ﰡ
مكية إلا قولَه تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ﴾ إلى آخر السورة؛ فإن ذلك نزل بالمدينة، آيها: عشرون آية، وحروفها: ثماني مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، وكلمها: مئة وسبع كلمات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)﴾.[١] روي أن رسول الله - ﷺ - لما جاءه جبريل -عليه السلام- في غار حراء، وحاوره بما حاوره، ورجع رسول الله - ﷺ - إلى خديجة -رضي الله عنها- فقال: "زَمِّلوني زملوني"، فنزل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ (١) أصله: المتزمل، أدغمت التاء في الزاي؛ أي: معناه: الملتقِّفُ بثوبه، يقال: تزمَّلَ بثوبه: إذا تغطَّى به.
وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (٥/ ٣٨٦): جمهور المفسرين والزهري بما في البخاري من أنه عليه السلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره، رجع رسول الله - ﷺ - إلى خديجة فقال: "زملوني زملوني"، فنزلت: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾. وعلى هذا نزلت: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾.
[٢] ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ للصلاة، ونصبه ظرف، وكسر الميم للساكنين.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ وكان قيام الليل فريضة في الابتداء.
...
﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣)﴾.
[٣] وبيَّن قَدْرَه فقال: ﴿نِصْفَهُ﴾ ظرف أيضًا.
﴿أَوِ انْقُصْ مِنْهُ﴾ من النصف ﴿قَلِيلًا﴾ إلى الثلث.
...
﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)﴾.
[٤] ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ على النصف إلى الثلثين، خَيَّره بين هذه المنازل. قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب: (أَوِ انْقُصْ) بكسر الواو، والباقون: بضمها (١) ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ أي: بينه تبيينًا.
سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي - ﷺ -؟ فقال: "كانت مَدًّا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم" (٢).
...
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥)﴾.
[٥] ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ هو القرآن؛ لما فيه من الأوامر والنواهي والحدود.
(٢) رواه البخاري (٤٧٥٩)، كتاب: فضائل القرآن، باب: مد القراءة.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا (١).
والخطاب الخاص بالنبي - ﷺ - كـ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ونحوه عام للأمة، إلا بدليل يخصه، وهذا قول أحمد والحنفية والمالكية، وقال أكثر الشافعية: لا يعمهم إلا بدليل، وخطابه - ﷺ - لواحد من الأمة هل يعم غيره؟ قال الشافعي والحنفية والأكثر: لا يعم، وقال أبو الخطاب من أئمة الحنابلة: إن وقع جوابًا، عمَّ، وإلا فلا.
...
﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦)﴾.
[٦] ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته كلها، وناشئة جمع ناشى، سميت بذلك؛ لأنها تنشأ؛ أي: تبدو، فكل ما حدث بالليل وبدأ فقد نشأ، وقيل: إن (ناشئة) حبشية معربة.
﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا﴾ قرأ أبو عمرو، وابن عامر (وِطَآءً) بكسر الواو وفتح الطاء وألف ممدودة بعدها؛ أي: أَثبتُ قيامًا، وقرأ الباقون: بفتح الواو وإسكان الطاء من غير مد، وإذا وقف حمزة، نقل حركة الهمزة إلى الطاء، فحركها
﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ أصحُّ قولًا؛ لهدوء الناس، وسكون الأصوات.
...
﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧)﴾.
[٧] ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ تصرُّفًا وتقلُّبًا في مهماتك وشغلك كما يتردد السابح في الماء.
...
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨)﴾.
[٨] ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ بالتوحيد.
﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ أي: انقطعْ إليه عما سواه، وأخلص له إخلاصًا.
...
﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩)﴾.
[٩] ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ قرأ ابن عامر، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (رَبِّ) بخفض الباء على نعت الرب في قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)، وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء (٢)، وتقدم
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢١٦)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٩٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٢٥٣ - ٢٥٤).
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ أي: فوض إليه أمرك.
...
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ يعني: قريشًا ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ وهو ألَّا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، ونسختها آية القتال.
...
﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١)﴾.
[١١] ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ﴾ وعيد لهم؛ أي: لا تشتغل بهم فكرًا، وكِلْهم إلي.
﴿أُولِي النَّعْمَةِ﴾ بفتح النون: أي: التنعيم، وبكسرها؛ أي: الإنعام، وبضمها: المسرة، والتلاوة بالأول ﴿وَمَهِّلْهُمْ﴾ إمهالًا ﴿قَلِيلًا﴾ فلم يكن إلا اليسير حتى قتلوا ببدر.
