تفسير سورة الأعراف

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ
سورة الأعراف هي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى :" واسألهم عن القرية " [ الأعراف : ١٦٣ ] إلى قوله :" وإذ نتقنا الجبل فوقهم١ " [ الأعراف : ١٧١ ]. وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرَّقها في ركعتين. صححه أبو محمد عبد الحق.
١ راجع ص ٣٠٤ فما بعد..

تفسير سورة الأعراف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وهي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى:" وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ «١» ". وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ. صححه أبو محمد عبد الحق.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (المص) تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ «٢» وموضعه رفع بالابتداء. و" كِتابٌ" خَبَرُهُ. كَأَنَّهُ قَالَ:" المص" حُرُوفُ" كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ" وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ هَذَا كِتَابٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) فيه مسألتان: الْأَوْلَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَرَجٌ" أَيْ ضِيقٌ، أَيْ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِالْإِبْلَاغِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَثْلَغُوا «٣» (رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً) الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ إِلْكِيَا: فَظَاهِرُهُ النَّهْيُ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْهُ، أَيْ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ أَلَّا يُؤْمِنُوا بِهِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ سِوَى الإنذار به من شي من إيمانهم
(١). راجع ص ٣٠٤. فما بعد.
(٢). راجع ج ١ ص ١٥٤.
(٣). كذا في الأصول. والذي في صحيح مسلم: إذا يثلغوا رأسي. راجع صحيح مسلم. كتاب الجنة، باب الصفات التي يصرف بها أهل الجنه وأهل النار. والثلغ: الشدخ. وقيل: هو ضربك الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. وفى النهاية: إذن يثلغوا رأسي كما تثلغ الخبزة.
أَوْ كُفْرِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «١» " الْآيَةَ. وَقَالَ:" لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «٢» ". وَمَذْهَبُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْحَرَجَ هُنَا الشَّكُّ، وَلَيْسَ هَذَا شَكَّ الْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ شَكُّ الضِّيقِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ «٣» ". وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْهَاءُ فِي" مِنْهُ" لِلْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لِلْإِنْذَارِ، أَيْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ. فَالْكَلَامُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَقِيلَ لِلتَّكْذِيبِ الَّذِي يُعْطِيهِ قُوَّةُ الْكَلَامِ. أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ ضِيقٌ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَذِكْرى " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَخَفْضٍ. فَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ، قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هِيَ رَفْعٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: عَطْفٌ عَلَى" كِتابٌ" وَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ، عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَذَكِّرْ بِهِ ذِكْرَى، قال الْبَصْرِيُّونَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ فِي" أَنْزَلْناهُ «٤» ". وَالْخَفْضُ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ" لِتُنْذِرَ بِهِ" وَالْإِنْذَارُ لِلْكَافِرِينَ، وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٣]
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «٥» ". وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ دُونَهُ. أَيِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنَ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ الْآرَاءِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.
(١). راجع ج ١٠ ص ٣٥٣ وص ٦٣.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٨٩.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٥٣ وص ٦٣. [..... ]
(٤). كذا في الأصول. وفى السمين: إنها حال من الضمير في أنزل. وقال: هذا سهو.
(٥). راجع ج ١٨ ص ١٧.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) " مِنْ دُونِهِ" مِنْ غَيْرِهِ. وَالْهَاءُ تَعُودُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَا تَتَّخِذُوا مَنْ عَدَلَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَلِيًّا. وَكُلُّ مَنْ رَضِيَ مَذْهَبًا فَأَهْلُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ أَوْلِيَاؤُهُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَرَأَ" وَلَا تَبْتَغُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ" أَيْ وَلَا تَطْلُبُوا. وَلَمْ يَنْصَرِفْ" أَوْلِياءَ" لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ التَّأْنِيثِ. وَقِيلَ: تَعُودُ عَلَى" مَا" مِنْ قَوْلِهِ:" اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ". (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) " مَا" زَائِدَةٌ. وقيل: تكون مع الفعل مصدرا.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٤ الى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) " كَمْ" لِلتَّكْثِيرِ، كَمَا أَنَّ" رُبَّ" لِلتَّقْلِيلِ. وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" أَهْلَكْنَا" الْخَبَرُ. أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى- وَهِيَ مَوَاضِعُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ- أَهْلَكْنَاهَا. وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا، وَلَا يُقَدَّرُ قَبْلَهَا، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ. وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:" وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ «١» " وَلَوْلَا اشْتِغَالُ" أَهْلَكْنا" بِالضَّمِيرِ لَانْتَصَبَ بِهِ مَوْضِعُ" كَمْ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" أَهْلَكْنَا" صِفَةً لِلْقَرْيَةِ، وَ" كَمْ" فِي الْمَعْنَى هِيَ الْقَرْيَةُ، فَإِذَا وَصَفْتَ الْقَرْيَةَ فَكَأَنَّكَ قَدْ وَصَفْتَ كَمْ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً" فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى" كَمْ". عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي الْمَعْنَى. فَلَا يَصِحُّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ" كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ بَعْدَهَا." فَجاءَها بَأْسُنا" فِيهِ إِشْكَالٌ لِلْعَطْفِ بِالْفَاءِ. فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَلَا يَلْزَمُ التَّرْتِيبُ. وَقِيلَ: أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا، كَقَوْلِهِ:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «٢» ". وَقِيلَ: إن
(١). راجع ج ١٠ ص ٢٣٥ وص ١٧٤.
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٠٣.
162
الْهَلَاكَ. وَاقِعٌ بِبَعْضِ الْقَوْمِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَا بَعْضَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَا الْجَمِيعَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فِي حُكْمِنَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا. وَقِيلَ: أَهْلَكْنَاهَا بِإِرْسَالِنَا مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ إِلَيْهَا، فَجَاءَهَا بَأْسُنَا وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ. وَالْبَأْسُ، الْعَذَابُ الْآتِي عَلَى النَّفْسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَهْلَكْنَاهَا فَكَانَ إِهْلَاكُنَا إِيَّاهُمْ فِي وَقْتِ كَذَا، فَمَجِيءُ الْبَأْسِ عَلَى هَذَا هُوَ الْإِهْلَاكُ. وَقِيلَ: الْبَأْسُ غَيْرُ الْإِهْلَاكِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيُّهُمَا شِئْتَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، مِثْلُ دَنَا فَقَرُبَ، وَقَرُبَ فَدَنَا، وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ، وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي، لأن الإساءة والشتم شي وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «١» ". الْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- انْشَقَّ الْقَمَرُ فَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ." بَياتاً" أَيْ لَيْلًا، وَمِنْهُ الْبَيْتُ، لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ. يُقَالُ: بَاتَ يَبِيتُ بَيْتًا وبياتا. أوهم قائلون أي" أَوْ هُمْ قائِلُونَ" أَيْ أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ، فَاسْتَثْقَلُوا فَحَذَفُوا الْوَاوَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، إِذَا عَادَ الذِّكْرُ اسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ، تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ رَاكِبًا أَوْ هُوَ مَاشٍ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْوَاوِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ بَيَاتًا أَوْ وَهُمْ قَائِلُونَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرًا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْوَاوِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ أَوْ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّفْصِيلِ، كَقَوْلِكَ: لَأُكْرِمَنَّكَ مُنْصِفًا لِي أَوْ ظَالِمًا. وَهَذِهِ الْوَاوُ تُسَمَّى عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَاوُ الْوَقْتِ. وَ" قائِلُونَ" مِنَ الْقَائِلَةِ وَهِيَ الْقَيْلُولَةُ، وَهِيَ نَوْمُ نِصْفِ النَّهَارِ وَقِيلَ: الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفُ النَّهَارِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْمٌ. وَالْمَعْنَى جَاءَهُمْ عَذَابُنَا وَهُمْ غَافِلُونَ إِمَّا لَيْلًا وَإِمَّا نَهَارًا. وَالدَّعْوَى الدُّعَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ:" وَآخِرُ دَعْواهُمْ «٢» ". وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ: اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوَى مَنْ دَعَاكَ. وَقَدْ تَكُونُ الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يُخْلِصُوا عِنْدَ الْإِهْلَاكِ إِلَّا عَلَى الإقرار بأنهم كانوا ظالمين." دَعْواهُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ كَانَ، وَاسْمُهَا" إِلَّا أَنْ قالُوا". نَظِيرُهُ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا «٣»
(١). راجع ج ١٧ ص ١٢٥.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣١٣.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢١٩.
163
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى رَفْعًا، وَ" أَنْ قالُوا" نَصْبًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «١» " بِرَفْعِ" الْبِرَّ" وَقَوْلِهِ:" ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا «٢» " برفع" عاقبة".
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٦ الى ٧]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
قوله تعالى: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُحَاسَبُونَ. وَفِي التَّنْزِيلِ" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا «٣» حِسابَهُمْ". وفي سورة القصص" وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «٤» " يَعْنِي إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي الْعَذَابِ. وَالْآخِرَةُ مَوَاطِنُ: مَوْطِنٌ يُسْأَلُونَ فِيهِ لِلْحِسَابِ. وَمَوْطِنٌ لَا يُسْأَلُونَ فِيهِ. وَسُؤَالُهُمْ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ وَإِفْضَاحٌ. وَسُؤَالُ الرُّسُلِ سُؤَالُ اسْتِشْهَادٍ بِهِمْ وَإِفْصَاحٍ، أَيْ عَنْ جَوَابِ الْقَوْمِ لَهُمْ. وَهُوَ مَعْنَى قوله:" لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ «٥» " عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: المعنى" فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ" أي الأنبياء" وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ" أَيِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ. وَاللَّامُ في" فَلَنَسْئَلَنَّ" لام القسم وحقيقتها التوكيد. كذا (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْطِقُ عَلَيْهِمْ «٦». (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أَيْ كُنَّا شَاهِدِينَ لِأَعْمَالِهِمْ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عالم بعلم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨ الى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" الْحَقُّ" نَعْتَهُ، وَالْخَبَرُ" يَوْمَئِذٍ". وَيَجُوزُ نَصْبُ" الْحَقِّ" عَلَى الْمَصْدَرِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَزْنِ وَزْنُ أعمال العباد
(١). راجع ج ٢ ص ٢٣٧.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٩ وص ١٢٩.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٣٧.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٣١٥.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٩ وص ١٢٩.
(٦). عبارة الطبري:" ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم.
