ﰡ
وهي مكية بالإجماع كما حكى القرطبي، وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية، وقد ذكر في فضلها أحاديث كثيرة، والله أعلم بصحتها.
وهي كالسور المكية المفتتحة بأحرف هجائية تعرضت للقرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلّم وإثبات البعث، ثم ضرب الأمثال، وذكر القصص، والتعرض للآيات الكونية، ومناقشة الكفار في بعض عقائدهم وأفعالهم، ثم ذكر صور لمشاهد يوم القيامة، والتعرض لمبدأ التوحيد والبعث مع الاستدلال بالمشاهد المحسوسة على ذلك، وتفنيد شبهة المشركين وقطع حججهم، وكل هذه الموضوعات ترمى إلى فتح قلوب غلف، وإحياء نفوس طال عليها الأمد حتى قست فأصبحت كالحجارة أو أشد.
موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم مع قومه [سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
يس نقرأ هكذا: يأس بمد الياء وإدغام السين في الواو التي بعدها، وقرأ بعضهم ياسين بإظهار النون ساكنة، وبعضهم أظهر حركة النون بالضم أو بالفتح أو بالكسر، ولكل وجه تخريج في الحكم الإعرابى حَقَّ الْقَوْلُ ثبت فلا يبدل الْأَذْقانِ جمع ذقن، وهي ملتقى الفكين الأسفلين مُقْمَحُونَ والمقمح: هو الذي يرفع رأسه ويغض بصره، وفي القاموس: وأقمح الغل الأسير: ضاق على عنقه وترك رأسه مرفوعا وَآثارَهُمْ المراد: ما خلفوه وراءهم من خير أو شر.
ولا بد لذكر هذه الحروف من حكمة، ولا بد لها من معنى، وإن خفى علينا وستظل سرّا بين الله وبين رسوله، فهي أشبه شيء بالشفرة في عصرنا، والله أعلم بمراده منها، وقيل: إن هذا اسم من أسماء الله واسم من أسماء النبي ذكر قبل القسم تعظيما له، وقيل غير ذلك.
المعنى:
أقسم الحق تبارك وتعالى بالقرآن المحكم الآيات الكامل المعجزات بأنك يا محمد لمن المرسلين على صراط مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام، وهو طريق الأنبياء من قبلك..
وليس القسم بالقرآن قد ذكر عرضا من غير قصد، لا. بل الظاهر- والله أعلم- أنه لفت لأنظارنا إذ هو المعجزة الباقية، والدليل الأول على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم صادق في دعواه، وأنه رسول من عند مولاه.
هذا القرآن نزل تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه، وفي هذا إشارة إلى مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن، أنزل عليك لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم
لقد حق القول على أكثرهم وثبت، إذ لا يبدل القول عند العزيز الحكيم، وعلى ذلك فالمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلى، تحقق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، ولكن لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر والعناد، وفي هذا تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وهذه الآية لتقرير الحكم السابق عليهم «١» بأنهم لا يؤمنون، ولا تنفع معهم النذر بالآيات، فالقرآن الكريم يريد أن يشبههم ويمثلهم حيث لم يؤمنوا ولم يذعنوا بمن غلت يده في عنقه فلم يستطع أن يتعاطى مقصودا للمعنى الحسى القائم به، وهو الغل البالغ إلى الذقن الذي جعل صاحبه مقمحا، أى: رافعا رأسه لا يستطيع أن يبصر تحت قدميه.
وقيل: إن الآية حقيقة وليس فيها (استعارة) وإنما هذا تصوير لهم يوم القيامة إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [سورة غافر آية ٧١].
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهذا تمثيل آخر لهم أنهم وقد سدت عليهم طرق الإيمان سدا إلهيا معنويا يشبهون من سدت عليهم الطرق سداّ حسيا فلم يصلوا إلى مطلوبهم، والسد الذي بين أيديهم منعهم من قبول الشرائع في الدنيا، والسد الذي خلفهم منعهم عن قبول البعث، انظر إلى قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [سورة فصلت آية ٢٥] والمراد زينوا لهم الدنيا فاغتروا بها، وزينوا لهم الآخرة فكذبوا بها.
وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا فأعميناهم عن الحق فهم لا يبصرون وسواء عليهم إنذارك وعدمه- وهذا توبيخ لهم- فهم لا يؤمنون.
هذا شأن من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله! وما ذاك إلا أنه صرف نفسه عن النظر الصحيح والرأى المجرد عن الهوى، البعيد عن ضلال التقليد.
حقا لا ينتفع بالإنذار إلا من طرق قلبه ذكر القرآن، وخشي الرحمن بالغيب، أما تلك القلوب المغلقة، والنفوس الميتة التي لا تؤمن إلا بالمادة وأحوالها فلا يمكن أن ينتفعوا بالإنذار، فبشر- كما أنذرت- من اتبعك وانتفع بك بمغفرة واسعة وجنة عرضها السموات والأرض، وبأجر على ذلك كريم.
