خُثَيم قالَ: (سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقْرَأُ (فَأَعْشَيْنَاهُمْ) بالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ)، ورُوي ذلك عن ابنِ عبَّاس أيضاً، وقال الحسنُ: (هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ) وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أرَادُواْ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا كَمَنْ غُلَّتْ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ لاَ يُمْكِنُهُ أنْ يَبْسُطَهَا إلَى شَيْءٍ، وَهُوَ طَافِحٌ رَأسُهُ لاَ يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، قَدْ سُدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ فِي الذهَاب وَالرُّجُوعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾؛ أي مَن أضَلَّهُ اللهُ هذا الضلالَ لم ينفعْهُ الإنذارُ.
﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ ﴾؛ معناهُ: إنما ينفع الإنذارُ مَن اتَّبعَ القرآنَ.
﴿ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ ﴾؛ أي وخافَ من اللهِ بحيث لا يراهُ.
﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ﴾؛ لذنوبهِ.
﴿ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾؛ وثوابٍ حسَنٍ في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ ﴾؛ أي ما أسلَفُوا من الخيرِ والشرِّ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾؛ أي خُطَاهُم، فإنَّ كلَّ خُطوَةٍ في الطاعةِ طاعةٌ، وكلَّ خطوةٍ في المعصيةِ معصيةٌ. وَقِيْلَ: معنى ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ أي ما استَنَّ به مَن بعدَهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أجْرُهَا وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وزْرُهَا وَوزْرُ مَنْ عَمِلَ بهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي وكلَّ شيءٍ من الأعمالِ أثبتناهُ في اللوحِ المحفوظِ. وَقِيْلَ: أرادَ بالإمامِ المبين: الصحائفَ التي يكتبُها الملائكةُ، وسُمي الإمامُ مُبيناً لأنه لاَ يَنْدَرسُ أثرُ مكتوبه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً ﴾؛ أي مثل لأهلِ مكَّة مثل.
﴿ أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ ﴾؛ يعني إنطاكيَّةَ؛ ﴿ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾، رسُل اللهِ تعالى.
﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ ﴾.
وذلك أنَّ عيسى عليه السلام أرسَلَ إلى أهلِ إنطاكيَّةَ رسُولَين من الحواريِّين ليدعُوهم إلى عبادةِ الله تعالى. وإنَّما أُضيفَ الإرسالُ في الآيةِ إلى اللهِ تعالى لأنَّ إرسالَهُ كان بأمرِ الله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ * قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴾والقصَّةُ: أنَّ عيسَى عليه السلام لَمَّا بعثَ الرسولَين إلى أنطاكيَّة وقَرُبَا من المدينةِ، وجَدَا شيخاً كَبيراً يرعَى غُنَيمَاتٍ له وهو حبيبُ النجَّار فسَلَّما عليه، فقالَ لَهما: مَن أنتُما؟ قالاَ: رسُولاَ عيسَى عليه السلام ندعُوكم إلى عبادةِ الله تعالى، قالَ: هل معَكُما آيةٌ؟ قالاَ: نَعَمْ؛ نَشفِي المريضَ ونُبرِئُ الأكْمَهَ وَالأبرصَ بإذنِ الله تعالى. فقالَ الشيخُ: إنَّ لِي إبناً مَريضاً صاحبَ فِرَاشٍ منذُ سِنينَ، قالاَ: فَانطَلِقْ بنا إليهِ. فانطلقَ بهما إليه، فمَسَحا ابنَهُ فقامَ من ساعتهِ صَحيحاً بإذنِ الله تعالى. ففشَا الخبرُ في المدينةِ، وشفَى اللهُ على أيدِيهما كَثيراً من المرضَى، وآمَنَ حبيبُ النجَّار، وجعلَ يعبدُ اللهَ تعالى في غار جَبَلٍ في أبعدِ أطرافِ المدينة. فسمعَ الملِكُ بخبرِ هذين الرَّسولَين، وكان يعبدُ الأصنامَ، فدعَا لَهُما فأتياهُ، فقالَ لَهما: مَن أنتُما؟ قالاَ: رسولاَ عيسَى عليه السلام ندعُوكَ إلى عبادةِ الله تعالى، قال: وما آيتُكما؟ فقالاَ: نُبرِئُ الأكمَهَ والأبرصَ، فغَضِبَ الملِكُ وأمرَ بهما فحُبسَا، وجُلِدَ كلُّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ. فلمَّا كُذِّبَ الرسُولاَنِ، بعثَ عيسى رسُولاً ثالثاً يقالُ له: شَمعون المصفِّي على إثرِهما لينصُرَهما، فدخلَ شمعونُ البلدَ متنكِّراً، وجعلَ يعاشِرُ حاشيتَهُ حتى أفشَوا به، فرُفِعَ خبرهُ الى الملِكِ فدعاهُ فأكرمَهُ وأنِسَ بهِ. فقالَ له ذاتَ يومٍ: أيُّها الملِكُ؛ بلَغَني أنَّكَ حبستَ رجُلَين في السِّجن وضَربتَهُما حين دعَياكَ الى دينٍ غيرِ دِينكَ، فهل كلَّمْتَهما وسمعتَ قولَهما؟ قالَ: لاَ، قالَ: فإنْ رأى الملِكُ أن يدعوَهُما ويسمعَ قولهما حتى يطَّلِعَ على ما عندهما. فدعاهُما الملِكُ، فقالَ لهما شمعونُ: مَن أرسلَكُما؟ قالاَ: اللهُ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ وليس له شريكٌ. فقالَ لهما شمعون: صِفَاهُ وأوجِزَا، فقالاَ: إنه يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد. قال شمعونُ: وما آيَتُكما؟ قَالاَ: ما تَتمَنَّاهُ. فأمرَ الملِكُ حتى جَاؤُا بغُلامٍ مطمُوسِ العَينَينِ، موضعُ العينين كلٌّ لجِهَةٍ، فمَا زالاَ يدعُوَان اللهَ حتى انشقَّ موضعُ البصرِ، ثم أخذا بَندُوقَتَيْنِ فوُضِعَتا في الحدَقَتَين، فصارَتا مُقْلَتَيْنِ يبصرُ بهما، فعَجِبَ الملِكُ من ذلك. فقال شمعونُ للملِك: إنْ سألتَ إلَهكَ أن يصنعَ مثل هذا، فصَنَعَهُ كان لكَ ولآلهتكَ الشرفُ. فقال الملِكُ: ليس لِي عَنْكَ سِرُّ أُسِرُّه إليك: إنَّ إلَهنا الذي نعبده لا يسمعُ ولا يبصر ولا ينفعُ. ثم قالَ للمرسُولِين: إنَّ هنا مَيِّتاً ماتَ منذُ سبعةِ أيَّام، فلم أدفِنْهُ وأخَّرتُه حتى يرجعَ أبوهُ، وكان أبوهُ غائباً، فإن قَدِرَ إلَهُكما على إحيائهِ آمنتُ بهِ. قالاَ: إنَّ إلَهنا قادرٌ على كلِّ شيء، ثم جعَلاَ يدعُوان اللهَ علانيةً، وجعلَ شمعون يدعُو ربَّهُ سِرّاً، فقامَ الميِّتُ حيّاً بإذنِ اللهِ تعالى، وقد تغيَّرَ وانتنَّ وهو يقولُ: أيُّها الملِكُ إنِّي متُّ منذ سبعةِ أيَّام، ووجدتُ مُشْرِكاً فأُدخِلْتُ في سبعةِ أوديةٍ من النار، فأنا أُحذِّرُكم ما أنتم عليه، فآمِنُوا باللهِ واتَّبعُوا هؤلاءِ الثلاثةَ. فقال الملِكُ: ومَنِ الثلاثةُ؟ قالَ: شمعونُ وهذانِ، وأشارَ الى الرَّسُولَين. فتعجَّبَ الملِكُ من ذلك، وأجمعَ هو وقومهُ على قتلِ الرُّسُلِ. فبلغَ ذلك حَبيباً النجَّار وهو على باب المدينة الأقصَى. وَقِيْلَ: إنَّ الملِكَ قالَ لَهم: إنَّكم توافقتُم على هذا الكلامِ، ثم أمرَ بهم فأُخِذُوا ونُتِفَتْ حَواجِبُهم وشُعورُ أعْيُنِهِمْ، وطِيفَ بهم، فلمَّا سمعَ حبيبُ النجَّار ذلك أقبلَ مِن أبعدِ أطرافِ المدينة يسعَى؛ أي يَعْدُو ليَنصُرَ الرسُلَ ويذكرهم ويدعو إلى طاعةِ المرسَلين، وذلكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾؛ وقال حبيبُ للرُّسُل: أتُرِيدُونَ أجْراً على ما جئتم بهِ؟ قالوا: لاَ، فقالَ لقومهِ: ﴿ ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾؛ أي مُصِيبُونَ في مقالَتِهم، فقالوا له: صَبَوْتَ إليهم يا حبيبُ ودخلتَ في دِينهم؟ فقال: ﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي ﴾؛ أي أيٌّ شيء لِي إذا لم أعبُدْ خَالِقِي.
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، أي إليه تُرجَعُونَ عندَ البعثِ فيجزِيكم بكُفرِكم. ثم إنَّ أهلَ المدينةِ قالوا: ليس الرُّسل بأَولى بالنبوَّة منا فيما تقولون، قالوا: ربُّنا يعلمُ إنَّا إليكم لَمُرسَلون وما علينا إلا البلاغُ المبين، أي ليس علينا إلاّ التبليغُ البيّن. فقال القومُ للرسل: إنا تطيَّرنا بكم، أي تشاءمنا منكم، وقد كان حُبس عنهم المطرُ، فقالوا ما أصابنا هذا الشر إلاّ من قبلكم ﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ أي لئن لم تنَتهوا من مقالتكم هذه لنقتلَنَّكم رَجْماً وليمَسَّنكم منا عذاب، يعنون القتلَ والضربَ. فقالت لهم الرسُل: ﴿ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ﴾ أي شُؤْمُكم معكم وهو كُفركم بالله تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَئِن ذُكِّرْتُم ﴾ معناه لئن وُعِظتم بمواعظ اللهِ تشاءَمتُم بنا بما لا يوجبُ التشاؤمَ ولكن أنتم قومٌ مسرفون، متجاوزون عن الحدِّ في الذنب والمعصية. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ ﴾ يعني حَبيباً النجَّار (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي مَن لا يسألُكم أموالَكُم على ما جاءَكم به مِن الْهُدَى، فقالُوا له: أتَّبَعْتَهُمْ أنتَ يا حبيبُ؟ قالَ: نعَمْ (وَمَا لِي لاَ أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرةِ. ثم أنكرَ عليهم اتخاذ الأصنامِ وعبادتَها، فقال: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾، كما اتَّخذتُم.
﴿ إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ ﴾، في جسَدِي أو في معيشَتِي.
﴿ لاَّ تُغْنِ عَنِّي ﴾، لا تنفعُ عنِّي.
﴿ شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً ﴾، يعني لا شفاعةَ لها.
﴿ وَلاَ يُنقِذُونَ ﴾؛ أي ولا يُخلِّصُونِ من ذلك المكروهِ ولا من عذاب الله، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾، إنْ عبدتُ غير الله كنت إذاً في الخاطئين.
﴿ إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ ﴾؛ مقالَتي. وَقِيْلَ: إنَّ قولَهُ ﴿ إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ خطابُ المرسَلِ، قالَ لَهم اسمعُوا كلاَمِي لتشهدوا لي به في الآخرةِ، فلمَّا قال هَذا وثبَ عليه قومهُ وثبةَ رجُلٍ واحد فقتلوهُ، قال ابنُ مسعودٍ: (وَوَطَؤُهُ بأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَتْ أمْعَاؤُهُ مِنْ دُبُرِهِ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ فَهُوَ حَيٌّ فِيْهَا يُرْزَقُ)، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ ﴾؛ فلما دخلَها.
