تفسير سورة الزخرف

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الزُّخرُف
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)
قد فسرنا معنى (حم)، ومعنى (الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، الذي أبان طرقَ
الهدى من طرق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمَّةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)
معناه إِنا بيَّنَّاه قرآنا عربياً.
* * *
وقوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
(أم الكتاب) أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمُّه، والقرآن مثبت عند اللَّهِ
في اللوح المحفوظ، والدليل على ذلك قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢).
* * *
وقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥)
ويقرأ (إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) (١) فمن فتحها فالمعنى أفنضرب عنكم الذكر
صفحاً لأن كنتم، ومن كسرها فعلى معنى الاستقبال، على معنى إن تكونوا
مسرفين نضرب عنكم الذكر، ويقال: ضربت عنه الذكر وأضربت عنه الذكر.
والمعنى أفنضرب عنكم ذِكْر العذاب والعذابَ بأن أسرفتم.
والدليل على أن
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿صَفْحاً﴾: فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال: ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه، بمعنى أعرض عنه، وصَرَف وجهَه عنه. قال:
٣٩٨١ اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها... ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ
والتقديرُ: أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي: أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي: صافِحين. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، فيكونَ عاملُه محذوفاً، نحو: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] قاله ابنُ عطية. الرابع: أن يكونَ مفعولاً من أجله. الخامس: أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف. قال الزمخشري: «وصَفْحاً على وجهَيْن: إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى: أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم. وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم: نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه. وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى: أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً، فينتصبُ على الظرف نحو: ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً. وتَعْضُدُه قراءةُ» صُفْحاً «بالضم». قلت: يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا «صُفْحاً» بضم الصاد. وفيها احتمالان، أحدهما: ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً. وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد. والثاني: أنه جمعُ صَفُوح نحو: صَبور وصُبُر. فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب. وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي: أنُهمِلُكم فَنَضْرِب. وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ.
قوله: «أنْ كُنتم» قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ، وإسرافُهم كان متحققاً، و «إنْ» إنما تدخلُ على غير المتحقِّق، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ. وأجاب الزمخشريُّ: «أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه، كقول الأجير:» إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي «وهو عالمٌ بذلك، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له». وقيل: المعنى على المجازاةِ والمعنى: أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي: إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقولِه: «وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب». والباقون بالفتحِ على العلَّة أي: لأَنْ كنتم، كقول الشاعر:
٣٩٨٢ أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ..........
ومثله:
٣٩٨٣ أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا............
يُرْوَى بالكسر والفتح، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة، وقرأ زيد بن علي «إذ» بذالٍ عوضَ النونِ، وفيها معنى العلَّة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
المعنى هذا وأنه ذِكْرُ العذابِ قوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨).
أي مضْت سنتهم، ويكون (أفنضرب عنكم الذِكر) أي نهملكم فلا
نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم، ومثله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦).
* * *
وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا):
طرقاً.
* * *
وقوله: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢)
معناه خلق الأصناف كلها، تقول عندي من كلِّ زوج أي من كلِّ صنف.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ).
أي خلق لكم وسخرها لكم:
(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ).
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
أي تحمدون اللَّه وتعظمونه، فيقول القائل إذا ركب السفينة: بسم اللَّه
مجراها ومرساها، ويقول إذا ركب الدابة: الحمد للَّهِ سبحان الذي سخر لنا
هذا وما كنا له مقرنين، أي مطيقين، واشتقاته من قولك: أنا لفلان مقرن أي مطيق، أي قد صرت قرناً له.
* * *
(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
أي نحن مقرُّون بالبعث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)
يعنى به الذين جعلوا الملائكة بنات اللَّه، وقد أنشدني بعض أهل
اللغة بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناثِ ولا أدري البيْتَ، قديم أم
مَصْنُوع، أنشدني:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْماً فلا عَجَبٌ... قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا
أي إن " أنثت، ولدت أنثى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
ويقرأ (يَنْشَأ)، وموضع " مَن " نَصْبٌ.
المعنى أجَعَلُوا من يُنَشَّأُ في الحلية - يعني البنات - للَّهِ (١).
(وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
يعنى البنات، أي الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تبين.
وقد قيل في التفسير إن المرأة لا تكاد تحتج بحجة إلا عليها.
وقد قيل إنَّه يعني به الأصنام.
والأجود أن يكون يعني به المؤنث.
* * *
وقوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (١٩)
الجَعْلُ ههنا في معنى القول والحكم على الشيء. تقول: قدْ جَعَلْتُ
زيداً أعلم الناس، أي قد وصفته بذلك وحكمت به.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ).
وتقرأ سنَكْتُبُ، ويجوز سيَكْتُب، المعنى سيكتب اللَّه شَهادَتُهم ولا نعْلَمُ
أَحَداً قرأ بها. والقراءةْ بالتاء والنون (٢).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ﴾: يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي: أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية. والثاني: أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ، تقديره: أو من يُنَشَّأ جزءٌ أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً. وقرأ العامَّةُ «يَنْشَأ» بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه. والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي: يُرَبَّى. وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ، أَخَذَه مِنْ أنشأه. والحسن «يُناشَأُ» ك يُقاتَل مبنياً للمفعول. والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء.