164
بِالْمِيزَانِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: الْمِيزَانُ الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ أَعْمَالُ الْخَلْقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمِيزَانُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ بِأَعْيَانِهَا. وَعَنْهُ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَالْأَعْمَشِ: الْوَزْنُ وَالْمِيزَانُ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ، وَذِكْرُ الْوَزْنِ ضَرْبُ مَثَلٍ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ فِي وَزْنِ هَذَا وَفِي وِزَانِهِ، أَيْ يُعَادِلُهُ وَيُسَاوِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَزْنٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا سَائِغٌ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مَا جَاءَ فِي الْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ مِنْ ذِكْرِ الْمِيزَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ أَحْسَنَ فِيمَا قَالَ، إِذْ لَوْ حُمِلَ الْمِيزَانُ عَلَى هذا فليحمل الصراط على الذين الْحَقِّ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ، وَالشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى الْقُوَى الْمَحْمُودَةِ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخْذِ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِالظَّاهِرِ، وَصَارَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ نُصُوصًا. قَالَ ابْنُ فُورَكَ: وَقَدْ أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ «١» الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا، إِذْ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوَازِينَ تَثْقُلُ بِالْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ مَكْتُوبَةٌ، وَبِهَا تَخِفُّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ مَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ (أَنَّ مِيزَانَ بَعْضِ بَنِي آدَمَ كَادَ يَخِفُّ بِالْحَسَنَاتِ فَيُوضَعُ فِيهِ رَقٌّ مَكْتُوبٌ فِيهِ" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَيَثْقُلُ). فَقَدْ علم أن لك يَرْجِعُ إِلَى وَزْنِ مَا كُتِبَ فِيهِ الْأَعْمَالُ لَا نَفْسَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُخَفِّفُ الْمِيزَانَ إِذَا أَرَادَ، وَيُثَقِّلُهُ إِذَا أَرَادَ بِمَا يُوضَعُ فِي كِفَّتَيْهِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى «٢»؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقْرِرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا على الله (. فقوله:) فيعطى صحيفة حسناته)
(١). في ز: الإمامية. [..... ]
(٢). يريد مناجاة الله تعالى للعبد يوم القيامة.
165
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ وَتُوزَنُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فَيُنْشَرُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَظْلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لَا ثُمَّ يَقُولُ أَلَكَ عُذْرٌ أَلَكَ حَسَنَةٌ فَيَهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ (. زَادَ التِّرْمِذِيُّ (فَلَا يَثْقُلُ مع اسم الله شي) وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" الْكَهْفِ «١» وَالْأَنْبِيَاءِ «٢» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ"" مَوازِينُهُ" جَمْعُ مِيزَانٍ، وَأَصْلُهُ مِوْزَانٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَوَازِينُ لِلْعَامِلِ الْوَاحِدِ يُوزَنُ بِكُلِ مِيزَانٍ مِنْهَا صِنْفٌ مِنْ أَعْمَالِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِيزَانًا وَاحِدًا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، كَمَا تَقُولُ: خَرَجَ فُلَانٌ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْبِغَالِ، وَخَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي السُّفُنِ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ"." كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ «٣» ". وَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ وَاحِدٌ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَوَازِينُ جَمْعُ مَوْزُونٍ، لَا جَمْعُ مِيزَانٍ. أَرَادَ بِالْمَوَازِينِ الْأَعْمَالَ الْمَوْزُونَةَ." وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ" مثله. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: تُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فِي مِيزَانٍ له لسان كفتان، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُؤْتَى بِعَمَلِهِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ فَتَثْقُلُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" وَيُؤْتَى بِعَمَلِ الْكَافِرِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ فَيَخِفُّ وَزْنُهُ حَتَّى يَقَعَ فِي النَّارِ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
(١). راجع ج ١١ ص ٦٦ وص ٢٩٣.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١١٨ وص ١٢٢.
(٣). راجع ج ١٣ ص ١١٨ وص ١٢٢.
166
ابْنُ عَبَّاسٍ قَرِيبٌ مِمَّا قِيلَ: يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ جَوْهَرًا فَيَقَعُ الْوَزْنُ عَلَى تِلْكَ الْجَوَاهِرِ. وَرَدَّهُ ابْنُ فُورَكَ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْخَبَرِ (إِذَا خَفَّتْ حَسَنَاتُ المؤمن أخرج رسول الله صل اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَاقَةً كَالْأُنْمُلَةِ فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الْيُمْنَى الَّتِي فِيهَا حَسَنَاتُهُ فَتَرْجَحُ الْحَسَنَاتُ فَيَقُولُ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ وَمَا أَحْسَنَ خَلْقَكَ فَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَهَذِهِ صَلَوَاتُكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهَا (. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْبِطَاقَةَ (بِكَسْرِ الْبَاءِ) رُقْعَةٌ فِيهَا رَقْمُ الْمَتَاعِ بِلُغَةِ. أَهْلِ مِصْرَ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: الْبِطَاقَةُ الرُّقْعَةُ، وَأَهْلُ مِصْرَ يَقُولُونَ لِلرُّقْعَةِ بِطَاقَةٌ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَاحِبُ الْمَوَازِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا جِبْرِيلُ زِنْ بَيْنَهُمْ فَرُدَّ مِنْ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ). قَالَ: وَلَيْسَ ثَمَّ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ، فَإِنْ كَانَ لِلظَّالِمِ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَرُدَّ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُحْمَلُ عَلَى الظَّالِمِ، فَيَرْجِعُ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْجِبَالِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ ابْرُزْ إِلَى جَانِبِ الْكُرْسِيِّ عِنْدَ الْمِيزَانِ وَانْظُرْ مَا يُرْفَعُ إِلَيْكَ مِنْ أَعْمَالِ بَنِيكَ فَمَنْ رَجَحَ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ رَجَحَ شَرُّهُ عَلَى خَيْرِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ فَلَهُ النَّارُ حَتَّى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما).
[سورة الأعراف (٧): آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
أَيْ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ قَرَارًا وَمِهَادًا، وَهَيَّأْنَا لَكُمْ فِيهَا أَسْبَابَ الْمَعِيشَةِ. وَالْمَعَايِشُ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، أَيْ مَا يُتَعَيَّشُ بِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَمَا تَكُونُ بِهِ الْحَيَاةُ. يُقَالُ: عَاشَ يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعَاشًا وَمَعِيشًا وَمَعِيشَةً وَعِيشَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعِيشَةُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْعَيْشِ. وَمَعِيشَةٌ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَكَثِيرٍ من النحويين مفعلة. وقرا الأعرج:" معايش" بِالْهَمْزِ. وَكَذَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ نَافِعٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْهَمْزُ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مَعِيشَةٌ، أَصْلُهَا مَعِيشَةٌ، فَزِيدَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيكٍ إِذْ لَا سَبِيلَ
إِلَى الْحَذْفِ، وَالْأَلِفُ لَا تُحَرَّكُ فَحُرِّكَتِ الْيَاءُ بِمَا كَانَ يَجِبُ لَهَا فِي الْوَاحِدِ. وَنَظِيرُهُ من الواو مناور وَمَنَاوِرُ، وَمَقَامٌ وَمَقَاوِمُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ جَرِيرٌ وَلَا مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا
وَكَذَا مُصِيبَةٌ وَمَصَاوِبُ. هَذَا الْجَيِّدُ، وَلُغَةٌ شَاذَّةٌ مَصَائِبُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا جَازَ مَصَائِبُ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مُعْتَلَّةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ مَقَائِمُ. وَلَكِنَّ الْقَوْلَ أَنَّهُ مِثْلُ وِسَادَةٍ وَإِسَادَةٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَجُزِ الْهَمْزُ فِي مَعَايِشَ لِأَنَّ الْمَعِيشَةَ مَفْعَلَةٌ، فَالْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يُهْمَزُ إِذَا كَانَتِ الْيَاءُ زَائِدَةً مِثْلَ مَدِينَةٍ وَمَدَائِنُ، وَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفُ، وَكَرِيمَةٍ وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه.
[سورة الأعراف (٧): آية ١١]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) لَمَّا ذَكَرَ نِعَمَهُ ذَكَرَ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخَلْقِ «١» فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ." ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" أَيْ خَلَقْنَاكُمْ نُطَفًا ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، ثُمَّ إِنَّا نُخْبِرُكُمْ أَنَّا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا: الْمَعْنَى خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:" ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقِيلَ:" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" يَعْنِي آدَمَ، ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ." ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" رَاجِعٌ إِلَيْهِ أَيْضًا. كَمَا يُقَالُ: نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ، أَيْ قَتَلْنَا سَيِّدَكُمْ." ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ" وَعَلَى هَذَا لَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، يُرِيدُ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَآدَمُ مِنَ التُّرَابِ وَحَوَّاءُ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّصْوِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا أَبَوَيْكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُمَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى خَلَقْنَاكُمْ في ظهر آدم
(١). راجع ج ١ ص ٢٢٦، ٢٥١.
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ حِينَ أَخَذْنَا عَلَيْكُمُ الْمِيثَاقَ. هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ. يَذْهَبُ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ كَانَ السُّجُودُ بَعْدُ. وَيُقَوِّي هَذَا" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ «١» ذُرِّيَّتَهُمْ". وَالْحَدِيثُ (أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ). وَقِيلَ:" ثُمَّ" لِلْإِخْبَارِ، أَيْ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْرِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ فِي الْأَرْحَامِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُحْتَمَلٌ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا يُعَضِّدُهُ التَّنْزِيلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «٢» " يَعْنِي آدَمَ. وَقَالَ:" وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها
«٣» ". ثُمَّ قَالَ:" جَعَلْناهُ" أَيْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ" نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ" الْآيَةَ «٤». فَآدَمُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ ثم صور وأكوم بِالسُّجُودِ، وَذُرِّيَّتُهُ صُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ بَعْدَ أَنْ خُلِقُوا فِيهَا وَفِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ «٥» أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ وَتُرْبَةٍ، فَتَأَمَّلْهُ وَقَالَ هُنَا:" خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ" وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَشْرِ:" هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «٦» ". فَذَكَرَ التَّصْوِيرَ بَعْدَ الْبَرْءِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: مَعْنَى" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" أَيْ خَلْقنَا الْأَرْوَاحَ أَوَّلًا ثُمَّ صَوَّرْنَا الْأَشْبَاحَ آخِرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ: مِنَ الْجِنْسِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا. كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ في البقرة «٧».