﴿ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ ﴾؛ تَمنَّى أن يعلَمُوا أنَّ الله غَفَرَ له ليرغَبُوا في دينِ الرُّسلِ، والمعنى: يا ليتَ قَومِي يعلمون بغُفرانِ ربي لي وإكرامِه إيَّاي بإدخالهِ لِي الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴾؛ وذلكَ أنَّهم لَمَّا قتلوهُ وغَضِبَ اللهُ عليهم وعجَّلَ لهم العذابَ، ومعنَى الآية: وما أنزَلنا على قومِ حبيب بإهلاكِهم من جُندٍ من السَّماء يعني الملائكةَ؛ أي لَم تنتَصِرْ منهم بجُندٍ من السَّماء.
﴿ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴾ ولا كُنَّا نُنَزِّلُ ذلك بمَن قبلَهم من الأُمَم إذا أهلكنَاهم. ثم بيَّن اللهُ تعالى كيف كانت عقوبتُهم وعذابُهم فقالَ تعالى: ﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾؛ أي ميِّتون لا يتحرَّكُ منهم أحدٌ. قال المفسِّرون: أخذ جبريلُ بعضادتي باب المدينةِ وصاحَ بهم صيحةً واحدةً، فتطايرَت قلوبُهم فإذا هم ميِّتون، ولم يُسمَعْ لهم حِسٌّ، كالنار إذا طُفِئَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ قال مقاتلُ: (يَا نَدَامَةَ عَلَيْهِمْ فِي الآخِرَةِ باسْتِهْزَائِهِمْ بالرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا). وَالْحَسْرَةُ: أن يركبَ الإنسانُ مِن شدَّةِ اللَّومِ ما لا نِهايةَ بعدَهُ حتى يبقَى قلبُه حَسِيراً، والعربُ إذا دعَتْ نكرةً موصولةً بشيء آثرَتِ النصبَ، تقولُ: يا رجلاً كريماً أقْبلْ. ثُم بيَّن اللهُ تعالى سببَ الحسرةِ فقالَ: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾؛ معناهُ: ألَمْ يَرَ أهلُ مكَّة كم أهلَكنا قبلَهم من الأُمَمِ الماضيةِ فخَافُوا أن يُعجَّلَ لهم في الدُّنيا مثلُ ما عُجِّلَ لغيرِهم وهم يعلمون أنَّهم لا يُعادون إلى الدُّنيا أبَداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾؛ أي وما كلٌّ منهم إلاَّ لدينا مُحضَرُونَ في أرضِ الْمَحشَرِ للحساب والجزاء، هذا على قراءةُ مَن قرأ (لَمَّا جَمِيعاً) بالتشديدِ، وهي قراءةُ ابنِ عامر وعاصمٍ وحمزة، وأما على قراءةِ مَن قرأ بالتخفيفِ فإن (مَا) صلةٌ مؤكِّدة، فإن (إنْ) للإثباتِ كأنه قالَ: وإنْ كلٌّ لَجميعٌ لدَينا مُحضَرون. ثم وعظَ اللهُ كفارَ مكَّة ليعتَبروا فقالَ تعالى: ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ﴾؛ أي وعلامةٌ لَهم تدلُّهم على التوحيدِ والبعث، الأرضُ الْمَيْتَةُ اليابسةُ التي لا نباتَ فيها ولا شجرَ ﴿ أَحْيَيْنَاهَا ﴾ بإخراجِ الأشجار والزُّروعِ.
﴿ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾، ما يُقْتَاتُ من الحبوب جمعِ الحب.
﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ ﴾؛ أي في الأرضِ بساتين.
﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ ﴾؛ أي من عُيونِ الماءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ﴾؛ أي من ثَمر النخيلِ والأعناب على اختلاف طُعومِها وألوانِها، فيستدِلُّوا بذلك على قُدرةِ الله تعالى. قرأ الأعمشُ (ثُمْرِهِ) بضمِّ الثاء وسُكونِ الميمِ، وقرأ طلحةُ ويحيى وحمزة والكسائي وخلف (ثُمُرِهِ) بضمِّ الثاء والميمِ، وقرأ الباقون بفتحِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾؛ أي وما عملَتْ أيديهم شَيئاً مما ذكرناهُ، وإنما هو مِن فعلِنا.
﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾؛ نِعَمَ اللهِ، ويجوزُ أن يكون معناهُ: ليأكلُوا من ثَمَرهِ ومِن ثَمَرِ ما عملَتْ أيديهم، يعني الغرُوسَ والحرْثَ. قرأ أهلُ الكوفة (وَمَا عَمِلَتْ) بغير هاءٍ، ويجوزُ في (مَا) ثلاثةُ أوجهٍ: النفيُ بمعنى ولَمْ تعمَلْ أيديهم؛ أي وجدُوها معمولةً فلا صُنْعَ لَهم فيها، وهذا قولُ الضَّحاك ومقاتل. والثانِي: أن يكون بمعنَى المصدر؛ أي ومِنْ عَمَلِ أيدِيهم. والثالث: بمعنى (الَّذِي) أي ومِن الذي عمِلت أيديهم من الغَرْسِ والحرثِ. ومَن قرأ (عَمِلَتْهُ) بالهاءِ، فالهاءُ عائدةٌ على (مَا) التي بمعنى الذي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي سُبحان الذي خلقَ الأصنافَ كلَّها من أجناسِ الفواكهِ والحبوب، وأصنافِ ما تُنبتُ الأرضُ من الحلوِ والحامض والأبيضِ والأحمر وغيرِ ذلك من الطُّعوم والألوانِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي وخلَقَ من أنفُسِهم الذُّكرَانَ والإناثَ. وقوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وخلقَ في البرِّ والبحرِ وأجوافِ السَّماوات والأرضِ من جميع الأنواعِ والأشياء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴾؛ أي وعلامةٌ لَهم أُخرى تدلُّ على قُدرَتِنا، الليلُ المظلم