تفسير سورة الزخرف

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الزخرف مكية
قيل إلا قوله ﴿ واسأل من أرسلنا ﴾
وهي تسع وثمانون آية وسبع ركوعات

﴿ حم والكتاب المبين ﴾ أقسم بالكتاب المظهر١ طرق الهدى، أو الظاهر الجلي معناه، والواو إما للقسم وحم أيضا قسم، فهو من نمط التعديد، أو للعطف على القسم، أو معناه بحق الكتاب المبين أنه حم الأمر وقضي،
١ يعني مشتق من الإبانة بمعنى الإظهار المتعدي، أو بمعنى الظهور اللازم /١٢ منه..
ثم ابتدأ بقوله ﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيا١ : صيرناه عربيا بلغتكم ﴿ لعلكم تعقلون٢
١ أخرج ابن مردويه عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس– رضي الله عنه – فقال له: يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله أم خلق من خلق الله؟ قال: بل كلام من كلام الله، أو ما سمعت الله يقول:﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله﴾؟ (التوبة ٦) فقال له الرجل: أفرأيت قوله:﴿إنا جعلنا قرآنا عربيا﴾ قال: كتبه الله في اللوح المحفوظ بالعربية، أما سمعت الله يقول:﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ﴾ (البروج: ٢١) المجيد: هو العزيز أي: كتب الله في اللوح المحفوظ/١٢ در منثور..
٢ أي: تكونوا بحيث يرجى منكم التعقل، ولما كان أول من يطلب منهم تصديق القرآن العرب، قال ذلك/١٢ وجيز..
﴿ وإنه ﴾ عطف على " إنا " ﴿ في أم الكتاب ﴾ : اللوح المحفوظ ﴿ لدينا ﴾ : عندنا ﴿ لعلي ﴾ : ذو مكانة وشرف ﴿ حكيم١ : ذو حكمة بالغة، والظرف الأول في موقع الحال، والثاني بدل، أي حال كون ذلك متحققا في اللوح ثابتا عندي، كقولك : زيد عندي كامل الشجاعة، أو هما بيان محل الحكم، أي هذا في أم الكتاب لدينا، وقيل : الأول متعلق ب " لعلي "، واللام غير مانع
١ أخرج ابن مردويه والديلمي عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض وهو عنده فوق العرش، الخلق منتهون" إلى ما في ذلك الكتاب، وتصديق ذلك في كتاب الله، ﴿وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾[ضعيف]/١٢ در منثور..
﴿ أفنضرب عنكم الذكر ﴾، نبعد وننحيه عنكم ونترك إنزاله ونعرض عنه ﴿ صفحا ﴾ : إعراضا، مصدر من غير لفظه ؛ لأن تنحية الذكر إعراض أو حال بمعنى معرضين ﴿ إن كنتم قوما مسرفين ﴾ أي : لئن كنتم، والفاء عطف على محذوف، أي : أنهملكم ونترك إنزال القرآن لأنكم مسرفون ؟ ! وعن كثير من السلف١ معناه ألا نذكركم قط ونخليكم ونعرض عنكم ولا نعذبكم ولا نجازيكم لأنكم تركتم أمرنا وأسرفتم٢ ؟ كما تقول أحبك أن كنت شتمتني، ومن قرأ " إن كنتم " بالكسر، فمن باب جعل المحقق منزلة المشكوك، ابتناءا على أن المخاطب كأنه متردد شاك في ثبوت الشرط، قصدا إلى نسبته إلى الجهل
١ منهم ابن عباس ومجاهد وأبو الصالح والسدي، واختاره ابن جرير، والقول الأول هو قول قتادة وكأنه أوفق: ١٢ منه..
٢ يعني أن إسرافكم علة نزول القرآن لا لتركه/١٢.
﴿ وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم ﴾ أي : من القوم المسرفين، وهم قومك ﴿ بطشا ﴾ : قوة، وقيل معناه : فأهلكنا أشد المستهزئين من الأولين بطشا ﴿ ومضى ﴾ سلف في القرآن ﴿ مثل الأولين ﴾ : قصتهم وحالهم العجيبة، وعن بعضهم معناه مضى عبرتهم، أي : جعلناهم عبرة لمن بعدهم فيه تسلية ووعد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووعيد للمكذبين
﴿ ولئن سألتم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾ أنكروا قدرته بالبعث وعبدوا غيره، بعد ما أقروا بكمال قدرته وعزته وعلمه
﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا ﴾ تستقرون فيها، وهذا قول الله- تعالى- من غير حكاية وصفا منه لذاته في سياق واحد١ ﴿ وجعل ﴾ : خلق ﴿ لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ﴾ : إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد، أو إلى كمال حكمته فتؤمنون
١ وهذا كما يقول مخاطبك: أدبني زيد، فتقول: الذي أكرمك وأعطاك ورباك، تصل كلامك بكلامه على أنه من تتمته، لكن لا تجعله من كلامه وهذا أولى مما ذكره الزمخشري فتأمل فيهما/١٢ منه..