قوله: ﴿وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾ الجملةُ حال. و «في الخصام» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده. تقديره: وهو لا يَبين في الخصام. ويجوز أَنْ يتعلَّق ب «مُبين» وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن «غيرَ» بمعنى «لا». وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿عِبَادُ الرحمن﴾: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» ظرفاً. والباقون «عبادَ» جمع عَبْد، والرسمُ يحتملهما. وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ «عبادَ» على إضمارِ فعلٍ: الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه. وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه «الملائكةَ عبادَ الرحمن». وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد. و «إناثاً» هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي. وقرأ زيدُ بنُ علي «أُنُثا» جمعَ الجمع.
قوله: «أشَهِدُوا» قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ. وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ، يعني بعدمِ الألف. والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [فعلاً] رباعياً مبنيَّاً للمفعول، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما، وتارة لم يُدْخِلْها، اكتفاءً بتسهيل الثانية، وهي أوجهُ. والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على «شهدوا» ثلاثياً، والشهادةُ هنا الحضورُ. ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب.
وقرأ الزهريُّ «أُشْهِدُوا» رباعياً مبنياً للمفعول. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى، كما تقدَّم في قراءةِ «أعجميٌّ». والثاني: أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل «إناثاً» أي: أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟
قوله: «سَتُكْتَبُ شهادتُهم» قرأ العامَّةُ «سَتُكْتَبُ» بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول، «شهادتُهم» بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل. وقرأ الحسن «شهاداتُهم» بالجمع، والزهري: «سَيَكتب» بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة. وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ «سنكتبُ» بالنون للعظمة، «شهادتَهم» بالنصب مفعولاً به.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠)
المعنى ما لهم بقولهم إنَّ الملائكة بنات اللَّه من علم، ولا بجميع ما
تخرصوا به.
* * *
وقوله: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)
أي أم هل قالوا عن كتابٍ، المعنى أشهدوا خلقهم أم آتيناهم بكتاب
بما قالوه من عبادتهم ما يعبدون من دون اللَّه، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن
فِعلَهم اتباع ضلالة آبائهم فقال: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
ويقرأ " عَلَى إِمَّةٍ " بالكسرِ، فالمعنى على طريقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
أي قد قال لك هَؤلاء كما قال أمثالهم للرسل مِنْ قَبْلكَ.
وقوله: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
معناه نقتدي بهم، ويصلح أن يكون خبراً لإنا مهتدون، و (على) من صلة
مهتدين، وكذلك مقتدون، فيكون المعنى وإنهم مهتدون على آثارهم، وكذلك يكون المعنى مقتدون على آثارهم، ويصلح أن يكون خبراً بعد خبر، فيكون (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ) الخبر ويكون (مُهْتَدُونَ) خبراً ثانياً، وكذلك (مُقْتَدُونَ).
* * *
وقوله: - عزَّ وجلَّ - (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤)
المعنى فيه قل أَتَتبعُون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جِئْتُكُمْ بِأهدى منه.
* * *
وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
(بَرَاءٌ) بمعنى بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ، والعرب تقول للواحد منها أنا البراء
منك، وكذلك الاثنان والجماعة والذكر والأنثى يقولون نحن البراء منك
والخلاء منك، ولا يقولون: نحن البراءان منك ولا البراءونَ.
وإنما المعنى إنا ذوو البراء منك ونحن ذوو البراء منك كما تقول رجل عدل وامرأة عَدْل وَقَوْمٌ عَدْلٌ، والمعنى ذوو عدل وذوات عدل (١).
* * *
وقوله: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
المعنى إنا نتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزَّ وجلَّ، ويجوز أن يكون " إلا "
بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين (٢).
* * *
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
يعني بها كلمة التوحيد وهي لا إله إلا اللَّه باقية في عقب إبراهيم، لا
يزال من ولده من يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
المعنى على رجل من رَجُلَي القريتين عظيم، والرجُلَانِ أحدهما الوليد
ابن المغيرة المخزومي من أهلَ مكة، والآخر حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي
من أهل الطائف، والقريتان ههنا مكة والطائف.
ويجوز " لَوْلَا نَزَّلَ " أي لولا نَزَّلَ اللَّه هذا القرآن، ويجوز لوْلاَ نَزَلَ هذا القرآن.
ومعنى لولا هلَّا ولم يُقْرَأْ بهاتين الأخْرَيَين، إنما القراءة (نُزِّلَ).
و (هذا) في موضع رفع، والقرآن ههنا مُبَيِّنٌ عن هذا ويسميه سيبويه عطف البيان، لأن لفظه لفظ الصفة، ومما يبين أنه عطف البيان قولك مررت بهذا الرجل وبهذه الدار، و (هَذَا الْقُرْآنُ) إنما يذكر بعد هذا اسما يبين بها اسم الإشارة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿بَرَآءٌ﴾: العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد الراء. وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى «براء» ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب. والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام. يقال: طَويل وطُوال وبَريء وبُراء. وقرأ الأعمش «إنِّي» بنونٍ واحدة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾: فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه.
الثالث: أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ «ما» الموصولة في قولِه: «ممَّا تعبدُون» قاله الزمخشريُّ. ورَدَّه الشيخ: بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال: «وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ». قلت: قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى: ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ﴾ [التوبة: ٣٢] ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ [البقرة: ٤٥] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب، ولكن لَمَّا كان «يأبى» بمعنى: لا يفعلُ، وإنها لكبيرة بمعنى: لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك، فهذا مثلُه.