وإذا سأل سائل عن وقت تحقيق البشارة والنذارة؟ فالجواب: إن ربك يحيى الموتى ليجازى الكل، ويحقق ما وعده من البشارة وضدها، والله يكتب ويحصى ما قدمه الناس وما أخروه من كافة الأعمال، وهو يكتب آثارهم، فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعده من خير وشر يجازى عليها، فالآثار الحسنة من علم ينتفع به، أو تكوين جيل تغرس فيه معاني الإسلام غرسا صحيحا، أو تأسيس بناء نافع كمسجد أو مستشفى، أو عمل خيرى باق.
والآثار السيئة: كدعوة في كتاب أو مقالة تدعو إلى السوء وإلى التحلل في الأخلاق نرى من بعض كبار الكتاب في مصر يصفون لياليهم الحمراء العابثة، وهم في موضع يقلدهم فيه الشباب المغرور بهم، وكاختراع ألحان أو تأسيس ملاه أو عمل على نشر السوء بأى وسيلة من الوسائل العامة أو الخاصة، تلك هي الآثار النافعة والآثار السيئة الضارة، وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر. وكل شيء من هذا كله أحصاه ربك في كتاب مبين ظاهر، وسيجازى عليه.
قصة أصحاب القرية [سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ٢٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
مَثَلًا: الصفة والحال الغربية التي تشبه في الغرابة المثل أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قيل: هي إنطاكية فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ: فقوينا وأيدنا بثالث، وفي قراءة فعززنا
المعنى:
اجعل يا محمد أصحاب القرية التي سيأتيك خبرها لهؤلاء مثلا في الغلو والعناد والكفر مع الإصرار على تكذيب الرسل، والمراد: طبق حال مشركي مكة الغريبة بحال أصحاب تلك القرية إذ «١» جاءهم المرسلون، حين أرسلناهم اثنين فلم يكن مجيئهم عن محض اختيارهم بل كان بإرسالنا إليهم فكذبوهما فقوينا الحق وأيدناه برسول ثالث، فقالوا جميعا: إنا إليكم يا أهل القرية مرسلون.
وفي تعيين القرية وأسماء الثلاثة ذكر المفسرون كلاما كثيرا الله يعلم أنه لا يسند إلى سند متين، ولكنه من الإسرائيليات. على أننا لا يهمنا معرفة نفس القرية ولا أشخاص الرسل، ولكن المهم أن نعرف ماذا حصل؟ وماذا كانت النتيجة؟ والمفسرون يذكرون أن هؤلاء الرسل كانوا لعيسى ابن مريم فهم رسل رسول الله، ولست أدرى ما الذي حملهم على هذا! ولم لا يكونون رسلا لله سبحانه وتعالى؟ لأنهم ساقوا في كلامهم أنهم أتوا بمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه إلى آخر ما ذكره، وهذا في ظني- والله أعلم- لا يكون إلا لنبي يدعى النبوة.
أرسلت الرسل، وقالوا: إنا إليكم مرسلون.. فماذا قال أصحاب القرية؟ قالوا:
لستم رسلا ولا يعقل أن تكونوا رسلا لأنكم بشر مثلنا فمن الذي فضلكم علينا؟ وهل فيكم من غنى أوجاه أو قوة حتى تكونوا رسلا إلينا؟ اعترضوا بهذا وما علموا أن الله يعلم حيث يجعل رسالته، والرسول بشر من البشر علم الله أنه يتحمل مشقة الرسالة فأرسله للناس وهو العليم الخبير بخلقه، فليست الرسالة تتنافى مع البشرية، وليست المزية والأفضلية في الاختيار ترجع إلى الغنى أو القوة المادية، وإنما مرجعها إلى نواح نفسية
وقالوا: ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون كذبا متجددا حادثا كلما ادعيتم الرسالة، وهذه شبهة ثانية لهم تتعلق بالحق تبارك وتعالى. والشبهة الأولى تتعلق بالمرسلين، وخلاصة هذه الشبهة أن الكون أمامنا لم نر فيه أى دليل على أن الرحمن ينزل شيئا من عنده نيابة عنه، ونحن لا نراكم إلا كاذبين، فماذا قالت الرسل لهم ردّا على الاتهام، وتفنيدا لتلك الشبهة؟
قالت الرسل: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فنحن لا ندعى أننا رسل من يجهل الخلق أو هو عاجز في نفسه، لا: بل نحن رسل الخبير البصير، فلو أننا كاذبون لمحقنا ولأهلكنا فإن العاقل إذا علم أن هناك من يدعى أنه رسوله ووكيله كذبا وبهتانا لا يمكن أن يتركه بل يفعل معه ما يستطيع من بطلان هذه الدعوى، ولله المثل الأعلى، وأنت ترى أنهم لم يسأموا بل كرروا ما ادعوه مؤكدا أكثر من الأول حيث صدروا دعواهم بقولهم: ربنا يعلم- وهذا كالقسم ثم التأكيد بإن واللام واسمية الجملة- كل ذلك لتأكيد دعواهم، أو للرد على الكفار.
