ﰡ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)ْتنشق يوم القيامة بالغمام، وجواب (إذا) يدل عليه: (فَمُلاَقِيهِ)
المعنى إذا كان يوم القيامة لقي الِإنْسَانُ عَمَلَهُ.
* * *
ومعنى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢)
أي سمعت، يقال: أذنت للشيء آذن إذَا سَمِعتَ
قال الشاعِرُ:
صُمٌّ إِذا سَمِعوا خَيْراً ذُكِرْتُ به... وِإِنْ ذُكِرْتُ بسُوء عندهم أَذِنُوا
أي سمعوا.
ومعنى (وَحُقَّتْ) أي حق لها أنْ تَفْعَلَ (١).
* * *
(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)
أزيلت عَنْ هَيْئَتِهَا وَبُدِّلت.
* * *
(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)
أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ المَوْتَى والكُنُوز.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)
جاء في التفسير إنك عامِل لربك عَمَلاً فملاقيه.
وجاء أيضاً: سَاعٍ إلى
قوله: ﴿وَأَذِنَتْ﴾: عَطْفٌ على «انْشَقَّتْ»، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ، ومعنى «أَذِنَتْ»، أي: استمعَتْ أَمْرَه. يُقال: أَذِنْتُ لك، أي: استمَعْتُ كلامَك. وفي الحديث: «ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» وقال الشاعر:
٤٥٢١ صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به... وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا
وقال آخر:
٤٥٢٢ إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً... وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم:
٤٥٢٣ أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ...........................
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا.
قوله: ﴿وَحُقَّتْ﴾ الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى، أي: حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك، أي: بسَمْعِه وطاعتِه. يُقال: هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به، والمعنى: وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
والكدح في اللغة السعْيُ [والدأب] في العَمَلِ في باب
الدنيا وباب الآخرة، قال تميم بن مقبل:
وما الدَّهرُ إِلا تارَتانِ فمنهما... أَموتُ وأُخْرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ
أي وَتَارة أسعى في طلبه العيش وأدْأبُ، وقيلإ فملاقيه @فملاقٍ رَبًكَ.
وقيل فَمُلَاقٍ عَمَلكَ.
* * *
وقوله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩)
رَوينَا عن النبي - ﷺ - أن ذلك العرض على اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأَنَّه مَنْ نوقش الحساب عُذِّبَ.
وَرَوينَا أيضاً أنه مَن نوقش الحسابَ هَلَكَ.
* * *
وقوله: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)
أي يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله من وقع في هلكة أي من
أوتي كتابه وراء ظهره، ودليل ذلك علَى أَنهُ من المُعذبِينَ قوله:
(وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)
وقرئت (وَيَصْلَّى سَعِيرًا)، أي يكثر عذابه.
* * *
وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣)
يعني في الدنْيَا.
* * *
فأمَّا (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا)
فمن صفة المؤمن، وينقلب إلى أهله في الجنانِ التي أعَدَّهن اللَّه لأوليائه.
* * *
وقوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤)
اللغة - أن يرجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥)
قبلَ أَن يخلقه، عالماً بأن مرجعه إليه - عَزَّ وَجَلَّ -
* * *
قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦)
معناه فأقسم وقد فسرنا ذلك.
والشفَق الحمرة التي ترى في الأفق في المغرب بعد سقوط الشمس.
وقيل الشفق النَّهارُ (١).
* * *
(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)
معنى وَسَقَ جَمَعَ وَضم.
قَال الشاعِر.
مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا
* * *
(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)
اجتمع واستوى ليلة ثلاثَ عَشْرَةَ وأربَعَة عشرة.
* * *
(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)
(لَيَرْكَبُنَّ)
أي حالًا بعد حال حتى يصير إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، من إحياء وَأمامَةٍ
وَبَعْثٍ.
وقُرِئَتْ: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ).