﴿ والذي نزل من السماء ماء بقدر ﴾ : بمقدار معلوم ﴿ فأنشرنا ﴾ : أحيينا، فيه التفات ﴿ به بلدة ميتا ﴾ البلدة بمعنى : المكان، فذكر صفته ﴿ كذلك تخرجون ﴾ من قبوركم
﴿ والذي خلق الأزواج١ : الأصناف ﴿ كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ﴾ أي : تركبونه : جعل السفينة كالدابة فعدى الفعل إليها بنفسه٢، فإنه يقال : ركبت في الفلك
١ قيل: كل ما سوى الله فهو زوج، كفوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف، ذات وصفات، وصيف وشتاء وربيع وخريف، غيم وصحو/١٢ وجيز..
٢ يعني من حقه أن يقول ما تركبونه، وفيه تغليب المتعدي بغير واسطة على المستعدي بواسطة /١٢ منه..
﴿ لتستووا على ظهوره ﴾ أي : ظهور ما تركبون ﴿ ثم تذكروا ﴾ بقلبكم ﴿ نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا ﴾ بلسانكم ﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين١ : مطيقين
١ أخرج مسلم وأبوا داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمروا:"أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ركب راحلته، ثم كبر ثلاثة، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون" /١٢ منثور..
﴿ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ﴾ : منصرفون راجعون، يذكر ركوب النفس بالبدن وسير العمر، وعن طاوس : حق على كل مسلم إذا ركب دابة أو سفينة، أن يقول ذلك، ويتذكر انقلابه في آخر عمره على مركب الجنازة إلى الله تعالى
﴿ وجعلوا له من عباده جزءا ﴾ يعني بعد اعترافهم بأن الخالق هو الله تعالى، جعلوا له ولدا، فإن الولد بضعة وجزء لوالده، فقالوا : الملائكة بنات الله، وقيل معناه : جعلوا جزءا من عباده، فإنهم جعلوا بعض أنعامهم لله تعالى وبعضها لطواغيتهم١ ﴿ إن الإنسان ﴾ جنسه ﴿ لكفور مبين ﴾ ظاهر الكفران.
١ نحو: ﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والإنعام نصيبا﴾ (الأنعام: ١٣٦) الآية/١٢ منه..
﴿ أم اتخذ مما يخلق بنات ﴾ أي : اتخذ ربكم لنفسه البنات ﴿ وأصفاكم ﴾ : أخلصكم ﴿ بالبنين ﴾ فالهمزة للإنكار والتعجب من عدم اكتفائهم بنسبة الولد، حتى نسبوا له الجزء الأخس
﴿ وإذا بشر ﴾ الجملة حالية ﴿ أحدهم بما ضرب ﴾ بالجنس الذي جعله ﴿ للرحمن مثلا ﴾ : شبها فإن الولد شبه الوالد ﴿ ظل وجهه مسودا ﴾ من الحزن﴿ وهو كظيم ﴾ مملوء قلبه من الغيظ
﴿ أو من ينشؤا ﴾ : يتربى ﴿ في الحلية وهو في الخصام ﴾ : في المجادلة ﴿ غير مبين ﴾ ليس له بيان أي : تنسبون له من هو ناقص الظاهر- يستكمل نقصه بالحلي- والباطن- لا يقدر على إيراد الحجة على من يخاصمه- وتقديره : أو اتخذ من ينشؤ، عطف على أم اتخذوا، والهمزة بين المعطوفين لمزيد الإنكار، وفي الخصام متعلق بمبين ؛ لأن غير في المعنى النفي، فجاز تقديمه عليه، وقيل : من مبتدأ حذف خبره، أي : أمن هذا حاله وكده، أو عطف على ما يخلق
﴿ وجعلوا ﴾ : سموا ﴿ الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ﴾ فهذا كفر آخر منهم، ومن قرأ " عند الرحمن " فمعناه : قربتهم ورتبتهم ﴿ أشهدوا ﴾ : حضروا ﴿ خلقهم ﴾ : خلق الله تعالى إياهم فشاهدوا ﴿ ستكتب شهادتهم ﴾ على الملائكة ﴿ ويسألون١ عنها يوم القيامة
١ قيل: سألهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما يدريكم أنهم إناث؟ فقالوا: سمعنا ذلك من آبائنا، ونحن نشهد بصدقهم، فأنزل الله ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾/١٢ وجيز..
﴿ قالوا لو شاء الرحمن ﴾ أن لا نعبد الملائكة ﴿ ما عبدناهم ﴾ كفر آخر، فإنهم أرادوا أن كفرهم بمشيئة الله تعالى، فلا يكون منكرا منهيا عنه، بل مأمور١ به، فرأيهم رأي القدرة من أن كل مأمور به مراد، وكل منهي عنه غير مراد ﴿ ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون٢ يعني : أنهم جاهلون كاذبون، مصيبين في استصوابه، ومعذورين في ارتكابه
١ ولم يفرقوا بين الإرادة والرضاء، ولم يعرفوا أن مشيئة الله شيء لا يستلزم رضاه به، فلا يكون عبادتهم مرضيا له تعالى/١٢ كمالين..
