تفسير سورة سورة المزمل من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة المزمل مكية
وهي تسع عشرة أو عشرون آية وفيها ركوعان
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يا أيها المزمل ﴾ أي : المتلفف بثوبه أصله المتزمل، أدغم التاء في الزاء، أو أيها النائم، أو أيها المتحمل للقرآن من الزمل الذي هو الحمل،
﴿ قم ﴾ : إلى الصلاة، ﴿ الليل ﴾ : كله، ﴿ إلا قليلا ﴾، كان الليل فرضا على الكل، ثم نسخ،
﴿ نصفه ﴾، بدل من قليلا، وهذا النصف الخالي عن الطاعة، وإن ساوى النصف المعمور بذكر الله في الكمية لا يساويه في التحقيق، بل هو القليل، وذلك النصف بمنزلة الكل، ﴿ أو انقص منه ﴾ : الضمير إلى النصف أو الليل المقيد بالاستثناء، والحاصل واحد، ﴿ قليلا ﴾، وهو الثلث،
﴿ أو زد عليه ﴾، وهو الثلثان، وهذا هو الوجه في الإعراب، والمعنى من غير تكلف الموافق لكلام السلف، ﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ : بينه، واقرأه على تؤدة، وتبيين حروف،
﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ﴾ : تلقيه لعظمة الكلام، وفي الحديث " ينزل عليه الوحي في يوم شديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا وأيضا " كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي باطن عنقها، فما تستطيع أن تحرك حتى يسري عنه " أو ثقيل العمل به على المكلفين، والجملة كالعلة لقيام الليل فإن الطاعة سيما في الليل تعين الرجل على نوائبه وتسهل عليه المصائب،
﴿ إن ناشئة الليل ﴾ أي : قيامه مصدر كالعافية، أو ساعاته، فإنها تنشأ أي : تحدث واحدة بعد أخرى أو النفس الناشئة التي تنشأ وتنهض من مضجعها إلى العبادة، ﴿ هي أشد وطئا ﴾ أي : كلفة، أو أشد ثباتا في الخبر، وأما قراءة الوطأ، فبمعنى المواطأة يعني : موافقة القلب، والسمع، والبصر، واللسان بالليل أشد وأكثر، ﴿ وأقوم قيلا ﴾ : وأشد مقالا، وأصوب قراءة لسكوت الأصوات فيه،
﴿ إن لك في النهار سبحا طويلا ﴾ : تقلبا، وإقبالا، وإدبارا في أشغالك، وأصله سرعة الذهاب، أو فراغا وسعة للنوم والحوائج جملة فيها حث على قيام الليل،
﴿ واذكر اسم ربك ﴾ : ودم على ذكره، ﴿ وتبتل ﴾ : انقطع، ﴿ إليه ﴾ : إلى الله لعبادتك، ﴿ تبتيلا ﴾، لما لم ينفك التبتل الذي هو لازم عن التبتيل الذي هو متعد يمكن أن يؤتي بمصدر أحدهما عن الآخر، وفيه مبالغة مع رعاية الفواصل أي : انقطع وجرد نفسك عما سواه تبتيلا،
﴿ رب ﴾ أي : هو رب، ﴿ المشرق والمغرب ﴾، وقراءة الجر، فعلى البدل من ربك، ﴿ لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ﴾ : فإن وحدته في الألوهية تقتضي التوكل عليه،
﴿ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ﴾ : بالإعراض عنهم، والمداراة معهم، وترك المكافأة، وقيل : هذا آية القتال،
﴿ وذرني والمكذبين ﴾ : دعني وإياهم، فإني منتقم لأٍجلك عنهم، ﴿ أولي النعمة ﴾ : أرباب التنعم، والترفه هم صناديد قريش، ﴿ ومهلهم ﴾ : زمانا، أو إمهالا، ﴿ قليلا ﴾
﴿ إن لدينا أنكالا ﴾ : قيودا ثقالا، ﴿ وجحيما ﴾
﴿ وطعاما ذا غصة ﴾ : يغص في الحلق، ولا ينزل فيه بسهولة كالزقوم، ﴿ وعذابا أليما ﴾ : نوعا آخر لا يمكن تعريفه،
﴿ يوم ترجف ﴾ : تضطرب، ظرف لمتعلق لدينا، ﴿ الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا ﴾ : مثل رمل مجتمع، ﴿ مهيلا ﴾ : منثورا أي : تصير كذلك بعدما كانت حجارة صما،
﴿ إنا أرسلنا إليكم ﴾ : يا معشر قريش، ﴿ رسولا شاهدا عليكم ﴾ : في القيامة ﴿ كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ﴾
﴿ فعصى فرعون الرسول ﴾ أي : ذلك الرسول الذي أرسلنا إليه، ﴿ فأخذناه أخذا وبيلا ﴾ : ثقيلا،