[سورة الأعراف (٧): آية ١٢]
قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)
(١). راجع ص ٣١٣ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٨.
(٣). راجع ج د ص ١.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١٠٨.
(٥). راجع ج ٦ ص ٣٨٨.
(٦). راجع ج ١٨ ص ٤٨.
(٧). راجع ج ١ ص ٢٩.
169
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا مَنَعَكَ) " مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ أي شي مَنَعَكَ. وَهَذَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ. أَلَّا تَسْجُدَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ مِنْ أَنْ تَسْجُدَ. وَ" لَا" زَائِدَةٌ. وَفِي ص" مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ «١» " وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلُ فَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُودَ نَائِلُهُ
أَرَادَ أَبَى جُودَهُ الْبُخْلُ، فَزَادَ" لَا". وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْمَنْعَ فِيهِ طَرَفٌ مِنَ الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ لَكَ أَلَّا تَسْجُدَ؟ أَوْ مَنْ دَعَاكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ؟ كَمَا تَقُولُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ أَلَّا تَفْعَلَ كَذَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الطَّاعَةِ وَأَحْوَجَكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الَّذِي أَحْوَجَهُ إِلَى تَرْكِ السُّجُودِ هُوَ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ، وَكَانَ أَضْمَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ إِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ. وَكَانَ أَمَرَهُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «٢» ". فَكَأَنَّهُ دَخَلَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ قَوْلِهِ" فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ". فَإِنَّ فِي الْوُقُوعِ تَوْضِيعَ الْوَاقِعِ وَتَشْرِيفًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ، فَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَلَّا يَسْجُدَ إِذَا أَمَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ وَقَعَتِ الْمَلَائِكَةُ سُجَّدًا، وَبَقِيَ هُوَ قَائِمًا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَأَظْهَرَ بِقِيَامِهِ وَتَرْكِ السُّجُودِ مَا فِي ضَمِيرِهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ" أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِي، فَأَخْرَجَ سِرَّ ضَمِيرِهِ فَقَالَ:" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ". الثَّانِيَةُ- قوله تعالى: (إِذْ أَمَرْتُكَ) يدل علما يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِمُطْلَقِهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، لِأَنَّ الذَّمَّ عُلِّقَ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ:" اسْجُدُوا لِآدَمَ" وَهَذَا بَيِّنٌ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أَيْ مَنَعَنِي مِنَ السُّجُودِ فَضْلِي عَلَيْهِ، فَهَذَا مِنْ إِبْلِيسَ جَوَابٌ عَلَى الْمَعْنَى. كَمَا تَقُولُ: لمن هذه الدار؟ فيقول المخاطب: مالكها
(١). راجع ج ١٥ ص ٢٢٨ وص ٢٢٧.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٢٨ وص ٢٢٧. [..... ]
170
زَيْدٌ. فَلَيْسَ هَذَا عَيْنَ الْجَوَابِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْجَوَابِ. (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فَرَأَى أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ، لِعُلُوِّهَا وَصُعُودِهَا وَخِفَّتِهَا، وَلِأَنَّهَا جَوْهَرٌ مُضِيءٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ فَأَخْطَأَ الْقِيَاسَ. فمن قاس الدين برأيه قرنه مَعَ إِبْلِيسَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: أَخْطَأَ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ فَضَّلَ النَّارَ عَلَى الطِّينِ، وَإِنْ كَانَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمَادٌ مَخْلُوقٌ. فَإِنَّ الطِّينَ أَفْضَلُ مِنَ النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةَ وَالسُّكُونَ، وَالْوَقَارَ وَالْأَنَاةَ، وَالْحِلْمَ، وَالْحَيَاءَ، وَالصَّبْرَ. وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ، فَأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ. وَمِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةُ، وَالطَّيْشُ، وَالْحِدَّةُ، وَالِارْتِفَاعُ، وَالِاضْطِرَابُ. وَذَلِكَ هُوَ الدَّاعِي لِإِبْلِيسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إِلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِصْرَارِ، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء، قال الْقَفَّالُ. الثَّانِي- أَنَّ الْخَبَرَ نَاطِقٌ بِأَنَّ تُرَابَ الْجَنَّةِ مِسْكٌ أَذْفَرُ، وَلَمْ يَنْطِقِ الْخَبَرُ بِأَنَّ فِي الْجَنَّةِ نَارًا وَأَنَّ فِي النَّارِ تُرَابًا. الثَّالِثُ- أَنَّ النَّارَ سَبَبُ الْعَذَابِ، وَهِيَ عَذَابُ اللَّهِ لِأَعْدَائِهِ، وَلَيْسَ التُّرَابُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ. الرَّابِعُ- أَنَّ الطِّينَ مُسْتَغْنٍ عَنِ النَّارِ، وَالنَّارَ مُحْتَاجَةٌ إلى المكان ومكانها التراب. قلت- ومحتمل قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ أَنَّ التُّرَابَ مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ. وَالنَّارُ تَخْوِيفٌ وَعَذَابٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «١» ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الطَّاعَةُ أَوْلَى بِإِبْلِيسَ مِنَ الْقِيَاسِ فَعَصَى رَبَّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ بِرَأْيِهِ. وَالْقِيَاسُ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ مَرْدُودٌ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقِيَاسِ إِلَى قَائِلٍ بِهِ، وَرَادٍّ لَهُ، فَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِهِ فَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَجُمْهُورُ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهِ جَائِزٌ عَقْلًا وَاقِعٌ شَرْعًا، وهو الصحيح.
(١). راجع ج ١٥ ص ٢٤٣.
171
وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين الْبَصْرِيِّ إِلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا. وَذَهَبَ النَّظَّامُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَرَدَّهُ بَعْضُ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي (كِتَابِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ): الْمَعْنَى لَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ أَوْ فِي إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ إِذَا وُجِدَ فِيهَا الْحُكْمُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالْقِيَاسُ. وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى هَذَا (بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بين الله حكمها لِيُفْهِمَ السَّائِلَ). وَتَرْجَمَ بَعْدَ هَذَا (بَابُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَتَفْسِيرِهَا). وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الِاجْتِهَادُ وَالِاسْتِنْبَاطُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ، وَالْفَرْضُ اللَّازِمُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الْمَالِكِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى قِيَاسِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَقِيلُونِي بَيْعَتِي. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ، رَضِيَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاكَ لِدُنْيَانَا؟ فَقَاسَ الْإِمَامَةَ عَلَى الصَّلَاةِ. وَقَاسَ الصِّدِّيقُ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ. وَصَرَّحَ عَلِيٌّ بِالْقِيَاسِ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَحَدُّهُ حَدُ الْقَاذِفِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كتابا فيه: الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، اعْرِفِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاعْمِدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ ذَكَرَهُ الدَّارقُطْنِيُّ. وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ «١» عَنْهُمَا) فِي حَدِيثِ الْوَبَاءِ، حِينَ رَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ «٢»: نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَرَأَيْتَ «٣»... فَقَايَسَهُ وَنَاظَرَهُ بِمَا يُشْبِهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِ بِمَحْضَرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَحَسْبُكَ. وَأَمَّا الْآثَارُ وَآيُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَكَثِيرٌ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ، يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ العاملون، فيستنبطون
(١). من ع.
(٢). موضع قرب الشام بين المغيثة وتبوك.
(٣). راجع الموطأ:" باب ما جاء في الطاعون".
172
بِهِ الْأَحْكَامَ. وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ شَذَّ عَنْهَا. وَأَمَّا الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ وَالْقِيَاسُ الْمُتَكَلَّفُ «١» الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ المذكورة، لأن ذلك ظن و «٢» نزغ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «٣» ". وَكُلُّ مَا يُورِدُهُ الْمُخَالِفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْأَخْبَارِ الْوَاهِيَةِ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ الْمَذْمُومِ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مَعْلُومٌ. وَتَتْمِيمُ هَذَا الْبَابِ في كتب الأصول.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٣]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أَيْ مِنَ السَّمَاءِ. (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا لِأَنَّ أَهْلَهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُتَوَاضِعُونَ.) فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيْ مِنَ الْأَذَلِّينَ. وَدَلَّ هَذَا أَنَّ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ فَهُوَ ذَلِيلٌ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ وَالْبَجَلِيُّ:" فَاهْبِطْ مِنْها" أَيْ مِنْ صُورَتِكَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، لِأَنَّهُ افْتَخَرَ بِأَنَّهُ مِنَ النَّارِ فَشُوِّهَتْ صُورَتُهُ بِالْإِظْلَامِ وَزَوَالِ إِشْرَاقِهِ. وَقِيلَ:" فَاهْبِطْ مِنْها" أَيِ انْتَقِلْ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ، كَمَا يُقَالُ: هَبَطْنَا أَرْضَ كَذَا أَيِ انْتَقَلْنَا إِلَيْهَا مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ فَسُلْطَانُهُ فِيهَا، فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْضَ إِلَّا كَهَيْئَةِ السَّارِقِ «٤» يَخَافُ فِيهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وقد تقدم في البقرة «٥».
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
سَأَلَ النَّظِرَةَ وَالْإِمْهَالَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. طَلَبَ أَلَّا يَمُوتَ لِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ لَا مَوْتَ بَعْدَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وغيرها:
(١). في ع: المشكل.
(٢). في ع: وغرور. وفى ب: نغز. وهو الإغراء.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٥٧.
(٤). في ب: الساري بالياء.
(٥). راجع ج ١ ص ٣٢٧.
أَنْظَرَهُ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى حَيْثُ يَمُوتُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ. وَكَانَ طَلَبَ الْإِنْظَارِ إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ:" إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" وَلَمْ يتقدم مَنْ يُبْعَثُ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِي آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٦ الى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الْإِغْوَاءُ إِيقَاعُ الْغَيِّ فِي الْقَلْبِ، أَيْ فَبِمَا أَوْقَعْتَ فِي قَلْبِي مِنَ الْغَيِّ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ. وَهَذَا لِأَنَّ كُفْرَ إِبْلِيسَ لَيْسَ كُفْرَ جَهْلٍ، بَلْ هُوَ كُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «١». قِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ، أَيْ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ، أَوْ فِي صِرَاطِكَ، فَحُذِفَ. دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فِي (ص):" فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٢» " كأن إِبْلِيسَ أَعْظَمَ قَدْرَ إِغْوَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْعِبَادِ، فَأَقْسَمَ بِهِ إِعْظَامًا لِقَدْرِهِ عِنْدَهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى مَعَ، وَالْمَعْنَى فَمَعَ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَقِيلَ: هُوَ استفهام، كأنه سأل بأي شي أَغْوَاهُ؟. وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ: فَبِمَ أَغْوَيْتِنِي؟. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَبِمَا أَهْلَكْتِنِي بِلَعْنِكَ إِيَّايَ. وَالْإِغْوَاءُ الْإِهْلَاكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «٣» " أَيْ هَلَاكًا. وَقِيلَ: فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي. وَالْإِغْوَاءُ: الْإِضْلَالُ وَالْإِبْعَادُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٤»:
وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا
(١). راجع ج ١ ص ٢٩٥.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٢٨.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٢٥.