٢ كأنه تعالى لما أظهر وجوه فساد مقدمتهم، وحكى شبههم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل، ثم أضرب عنه إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل. فقال: ﴿أم أتيتهم كتابا﴾ الآية/١٢ أبو السعود..
﴿ أم آتيناهم كتابا من قبله ﴾ : قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله تعالى، وينسبوا إليه الولد، ويقول هو راض عنا ﴿ فهم به مستمسكون ﴾ نسبهم إلى الكذب أولا، ثم أضرب عنه إلى إنكار سندهم من جهة النقل
﴿ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة ﴾ : دين ﴿ وإنا على آثارهم مهتدون١ جعلوا من جهلهم تقليد جهلتهم اهتداءا
١ أي: لم يأتوا بحجة عقلية أو نقلية، بل اعترفوا بألا سند لهم سوى تقليد آباءهم، قاله أبو السعود/١٢..
﴿ وكذلك١ ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها ﴾ متنعموها ﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم ٢ مقتدون ﴾ فهذه شنشنتهم القديمة ليست مخصوصة بقومك
١ أي: الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتشبثهم بذيل التقليد/١٢ أبو السعود..
٢ استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم، ليس لأسلافهم أيضا سند غيره، وتخصيص المترفين بتلك المقالة، للإيذان بأن التنعم وحب البطالة هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد/ ١٢ أبو السعود، قال الرازي: ولو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفت في إبطال القول بالتقليد؛ لأنه تعالى ذمهم بأنهم فيما ذهبوا إليه لم يتمسكوا بدليل عقلي ولا نقلي، وذكر هذه المعاني في معرض الذم والتهجين، ذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ومما يدل على بطلانه أنه أمر مشترك بين المحق والمبطل، فلو كان حقا لوجب كون الشيء ونقيضه حقا، ومعلوم أن ذلك باطل. وانتهى ملخصا. وقال الشوكاني بعدما ذم المقلدة في الإسلام: وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكئون عليها عن أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون إن أمامنا الذي قلدناه أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، وذلك لأنهم أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصورا عظيما بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع، وما عملوا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم، فإنه لو قيل لهم: إن في التابعين من هو أعظم قدرا وأقدم عصرا من صاحبكم، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية توجب الإقتداء، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصرا وأجل قدرا، فإن أبيتم ذلك ففي الصحابة من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر، فإن أبيتم ذلك فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدرا وأجل خطرا وأكثر أتباعا وأقدم عصرا وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم- صلى الله عليه وأله وسلم- ورسول الله إلينا وإليكم، فتعالوا فهذه سنته موجدة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة، قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت وبين كل مسلم، لم يلحقه تغيير ولا تبديل ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه، فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان الحال أو بلسان المقال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير وحياء وحصة من دين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم /١٢ فتح..
﴿ قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ﴾ الظاهر أن قل حكاية أمر ماض١ أوحى إلى نبينا عليه السلام، ويؤيده قراءة " قال " أي : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى ؟ ! ﴿ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾
١ لكن أكثر المفسرين فسروا على خلاف الظاهر، وقالوا: قل يا محمد أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بأهدى؟ "إنما بما أرسلتم به كافرون" وقالوا فانتقمنا منهم أي: من الأمم المكذبة وفي هذا التفسير بعد كما لا يخفى /١٢ منه..
﴿ فانتقمنا منهم ﴾ بأنواع من العذاب ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ﴾.
﴿ وإذ قال١ أي : واذكره ﴿ إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء ﴾ مصدر مستو فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ﴿ مما تعبدون ﴾ أي بريء من معبودكم
١ ولما ذكر تقليد هؤلاء آباءهم، أعقب حكاية إبراهيم مع أبيه وقومه، فإنهم أجابوا بمثل ما أجاب هؤلاء فقال: ﴿وإذ قال إبراهيم﴾ الآية / ١٢ وجيز.
