سورة الأعراف مكية إلا ثمان آيات
من قوله ( فاسألهم ) إلى قوله ( وإذ تنقنا ) وقيل إلى قوله ( وأعرض عن الجاهلين ) وآياتها مائتان وست.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ المص كتاب ﴾ أي : هو كتاب أو خبر المص إن كان اسم سورة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ المص كتاب ﴾ أي : هو كتاب أو خبر المص إن كان اسم سورة.
﴿ أُنزل إليك ﴾ صفته،
﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ أي : شك ونهيه عنه للمبالغة، أو نهي لأمته أو ضيق قلب من تبليغه مخافة التكذيب
﴿ لتُنذر به ﴾ : متعلق بأنزل أو بلا يكن فإنه إذا لم يكن ذا حرج كان أجسر على الإنذار
﴿ وذكرى ﴾ موعظة،
﴿ للمؤمنين ﴾ تقديره : لتنذر به الكافرين ولتذكر ذكرى للمؤمنين أو عطف على محل تنذر، أو عطف على كتاب.
﴿ اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ﴾ اتبعوا أوامر الله ونواهيه، ﴿ ولا تتّبعوا من دونه ﴾ : من دون ربكم، ﴿ أولياء ﴾ من الجن والإنس فيضلوكم ﴿ قليلا ما تذكّرون ﴾ تتعظون اتعاظا قليلا وما مزيدة لتأكيد القلة.
﴿ وكم من قرية ﴾ كثيرا منها ﴿ أهلكناها ﴾ بالعذاب لمخالفة الرسل، أي : أردنا إهلاك أهلها ﴿ فجاءها بأسُنا ﴾ عذابنا ﴿ بياتا ﴾ بايتين ليلا ﴿ أو هم قائلون ﴾ عطف على بياتا فإنه حال من القيلولة، أي : الضحى وكلا الوقتين وقت غفلة واستراحة فالعذاب فيهما أفظع.
﴿ فما كان دعواهم ﴾ دعاؤهم وقولهم ﴿ إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾ أي : أقروا بحقية العذاب تحسرا.
﴿ فلنسألن الذين أُرسل إليهم ﴾ عن إجابتهم الرسل ﴿ ولنسألن المرسلين ﴾ عن إبلاغ الرسالة وعما أجيبوا به.
﴿ فلنقصّن عليهم ﴾ على الرسل والأمم يخبر عباده بما عملوا من جليل وقليل ﴿ بعلم ﴾ عالمين بجملته ﴿ وما كنا غائبين ﴾ عنهم فيخفى علينا.
﴿ والوزن ﴾ أي : للأعمال ﴿ يومئذ ﴾ يوم السؤال ﴿ الحق ﴾ العدل ووزن الأعمال بتقليبها أجساما أو بوزن صحيفة الأعمال أو صاحب الأعمال، قيل : تارة توزن الأعمال وتارة صحيفتها وتارة صاحبها جمعا بين الأحاديث، ويومئذ خبر الوزن والحق صفته. ﴿ فمن ثقُلت موازينه ﴾ جمع موزون أي : أعماله مطلقا أو ميزان وجمعه على الثاني باعتبار كثرة الموزون. ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون الناجون.
﴿ ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ بتضييع الفطرة السليمة. ﴿ بما كانوا بآياتنا يظلمون ﴾ فينكرونها.
﴿ ولقد مكّناكم في الأرض ﴾ بالتمليك والتصرف والقدرة. ﴿ وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ أسباب تعيشون بها. ﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ أي : شكرا قليلا، وما مزيدة.
﴿ ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ﴾ خلق آدم من طين غير مصور ثم صوره نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره ؛ لأنه أبو البشر، أو خلقناكم يا بني آدم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم أو صورناكم في ظهر آدم أو يوم الميثاق حين أخرجهم كالذر، أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء، وعلى هذا ﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ : للتراخي في الإخبار.
﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ وقد مر الكلام في أن المأمور به جميع الملك، أو ملائكة الأرضين وان إبليس منهم، أو من الجن.
﴿ قال ما منعك ألا تسجد ﴾ منع بمعنى أحوج واضطر ؛ لأن الممنوع عن شيء مضطر إلى خلافه، أي : ما أحوجك إلى عدم السجدة ؟ أو لا زائدة مؤكدة معنى الفعل الداخلة هي عليه والسؤال للتوبيخ ﴿ إذ أمرتك قال أنا خير منه ﴾ كأنه قال : المانع أني خير منه.
﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ والنار ألطف وأنور، فقاس وقصر النظر بالعنصر، وما نظر إلى تشريف خلقه بيده ونفخ روحه فيه، وأخطأ في القياس أيضا، فإن من طين الحلم والوقار والرزانة والصبر وهو محل النبات والنمو، ومن النار الإهلاك والطيش والسرعة والارتفاع.
﴿ قال فاهبط منها ﴾ من الجنة أو من السماء أو من منزلتك ﴿ فما يكون لك ﴾ ما يستقيم ﴿ أن تتكبّر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ﴾ ممن أهانه الله لكبره.
﴿ قال أنظِرني ﴾ أمهلني فلا تمتني ﴿ إلى يوم يُبعثون قال إنك من المنظرين ﴾ إلى ابتداء القيامة وهي النفخة الثانية فتموت حين موت الخلائق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:﴿ قال أنظِرني ﴾ أمهلني فلا تمتني ﴿ إلى يوم يُبعثون قال إنك من المنظرين ﴾ إلى ابتداء القيامة وهي النفخة الثانية فتموت حين موت الخلائق.
﴿ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾ أي : بسبب إغوائك إياي أقسم بالله لأقعدن لهم كما يقعد القطاع للسابلة طريق الإسلام والباء متعلق بأقسم المقدر ؛ ولأن لام القسم مانع من تعلقه بأقعدن، ونصب صراط على الظرف، أو تقديره على صراطك.
﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ﴾ من قبل آخرتهم فأشككهم فيها أو دنياهم ﴿ ومن خلفهم ﴾ دنياهم أزين لهم أو آخرتهم ﴿ وعن أيمانهم ﴾ من قبل حسناتهم، ﴿ وعن شمائلهم ﴾ قبل سيآتهم، أو المراد من أي وجه يمكن، ﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ مطيعين، وإنما قاله ظنا وقياسا، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه.
﴿ قال اخرج منها مذءوما ﴾ معيبا، والذأم : أشد العيب ﴿ مدحورا ﴾ مطرودا، ﴿ لمن تبعك منهم ﴾ لام توطئة القسم وجوابه ﴿ لأملأن جهنم منكم أجمعين ﴾ وهو ساد مسد جواب الشرط.
﴿ ويا آدم ﴾ أي : قلنا ﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة فكُلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ﴾ وقد مر الخلاف في الشجرة ﴿ فتكونا ﴾ يحتمل النصب على الجواب، والجزم على العطف ﴿ من الظالمين ﴾.
﴿ فوسوس لهما ﴾ فعل الوسوسة لأجلهما ﴿ الشيطان ﴾ والوسوسة حديث يلقيه في القلب ﴿ ليُبدي لهما ﴾ ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة وإما للغرض، فإن اللعين يعلم أن العصيان في الجنة سبب لسلب اللباس والفضيحة ﴿ ما وُوري عنهما ﴾ ما غطى عنهما وستر ﴿ من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن ﴾ أكل ﴿ هذه الشجرة إلا ﴾ كراهة ﴿ أن تكونا ملكين ﴾ يحصل لكما ما للملائكة من القوة والاستغناء عن الغذاء وغيره ﴿ أو تكونا من الخالدين ﴾ في الجنة.
﴿ وقاسمهما إني لكما من الصالحين ﴾ أي : أقسم لهما على ذلك، و( لكما ) متعلق بالناصحين على حذف المفسر، أو التوسع في الظرف.
﴿ فدلاهما ﴾ خدعهما ﴿ بغرور ﴾ بما غرهما به من القسم ﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ وجد طعمها ﴿ بدت لهما سوءاتُهما ﴾ بأن تهافت عنهما لباسهما ﴿ وطفقا ﴾ أخذا ﴿ يخصفان ﴾ يلزقان ﴿ عليهما من ورق ﴾ أشجار ﴿ الجنة وناداهما ربهما ألم أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٢٢ ) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الهالكين، والأصح أن هذه كلمات تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ فدلاهما ﴾ خدعهما ﴿ بغرور ﴾ بما غرهما به من القسم ﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ وجد طعمها ﴿ بدت لهما سوءاتُهما ﴾ بأن تهافت عنهما لباسهما ﴿ وطفقا ﴾ أخذا ﴿ يخصفان ﴾ يلزقان ﴿ عليهما من ورق ﴾ أشجار ﴿ الجنة وناداهما ربهما ألم أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٢٢ ) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الهالكين، والأصح أن هذه كلمات تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.
﴿ قال اهبطوا ﴾ الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية والعمدة في العداوة آدم وإبليس كما قال تعالى في سورة طه ( اهبطا منها جميعا ) ( طه : ١٢٣ )، أو الخطاب لآدم وحواء وذريتهما ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ في موضع الحال أي : متعادين لكم ﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ موضع قرار ﴿ ومتاع إلى حين ﴾ وتمتع إلى آجال معلومة.
﴿ قال فيها تَحْيَون وفيها تموتون ومنها تُخرجون ﴾ يوم القيامة.
﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم ﴾ أي : خلقنا لكم ولما كان بقضاء سماوي، وأسباب من السماء قال :( وأنزلنا ) وكم مثله في القرآن ﴿ لباسا يواري ﴾ يستر ﴿ سوءاتكم ﴾ فأغناكم عن خصف الورق ﴿ وريشا ﴾ مالا أو ما يتجمل به من الثياب، أو جمالا، ﴿ ولباس التقوى ﴾ خشية الله أو الإيمان أو العمل الصالح، أو العفاف، أو هو اللباس الأول يعني لباسا يواري عوراتكم، أو لباس الحرب وهو مبتدأ ﴿ ذلك خير ﴾ خبره ﴿ ذلك ﴾ أي : خلق اللباس، ﴿ من آيات الله ﴾ الدالة على فضله ﴿ لعلهم يذكّرون ﴾ يتعظون فيتورعون عن كشف العورة.
﴿ يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان ﴾ لا يضلنكم ﴿ كما أخرج أبويكم ﴾ فتنهما فأخرجهما ﴿ من الجنة ينزع عنهما لباسهما ﴾ حال من أبويكم أو من فاعل أخرج، والشيطان سبب الإخراج والنزع ﴿ ليُريهما سوءاتهما ﴾ فإن كل واحد منهما ما رأى عورة صاحبه قط ﴿ إنه يراكم هو وقبيله ﴾ جنوده ﴿ من حيث لا ترونهم ﴾ تعليل للنهي فإن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة ﴿ إنا جعلنا الشياطين أولياء ﴾ أحباء ﴿ للذين لا يؤمنون ﴾ فإنهم متابعوهم، أو سلطانهم عليهم ليزيد غيهم.
﴿ وإذا فعلوا فاحشة ﴾ ككشفهم عورتهم في الطواف نسائهم ورجالهم ﴿ قالوا وجدنا عليها ﴾ على تلك الفعلة المتناهية في القبح ﴿ آباءنا والله أمرنا بها ﴾ اعتقدوا أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ﴿ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ فإنه لا يأمر إلا بما لا ينفر عنه الطبع السليم، ولا يستعيبه العقل المستقيم ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾.
﴿ قل أمر ربي بالقسط ﴾ بالعدل لا الإفراط ولا التفريط ﴿ وأقيموا ﴾ عطف على أمر ربي، ومثله شائع ﴿ وجوهكم عند كل مسجد ﴾ استقيموا في العبادة في محالها وهي متابعة الأنبياء أو وجهوا وجوهكم إلى الكعبة في الصلاة حيث كنتم، أو صلوا في أي مسجد كنتم فيه إذا حضرت الصلاة ولا تؤخروها إلى مساجدكم ﴿ وادعوه مخلصين ﴾ فلا تقبل عبادة إلا إذا كانت موافقة للشريعة خالصة ﴿ له الدين ﴾ الطاعة ﴿ كما بدأكم ﴾ أنشأكم ابتداء ﴿ تعودون ﴾ بإحيائكم وإيجادكم بعد موتكم وفنائكم أو كما خلقكم مؤمنا وكافرا تعودون مؤمنا وكافرا.
﴿ فريقا هَدى ﴾ فوفقهم للإيمان ﴿ وفريقا حق عليهم الضلالة ﴾ وانتصابه بمقدر تفسيره ما بعده، أي : وفريقا أضل ﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ﴾ فيتبعونهم ﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾.
﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم ﴾ ثيابكم التي تستر عورتكم ﴿ عند كل مسجد ﴾ بصلاة وطواف ﴿ وكلوا واشربوا ﴾ نزلت حين كان بنو عامر لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ولا يأكلون إلا قوتا فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك : أي : كلوا ما طاب، ﴿ ولا تُسرفوا ﴾ : بتحريم الحلال ﴿ إنه لا يحب ﴾ لا يرتضي فعل ﴿ المسرفين ﴾ المعتدين حده في حلال أو حرام، أو معناه لا تسرفوا بإفراط الطعام والشراب.
﴿ قل من حرّم زينة الله ﴾ التي حرمتموها على أنفسكم في الطواف ﴿ التي أخرج ﴾ من النبات والحيوان والمعادن كالقطن والحرير والدروع ﴿ لعباده الطيبين من الرزق ﴾ المستلذات من المآكل والمشارب كما حرمتم من عند أنفسكم في أيام الحج ﴿ قل هي ﴾ : أي : الطيبات مخلوقة ﴿ للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ بالأصالة والكفرة شريكهم تبعا ﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ لا يشاركهم الكافرون وقيل : خالصة في الآخرة من التنغيص والغم خلافا للدنيا، ونصبه على الحال من المستكن في الظرف ﴿ كذلك ﴾ كتفصيلنا هذا الحكم ﴿ نفصّل ﴾ جميع ﴿ الآيات لقوم يعلمون ﴾ أن الله هو الذي يحرم ويحلل أو لقوم غير جاهلين.
﴿ قل إنما حرّم ربي الفواحش ﴾ ما تزايد قبحه كالكبائر ﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾ جهرها وسرها ﴿ والإثم ﴾ كل ذنب، أو الصغائر أو الخمر ﴿ والبغي ﴾ الظلم ﴿ بغير الحق ﴾ متعلق بالبغي مؤكد له معنى ﴿ وأن تُشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا ﴾ برهانا ومن المحال إنزال البرهان على الإشراك فيكون هذا تهكما واستهزاء ﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ بالافتراء عليه.
﴿ ولكل أمة ﴾ كذبت رسولها ﴿ أجل ﴾ وقت معين لنزول العذاب والاستئصال ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ أي : إذا جاء وقت العذاب لا يتأخر ولا يتقدم أقصر وقت، ويصل إليهم في ذلك الوقت المقدر، أو لا يطلبون التأخر والتقدم ؛ لشدة الهول.
﴿ يا بني آدم إما يأتينّكم رسل منكم ﴾ إن حرف شرط وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ﴿ يقصّون عليكم آياتي ﴾ التي فيها الفرائض والأحكام ﴿ فمن اتّقى ﴾ الشرك منكم ﴿ وأصلح ﴾ عمله ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ في الآخرة ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ وهذا الشرط والجزاء إما يأتينكم.
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ﴾ منكم عطف على من اتقى ﴿ واستكبروا عنها ﴾ فتركوا العمل بها ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ تقوّل عليه ما لم يقله ﴿ أو كذّب بآياته ﴾ أو كذب ما قاله ﴿ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ﴾ ينالهم ما كتب عليهم وهو قوله :( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) ( الزمر : ٦ )، أو ما وعدوا في الكتاب من خير أو شر أو ما أثبت لهم في اللوح المحفوظ أو مما كتب لهم من العمل والرزق والعمر ﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا ﴾ ملك الموت وأعوانه ﴿ يتوفّونهم ﴾ أي : أرواحهم حال من الرسل ﴿ قالوا ﴾ جواب إذا ﴿ أين ما كنتم ﴾ ما موصولة أي : أين الآلهة التي كنتم ﴿ تدعون ﴾ تعبدونها ﴿ من دون الله ﴾ وهو سؤال وتقريع ﴿ قالوا ضلّوا عنا ﴾ غابوا فلا نراهم ولا ننتفع بهم ﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾.
﴿ قال ﴾ الله لهم يوم القيامة ﴿ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ﴾ أي : ادخلوا في النار كائنين في زمرة أمم تقدم زمانهم أي : كفار الجن والإنس ﴿ كلما دخلت أمّة ﴾ في النار ﴿ لعنت أختها ﴾ في الدين التي ضلت بالاقتداء بها ﴿ حتى إذا ادّاركوا ﴾ تلاحقوا واجتمعوا ﴿ فيها جميعا قالت أُخراهم ﴾ دخولا في النار ﴿ لأُولاهم ﴾ أي : لأجل أولهم دخولا، أي : الأتباع للمتبوعين، فإن المتبوع دخل قبل التابع ؛ لأنه أشد جرما، أو آخر كل أمة لأولها، أو أهل آخر الزمان لأولهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين ﴿ ربنا هؤلاء أضلّونا ﴾ أي : سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم ﴿ فآتهم عذابا ضِعفا ﴾ مضاعفا ﴿ من النار ﴾ : أي : أضعف عليهم العقوبة ﴿ قال لكل ضعف ﴾ أي : لكل واحد ضعف من عذاب جهنم في هذا الحين، أو لكل عذاب لا مزيد له، أو عذاب ضعف ما يتصور أحدكم في شأن الآخر ﴿ ولكن لا تعلمون ﴾ ما لكل فريق منكم من العذاب.
﴿ وقالت أولاهم ﴾ القادة ﴿ لأُخراهم ﴾ الأتباع ﴿ فما كان لكم علينا من فضل ﴾ رتبوا هذا الكلام على قول الله يعني : أن القادة لما سمعوا قوله تعالى :( لكل ضعف ) : قالوا للسفلة : ما لكم فضل علينا فإنا متساوون في الضلال والعذاب ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ﴾ من قول القادة، أو من قول الله.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾ أي : عن الإيمان بها، ﴿ لا تُفتّح لهم ﴾ لأرواحهم ﴿ أبواب السماء ﴾ بل يهوى بها إلى السجين أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء ﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ﴾ أي : حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه ﴿ وكذلك ﴾ مثل ذلك الجزاء الفظيع ﴿ نجزي المجرمين ﴾.
﴿ لهم من جهنم مهاد ﴾ فراش ﴿ ومن فوقهم غَوَاش ﴾ لحاف جمع غاشية ﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ سماهم مرة ظالما ومرة مجرما ؛ لتعدد قبائحهم وتكثرها.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلّف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ ( لا نكلف ) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب بأن هذه المرتبة الجليلة ممكنة الوصول إليها بسهولة.
﴿ ونزعنا ﴾ أخرجنا ﴿ ما في صدروهم من غلّ ﴾ حسد وحقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد ﴿ تجري من تحتهم ﴾ تحت منازلهم ﴿ الأنهار وقالوا ﴾ لما رأوا تلك النعمة ﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا ﴾ لعمل هذا ثوابه ﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ اللام لتوكيد النفي ويدل ما قبل لولا على جوابه ﴿ لقد جاءت رُسل ربنا بالحق ﴾ فحصل لنا هذه النعمة بإرشادهم ﴿ ونودوا أن تلكم الجنة ﴾ إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها، وأن هي المخففة أو مفسرة فإن المناداة من القول ﴿ أورثتموها ﴾ حال من الجنة أو خبر والجنة صفة ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ أعطيتموها بلا تعب كالميراث، أو ميراثكم من أهل الجنة، فقد ورد ( ما من أحد إلا وله منزل في الجنة وفي النار، والكافر يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن الكافر من الجنة ).
﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ﴾ تبجحا بحالهم وشماتة بالكفرة ﴿ أن قد وجدنا ﴾ يحتمل المخففة والتفسير ﴿ ما وعدنا ربنا ﴾ في الدنيا من الثواب ﴿ حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم ﴾ من العذاب وأهوال الآخرة ﴿ حقا قالوا نعم فأذّن مؤذن ﴾ نادى مناد ﴿ بينهم أن لعنة الله على الظالمين ﴾ ( أن ) كما مر ﴿ الذين يصدّون عن سبيل الله ﴾ صفة الظالمين.
﴿ الذين يصدّون عن سبيل الله ﴾ أي : يمنعون الناس عن اتباع شرعه ﴿ ويبغونها عِوجا ﴾ زيغا وميلا حتى لا يتبعها أحد ﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾.
﴿ وبينهما حجاب ﴾ بين الجنة والنار حاجز يمنع من وصول أهل النار إلى الجنة، وهو الأعراف ﴿ وعلى الأعراف ﴾ وهو السور المضروب بينهما ﴿ رجال يعرفون كلا ﴾ من أهل الجنة والنار ﴿ بسيماهم ﴾ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها قبل دخول أهل الجنة الجنة والنار النار وبعّده لارتفاع محلهم وإشرافهم، وبإعلام الله تعالى إياهم فهم يعرفونهم بأشخاصهم، والأصح بل الصحيح أنهم قوم استوت حسناتهم وسيآتهم ﴿ ونادوا ﴾ عطف على يعرفون ﴿ أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ وأن مثل ما مر ﴿ لم يدخلوها ﴾ استئناف ﴿ وهم يطمعون ﴾ في دخولها عطف، أو حال من النفي أي : هم عند عدم الدخول كانوا طامعين.
﴿ وإذا صُرفت أبصارهم ﴾ فيه إشارة إلى أن نظرهم إلى أصحاب النار لا برغبة منهم وميل ﴿ تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ في النار.
﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا ﴾ من الكفرة ﴿ يعرفونهم بسيماهم ﴾ من رؤساء الكفرة يقولون : يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل يا فلان يا فلان ﴿ قالوا ﴾ لهم ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ لم تنفعكم كثرتكم أو جمعكم المال ﴿ وما كنتم تستكبرون ﴾ عن الحق.
﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ﴾ من تتمة قول أهل الأعراف لأولئك الكفار، والإشارة إلى ضعفاء الجنة التي كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يدخلون الجنة ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ أي : ثم يقال لأهل الأعراف ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار قال أهل النار : إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعييرا لهم فقال الملائكة : أهؤلاء أي : أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار أنه لا ينالهم الله برحمته ؟ !، ثم قالت الملائكة لهم ( ادخلوا الجنة ) الآية.
﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ﴾ ألقوا علينا ﴿ مما رزقكم الله ﴾ من الطعام ﴿ قالوا إن الله حرّمهما ﴾ أي : ماء الجنة وطعامها ﴿ على الكافرين ﴾.
﴿ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ﴾ فاستهزءوا به أو جعلوا اللهو واللعب دينهم، وهو ما زين لهم الشيطان كتحريم البحيرة والتصدية وغيرهما ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ فتركوا الآخرة ﴿ فاليوم ننساهم ﴾ نعاملهم معاملة الناسين فنخليهم في جهنم ﴿ كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ فلم يستعدوا له ﴿ وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ وكما كانوا منكرين أنه من عند الله.
﴿ ولقد جئناهم بكتاب ﴾ قرآن ﴿ فصّلناه ﴾ بينا مواعظه وأحكامه ﴿ على علم ﴾ منا بما فصلناه به حال من المفعول ﴿ هدى ورحمة ﴾ نصبهما بالحال من المفعول ﴿ لقوم يؤمنون ﴾.
﴿ هل ينظرون ﴾ ينتظرون ﴿ إلا تأويله ﴾ ما يئول إليه أمر الكتاب من صدق وعده ووعيده وكذبهما ﴿ يوم يأتي تأويله ﴾ وهو يوم القيامة ﴿ يقول الذين نسوه ﴾ تركوا الإيمان به والعمل له ﴿ من قبل ﴾ قبل إتيانه أي : في الدنيا ﴿ قد جاءت رُسل ربنا بالحق ﴾ ونحن كذبناهم ﴿ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ﴾ اليوم ﴿ أو نُردّ ﴾ أي : هل نرد إلى الدنيا ؟ ﴿ فنعمل ﴾ جواب هل نرد ﴿ غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم ﴾ بصرف العمر في الكفر ﴿ وضل ﴾ غاب وبطل ﴿ عنهم ما كانوا يفترون ﴾أي : لم ينفعهم آلهتهم.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ أي : في مقدار ستة أيام الدنيا أو أيام الآخرة كل يوم ألف سنة ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف نؤمن به ونكل العلم إلى الله تعالى وليس المراد منه خلق العرش بعد السماوات والأرض كما فسر بعض العلماء ﴿ يُغشي الليل النهار ﴾ يغطيه به وفيه حذف، أي : ويغشى النهار الليل ولم يذكر للعلم به ﴿ يطلبه حثيثا ﴾ يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والجملة حال من النهار وحثيثا صفة مصدر، أي : طلبا سريعا ﴿ والشمس ﴾ عطف على السماوات ﴿ والقمر والنجوم مسخّرات ﴾ نصب على الحال ﴿ بأمره ﴾ بقضائه وتصريفه ﴿ ألا له الخلق ﴾ لا خالق إلا هو ﴿ والأمر ﴾ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء ﴿ تبارك الله ﴾ تعالى وتعظم ﴿ رب العالمين ﴾.