(٤). هذا عجز بيت للرقش، وصدره كما في اللسان مادة غوى:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
174
أَيْ مَنْ يَخِبْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي «١» غَيًّا إِذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ أحد معاني قول تَعَالَى:" وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «٢» " أَيْ فَسَدَ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ. وَيُقَالُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا لَمْ يَدْرِ لَبَنَ أُمِّهِ. الثَّانِيَةُ- مَذْهَبُ أَهْلِ السنة أي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَلَّهُ وَخَلَقَ فِيهِ الْكُفْرَ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِغْوَاءَ فِي هَذَا إِلَى اللَّهِ تعالى وهو الحقيقة، فلا شي فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، صَادِرٌ عَنْ إِرَادَتِهِ تَعَالَى. وَخَالَفَ الْإِمَامِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمَا شَيْخَهُمْ إِبْلِيسَ الَّذِي طَاوَعُوهُ فِي كُلِّ مَا زَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يُطَاوِعُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ: أَخْطَأَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْخَطَأِ حَيْثُ نَسَبَ الْغَوَايَةَ إِلَى رَبِّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: وَإِبْلِيسُ وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْخَطَأِ فَمَا تَصْنَعُونَ فِي نَبِيٍّ مُكَرَّمٍ مَعْصُومٍ، وهو ونوح عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ لِقَوْمِهِ:" وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «٣» " وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا جَاءَهُ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْقَدَرِ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: تَقُومُ أَوْ تُقَامُ؟ فَقِيلَ لِطَاوُسٍ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ فَقِيهٍ! فَقَالَ: إِبْلِيسُ أَفْقَهُ مِنْهُ، يَقُولُ إِبْلِيسُ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي. وَيَقُولُ هَذَا: أَنَا أَغْوِي نَفْسِي. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) " أَيْ بِالصَّدِّ عَنْهُ، وَتَزْيِينِ الْبَاطِلِ حَتَّى يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ، أَوْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ، أَوْ يَخِيبُوا كَمَا خُيِّبَ، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة ف" أَغْوَيْتَنِي". وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَ" صِراطَكَ" مَنْصُوبٌ عَلَى حَذْفِ" عَلَى" أَوْ" فِي" مِنْ قَوْلِهِ:" صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ" ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ". وَأَنْشَدَ:
لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَمَا عسل الطريق الثعلب «٤»
(١). من ج. [..... ]
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٥٥.
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٨.
(٤). البيت لساعدة بن جوية. يريد في الطريق. وصف في البيت رمحا لين الهز فشبه اضطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره. والعسل العسلان (بالتحريك): سير سريع في اضطراب. واللدن: الناعم اللين. (عن شرح الشواهد).
175
ومن أحسن ما قيل في تأويل (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أَيْ لَأَصُدَّنَّهُمْ «١» عَنِ الْحَقِّ، وَأُرَغِّبَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأُشَكِّكُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا غَايَةٌ فِي الضَّلَالَةِ. كَمَا قَالَ:" وَلَأُضِلَّنَّهُمْ «٢» " حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ:" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ" مِنْ دُنْيَاهُمْ." وَمِنْ خَلْفِهِمْ" مِنْ آخِرَتِهِمْ." وَعَنْ أَيْمانِهِمْ" يَعْنِي حَسَنَاتِهِمْ." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ" يَعْنِي سَيِّئَاتِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَشَرْحُهُ: أَنَّ مَعْنَى" ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
" مِنْ دُنْيَاهُمْ، حَتَّى يُكَذِّبُوا بِمَا فِيهَا «٣» مِنَ الْآيَاتِ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ" وَمِنْ خَلْفِهِمْ" مِنْ آخِرَتِهِمْ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِهَا." وَعَنْ أَيْمانِهِمْ" مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَأُمُورِ دِينِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ:" إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ"." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ" يَعْنِي سَيِّئَاتِهِمْ، أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، لِأَنَّهُ يُزَيِّنُهَا لَهُمْ. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أَيْ مُوَحِّدِينَ طَائِعِينَ مظهرين الشكر.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ اخْرُجْ مِنْها) أَيْ من الجنة. (مَذْؤُماً مَدْحُوراً) " مَذْؤُماً" أَيْ مَذْمُومًا. وَالذَّأْمُ: الْعَيْبُ، بِتَخْفِيفِ «٤» الْمِيمِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَذْءُومًا وَمَذْمُومًا سَوَاءٌ، يُقَالُ: ذَأَمْتُهُ وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرا الأعمش" مَذْؤُماً". وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ «٥». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَذْءُومُ الْمَنْفِيُّ. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَالْمَدْحُورُ: الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ الدَّفْعُ. (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَالْجَوَابُ" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ". وَقِيلَ:" لَمَنْ تَبِعَكَ" لَامُ تَوْكِيدٍ." لَأَمْلَأَنَّ" لَامُ قَسَمٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ حذف اللام الأولى، ولا يجوز
(١). في ج: لأضلنهم.
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٨٩.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٧٣.
(٤). في ج: مما قبلها.
(٥). لا حاجة لهذا القيد: فإن الهمز كاف للفرق بيته وبين الذم.
حَذْفُ الثَّانِيَةِ. وَفِي الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، أَيْ مَنْ تَبِعَكَ عَذَّبْتُهُ. وَلَوْ قُلْتَ: مَنْ تَبِعَكَ أُعَذِّبُهُ لَمْ يَجُزْ، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ لَأُعَذِّبُهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ" لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ" بِكَسْرِ اللَّامِ. وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَتَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ أَجْلِ مَنْ تَبِعَكَ. كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمْتُ فُلَانًا لَكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى: الدَّحْرُ لِمَنْ تَبِعَكَ. وَمَعْنَى" مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ" أَيْ مِنْكُمْ وَمِنْ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ قَدْ جَرَى إِذْ قَالَ:" وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" خَاطَبَ وَلَدَ آدَمَ.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٩]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
قَالَ لِآدَمَ بَعْدَ إِخْرَاجِ إِبْلِيسَ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنَ السَّمَاءِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَحَوَّاءُ الْجَنَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «١» مَعْنَى الْإِسْكَانِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ هُنَاكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أَيْ إِلَيْهِمَا. قِيلَ: دَاخِلَ الْجَنَّةِ بِإِدْخَالِ الْحَيَّةِ إِيَّاهُ وَقِيلَ: مِنْ خَارِجٍ بِالسَّلْطَنَةِ «٢» الَّتِي جُعِلَتْ لَهُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْبَقَرَةِ. وَالْوَسْوَسَةُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ يُقَالُ: وَسْوَسَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَسْوَسَةً وَوِسْوَاسًا (بِكَسْرِ الْوَاوِ). وَالْوَسْوَاسُ (بِالْفَتْحِ): اسْمٌ مِثْلُ الزَّلْزَالِ. وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَالْكِلَابِ وَأَصْوَاتِ الْحَلْيِ: وَسْوَاسٌ. قَالَ الأعشى:
(١). راجع ج ١ ص ٢٩٨. وص ٢٠٤.
(٢). في ج: بالشيطة.
177
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ «١»
وَالْوَسْوَاسُ: اسْمُ الشَّيْطَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ «٢»). (لِيُبْدِيَ لَهُما) أَيْ لِيُظْهِرَ لَهُمَا. وَاللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَمَا قَالَ (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «٣») وَقِيلَ: لام كي و (وُورِيَ) أَيْ سُتِرَ وَغُطِّيَ عَنْهُمَا. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ القرآن أورى مثل أقتت ومن سوءاتهما من (عوراتها «٤») وَسُمِّيَ الْفَرْجُ عَوْرَةً لِأَنَّ إِظْهَارَهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى قُبْحِ كَشْفِهَا فَقِيلَ: إِنَّمَا بدت سوءاتهما لَهُمَا لَا لِغَيْرِهِمَا كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ «٥» لَا تُرَى عَوْرَاتُهُمَا فَزَالَ النُّورُ. وَقِيلَ: ثَوْبٌ فَتَهَافَتَ «٦»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، بِمَعْنَى إِلَّا، كَرَاهِيَةَ أَنْ فحذف المضاف. هذا قول البصرين. وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ: لِئَلَّا تَكُونَا. وَقِيلَ: أَيْ إِلَّا أَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ تَعْلَمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَقِيلَ طَمِعَ آدَمُ فِي الْخُلُودِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَمُوتُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَضْلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَمِنْهَا هَذَا وَهُوَ (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ). وَمِنْهُ (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ «٧»). ومنهَ- لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«٨» وَقَالَ الْحَسَنُ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالصُّوَرِ. وَالْأَجْنِحَةِ وَالْكَرَامَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَضَّلَهُمْ جَلَّ وَعَزَّ بِالطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَلِهَذَا يَقَعُ التَّفْضِيلُ في كل شي. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ. لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَلَكَيْنِ فِي أَلَّا يَكُونَ لَهُمَا شَهْوَةٌ فِي طَعَامٍ. وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ «٩». وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فُضِّلُوا عَلَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، غَيْرَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمَلَكَ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِ اللَّهِ. وَتَمَسَّكَ كُلُّ فَرِيقٍ بِظَوَاهِرَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" مَلِكَيْنِ" بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي «١٠» كَثِيرٍ وَالضَّحَّاكِ. وأنكر
(١). العشرق كزبرج: شجر قدر ذراع له حب صغار إذا جف صوت بمر الريح.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٢٦١.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٥٢.
(٤). من ج وك وى. [..... ]
(٥). النور بفتح النون: الزهر.
(٦). تهافت: تساقط.
(٧). راجع ج ٩ ص ٢٥.