﴿ إلا الذي فطرني ﴾ منقطع أو متصل، فإنهم كانوا معترفين بأن الله تعالى هو الإله الأصلي المعبود، و " ما " تعم أولى العلم أو غلب غيره ؛ لأن أكثر معبودهم الأصنام غير العقلاء ﴿ فإنه سيهدين ﴾ الأظهر أن السين لمجرد التأكيد والتسويف، والمضارع للاستمرار
﴿ وجعلها ﴾ أي : جعل الله تعالى، أو إبراهيم كلمة التوحيد ﴿ كلمة باقية في عقبه ﴾ في ذريته لا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ الضمير للبعض من المعقب، أو لهم بحذف المضاف، أي : لعل مشركهم
﴿ بل متعت هؤلاء ﴾ أي : قومك، فإنهم من عقب إبراهيم ﴿ وآباءهم ﴾ في الدنيا فاغتروا بها ﴿ حتى جاءهم الحق ﴾ القرآن ﴿ ورسول مبين ﴾ : ظاهر رسالته
﴿ ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من ﴾ إحدى ﴿ القريتين ﴾ مكة والطائف ﴿ عظيم ﴾ بالجاه والمال أرادوا وليد بن المغيرة من مكة، وعروة ابن مسعود الثقفي من الطائف، أو غيرهما فإنهما من الأعاظم، ولا يليق تلك الرتبة العظيمة إلا بمثلها
﴿ أهم يقسمون رحمة ربك ﴾ أي ليس الأمر مردودا إليهم، بل إنه يعلم حيث يجعل رسالته، فإنها لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم وأطهرهم وأظهرهم بيتا وأصلا، لا على أكثرهم مالا وجاها ﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ﴾ فجعلنا البعض غنيا والبعض فقيرا ﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ بالمال، ودرجات إما تمييز أو بدل ﴿ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ ليسخر الأغنياء الفقراء بأموالهم، ويستخدموهم فينتظم العالم، وليس هذا من شرف في الغنى ونقص في الفقير﴿ ورحمة ربك ﴾ بخلقه ﴿ خير مما يجمعون ﴾ : من الأموال ومن حطام الدنيا
﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ﴾ أي : لولا كراهة اجتماع الخلق على الكفر لرغبة النفس في الدنيا ﴿ لجعلنا١ لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا ﴾ لبيوتهم بدل اشتمال من " لمن يكفر "، وجاز تعلقه بسقفا، كما تقول : جعلت لك نوحا لكتابك ﴿ من فضة ومعارج ﴾ : سلالم ومصاعد منها ﴿ عليها يظهرون ﴾ : يعلون السطوح، لحقارة الدنيا فيغتروا بها أكثر مما اغتروا
١ حاصله لو جعلنا الكفر سببا لكثرة الأموال، لاجتمع الخلق على الكفر لرغبتهم الدنيا، وما أردنا ذلك، فذلك بعض الكفار أغنياء وبعضهم فقراء/١٢ منه، ففقر بعض الكفرة من سوابق عناياتنا على المؤمنين، وإلا فموضع مال الدنيا أيادي أهالي الشقاوة وسقفهم وسلاليمهم وأبوابهم وسررهم /١٢ وجيز..
﴿ ولبيوتهم أبوابا وسررا ﴾ : من فضة ﴿ عليها ﴾ أي : على السرر﴿ يتكئون ﴾
﴿ وزخرفا ﴾ : ذهبا، عطف على محل من فضة، والزخرف : الزينة، فعطف على سقفا، وروى الترمذي وقال : حسن صحيح " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا " ١ ﴿ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ﴾ إن نافية، و " لما " بمعنى إلا، ومن قرأ " لما " بالتخفيف فإن مخففة، واللام هي الفارقة، وما صلة ﴿ والآخرة عند ربك للمتقين ﴾ أي : خاصة لمن هو متقي عند الله وفي عمله، أو حاصل عند الله تعد لهم.
١ "صحيح" انظر صحيح الجامع (٥٢٩٢)، والصحيحة..
﴿ ومن يعش ﴾ : يعرض ﴿ عن ذكر١ الرحمن نقيض له ﴾ نسبب له ونسلط عليه ﴿ شيطانا ﴾ يزين له الغواية، ويصده عن الهداية ﴿ فهو له قرين ﴾ : لا يفارقه
١ قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تميمة- رحمه الله-: وذكر الله يراد به تارة ذكر العبد ربه، ويراد به الذكر الذي أنزله الله كما قال ﴿وهذا ذكر مبارك أنزلناه﴾ (الأنبياء: ٥٠)، وقال نوح:﴿أو أعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم﴾ (الأعراف: ٦٣، ٦٩)، وقالوا:﴿يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾(الحجر: ٦)، وقال:﴿ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث﴾ (الأنبياء: ٢) وقال:﴿إنه لذكر لك ولقومك﴾ (الزخرف: ٤٤)، وقال:﴿إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم﴾ (التكوير: ٢٧) قال:﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن إلا ذكر وقرآن مبين﴾ (يس: ٦٩) انتهى..
