ﰡ
١٢٦٦- في هذه الآية من المسائل : أن هذا الأمر بالقيام هل كان للوجوب أو الندب ؟ وهل هو خاص بالنبي عليه السلام ؟ وما المراد هاهنا بالليل ؟ وما المراد " بالقليل " هاهنا ؟ وكيف يعتقد أن " نصفه " بدل من القليل، فيلزم أن يوصف نصف الشيء بأنه قليل منه، وهو بعيد في اللغة، أو هو بدل من غيره ؟ وما تقرير ذلك ؟ و " أو " هاهنا هل هي للتخيير أم لا ؟ وإذا كانت للتخيير فما المخير فيه ؟ وهل هذا التخيير بين هذه الثلاثة مثل التخيير بين خصال الكفارة الثلاث أم لا ؟
والجواب : أن هذه الآية من أشكل آيات الاستثناء وأبعدها عذرا. وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى له بها عناية شديدة، ويقع فيها بينه وبين أصحابه بحث كثير، وأنا أذكر جميع ذلك إن شاء الله تعالى. ٢
أما قيام الليل، فقال ابن عطية وغيره : " إن الجمهور أهل العلم على حمله على الندب، مذ كان لم يفرض قط " ٣. وقيل : المراد به الفرض.
واختلف هؤلاء فقال بعضهم : كان الفرض خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبقي كذلك حتى توفي صلى الله عليه وسلم. وقيل : بل النسخ عنه بقي تطوعا في حقه آخر العمر. وقال بعضهم : كان فرضا على الجميع، قال سعيد بن جيبر : دام ذلك عشرين سنة. وقال ابن عباس وعائشة : دام عاما٤، وروي عنهما : ثمانية أشهر ثم رحمهم الله تعالى فنسخ الوجوب عنهم، ونزلت الآية :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ﴾٥.
وقال قتادة : بقي عاما أو عامين٦.
والمراد بالليل : الليالي، لأن لام التعريف للعموم. ومعنى الآية : " قم الليالي إلا قليلا منها، وهي ليالي الأعذار " والليالي للعموم، والليل للعموم، فالمعنى فيهما واحد. وإنما الخلاف في سورة اللفظ، والمراد من اللفظين واحد، وليالي الأعذار هي ليالي المرض والسفر، ونحو ذلك، ثم أبدل " نصفه " من الليالي التي لا عذر فيها.
وأصل الكلام : " قم الليالي التي لا عذر فيها نصفها " لكن لما كان اللفظ مفردا مذكرا، جاء الضمير الذي أضيف إليه النصف مفردا مذكرا، الأصل ما ذكرته " فنصفه " ليس بدلا من قليل بل من أصل الكلام.
والزمخشري، وجماعة من فحول النحاة وكبارهم في كتب النحو جعلوه بدلا من قليل، وتوسعوا في ذلك حتى جعلوا هذه الآية تدل على أن هذا النصف يسمى قليلا٧.
وليس الأمر كما قالوا، بل عرف اللغة في الاستعمال يمنع من ذلك.
وأما " أو " هاهنا فللتخيير، والمخير فيه الثلث والنصف والثلثان، وذلك من قوله تعالى بعد ذكر النصف :﴿ أو انقص منه قليلا ﴾.
قال العلماء : هذا القليل الذي ينقص من النصف هو السدس، فيبقى الثلث فقط. وقوله تعالى :﴿ أو زد عليه ﴾ أي : زد عليه النصف قليلا، وهذا القليل هو السدس، فيصير المأمور به هو الثلثين، فيقع التخيير بين الثلث، والنصف، والثلثين، ثم هذا هو المخير فيه.
وأما أن التخيير بين هذه الثلاثة، هل هو كالتخيير بين خصال الكفارة أو لا ؟ فالحق ليس مثله، لأن التخيير بين تلك الثلاثة يقتضي أن له ترك كل واحد منها إذا فعل الآخر، ويكون ذلك عاما فيها.
وهاهنا ليس كذلك، لأن الثلث لا يمكن تركه البتة إذا فعل النصف أو الثلثين لاستلزام كل واحد منهما الثلث لدخوله بطريق أنه بعضه، فهذا فرق.
وإذا قلنا بأن الآية للوجوب، يكون ثلث الليل هو المتعين للوجوب، والنصف والثلثان متعينين للندب لأجل التخيير المانع من الوجوب، ولم يخير الله تعالى في ترك الثلث البتة، بل أوجبه.
ولفظ الآية إنما اقتضى التخيير فيما زاد على الثلث خاصة، فبقي التخيير بين واجب عينا ومندوبين عينا.
وأما في خصال الكفارة لكل واحد منهما موصوف بالوجوب، باعتبار أنه أحد الخصال، فيحصل على تقدير القول بالوجوب فرقان :
التعيين للوقوع في الأقل، والوجوب فيه.
وعدم هذين الفرقين فيما زاد على الثلث.
فهذا هو الفرق بين هذا النمط من التخيير، وخصال الكفارة وما فيها من التخيير، فتأمل ذلك فإنه حسن، وكل هذا إنما تلخص بين يدي سيدي الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى عليه. ( الاستغناء : ٣٥٥ وما بعدها )
٢ - أغلب ما سيذكره القرافي عن العز ورد في كتاب "فوائد مشكل القرآن" للعز : ١٧٣-١٧٤..
٣ - ن : المحرر الوجيز : ٥/٣٨٦..
٤ - ن : تفسير ابن كثير : ٤/٦٨٣. والمحرر الوجيز: ٥/٣٨٧..
٥ - سورة المزمل : ١٨..
٦ - ن : تفسير ابن كثير : ٤/٦٨٣. والمحرر الوجيز: ٥/٣٨٧..
٧ - جاء في الكشاف : ٤/١٧٥: "نصفه" بدل من الليل و"قليلا" : استثناء من النصف، ثم قال بعد ذلك :"وإن شئت جعلت "نصفه" بدلا من "قليلا"..
١٢٦٩- قال ابن عطية في تفسيره : " فرق بين ضرب في الأرض، وضرب الأرض : أن الأول للتجارة، والثاني للحج والغزو والقربات، كأن المسافر منغمس في الأرض ومتاعها، فقيل : ضرب فيها. والتقرب إلى الله عز وجل برىء من الدنيا فلم يجعل فيها " ٢. ( نفسه : ٦/٢٤ )
٢ - عبارة ابن عطية هي: "الضرب في الأرض هو السفر للتجار. وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط، فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل، وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو، فخفف عنهم القيام لها. وفي هذه الآية فضلة الضرب في الأرض، بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد" ن : المحرر الوجيز : ٥/٣٩١..