وما علينا شيء بعد إبلاغهم هذه الحقائق، وفي ذلك إشارة رقيقة إلى دعواهم فإنهم لم يطلبوا أجرا ولا رئاسة ولا شيئا من حطام الدنيا، وليس عليهم إلا البلاغ وعلى الله الحساب، فتفكروا في أمركم أيها الكفار! فماذا كان بعد هذا؟.
قالوا لهم: إنا متشائمون بكم، ومتطيرون، ولقد مسنا سوء حينما ادعيتم هذه الدعاوى الكاذبة وأصررتم وحلفتم الأيمان عليها واليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع فنحن متشائمون بكم لئن لم تنتهوا عما تقولون لنرجمنكم بالقول الغليظ وليمسنكم منا عذاب بالضرب والقتل أليم وشديد.
وماذا كان من الرسل.. ؟ قالوا: لا تتشاءموا بنا ولا تتطيروا، إنما طائركم معكم، أى حظكم من خير أو شر معكم ولازم في أعناقكم، وليس هو منا: أئن ذكرتم ووعظتم وخوفتم تطيرتم وكفرتم؟ إن أمركم لعجيب!!.. بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحدود في أعمالكم، فبدل النظر السليم في دعوى الرسالة، والبعد عن التقليد الأعمى، وإطلاق العقول من ربقة الاستعباد الفكرى، فبدل هذا تشاءمتم وتطيرتم وأسرفتم في الظلم والبهتان. والله إن أمركم لعجيب!!
وما لي لا أعبد الذي خلقني وأبدعنى على تلك الصورة؟ أى مانع عندي يمنعني من عبادة من فطرني وخلقني فسوانى في أحسن صورة؟ وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة للثواب والعقاب، وهكذا المنصف يعبد الله لأنه خلقه، أو يعبده لأنه سيحاسبه. فهو يعبد رغبا أو رهبا.
أأتخذ من دونه آلهة لا تنفع ولا تشفع، ولا تبصر ولا تسمع، إن أرادنى الرحمن بضر، لا تدفع ضره ولا تغنى عنى شفاعتهم شيئا، ولا هم ينقذوننى مما بي فلأى شيء يعبدون؟ أليست العبادة تقديسا لمن يستحق التقديس؟! إنى إذ أعبد حجرا أو مخلوقا لا ينفع ولا يضر إنى إذا لفي ضلال مبين.
اسمعوا يا قومي: إنى آمنت بربكم وربي فاسمعون.
قيل له: ادخل الجنة، فهل قيل له بعد الموت؟ أو بشر بهذا ممن لا يكذب فبنى على تلك البشارة ما يأتى؟ وعلى الرأى الأول يكون ما يأتى حكاية لحاله يوم القيامة، وعلى الثاني فكلامه في الدنيا سيق عبرة وعظة للناس يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي حيث جعلني من المكرمين يوم القيامة بالثواب الجزيل والأجر العريض، وهذا حال المؤمن المصدق لرسل الله.
أما حال من أشرك وكفر وكذب فعاقبته الخسران والضلال والهلاك، اسمع إلى الحق تبارك وتعالى يقول وهو أصدق القائلين: وما أنزلنا على قوم هذا الرجل المؤمن بعد نجاته من جند من السماء، وما كان ينبغي لنا أن ننزل فلسنا في حاجة إلى ذلك أبدا.
ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة فقط من جبريل فإذا هم بسرعة كسرعة البرق خامدون هامدون لا حراك ولا حرارة ولا حياة، وسبحان الله الواحد القهار فاعتبروا يا أهل مكة إن كنتم من أولى الأبصار!!
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
يا حَسْرَةً الحسرة: أن يلحق الإنسان من الندم ما به يصير حسيرا الْمَيْتَةُ:
التي لا نبات فيها جَنَّاتٍ: بساتين من شجر النخيل والأعناب وَفَجَّرْنا:
شققنا وأنبعنا فيها عيونا كثيرة سُبْحانَ: تنزيها لله عما لا يليق به الْأَزْواجَ:
الأصناف والأنواع المختلفة نَسْلَخُ: نفصل منه النهار ونزيله عنه قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الأصل: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام فقيل: قدرناه منازل، المراد:
جعلنا له منازل، والمنازل: جمع منزل، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة، وهي في حسابهم ٢٧ منزلا كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون: عود العذق- القنو- ما بين الشماريخ إلى منبته من النخلة فِي فَلَكٍ والفلك: هو المدار الذي يدور فيه الكوكب سمى به لاستدارته كفلكة المغزل يَسْبَحُونَ: يسيرون بانبساط وسهولة الْمَشْحُونِ: المملوء فَلا صَرِيخَ: فلا مغيث.