﴿ ادعوا ربكم تضرّعا وخُفية ﴾ أي : ذوي تذلل واستكانة وخفية، فالأصح أنه يكره الصياح والنداء في الدعاء ﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾ المتجاوزين في شيء أمروا به ومنه الإطناب في الدعاء بمثل مسألة الجنة ونعيمها وإستبرقها وقصورها وأمثال ذلك.
﴿ ولا تُفسدوا في الأرض ﴾ بالشرك والمعاصي ﴿ بعد إصلاحها ﴾ ببعث الأنبياء، وقيل : لا تفسدوا بالمعاصي فإن من شؤمها يمسك المطر فتخرب الأرض بعدما كانت مخضرة ﴿ وادعوا خوفا وطمعا ﴾ من عقابه وثوابه حالان من الفاعل ﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ المطيعين في أمره ونهيه لم يقل قريبة، لأن الرحمة بمعنى الثواب ولاكتساب المرجع التذكير من المضاف إليه كما صرح الزمخشري في ( ما إن مفاتحه لينوء ) ( القصص : ٧٦ )، بالياء التحتانية.
﴿ وهو الذي يرسل الرياح بُشرا ﴾ جمع بشير يبشر بالمطر، أي : باشرات، أو للبشارة، ومن قرأ نشرا بالنون وضمها وشين مضمومة أو ساكنة أو فتح النون وسكون الشين فمن النشر أي : ناشرات للسحاب الثقال ﴿ بين يدي رحمته ﴾ قدام المطر قيل : الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه ﴿ حتى إذا أقلّت ﴾ حملت الرياح ﴿ سحابا ﴾ أي : سحائب ﴿ ثقالا ﴾ بما فيها من الماء ﴿ سُقناه ﴾ أي : السحاب ﴿ لبلد ميّت ﴾ لأجل أرض لا نبات فيها ﴿ فأنزلنا به ﴾ بالبلد أو بسبب السحاب ﴿ الماء فأخرجنا به ﴾ بسبب الماء أو بالبلد فالباء للظرفية ﴿ من كل ﴾ أنواع ﴿ الثمرات كذلك ﴾ مثل إخراج الثمرات وإحياء البلد ﴿ نُخرج الموتى ﴾ من قبورهم بعد إحيائهم ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ أن من قدر على ذلك قدر على هذا.
﴿ والبلد الطيب ﴾ أي : أرض كريمة التربة ﴿ يخرج نباته بإذنه ﴾ بمشيئته وتيسيره سريعا حسنا ﴿ والذي خَبُث ﴾ ترابه ﴿ لا يخرج ﴾ أي : نباته حذف المضاف وأقيم المضاف إليه، أي : الضمير المجرور مقامه فصار مرفوعا مستترا ﴿ إلا نكدا ﴾ بطيئا عديم النفع ونصبه على الحال ﴿ كذلك نصرّف الآيات ﴾ نبينها مكررا ﴿ لقوم يشكرون ﴾ فيتفكرون في الآية وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر.
﴿ لقد أرسلنا ﴾ جواب قسم محذوف ﴿ نوحا إلى قومه ﴾ لما ذكر قصة آدم في أول السورة شرع في قصص الأنبياء ﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي : وحده ﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ صفة إله اعتبار محله ﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ القيامة.
﴿ قال الملأ ﴾ : أي : الأشراف والسادة ﴿ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين ﴾ بين لأنك تركت دين آبائك.
﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ﴾ أي : أقل ما يطلق عليه اسم الضلال ﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾ ثابت على الصراط المستقيم.
﴿ أُبلّغكم ﴾ صفة لرسول أو استئناف ﴿ رسالات ربي وأنصح لكم ﴾ يقال نصحته ونصحت له ﴿ وأعلم من الله ﴾ من جهته بالوحي ﴿ ما لا تعلمون ﴾ من صفات لطفه وقهره.
﴿ أو عجبتم ﴾ الهمزة للإنكار، أي : أكذبتم وعجبتم من ﴿ أن جاءكم ذكر ﴾ موعظة ﴿ من ربكم على ﴾ لسان ﴿ رجل منكم ﴾ من جنسكم ﴿ ليُنذركم ﴾ عاقبة المعاصي ﴿ ولتتقوا ﴾ من المعصية بسبب الإنذار ﴿ ولعلكم تُرحمون ﴾ بالتقوى.
﴿ فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك ﴾ ظرف معه أي : صاحبوه في الفلك، أو حال من ضمير معه، أو من الموصول، والأصح أنهم ثمانون ﴿ وأغرقنا ﴾ بالطوفان ﴿ الذين كذّبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ﴾ عمى القلوب عن معرفة الله تعالى.
﴿ وإلى عاد ﴾ : أي : إلى قومه عطف على ( نوحا ) ﴿ أخاهم ﴾ في النسب، أو واحد منهم كقولك : يا أخا العرب ﴿ هودا ﴾ عطف بيان لأخاهم ﴿ قال يا قوم اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ﴾ عذاب الله.
﴿ قال الملأ ﴾ الأشراف ﴿ الذين كفروا من قومه ﴾ ومن أشرافهم من آمن به ﴿ إنا لنراك في سفاهة ﴾ في خفة عقل ﴿ وإنا لنظنّك من الكاذبين ﴾.
﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني ﴾ كامل العقل لأني ﴿ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ على الرسالة لا أكذب فيها.
﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ﴾ قد مر تفسيره قريبا فلا نعيده ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ في مساكنهم أو في الأرض بأن أخذ منهم وأعطاكم ﴿ وزادكم في الخلق بسطة ﴾ قامة وقوة ﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ تعميم بعد تخصيص ﴿ لعلكم تُفلحون ﴾ بسبب ذكر النعم وشكره.
﴿ قالوا أجئتنا ﴾ مجاز من القصد والتعرض أي : أقصدتنا ﴿ لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ﴾ من الأصنام ﴿ فأتِنا بما تعدنا ﴾ من العذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في الوعد.
﴿ قال قد وقع ﴾ وجب وحق أو جعل متحقق الوقوع كالواقع ﴿ عليكم من ربكم رجس ﴾ عذاب ﴿ وغضب أتُجادلونني في أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ﴾ أي : في أشياء ما هي إلا أسماء أحدثتموها فما هي إلا موضوعاتكم ومخترعاتكم وليس تحتها مسميات، فإن معنى الإلهية فيها بالكلية منتف فكيف تتخذونها إلها ﴿ ما نزّل الله بها من سلطان ﴾ ما جعل الله لكم في عبادتها حجة ولا دليلا ﴿ فانتظروا ﴾ أمر الله تعالى ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ حتى تروا حالكم وحالنا.
﴿ فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا ﴾ أهلكناهم عن آخرهم واستأصلناهم ﴿ وما كانوا مؤمنين ﴾ والناجي في الدارين المؤمنون.
﴿ وإلى ثمود ﴾ : أي : إلى قبيلته، ﴿ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ ﴾ معجزة ﴿ من ربكم ﴾ على صدقي ﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ استئناف يبين البينة وإضافة الناقة إلى الله ؛ لأنها جاءت من عنده بلا سبب معهود، فإنها خرجت من الصخرة يوم عيدهم بمحضرهم حين سألوا تلك المعجزة وعهدوا أن يؤمنوا به بعد ما تظهر، ونصب آية على الحال والعامل معنى الإشارة ﴿ فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء ﴾ من الضرب والطرد والأذى ﴿ فيأخذكم عذاب أليم ﴾ جواب للنهي.
﴿ واذكروا إذ جعلكم خُلفاء من بعد عاد ﴾ في مساكنهم ﴿ وبوّأكم ﴾ سكنكم ﴿ في الأرض تتخذون من سهولها قصورا ﴾ تبنون القصور من سهولة الأرض بما تصنعون منها اللبن والآجر ﴿ وتنحِتون الجبال بيوتا ﴾ كانوا يثقبون في الجبال ويسكنون في الشتاء فيها لتنعمهم، ونصب بيوتا على الحال المقدرة ؛ لأن الجبل ما كان بيتا في حال النحت، أو تقديره من الجبال بيوتا ﴿ فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا ﴾ العثى : أشد الفساد ﴿ في الأرض مفسدين ﴾ أي : لا تبالغوا في الفساد في حال فسادكم.
﴿ قال الملأ ﴾ الأشراف ﴿ الذين استكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ من قومه للذين استُضعفوا ﴾ أي : الرعايا ﴿ لمن آمن منهم ﴾ بدل من للذين بدل البعض ؛ لأن ضمير منهم راجع إلى للذين فإن المستضعفين كثيرون والمؤمنون أربعة آلاف ﴿ أتعلمون أن صالحا مُرسل من ربه ﴾ قيل قالوه على الطنز والسخرية. ﴿ قالوا إنا بما أُرسل به المؤمنون ﴾ عدلوا به عن مثل نعم إشارة إلى أن إرساله معلوم مسلم إنما الملام في الإيمان به ونحن مؤمنون.
﴿ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ فما سلموا إرساله الذي ادعوا ظهوره.
﴿ فعقروا الناقة ﴾ نحروها وكلهم راضون بنحرها فأسند الفعل إلى جميعهم ﴿ وعتوا ﴾ استكبروا ﴿ عن ﴾ قبول ﴿ أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بنا تعدنا ﴾ من العذاب ﴿ إن كنت من المرسلين ﴾.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ الزلزلة فإنه كان عذابهم صيحة من السماء وزلزلة من الأرض تقطعت قلوبهم في صدورهم ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ أرضهم ومسكنهم ﴿ جاثمين ﴾ خامدين ميتين.
﴿ فتولّى ﴾ أعرض ﴿ عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين ﴾ خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب نبينا -عليه الصلاة والسلام- قليب بدر بقوله ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) قيل : ويجوز أن يتولى عنهم ويقول ذلك حين مقدمة نزول العذاب وهذا كما قال بعضهم في الآية تقديم وتأخير.
﴿ ولوطا ﴾ أي : أرسلنا، أو اذكر لوطا ﴿ إذ قال ﴾ ظرف على الأول وبدل من لوطا على الثاني ﴿ لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ تلك الفعلة القبيحة ﴿ ما سبقكم ﴾ استئناف مقررة للإنكار ﴿ بها ﴾ الباء للتعدية ﴿ من أحد ﴾ من زائدة للاستغراق ﴿ من العالمين ﴾ من للتبعيض أي : ما فعلها أحد قط قبلكم.
﴿ إنكم ﴾ الهمزة للإنكار ﴿ لتأتون الرجال ﴾ من أتى المرأة إذا غشيها ﴿ شهوة ﴾ للاشتهاء أنكر أن يكون الحامل على هذه القباحة مجرد الشهوة، أو حال أبي : مشتهين غير ملتفتين إلى سماجتها ﴿ من دون النساء ﴾ المخلوق لكم ﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ إضراب على الإنكار إلى الإخبار عن طريقتهم وعادتهم كأنه قال : بل أنتم قوم لكم الإسراف في الأمور كلها وهو الباعث لكم إلى تلك القبيحة.
﴿ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم ﴾ أي : قال بعضهم لبعض : أخرجوهم في مقابلة النصح والإرشاد ﴿ إنهم أُناس يتطهّرون ﴾ من دبر الرجال والنساء قيل قالوا سخرية.
﴿ فأنجيناه وأهله ﴾ فإنه ما من أحد سوى أهل بيته ﴿ إلا امرأته ﴾ فإنها تستر الكفر ﴿ كانت من الغابرين ﴾ الباقين في ديارهم فهلكت.
﴿ وأمطرنا عليهم مطرا ﴾ نوعا من المطر وهو حجارة ﴿ فانظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
﴿ وإلى مدين ﴾ قبيلة، أو المراد بلد مدين ﴿ أخاهم ﴾ في النسب ﴿ شُعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة ﴾ معجزة ﴿ من ربكم ﴾ وليس في القرآن أنها ما هي ﴿ فأوفوا الكيل ﴾ أراد بالكيل الذي هو المصدر ما يكال به كالعيش على المعاش ﴿ والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ لا تنقصوهم حقوقهم قيل كانوا مكاسين ﴿ ولا تفسدوا في الأرض ﴾ بالكفر ﴿ بعد إصلاحها ﴾ ببعث النبي وأمره بالعدل ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى العمل بما أمرهم ﴿ خير لكم ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ مصدقين بمقالي.
