تفسير سورة الإنشقاق

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة الانشقاق مكية، وهي ثلاث أو خمس وعشرون آية ومائة وسبع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي شقق الأرض بالنبات ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ جوده أهل الأرض والسماوات ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل طاعته بالجنات.

وقوله تعالى :﴿ إذا السماء ﴾ أي : على ما لها من الأحكام والعظمة ﴿ انشقت ﴾ كقوله تعالى :﴿ إذا الشمس كوّرت ﴾ [ التكوير : ١ ] في إضمار الفعل وعدمه، وفي إذا هذه احتمالان : أحدهما : أن تكون شرطية، والثاني : أن تكون غير شرطية. فعلى الأوّل في جوابها أوجه : أحدها : أنه محذوف ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله تعالى :﴿ علمت نفس ﴾ [ الانفطار : ٥، وسورة التكوير : ١٤ ]
والثاني : جوابها ما دل عليه ﴿ فملاقيه ﴾ الثالث : أنه ﴿ يا أيها الإنسان ﴾ على حذف الفاء وعلى كونها غير شرطية فهي مبتدأ، وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة، تقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي : يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش. وقيل : إنه منصوب مفعولاً به بإضمار اذكر انشقاقها بالغمام، وهو من علامات القيامة كقوله تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] وعن عليّ تنشق من المجرّة. قال ابن الأثير : المجرّة هي البياض المعترض في السماء والسراب من جانبها.
﴿ وأذنت ﴾ أي : سمعت وأطاعت في الانشقاق ﴿ لربها ﴾ أي : لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي ورد عليه الأمر من جهة المطاع، فأنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله :﴿ أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١٠ ] ﴿ وحقت ﴾ أي : حق لها أن تسمع وتطيع بأن تنقاد ولا تمتنع. يقال : حق بكذا فهو محقوق وحقيق.
﴿ وإذا الأرض ﴾ أي : على ما لها من الصلابة ﴿ مدّت ﴾ أي : زيد في سعتها كمدّ الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل، كما قال تعالى :﴿ قاعاً صفصفاً ١٠٦ لا ترى فيها عوجاً ولا أمّتا ﴾ [ طه : ١٠٦ ١٠٧ ] وعن ابن عباس مدّت مدّ الأديم العكاظيّ لأنّ الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى.
﴿ وألقت ﴾ أي : أخرجت ﴿ ما فيها ﴾ من الكنوز والموتى كقوله تعالى :﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾ [ الزلزلة : ٢١ ]. ﴿ وتخلت ﴾ أي : خلت منها حتى لم يبق في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدّة، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنّ الله تعالى هو المخرج لتلك الأشياء من الأرض.
وقوله تعالى :﴿ وأذنت لربها وحقت ﴾ تقدّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار لأنّ الأول في السماء وهذا في الأرض، وتقدّم جواب إذا. ومن جملة ما قيل فيه : وما عطف عليه أنه محذوف دل عليه ما بعده، تقديره : لقي الإنسان عمله وذلك كله يوم القيامة.
واختلف في الإنسان في قوله تعالى :﴿ يا أيها الإنسان ﴾ أي : الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه ﴿ إنك كادح ﴾ فقيل : المراد جنس الإنسان كقولك : يا أيها الرجل، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال : وهو أبلغ من العموم ؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل : المراد منه رجل بعينه، فقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى : إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال ابن عباس : هو أبيّ بن خلف وكدحه هو جدّه واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر. والكدح : جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه.
ومعنى كادح ﴿ إلى ربك ﴾ أي : جاهد إلى لقائه وهو الموت، أي : هذا الكدح يستمرّ إلى هذا الزمن وقال القفال : تقديره إنك كادح في دنياك. ﴿ كدحاً ﴾ تصير إلى ربك. وقوله تعالى :﴿ فملاقيه ﴾ يجوز أن يكون عطفاً على كادح، والسبب فيه ظاهر، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : فأنت ملاقيه، وقيل : جواب إذا، والضمير في ملاقيه إمّا للرب أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه، وإمّا للكدح إلا أنّ الكدح عمل وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد جزاء كدحك من خير أو شرّ. وقال الرازي : المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويؤكد هذا قوله تعالى بعده :﴿ فأمّا من أوتي كتابه بيمينه ﴾.
﴿ فأمّا من أوتي كتابه ﴾ أي : كتاب عمله الذي كتبته الملائكة. ﴿ بيمينه ﴾ أي : من أمامه وهو المؤمن المطيع.
﴿ فسوف يحاسب ﴾ أي : يقع حسابه بوعد لا خلف فيه، وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر. ﴿ حساباً يسيراً ﴾ هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه :«من نوقش الحساب هلك » وفي رواية :«من حوسب عذب ». وقالت عائشة :«أليس يقول الله تعالى :﴿ فسوف يحاسب حساباً يسيراً ﴾ فقال : إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب »وإنما حوسب حساباً سهلاً لأنه كان يحاسب نفسه فلا تقع له المخالفة إلا ذهولاً، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفى عن سيئها.
﴿ وينقلب ﴾ أي : يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول ﴿ إلى أهله ﴾ أي : الذين أهله بهم في الجنة من الحور العين والآدميات والذريات إذا كانوا مؤمنين ﴿ مسروراً ﴾ أي : قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله يحاسب نفسه حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش.
﴿ وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره ﴾ وهو الكافر تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.