(٨). راجع ج ٦ ص ٢٦.
(٩). راجع ج ١ ص ٢٨٩.
(١٠). من ب وع وز.
178
قوله تعالى :" فوسوس لهما الشيطان " أي إليهما. قيل : داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل : من خارج، بالسلطنة١. التي جعلت له. والوسوسة : الصوت الخفي. والوسوسة : حديث النفس، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا ( بكسر الواو ). والوسواس ( بالفتح ) : اسم، مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي : وسواس. قال الأعشى :
تَسْمَعُ للحَلْيِ وسواسًا إذا انصرفَتْ كما اسْتَعَان بريحٍ عِشْرَقٌ زَجِلُ٢
والوسواس : اسم الشيطان، قال الله تعالى :" من شر الوسواس الخناس٣ " [ الناس : ٤ ]. " ليبدي لهما " أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة، كما قال :" ليكون لهم عدوا وحزنا٤ " [ القصص : ٨ ]. وقيل : لام كي. " ما ووري عنهما " أي ستر وغطي عنهما. ويجوز في غير القرآن أوري، مثل أقتت و " من سوآتهما " من عوراتهما٥ وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل : إنما بدت سوآتهما لهما لا لغيرهما، كان عليهما نور٦ لا ترى عوراتهما فزال النور. وقيل : ثوب، فتهافت٧، والله أعلم. " إلا أن تكونا ملكين " " أن " في موضع نصب، بمعنى إلا كراهية أن، فحذف المضاف. هذا قول البصريين. والكوفيون يقولون : لئلا تكونا. وقيل : أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل : طمع آدم في الخلود ؛ لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس : وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن، فمنها هذا، وهو " إلا أن تكونا ملكين ". ومنه " ولا أقول إني ملك٨ " [ هود : ٣١ ]. ومنه " ولا الملائكة المقربون٩ " [ النساء : ١٧٢ ]. وقال الحسن : فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة. وقال غيره : فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية ؛ فلهذا يقع التفضيل في كل شيء. وقال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية ؛ لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة، وقد مضى في " البقرة " ١٠ وقال الكلبي : فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ؛ لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرأ ابن عباس " ملكين " بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي كثير١١ والضحاك. وأنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال : لم يكن قبل آدم صلى الله عليه وسلم ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس : ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس : أتاهما الملعون من جهة الملك ؛ ولهذا قال :" هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى١٢ " [ طه : ١٢٠ ]. وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله :" وملك لا يبلى " حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس :" إلا أن تكون مَلِكين " قراءة شاذة. وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة، وهو غاية الطالبين. وإنما معنى " وملك لا يبلى " المقام في ملك الجنة، والخلود فيه.
١ في ج: بالشيطنة..
٢ العشرق (كزيرج) شجر قدر ذراع له حب صغار إذا جف صوت بمر الريح..
٣ راجع ج ٢٠ ص ٢٦١..
٤ راجع ج ١٣ ص ٢٥٢.
٥ من ج وك وى.
٦ النور (بفتح النون): الزهر..
٧ تهافت: تساقط.
٨ راجع ج ٩ ص ٢٥..
٩ راجع ج ٦ ص ٢٦.
١٠ راجع ج ١ ص ٢٨٩.
١١ من ب وع وز..
١٢ راجع ج ١١ ص ٢٥٤.
أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ كَسْرَ اللَّامِ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَلِكٌ فَيَصِيرَا مَلِكَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِسْكَانُ اللَّامِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَاهُمَا الْمَلْعُونُ مِنْ جِهَةِ الْمُلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ:" هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى «١» ". وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ احْتِجَاجَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِقَوْلِهِ:" وَمُلْكٍ لَا يَبْلى " حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا فلهذا تركناها. قال النحاس:" إلا أن تكون مُلْكَيْنِ" قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ هَذَا الْكَلَامَ، وَجُعِلَ مِنَ الْخَطَأِ الْفَاحِشِ. وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مُلْكِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ غَايَةُ الطَّالِبِينَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى" وَمُلْكٍ لَا يَبْلى " الْمُقَامُ فِي مُلْكِ الْجَنَّةِ، وَالْخُلُودُ فِيهِ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢١]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقاسَمَهُما) أَيْ حَلَفَ لَهُمَا. يُقَالُ: أَقْسَمَ إِقْسَامًا، أَيْ حَلَفَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا «٢»
وَجَاءَ" فَاعَلْتَ" مِنْ وَاحِدٍ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ. (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) لَيْسَ" لَكُما" دَاخِلًا فِي الصِّلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، قَالَهُ هِشَامٌ النَّحْوِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: اتَّبِعَانِي أُرْشِدْكُمَا، ذَكَرَهُ قَتَادَةُ.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٢ الى ٢٤]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
(١). راجع ج ١١ ص ٢٥٤.
(٢). السلوى: العسل. وشار العسل: اجتناه واخذه من موضعه.
179
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أَوْقَعَهُمَا فِي الْهَلَاكِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَرَّهُمَا بِالْيَمِينِ. وَكَانَ يَظُنُّ آدَمُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ بِاللَّهِ كَاذِبًا، فغررهما بِوَسْوَسَتِهِ وَقَسَمِهِ لَهُمَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَلَفَ بِاللَّهِ لَهُمَا حَتَّى خَدَعَهُمَا. وَقَدْ يُخْدَعُ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ. كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: مَنْ خَادَعَنَا بِاللَّهِ خدعنا. وفي الحديث عنه صلى: (الْمُؤْمِنُ غِرٌّ «١» كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ). وَأَنْشَدَ نِفْطَوَيْهِ:
إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا تَشَاءُ خَدَعْتَهُ وَتَرَى اللَّئِيمَ مُجَرِّبًا لَا يُخْدَعُ
" فَدَلَّاهُما" يُقَالُ: أَدْلَى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وقيل:" فَدَلَّاهُما" أَيْ دَلَّلَهُمَا، مِنَ الدَّالَّةِ وَهِيَ الْجُرْأَةُ. أَيْ جَرَّأَهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَخَرَجَا مِنَ الْجَنَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ" أَيْ أَكَلَا مِنْهَا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ «٢»، وَكَيْفَ أَكَلَ آدَمُ مِنْهَا." بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما" أَكَلَتْ حَوَّاءُ أولا فلم يصبها شي، فَلَمَّا أَكَلَ آدَمُ حَلَّتِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٣» ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَقَلَّصَ النُّورُ الَّذِي كَانَ لِبَاسَهُمَا فَصَارَ أَظْفَارًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ. الثَّانِيَةُ-" وَطَفِقا" وَيَجُوزُ إِسْكَانُ «٤» الْفَاءِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ طَفِقَ يَطْفِقُ، مِثْلَ ضَرَبَ يَضْرِبُ. يُقَالُ: طَفِقَ، أَيْ أَخَذَ فِي الْفِعْلِ." يَخْصِفانِ" وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَشَدِّ الصَّادِ. وَالْأَصْلُ" يَخْتَصِفَانِ" فَأُدْغِمَ، وَكُسِرَ الْخَاءُ
(١). الغر: الذي لا يفطن للشر. والخلب (بكسر الخاء وفتحها): ضد الغر، وهو الخدع المفسد. الرواية الثابتة عن أبى هريرة: والمنافق خب لئيم بدل الفاجر.
(٢). راجع ج ١ ص ٣٠٤.
(٣). راجع ج ١ ص ٣٠٤.
(٤). كذا في الأصول. والمتبادر أنه يريد المصدر على لغة ضرب ضربا لأن طفق كفرح.
180
وشد الصاد. والأصل يخصفان فَأُدْغِمَ وَكُسِرَ الْخَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ بُرَيْدَةَ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ، أَلْقَيَا حَرَكَةَ التَّاءِ عَلَيْهَا. وَيَجُوزُ" يُخَصِّفَانِ" بِضَمِّ الْيَاءِ، مِنْ خَصَّفَ يُخَصِّفُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ" يُخْصِفَانِ" مِنْ أَخْصَفَ. وَكِلَاهُمَا مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ وَالْمَعْنَى: يَقْطَعَانِ الْوَرَقَ وَيَلْزَقَانِهِ لِيَسْتَتِرَا بِهِ، وَمِنْهُ خَصْفُ النَّعْلِ. وَالْخَصَّافُ الَّذِي يُرَقِّعُهَا. وَالْمِخْصَفُ الْمِثْقَبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ وَرَقُ التِّينِ. وَيُرْوَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَدَتْ سَوْأَتُهُ وَظَهَرَتْ عَوْرَتُهُ طَافَ عَلَى أَشْجَارِ الْجَنَّةِ يَسُلُّ «١» مِنْهَا وَرَقَةً يُغَطِّي بِهَا عَوْرَتَهُ، فَزَجَرَتْهُ أَشْجَارُ الْجَنَّةِ حَتَّى رَحِمَتْهُ شجرة التين فأعطته ورقة." وَطَفِقا" يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ" يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ" فَكَافَأَ اللَّهُ التِّينَ بِأَنْ سَوَّى ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ فِي الْحَلَاوَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَأَعْطَاهُ ثَمَرَتَيْنِ فِي عام واحد مرتين. الثانية- وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قُبْحِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا السَّتْرَ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَرَا إِلَى سَتْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَا بِذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا قِيلَ لَهُمَا:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ". وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إِلَّا وَرَقَ الشَّجَرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَتِرَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ سُتْرَةٌ ظَاهِرَةٌ يُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِهَا، كَمَا فَعَلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ «٢» تَعَالَى: (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أَيْ قَالَ لَهُمَا: أَلَمْ أَنْهَكُمَا. قَالَا رَبَّنا نِدَاءٌ مُضَافٌ. وَالْأَصْلُ يَا رَبَّنَا. وَقِيلَ. إِنَّ فِي حَذْفِ" يَا" مَعْنَى التَّعْظِيمِ. فَاعْتَرَفَا بِالْخَطِيئَةِ وَتَابَا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ «٣»). وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ «٤») وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (قالَ اهْبِطُوا) تقدم أيضا إلى آخر الآية.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٥]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْأَرْضِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ فِي" قالَ"، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَجَازَ «٥» أَيْضًا. وَهُوَ كَقَوْلِكَ: قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو كَذَا قَالَ لَهُ كَذَا.
(١). في ك: يسأل.
(٢). في ع وز وك: الثالثة قوله تعالى:" وَناداهُما" الآية. [..... ]
(٣). من ع.