﴿ ولا تقعدوا بكل صراط توعِدون ﴾ فإنهم يقعدون طرق الناس يوعدون الآتين إلى شعيب للإيمان بالقتل وغيره، أو معناه النهي عن وعيد الناس لإعطاء أموالهم فإنهم مكاسين ويوعدون في موضع الحال ﴿ وتصدّون ﴾ عطف على توعدون ﴿ عن سبيل الله من آمن به ﴾ بشعيب أو بالله توعدون وتصدون تنازعا في من آمن والعمل للثاني ﴿ وتبغونها ﴾ وتطلبون لسبيل الله ﴿ عِوجا ﴾ بإلقاء الشبه ووصفها للناس بالاعوجاج ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا ﴾ في العدد والعُدد ﴿ فكثّرتم ﴾ بالأموال والبنين ﴿ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ قبلكم فاعتبروا منهم.
﴿ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أُرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ﴾ بتعذيب المكذبين ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ لا حيف في حكمه ولا معقب له.
﴿ قال الملأ ﴾ الأشراف ﴿ الذين استكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملّتنا ﴾ أي : ليكونن أحد الأمرين إما الإخراج أو العود، وشعيب -عليه السلام- قط لم يكن على ملتهم لكن غلّبوا قومه عليه فإنهم كانوا على ملتهم ﴿ قال ﴾ شعيب ﴿ أولو كنا كارهين ﴾ أي : أنعود في ملتكم وإن كنا كارهين لها ؟
﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ يدل على جواب الشرط قد افترينا، أي : قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها فإن المرتد مفترى في إثبات الند، وفي ظهور الحقية عنده للدين الباطل فهو أقبح من الكافر ﴿ وما يكون ﴾ لا يمكن ﴿ لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ﴾ ارتدادنا فإنه مصرف القلوب كيف يشاء، ولو أراد الله بأحد سوء فلا مرد له ﴿ وسِع ربنا كل شيء علما ﴾ أحاط علمه بما كان وما يكون، وعِلماً تمييز، ﴿ على الله توكلنا ﴾ في تثبيتنا على الإيمان وتخليصنا منكم، ﴿ ربنا افتح ﴾ اقض واحكم ﴿ بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ فأنزل على كل منا ما يستحقه لا أن تهلكهم بدعائي وهم غير مستحقين للعذاب ﴿ وأنت خير الفاتحين ﴾.
﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ والله ﴿ لئن اتّبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾ لاستبدالكم دينه الباطل بدين آبائكم الحق، وجملة إنكم إذا لخاسرون ساد مسد جواب القسم والشرط.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ الزلزلة ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ مدينتهم ﴿ جاثمين ﴾ ميتين قد اجتمع عليهم أنواع من العذاب بسحابة فيها شرر من النار ولهيب وهو قوله تعالى ( عذاب يوم الظلة ) ( الشعراء : ١٨٩ ) في سورة الشعراء ثم جاءتهم صيحة من السماء وهو قوله تعالى ( فأخذتهم الصيحة ) ( الحجر : ٨٣ ) في سورة الحجر ورجفة من الأرض فزهقت أرواحهم وخمدت أجسادهم.
﴿ الذين كذّبوا شعيبا ﴾ مبتدأ ﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ خبره أي : كأن لم يقيموا فيها قط ﴿ الذين كذّبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾ لا الذين صدقوه كما زعموا.
﴿ فتولّى عنهم ﴾ الظاهر أنه بعد عذابهم وموتهم ﴿ وقال ﴾ تأسفا بهم ﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ﴾ وقد كفرتم ﴿ فكيف آسى ﴾ أحزن ﴿ على قوم كافرين ﴾ مستحقين للعذاب.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ﴾ فكذبه أهلها ﴿ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ ﴾ الفقر ﴿ والضراء ﴾ المرض ﴿ لعلهم يضّرّعون ﴾ كي يتضرعوا ويتركوا الاستكبار عن الإيمان.
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ﴾ أعطينا السلامة والسعة مكان البلاء والشدة ابتلاء واستدراجا ﴿ حتى عفوا ﴾ كثروا عددا ومالا ﴿ وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ﴾ فأصابنا مثل ما أصابهم وهذا عادة الدهر ولم ينتبهوا وغفلوا ﴿ فأخذناهم بغتة ﴾ فجأة مصدر أي : هذا النوع من الأخذ ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بنزول العذاب.
﴿ ولو أن أهل القرى ﴾ أي : تلك القرى التي أرسلنا فيها رسلا ﴿ آمنوا واتقوا ﴾ المعاصي ﴿ لفتحنا عليهم بركات ﴾ يسرنا الخير لهم ﴿ من السماء والأرض ﴾ من كل جانب أو قطر السماء أو نبات الأرض ﴿ ولكن كذّبوا ﴾ رسلنا ﴿ فأخذناهم بما كانوا يكسبون ﴾ بسبب كفرهم وعصيانهم.
﴿ أفأمن ﴾ الهمزة للإنكار وهو عطف على فأخذناهم بغتة، أو فأخذناهم بما كانوا، وحاصله فعلوا كيت وكيت فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن ﴿ أهل القرى أن يأتيهم بأسُنا ﴾ عذابنا ﴿ بياتا ﴾ أي : وقت بيات، أي : بيتوتة فنصبه على الظرف بحذف المضاف ﴿ وهم نائمون ﴾ جملة حالية.
﴿ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضُحًى ﴾ ضحوة النهار ظرف ﴿ وهم يلعبون ﴾ من فرط غفلتهم.
﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾ استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر واستدراجه ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ فطرتهم.
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ﴾ أي : يرثون ديار من قبلهم ﴿ أن ﴾ أي : أن الشأن ﴿ لو نشاء أصبناهم ﴾ بالبلاء ﴿ بذنوبهم ﴾ بسببها كما عذبنا من قبلهم وجملة أن لو نشاء فاعل يهد ومن قرأ بالنون فهو مفعول وفي الهداية حينئذ تضمين التبيين ولهذا عدى باللام ﴿ ونطبع ﴾ نختم ﴿ على قلوبهم ﴾ هو استئناف ولهذا غير الأسلوب أي : نحن نطبع، أو عطف على مدلول أو لم يهد يعني يغفلون ونطبع وليس بعطف على أصبناهم، لاستلزام انتفاء كونهم مطبوعين مع بطلانه لقوله :( فهم لا يسمعون ) وقوله :( كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) وقوله :( فما كانوا ليؤمنوا ) ؛ لدلالته على أن حالهم منافية للإيمان ﴿ فهم لا يسمعون ﴾ الموعظة أبدا سماع قبول.
﴿ تلك القرى ﴾ إشارة إلى قرى الأمم التي مر ذكرها ﴿ نقصّ عليك ﴾ حال، أو خبر إن جعلت القرى صفة تلك ﴿ من أنبائها ﴾ أي : بعض أخبارها ﴿ ولقد جاءتهم رُسلهم بالبينات ﴾ المعجزات ﴿ فما كانوا ليُؤمنوا ﴾ أي : ما صلحوا للإيمان بعد رؤية المعجزات ﴿ بما كذّبوا من قبل ﴾ أي : قبل رؤيتهم تلك المعجزات يعني بعدما طبعناهم لا يمكن لهم الإيمان بما جاءهم الرسول أو الباء للسببية أي : كفرهم السابق سبب كفرهم اللاحق وعن بعض السلف المراد من قبل يوم أخذ الميثاق فإنهم حينئذ أقروا باللسان وأضمروا التكذيب ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك الطبع الشديد ﴿ يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ الوارثين والموروثون.
﴿ وما وجدنا لأكثرهم ﴾ أي : الأمم الماضية ﴿ من عهد ﴾ وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق، أو عهدهم مع أنبيائهم ﴿ وإن وجدنا ﴾ أي : إن الشأن علمنا ﴿ أكثرهم لفاسقين ﴾ خارجين عن طاعتنا وعند الكوفيين أن نافية واللام بمعنى إلا.
﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي : الرسل الذين مر ذكرهم ﴿ موسى بآياتنا ﴾ المعجزات ﴿ إلى فرعون وملئه فظلموا بها ﴾ أي : بالآيات بأن وضعوا الكفر بها مكان الإيمان ﴿ فانظر ﴾ يا محمد ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَيَ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ على بمعنى الباء أي : بألاّ أقول، كما تقول : رميت على القوس أو أصله حقيق على ألاّ أقول كما هو قراءة نافع فقلب لأمن الإلباس، أو أراد موسى أن يغرق في وصف نفسه بالصدق فيقول : أنا حقيق على قول الحق، أي : واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به أو معناه أني حريص على ألاّ أقول.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٤:﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَيَ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ على بمعنى الباء أي : بألاّ أقول، كما تقول : رميت على القوس أو أصله حقيق على ألاّ أقول كما هو قراءة نافع فقلب لأمن الإلباس، أو أراد موسى أن يغرق في وصف نفسه بالصدق فيقول : أنا حقيق على قول الحق، أي : واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به أو معناه أني حريص على ألاّ أقول.
﴿ قد جئتُكم ببيّنة ﴾ وهي العصا ﴿ من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ خلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة فإن فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة.
﴿ قال إن كنت جئت بآية ﴾ من عند من أرسلك ﴿ فأت بها ﴾ أحضرها عندي ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في دعواك.
﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾ حية عظيمة لا يشك في أنها حية.
﴿ ونزغ يده ﴾ أخرجها من جيبه بعدما أدخلها فيه ﴿ فإذا هي بيضاء للناظرين ﴾ لها شعاع غلب نور الشمس ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول وللناظرين متعلق ببيضاء، أي : بيضاء للنضارة.
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ في صنعته أي : قالوا ذلك موافقين لقول فرعون كما حكاه تعالى :( قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ) ( الشعراء : ٣٤ )، فوافقوه وقالوا كمقالته أو قال الملأ بطريق التبليغ من لسان فرعون إلى القوم يعني قبط.
﴿ يريد أن يُخرجكم ﴾ يا معشر القبط ﴿ من أرضكم فماذا تأمرون ﴾ تشيرون في أمره.
﴿ قالوا ﴾ بعدما اتفقوا رأيهم ﴿ أرجِه وأخاه ﴾ الإرجاء التأخير أي : أخر أمره وأمر أخيه أو احبسه وأصله أرجئه ﴿ وأرسِل في المدائن حاشرين ﴾ أي رجالا يحشرون إليك من في مدائن صعيد مصر من نواحي مصر من السحرة.
﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾ على موسى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٢:﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾ على موسى.
﴿ قال ﴾ فرعون ﴿ نعم ﴾ إن لكم أجرا ﴿ وإنكم لمن المقرّبين ﴾ فهو معطوف على محذوف سد مسد نعم.
﴿ قالوا يا موسى إما أن تُلقي ﴾ عصاك ﴿ وإما أن نكون نحن المُلقين ﴾ ما معنا من الحبال ورغبتهم في أن يلقوا قبله، ولهذا غيروا نظم الكلام إلى آكد وجه.
﴿ قال ﴾ موسى كرما ووثوقا على الله ﴿ ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس ﴾ خيلوا إليها ما لا حقيقة له ﴿ واسترهبوهم ﴾ خوفوهم ﴿ وجاءوا بسحر عظيم ﴾ قيل خمسة عشر ألف ساحر وقيل أكثر، ومع كل عصى وحبال غلاظ طوال، والقوا فإذا حيات قد امتلأت الوادي تركب بعضها بعضا.
﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ﴾ فألقاها ﴿ فإذا هي تلقف ﴾ تبتلع ﴿ ما يأفكون ﴾ ما يزورونه من الإفك، فلما أكلت حبالهم وعصيهم بأسرها، قالت السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا.
﴿ فوقع الحق ﴾ ثبت وظهر ﴿ وبطل ما كانوا يعملون ﴾ من السحر.
﴿ فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ﴾ صاروا أذلاء، وأرجعوا إلى مدينتهم أذلاء مغلوبين، والضمير لفرعون وقومه.
﴿ وأُلقي السحرة ساجدين ﴾ ألقاهم الله تعالى، أو ألهمهم أن يسجدوا، أو من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا.
﴿ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ﴾ لا رب القبط فإنه فرعون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢١:﴿ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ﴾ لا رب القبط فإنه فرعون.
﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾ في الإيمان ﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ﴾ أي : حيلة صنعتموها أنتم وموسى في مصر قبل الخروج إلى هنا ﴿ لتُخرجوا منها أهلها ﴾ أي : القبط فتبقى المصر لكم ﴿ فسوف تعلمون ﴾ عاقبة صنيعكم.
ثم فصل ما أجمل وقال :﴿ لأقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ﴾ من كل شق طرفا ﴿ ثم لأصلّبنّكم أجمعين ﴾.
﴿ قالوا إنا إلى ربنا ﴾ بالموت ﴿ مُنقلبون ﴾ فلا نخاف من وعيدك، أو مصيرنا ومصيرك إلى الله فيحكم بيننا.
﴿ وما تنقم ﴾ تنكر ﴿ منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ ثم أعرضوا عنه وفزعوا إلى الله تعالى، وقالوا :﴿ ربنا أفرغ ﴾ أفض ﴿ علينا صبرا ﴾ حتى لا نرجع من الدين ﴿ وتوفّنا مسلمين ﴾ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره : كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شهداء.
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ لفرعون ﴿ أتذر موسى وقومه ﴾ بني إسرائيل ﴿ ليفسدوا في الأرض ﴾ بدعوتهم إلى مخالفتك ﴿ ويذَرك وآلهتك ﴾ عطف على يفسدوا، أو جواب للاستفهام بالواو، كما يجاب بالفاء وقيل : لفرعون بقرة يعبدها ويأمر أن يعبدوا بقرة حسناء، وقيل علق على عنقه صليبا يعبده، وقيل : اتخذ لقومه أصناما وأمر بعبادتها، وقال لهم : هذه آلهتكم وأنا ربكم الأعلى ﴿ قال سنُقتّل أبناءهم ﴾ كما كنا نفعل من قبل حين حكمت الكهنة بوجود مولود على يده زوال ملكنا ﴿ ونستحيي نساءهم ﴾ نتركهن أحياء للخدمة ﴿ وإنّا فوقهم قاهرون ﴾ هم تحت أيدينا مقهورون.
﴿ قال موسى لقومه ﴾ حين شكوا إليه ﴿ استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ﴾ فلربما يأخذ منهم ويعطيكم بسهولة كالميراث ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ أي : عاقبة الأمر بالنصر والظفر للمتقين فثقوا بالله تعالى وقال بعضهم معناه الآخرة للمتقين خاصة.
﴿ قالوا ﴾ بنو إسرائيل ﴿ أوذينا ﴾ بقتل الأبناء ﴿ من قبل أن تأتينا ﴾ بالرسالة ﴿ ومن بعد ما جئتنا ﴾ بإعادة القتل ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ عسى ربك أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض ﴾ أرضهم وملكهم ﴿ فينظر ﴾ يرى ﴿ كيف تعملون ﴾ من شكر وكفران وطاعة وعصيان.
﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ﴾ بالجدوب لقلة الأمطار ﴿ ونقص من الثمرات لعلهم يذّكّرون ﴾ لكي ينتبهوا ويتعظوا.
﴿ فإذا جاءتهم الحسنة ﴾ السعة والمال ﴿ قالوا لنا هذه ﴾ لأجلنا ونحن مستحقوها ولم يشكروا منعمها ﴿ وإن تُصبهم سيئة ﴾ بلاء وجدب ﴿ يطّيروا بموسى ومن معه ﴾ يتشاءموا بهم وقالوا ما هذا إلا بشؤمهم ﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ : أي : شؤمهم من قبل الله ومن عنده، أو سبب شؤمهم وهو أعمالهم القبيحة عنده مكتوب ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ ما أصابهم من الله تعالى.
﴿ وقالوا ﴾ لموسى ﴿ مهما تأتنا به ﴾ أي : أيما شيء تأتنا به فمحل مهما الرفع وجاز النصب بفعل يفسره تأتنا أي : أيما شيء تحضرنا تأتنا به ﴿ من آية ﴾ بيان لمهما وسموها آية على زعم موسى ﴿ لتسحرنا بها ﴾ الضمير لما في مهما باعتبار المعنى فإن من آية فضلة جيء للتبيين ﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾ فدعا عليهم موسى عليه السلام.
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ أرسل الله تعالى مطرا سبعة أيام امتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل مع أن بيوتهم مشتبكة أو المراد من الطوفان الوباء أو الجدري ثم فزعوا إلى موسى وعهدوا بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، فلما كشف نقضوا عهودهم ﴿ والجراد ﴾ فأرسل الله إليهم الجراد فأكل زروعهم وثيابهم حتى مسامير أبوابهم ثم عهدوا وكشف فنقضوا ﴿ والقُمّل ﴾ فأرسل الله إليهم السوس أو أولاد الجراد قبل أجنحتها أو الحمنان صغار القردان أو دواب سود صغار أو القمل بفتح القاف حتى أكلت أبدانهم ومصت دماءهم فعهدوا فلما كشف نقضوا ﴿ والضفادع ﴾ فأرسل الله تعالى إليهم الضفادع حتى لا يستطيعوا الطبخ والأكل فإنه يمتلئ قدورهم وظروفهم وأفواههم فعهدوا ونقضوا ﴿ والدم ﴾ صارت مياههم دما وسالت النيل عليهم بالدم أو المراد بالدم الرعاف فعطشوا فعهدوا ونقضوا ﴿ آيات مفصّلات ﴾ مبينات لا يشتبه على أحد أنها نقمة من الله ونصبها على الحال ﴿ فاستكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ وكانوا قوما مجرمين ﴾
﴿ ولما وقع عليهم الرّجز ﴾ الآيات المفصلات أو الطاعون فهو عذاب سادس. ﴿ قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهِد عندك ﴾ أي : بحق عهده عندك وهو النبوة أو بما أنت تعلمه من أسمائه التي تدعو بها فيستجيب الدعاء ﴿ لئن كشفت عنا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ﴾.
﴿ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه ﴾ حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون أو مهلكون فيه وهو الغرق ﴿ إذا هم ينكُثون ﴾ عهدهم أي : فلما كشفنا العذاب فجاءوا النقض بلا مهل وتأمل.
﴿ فانتقمنا ﴾ أردنا الانتقام ﴿ منهم فأغرقناهم في اليمّ ﴾ البحر العميق ﴿ بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ لا يتفكرون في آياتنا.
﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون ﴾ بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم ﴿ مشارق الأرض ﴾ أرض الشام ﴿ ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ بالسعة والرخاء ﴿ وتمّت كلمة ربك ﴾ هي وعده إياهم بالنصر والظفر ﴿ الحسنى ﴾ صفة الكلمة ﴿ على بني إسرائيل بما صبروا ﴾ بسبب صبرهم على الشدائد ﴿ ودمّرنا ﴾ استأصلنا ﴿ ما كان يصنع فرعون وقومه ﴾ من العمارات ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ يرفعون من البيوت والقصور أو من البساتين.
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ عبرنا بهم ﴿ فأتوا على قوم ﴾ مروا عليهم ﴿ يعكُفون ﴾ يقيمون ﴿ على ﴾ عبادة ﴿ أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها ﴾ مثالا نعبده ﴿ كما لهم آلهة ﴾ ما كافة ﴿ قال إنكم قوم تجهلون ﴾ لأن العاقل لا يطلب معبودا مخلوقا لا يضر ولا ينفع.
﴿ إن هؤلاء ﴾ إشارة إلى القوم ﴿ متبّرٌ ﴾ مكسر مدمر ﴿ ما هم فيه ﴾ أي : دينهم فاعل متبرأ أو مبتدأ ومتبر خبره ﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ ألبتة لا محالة.
﴿ قال أغير الله أبغيكم ﴾ أطلب لكم ﴿ إلها وهو فضّلكم على العالمين ﴾ بأن أعطاكم نعما وخصكم بها.
﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ أي : واذكروا هذا اللطف العظيم ﴿ يسُومونكم ﴾ استئناف أو حال أي : يبغونكم ﴿ سوء العذاب ﴾ شدته ﴿ يُقتّلون ﴾ بدل من يسومون مبين له ﴿ أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم ﴾ أي : العذاب ﴿ بلاء من ربكم عظيم ﴾ قيل الإشارة إلى الإنجاء بمعنى المنحة لا المحنة.
﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ﴾ ذا القعدة للمناجاة وإرسال كتاب من عنده ﴿ وأتممناها بعشر ﴾ من ذي الحجة نقل أنه بعد صوم الشهر استاك فزال خلوفه فلذلك أمر بصوم عشر ليكون لفمه خلوف ﴿ فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلُفني ﴾ كن خليفتي ﴿ في قومي وأصلح ﴾ ارفق بهم واحملهم على طاعة الله تعالى ﴿ ولا تتّبع سبيل المفسدين ﴾ لا تطع من دعاك إلى الفساد.
﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾ أي : لوقتنا الذي وقتنا له ﴿ وكلّمه ربه ﴾ فلما سمع كلامه اشتاق لقاءه ﴿ قال رب أرني ﴾ نفسك بأن تتجلى إلي ﴿ أنظر إليك ﴾ أراك ﴿ قال لن تراني ﴾ في الدنيا وقد وردت أحاديث صحاح صريحة على رؤية الله تعالى في الآخرة وأجمعت الأمة على ذلك سوى المعتزلة وحسبهم من الخسران والحسرة أن عاملهم الله تعالى في الآخرة بعقيدتهم وحرمهم من نعمة لقائه كما قال جدي قدس سره ﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ﴾ ويطيق الرؤية مع أنه أعظم وأثقل جسما ﴿ فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل ﴾ ظهر نور ربه وقد ورد ما تجلى إلا قدر الخنصر ﴿ جعله دكًّا ﴾ أي : مدكوكا كالتراب ومن قرأ دكاء فمعناه أرضا مستوية ﴿ وخرّ موسى صعِقا ﴾ سقط مغشيا عليه ﴿ فلما أفاق قال سبحانك ﴾ أنزهك مما لا يليق بك أو قال سبحانك لعظمة ما رأى ﴿ تُبت إليك ﴾ من مسألة الرؤية بغير إذن ﴿ وأنا أول المؤمنين ﴾ بأنه لا يراك أحد إلى يوم القيامة أو أول قومي إيمانا.
﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك ﴾ اخترتك ﴿ على الناس برسالتي ﴾ بوحيي ﴿ وبكلامي ﴾ من غير واسطة ﴿ فخُذ ما آتيتك ﴾ أعطيتك من الرسالة ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ ولا تطلب ملا لا طاقة لك به.
﴿ وكتبنا له في الألواح ﴾ ألواح التوراة وقيل الألواح قبل نزول التوراة وهي من خشب أو من جوهرة ﴿ من كل شيء ﴾ هم إليه محتاجون في أمر دينهم ﴿ موعظة وتفصيلا لكل شيء ﴾ تبيينا لكل أمر ونهي حلال وحرام فنصبهما على المفعول له أي : للموعظة ولتبيين الحلال والحرام وقيل من كل شيء مفعول كتبنا وموعظة وتفصيلا بدل منه ﴿ فخذها ﴾ أي : فقلنا له خذ الألواح ﴿ بقوة ﴾ بجد وعزيمة ﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ أي : التكليف عليك يا موسى أشد من التكليف على قومك قيل في الألواح ما هو أحسن كالصبر بالإضافة إلى الانتصار مثلا فأمرهم على طريقة الندب أن يتبعوا أفضل ما فيها وهو الصبر والعفو ﴿ سأريكم دار الفاسقين ﴾ أي : سترون عاقبة من خالف أمري كيف تصير إلى الهلاك أو هي جهنم فاحذروا أن تكونوا منهم أو منازلهم كيف تكون خاوية على عروشها قيل هذا بشارة بأنه سيرزقهم أرض أعدائهم.
﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض ﴾ أي : أمنعهم عن فهم الحجج والأدلة الدالة على وحدانيتي وعظمتي وأنزع عنهم فهم كلامي ﴿ بغير الحق ﴾ صلة يتكبرون أو حال فإن تكبر المحق على المبطل حق والتكبر على المتكبر صدقة ﴿ وإن يروا كل آية ﴾ معجزة ﴿ لا يؤمنوا بها ﴾ لعنادهم ﴿ وإن يروا سبيل الرُّشد ﴾ طريق الهدى والسداد ﴿ لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ ﴾ طريق الضلال ﴿ يتخذوه سبيلا ذلك ﴾ إشارة إلى مصيرهم إلى هذه الحالة ﴿ بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ لا يتدبرون فيها.
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ﴾ أي : لقائهم الدار الآخرة ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ بطلت فليس لها نفع ﴿ هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾ إلا جزاء أعمالهم.