الرابع: أَنْ تكونَ «إلاَّ» صفةً بمعنى «غير» على أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ: «وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ» إلاَّ «بمعنى» غير «لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة» وفيها خلافٌ. فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً و «إلاَّ» بمعنى «غير» صفةً لها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي قولهم: لِمَ لَمْ ينَزلْ هذا القرآن على غير محمد عليه السلام
اعتراض منهم، وليس تفضل اللَّه عزَّ وجلَّ يقسمه غيره.
ولما أتى النبي - ﷺ - بالرسالة قالت العرب - أو أكثرها -: كيف لم يرسل اللَّه مَلَكاً وكيف أرسل اللَّه بَشراً، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى).
وقال: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ).
فلما سمعوا أن الرسالة كانت في رجال من أهل القرى قالوا:
" لَوْلَا نُزِل على أحَدِ هذين الرجلين ".
وقال - عزَّ وجلَّ -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
قَكَما فَضلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض في الرزق وفي المنزلة، كذلك
اصطفينا للرسالة من نشاء.
وقوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا).
و (سُخْرِيًّا)
أي ليستعمل بعضهم بَعْضاً، ويستخدم بعضُهم بعضاً.
وقيل (سِخْرِيًّا) أي، يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً.
ثم أعلم - عزَّ وجلَّ - أن الآخرة أحَظُّ من الدنيا فقال:
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
وأعلمَ قِلَّةَ الدنيا عنده عزَّ وجلَّ فقال:
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣)
ويقرأ سَقْفاً مِنْ فِضةٍ، ويجوز سُقْفاً بسكون القاف وَضَم السين، فمن
قال سُقُفاً وَسُقْفاً فهو جمع سَقْف كما قيل رَهْن وَرُهُنٌ وَرُهْن، ومن قال سَقْفاً
ْفهو واحد يَدُلُّ على الجمع المعنى جعلنا لبيت كلِ واحد منهم سقفاَ من فضة.
وقوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ).
(معارج) دَرَج واحدها مَعْرج.
المعنى وجعلنا معارج من فِضةٍ، وكذلك:
(أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤)
أي أَبْواباً من فضةٍ وسُرُراً من فِضةٍ.
(وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
(وَزُخْرُفًا).
الزخرف - جاء في التفسير أنه ههنا الذهَبُ، إلا زيد بن أسلم فإنه
قال: هو متاع البيت، والزخرف في اللغة الزينة وكمال الشيء فيها، ودليل
ذلك قوله: (حتى إذَا أَخَذتِ الأرْضُ زُخْرُفَها) أي كمالها وَتَمامَها.
(وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ).
معناه وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنْيَا، ويقرأ لَمَا متاع
و" ما " ههنا لَغْوٌ، المعنى لَمَتاعُ (١).
* * *
وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
أي: لَوْلاَ أن تميل بهم الدنيا فيصيرَ الخلق كفاراً لأعطى اللَّه الكافر في
الدنيا غاية ما يتمنى فيها لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُ، ولكنه - عزَّ وجلَّ - لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلقِ حبُّ العَاجِلَة.
* * *
وقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)
ويقرأ (وَمَنْ يَعْشَ) بفتح الشين من عَشِيَ يَعْشَى، أي من يَعْمَ عن ذكر الرْحْمنِ.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَزُخْرُفاً﴾: يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي: وجَعَلْنا لهم زخرفا. وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ «مِنْ فضة» كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي: بعضُها كذا، وبعضها كذا.
وقد تقدَّم الخلافُ في «لَمَّا» تخفيفاً وتشديداً في سورة هود، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ «لِما» بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على «ما» الموصولة وحُذِفَ عائدُها، وإنْ لم تَطُل الصلةُ. والأصل: الذي هو متاعٌ كقولِه: ﴿تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] برفع النون. و «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجارُّ بعده خبرُه أي: وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله:
٣٩٩٢ أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ... وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا).
نسبب له شيطاناً، يجعل اللَّه له ذَلِكَ جزاءه (١).
* * *
وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
أي الشياظين تصدهم عن السبيل، ويحسب الكفار أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لِمَنْ يَكْفُر بالرحْمنِ لبُيُوتِهِم)
يصلح أن يكونَ بدلاً من قوله (لمن يكفر بالرحمن)، ويكون المعنى
لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن، ويصلح أن يكون لبُيوتهِمْ على معنى لجعلنا
لمن يكفر بالرحمن على بُيُوتهم.
* * *
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
ويقرأ (جَاءَانَا) فمن قرأ (جَاءَانَا) فالمعنى حتى إذَا جَاءَ الكَافِرُ وشيطاته.
ومن قرأ (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) فعلى الكافر وحده.
(قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).
معنى (الْمَشْرِقَيْنِ) ههنا بعد المشرق والمغرب، فلما جعلا اثنين غلب لفظ
المشرق كما قال:
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر، وكما قالوا سنةُ العُمَريْن يراد سنةُ أبي بكر وعمر.