يُنْزَعُ منه النهارُ فإذا هم داخِلون في الظَّلام، وذلك أنَّ الأصلَ هو الظُّلمةُ، والنهارُ داخلٌ عليها لأنَّ الله خلقَ الدُّنيا مظلمةً، فإذا طلَعتِ الشمسُ صارت الدُّنيا مضيئةً تشبهُ ضوءَ النهار باللِّباس، فإذا ذهبَ الضوءُ بغُروب الشمسِ كان ذهابُ ذلك بمنْزِلة سَلْخِ جلدِ الشَّاة عن الشاةِ، وسلخِ الثوب الرجُل عن الرجلِ، والمعنى: إذا غربَتِ الشمسُ سُلِخَ النهارُ من الليلِ أن كشفَها فأُزيلَ فتظهرُ الظُّلمة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ﴾؛ معناهُ: وآيةٌ لهم ﴿ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ﴾ أي إلى مُستَقَرٍّ لها وهو آخرُ مدَّة الدنيا ثم تجرِي بعدها، ويقالُ: مستقرُّها منازلُها إذا انتهت الى أقصَى منازلها التي لا تجاوزُها في الصيفِ رجَعت، ويقالُ: سمعت منازلَها مستقرَّها، كما يقالُ في منْزِل الرجلِ: هو مُستَقَرُّهُ، وإن تصَّرَفَ فيه وتحرَّكَ. وعن أبي ذرٍّ قال:" سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ﴾ قالَ: " مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴾؛ أي ذلك الذي سبَقَ ذِكرهُ تقديرُ العزيزِ في مُلكهِ، العليمُ الذي لا يخفَى عليه شيءٌ. وفي قراءةِ ابن عبَّاس: (تَجْرِي لاَ مُسْتَقَرَّ لَهَـا) أي لا قرارَ لها فهي جاريةٌ أبداً ما دامت الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾؛ قرأ نافعُ وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (وَالْقَمَرُ) بالرفعِ عطفاً على قولهِ﴿ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي ﴾[يس: ٣٨]، وَقِيْلَ: على الابتداءِ، وقرأ الباقون بالنصب على معنى وقدَّرناهُ القمرَ وقدَّرنا منازلَ، كما تقولُ: زيداً ضربتهُ. والمعنى: قدَّرنا له منازلَ ينْزِلُ في كلِّ ليلة منْزِلَةً، وجملةُ منازلِ ثمانيةٌ وعشرون، فإذا صارَ إلى آخرِ منْزِله وهي ليلةُ ثَمانٍ وعشرين.
﴿ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ ﴾؛ وهو عذْقُ النخلةِ الذي فيه الشَّمَاريخُ إذا يَبسَ، ولأن العُذْقَ إذا مضَت عليه الأيامُ جفَّ وتقوَّسَ ويَبسَ ودقَّ واصفرَّ وصار شبهَ الأشياءِ بالقمر في أوًّل الشهرِ، وآخره، لا يقدرُ على ذلك إلاَّ اللهُ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ ﴾؛ يعني أنَّ الشمسَ أبطأُ مَسِيراً من القمرِ فلا تدركهُ، وذلك أنَّ الشمسَ تقطعُ منازلَها في سنةٍ، والقمرَ يقطعُ منازلَهُ في شهرٍ، وهما مسخَّران مقهوران على ما ذكرَهُما اللهُ تعالى. ويقالُ معنى قولهُ: ﴿ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ ﴾ أي لا يدخلُ النَّهارُ على الليلِ قبلَ انقضائهِ، ولا يدخلُ الليلُ على النهار قبلَ انقضائهِ، كلاهُما يَسِيران دائِبَين، ولكلٍّ حدٌّ لا يعدوهُ ولا يقصُر دونَهُ، فإذا جاءَ سُلطان هذا ذهبَ ذلك، فإذا جاءَ سلطانُ ذلك ذهبَ هذا، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ ﴾؛ أي لا تتأخَّرُ الشمسُ عن مجرَاها، فتسبقُ ظلمةُ الليلِ في وقتِ النَّهار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾؛ أي كلٌّ مِن الشمسِ والقمرِ والنُّجومِ الغَاربَةِ والطَّالعةِ في فَلَكٍ يَسِيرُونَ ويَجْرُونَ بالأبْسَاطِ. والفلَكُ: هو مواضعُ النجومِ من الهواءِ؛ أي الذي يجرِي فيه، سُمِّي بهذا الاسمِ لأنه يدورُ بالنجومِ، ومنه فُلْكَةُ الْمِغْزَلِ لأنَّها تدورُ بالمغزلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾؛ معناهُ: وآيةٌ لَهم أُخرى يعني أهلَ مكَّة تدلُّهم على توحيدِ الله تعالى: أنَّا حَمَلنا ذُرِّيَتَهُمْ في السَّفينةِ المملوءةِ، وهي سفينةُ نُوحٍ عليه السلام، وذريَّتهُ في كلامِ العرب: الآباءُ والأبناء والأجدادُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾؛ أي وخلَقنا لهم مثلَ سفينةِ نُوحٍ عليه السلام ما يركَبُون فيه على البحرِ، يعني السُّفنَ التي عُملت بعدَ سفينةِ نوحٍ عليه السلام على هيأَتِها وصُورَتِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾؛ أي أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكَرَ تفَضُّلَهُ أنَّهُ يحفَظُهم، ولو شاءَ أغرقَهم فلم يُغنِهم أحدٌ ولم يُنقِذْهُم من الغرقِ، ومعنى قولهِ تعالى: ﴿ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ أي فلا مُغِيثَ لَهم.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ﴾؛ من المكروهِ والغرَقِ. والصَّرِيخُ: بمعنى الصَّارخِ لهم بالاستغاثةِ. وَقِيْلَ: الصَّريخُ الْمُعِينُ على الصُّراخ، كأنه قالَ: فلا مُعينَ لَهم ﴿ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ﴾ أي ولا هم يُخَلَّصُون من الغرقِ.
﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ ﴾، إلاّ أنْ تدارَكَهم رحمةُ اللهِ فتنقذهم إلى حين آجالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ﴾؛ أي وإذا قِيْلَ لهؤلاءِ الكفار اتَّقُوا ما بين أيدِيِكم من أمرِ الآخرةِ فاعملُوا لها، وما خلفَكم من أمرِ الدُّنيا. فاحذرُوهم ولا تغتَرُّوا بها.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾؛ أي لتكونُوا على رَجَاءِ الرحمةِ من اللهِ تعالى، وجوابُ (إذا) محذوفٌ تقديرهُ: إذا قيلَ لهم هذا أعرَضُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾؛ من عِبرَةٍ ودلالةٍ تدلُّ على صدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ ﴾؛ قال مقاتلُ: (وَذلِكَ أنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِكُفَّار قُرَيشٍ: أنْفِقُواْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين مَا زَعَمْتُمْ مِنْ أمْوَالِكُمْ أنَّهُ للهِ، وَهُوَ مَا جَعَلُوهُ مِنَ حُرُوثِهِم وَأنْعَامِهِمْ للهِ، فَقَالَ الْكُفَّارُ: أنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أطْعَمَهُ وَرَزَقَهُ). قال الحسنُ: (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أهْلَ إجْبَارٍ، فَقَالَُواْ: لَمْ يَشَأ اللهُ أنْ نُطْعِمَهُ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَطْعَمْنَاهُ). ويقال لهم: ظَنُّوا بجهلِهم أنه تعالَى إذا كان قَادراً على أن يُطعِمَهم فُيغنِيَهُم عن إنفاقِ الناسِ، وهذا القولُ منهم خطأٌ؛ لأنَّ الله تعالى أغنَى بعضَ الخلقِ وأفقرَ بعضَهم لِيَبلِيَ الغنيَّ بالفقيرِ فيما فرضَ له في مالهِ من الزَّكاة، والمؤمنُ لا يَعتَرِضُ على المشيئةِ، وإنما يوافقُ الأمرَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ هذا من قولِ الكفَّار للمؤمنين، يقولون لَهم: إنْ أنتم في اتِّباعِكم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وتركِ دِيننا إلاَّ في خطأ بيِّنٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾؛ أي يقولُ كفار مكَّة: متى هذا الوعدُ الذي تُعِدُنا يا مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم من القيامِ إنْ كنتم صادقِين أنتَ وأصحابُكَ أنَّا نُبعَثُ بعدَ الموتِ فأَرُونِي ذلكَ.
يقولُ الله تعالى: ﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴾ قالَ ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي النَّفْخَةَ الَّتِي تَفْجُرُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فِي أمْرِ الدُّنْيَا وَفِي مُصْرِفَاتِهِمْ)، والمعنى: تأخذُهم الصيحةُ وهم يختَصِمون في البيعِ والشِّراء ويتكلَّمون في الأسواقِ والمجالسِ، وهي نفخةُ إسرافيلَ. قِيْلَ: قرأ ابنُ كثير وورش (يَخَصَّمُونَ) بفتح الخاء وتشديد الصاد، وقرأ نافعُ غير ورشِ ساكنة الخاء مشدَّدة الصادِ، وقرأ أبو عمرٍو بالإخفاءِ، وقرأ حمزةُ ساكنةَ الخاء مخفَّفة؛ أي فغلبَ بعضُهم بعضاً بالخِصَامِ، وأجودُ القراءةِ فتحُ الخاءِ مع تشديد الصادِ، ولأن الأصلَ يختَصِمون فأُلقِيَت حركةُ ألِفِ المدغَمِ على الساكنِ الذي قبلَهُ وهو الخاءُ، وقرأ الباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصاد.
قولهُ تعالى: ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾؛ أي فلا يستطيعُ أحدٌ أن يوصِيَ في شيءٍ من أمرهِ.
﴿ وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾؛ أي ولا يلبثُ أحدٌ أن يصيرَ إلى منْزِله وأهلهِ؛ لأنَّها تأخذُهم بغتةً فيمُوتون في مكانِهم وفي أسواقِهم. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْباً جَدِيداً يُرِيدُ أحَدُهُمَا أنْ يَدْفَعَهُ إلَى صَاحِبه فَيَحُولُ قِيَامُ السَّاعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ أهوَى الرَّجُلُ بلُقْمَةِ لِيَضَعَهَا فِي فِيْهِ فَيَحُولُ قِيَامُ السَّاعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُصُولِهَا إلَى فِيْهِ ".
قولهُ تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾؛ أي ونُفَخَ في الصور نفخةَ البعثِ، فإذا هُم من القبور الى عرَصَاتِ القيامةِ يخرُجون مُسرِعين، والنَّسَلاَنُ مقاربَةُ الخطوِ مع الإسراعِ، ومنه نَسَلاَنُ الذِّئب وهو هَروَلَتُهُ وخببه، والأجداثُ هو القبورُ.
قوله تعالى: ﴿ قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾؛ قال المفسِّرون: إنَّما يقولُون هذا؛ لأنَّ الله يرفعُ عنهم العذابَ فيما بين النَّفخَتين فيرقُدون، فلما بُعِثُوا في النفخةِ الآخرةِ وعَايَنُوا القيامةَ ودَعوا بالويلِ والثُّبور، فقالوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟ فيقولُ الملائكة: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾؛ على ألْسِنَةِ الرُّسل أنه يبعثُكم بعد الموتِ في موعدِ البعثِ. وقال قتادةُ: (أوَّلُ الآيَةِ لِلْكَافِرِينَ وَآخِرُهَا لِلمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ الْكَافِرُ: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، وَقَالَ الْمُسْلِمُ: هَذا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). ويجوزُ أن يكون قولهُ هذا من نعتِ الْمَرْقَدِ، كأنَّهم يقولون: مَن بعثَنا من مرقدِنا هذا الذي كُنَّا راقدين فيهِ؟ فيقالُ لَهم: ما وعدَ الرحمنُ الذي بعثَكم. ويجوزُ أن يكون ما وعدَ الرحمنُ على هذا القولِ خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرهُ: حقٌّ ما وعدَ الرحمنُ، وهذا ما وعدَ الرحمنُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾؛ هذا في النفخةِ الثانية؛ أي ما كانت نفخةُ البعثِ إلاّ صيحةً واحدةً لا تُثَنَّى، فإذا هم الأوَّلُون والآخرون في عرَصَات القيامةِ مُحضرَون، فإهلاكُهم كان صيحةً واحدة، وبعثُ الخلائقِ كلّهم كان صيحةً واحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾؛ أي لا ينقَصُ من حسناتِ أحدٍ ولا يُزادُ على سيِّئات أحدٍ.