(٤). راجع ج ١ ص ٣٢٤. وص ٣١٩.
(٥). أي في مثل هذا التركيب في غير القرآن.

[سورة الأعراف (٧): آية ٢٦]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ:" يُوارِي سَوْآتِكُمْ". وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْإِنْعَامِ فَقَطْ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِنْعَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى «١») جَعَلَ لِذُرِّيَّتِهِ مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتِهِمْ، وَدَلَّ عَلَى الْأَمْرِ بِالسَّتْرِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَوْرَةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: هِيَ مِنَ الرَّجُلِ الْفَرْجُ نَفْسُهُ، الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «٢» وَالطَّبَرِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ"،" بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما"،" لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما". وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ:" فَأَجْرَى «٣» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ- وَفِيهِ- ثُمَّ حَسِرَ «٤» الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَقَالَ مَالِكٌ: السُّرَّةُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ، وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْشِفَ فَخِذَهُ بِحَضْرَةِ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَتِ السُّرَّةُ وَلَا الرُّكْبَتَانِ مِنَ الْعَوْرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي السُّرَّةِ قَوْلَيْنِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِجَرْهَدٍ: (غَطِّ فَخِذكَ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ). خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَقَالَ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ «٥»، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ اختلافهم. وحديث جرهد هذا
(١). من ع.
(٢). في وز: وابن عطية.
(٣). أي أجرى دابته.
(٤). أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد.
(٥). أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد
182
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَبَّلَ سُرَّةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: أُقَبِّلُ مِنْكَ مَا كَانَ رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ مِنْكَ. فَلَوْ كَانَتِ السُّرَّةُ عَوْرَةً مَا قَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَا مَكَّنَهُ الْحَسَنُ مِنْهَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ فَعَوْرَةٌ كُلُّهَا إِلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ. عَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ العلم. وقد قال النبي صلى: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا). وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ كَشْفُهُ فِي الْإِحْرَامِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام: كشيء مِنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرَهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَحْوُهُ. وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُهُ- يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- يُسْأَلُ عَنْ أُمِّ الْوَلَدِ كَيْفَ تُصَلِّي؟ فَقَالَ: تُغَطِّي رَأْسَهَا وَقَدَمَيْهَا، لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ، وَتُصَلِّي كَمَا تُصَلِّي الْحُرَّةُ. وَأَمَّا الْأَمَةُ فَالْعَوْرَةُ مِنْهَا ما تحت ثديها، وَلَهَا أَنْ تُبْدِيَ رَأْسَهَا وَمِعْصَمَيْهَا. وَقِيلَ: حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ. وَقِيلَ: يُكْرَهُ لَهَا كَشْفُ رَأْسِهَا وَصَدْرِهَا. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ عَلَى تَغْطِيَتِهِنَّ رُءُوسَهُنَّ وَيَقُولُ: لَا تَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنِ انْكَشَفَ فَخِذُهَا أَعَادَتِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: كُلُّ شي مِنَ الْأَمَةِ عَوْرَةٌ حَتَّى ظُفْرَهَا. وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا مَكْشُوفٌ ذَلِكَ كُلُّهُ، تُبَاشِرُ الْأَرْضَ بِهِ. فَالْأَمَةُ أَوْلَى، وَأُمُّ الْوَلَدِ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْأَمَةِ. وَالصَّبِيُّ الصَّغِيرُ لَا حُرْمَةَ لِعَوْرَتِهِ. فَإِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى حَدٍّ تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ وَتُشْتَهَى سَتَرَتْ عَوْرَتَهَا. وَحُجَّةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قول تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ «١» ". وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ: مَاذَا تُصَلِّي فِيهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فقالت: تصلي الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ السَّابِغِ الَّذِي يُغَيِّبُ ظُهُورَ قَدَمَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا. وَالَّذِينَ أَوْقَفُوهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أُمِّهِ «٢» عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(١). راجع ج ١٤ ص ٢٤١.
(٢). في ب: عن أبيه. وقد روى عن أبيه وأمه.
183
قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَ حَدِيثِهِ. وَالْإِجْمَاعُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَى مِنَ الْخَبَرِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً" يَعْنِي الْمَطَرَ الَّذِي يُنْبِتُ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ، وَيُقِيمُ الْبَهَائِمَ «١» الَّذِي مِنْهَا الْأَصْوَافُ وَالْأَوْبَارُ وَالْأَشْعَارُ، فَهُوَ مَجَازٌ مِثْلُ" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «٢» " عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: هَذَا الْإِنْزَالُ إنزال شي اللِّبَاسِ مَعَ آدَمَ وَحَوَّاءَ، لِيَكُونَ مِثَالًا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:" أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ" (أَيْ «٣») خَلَقْنَا لَكُمْ، كَقَوْلِهِ:" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ" أَيْ خَلَقَ. عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: أَلْهَمْنَاكُمْ كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ. الثَّالِثَة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرِيشاً) قَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ، وَأَبُو عَمْرٍو مِنْ رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ" وَرِيَاشًا". وَلَمْ يَحْكِهِ أَبُو عُبَيْدٍ «٤» إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ، وَلَمْ يُفَسِّرْ مَعْنَاهُ. وَهُوَ جَمْعُ رِيشٍ. وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ وَاللِّبَاسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رِيشٌ وَرِيَاشٌ، كَمَا يُقَالُ: لِبْسٌ وَلِبَاسٌ. وَرِيشُ الطَّائِرِ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْخِصْبُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الرِّيشَ مَا سَتَرَ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ مَعِيشَةٍ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
فَرِيشِي مِنْكُمْ وَهَوَايَ مَعْكُمْ وإن كانت زياتكم لِمَامًا
وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: وهت لَهُ دَابَّةً بِرِيشِهَا، أَيْ بِكِسْوَتِهَا وَمَا عَلَيْهَا من اللباس. الرابعة- قوله تعالى: (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) بَيَّنَ أَنَّ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ، كَمَا قَالَ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى تقلب عيانا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا
وَخَيْرُ لِبَاسِ الْمَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا
وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ عَوْفٍ عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ:" لِباسُ التَّقْوى " الْحَيَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" لِباسُ التَّقْوى " هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وعنه أيضا: السمت الحسن
(١). كذا في الأصول. ولعل الصواب: التي.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٣٤.
(٣). من ك.
(٤). في ك: أبو عبد الرحمن. [..... ]
184
فِي الْوَجْهِ. وَقِيلَ: مَا عَلَّمَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهَدَى بِهِ. وَقِيلَ:" لِباسُ التَّقْوى " لُبْسُ الصُّوفِ وَالْخَشِنِ مِنَ الثِّيَابِ، مِمَّا يُتَوَاضَعُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُتَعَبَّدُ لَهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:" لِباسُ التَّقْوى " الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ، وَالسَّاعِدَانِ، وَالسَّاقَانِ، يُتَّقَى بِهِمَا فِي الْحَرْبِ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِشْعَارُ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ. وَقَوْلُ زَيْدِ بن علي حسن، فإنه خض عَلَى الْجِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَهَذَا فِيهِ تَكْرَارٌ، إِذْ قَالَ أَوَّلًا:" قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ". وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لُبْسُ الْخَشِنِ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ الرَّعُونَاتِ فَدَعْوَى، فَقَدْ كَانَ الْفُضَلَاءُ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَلْبَسُونَ الرَّفِيعَ مِنَ الثِّيَابِ مَعَ حُصُولِ التَّقْوَى، عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيُّ" لِبَاسَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى" لِباساً" الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَأَنْزَلْنَا لِبَاسَ التَّقْوَى. وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَ" ذلِكَ" نَعْتُهُ وَ" خَيْرٌ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ. وَالْمَعْنَى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ، الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الَّتِي تُوَارِي سَوْآتِكُمْ، وَمِنَ الرِّيَاشِ الَّذِي أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ، فَالْبَسُوهُ. وَقِيلَ: ارْتَفَعَ بِإِضْمَارِ هُوَ، أَيْ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، أَيْ هُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ خَيْرٌ، فَ" ذلِكَ" بِمَعْنَى هُوَ. وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ" وَلَمْ يَقْرَأْ" ذلِكَ". وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْحَفِ. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أَيْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا. وَ" ذلِكَ" رَفْعٌ عَلَى الصِّفَةِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، أَوْ عطف بيان.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
185
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ) أَيْ لَا يَصْرِفَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ عَنِ الدِّينِ، كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ." أَبٌ" لِلْمُذَكَّرِ، وَ" أَبَةٌ" لِلْمُؤَنَّثِ. فَعَلَى هَذَا قِيلَ: أَبَوَانِ (ينزع عنهما لباسهما) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَيَكُونُ مُسْتَأْنَفًا فَيُوقَفُ عَلَى" مِنَ الْجَنَّةِ"." لِيُرِيَهُما" نُصِبَ بِلَامِ كي. (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) الأصل يرءاكم ثم خففت الهمزة. وقبيله عطف على المضمر وهو توكيد ليحسن العطف كقوله: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وهذا يدل على أنه يقبح رأيتك وعمرو، وأن المضمر كالمظهر وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، لِقَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما). قَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا فِيهِ التَّحْذِيرُ مِنْ زَوَالِ النِّعْمَةِ، كَمَا نَزَلَ بِآدَمَ. هَذَا أَنْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ آدَمَ يَلْزَمُنَا، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) " قَبِيلُهُ" جُنُودُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ. ابْنُ زَيْدٍ:" قَبِيلُهُ" نَسْلُهُ. وَقِيلَ: جِيلُهُ. مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ لَا يُرَوْنَ، لِقَوْلِهِ" مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ" قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يُرَوْا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ كَشَفَ أَجْسَامَهُمْ حَتَّى تُرَى. قَالَ النَّحَّاسُ:" مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ لَا يُرَوْنَ إِلَّا فِي وَقْتِ نَبِيٍّ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ خَلَقَهُمْ خَلْقًا لَا يُرَوْنَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَوْنَ إِذَا نُقِلُوا عَنْ صُوَرِهِمْ. وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وَقْتِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَرَوْنَ الشَّيَاطِينَ الْيَوْمَ. وَفِي الْخَبَرِ (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ). وَقَالَ تَعَالَى:" الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ «١» ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً- أَيْ بِالْقَلْبِ- فَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بالشر وتكذيب بالحق (. وقد تقدم
(١). راجع ج ٢٠ ص ٢٦٣.