﴿ وإنهم ﴾ أي : الشياطين ﴿ ليصدونهم ﴾جمع الضميرين للمعنى ﴿ عن السبيل ﴾ : عن طريق الحق ﴿ يحسبون ﴾ أي : الكفار ﴿ أنهم ﴾ أي : أنفسهم ﴿ مهتدون ﴾
﴿ حتى إذا جاءنا ﴾ الكافر ﴿ قال ﴾ للشيطان ﴿ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ﴾ بعد المشرق من المغرب، فغلب وأضاف البعد إليهما بعد التثنية ﴿ فبئس القرين ﴾ أنت
﴿ ولن ينفعكم اليوم ﴾ هذا قول الله تعالى أو الملك لهم ﴿ إذ ظلمتم ﴾ أي : إذ يتبين ظلمكم أنفسكم في الدنيا فإذ لتحقق الوقوع، والمعنى على الاستقبال كما في ﴿ ولو ترى إذ وقفوا ﴾ ( الإنعام : ٢٧، ٣٠ ) وجاز أن يكون بدلا من اليوم ﴿ أنكم في العذاب مشتركون ﴾ أي : لا ينفعكم اشتراككم واجتماعكم في العذاب ؛ لأن لكل نصيبه الأوفر، فإنكم فاعل لن ينفعكم، وفاعل ضمير يرجع إلى التمني المستفاد من قوله :" يا ليت " وإنكم علة أي لأنكم في العذاب مشتركون
﴿ أفأنت تسمع الصم ﴾ همزة إنكار، فإنه عليه السلام يتعب روحه في إهدائهم ﴿ أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ﴾ أي ليس هذا في وسعك، والقادر على ذلك هو الله تعالى وحده
﴿ فإما تذهبن بك ﴾ فإن قبضناك قبل أن نعذبهم، وما زائدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في استجلاب نون التأكيد ﴿ فإنا منهم منتقمون ﴾ بعد موتك
﴿ أو نرينك ﴾ أي : إن أردنا أن نريك ﴿ الذي وعدناهم ﴾ من العذاب ﴿ فإنا عليهم مقتدرون ﴾
﴿ فاستمسك١ بالذي أوحي إليك ﴾ من الشرائع ﴿ إنك على صراط مستقيم ﴾
١ ولما رد وبين حياته وموته- صلى الله عليه وسلم- أمره بالاشتغال بشغله فقال: ﴿فاستمسك بالذي﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ وإنه ﴾ أي : الذي أوحى إليك ﴿ لذكر ﴾ : لشرف ﴿ لك ولقومك ﴾ حيث إنه أنزل بلغتهم، فينبغي أن يكون أقوم الناس، أو لتذكير لك ولقومك وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم ﴿ وسوف تسألون ﴾ عن حقه
﴿ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ﴾ السؤال عن الرسل سؤال عن أممهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود " واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " ﴿ أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ﴾ أي : هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، ومعنى الأمر به التقرير لمشركي قريش١ أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى، وعن بعض السلف٢ : جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يشك ولم يسأل.
١ هذا قول أكثر السلف/١٢ وجيز..
٢ هذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، وعلى هذا لا يكون المراد السؤال عن أمم بل عن الرسل نفسهم، ولا يكون فائدة الأمر بالسؤال تقرير مشركي قريش، والأول قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن ومقاتل/١٢ منه.
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذ هم منها يضحكون ﴾ فاجئوا بالاستهزاء بالآيات
﴿ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ﴾ أي : صاحبتها التي كانت قبلها، أو هو تمثيل باتصاف الكل بالكمال، حيث لا يظهر التفاوت ويظن عند النظر بكل واحد أنه أفضل من البواقي ﴿ وأخذناهم بالعذاب ﴾ كالطوفان والجراد وغيرهما ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ لكي يرجعوا عن الكفر
﴿ وقالوا يا أيها الساحر ﴾ أي : العالم الكامل وهذا تعظيمه منهم، فإن السحر عندهم فضيلة لا نقيصة، أو لفرط حيرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به ﴿ ادع لنا ربك ﴾ بكشف العذاب عنا ﴿ بما عهد عندك ﴾ : بسبب عهده عندك أن يجيب دعوتك، أو بحق ما عندك من عهد الله تعالى وهو النبوة، أو بحق الإيمان، أو بسبب ما عهده الله تعالى من كشف العذاب لمن آمن ﴿ إننا لمهتدون ﴾ : مؤمنون
﴿ فلما كشفنا عنهم العذاب إذ هم ينكثون١ فاجئوا نكث العهد
١ والقصة مذكورة في سورة الأعراف بلفظ يا موسى ﴿ادع لنا ربك﴾ (الأعراف: ١٣٤) فيحتمل أن الله حكى كلامهم بحسب المعنى، ويحتمل أن يكون هذا كلام بعض وذاك كلام بعض آخر، أو بحسب محلين / ١٢ منه ووجيز..
﴿ ونادى فرعون في قومه ﴾ أمر بالنداء، أو هو نادى بنفسه في مجمع عظمائه١ ﴿ قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار ﴾ أنهار النيل٢ عطف على ملك مصر ﴿ تجري من تحتي ﴾ تحت قصري أو أمري، جملة حالية، أو خبر لهذه٣ الأنهار، والواو للحال ﴿ أفلا تبصرون ﴾ ذلك
١ لما رأى إجابة الله دعوة موسى في رفع العذاب وخاف ميل القلوب إليه/ ١٢ وجيز..
٢ فإنه ينشعب من النيل أنهار/١٢ منه..
٣ فالواو: وللحال لا للعطف على ملك مصر كما قلنا /١٢ منه..