﴿ وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، ولا يُجزَى كلُّ عاملٍ إلاَّ ما عَمِلَ من خيرٍ أو شرٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾؛ معناهُ: إن أصحابَ الجنَّة في الآخرةِ في شُغُلٍ فَاكِهُونَ. قرأ ابنُ كثير ونافعُ وأبو عمرٍو بجزمِ الغَينِ، وقرأ الباقون (فِي شُغُلٍ) بضمِّ الغينِ، وهما لُغتان مثلُ: السُّحُتِ وَالسُّحْتِ. واختلفَ المفسِّرون في شُغلِهم، قال مقاتلُ: (شُغِلُوا بافْتِضَاضِ الْعَذارَى عَنْ أهْلِ النَّار فَلاَ يَذْكُرُونَهُمْ وَلاَ يَهْتَمُّونَ بهِمْ). وقال الحسنُ: (شُغِلُوا بمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ النِّعَمِ عَنْ مَا فِيْهِ أهْلُ النَّار مِنَ الْعَذاب). وعن أبي سعيد الخدريِّ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أبْكَاراً "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ أي أصحابُ فاكهةٍ، كما يقالُ: شَاحِمٍ لاَحِمٍ؛ أي ذُو شحمٍ ولحم، وعاسِلٍ ذو عَسلٍ، وقرأ أبو جعفر (فَكِهُونَ) بغيرِ ألفٍ، والفَكَهُ: الفرِحُ الضَّحُوكُ، الطيِّبُ النفسِ، ويقالُ: فَاكِهٌ وَفَكِهٌ كحَاذِرٍ وَحَذِرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ ﴾؛ أي هُم وحَلائِلُهم في ظِلاَلِ أشجار الجنَّة.
﴿ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾، على السُّرُر في الحجَالِ جالسُون بالاتِّكَاءِ جلسة الْمُلوكِ. والأرائِكُ: هي السُّرُرُ عليها الحجَالُ، وقولهُ تعالى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾؛ أي لَهم في الجنَّة ألوانُ الفواكهِ.
﴿ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ﴾؛ أي ولَهم ما يتمنُّون ويسأَلُون، وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: وَلَهُمْ مَا يُرِيدُونَ). وَقِيْلَ: معناهُ: مَن ادَّعى شيئاً فهو لهُ يحكمُ الله عَزَّ وَجَلَّ لأنَّهم ما يدَّعون إلاَّ ما يحسنُ.
قوله تعالى: ﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾؛ أي لهم سَلامٌ يسمعونَهُ من اللهِ، ويُعلِمُهم بدوامِ الأمنِ والسلامة مع سُبوغِ النعمة والكرامةِ. ويقالُ: تُحَيِّيهم الملائكةُ عن اللهِ تعالى، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد: ٢٣-٢٤].
وعن جابرِ بن عبدِالله قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" بَيْنَمَا أهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذا سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَيَرْفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فإذا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَلاَ يَلْتَفِتُواْ إلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ حَتَّى يُحْجَبَ عَنْهُمْ، فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارهِمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾؛ عناهُ: تفرَّقُوا، وقال السديُّ: معناهُ: (كُونُوا عَلَى حِدَةٍ)، ومقاتلُ: (مَعْنَاهُ: اعْتَزِلُواْ الْيَوْمَ يَعْنِي فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِين). وقال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ: تَفَرَّدُواْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ). ومعنى الآيةِ: أنه يقالُ للمُجرِمين: تَمَيَّزُوا عنِ المؤمنين، وذلك أنَّ الخلقَ كلَّهم يُحشَرون مختلطِين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ ﴾؛ أي ألَمْ آمُرْكُم وأُوصِ إليكم، وقال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ: ألَمْ أُقَدِّمْ لَكُمْ عَلَى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لاَ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ، أيْ لاَ تُطِيعُواْ الشَّيْطَانَ، وَمَنْ أطَاعَ شَيْئاً فَقَدْ عَبَدَهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾؛ أي عدوٌّ ظاهرُ العداوةِ، أخرجَ أبوَيكم من الجنَّة.
﴿ وَأَنِ ٱعْبُدُونِي ﴾؛ أي أطِيعُونِي ووحِّدونِي.
﴿ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾؛ أي طريقٌ مستقيم قائمٌ، يعني دينَ الإسلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾؛ أي ولقد أضَلَّ الشيطانُ منكم أُمَماً كثيرةً، وَقِيْلَ: خَلْقاً كثيراً. قرأ عليٌّ رضي الله عنه (جِبْلاً كَثِيراً) بسكون الباءِ مخفَّفاً، وقرأ عاصمُ ونافع وأيوب: (جِبلاًّ) بكسرِ الجيم والباءِ وتشديد اللامِ. وقرأ يعقوبُ بضمِّ الجيمِ والباء وتشديدِ اللام، وقرأ ابنُ عامرٍ وأبو عمرو: (جُبْلاً) بضمِّ الجيمِ وسكون الباء مخفَّفاً، وقرأ الباقون بضمِّ الجيمِ والباء وتخفيفِ اللام. وكلُّها لغاتٌ، ومعناها الخلقُ والجماعةُ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي أفَلَم تعقِلُوا ما رأيتُم من الأُمَم إذ أطَاعُوا إبليسَ وعَصَوا الرَّسُولَ فأهلَكُواْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾؛ أي يقالُ لَهم حين دَنَوا من النار: ﴿ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ بها في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾؛ أي إلزَمُوها اليومَ بكُفرِكم، وقَاسُوا حرَّها، وقولهُ تعالى ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ يعني يومَ القيامةِ.
قولهُ تعالى: ﴿ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ ﴾؛ وذلك أنَّهم يُنكِرُون الشِّركَ فيقولون: واللهِ ربنا ما كُنَّا مُشرِكين، فيختِمُ اللهُ على أفواهِهم.
﴿ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ ﴾؛ وتكلَّمت جوارحُهم فشَهِدَتْ عليهم بما عَمِلوا، وقولهُ تعالى: ﴿ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾؛ قال عقبةُ بن عامرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أوَّلُ عَظْمٍ يَنْطِقُ مِنَ الإنْسَانِ فَخِذُهُ مِنْ رجْلِهِ الشِّمَالِ "ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" أوَّلُ مَا تَكَلَّمَ مِنَ الإنْسَانِ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ ".