186
فِي الْبَقَرَةِ «١». وَقَدْ جَاءَ فِي رُؤْيَتِهِمْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ أَخَذَ الْجِنِّيَّ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ التَّمْرَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) - فِي الْعِفْرِيتِ الَّذِي تَفَلَّتَ «٢» عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي فِي" ص" إِنْ «٣» شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِمْ وَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمْ فِي الذَّهَابِ عن الحق.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٨]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨)
الفاحشة هنا في قول كثر الْمُفَسِّرِينَ طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ. وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَقْلِيدِهِمْ أَسْلَافَهُمْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ:" وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها" قَالُوا: لَوْ كَرِهَ اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَنَقَلَنَا عَنْهُ. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) بَيَّنَ أَنَّهُمْ مُتَحَكِّمُونَ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا ادَّعَوْا. وَقَدْ مَضَى ذَمُّ التَّقْلِيدِ وَذَمُّ كَثِيرٍ من جهالاتهم. وهذا منها.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٩ الى ٣٠]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
(١). راجع ج ٣ ص ٣٢٩. وص ٢٦٩.
(٢). أي تعرض بغتة.
(٣). في قوله تعالى:" قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي... " ج ١٥ ص ٢٠٤.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: القسط العدل، أي أمر: العدل فَأَطِيعُوهُ. فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أَيْ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِلَى الْقِبْلَةِ. (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أَيْ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كُنْتُمْ. (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ) الدِّينَ أَيْ وَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ. (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) نَظِيرُهُ" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «١» " وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ تَعُودُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ، أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُعِيدُكُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. أَيْ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. (فَرِيقاً هَدى) " فَرِيقاً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" تَعُودُونَ" أَيْ تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ: سُعَدَاءَ، وَأَشْقِيَاءَ. يُقَوِّي هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ" تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ"، عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ «٢» كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى" فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ" قَالَ: مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ لِلضَّلَالَةِ صَيَّرَهُ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ الْهُدَى. وَمَنِ ابْتَدَأَ اللَّهَ خَلْقَهُ عَلَى الْهُدَى صَيَّرَهُ إِلَى الْهُدَى، وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ الضَّلَالَةِ. ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ إِبْلِيسَ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَعَمِلَ بِأَعْمَالِ السَّعَادَةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى مَا ابْتَدَأَ عَلَيْهِ خَلْقَهُ. قَالَ:" وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ" وَفِي هَذَا رَدٌّ وَاضِحٌ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَابِعْهُمْ. وَقِيلَ:" فَرِيقاً" نُصِبَ بِ" هَدى "،" وَفَرِيقاً" الثَّانِي نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَأَضَلَّ فَرِيقًا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ وَحْدِي وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا «٣»
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا «٤» لَجَازَ. (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقرأ عيسى بن عمر:" أنهم" بالهمزة، يعني لأنهم.
[سورة الأعراف (٧): آية ٣١]
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
(١). راجع ص ٤٢ من هذا الجزء.
(٢). من البحر.
(٣). البيتان للربيع بن ضبع الفزاري. وصف فيهما انتهاء شبيبته وذهاب قوته.
(٤). أي في مثل هذا التركيب في غير كلام الله.
188
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ) هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا مَنْ كَانَ يَطُوفُ مِنَ الْعَرَبِ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ. لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعُمُومِ لَا! لِلسَّبَبِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ وَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا «١»؟ تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا. وَتَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" التِّطْوَافُ (بِكَسْرِ التَّاءِ). وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ قُرْطٍ، قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ «٢»، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تُعْطِيَهُمُ الْحُمْسُ ثِيَابًا فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ. وَكَانَتْ الْحُمْسُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ «٣». فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ: وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِنَا، وَلَا يَأْكُلَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَرَبِ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا وَلَا يَسَارٌ يَسْتَأْجِرُهُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَإِمَّا أَنْ يَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى اللَّقَى، قَالَ قَائِلٌ مِنَ الْعَرَبِ:
كَفَى حَزَنًا كَرَيٍّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
فَكَانُوا عَلَى تِلْكَ الْجَهَالَةِ وَالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ" الْآيَةَ «٤». وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا لَا يطوف بالبيت عريان.
(١). الثوب الذي يطاف به. على وزن تفعال بالفتح وبالكسر.
(٢). الحمس سموا بهذا لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا والخامسة الشجاعة.
(٣). في صحيح مسلم: يبلغون عرفات.
(٤). من ع.
189
قُلْتُ: وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الصَّلَاةُ فَزِينَتُهَا النِّعَالُ، لِمَا رَوَاهُ كُرْزُ بْنُ وَبْرَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: (خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ) قِيلَ: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: (الْبَسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا). الثَّانِيَةُ- دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ هِيَ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: (ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي إِلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ الْعُرْيَانُ لَا يجوز له أن يصلي، لأن كل شي مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَوْ بَدَلَهُ مَعَ عَدَمِهِ، أَوْ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ جُمْلَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَسَقَطَ ثَوْبُ إِمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَغَطَّاهُ أَجْزَأَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ سَحْنُونُ: وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَعَادَ. وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونَ أَيْضًا: أَنَّهُ يُعِيدُ وَيُعِيدُونَ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ. أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَنْ قَالَ، إِنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَبْطُلُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدُوا شَرْطًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنْ أَخَذَهُ مَكَانَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ فَصَحِيفَةٌ يَجِبُ مَحْوُهَا وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ قَوْمِي مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا قَالَ: (لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قِرَاءَةً لِلْقُرْآنِ). قَالَ: فَدَعَوْنِي فَعَلَّمُونِي الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ مَفْتُوقَةٌ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِأَبِي: أَلَا تُغَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكَ. لَفْظُ النَّسَائِيِّ. وَثَبَتَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَقَدْ كَانَتِ الرِّجَالُ عَاقِدِي أُزُرَهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ كَأَمْثَالِ الصِّبْيَانِ، فَقَالَ قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حَتَّى تَرْفَعَ الرِّجَالُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو داود.
190
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا رَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا يَزُرُّهُ أَوْ يُخَلِّلُهُ بِشَيْءٍ لِئَلَّا يَتَجَافَى الْقَمِيصُ فَتُرَى مِنَ الْجَيْبِ الْعَوْرَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَرَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ أَعَادَ الصَّلَاةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ. وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي الصَّلَاةِ فِي الْقَمِيصِ مَحْلُولِ الْأَزْرَارِ، لَيْسَ عَلَيْهِ سَرَاوِيلٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَكَانَ سَالِمٌ يُصَلِّي مَحْلُولَ الْأَزْرَارِ. وَقَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: إِذَا كَانَ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَحَكَى مَعْنَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ كَانَ إِمَامًا فَلَا يُصَلِّي إِلَّا بِرِدَائِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الزِّينَةِ الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ، رَوَاهُ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: زِينَةُ الصَّلَاةِ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي الرُّكُوعِ وَفِي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شي زِينَةٌ وَزِينَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الْأَيْدِي. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى فِي إِزَارٍ «١» وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ- «٢» وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ «٣» وَقَمِيصٍ- فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَلَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً «٤». فَأَمَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَسَكَّنَ الظَّمَأَ، فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ، لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ النَّفْسَ، وَيُضْعِفُ عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه الْعَقْلُ. وَلَيْسَ لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلَا نَصِيبٍ مِنْ زُهْدٍ، لِأَنَّ مَا حُرِمَهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ حَرَامٌ، وَقِيلَ مَكْرُوهٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ البلدان والأزمان
(١). الإزار: ما يؤتزر به في النصف الأسفل. والرداء للنصف الأعلى.
(٢). القباء (بالفتح): ثوب يلبس فوق الثياب. وقيل: يلبس فوق القميص ويتنطق عليه. [..... ]
(٣). التبان (بضم المثناة وتشديد الموحدة) سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط.
(٤). المخيلة: الكبر.
191
وَالْأَسْنَانِ وَالطُّعْمَانِ. ثُمَّ قِيلَ: فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَصَحَّ جِسْمًا وَأَجْوَدَ حِفْظًا وَأَزْكَى فَهْمًا وَأَقَلَّ نَوْمًا وَأَخَفَّ نَفْسًا. وَفِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ كَظُّ الْمَعِدَةِ وَنَتَنُ التُّخْمَةِ «١»، وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْأَمْرَاضُ الْمُخْتَلِفَةُ، فَيَحْتَاجُ مِنَ الْعِلَاجِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا شَافِيًا يُغْنِي عَنْ كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ فَقَالَ: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ (. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَيُذْكَرُ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ لَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ حَاذِقٌ فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ عِلْمِ الطب شي، وَالْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبَدَانِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِنَا. فَقَالَ لَهُ: مَا هِيَ؟ قَالَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا". فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: وَلَا يُؤْثَرُ عن رسولكم شي مِنَ الطِّبِّ. فَقَالَ عَلِيٌّ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطِّبَّ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ «٢». قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: (الْمَعِدَةُ بَيْتُ الْأَدْوَاءِ وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ كُلِّ دَوَاءٍ وَأَعْطِ كُلَّ جَسَدٍ مَا عَوَّدْتَهُ). فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. قُلْتُ: وَيُقَالُ إِنَّ مُعَالَجَةَ الْمَرِيضِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ دَوَاءٌ وَنِصْفٌ حمية: فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى، إذ يَنْفَعُ دَوَاءٌ مَعَ تَرْكِ الْحِمْيَةِ. وَلَقَدْ تَنْفَعُ الْحِمْيَةُ مَعَ تَرْكِ الدَّوَاءِ. وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَصْلُ كُلِّ دَوَاءٍ الْحِمْيَةُ). وَالْمَعْنِيُّ بِهَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا تُغْنِي عَنْ كُلِّ دَوَاءٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ الْهِنْدَ جُلُّ مُعَالَجَتِهِمُ الْحِمْيَةُ، يَمْتَنِعُ الْمَرِيضُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ عِدَّةَ أَيَّامٍ فَيَبْرَأُ وَيَصِحُّ. الْخَامِسَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ). وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى الله
(١). في ع: نتن للمنحة. قال الجوهري: الإنفحة هي الكرش.
(٢). في ع: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء. هكذا في الرواية المشهورة وليس بحديث بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب راجع كشف الخلفاء ج ٢ ص ٢١٤. ففيه قيم في هذا الحديث.