﴿ واتخذ قوم موسى ﴾ أي : اتخذ السامري لهم بإعانتهم ورضاهم فكأنهم هم الذين اتخذوا ﴿ من بعده ﴾ من بعد ذهابه إلى الجبل ﴿ من حُليّهم ﴾ التي استعاروا من القبط ﴿ عجلا جسدا ﴾ بدنا ذا لحم ودم بدل من عجلا ﴿ له خوار ﴾ صوت البقر قال بعضهم : استمر على كونه من الذهب إلا أنه يدخل في فيه الهواء فيصوت كالبقر ﴿ ألم يروا أنه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾ أي : ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه حيوان لا يقدر على كلام ولا على إرشاد فكيف اعتقدوا على أنه خالق القوى والقدر ؟ ! ﴿ اتخذوه ﴾ إلها ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ فلوضعهم الأشياء في غير موضعها اتخذوه إلها.
﴿ ولما سُقط في أيديهم ﴾ كناية عن الندامة فإن النادم يعض يده ﴿ ورأوا ﴾ أُعلموا ﴿ أنهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ﴾ بقبول توبتنا ﴿ ويغفر لنا ﴾ هذا الذنب العظيم ﴿ لنكونن من الخاسرين ﴾ الهالكين.
﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان ﴾ عليهم ﴿ أسِفًا ﴾ شديد الغضب أو حزينا فإنه قد أعلمه الله بذلك وهو على الطور كما قال تعالى :( فإنا قد فتنا قومك من بعدك ) ( طه : ٨٥ )، ﴿ قال بئسما خلفتموني من بعدي ﴾ أي : فعلتم بعد ذهابي وفاعل بئس ضمير يفسره ما والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس فعلا فعلتموه من بعدي فعلكم ﴿ أعجِلتم أمر ربكم ﴾ وهذا كما يقال لمن ولى أحدا غير مستحق للولاية : عجلت أمر السلطنة أي : في حالها وأمرها أو ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته أي : سبقتم أمر ربكم أو ميعاد ربكم أو سخط ربكم ﴿ وألقى الألواح ﴾ طرحها غضبا ﴿ وأخذ برأس أخيه ﴾ بشعره ﴿ يجرّه إليه ﴾ خوفا عن أن يكون قد قصر في نهيهم وهارون أكبر من موسى ﴿ قال ابن أُمّ ﴾ كانا أخوين من أب وأم وذكر الأم ليرققه ﴿ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني ﴾ أي : بذلت وسعي في النهي حتى قهروني وقاربوا قتلي ﴿ فلا تُشمت بي الأعداء ﴾ لا تفعل بي شيئا يشمتون لأجله ﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ معدودا في عداد عابدي العجل في عقوبتك.
﴿ قال ﴾ لما علم براءة ساحته ﴿ رب اغفر لي ﴾ ما صنعت بأخي ﴿ ولأخي ﴾ أن قصر في نهيهم ﴿ وأدخلنا في رحمتك ﴾ بمزيد الإنعام أو في جنتك ﴿ وأنت أرحم الراحمين ﴾.
﴿ إن الذين اتخذوا العِجل ﴾ إلها ﴿ سينالهم غضب من ربهم ﴾ وهو أمرهم بقتل أنفسهم للتوبة كما مر فهو حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى حين أخبره أو غضب في الآخرة ﴿ وذلّة في الحياة الدنيا ﴾ إخراجهم من ديارهم وهوانهم إلى الأبد وقيل المراد من الذين اتخذوا العجل : أبناؤهم وهم يهود زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الأبناء بقبائح فعل الآباء ﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ على الله تعالى.
﴿ والذين عملوا السيئات ﴾ أي : الشرك ﴿ ثم تابوا من بعدها ﴾ بعد السيئات ﴿ وآمنوا ﴾ أخلصوا الإيمان واشتغلوا بما هو مقتضى الإيمان ﴿ إن ربك من بعدها ﴾ بعد التوبة ﴿ لغفور رحيم ﴾.
﴿ ولما سكت ﴾ أي : سكن ﴿ عن موسى الغضب أخذ الألواح ﴾ التي ألقاها ﴿ وفي نُسختها ﴾ أي : في الألواح فإنها نسخت من اللوح المحفوظ أو لما ألقى الألواح تكسرت ثم رد عليه لوحان أو لما تكسرت نسخ منها نسخة أخرى ﴿ هدًى ﴾ من الضلال ﴿ ورحمة ﴾ من العذاب ﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ للخائفين ودخول اللام في المفعول لضعف الفعل بالتأخير وقيل في يرهبون تضمين معنى الخضوع.
﴿ واختار موسى قومه ﴾ منصوب بنزع الخافض أي : من قومه ﴿ سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ أمر موسى أن يختار من بني إسرائيل سبعين ليدعوا ربهم فلما دعوا قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا من قبلنا ولا من بعدنا فكره الله تعالى ذلك فأخذتهم الرجفة أو اختار سبعين ليعتذروا من عبادة العجل فلما سمعوا كلام الله تعالى قالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا أو أخذتهم الرجفة فإنهم علماء وما نهوا بني إسرائيل عن عبادة العجل، وقال بعضهم : ما ماتوا ثم بعد تضرع موسى كشف عنهم الرجفة فاطمأنوا أو ماتوا لكن أحياهم الله تعالى بدعاء موسى ﴿ فلما أخذتهم الرجفة قال ﴾ موسى :﴿ ربّ لو شئت ﴾ لو للتمني ﴿ أهلكتهم من قبل وإيّاي ﴾ تمنى هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما يرى، أو المراد أهلكتهم أي : عبدة العجل من قبل عبادتهم ﴿ أتُهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ من التجاسر على طلب الرؤية فإن بعضا من السبعين طلبوا الرؤية، أو من عبادة العجل، ولذلك قيل : علماؤهم ما عبدوا العجل ﴿ إن هي إلا فتنتك ﴾ اختبارك وامتحانك حين أسمعتهم كلامك فطمعوا في الرؤية، أو حين خلقت في العجل خوارا فضلوا ﴿ تضل بها من تشاء ﴾ ضلاله ﴿ وتهدي ﴾ بها ﴿ من تشاء ﴾ هداه ﴿ أنت وليُّنا ﴾ القائم بأمرنا ﴿ فاغفر لنا ﴾ ذنوبنا الماضية ﴿ وارحمنا ﴾ بأن لا توقعنا بعد في مثله ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ لأنك تغفر الذنوب جميعا بلا عرض ولا عوض.
﴿ واكتُب ﴾ أي : أثبت ﴿ لنا في هذه الدنيا حسنة ﴾ عافية وطاعة ﴿ وفي الآخرة ﴾ جنة وقربة ﴿ إنّا هُدنا ﴾ رجعنا وتبنا ﴿ إليك قال ﴾ الله مجيبا في قوله :( إن هي إلا فتنتك ) ﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ تعذيبه ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ في الدنيا حتى الشجر والحجر ﴿ فسأكتبها ﴾ فسأوجب رحمتي في الآخرة ﴿ للذين يتقون ﴾ الكبائر ﴿ ويُؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ بما أنزل على مع جميع الأنبياء لا يكفرون بشيء منها قيل لما اختار موسى سبعين قال لهم : أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم ؟ فقالوا : لا نريد إلا أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في القلوب، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرا قال تعالى :( فسأكتبها للذين يتقون ) الآية.
﴿ الذين يتّبعون ﴾ أي : هم الذين أو بدل من الذين يتقون، والمراد اليهود الذين في آخر الزمان وآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام أو عامة أمته الصالحين ﴿ الرسول النبي الأمّي ﴾ الذي لا يكتب ولا يقرأ ﴿ الذي يجدونه مكتوبا عندهم ﴾ اسمه وصفته ﴿ في التوراة والإنجيل يأمرهم ﴾ النبي ﴿ بالمعروف ﴾ والخير ﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ والشر ﴿ ويحل لهم الطّيبات ﴾ مما حرموا على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة ومما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل والشحوم ﴿ ويحرّم عليهم الخبائث ﴾ كالدم ولحم الخنزير والميتة والربا ﴿ ويضع ﴾ يخفف ويسقط ﴿ عنهم إصرهم ﴾ أي : ثقلهم العهد الثقيل الذي أخذ عليهم بالعمل والتوراة ﴿ والأغلال التي كانت عليهم ﴾ التكاليف الشاقة التي كانت في دينهم ﴿ فالذين آمنوا به ﴾ بهذا الرسول ﴿ وعزّروه ﴾ عظموه ﴿ ونصروه ﴾ على عدوه ﴿ واتبعوا النور ﴾ أي : القرآن ﴿ الذي أُنزل معه ﴾ أي : مع نبوته وقيل : متعلق باتبعوا القرآن مع اتباع النبي أي : اتبعوا الكتاب والسنة ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون في الدارين.
﴿ قل يا أيها الناس ﴾ خطاب عام لا يشذ عنها أحد ﴿ إني رسول الله إليكم جميعا الذي ﴾ صفة الله والفصل غير أجنبي أو منصوب بتقدير أعني ﴿ له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو ﴾ بدل اشتمال من له ملك السماوات والأرض ﴿ يُحيي ويُميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته ﴾ جميع كتبه ﴿ واتّبعوه ﴾ في الإيمان بالله وجميع الكتب، بما أمر ونهى ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ لكي تهتدوا.
﴿ ومن قوم موسى ﴾ بني إسرائيل ﴿ أمّة يهدون ﴾ الناس ﴿ بالحق ﴾ محقين ﴿ وبه ﴾ بالحق ﴿ يعدلون ﴾ في الحكم وهم الثابتون على الحق من اليهود قرنا بعد قرن أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأتباعه أو قوم وراء الصين هم على الحق آمنوا بمحمد لا يصل أحد منهم إلينا ولا منا إليهم.
﴿ وقطّعناهم ﴾ صيرنا بني إسرائيل قطعا وفرقناهم ﴿ اثنتي عشرة ﴾ مفعول ثان لقطع لأنه متضمن معنى صير أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة ﴿ أسباطا ﴾ تمييز له وهو من الجمع الذي وقع موقع المفرد فإن معناها القبيلة ؛ لأن كل قبيلة أسباط لا سبط أو بدل منه ﴿ أُممًا ﴾ بدل أو نعت لأسباطا ﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ﴾ في التيه ﴿ أن اضرب بعصاك الحجر ﴾ جنس الحجر أو حجرا خاصا كان معه كما ذكره في سورة البقرة ﴿ فانبجست ﴾ أي : فضرب فانفجرت ﴿ منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس ﴾ كل قبيلة ﴿ مشربهم وظللنا عليهم الغمام ﴾ لدفع حر الشمس ﴿ وأنزلنا عليهم المنّ ﴾ شيء كالترنجين ﴿ والسلوى ﴾ طير كالسماني وقلنا لهم ﴿ كلوا من طيبات ﴾ مستلذات ﴿ ما رزقناكم وما ظلمونا ﴾ ما رجع ضر كفران نعمه إلينا ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ يضرون أنفسهم ووبال فعلهم راجع إليهم.
﴿ وإذ قيل لهم ﴾ أي : واذكر هذا الزمان ﴿ اسكنوا هذه القرية ﴾ بيت المقدس أو ريحا ﴿ وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حِطّة ﴾ أي : مغفرة يعني استغفروا أو اقروا بالذنب أو احطط عنا الخطايا ﴿ وادخلوا الباب ﴾ باب البلد ﴿ سُجّدا ﴾ شكرا لله تعالى على الفتح والإنقاد من التيه ﴿ نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ﴾ ثوابا وهو استئناف ولم يأت بالعطف إشعارا على أنه تفضل محض.
﴿ فبدّل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم ﴾ بدلوا بحطة حنطة استهزاء ﴿ فأرسلنا عليهم رجزا ﴾ عذابا مقدرا ﴿ من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ بسبب ظلمهم.
﴿ واسألهم ﴾ أي : سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين بحضرتك سؤال توبيخ وتقريع ﴿ عن القرية ﴾ أي : خبر أهلها ﴿ التي كانت حاضرة البحر ﴾ قريبة منه، وهي أيلة بين مدين والطور ﴿ إذ يعدون في السبت ﴾ بدل من اشتمال القرية أو ظرف كانت أو حاضرة، ومعناه يتجاوزون حدود الله يوم السبت ﴿ إذ تأتيهم حيتانُهم ﴾ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل ﴿ يوم سبتهم ﴾ أي : يوم تعظيمهم أمر السبت من سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة ﴿ شُرَّعا ﴾ ظاهرة على الماء حال من الحيتان ﴿ ويوم لا يسبِتون ﴾ لا يعظمون سبتهم وهو غير يوم السبت ﴿ لا تأتيهم كذلك ﴾ مثل ذلك الامتحان التام ﴿ نبلوهم ﴾ نختبرهم بإظهار السمك في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها في اليوم المحلل لهم ﴿ بما كانوا يفسُقون ﴾ بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى.