المعنى:
وما أنزل ربك- القادر على كل شيء- على قوم الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى من بعد موته، ما أنزل عند إهلاكهم جندا من السماء؟ وما احتاج الأمر إلى شيء من ذلك فبأى شيء كان إهلاكهم؟ ما كانت إلا صيحة واحدة من جبريل فإذا هم بعدها مباشرة خامدون وميتون لا حراك بهم، خمدوا كما تخمد النار فتصير رمادا.
يا حسرة «١» على هؤلاء المكذبين!! يا حسرة على هؤلاء وأمثالهم!! ما يأتيهم من رسول يهديهم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم إلا كانوا به يستهزئون، فاستحقوا الهلاك من رب العالمين، نعم إنهم يستحقون أن يتحسر عليهم المتحسرون وخاصة الملائكة والمؤمنون من الثقلين لما رأوا عاقبة أمرهم ونهاية كفرهم واستهزائهم.
عجبا لهؤلاء وأمثالهم من كفار قريش! ألم يروا أن أهلكنا قبلهم كثيرا «٢» من الأمم
(٢) الاستفهام في (ألم يروا) للتقرير، وكم خبرية مفعول لأهلكنا، وأنهم لا يرجعون بدل اشتمال في المعنى لا في اللفظ من أهلكنا لأن إهلاكهم مشتمل ومستلزم لعدم رجوعهم.
والأرض الميتة التي لا نبات فيها ولا حركة، آية شاهدة ناطقة لهم على قدرة الله، وعلى أنه القادر على إحياء الخلائق بعد موتها، والأرض الميتة أحياها ربك بالنبات والخضرة، وأخرج منها حبا كالحنطة وغيرها، فمنه يأكلون ويعيشون، وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجر فيها من العيون ليأكلوا بعد هذا من ثمره الذي تفضل به علينا، وليأكلوا مما عملته أيديهم من أصناف المأكولات الجافة والمحفوظة والطازجة مما نراه ونشاهده أفلا يشكرون الله؟! سبحان الله! ما أعظم فضله وأجل نعمه! سبحانه وتعالى عما يشركون، تنزه سبحانه عما لا يليق به مما فعلوه وتركوه، وهذا أيضا تعليم للمؤمنين وإرشاد لهم ليقولوا: سبحان الله معتقدين مصدقين بهذا التنزيه الإلهى.
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض من النبات وغيره، مما عملته أيديهم، ومما لا يعلمون، فهو لله سبحانه وتعالى نعم سبحانه خالق هذه الأصناف كلها مما لا يحيط به إلا هو فكل ما في الكون لا يعلمه إلا خالقه سبحانه وتعالى..
وهذا الليل وما فيه آية لهم لو كانوا يعقلون، فهذا الظلام الشامل بعد النور الساطع، وهذا السكون والهدوء بعد الجلبة والضجيج، وتلك الكواكب السيارة والأفلاك الدوارة كل ذلك آية على وجود الخبير البصير الذي يسير العالم على وفق نظام محكم دقيق لا يختل أبدا.
وآية عظيمة لهم الليل، نسلخ «٢» منه النهار، ونزيل ضوءه عنه، ونكشفه عن الليل فيبدو الليل بسكونه وظلامه كالشاة بعد السلخ، فإذا سلخ بك النهار عن الليل فإذا هم
(٢) وفي قوله (نسلخ) استعارة تبعية حيث استعار السلخ لكشف الضوء من مكان الليل، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على أمر فإنه يترتب ظهور اللحم وظهور الظلمة.
وآية لهم الشمس ذلك الكوكب النهارى الضخم تجرى في فلكها لحد مؤقت مقدر تنتهي إليه، ولا تتجاوزه أبدا، فكأنها تجرى لإدراكه حتى إذا ما انتهت إليه توقفت، والله وحده هو العالم إلى متى تجرى؟ ومتى تقف؟ ذلك تقدير العزيز العليم، نعم هو تقديره وحده، ونظامه المحكم الدقيق الذي لو اختل قيد شعرة فلا يعلم إلا الله ما الذي يحصل؟! فالشمس تجرى وتدور حول نفسها وفي فلكها، والأرض أمامها تجرى وتدور حول نفسها وحول الشمس فينشأ عن كل ذلك النهار والليل والنور والظلام، والفصول الأربعة، أرأيت لو أن هذا النظام اختل في وقت ماذا يكون؟ أمن المعقول أن ذلك يحصل بطبعه بدون إله مدبر؟ تعالى الله عما يقولون.