رحمةُ اللَّه عَلَيْهِمَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
المعنى لَنْ تَنْفَعَكُم الشرِكَةُ في العذاب، قال محمد بن يزيد في جواب
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَمَن يَعْشُ﴾: العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي: يتعامى ويتجاهل. وقتادة ويحيى بن سلام «يَعْشَ» بفتحها بمعنى يَعْمَ. وزيد بن علي «يَعْشو» بإثبات الواو. قال الزمخشري: «على أنّ» مَنْ «موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع». قال الشيخ: «ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين: إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب» مَنْ «الموصولة تشبيهاً لها ب» مَنْ «الشرطيةِ». قال: «وإذا كانوا قد جَزَموا ب» الذي «، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ. وأنشد:
٣٩٩٣ ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها... فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ
كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً... يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ
قال:»
وهو مذهبُ الكوفيين، وله وَجْهٌ من القياسِ: وهو أنَّ «الذي» أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً. إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه، وهذا لا ينقاسُ «.
ويقال: عَشا يَعْشُو، وعَشِي يَعْشَى. فبعضُهم جعلهما بمعنىً، وبعضُهم فَرَّقَ: بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي: تفاعَل ذلك. ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه، كما قالوا: عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان. قال الشاعر:
٣٩٩٤ أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ... حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ
أي: أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي. وقال آخر:
٣٩٩٥ متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
أي: تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ. وفَرَّق بعضُهم: بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل: وقال الفراء:»
عَشا يَعْشى يُعْرِض، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ «. إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال:» لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء: أَعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ «.
وقرأ العامَّةُ»
نُقَيِّضْ «بنونِ العظمةِ. وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما» يُقَيِّضْ «بالياء من تحت أي: يُقَيِّض الرحمنُ. و» شيطاناً «نصبٌ في القراءتين. وابن عباس» يُقَيَّضْ «مبنياً للمفعول،» شيطانٌ «بالرفع، قائمٌ مقامَ الفاعلِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
هذه الآية إنَّهمْ مُنِعُوا رَوْح التَّأَسِّي لأن التَّأَسِّي يُسَهِّلُ المصيبة، فأعلموا أن لَنْ
يَنْفَعَهم الاشْتراك في العَذاب وأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يجعل فيه أُسْوة.
قال وأنشدني في المعنى للخنساء:
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي... على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ... أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
(١)
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
دخل " ما " توكيداً للشرط والنون الثقيلة في قوله: (نَذْهَبَنَّ) دَخَلتْ أيضاً
توكيداً، وإذا دَخَلَتْ (ما) دخلت معها النون كما تَدْخُل مع لام القَسَم.
والمعنى إنا نَنْتَقِمُ مِنْهُم إنْ توفيتَ أو نريك ما وعدناهم وَوَعَدْنَاكَ فِيهِمْ من
النصْر، فقد أراه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما وعَدَهُ فيهِمْ وَوَعَدَهُمْ مِنْ إهْلَاكِهِمْ إن
كذبوا.
وقد قيل إنه كانت بعد رسول اللَّه - ﷺ - أشياء لم يُحْبِبِ اللَّه أنْ يُريَه إياها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤)
يريدُ أن القرآنَ شرفٌ لك ولقومك.
وقوله: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).
معناه سوف تسألون عن شِكر ما جعله اللَّه لكم من الشرف.
* * *
وقوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
في هذه المسألة ثلاثَةُ أَوْجُهٍ:
جاء في التفسير أن النبي - ﷺ - ليلة أسري به
جمع له الأنبياء في بيت المقدس فأَمَّهم وصلَّى بهم، وقيل له: سَلْهُمْ فلم
يشكك عليه السلام ولم يَسَلْ.
(١) قال السَّمين:
قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ. ووجهُه: أنَّ قولَه «اليومَ» ظرفٌ حالِيٌّ، و «إذ» ظرفٌ ماضٍ، و «يَنْفَعَكم» مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب «لن» التي لنفي المستقبلِ. والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ. فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك. قال تعالى: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآن﴾ [الجن: ٩] وقال الشاعر:
٣٩٩٧............................ سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها
وهو إقناعيٌّ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً. وأمَّا قولُه: «إذ» ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ. قال ابن جني: «راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه: أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه، ف» إذ «بدلٌ من» اليوم «حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال:» وإذْ بدلٌ من اليوم «وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى: إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين. ونظيرُه:
٣٩٩٨ إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ..........................
أي: تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ»
. وقال الشيخ: «ولا يجوزُ البدلُ ما دامت» إذ «على موضوعِها من المُضِيِّ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز». قلت: لم يُعْهَدْ في «إذ» أنها تكونُ لمطلقِ الزمان، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: بعد إذ ظَلَمْتُمْ.
الثالث: أنها للتعليلِ. وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام. الرابعُ: أنَّ العاملَ في «إذ» هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه. والتقدير: ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم. الخامس: أنَّ العاملَ في «إذ» ما دَلَّ عليه المعنى. كأنه قال: ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ. قاله الحوفي، ثم قال: «وفاعلُ» يَنْفَعَكم «الاشتراكُ» انتهى. فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ. ومنع أَنْ تكونَ «إذ» بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة. وفي كتاب أبي البقاء «وقيل: إذْ بمعنى» أَنْ «أي: أَنْ ظَلَمْتُم». ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر، ولكن قال الشيخ: «وقيل: إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى» أَنْ «يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه» أنْ «للتعليل مجازٌ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي: لأَنْ، فلمصاحبتِها لها، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها. ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ.