قولهُ تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ ﴾؛ أي ولو نشاءُ ذهَبنا أعيُنَهم وجعلنَاها بحيث لا يبدُو لها شِقّاً ولا جِفْناً، والمعنى: ولو نشاءُ لأعمَيناهُم في أسواقِهم ومجالسِهم بتكذيبهم إيَّاكَ يا مُحَمَّدُ كما فعَلنَا بقومِ لُوطٍ حين رَاوَدُوهُ عن ضَيفهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ ﴾؛ فغَلَبُوا السَّبقَ وتبادَرُوا إلى الطريقِ إلى منازلهم.
﴿ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ ﴾؛ لو فعَلنا ذلك بهم.
قولهُ تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ ﴾؛ أي في منازلهم فصيَّرناهم قردةً وخنازيرَ وحجارةً ليس فيها روحٌ.
﴿ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ ﴾؛ أي لا يقدِرُون على ذهابٍ ومجيءٍ، والْمَسْخُ في اللغة نِهَايَةُ التبديل.
قولهُ تعالى: ﴿ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ ﴾؛ أي ومَن نُطوِّلُ عُمرَهُ في الدُّنيا نردهُ إلى الحالةِ الأُولى من الضَّعفِ، قال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ: مَنْ أطَلْنَا عُمُرَهُ نَكَّسْنَا خَلْقَهُ، فَصَارَ بَدَلُ الْقُوَّةِ ضَعْفاً، وَبَدَلُ الشَّبَاب هَرَماً) ﴿ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾؛ أن القادرَ على ردِّ البشرِ من حالة القوَّة والكمالِ؛ أي حالِ الضَّعفِ وزوالِ العقل، قادرٌ على إعادةِ الخلقِ بعد الموت. ومَن قرأ (تَعْقِلُونَ) بالتاءِ فهو على مُخاطَبة الكفارِ. قرأ عاصمٌ وحمزة والأعمش: (نُنَكِّسْهُ) بالتشديدِ، وقرأ غيرُهم بالتخفيفِ وفتح النونِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾؛ إن كفارَ مكَّة قالُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنه شاعرٌ، وإنَّ القرآنَ شِعرٌ، فأكذبَهم اللهُ بقولهِ تعالى ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾ أي وما يتسهلُّ له ذلك، وما كان يتَّزِنُ له بيتُ شِعرٍ جرَى على لسانهِ مُنكِراً. قال الحكيمُ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ بقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَرْدَاسَ: أتَجْعَلُ نَهْبي وَنَهْبَ الْعُب دِ بَيْنَ الأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ، فَقَامَ إلَيْهِ أبُو بَكْرٍ وَقَبَّلَ رَأسَهُ وَقَالَ: صَدَقَ اللهُ ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾.
وعن الحسنِ رضي الله عنه:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَمَثَّلُ بهَذا الْبَيْتِ: " كَفَى بالإسْلاَمِ وَالشَّيْب لِلْمَرْءِ نَاهِياً " فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ (كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلاَمُ لِلْمَرْءِ نَاهِياً) فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾ ". وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛" أنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ بشَيْءٍ مِنَ الْشِّعْرِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ الشِّعْرُ أبْغَضَ الْحَدِيثِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَتَمَثَّلْ بَيْتاً مِنَ الشِّعْرِ إلاَّ بَيْتَ طُرْفَةَ: " سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّد بالأَخْبَار ". فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَذا هَكَذا يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّمَا هُوَ: وَيَأْتِيكَ بالأَخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ، فَقَالَ: " إنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ وَمَا يَنْبَغِي لِيَ الشِّعْرُ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾؛ أي ما القرآنُ إلاَّ ذكرٌ وموعظة، فيه الفرائضُ والحدود والأحكامُ.
﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ﴾؛ قرأ نافعُ وابن عامر بالتاءِ، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بالياءِ، يعني ليُنذِرَ القرآنُ مَن كان حيّاً، يعني مُؤمِناً حيَّ القلب، لأن الكافرَ كالميِّتِ في أنه لا يتدبَّرُ ولا يتفكَّرُ.
﴿ وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي وتجبُ الحجَّةُ بالقرآنِ على الكافرين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴾؛ معناهُ: أوَلَم يُشاهِدوا أنَّا خلَقْنا لَهم مما توَلَّينا خلقَهُ بإيداعِنا وإنشائنا؟ لم يُشاركنا في خلقِ ذلك شريكٌ ولا مُعِينٌ. وذكرُ الأيدِي هَا هُنا يدلُ على انفرادهِ بما خلقَ، والمعنى أوَلَمْ يرَوا أنَّا خلَقْنا لَهم مما عمِلناهُ بقدرَتِنا؟ لا مما عملتْهُ أيدي مالكِيها أنعاماً وهو الإبلُ والبقر والغنم لها مالِكون وضابطون، قاهرون لها يصرِّفونَها كيف يشاوُؤن، واليدُ تُذكَرُ ويرادُ بها القدرةُ وإظهار صُنعهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾؛ أي لَم يخلُقِ الأنعامَ نافرةً من بني آدمَ ولا يقدِرون على ضَبطِها، بل هي مسخَّرةٌ لهم، والمعنى: وسخَّرنَاها لهم مع قوَّتِها وضعفِهم.
﴿ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ﴾؛ أي مَركُوبُهم.
﴿ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾؛ من لحومِها، فقولهُ ﴿ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ﴾ يعني الإبلَ، قال عروةُ: (فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (رُكُوبَتُهُمْ)) والركُوبُ والركُوبةُ واحدٌ، مثل الحمُولِ والحمولَةِ، يقالُ: هذه الجِمَالُ ركوبةُ القومِ وركوبتهم، وهذه النُّوقُ حلوبةُ القومِ وحلوبُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ﴾؛ أي مِن أصوافِها وأوبارها وأشعارها ونسلِها ومشارب من ألبانِها.
﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾؛ ربَّ هذه النعمةِ فيُوحِّدونَهُ جميعهم وأفرادهم. فقالَ: ﴿ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ﴾؛ أي عَبَدوا من دونِ الله أصناماً رجاءَ أن يَنصرُونَهم ويشفَعُوا لهم، كما قالُوا: ما نعبدُهم إلاَّ ليُقرِّبُونا إلى اللهِ زُلفَى، فنفَى اللهُ نصرَهم بقولهِ: ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ﴾؛ أي لا تقدرُ آلِهتُهم أن تَمنعَهم من العذاب.
﴿ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴾؛ أي لهم الأصنامُ كالعبيدِ للأرباب قيامٌ بين أيدِيهم ينتصرون بهم، والأصنامُ لا تقدرُ على نصرِهم ولا نصرِ أنفسهم. ويجوزُ أن يكون معناهُ: والمشرِكون مُحضَرون من الأصنامِ في النار توبيخاً لَهم وتعذيباً للذين كانوا يَعبُدونَهم. وَقِيْلَ: معناهُ: إن المشركين ينصُرون الأصنامَ وهي لاَ تستطيع نصرَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾؛ أي لا يُحزِنُكَ يا مُحَمَّدُ قولَ كفَّار مكَّة في تكذيبهم إياكَ وقولِهم إنكَ شاعرٌ.
﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ﴾؛ في نُفوسِهم من تكذيبهم ومَكرِهم وخيانتِهم.
﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾؛ لكَ من العداوةِ بألسِنَتهم. والمعنى: إنا نُثَبتُكَ ونُجازيهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾؛ يعني" أُبيَّ بن خلَفٍ الجمحيِّ خاصمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث، وأتاهُ بعظمٍ قد بَلِيَ وجعلَ يُفَتِّتَهُ ويُذرِّيهِ في الريَّاحِ، ويقولُ في أصحابهِ: أيُحيي اللهُ هذا العظمَ بعد ما رمَّ! وبقولِهم: إنَّ مُحَمَّداً يقولُ إذا مِتْنا وصِرْنا تُراباً نُعَادُ، وتُنفَخُ فينا الروحُ؛ إنَّ هذا الشيءَ عجيبٌ! مَن يقدرُ أن يُحيي العظامَ وهي رميمٌ؟!، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " يُحيي اللهُ هَذا وَيُمِيتُكَ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ "فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. والمعنى: أوَلَمْ يرَ الإنسانُ أنَّا خلقناهُ مع الحياةِ والعقلِ والحواسِّ من نطفةٍ فبلَّغنَاهُ؛ أي أن صارَ خَصْماً جَدِلاً ظاهرَ الخصومةِ، وهذا تعجيبٌ من جهلهِ وإنكارٌ عليه خصومتَهُ؛ أي لا يتفكَّرُ بدءَ خلقهِ.
قولهُ تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾؛ أي ضربَ المثلَ في إنكار البعث بالعظمِ البالِي يفته بيدهِ، ونَسِيَ خَلقَنا إياهُ وبعدَ أن لَم يكن شيئاً حتى صارَ مُخاصِماً فـ ﴿ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾؛ أي شيءٌ بالٍ قَاسٍ، قدَّرَ اللهَ تعالى بقُدرةِ الخلقِ، فأنكرَ إحياءَ العظم البالِي ما لم يكن ذلك في مقدور البشر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّد: الذي خلقَ من العدمِ إلى الوجودِ قادرٌ على الإعادةِ بعد المماتِ، وهو عليمُ بالخلقِ بعد أنْ خلَقَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ ﴾؛ في هذه الآيةِ زيادةُ بيانٍ عن عجيب صُنعهِ، ومعنى ذلك الزُّنُودُ التي كانت العربُ يُوَرُّونَ منها النارَ، كانوا إذا احتَاجُوا إلى النارِ أخَذُوا غُصناً من شجرِ الْمَرْخِ وغُصناً من شجرِ العَفَار وهو الأدينُ، فضَرَبُوا أحدَهما بالآخرِ فخرجت النارُ، فقيلَ لَهم: إنَّ الذي جمعَ بين الماءِ والنار في الشَّجرِ الأخضرِ قادرٌ على تضادِّهما، لا يطفئُ الماءُ النارَ، ولا تحرقُ النارُ الشجرَ، قادرٌ على أن يبعثَكم ويرُدَّ أرواحَكم إلى أجسادِكم. ويقالُ: ما مِن شجرةٍ إلاَّ وفيها نارٌ غيرَ شجرة العِنَّاب، ولذلك يختارُها القصَّارون لدقِّ الثياب عليها. ثُم ذكرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ ﴾، ما هو أعظمُ خَلقاً من الإنسانِ فقال: ﴿ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾؛ معناهُ: إن الذي قَدِرَ على خلقِ السَّماوات والأرضِ في عِظَمِهما وعجائبهما يقدرُ على إعادةِ خلقِ البشرِ؛ لأن خلقَ السَّماوات والأرضِ وما فيهما أبلغُ في القدرةِ من إحياءِ الموتَى، أفَليسَ القادرُ عليهما قادرٌ على الإعادةِ؟ ﴿ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ﴾، يخلقُ خَلقاً بعد خلقٍ.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾، بجميعِ ما خلقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾؛ معناهُ: إنما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً من البعثِ وغيرهِ أن يقولَ له: كُنْ بغيرِ واسطةٍ. فإن قِيْلَ: لِمَ لا ينصبُ قوله تعالى (فَيَكُونُ) على جواب الأمر كما يقالُ: آتِني فأُكرِمَكَ، قُلنا: ذاك مستقبلٌ مستحبٌّ، الثانِي: بوجوب الأدنَى، وهذا كائنٌ مع إرادةِ الله تعالى، فالفعلُ واجبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ نَزَّهَ اللهُ تعالى أنْ يوصفَ بغيرِ القدرةِ؛ أي تنْزِيهاً للَّذي له القدرةُ على كلِّ شيءٍ مِن أن يوصفَ بغيرِ القدرة، وَ ﴿ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي مَلِكُ كلِّ شيءٍ، والقدرةُ على كلِّ شيء.
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ في الآخرةِ بعدَ الموتِ فيجزِيَكم بأعمالِكم.