والقمر قدر له ربك منازل يسير فيها، فتراه يبدو صغيرا دقيقا ثم يكبر فيصير هلالا فبدرا ثم يعود يصغر شيئا فشيئا حتى يصير كالعرجون القديم في الرقة والانحناء والصغر وانظر يا أخى إلى هذه الكواكب السماوية وإلى أبعادها وأجرامها وكثرة عددها وسرعة حركتها، ثم هي بعد ذلك كله في نظام دقيق وعمل وترتيب لا عوج فيه ولا خلل لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل يسبق النهار فيفوته، ولكن يعقبه وإنما جعل الله لهذا كله وقتا محددا ونظاما دقيقا فلا يجوز أن تطغى آية الليل (القمر) على آية النهار (الشمس) بل لكل مدة وزمن ونظام لا يعدوه، وكل من النجوم والكواكب في فلك خاص به يسبحون ويجرون، وهذا لا يمنع أن الله يولج النهار في الليل، وبالعكس في بعض أيام السنة. أليست هذه من أعظم الآيات الدالة على وجود الله وقدرته؟!! وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في ظهور آبائهم ساعة حملوا في فلك نوح المشحون بالخلق، وخلقنا لهم من مثل السفن ما يركبون من السيارات والقطارات والطائرات وغير ذلك! وما أروع هذا التعبير، وما أدق تصويره! وهم في قبضتنا إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم، أى: فلا مغيث لهم، ولا ينقذون لشيء أبدا إلا لرحمة منا وتمتيع بالحياة الدنيا إلى حين معلوم.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
المفردات:
يَخِصِّمُونَ: يختصمون تَوْصِيَةً: وصية الصُّورِ: القرن وهو كالبوق الْأَجْداثِ: جمع جدث، وهو القبر يَنْسِلُونَ: يخرجون مسرعين مَرْقَدِنا: مكان نومنا.
هؤلاء الكفار أمرهم عجيب: لقد ساق الله الآيات الظاهرة التي يعرفها كل مخلوق في الليل والنهار والشمس والقمر والأرض الميتة، وحمل ذرياتهم في ظهور آبائهم فما اتعظوا، ولا تذكروا. بل ظلوا كما هم.
والآن يخوفهم الله عاقبة أمرهم بعد عرض الآيات عليهم لعلهم يتوبون فيرحمون ولكنهم مع كل ذلك معرضون فالويل لهم.
وإذا قيل لهم: يا أيها الناس اتقوا ما بين أيديكم من أيام الدنيا وحوادثها الجسام واعتبروا بما حل بغيركم، واتقوا ما خلفكم من أيام الآخرة وأهلها ومواقفها الشداد اتقوا الله واخشوا حسابه وعقابه لتكونوا على رجاء رحمة الله عاملين، إذا قيل لهم هذا أعرضوا وأصروا على عنادهم واستكبروا استكبارا، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الكونية أو القرآنية للعبرة والعظة إلا كانوا عنها معرضين، فدأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ نزلت هذه الآية في مشركي قريش حين قال فقراء الصحابة لهم: أعطونا من أموالكم التي زعمتم أنها لله. يعنون قوله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [سورة الأنعام آية ١٣٦] فلم يعطوهم وحرموهم، وقالوا للذين آمنوا: أنطعم شخصا لو شاء الله لرزقه كما تزعمون.
كان المشركون يسمعون المؤمنين، وهم يعلقون الأفعال بمشيئة الله فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، لأعطى فلانا، ولو شاء الله لكان كذا وكذا فأخرج المشركون هذا الجواب أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمر بمشيئته تعالى.
كانوا يفهمون لسوء رأيهم: إنه إذا كان الله هو الرازق فهو قادر أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق؟! وهذه حجة واهية، ورأى مأفون فالله قد ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [سورة الليل الآيات ٥- ١٠].
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟! كان الكفرة يستبعدون قيام الساعة، وتحقق الوعد للمؤمنين والوعيد للكفار والمشركين!! واسمع الجواب من جهته سبحانه وتعالى: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة هي النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض، وهل هم ينتظرون ذلك؟ لا ينتظرون بل هم مكذبون، ولكن لما كان لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها، هذه الصيحة تأخذهم فيهلكون بعدها فورا، وهم يتخاصمون ويتنازعون في أمور دنياهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف ٩٥] فالناس عندها لا يستطيعون وصية في أمر من أمورهم إلى أهليهم، ولا هم يستطيعون الرجوع لهم بل تبغتهم على حين غفلة منهم.
ونفخ في الصور نفخة ثانية فإذا هم قيام من قبورهم، خارجون منها بسرعة إلى ربهم ليوفيهم حسابهم، وكان ذلك على الله يسيرا.