﴿ أم أنا خير ﴾ بل أنا خير، والهمزة للتقرير والتحقيق، وقيل : أم متصلة حاصله، أفلا تبصرون أم تبصرون، من إقامة المسبب موقع السبب، فإن إبصارهم سبب لقولهم : أنت خير ﴿ من هذا الذي هو مهين ﴾ : حقير ﴿ ولا يكاد يبين ﴾ : يفصح ويعرب عما في ضميره، لما في لسانه من اللكنة
﴿ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ﴾ أي : هلا ألقى رب موسى عليه أسورة إن كان سيدا مطاعا، فإنهم إذا كانوا سودوا رجلا، سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب، يكون ذلك دلالة لسيادته ﴿ أو جاء معه الملائكة مقترنين ﴾ : مقرونين يصدقونه، أو متتابعين يشهدون له مرة بعد أخرى
﴿ فاستخف ﴾ أي فرعون ﴿ قومه ﴾ حملهم على الخفة والجهل ﴿ فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ فأطاعوا فساقا
﴿ فلما آسفونا ﴾ : أغضبونا ﴿ انتقمنا منهم فأغرقناهم ﴾ في اليم ﴿ أجمعين ﴾
﴿ فجعلناهم سلفا ﴾ : متقدمين، ليتفكروا المتأخرون فيهم ويتعظوا ﴿ ومثلا ﴾ : قصة عجيبة ﴿ للآخرين١
١ ولما ذكر طرفا من قصة موسى أعقبه طرفا من قصة عيسى وقدم من أمره ما يتعلق بقريش فقال:﴿ولما ضرب ابن مريم﴾ الآية ١٢ وجيز..
﴿ لما ضرب ابن مريم مثلا ﴾ لما نزل ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ ( الأنبياء : ٨٩ ) جادل ابن الزبعري١ وقال : رضينا، إن آلهتنا مع عيسى فجعلوه مثلا حجة٢ سائدة، أو مقياسا ومثالا في بيان إبطال ما ذكر من أنكم وما تعبدون ﴿ إذا قومك ﴾ : قريش ﴿ منه يصدون ﴾ : يضجون فرحا بأنه أسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومن قرأ بضم الصاد فمعناه : من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، وعن الكسائي : هما لغتان كيعرش ويعرش، قال الواحدي : إذا قومك المؤمنون يضجون من هذا يعني غما وشكا
١ بكسر الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون العين والراء المهملة والألف المقصورة معناه سيئ الخلق/١٢..
٢ وقالوا عيسى: يعبد من دون الله الملائكة، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا وارتفعت أصواتهم، وفرح قريش: بأنا أسكتنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون﴾ ولا يخفى أن ما قاله ابن الزبعري باطل من أصله لأن الله قال:﴿وما تعبدون﴾ ولم يقل ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء قال الشهاب: ابن الزبعري هو عبد الله الصحابي المشهور وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل إسلامه /١٢ فتح [أخرجه أصل هذا الحديث أحمد في "المسند"، (١/٣١٨)، وقال الهيثمي في " المجمع" (٧/١٠٤): " رواه احمد والطبراني بنحوه وفيه عاصم بن بهدلة وثقه أحمد وغيره وهو سيئ الحفظ، وبقية رجاله رجال الصحيح"]..
﴿ وقالوا أآلهتنا خير ﴾ عندك ﴿ أم هو ﴾ أي : عيسى فإن كان هو حصب جهنم فليكن آلهتنا كذلك ﴿ ما ضربوه ﴾ أي : المثل ﴿ لك إلا جدلا١ لأجل الجدل فإنه معلوم لكل من له نظر، أن المراد مما تعبدون : الأصنام، سيما إذا جعل ما لغير العقلاء على ما هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق ﴿ بل هم قوم خصمون ﴾ فهذا رد الله تعالى عليه إجمالا، وتفصيله في موضع آخر، حيث قال :" إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " كالملائكة وعيسى وعزير " أولئك عنها مبعدون "
١ أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما مرفوعا "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا هذه الآية [حسن، انظر صحيح الجامع (٥٦٣٣)] وقد ورد في ذم الجدل بالباطل أحاديث كثيرة/١٢ فتح..
﴿ إن هو ﴾ : عيسى ﴿ إلا عبد أنعمنا عليه ﴾ بالنبوة ﴿ وجعلنا مثلا ﴾ : أمرا عجيبا ﴿ لبني إسرائيل ﴾
﴿ لو نشاء لجعلنا منكم ﴾ بدلكم ﴿ ملائكة في الأرض يخلفون ﴾ أي : يخلفونكم في الأرض يعبدونني، فالملائكة وعيسى لا يستحقون الألوهية، وقيل : معنى لجعلنا منكم لولدنا منكم يا رجال ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير فحل، لتعرفوا أن الملائكة مثلكم أجسام، وأن الله تعالى قادر على كل شيء
﴿ وإنه ﴾ : عيسى ﴿ لعلم للساعة ﴾ أي : علامتها، فإن نزوله من أشراطها وقيل ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وغيرها، كفى به دليلا على علم الساعة وقيل : الضمير للقرآن١ فإن فيه الدلالة عليها، ﴿ فلا تمترن بها ﴾ : لا تشكن فيها، ﴿ واتبعون ﴾ أي : شرعي وما أخبركم به ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ : أي ما أدعوكم إليه صراط لا يظل سالكه،
١ هذا قول الحسن – رضي الله عنه/١٢ منه..