وقُرِئ»
إنكم «بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ. وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
ووجه ثانٍ وهو الذي أختاره، وهو أن المعْنَى سل أمَمَ من أَرْسَلْنَا من قبلك من رُسْلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟.
ويكون معنى السؤال ههنا على جهة التقرير كما قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فليس يَسْاَلُهمْ ههنا عَمنْ خَلَقَهُمْ إلا على جهةِ التقرير وكذلك إذا سال جميع أمم الأنبياء لم يأتوا بأن في كتبهِمْ أن اعبدوا غيرِي.
ووجه ثالث يكون المعنى في خطاب النبي - ﷺ - معناه مخاطبة الأمَّة، كأنَّه قال: واسألوا، والدليل على أن مخاطبة النبي - ﷺ - قد يدخل فيها خطاب الأمة
قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ).
* * *
وقوله: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)
إن قال قائل: كيف يقولون لموسى عليه السلام يَا أَيُّهَا الساحر وهم
يزعمون أنهم مهتدون؟
فالجواب أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالسحر، ومعنى بما عَهَدَ عنْدَك أي بما عهد عندك فيمَن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه.
الدليل على ذلك قوله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
(٥٠)
أي إذا هم ينقُضُون عَهْدَهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١)
" مصر " ههنا يعنى بها مدينة مصر المعروفة، فمصر مذكر سُمِّيَ بهِ مؤنث
لأن المدينة الغالب عليها التأنيث، وَقدْ يَجُوزُ مَلكُ مِصْر، يذهب به إلى أن
مصر اسم لبلد، وهذا فيه بُعْدٌ من قِبَلِ أن أكثر ما يستعمل البلد لما يضم مدناً
كبيرةً نحو بلاد الرُّوم وبلاد الشام وبلد خراسان.
ويجوز أن تصرف مصراً إذا جعلته اسماَ لبلد عند جميع النحويين من البصريين (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢)
قال سيبويه والخليلْ عطف " أَنَا " بـ (أَمْ) على قوله (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)
لأنَّ معنى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) معناه أمْ تُبْصِرُونَ، كأنَّه قال: " أَفَلَا تبصرون أمْ تُبصِرُونَ، قال لأنهم إذَا قالوا أنت خير منه فقد صاروا عنده بُصَرَاءَ، فكأنَّه قال أفلا تبْصِرُونَ أم أنتم بُصَرَاءُ (٢).
وَمَعْنَى (مَهِين) قليل.
يقال شَيءٌ مَهِينٌ أَي قَليلٌ، وهو فعيل من المهانة.
وقوله (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).
قال ذلك لأنه كانت في لسان موسى عليه السلام لثغة، والأنبياء
- صلوات اللَّه عليهم - أجمعون مُبَيِّنونَ بُلَغَاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)
كانه لما وَصَفَ نفسه بالمُلْكِ والريَاسَةِ قال: هَلَّا جاء مُوسَى
بشيء يُلْقَى عليه فيكون ذلك أسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ تدل على أنها
من عند إلهه الذي يدعوكم إلى توحيده، أو هلَّا جاء معه الملائكةُ
مقترنين أي يمشون معه فيَدُلُّونَ على صحة نُبوتهِ، وقد أتى موسى
عليه السلام من الآيات بما فيه دلالة على تثبيت النبُوة، وليس للذين يرسل
إليهم الأنْبِياءُ أَنْ يَقْتَرِحُوا من الآيات ما يريدون هم.
وتقرأ (أساوِرَةٌ مِنْ ذَهب)، ويصلح أن يكون جمعَ الجمعِ تقول أسْوِرَة
وَأَسَاوِرَة، كما تقول: أقوال وأقاويل ويجوز أن يكون جَمَعَ إسْوار وأساورة.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وهذه الأنهار﴾: يجوزُ في «وهذه» وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مبتدأةً، والواوُ للحالِ. والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفُ بيانٍ. و «تجري» الخبرُ. والجملةُ حالٌ مِنْ ياء «لي». والثاني: أنَّ «هذه» معطوفةٌ على «مُلْك مِصْرَ»، و «تَجْري» على هذا حالٌ أي: أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي: الشيئان.
قوله: «تُبْصِرونَ» العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه. وقرأ عيسى بكسر النون أي: تُبْصِروني. وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي: تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي. وقرأ فهد بن الصقر «يُبْصِرون» بياء الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ﴾: في «أم» أقوالٌ، أحدها: أنها منقطعةٌ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزة التي للإِنكار. والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله:
٤٠٠١ بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى... وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنتِ. الثالث: أنها منقطعةٌ لفظاً، متصلةٌ معنىً. قال أبو البقاء: «أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى: أنا خيرٌ منه أم لا، وأيُّنا خيرٌ» وهذه عبارةٌ غريبةٌ: أن تكونَ منقطعةً لفظاً، متصلةً معنى، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً: إمَّا إبطالاً، وإمّا انتقالاً. الرابع: أنها متصلةٌ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره: أم تُبْصِرون. وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت «لا» بعد أم نحو: أتقومُ أم لا؟ أي: أم لا تقوم. وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي: أم لا هو عندك. أمَّا حَذْفُه دون «لا» فلا يجوزُ، وقد جاء حَذْفُ «أم» مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً. قال الشاعر:
٤٠٠٢ دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها... سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي: أم غَيٌّ. وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي «أم» المعادِلَةُ أي: أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى. قال: «وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال:» أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى: أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه: «أنا خيرٌ» موضعَ «تُبْصِرون»؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خيرٌ، فهم عنده بُصَراءُ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب «. قال الشيخ:» وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ. فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ، كقوله: ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣] لأنَّ معناه: أم صَمَتُّم، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ﴾ ليس مقابلاً لقولِه: «أفلا تُبْصِرون». وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه:
٤٠٠٣ أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ... ف «أتمَّت» معادِلٌ للاسم، فالتقديرُ: أم مُتِمًّا «قلت: وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به، وكذا قولُه أيضاً: إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد» أم «إلاَّ وبعدها» لا «فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون» لا «فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً.
[قوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً]. والعامَّة على»
يُبين «مِنْ أبان، والباقر» يَبين «بفتحِها مِنْ بان أي: ظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وإنما صَرَفْتَ أساورة لأنك ضَمَمْتَ الهاء إلى أسَاور فصار اسْماً وَاحِداً وصار
الاسم له مِثال في الواحد مثل عَلَانية وعباقية (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
معنى (آسفونا) أغضبونا.
* * *
(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦)
جعلناهم سلَفاً مُتَقَدِّمِينَ ليتَعِظَ بهم الآخرون.
ويُقْرأُ سُلُفاً - بضم السين واللام، ويُقرأُ سُلَفاً - بضم السين وفتح اللام -. فمن قال سُلُفاً - بضمتين - فهو جِمع سَلِيف، أي جميع قد مضى.
ومن قرأ سُلَفاً فهو جمع سُلْفَة أي فرقة قد مَضت.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧)
(يَصِدُّونَ) ويقرأ (يَصُدُّونَ) - بضم الصاد - والكسر أكثر ومعناهما جميعاً يضجُّونَ
ويجوز أن يكون معنى المضمومة يُعْرضُونَ.
وجاء في التفسير أن كُفارَ قريش خاصمت النبى - ﷺ - فلما قيل لهم:
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالوا قد رضينا أن تكون آلهتُنا
بمنزله عيسى ابن مريم والملائكةِ الذين عُبِدوا من دون اللَّه.
فهذا معنى ضَرْبِ عيسى المثل.
* * *
وقوله: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)
(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا).
أي طلباً للمجادلة لأنهم قد علموا أن المعنى في (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ههنا أنه
يعني به الأصنام وهم.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَسْوِرَةٌ﴾: قرأ حفص «أَسْوِرَة» كأَحْمِرَة. والباقون «أساوِرَة». فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة، وهو جمعُ قلةٍ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار. يقال: سِوارُ المرأة وإسْوارُها، والأصل: أساوير بالياء، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة. وقيل: بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ. وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - «أساوِر» دونَ تاءٍ. ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير. وقرأ الضحاك «أَلْقَى» مبنياً للفاعلِ أي الله. و «وأساوِرة» نصباً على المفعولية. و «مِنْ ذَهَبٍ» صفةٌ ل أَساورة. ويجوزُ أَنْ تكون «مِنْ» الداخلةَ على التمييز.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)
يعني به عيسى ابن مريم.
ومعنى (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أنه يدلهم على نبوته.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
معنى (يَخْلُفُونَ) يخلف بعضهم بعضاً، والمعنى لجعلنا منهم بَدَلًا
منكم.
* * *
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
ويقرأ (لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) المعنى أن ظهورَ عيسى ابن مريم عليه السلام علَمٌ
لِلسَّاعَةِ، أي إذا ظهر دَلَّ على مجيء الساعة.
وقد قيل إنه يعني به أن القرآن العَلَمُ للساعة يدل على قرب مجيئها، والدليل على ذلك قوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).
والأول أكثر في التفسير (١).
وقوله: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي لا تَشُكُّنَّ فيها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣)
قوله جاء (بالحكمة) أي بالإنجيل وبالبينات أي الآيات التي يعجز عنها
المخلوقون.
وقالوا في معنى (بَعْضَ الَّذي تَخْتلِفونَ فِيهِ) أي كل الذي
يختلفون فيه واستشهدوا بقول لبيد.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ﴾: المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى، يعني نزولَه آخر الزمان. وقيل الضميرُ للقرآن أي: فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها، أو هو علامةٌ على قُرْبها. وفيه ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١] ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١]. وقيل: للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. ومنه «بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن».
والعامَّةُ على «عِلْم» مصدراً، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم. وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي «لَعَلَمٌ» بفتح الفاءِ والعينِ أي: لَشَرْطُ وعَلامةٌ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام، فقرآ «للعَلَمُ» أي: لَلْعلامَةُ المعروفةُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أو يخترم بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها
يريد كل النفوس، واستشهدوا أيضاً بقول القطامي:
قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه.
قالوا معناه كل حاجته.
وهذا مذهب أبي عبيدة، والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل، وهذا ليس في الكلام، والذي جاء به عيسى في الإنجيل إنَّما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين اللَّه سبحانه لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه، وكذلك قوله: أو يخترم بعض النفوس حمامها، إنما يعني نفسه، ونفسه بعض النفوس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
(الأحزاب) قيل إنهم الأربعة الذين كانوا بعد عيسى، يعني به اليهود
والنصارى.
وقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧)
جاء في التفسير عن النبى - ﷺ - أنه قال: الأخِلاءُ أَرْبَعَة مؤمنان وكافران - فمات أَحَدُ المؤمِنَيْنِ فَسُئِلَ عن خليله فقال ما علمته إلا أمَّاراً بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، اللهم اهده كما هَدَيْتَنِي، وأمِتْه على مَا أَمَتني عليه.
وسئل الكافر عن خليله فقال: ما علمته إلا أمَّاراً بالمنكر نهَّاءً عن المعروف، اللهم أضلله كما أضللتني، وأمِتْهُ على ما أَمتني عليه، فإذا كان يوم القيامة أثنى كل واحد على صاحبه شَرًّا.
قوله - عز وجل - (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(٦٨)
وتقرأ يا عبادي - بإثبات الياء، وقد فسرنا حذف الياء وإثباتها في مثل
هذا فيما سلف من الكتاب.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩)
(الذين) في موضع نصب على النعت لِعِبَادِي، لأن عبادي منادى
مضاف، وإنَّمَا قيل (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) للمؤمنين لا لغيرهم، وكذلك " (ادْخُلوا الجَنَّةَ) لَا خَوْفَ عَلَيْكُمْ
يعنى يا عبادي المؤمنين ادْخُلوا الجَنَّةَ.
* * *
وقوله: (أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
(تُحْبَرُونَ) تكرمون إكراماً يبالغ فيه، والحَبْرَةُ المبالغة فيما وصف بجميل.
* * *
وقوله: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٧١)
" الصحاف " واحدها صَحْفَة وهي القصعة، والأكواب واحدها كوب وهو
إناء مستدير لا عروة له.
وقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأنْفُسُ).
وقرئت (تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) بإثبات الهاء، وأكثر المصاحف بغيرها، وفي
بعضها الهاء.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)
المبلس: الساكتُ المُمْسِكُ إمساك يائِس من فَرَج.
* * *
وقوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
" هِمْ " ههنا فصل كذا يسميها البصريون، وهي تأتي دليلاً على أن ما
بعدها ليس بصفة لما قبلها، وأن المتكلم يأتي بخبر الأول. ويسميها الكوفيون
العِمَاد.
وهي عِندَ البصريينِ لا موضع لها في رفع ولا نصب ولَا جَرٍّ، ويزعَمُون
أنها بمنزلة (ما) في قوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
وقد فسرت ما في هذا فيما تقدم من الكتاب
ويجوز " ولكن كانوا هم الظالِمُونَ " في غير القرآن، ولكن لا تقرأنَّ بها لأنَّها تُخَالِفُ المُصْحفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ
(٧٧)
وقد رُوَيَتْ يَا مَالِ - بغير كاف، وبكسْر اللام - وهذا يسميه النحوُّيونَ
الترَخيم، وهو كثير في الشِعْر في مالك وعامر ولكنني أَكْرَهُهُمَا لمخالفتهما
المصحف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
أي أم أحكموا عند أنْفُسِهِمْ أَمراً من كيد أو شَرٍّ فَإنا مُبْرِمُونَ.
مُحْكِمُونَ مُجَازَاتَهم كيداً بكيدِهِمْ، وشَرًّا بِشَرِّهِمْ.
* * *
وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (٨١)
معناه إنْ كنتم تزعمون أن للرحمن وَلَداً فانا أول الموَحِّدِينَ لأن من عبد
الله - عزَّ وجلَّ - واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له وَلَدٌ.
والمعنى أن كان للرحمن ولد في قولكم، كما قال: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي في قولكم. واللَّه واحد لا شريك له.
وقد قيل إنَّ (إنْ) في هذا الموضع في موضع (ما)
المعنى ما كان للرحمن وَلَد، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ).
وقد قيل إن العابدين في معنى الآنفين، فأنا أول من يأنف من هذا القول.
(١) قال الإمام فخر الدين الرَّازي بعد كلام طويل ما نصُّه:
المعنى أنه تعالى قال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ لذلك الولد وأنا أول الخادمين له، والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته ألبتة، فكيف أقول به؟ بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده؟ وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر، فهذا ما عندي في هذا الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى التأويل، والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي قاله هو الحق، أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً الأول: قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية، والأقوى أن يقال المعنى ﴿إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ﴾ في زعمكم ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ أي الموحدين لله المكذبين لقولكم بإضافة الولد إليه، ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام: إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له، والأول: باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له، لأن قوله إن كان الشيء ثابتاً في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول، والثاني: أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد.
الوجه الثاني: قالوا معناه: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد، وقرأ بعضهم (عبدين).
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد: إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به، فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب، وإن كان المراد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين، فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً.
والوجه الثالث: قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة، وقد بينا أنه لا ضرورة ألبتة فلم يجز المصير إليها، والله أعلم. أهـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٧ صـ ١٩٧ - ١٩٨﴾
وقال السَّمين:
قوله: ﴿إِن كَانَ للرحمن﴾: قيل: هي شرطيةٌ على بابِها. واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل: إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ ألبتَّةََ بالدليلِ القاطعِ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ، وهي مُحالٌ في نفسِها، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها، ذكره الزمخشريُّ. وقيل: إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم. وقيل: العابدين بمعنى: الآنفين. مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ. ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني «العَبِدين» دون ألفٍ. وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي «العَبْدِيْن» بسكون الباءِ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ. قال ابنُ عرفة: «يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد، وقلَّما يقال: عابِد، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ». قلتُ: يعني فتخريج مَنْ قال: إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:
٤٠١٠ أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم... وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ
أي: آنَفُ. وقال آخر:
٤٠١١ متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه... ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما
وقال أبو عبيدة: «معناه الجاحِدين». يقال: عَبَدَني حَقِّي أي: جَحَدنيه. وقال أبو حاتم: «العَبِدُ بكسر الباءِ: الشديدُ الغَضَبِ»، وهو معنى حسنٌ أي: إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك.