وماذا كان قولهم؟ في ابتداء بعثهم من القبور: يا هلاكنا احضر فهذا أوانك، أو يا قومنا انظروا وويلنا وهلاكنا وتعجبوا منه.
من بعثنا من مرقدنا؟ والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما، ولم يدركوا عذاب القبر فاستفهموا عن موقظهم، ولكنهم أجيبوا من الله على طريقة الأسلوب الحكيم: لا تسألوا عن الباعث والموقظ فلستم نياما وليس الباعث يهمكم وإنما الذي يهمكم حقا أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال؟ وما هذا الموقف الرهيب؟! والجواب إذا: هذا الذي وعدكم به الرحمن وقد صدق المرسلون فيما قالوا عنه.
وما كانت الفعلة التي حكيت قبل وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ إلا صيحة واحدة لا أكثر ولا أقل، وهي نفخ إسرافيل في البوق،
وروى أنها قوله بصوت مرتفع: «أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور الممزقة إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء».
ما كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم مجموعون لدينا محضرون لفصل الحساب، فاليوم هو يوم الفصل ليس بالهزل، هو يوم القضاء العدل فلا تظلم نفس شيئا. ولا تجزون إلا بما كنتم تعملون وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء آية ٤٧].
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
المفردات:
فاكِهُونَ الفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ. ومنه الفاكهة، لأنها مما يتلذذ بها يَدَّعُونَ أصله: يدتعون، والمراد: يتمنون، وعليه قولهم: ادع على ما شئت، بمعنى تمن على بما شئت وَامْتازُوا: تميزوا وانفردوا أَلَمْ أَعْهَدْ: ألم أوص، والعهد: الوصية جِبِلًّا: جمع جبلة، والمراد خلقا كثيرا نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ: نمنعها من الكلام.
هذا يوم الفصل والقضاء العدل، فلا تظلم نفس شيئا، ولا تجزى إلا بأعمالها ويقال لهم زيادة في إيلامهم: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل عنكم بنعيمهم ومتاعهم فاكهون.
نعم إن أصحاب الجنة الذين هم يتمتعون بها في شغل، وأى شغل؟ إنه شغل من سعد بالجنة ونعيمها، وفاز بنيل ذلك النعيم المقيم والملك الكبير، وتمتع بما أعده الله للمصطفين من عباده الأبرار ثوابا لهم وإكراما، وجزاء لهم على ما كانوا يعملون، وما أدق وصفهم بقوله: فاكهون، أى: متنعمون ومتلذذون بما هم فيه، فحقّا إنهم لفي شغل عن النار وأصحاب النار، فيا ويلكم أيها المشركون من النار ومن عذابها!! وأزواجهم وهم في ظلال وارفة، على الأرائك والسرر متكئون، يسمرون ويتمتعون ويرزقون رزقا كريما، لهم فيها فاكهة كثيرة، ولهم ما يتمنون مما لا يقع تحت حصر، ومما لا عين رأته ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر.
تحيتهم سلام يقال لهم.. قولا من رب رحيم، وهذا السلام بواسطة الملائكة أو من الله مباشرة مبالغة في تعظيمهم، وزيادة في إكرامهم والحفاوة بهم.
هذا حال المؤمنين العاملين. نعيم مقيم في جنات الخلد مع التحية والإكرام. أما الفريق الثاني فيقال لهم: امتازوا وانفردوا عن المؤمنين أيها المجرمون، وكونوا على حدة، وحين يحشر الناس ويذهب بالمؤمنين إلى الجنة وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم ١٤- ١٦].
ثم يقال لهم تأنيبا وتوبيخا على ما مضى من أعمالهم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وعهد الله ببني آدم ما ركب فيهم من القوى العاقلة والفطرة السليمة التي تهتدى إلى الخير، وما أرسل إليهم من رسل مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى عبادة الرحمن، ويحذرونهم دائما من طاعة الشيطان، حذرنا الله بواسطة رسله من الشيطان فإنه لنا عدو مبين بين العداوة، وأمرنا بعبادته وحده والاستعانة به وحده فهو الله لا إله إلا هو.
هذا الدين هو الدين الحق وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه لأنه من رب العالمين.
ولقد أضل منكم الشيطان خلقا كبيرا، ووسوس لهم وزين لهم فعل السيئات حتى وقعوا في المعاصي والعذاب الشديد، أعميتم فلم تكونوا تعقلون؟ هذه جهنم- والإشارة لها لتميزها وظهور آثارها الشديدة- التي كنتم توعدون بها فتكذبون، ويقال لهم مع هذا: اصلوها وذوقوا حرها جزاء لكم بما كنتم تكفرون.