﴿ ولا يصدنكم الشيطان ﴾ : عن إتباعه، ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾
﴿ ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ﴾ : النبوة، ﴿ ولأبين لكم ﴾ هو من عطف الجملة أي : جئتكم بالحكمة وجئتكم لأبين لكم، وجاز عطفه على محذوف عام، أي : جئتكم بالحكمة لمصالحكم ولأبين، ﴿ بعض الذي تختلفون فيه ﴾ أي : بعضا توضيحه صلاح دينكم، أو بعض ما أنتم تختلفون فيه من أحكام التوراة فإن الذي لم يختلفوا فيه لما احتاج إلى تبيين،
﴿ فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم ﴾ الفرق المتحزبة، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله، ومنهم من يدعي أنه ولد الله أو هو الله ومنهم من يدعي أنه كذاب، ﴿ فويل للذين ظلموا ١ من عذاب يوم٢ أليم ﴾
١ والمراد كل ظالم هؤلاء أدخل فيهم/١٢ وجيز..
٢ ذي ألم هذا العذاب، وفيه مبالغة بليغة/١٢ وجيز..
﴿ هل ينظرون ﴾ ينتظرون، ﴿ إلا الساعة أن تأتيهم ﴾ : إلا إتيان الساعة، وأن تأتيهم بدل من الساعة، ﴿ بغتة ﴾ : فجأة، مفعول مطلق ﴿ وهم لا يشعرون١ لإنكارهم، أو لانهماكهم في دنياهم، يعني : أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم ينتظرونها،
١ مجيء الساعة فجأة، ربما يكون مع الشعور به وربما يكون مع الغفلة، فكلا القيدين محتاج إليه/١٢ منه..
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو ﴾ يومئذ ظرف، عدو الفصل بالمبتدأ غير مانع، ﴿ إلا المتقين ﴾ فإن محبتهم تبقى.
﴿ يا عباد ﴾ : حكاية لما ينادي به المتحابون المتقون، ﴿ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾
﴿ الذين ﴾ : منصوب على المدح، ﴿ آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ﴾
﴿ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم ﴾ : المؤمنات، ﴿ تحبرون ﴾ : تسرون١،
١ تسرون سرورا يظهر حباره أي: أثره على وجوهكم /١٢ منه..
﴿ يطاف عليهم بصحاف ﴾ : جمع صفحة١ ﴿ من ذهب وأكواب ﴾ : جمع كوب وهو كوز لا عروة له، ﴿ وفيها ﴾ : في الجنة، ﴿ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴾ : بمشاهدته، وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين٢ فلم يذكرها، ﴿ وأنتم فيها خالدون ﴾ وهو من أتم النعم،
١ وهي مملوءة من طعام الجنة /١٢ وجيز..
٢ إشارة إلى رد ما قاله الزمخشري، حيث قال: وهذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهاة في القلوب وإما مستلذات في العيون: واعتراض عليه بأن مستلذات ما في الحواس إن جعلت داخلة في مشتهيات القلوب فكذا مستلذات الأعين وإن لم يجعل فلا حصر والله أعلم /١٢ منه..
﴿ وتلك ﴾ : الجنة المذكورة، ﴿ الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾، والجنة إما خبر، والتي أورثتموها صفة لها، أو صفة والتي خبر، أو هما صفتان والظرف خبر،
﴿ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون١ : يبقى بعضها، أبدا لا تجد شجرة عريانة من الثمرة،
١ لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن/١٢ كبير..
﴿ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم ﴾ : لا يخفف ولا ينقص، ﴿ وهم فيه ﴾، في العذاب، ﴿ مبلسون ﴾ : ساكتون سكوت يأس،
﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ﴾ : على أنفسهم،
﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ : من قضى عليه، إذ أماته وهو تمني الموت في فرط شدتهم وحيرتهم، وهذا الكلام والنداء قبل الإبلاس وقبل أن يقال لهم :﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾[ المؤمنون : ١٠٨ ] ﴿ قال إنكم ماكثون ﴾ : المكث يشعر بالانقطاع ولا انقطاع ففيه استهزاء،
﴿ لقد جئناكم بالحق ﴾ : جواب من الله تعالى بعد جواب الملك، أو في قال ضمير يرجع إلى الله تعالى، ﴿ ولكن أكثركم للحق كارهون١
١ عن بعض السلف أنهم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم:" أنكم ماكثون"، ثم يدعون الله بقولهم ﴿ربنا غلبت علينا شقوتنا﴾ الآيات فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم أجابهم ب ﴿اخسئوا فيها ولا تكلمون﴾ (المؤمنون: ١٠٥/١٠٨) فو الله لا يسمع منهم إلا زفير وشهيق كالحمير، قال: ولكن أكثركم فإن بعضهم كافر بالتبع وبعضهم هجم [كذا بالأصل لعل الصواب: همج] لا يعرف الحق والباطل/١٢ وجيز..