...
﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا﴾ قيودًا ثقالًا، كلما ارتفعوا بها في جهنم، استفلَتْ بهم ﴿وَجَحِيمًا﴾ نارًا محرقة.
[١٣] ﴿وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ﴾ ينشب في حلوقهم، فلا يسوغ فيها.
﴿وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾ زيادة على تعذيبهم.
...
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤)﴾.
[١٤] ﴿يَوْمَ﴾ العامل فيه الفعل الذي تضمنه ﴿إِنَّ لَدَيْنَا﴾ المعنى: استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم ﴿تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ تتحرك وتتزلزل لهول ذلك اليوم.
﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا﴾ رملًا ﴿مَهِيلًا﴾ سائلًا بعد اجتماعه.
...
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥)﴾.
[١٥] ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿رَسُولًا﴾ هو محمد - ﷺ -.
﴿شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ يوم القيامة بالكفر والإيمان ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾.
...
﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦)﴾.
[١٦] نكر الرسول، ثم دخل حرف التعريف في ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ ليعود المعرف على المنكر بعينه، وهو موسى -عليه السلام-، وتمثيلُه لهم أمرَهم بفرعون وعيدٌ؛ كأنه يقول: فحالُهم من العذاب والعقاب إن كفروا صائرة (١) إلى مثل حال فرعون.
...
﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧)﴾.
[١٧] ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ﴾ أنفسكم ﴿إِنْ كَفَرْتُمْ﴾ بقيتم على الكفر.
﴿يَوْمًا﴾ مفعول ﴿تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ لا ظرفًا لـ ﴿كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ ثم لأن الكفر لا يكون يوم.
﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ جمع أشيب، وهو الأبيض الرأس.
...
﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ﴾ منشق ﴿بِهِ﴾ يعني: باليوم؛ لشدته، وبما عليه من الملائكة؛ كانفطار الخشبة بالقدوم، ولم يقل: منفطر؛ لأن السماء تذكر وتؤنث، فمن ذكر، ذهب إلى المعنى؛ لأن معناها السقف؛ لقوله: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا﴾ [الأنبياء: ٣٢]، ومن أنث، ذهب إلى اللفظ.
﴿كَانَ وَعْدُهُ﴾ تعالى بمجيء ذلك اليوم ﴿مَفْعُولًا﴾ كائنًا بلا بد.
...
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (١٩)﴾.
[١٩] ﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ الآياتِ المخوفة ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ عظةٌ.
﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ بالإيمان.
[٢٠] ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى﴾ أقلَّ (١) ﴿مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ قرأ هشام عن ابن عامر: (ثُلْثَي) بإسكان اللام، والباقون: بضمها ﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ قرأ ابن كثير، والكوفيون: بنصب الفاء والثاء وضم الهاءين عطفًا على (أَدْنَى)؛ أي: وتقوم نصفه وثلثه، وقرأ الباقون: بخفض الفاء والثاء وكسر الهاءين عطفًا على (ثُلُثَي) (٢)؛ أي: وتقوم أقلَّ من ثلثي الليل ومن نصفه ومن ثلثه.
﴿وَطَائِفَةٌ﴾ أي: تقوم أنت وتقوم طائفة ﴿مِنَ﴾ أصحابك ﴿الَّذِينَ مَعَكَ﴾ يعني: المؤمنين، وكانوا يقومون معه.
﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [فيعرف مقادير جميع ذلك ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ لن تطيقوا معرفة ذلك ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ فعاد عليكم بالعفو والتخفيف بترك ما فرض من قيام الليل] (٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٥٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١٦)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٩٥ - ٤٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ٢٥٥).
(٣) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يسافرون للتجارة ﴿يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ أي: رزقه ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: يجاهدون لا يطيقون قيام الليل.
﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ أي: القرآن، كان هذا في صدر الإسلام، ثم نُسخ بالصلوات الخمس، وذلك قوله تعالى:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضةَ ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ الواجبة.
﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ هو الإنفاق في سبل الخير غير المفروض.
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ مما تؤخِّرونه إلى الوصية، ونصب (خَيْرًا) (وَأَعْظَمَ) على المفعول الثاني لـ (تَجِدُوهُ)، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين.
﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ لذنوبكم ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ كان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر، ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح، والله أعلم.