﴿ فسوف يدعو ﴾ أي : بوعد لا خلف في وقوعه ﴿ ثبوراً ﴾ يقول : يا ثبوراه، والثبور : الهلاك، كقوله تعالى :﴿ دعوا هنالك ثبوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ].
﴿ ويصلى سعيراً ﴾ أي : يدخل النار الشديدة. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وإذا فتح ورش غلظ اللام، وإذا أمال رقق والباقون بالفتح.
﴿ إنه كان ﴾ أي : بما هو له كالجبلة ﴿ في أهله ﴾ أي : عشيرته في الدنيا ﴿ مسروراً ﴾ قال القفال : أي : منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله تعالى، ولا يرجوه فأبدله الله تعالى بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل : إنّ قوله تعالى :﴿ إنه كان في أهله مسروراً ﴾ كقوله تعالى :﴿ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين ﴾ [ المطففين : ٣١ ] أي : متنعمين في الدنيا معجبين بما هم عليه من الكفر بالله تعالى والتكذيب بالبعث، ويضحكون ممن آمن بالله تعالى، وصدّق بالحساب كما قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ».
﴿ إنه ظنّ ﴾ أي : لضعف نظره ﴿ أن ﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : أنه ﴿ لن يحور ﴾ أي : لن يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد. يقال : لا يحور ولا يحول، أي : لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حوري، أي : ارجعي.
وقوله تعالى :﴿ بلى ﴾ إيجاب لما بعد النفي في لن يحور، أي : بلى ليحورنّ. ﴿ إنّ ربه ﴾ أي : الذي ابتدأ إنشاؤه ورباه ﴿ كان ﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿ به بصيراً ﴾ أي : من يوم خلقه إلى يوم بعثه، أو بأعماله لا ينساها. وقال عطاء : بصيراً بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة.
واختلفوا في الشفق في قوله تعالى :﴿ فلا أقسم بالشفق ﴾ فقال مجاهد : هو النهار كله. وقال عكرمة : ما بقي من النهار. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وقال قوم : هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة.
تنبيه : سمي بذلك لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان رقة القلب عليه واللام في لا أقسم مزيدة للتأكيد.
﴿ والليل ﴾ أي : الذي يغلبه ويذهبه ﴿ وما وسق ﴾ أي : ما جمع وضم يقال وسقه فاتسق واستوسق قال الشاعر :
مستوسقات لو يجدن سائقاً ***
ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع، ومعناه : وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها.
﴿ والقمر ﴾ أي : الذي هو آيته ﴿ إذا اتسق ﴾ أي : إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. وقال قتادة : استدار وهو افتعل من الوسق.
تنبيه : قد اختلف العلماء في القسم بهذه الأشياء هل هو قسم بها أو بخالقها ؟ فذهب المتكلمون. إلى أنّ القسم واقع بربها وإن كان محذوفاً ؛ لأنّ ذلك معلوم من حيث ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى أو بصفة من صفاته، وقد مرّ أنّ ذلك يكره في حق الإنسان، فإنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وجواب القسم.
﴿ لتركبنّ ﴾ أي : أيها الناس، أصله تركبون حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان، والباقون بضمها على خطاب الجمع، وهو معنى الإنسان إذ المراد به الجنس أي : لتركبنّ أيها الإنسان ﴿ طبقاً ﴾ مجاوزاً ﴿ عن طبق ﴾ أي : حالاً بعد حال. قال عكرمة : رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. وعن ابن عباس : الموت ثم البعث ثم العرض. وعن عطاء : مرّة فقيراً ومرّة غنياً. وقال أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ! ».
وقوله تعالى :﴿ فما لهم ﴾ أي : الكفار ﴿ لا يؤمنون ﴾ استفهام إنكار، أي : أيّ مانع لهم من الإيمان، أو أي حجة في تركه بعد وجود براهينه.
﴿ و ﴾ ما لهم ﴿ إذا قرئ ﴾ أي : من أي : قارئ قراءة مشروعة ﴿ عليهم القرآن ﴾ أي : الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس ﴿ لا يسجدون ﴾ أي : لا يخضعون بأن يؤمنوا به لإعجازه، أو لا يصلون، قاله مقاتل، أو لا يسجدون لتلاوته لما روى أنه صلى الله عليه وسلم «قرأ ﴿ واسجد واقترب ﴾ [ العلق : ١٩ ] فسجد ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق رؤوسهم فنزلت ». وعن أبي هريرة قال :«سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ و﴿ إذا السماء انشقت ﴾ ». وعن نافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ فسجد فقلت : ما هذه ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وليس في ذلك دلالة على وجوبها فهي مندوبة. وعن الحسن : هي واجبة. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجود بأنه تعالى ذمّ من سمعه ولم يسجد. وعن ابن عباس : ليس في المفصل سجدة، وما روى أبو هريرة يخالفه. وعن أنس : صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا.
﴿ بل الذين كفروا يكذبون ﴾ أي : بالقرآن والبعث.
﴿ والله أعلم بما يوعون ﴾ أي : بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء، ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.
وقوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ أي : مؤلم استهزاء بهم، أو أنّ البشارة بمعنى الإخبار، أي : أخبرهم.
وقوله تعالى :﴿ إلا ﴾ استثناء منقطع، أي : لكن ﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ تحقيقاً لإيمانهم ﴿ لهم أجر غير ممنون ﴾ أي : غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون به عليهم.
Icon