وقيل: «إنْ» نافيةٌ أي: ما كان، ثم أَخْبَرَ بقولِه: ﴿فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ وتكونُ الفاءُ سببيةً. ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال: «لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ، وهذا مُحالٌ».
وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ، وقالوا: كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] إلى ما لا يُحْصَى، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ: أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ، والقائلُ بذلك يقولُ: ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ. وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ: وَلَد ووُلْد في مريم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)
المعنى هو الموحَّدُ في السماء وفي الأرْضِ.
وقرئت (في السَّماءِ اللَّهُ وفِي الأرْضِ اللَّهُ).
ويدل ما خلق بَيْنَهُما وفيهما أَنه وَاحِد حكيم عليم، لأن
خلقُهما يدل على الحِكْمَةِ والعِلْمِ (١).
* * *
وقوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
(وَقِيلَهِ)
ويُقْرأ (وقِيلِهِ)، (وقِيلُهِ يَا رَبِّ)، فيها ثلاثة أوجه:
الخفض على مَعْنَى (وعنده علم الساعة) وعلمُ قِيلِه يَا رَبِّ
والنصب من ثلاثة أوجه:
قال أبو الحسن الأخفش إنه منصوب من جهتين:
إحداهما على العطف على قوله: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) وقيلَهُ، أي ونسمع قيله. ويكون على وقال قيله.
قال أبو إسحاق: والَّذي أختاره أنا أن يكون " قيلَه " نصْباً على مَعْنَى
وعنده علم الساعة ويعلمُ قيلَهُ، فيكون المعنى إنَّه يعلم الغيب ويعلم قيله، لأن معنى عنده علم الساعة يعلم الساعة ويعلم قيله.
ومعنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامَةُ.
والرفع على معنى وقيلُه هذا القول، أي وقيله قوله (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) (٢).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله﴾: «في السماء» متعلِّقٌ ب «إله» لأنه بمعنى معبودٌ أي: معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض، وحينئذٍ فيقال: الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه، ولا شيءَ منها هنا. والجوابُ: أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه: وهو الذي في السماءِ إلهٌ، وهو في الأرض إلهٌ، وإنما حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله. ومثلُه «ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً».
وقال الشيخ: «وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه، كما حَسَّنَ في قولِهم: قائل [لك] شيئاً طولُه بالمعمولِ». قلت: حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً، و «إله» مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ، إذ يصيرُ نظيرَ «جاء الذي في الدار زيد». فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ «إله» بدلاً منه. قال أبو البقاء: «جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه: ﴿وَفِي الأرض إله﴾ لأنه معطوفٌ على ما قبلَه، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى: أنَّ في الأرض إلهاً» انتهى. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ، والمعنى: أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار».
وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء الله﴾ ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ، فيتعلَّقُ به الجارُّ. ومثله «هو حاتمٌ في طَيِّئ» أي: الجوادُ فيهم. ومثلُه: فرعون العذاب. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَقِيلِهِ﴾: قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ. والباقون بالنصب. فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدهما: أنَّه عطفٌ على «الساعة» أي: عنده عِلْمُ قيلِه، أي: قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام. والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ. والثاني: أنَّ الواوَ للقَسم. والجوابُ: إمَّا محذوفٌ تقديرُه: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه: ﴿إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ ذكره الزمخشريُّ.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ على محلِّ «الساعة». كأنَّه قيل: إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا. الثاني: أنَّه معطوفٌ على «سِرَّهم ونجواهم» أي: لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه. الثالث: عطفٌ على مفعولِ «يكتُبون» المحذوفِ أي: يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً. الرابع: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ «يعلمون» المحذوفِ أي: يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه. الخامس: أنه مصدرٌ أي: قالَ قيلَه. السادس: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي: اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. السابع: أَنْ ينتصِبَ على محلِّ «بالحق» أي: شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه. الثامن: أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله:
٤٠١٢........................ فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع، وفيه أوجه [أحدها:] الرفعُ عطفاً على «علمُ الساعةِ» بتقديرِ مضافٍ أي: وعنده عِلْمُ قِيْلِه، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه. الثاني: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، والجملةُ مِنْ قولِه: «يا رب» إلى آخره هي الخبر. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه: وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ. الرابع: أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم: «ايمُنُ الله» و «لَعَمْرُ الله» فيكونُ خبرُه محذوفاً. والجوابُ كما تقدَّم، ذَكرَه الزمخشري أيضاً.
واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ. قال النحاس: «القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن، إحداهما: أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه. والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب». قلت: وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال: «إنما هي في التفسيرِ: أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب. ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ، وتقدَّم تحقيقُها.
وقرأ أبو قلابة»
يا رَبَّ «بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه:
٤٠١٣....................... بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ.................
والأخفشُ يَطَّرِدُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
Icon