﴿ أم أبرموا ﴾ : أحكموا، ﴿ أمرا ﴾، في رد الحق بحيل ومكر، ﴿ فإنا مبرمون ﴾ : كيدنا في مجازاتهم،
﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ﴾ : ما يخفون من الغير، ﴿ ونجواهم ﴾ : ما تكلموا به فيما بينهم، ﴿ بلى ﴾ : نسمعهما، ﴿ ورسلنا ﴾ : أي الحفظة ﴿ لديهم يكتبون١ : ذلك،
١ ولديهم متعلق بيكتبون، قدمه رعاية للفواصل ولما قدم في أول السورة تبكيتهم في ادعائهم ولدا وهددهم بقوله ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾ علم نبيه جوابهم وردهم فقال: ﴿قل إن كان للرحمن ولد﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ﴾، لذلك الولد جعل ثبوت الولد ملزوما لأمر منتف محال في اعتقاده، وهو عبادته للولد، لكن اللازم منتف فكذا الملزوم، والغرض نفي الولد على أبلغ وجه قال تعالى :﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا ﴾ ( الزمر : ٤ ) وعن بعضهم معناه : إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله تعالى فإن من عبد الله تعالى فقد دفع١ أن يكون له ولد، أو معناه : فأنا أول الآنفين٢ من أن يكون له ولد، المنكرين لما قلتم، يقال عبد يعبد : إذ اشتد أنفه أو إن نافية أي : ما كان له ولد، فأنا أول من قال بذلك،
١ في النسخة ن: رفع..
٢ وهذا المعنى حكاه البخاري عن سفيان الثوري يقال: عبد بالكسر يعبد بالفتح: إذا اشتد أنفه: ثم نظر إلى الزمخشري الجريء الحرى بالسب، كيف ألحد بالمقال، وقام في هذا المقام باختراع المثال، واقتحم خطبا خطيرا لم يسبقه واحد من الفجرة، ولم يخف أن يسقط عليه كسفا من السماء وأن يشق به الأرض، وأنا أتحاشى أن أذكر لفظه ورفضه عن الدين، وإن لم يداركه عفو الله فالويل ثم الويل/١٢ وجيز..
﴿ سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ﴾ : من كونه ذا ولد،
﴿ فذرهم يخوضوا ﴾ : في الباطل، ﴿ ويلعبوا ﴾ : في الدنيا :﴿ حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ أي : القيامة،
﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله١ أي : هو إله فيهما، فالظرف متعلق بأل لما فيه من معنى الوصفية٢، أو لأنه بمعنى المعبود٣ بالحق، ﴿ وهو الحكيم ﴾ : في التدبير، ﴿ العليم ﴾، بكل شيء فلا يحتاج إلى ولد،
١ أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي، في الأسماء والصفات عن قتادة قال: هو الذي يعبد في السماء ويعبد في الأرض /١٢ در منثور..
٢ بمعنى: المعبود الحق، يعني في التضمن معنى المعبود نحو هو حاتم في الحي/١٢ منه..
٣ يعني الإله وإن كان اسما للمعبود مطلقا لكن خصه العرف بالمعبود بحق ولهذا صرح لا إله إلا الله مع كثرة المعبودات الباطلة /١٢ منه..
﴿ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة ﴾، لا عند غيره، ﴿ وإليه ترجعون ﴾ : للجزاء،
﴿ ولا يملك الذين يدعون من دونه ﴾ أي : آلهتهم :﴿ الشفاعة ﴾ : كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، ﴿ إلا من شهد بالحق ﴾ : بالتوحيد، ﴿ وهم يعلمون ﴾، حقيقة ما شهدوا به ولا يكونون منافقين، والاستثناء متصل، أي : لا يملكها أحد من المعبودين إلا الموحدين كالملائكة، وعيسى، فإن لهم الشفاعة بإذن لمن ارتضى أو منقطع لأي : متعلق الذين بالأصنام،
﴿ ولئن سألتم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون١ : يصرفون من عبادته إلى عبادة غيره،
١ اعلم أنه تعالى ذكر هذا الكلام في أول هذه السورة وفي آخرها، والمقصود التنبيه على أنهم لما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى، فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة غيره /١٢ كبير، وفي الكاملين، وفيه تعجب عن الإشراك في العبادة مع الإقرار بالتوحيد في الخلق /١٢..
﴿ وقيله ﴾ : بالنصب مفعول مطلق أي : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قيله أي : شكى إلى ربه شكواه من قومه فقال :﴿ يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ﴾، أو عطف على سرهم ونجواهم أو على معنى وعنده علم الساعة أي : يعلم الساعة، و " قيله " وبالجر عطف على الساعة أي : عنده علم قيله :
﴿ فاصفح ﴾ : أعرض، ﴿ عنهم ﴾، ولا تجادلهم بمثل ما يخاطبونك من الكلام السيئ، ﴿ وقل سلام ﴾ أي : أمري وشأني تسلم ومسالمة١ منكم، ﴿ فسوف يعلمون ﴾ : غبّ ما فعلوا، فهذا وعيد أكيد لهم، ومن قرأ بالتاء فهو أيضا من مقول قل.
والحمد لله رب العالمين.
١ أي: لم يؤمر بالسلام عليهم وإنما بالتبرء عنهم وعن دينهم /١٢ منه..
Icon