روى أنهم حين يقال لهم ذلك يجدون ما صدر عنهم في الدنيا فيخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهلهم وعشيرتهم فيحلفون أنهم ما كانوا مشركين ويقولون: لا نجيز علينا شاهدا إلا من أنفسنا، فيختم الله على أفواههم، ويقال لأعضائهم: انطقى فتنطق بما صدر منها، وهذا يفسر قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
ولعل سائلا يقول: ما السر في جعل الكلام لليد والشهادة للرجل؟ والجواب كما هو مذكور في كتاب الخازن: أن اليد تباشر والرجل تكون حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل.
فضل الله على الناس كبير [سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ الطمس: تغطية شق العين حتى تعود ممسوحة، والطميس والمطموس: الأعمى الذي ليس في عينه شق فَاسْتَبَقُوا: تسابقوا إلى الصراط وبادروا إليه فَأَنَّى: فكيف لَمَسَخْناهُمْ المسخ: تبدل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة نُعَمِّرْهُ: نطل عمره نُنَكِّسْهُ من التنكيس، مأخوذ من نكست الشيء أنكسه نكسا: قلبته على رأسه فانتكس.
المعنى:
الله- سبحانه وتعالى- صاحب النعم والفضل الكبير على الناس جميعا مسلمهم ومشركهم، ولو شاء إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد والسير في الطريق الواضحة المألوفة لهم لفعل، ولكنه فضلا منه وإحسانا أبقى عليهم نعمة البصر فحق الناس أن يشكروا ولا يكفروا.
ولو شاء ربك لمسح أعين الكفار، وأذهب أحداقهم وأبصارهم حتى لو أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا، فكيف يبصرون حينئذ؟! ولو شاء ربك لمسخ الكفار والعصاة قردة أو خنازير أو حجارة، ولو شاء لمسخهم مسخا يحل بهم في منازلهم فلا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا بإدبار وما استطاعوا ذهابا، ولا رجوعا، ولكنه لم يشأ ذلك جريا على سنن الرحمة وموجب الحكمة، فكان واجب أن يقابل ذلك بالشكر والعبودية لله، هذا نقاش للكفار وبيان لموقفهم، وقطع لأعذارهم، وبيان لفضل الله عليهم، وقد كانوا يقولون: لو امتد بنا الأجل، وطال العمر لفعلنا كذا وكذا. فيقول الله لهم: أعميتم فلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن وتقدمتم في العمر ضعفتم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً «١» وقد عمركم ربكم مقدارا يمكنكم فيه من العمل والتذكر أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «٢» على أن الواجب أن تعلموا أنه كلما مر الزمان بكم وطال عمركم ازداد ضعفكم فإنه من يطل عمره انتكس خلقه وبدل سمعه صمما وبصره عمى وقوته ضعفا، ولذلك يقول الله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ «٣»، وقد تعوذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن يرد إلى أرذل العمر..
(٢) - سورة فاطر آية ٣٧.
(٣) - سورة النحل آية ٧٠.
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
المفردات:
الشِّعْرَ: كلام موزون مقفى وَيَحِقَّ الْقَوْلُ: يثبت مالِكُونَ:
ضابطون وقاهرون وَذَلَّلْناها لَهُمْ: سخرناها لهم مُحْضَرُونَ: يدفعون عنهم ويغضبون لهم.
تقدم ما يتصل بالوحدانية في قوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ وما يتعلق بالحشر في قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وبقي الأصل الثالث وهو الرسالة يتكلم عنها هنا.
المعنى:
الشعر نوع من الكلام العربي له طابع خاص، ووزن خاص، وهو يعتمد على وحدة القافية، يعنى بالخيال الخصب، والتصوير الرائع والعاطفة المشبوبة، ولهذا لا يتحرى
أعذب الشعر أكذبه، وقبيل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ظهر التكسب بالشعر، وتعرض الشعراء للقول بالحق وبالباطل، وظهر بعد العصر الإسلامى الأول التكسب بالشعر، وصار صنعة يتحاشاها الأشراف لهذا وأشباهه لم يقل النبي الشعر، وما كان ينبغي له، وقد رمى الكفار القرآن بأنه شعر مرة، وأنه سحر مرة أخرى، أو هو من عمل الكهان.
وهنا يرد القرآن على المشركين هذه الدعوى الباطلة مثبتا أن الله لم يعلمه الشعر وما ينبغي له- لما قدمناه- والقرآن ليس شعرا، وإن كان أبلغ كلام وأعلاه، وكيف يكون شعرا مع أن للشعر طابعا خاصّا في وزنه ومعناه وأخيلته؟ وما القرآن إلا ذكر للعالمين، وموعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمتقين، هو جلاء القلوب، وعلاج الأرواح، أنزل على النبي المصطفى لينذر به من كان حيّا من الناس.