﴿ وإذ قالت ﴾ عطف على إذ يعدون ﴿ أمّة منهم ﴾ أي : فرقة من أهل القرية فإنهم ثلاث فرق : فرقة ارتكبوا الخطيئة، وفرقة ناهية، وفرقة سكتوا فما ارتكبوا وما نهوهم، فقالت الفرقة الساكتة للناهية :﴿ لم تعِظون قوما الله مُهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ فإنهم علموا لكثرة عدم نفع الموعظة أنها لا تنفع لا محالة استحقوا سخط الله تعالى ﴿ قالوا ﴾ أي : الفرقة الناهية مجيبا لهم هذه ﴿ معذرة إلى ربكم ﴾ حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، ومن قرأ بالنصب فتقديره وعظناهم معذرة ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ عن الاصطياد في السبت فلا نيأس من أن تدركهم الرحمة.
﴿ فلما نسُوا ما ذُكّروا به ﴾ تركوا ترك الناسي ﴿ أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا ﴾ خالفوا أمرنا ﴿ بعذاب بئيس ﴾ شديد ﴿ بما كانوا يفسُقون ﴾ بسبب فسقهم والأصح أن الفرقة المرتكبة دون غيرهم صاروا قردة والفرقتين الأخريين نجوا وعند بعضهم أن الفرقة الساكتة أيضا مسخوا.
﴿ فلما عَتوا ﴾ تكبروا ﴿ عن ﴾ ترك ﴿ ما نُهوا عنه قلنا لهم ﴾ عن بعض السلف أنهم سمعوا مناديا قال :﴿ كونوا قردة خاسئين ﴾ ذليلين أو المراد من أمرهم سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك لا حقيقة الأمر والأصح أن المسخ صوري ومعنوي ثم هلكوا بعد ثلاثة أيام ولم يبق منهم نسل ؛ والعذاب البئيس هو المسخ فهذه الآية تقرير وتفصيل للأولى.
﴿ وإذ تأذّن ربك ﴾ أعلم أو قال أو أمر وحكم ﴿ ليبعثن عليهم ﴾ على اليهود وأجرى تأذن كعلم الله وشهد الله مجرى القسم ولذلك أجيب بقوله ليبعثن ﴿ إلى يوم القيامة من يسُومهم ﴾ يعذبهم ﴿ سوء العذاب ﴾ أي : أوجب الله على نفسه ليسلطن عليهم من يعذبهم بضرب الجزية والإهانة وسبي النساء إلى آخر الدهر ﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ لمن أصر على المعصية ﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ على من تاب وأناب.
﴿ وقطّعناهم في الأرض أُممًا ﴾ فرقناهم في البلاد فلا تجتمع كلمتهم مفعول ثان ؛ لأن القطع بمعنى التصيير ﴿ منهم الصالحون ﴾ صفة أمم ﴿ ومنهم ﴾ ناس ﴿ دون ذلك ﴾ منحطون عن الصلاح ﴿ وبلوناهم ﴾ امتحناهم ﴿ بالحسنات ﴾ بالنعم ﴿ والسيئات ﴾ بالنقم ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ عما كانوا فيه.
﴿ فخلف من بعدهم ﴾ من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح ﴿ خلف ﴾ والخلف بسكون العين البدل السوء ﴿ ورِثوا الكتاب ﴾ التوراة من أسلافهم ﴿ يأخذون عرَض هذا الأدنى ﴾ أي : حطام هذه الدنيا الحقير كالرشوة في تبديل حكم الله والجملة حال من فاعل ورثوا ﴿ ويقولون سيُغفر لنا ﴾ الفعل مسند إلى الجار والمجرور ﴿ وإن يأتهم عرضٌ ميله يأخذوه ﴾ أي : يرجون المغفرة والحال أنهم مصرون على الذنب عائدون على مثله. عن السدي كان بعضهم يطعن في حكامهم بأخذ الرشوة فإذا جعل مكان حاكمهم من يطعن بأخذ الرشوة هو أيضا يأخذ فحاصله وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه ﴿ الم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ أي : في التوراة ﴿ أن لا يقولوا ﴾ أي : بأن لا يقولوا أو عطف بيان لميثاق ﴿ على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ﴾ فهم ذاكرون لهذا الميثاق عطف على ألم يؤخذ ﴿ والدار الآخرة للذين يتقون ﴾ المعاصي لا للذين يخالفون أمر الله تعالى فإن مصيرهم إلى النار ﴿ أفلا تعقلون ﴾ فيعلموا ذلك ويرتدعوا عما هم فيه.
﴿ والذين يُمسّكون بالكتاب ﴾ اعتصموا بكتابهم فآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ﴿ وأقاموا الصلاة إنا لا نُضيع ﴾ خبر الذين يمسكون ﴿ أجر المصلحين ﴾ أي : أجرهم لإصلاحهم.
﴿ وإذ نتقنا ﴾ رفعنا ﴿ الجبل فوقهم كأنه ظُلة ﴾ الظلة : كل ما أظلك ﴿ وظنوا ﴾ تيقنوا ﴿ أنه واقع بهم ﴾ ساقط عليهم إن خالفوا وقلنا لهم :﴿ خذوا ما أتيناكم ﴾ من الكتاب ﴿ بقوة ﴾ بجد واجتهاد في العمل به ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ فاعملوا به ﴿ لعلكم تتقون ﴾ كي تتقوا عن القبائح وذلك أنهم أبوا قبول أحكام التوراة فرفع الطور فوقهم وقيل لهم : إن قبلتم وإلا ليقعن عليهم فسجدوا وقبلوا.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ﴾ بدل من بني آدم ﴿ ذُرّيتهم ﴾ أي : أن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب ﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ أشهد بعضهم على بعض ﴿ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ قال بعضهم : شهدنا قول الملائكة لا قول بني آدم وهو أنه قال الله تعالى للملائكة اشهدوا على إقرارهم قالوا شهدنا ﴿ أن تقولوا ﴾ أي : كراهة أن تقولوا ﴿ يوم القيامة إنا كنا عن هذا ﴾ أي : عن إنك ربنا ﴿ غافلين ﴾ لم ننبه عليه ولذلك نصبنا الأدلة على الربوبية وأرسلنا الرسل بذكرهم العهد فلا يكون لهم عذر.
﴿ أو تقولوا ﴾ عطف على أن تقولوا ﴿ إنما أشرك آباؤنا من قبل ﴾ قبل زماننا ﴿ وكنا ذرية من بعدهم ﴾ فاقتدينا بهم ﴿ أفتُهلكنا بما فعل المبطلون ﴾ الآباء المبطلون بتأسيس الشرك. اعلم أن الأحاديث الصحاح الدالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة والنار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ففي حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- كما حققه الثقات من المحدثين ووافقهما أكثر السلف والخلف كأبيّ بن كعب ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيرهم وقال بعض السلف والخلف : المراد بهذا الإشهاد أنه خلقهم على فطرة الإسلام ونصب لهم دلائل التوحيد ولظهورها صارت بمنزلة أن قيل لهم :( ألست بربكم قالوا بلى ) وأنت تعلم أن ابن عباس حبر الأمة وأعلم أن الناس بمعاني القرآن.
﴿ وكذلك ﴾ مثل ذلك التبيين ﴿ نُفصّل الآيات ﴾ لفوائد جمة ﴿ ولعلهم يرجعون ﴾ لكي يرجعوا عن اتباع الأصل.
﴿ واتل عليهم ﴾ على اليهود أو على قومك ﴿ نبأ الذي آتيناه فانسلخ منها ﴾ من الآيات بأن أعرض وكفر ﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ لحقه وأدركه ﴿ فكان من الغاوين ﴾ صار من الضالين هو رجل من بني إسرائيل والأكثرون على أنه بلعم بن باعوراء عالم باسم الله الأعظم سألوا عنه أن يدعوا على موسى وجنوده فأبى ثم ألحوا وجاءوه بالرشوة فقبل فدعا عليهم فقبل الله ثم دعا موسى عليه فنزع عنه الإيمان والاسم الأعظم، وقال بعضهم : ما يسر الله له الدعاء على موسى لكن قال لهم : أخرجوا السناء تستقبلهم فعسى أن يزنوا ففعلوا فوقع واحد من بني إسرائيل في الزنا فنزل عليهم الطاعون فقتل أحد علمائهم الزاني فكشف عنهم العذاب قيل فحسب من هلك في الطاعون في ساعة من النهار فوجدوا سبعين ألفا.
﴿ ولو شئنا لرفعناه ﴾ إلى الدرجات العلى ﴿ بها ﴾ بسبب تلك الآيات ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ مال إلى الدنيا وزخارفها فإن جميع زخارفها من الأرض ﴿ واتّبع هواه ﴾ في أخذ الرشوة والإعراض عن أمر الله تعالى ﴿ فمثله كمثل الكلب ﴾ في أخس أحواله وهو ﴿ إن تحمل عليه ﴾ إن شد عليه فطرد ﴿ يلهث ﴾ : هو إخراج الكلب اللسان ﴿ أو تتركه ﴾ غير متعرض له بالزجر ﴿ يلهث ﴾ قد نقل : إن بلعم لما دعا عليهم اندلع لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب أو مثله في أنه إن وعظته أو تركته فهو على الضلال كالكلب في لهثته في الحالتين أو إن قلب الكافر ضعيف كالكلب فإن لهث الكلب من ضعف قلبه ولا يلهث سائر الحيوان إلا في حال إعياء أو عطش ﴿ ذلك مَثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقصُص القَصَصَ ﴾ المذكور على اليهود أو على كفار مكة ﴿ لعلهم يتفكّرون ﴾ فيعلموا أنها شابهت قصتهم وحالهم فيتعظوا.
﴿ ساء مثلا القوم ﴾ أي : مثل القوم على حذف المضاف ﴿ الذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾ أي : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فتقديم المفعول للتخصيص.
﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ والاهتداء من أعظم الصفات ﴿ ومن يُضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ والإفراد في الأول والجمع في الثاني إشارة إلى أن طريق الهدى واحد فهم كرجل واحد وأنواع الضلال مختلفة متكثرة.
﴿ ولقد ذرأنا ﴾ خلقنا ﴿ لجهنم ﴾ اللام للعاقبة ﴿ كثيرا من الجن والإنس ﴾ وهم الذين حقت عليهم كلمة الشقاوة ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يُبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ أي : لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي خلقها الله للاهتداء، ﴿ أولئك كالأنعام ﴾ في عدم فقه معرفة الحق والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر بل صرفوا مشاعرهم وقصروها في أسباب التعيش ﴿ بل هم أضل ﴾ فإن الدواب تفعل ما خلقت له إما بالطبع وإما بالتسخير وترتدع عن مضارها بخلاف الكافر فإنه خلق ليعبد الله وهو يعبد الشيطان ويعلم بعضهم أنه يضره ويرتكبه عنادا ﴿ أولئك هم الغافلون ﴾ أشد غفلة لا غفلة بعد.
﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ هي أحسن الأسماء دالة على أحسن المعاني وليست منحصرة في التسعة والتسعين ﴿ فادعوه بها ﴾ سموه بتلك الأسماء ﴿ وذروا الذين يُلحدون في أسمائه ﴾ ذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على آلهتهم بزيادة ونقصان كاللات من الله والمنات من المنان والعزى من العزيز وقيل الإلحاد فيها تسميته بما لم يرد في الكتاب ولا في السنة كيا سخي ويا مكار، ويا عاقل ﴿ سيُجزون ما كانوا يعملون ﴾ من الإلحاد.
﴿ وممّن خلقنا أمّة يهدون بالحق ﴾ يقولونه ويدعون إليه ﴿ وبه يعدلون ﴾ يعملون ويقضون وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان إلى يوم الدين وهذه صفة من ذرأ للجنة كما وصف من ذرأ لجهنم.
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ سنقربهم إلى الهلاك والعذاب قليلا قليلا ﴿ من حيث لا يعلمون ﴾ كلما جددوا معصية جددنا لهم وأسبغنا عليهم النعم وننسيهم الشكر والاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة درجة.
﴿ وأُملي لهم ﴾ وأمهلهم ليزدادوا ضلالا بعد ضلال ﴿ إن كيديمتين ﴾ مكري شديد.