أي لَتَرْكَبَنَّ يا محمد طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ
من أطباق السماء (٢).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣)
قوله: ﴿بالشفق﴾: قال الراغب: «الشَّفَقُ: اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس. والإِشفاقُ: عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه، ويَخاف ما يلحقُه، فإذا عُدِّيَ ب» مِنْ «فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ، وإذا عُدِّي ب» على «فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ». وقال الزمخشري: «الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه. سُمِّي شَفَقاً لرِقَّته، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان: رِقَّةُ القلبِ عليه». انتهى. والشَّفَقُ شفقان: الشَّفَقُ الأحمر، والآخر الأبيضُ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ. قال الشاعر:
٤٥٢٧ تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا... والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾: هذا جوابُ القسم. وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع. وتقدَّم تصريفُ مثلِه. فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها: إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله: ﴿ياأيها الإنسان﴾ [الانشقاق: ٦]، وإمَّا خطابُ غيرِه. وقيل: هو خطابٌ للرسول، أي: لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم. وقيل: التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء، أي: لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال: تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ. وهذا قولُ ابنِ مسعود. والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ.
وقرأ عمر «لَيَرْكَبُنَّ» بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار. وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء، أي: لَيركبَنَّ الإِنسانُ. وقيل: ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار. وقرأ عبد الله وابن عباس «لَتِرْكَبنَّ» بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة. وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس، أي: لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ.
قوله: ﴿طَبَقاً﴾ مفعولٌ به، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه. والطَّبَقُ: قال الزمخشري: «ما طابَقَ غيرَه. يُقال: ما هذا بطَبَقٍ لذا، أي: لا يطابقُه. ومنه قيل للغِطاء: الطَّبَقُ. وأطباق الثرى: ما تَطابَقَ منه، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها: طَبَقٌ. ومنه قولُه تعالى: ﴿طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾، أي: حالاً بعد حال، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ. ويجوز أنْ يكونَ جمعَ» طبقة «وهي المرتبةُ، مِنْ قولهم: هم على طبقاتٍ، ومنه» طبَقات الظهر «لفِقارِه، الواحدةُ طبَقَة، على معنى: لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة، بعضُها أرفعُ من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة» انتهى. وقيل: المعنى: لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ. ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام:
٤٥٣٠ وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ... أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ... إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد: بدا عالَمٌ آخرُ: فعلى هذا التفسير يكون «طبقاً» حالاً لا مفعولاً به. كأنه قيل: متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة. وأمَّا قولُ الأقرعِ:
٤٥٣١ إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه... وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
فيحتملُ الأمرين، أي: ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين، ويكون نصبُ «طَبَقاً» على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف، أو الحال، أي: منتقلاً. والطَّبَقُ أيضاً: ما طابقَ الشيءَ، أي: ساواه، ومنه دَلالةُ المطابقةِ. وقال امرؤ القيس:
٤٥٣٢ دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ... طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله: ﴿عَن طَبقٍ﴾ في «عن» وجهان، أحدُهما: أنها على بابها، والثاني: أنها بمعنى «بَعْدَ».
وفي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال «تَرْكَبُنَّ». والثاني: أنَّها صفةٌ ل «طَبقا». قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما محلُّ» عن طبَق «؟ قلت: النصبُ على أنُّه صفةٌ ل» طبقا «، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حالٌ من الضمير في» لتركبُنَّ «، أي: لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة».
وقال أبو البقاء: «وعن بمعنى بَعْدَ. والصحيح أنها على بابِها، وهي صفةٌ، أي: طبقاً حاصلاً عن طَبق، أي: حالاً عن حال. وقيل: جيلاً عن جيل» انتهى. يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ «طَبَقاً» مفعولاً به بل حالاً، كما تقدَّم، لكنه لم يَذْكُرْ في «طبقاً» غيرَ المفعولِ به. وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى، إذ يصير التقديرُ: لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ، أي: لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
العلمَ.
* * *
وقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤)
المعنى اجعل بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة والرضوان، للكفار
العذاب الأليم.
* * *
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
لا يمنُّ عليهم، قال أهل اللغة: غير ممنون غير مقطوع، يقال منيت
الحبل إذَا قطعته.