إنه لتعبير دقيق جدّا، وتصوير رائع، فإنه لا يهتدى به ولا يتعظ ولا يقبل إنذار القرآن إلا الأحياء، والأحياء في عقولهم وتفكيرهم وأرواحهم، أما الأموات فأنى يسمعون؟ وكيف يبصرون؟ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ «٢» وعند ذلك يحق القول الحق لأنه من الحق تبارك وتعالى، وتجب الحجة بالقرآن على الكافرين الذين لا يعقلون ولا يتدبرون، بل هم أموات لا يشعرون، وما لهم ينكرون كون القرآن من عند الله، أهم في شك من قدرته؟ أم هم في غفلة عن قوة إعجازه ودلالته على أنه من عند الله؟
ألم يعلموا خلقهم ولم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون فالله خلق الحيوانات وذللها فنحن متصرفون فيها مختصون بمنافعها. ضابطون لها مهما كان الإنسان صغيرا ومهما كان الحيوان ضخما كبيرا.
يصرفه الصبى بكل وجه | ويحبسه عن الخسف الغرير |
وتضربه الوليدة بالهراوى | فلا غير لديه ولا نكير |
(٢) - سورة الروم آية ٥٢.
إثبات البعث [سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
المفردات:
نُطْفَةٍ المراد: ذرة من المنى خَصِيمٌ: مجادل في الخصومة مَثَلًا
المعنى:
هذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث وإثباته بالدليل القاطع، بعد بيان بطلان إشراكهم بالله بالأدلة المشاهدة، ألم «١» يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم بين الخصومة؟ ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم مع كون العلم بذلك في غاية الظهور والوضوح، ورجوع الإنسان بنفسه إلى مبدأ خلقه، وإلى نشأته الأولى، وأنه خلق من ماء مهين من نطفة قذرة تخرج من مجرى البول، ومع ذلك يفاجئ بالخصومة والجدل للخالق الكبير المتعال، إن هذا لشيء عجيب تنكره العقول السليمة.
وقوله تعالى: (فإذا هو خصيم مبين) داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل: أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من أخس الأشياء وأحقرها ففاجأنا بالخصومة في أمر يشهد بصحة مبدأ خلقه شهادة بينة.
وروى أن بعض المشركين كأبى بن خلف والعاص بن وائل السهمي ذهبوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعهم عظام بالية قد رمت فقال أحدهم: يا محمد أترى أن الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ويبعثك الله ويدخلك النّار»
ونزلت هذه الآية وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أى: ونسى خلقنا إياه من نطفة من منى يمنى ثم صار ذا عقل وتفكير وإرادة.
عجبا لهذا الإنسان وإنكارا لقوله وضربه الأمثال، أى: إتيانه بقصة غريبة عجيبة تشبه في غرابتها المثل، وهي قوله: من يحيى العظام وهي رميم؟ أتعجب؟ قل لهم يا محمد: يحييها الذي أنشأها أول مرة فمن قدر على الإيجاد الأول من العدم قادر بلا شك على الإعادة بل هو أهون عليه، ولله المثل الأعلى، وهو بكل شيء عليم.
والله يضرب الأمثال لهم بأنه يجعل من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون. والمشاهد أن الرجل يأتى بشجر (السنط) وهو أخضر مورق فيوقد فيه النار فتلتهب. وصدق الله الذي جعل من الشجر الأخضر نارا. وهم يقولون: إن المشهور بذلك شجر المرخ والعفار. كان يتخذ من المرخ الزند الأعلى ومن العفار الزند الأسفل فإذا ما احتكا بشدة أوقدا نارا مع أنهما أخضران يقطران ماء.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أو ليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بقادر على أن يخلق مثل الإنسان في الصغر والضعف بالنسبة لهما؟
بلى- نعم- وهو جواب من الله تعالى يقرر قدرته على الخلق. وهو الخلاق كثير الخلق. العليم كثير العلم. ومن كان كذلك فلا عجب أن يخلق الإنسان وغيره، إنما أمره وشأنه إذا أراد إيجاد شيء أن يقول له: كن فهو يكون، وهل هناك لفظ (كن) ؟
ذهب إلى هذا السلف مفوضين أمره وحقيقته إلى علام الغيوب. وقال الجمهور من العلماء: ليس هناك لفظ (كن) وإنما المراد تمثيل لقدرة الله في مراده يأمر الأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة الحصول من غير امتناع ولا توقف، وإذا كان الأمر كذلك فسبحان الله الذي بيده الملك التام لكل شيء. وإليه وحده ترجع الخلائق.
وهذا تنزيه لله- سبحانه وتعالى- عما وصفوه إذ بيده الملك وهو القادر على كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، فاعبدوه وقدسوه ووحدوه سبحانه وتعالى عما يشركون.