﴿ أولم يتفكروا ﴾ فيعلموا ﴿ ما بصاحبهم ﴾ أي : محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ من جِنّة ﴾ جنون نزلت حين علا عليه الصلاة والسلام الصفا فدعاهم يحذر فقال قائل منهم : إن صاحبكم مجنون بات يهوت إلى الصباح ﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾ إنذاره.
﴿ أولم ينظروا ﴾ نظر استدلال ﴿ في ملكوت السماوات والأرض ﴾ ربوبيتها وملكها وقيل عجائبها والتاء فيه للمبالغة ﴿ وما خلق الله من شيء ﴾ وفيما يقع عليه اسما لشيء ففي كل شيء له آية ﴿ وأن ﴾ أي : أنه ﴿ عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم ﴾ أي : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم ليسارعوا إلى ما ينجيهم من العذاب واسم كان ضمير الشأن ﴿ فبأيّ حديث بعده ﴾ بعد القرآن ﴿ يؤمنون ﴾ إن لم يؤمنوا به وليس بعد هذا البيان حديث آخر ينتظر وروده ليؤمنوا به.
﴿ من يُضلل الله فلا هادي له ويذرُهم في طغيانهم يعمهون ﴾ حال من هم ومن قرأ ويذرهم بالياء والجزم فعطل على محل فلا هادي.
﴿ يسألونك عن الساعة ﴾ أي : القيامة ﴿ أيّان مرساها ﴾ متى يكون، وأي وقت إثباتها ؟ نزلت في قريش يسألون وقتها استبعادا لوقوعها ﴿ قل إنما علمها عند ربي لا يُجلّيها لوقتها إلا هو ﴾ أي : لا يظهر أمرها في وقتها إلا هو أي : الخفاء به مستمر إلى وقت الوقوع واللام للتأنيث كقولهم كتب لثلاث من رجب ﴿ ثقُلت في السماوات والأرض ﴾ عظمت وشقت على أهل السماوات والأرض لهولها أو ثقلت عليهما عند الوقوع حتى انشقت وانهدمت، أو ثقل علمها وخفاؤها على أهلهما وعلى الوجوه كلمة في استعارة منبهة على تمكن الثقل، أو معناه خفيت في السماوات والأرض لا يعلمها شيء وكل خفي ثقيل ﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ فجأة على غفلة ونصبه على المصدر فإنها نوع من الإتيان ﴿ يسألونك كأنك حفيٌّ عنها ﴾ أي : عالم بها من حفى عن الشيء بالغ في السؤال عنه، والمبالغة في السؤال مستلزم للعلم أطلق الحفي وأريد العالم، أو كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمت، أو عنها متعلق بيسألونك أي : يسألونك عنها كأنك شفيق بهم من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة، وكأنك في موقع الحال أي : مشبها حالك بحال الحفي ﴿ قل إنما علمُها عند الله ﴾ لا يطلع عليه أحد كرره تأكيدا ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن علمها مختص بالله.
﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرًّا ﴾ أي : جلب نفع ولا دفع ضر ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ : أي : لكن ما شاء يصل فمنقطع أو إلا نفعا وضرا يملكني الله ويوفقني به فتمصل ﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء ﴾ أي : لكانت حالي من استكثار الخير واستفزاز المنافع واجتناب السوء على خلاف ما هي عليه، فلم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى، ورابحا وخاسرا في التجارة ﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ أي : إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة لهم فإنهم المنتفعون بهما، أو ما أنا إلا نذير للكافرين وبشير للمؤمنين فمتعلق النذير محذوف، ونزلت حين قالت قريش : ألا تعلم الرخص قبل الغلاء فتشتري وتربح والأرض التي تريد أن تجدب فترتحل إلى المخصبة.
﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ آدم ﴿ وجعل منها زوجها ﴾ خلق من ضلع آدم حواء ﴿ ليسكُن ﴾ ليطمئن ﴿ إليها ﴾ ويأنس بها فإنها جزءه ﴿ فلما تغشّاها ﴾ جامعها ﴿ حملت حملا خفيفا ﴾ عليها يعني النطفة ﴿ فمرّت به ﴾ استمرت به أو قامت وقعدت بالحمل لخفته ﴿ فلما أثقلت ﴾ صارت ذات ثقل لكبر الولد ﴿ دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا ﴾ بشرا سويًّا فإنهما أشفقا أن يكون بهيمة ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ لك.
﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ لما حملت حواء جاءها إبليس في غير صورته وقال : هذا الذي في بطنك ربما يكون بهيمة، وهل تدري من أين يخرج فخوفها مرارا كثيرة ثم قال : لي عند الله منزلة وإن دعوت أن يخرج سالما سويا أتسميه عبد الحارث وهذا اسم إبليس في الملائكة، فلم ينزل بها حتى غرها فسمته عبد الحارث بإذن من آدم ولم تعرف حواء أنه إبليس وقد صح هذا النقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وكثير من السلف والخلف، وهذا ليس بشرك حقيقي لأنهما ما اعتقدا أن الحارث ربه بل قصدا إلى أنه سبب صلاحه فسماه الله تعالى شركا للتغليظ ويكون لفظ شركاء من إطلاق الجمع على الواحد ﴿ فتعالى الله عما يُشركون ﴾ فإن الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم، وعن الحسن البصري رحمه الله يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا، ونصروا، وعلى هذا تقدير الآية جعل أولادهما له شركاء فيما أتى أولادهما فسموه عبد شمس وعبد مناف وغيرهما، فحذف المضاف وهو الأولاد وأقيم المضاف إليه مقامه، وقوله :( شركاء ) و( تعالى الله عما يشركون ) بلفظ الجمع يدل عليه قيل معناه هو الذي خلق آل قصي وهم قريش من نفس واحدة وهو قصي فجعل من جنسها زوجها عربية قرشية فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد المناف وعبد العزى وعبد القصي وعبد الدار وقيل تم الكلام عند قوله آتاهما ثم ذكر كفار مكة فقال :( تعالى الله عما يشركون ).
﴿ أيُشركون ﴾ ابتداء كلام وإنكار على المشركين ﴿ ما لا يخلُق شيئا ﴾ كالأصنام ﴿ وهم يُخلَقون ﴾ مخلوقون لله جيء بضمير العاقلين بناء على اعتقادهم وتسميتهم إلها.
﴿ ولا يستطيعون لهم ﴾ لعُبّادهم ﴿ نصرا ولا أنفسهم ينصُرون ﴾ لا يقدرون على دفع مكروه كمن أراد كسرهم.
﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي : الأصنام أو المشركين ﴿ إلى الهدى ﴾ إلى أن يهدوكم أو إلى الإسلام ﴿ لا يتّبعوكم ﴾ إلى مرادكم ولا يجيبوكم ﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ أي : سواء إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمت عن دعائهم فإن الكفار إذا نزل عليهم أمر دعوا الله تعالى دون الأصنام.
﴿ إن الذين تدعون ﴾ تعبدونهم ﴿ من دون الله ﴾ أي : الأصنام ﴿ عباد أمثالكم ﴾ مملوكون مسخرون ﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم ﴾ أي : لا يقدرون على إنجاح سؤال سائل ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ إنهم آلهة.
﴿ ألهم أرجل يمشون بها ﴾ هذا بيان لقصور معبودهم عن عبادهم كأنه قال : عباد أمثالكم بل أنتم أكمل ﴿ أم لهم أيْدٍ يبطِشون بها أم لهم أعين يُبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ﴾ يا محمد ﴿ ادعوا شركاءكم ﴾ في عداوتي ﴿ ثم كيدون ﴾ ثم بالغوا أنتم وشركاؤكم في مكروهي ﴿ فلا تُنظِرون ﴾ لا تمهلوني فإني لا أعبأ بكم.
﴿ إن وليِّي الله الذي نزّل الكتاب ﴾ القرآن ﴿ وهو يتولّى الصالحين ﴾ يلي أمرهم وينصرهم.
﴿ والذين تدعون من دونه ﴾ دون الله ﴿ لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ فكيف أخاف ذاك العابد وذاك المعبود.
﴿ وإن تدعوهم ﴾ الأصنام ﴿ إلى الهدى ﴾ أي : ما هو صلاحهم أو إلى أن يهدوكم ﴿ لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك ﴾ أي : كأنهم ينظرون فإنهم نحتوها مصورين بالعين والأنف والأذن ﴿ وهم لا يُبصِرون ﴾ لأنهم لا يقدرون إيجاد النور في أعين أصنامهم أو ضمير تدعوهم وتراهم إلى المشركين لقوله تعالى :( صم بكم عمي ) ( البقرة : ١٨ ).
﴿ خذ العفو ﴾ من أخلاق الناس من غير تجسس كقبول أعذارهم والمساهلة معهم وقد ورد أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما هذا يا جبريل قال : إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك ) أو خذ الفضل وما تسهّل به من أموالهم وذلك قبل وجوب الزكاة ﴿ وأمر بالعُرف ﴾ بالمعروف وهو كل ما يعرفه الشرع ﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ لا تقابل السفه بالسفه.
﴿ وإما ينزغنّك من الشيطان نزْغٌ ﴾ نزغه إذا طعنه وكأن الشيطان يطعن حين يغري الناس إلى المعاصي وحاصله إذا عرض لك منه أدنى وسوسة تصدك عن الإعراض عن الجهال ﴿ فاستعذ بالله ﴾ فإنه الملجأ أو المنجى ﴿ إنه سميع ﴾ بالدعاء ﴿ عليم ﴾ بالمصالح وبأحوال الناس.
﴿ إن الذين اتقوا ﴾ الكبائر ﴿ إذا مسّهم طائف ﴾ لمة ووسوسة من طاف به الخيال يطيف أو من طاف يطوف ومن قرأ طيف فهو مصدر، أو تخفيف طيف كلين من لان يلين أو كهين من هان يهون ﴿ من الشيطان تذكّروا ﴾ وعيد الله ووعده ﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فأنابوا لا كالكفار العمي.
﴿ وإخوانهم ﴾ أي : الكفرة فإنهم إخوان الشياطين وأتى بضمير الجمع للشيطان، لأن المراد منه الجنس ﴿ يمدّونهم ﴾ ضمير الفاعل للشياطين أي : يكون الشياطين مددا لهم ﴿ في الغيّ ﴾ أو المراد من الإخوان الشياطين وضمير إخوانهم للجاهلين أي : شياطينهم يكونون مددا لهم ﴿ ثم لا يُقصرون ﴾ لا يمسكون على إغوائهم، أو الضمير للكفرة أي : لا يكفون عن الغي أو الضمير للكفرة والشياطين جميعا أي لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم.
﴿ وإذا لم تأتهم بآية ﴾ من القرآن أو معجزة اقترحوها ﴿ قالوا لولا اجتبيتها ﴾ اختلقتها من قبل نفسك قيل : كانوا يسألون الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها وأنشأتها من نفسك، أو معناها لم لا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله تعالى حتى نراها ونؤمن بها ﴿ قل إنما أتّبع ما يوحى إليّ من ربي ﴾ لست بمختلق أو إن منعها لا أسألها إلا بإذنه ﴿ هذا ﴾ أي : القرآن ﴿ بصائر ﴾ للقلوب بها تبصر الحق ﴿ من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ فلو كان لكم بصيرة لكفاكم القرآن آية.
﴿ وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ﴾ الأصح أنها نزلت في ترك التكلم في الصلاة أو ترك القراءة مع الإمام إذا جهر فيها ولا شك أنه يستحب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقا.
﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ أمر بذكره أول النهار وآخره ﴿ تضرّعا ﴾ متضرعا ﴿ وخيفة ﴾ خائفا ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ وهو كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- أن تسمع نفسك دون غيرك ﴿ بالغدو والآصال ﴾ بهذين الوقتين لفضلهما ﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ عن ذكره وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والآية مكية وأما حمل الآية على غير هذا المعنى فبعيد، ولا يساعده نقل سديد.
﴿ إن الذين عند ربك ﴾ أي : الملائكة المقربين ﴿ لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه ﴾ ينزهونه ﴿ وله ﴾ لا لغيره ﴿ يسجُدون ﴾ لا يشركون بالعبادة غير الله تعالى أي : هم مع كونهم آمنين من سوء العاقبة وعذابه متوجهون إلى الله تعالى دائما فأنتم مع خوفكم تتمادون في الغفلة وتعبدون غيره وهذه أول سجدة في القرآن لتاليها ومستمعها بالإجماع.
والحمد لله حق حمده. .