﴿ فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ﴾ أي : كيف تتقون يوما ؟ أي : عذاب يوم يجعل الولدان من شدة هوله شيبا إن كفرتم في الدنيا، كأنه قال، هب أنكم لا تؤاخذون في الدنيا كما أخذنا فرعون، فكيف تتقون أنفسكم هول القيامة إن دمتم على الكفر، ومتم عليه ؟ أو " يوما " مفعول لكفرتم بمعنى جحدتم، أي : كيف تتقون الله إن جحدتم ذلك اليوم، وفي ذكر " إن " التي للشك إشعار بأنه لا ينبغي الشك مع إٍرسال هذا الرسول النور المبين، وفي الحديث " قرأ- صلى الله عليه وسلم- يوم يجعل الولدان شيبا، قال : ذلك حين يقال لآدم : قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار، قال : من كم يا رب ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين "
﴿ السماء منفطر به ﴾ : منشق بسبب ذلك اليوم وهوله، أو الباء للآلة، أو منفطر بالله وبأمره، وتذكير منفطر على تأويل السقف، ﴿ كان وعده مفعولا ﴾
﴿ إن هذه ﴾ الآيات، ﴿ تذكرة ﴾ : عظة، ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ : يتقرب إليه بالطاعة.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى ﴾ : أقل، ﴿ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾، وفي قراءة نصب نصفه وثلثه عطف على أدنى، ويكون المراد من أدنى من ثلثي الليل الربع، ليكون تجاوزا عن الأمر فيترتب عليه قوله :" فتاب عليكم "، ويكون موافقا لتلك القراءة معنى، ﴿ وطائفة ﴾، عطف على فاعل تقوم، ﴿ من الذين معك ﴾ أي : يقومون أقل، ﴿ والله يقدر الليل والنهار ﴾ : لا يعرف مقادير ساعتهما إلا هو، فيعلم القدر الذي يقومون فيه، ﴿ علم أن لن تحصوه ﴾ : أن لن تطيقوا ما أوجب عليكم من القيام، أو لن تستطيعوا ضبط الساعات، ﴿ فتاب عليكم ﴾ : عاد عليكم بالعفو والتخفيف، وعن غير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت الذي كان الله أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل واختلفوا في المدة التي بينهما سنة، أو قريب منها أو ستة عشر شهرا أو عشر سنين، ﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ : من غير تحديد لوقت لكن قوموا من الليل ما تيسر عبر عن الصلاة بالقراءة، ومذهب حسن البصري وبعض آخر : الواجب على حملة القرآن أن يقوموا من الليل، ولو بشيء منه، وفي الحديث ما يدل على ذلك، ﴿ علم أن سيكون منكم مرضى ﴾ : لا يستطيعون القيام الذي قررناه، ﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ : يسافرون للتجارة، واجتماع كلفة السفر، كلفة إحياء الليل بالصلاة في غاية من الصعوبة، ﴿ وآخرون يقاتلون في سبيل الله ﴾، هذا إخبار عن الغيب، فإن السورة مكية، والقتال شرع في المدينة، ﴿ فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة ﴾ : المفروضة عن بعض : إنه نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس، ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ : الواجبة، وهذا يدل على قوله من قال : إن فرض الزكاة بمكة لكن المقادير والمصرف لم يبين إلا بالمدينة، ﴿ وأقرضوا الله قرضا حسنا ﴾، يريد سوى الزكاة من الصدقات، ﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو ﴾، هو ضمير الفصل، ﴿ خيرا ﴾ : من الذي تؤخرونه، أو من الذي أعطيتموه، وهو ثاني مفعولي تجدوه، ﴿ وأعظم أجرا ﴾ : نفعا، وجزاء، وفي الصحيح قال- عليه السلام- " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ قالوا : ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال : اعلموا ما تقولون، قالوا : ما نعلم إلى ذلك، قال : إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر "، ﴿ واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ﴾.
والحمد لله رب العالمين.