192
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضٌّ عَلَى التَّقْلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا وَالزُّهْدِ فِيهَا وَالْقَنَاعَةِ بِالْبُلْغَةِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَمْتَدِحُ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَتَذُمُّ بِكَثْرَتِهِ. كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
تَكْفِيهِ فِلْذَةُ كَبِدٍ إِنْ أَلَمَّ بِهَا مِنَ الشِّوَاءِ وَيُرْوِي شُرْبَهُ الْغُمَرُ «١»
وَقَالَتْ أَمُّ زَرْعٍ فِي ابْنِ «٢» أَبِي زَرْعٍ: وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ «٣». وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ يَذُمُّ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ:
فَإِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وَفَرْجَكَ نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجمعا «٤»
وقال الخطاب: مَعْنَى قَوْلِهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «٥»): الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ دُونَ شِبَعِهِ، وَيُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُبْقِي مِنْ زَادِهِ لِغَيْرِهِ، فَيُقْنِعُهُ مَا أَكَلَ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ كَافِرٌ أَقَلُّ أَكْلًا مِنْ مُؤْمِنٍ، وَيُسْلِمُ الْكَافِرُ فَلَا يَقِلُّ أَكْلُهُ وَلَا يَزِيدُ. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مُعَيَّنٍ. ضَافَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ كَافِرٌ يُقَالُ: إِنَّهُ الْجَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ. وَقِيلَ: ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ. وَقِيلَ: نَضْلَةُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ. وَقِيلَ: بَصْرَةُ بْنُ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ. فَشَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ حِلَابَ شَاةٍ فَلَمْ يَسْتَتِمَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْكَافِرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَلْبَ لَمَّا تَنَوَّرَ بِنُورِ التَّوْحِيدِ نَظَرَ إِلَى الطَّعَامِ بِعَيْنِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَحِينَ كَانَ مُظْلِمًا بِالْكُفْرِ كَانَ أَكْلُهُ كَالْبَهِيمَةِ تَرْتَعُ حَتَّى تَثْلِطَ «٦». وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْأَمْعَاءِ، هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أم لا؟ فقبل حَقِيقَةٌ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ وَالتَّشْرِيحِ. وَقِيلَ: هِيَ كِنَايَاتٌ عَنْ أَسْبَابٍ سَبْعَةٍ يَأْكُلُ بِهَا النَّهِمُ: يَأْكُلُ لِلْحَاجَةِ وَالْخَبَرِ «٧» وَالشَّمِّ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالذَّوْقِ وَيَزِيدُ اسْتِغْنَامًا «٨». وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ يَأْكُلَ أَكْلَ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ. وَالْمُؤْمِنُ بِخِفَّةِ أَكْلِهِ يَأْكُلُ أَكْلَ مَنْ ليس له إلا معى واحد،
(١). البيت لأعشى باهلة يرثى أخاه المنتشر بن وهب الباهلي. ورواية اللسان: يكفيه حزة فلذ... والمعنى واحد. والغمر (بضم الأول وفتح الثاني): القرح الصغير.
(٢). في ع: ابنة. تشبعها
(٣). الجفرة: الصغيرة من ولد المعزى إذا بلغ أربعة أشهر.
(٤). الذي في ديوانه:
وإنك مهما تعط...
إلخ.
(٥). من ع.
(٦). الثلط: الرقيق من الروث.
(٧). يريد شهوة الأذن.
(٨). في ع: استتعاما.
193
فَيُشَارِكُ الْكَافِرَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ أَكْلِهِ، وَيَزِيدُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ بِسَبْعَةِ أَمْثَالٍ. وَالْمِعَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْمَعِدَةُ. السَّادِسَةُ- وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ بَرَكَةٌ). وَكَذَا فِي التَّوْرَاةِ. رَوَاهُ زَاذَانُ عَنْ سَلْمَانَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ النَّظِيفَةِ. وَالِاقْتِدَاءُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى. وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَتَّى يَعْرِفَ أَحَارًّا هُوَ أَمْ بَارِدًا؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ حَارًّا فَقَدْ يَتَأَذَّى. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَبْرِدُوا بِالطَّعَامِ فَإِنَّ الْحَارَّ غَيْرُ ذِي بَرَكَةٍ) حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَلَا يَشُمُّهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْبَهَائِمِ، بَلْ إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ، وَيُصَغِّرُ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرُ مَضْغَهَا لِئَلَّا يُعَدَّ شَرِهًا. وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُلَسَاؤُهُ قَدْ فَرَغُوا مِنَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الْأَكْلِ. وَآدَابُ الْأَكْلِ كَثِيرَةٌ، هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْهَا. وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي سُورَةِ" هُودٍ «١» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِلشَّرَابِ أَيْضًا آدَابٌ مَعْرُوفَةٌ، تَرَكْنَا ذِكْرَهَا لِشُهْرَتِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشيطان يأكل بشمال وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ). السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تُسْرِفُوا" أَيْ فِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَعَنْهُ يَكُونُ كَثْرَةُ الشُّرْبِ، وَذَلِكَ يُثْقِلُ الْمَعِدَةَ، وَيُثَبِّطُ الْإِنْسَانَ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، وَالْأَخْذِ بِحَظِّهِ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ. فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ. رَوَى أَسَدُ بْنُ مُوسَى مِنْ حَدِيثِ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَكَلْتُ ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَتَجَشَّى «٢»، فَقَالَ: (اكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ بِمِلْءِ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَكَانَ إِذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى، وَإِذَا تَعَشَّى لا يتغدى.
(١). راجع ج ٩ ص ٦٤.
(٢). التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء في ى وع وز: ثريد بر. [..... ]
194
قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) أَيِ التَّامُّ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ إِيمَانُهُ كَأَبِي جُحَيْفَةَ تَفَكَّرَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهَوَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى" وَلا تُسْرِفُوا" لَا تَأْكُلُوا حَرَامًا. وَقِيلَ: (مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ). رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَقِيلَ: مِنَ الْإِسْرَافِ الْأَكْلُ بَعْدَ الشِّبَعِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَأْكُلْ شِبَعًا فَوْقَ شِبَعٍ، فَإِنَّكَ أَنْ تَنْبِذَهُ «١» لِلْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ. وَسَأَلَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ ابْنِهِ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: بَشِمَ الْبَارِحَةَ. قَالَ: بَشِمَ! فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ دَسِمًا فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ، وَيَكْتَفُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَطُوفُونَ عُرَاةً. فَقِيلَ لَهُمْ:" خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا" فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْكُمْ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) بَيَّنَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَالزِّينَةُ هُنَا الْمَلْبَسُ الْحَسَنُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الثِّيَابِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شَيْخِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كِسَاءَ خَزٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، يَلْبَسُهُ فِي الشِّتَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بَاعَهُ فَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وكان يلبس في الصيف
(١). في ج: تنشره.
195
ثوبين من متاع بمصر مُمَشَّقَيْنِ «١» وَيَقُولُ:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ". الثَّانِيَةُ- وَإِذَا كَانَ هَذَا فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى لِبَاسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَمُزَاوَرَةِ الْإِخْوَانِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ «٢» تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلِلْوُفُودِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما يلبس هذا من لأخلاق لَهُ فِي الْآخِرَةِ). فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذِكْرَ التجمل، فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذِكْرَ التَّجَمُّلِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهَا سِيَرَاءَ. وَقَدِ اشْتَرَى تَمِيمٌ الدَّارِيُّ حُلَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْعَدَنِيَّةَ الْجِيَادَ. وَكَانَ ثَوْبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يُشْتَرَى بِنَحْوِ الدِّينَارِ. أَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَرْغَبُ عَنْهُ وَيُؤْثِرُ لِبَاسَ الْخَشِنِ مِنَ الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ مِنَ الثِّيَابِ. وَيَقُولُ:" وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ" هَيْهَاتَ! أَتَرَى مَنْ ذَكَرْنَا تَرَكُوا لِبَاسَ التَّقْوَى، لَا وَاللَّهِ! بَلْ هُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَأُولُو الْمَعْرِفَةِ وَالنُّهَى، وَغَيْرُهُمْ أَهْلُ دَعْوَى، وَقُلُوبُهُمْ خَالِيَةٌ مِنَ التَّقْوَى. قَالَ خَالِدُ بْنُ شَوْذَبَ: شَهِدْتُ الْحَسَنَ وَأَتَاهُ فَرْقَدٌ، فَأَخَذَهُ الْحَسَنُ بِكِسَائِهِ فَمَدَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا فُرَيْقِدُ، يَا بْنَ أُمِّ فُرَيْقِدٍ، إِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي هَذَا الْكِسَاءِ، إِنَّمَا الْبِرُّ مَا وَقَرَ فِي الصَّدْرِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. وَدَخَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَخِي مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ يَسَارٍ «٣» وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، صَوَّفْتَ قَلْبَكَ أَوْ جِسْمَكَ؟ صَوِّفْ قَلْبَكَ وَالْبَسِ الْقُوهِيَّ عَلَى الْقُوهِيِّ «٤». وَقَالَ رَجُلٌ لِلشِّبْلِيِّ: قَدْ وَرَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِكَ وَهُمْ فِي الْجَامِعِ، فَمَضَى فَرَأَى عَلَيْهِمُ الْمُرَقَّعَاتِ وَالْفُوَطَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غير نسائه
(١). ثوب ممشق. ممشوق: مصبوغ بالمشق، وهو صبغ أحمر.
(٢). سيراء بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة مفتوحة ثم ألف ممدودة: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه. حرير. وضبطوا الحلة هنا بالتنوين، على أن سيراء صفة. وبغير تنوين على الإضافة. وهما وجهان مشهوران.
(٣). في ج وع وك وه: بشار.
(٤). القوهي: ضرب من الثياب بيض فارسي منسوبة إلى قهستان.
196
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وأنا أكره ليس الْفُوَطِ وَالْمُرَقَّعَاتِ لِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُبْسِ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُرَقِّعُونَ ضَرُورَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ادِّعَاءَ الْفَقْرِ، وَقَدْ أُمِرَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُظْهِرَ أَثَرَ نِعَمِ «١» اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ- إِظْهَارُ التَّزَهُّدِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِسَتْرِهِ. وَالرَّابِعُ- أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَزَحْزِحِينَ عَنِ الشَّرِيعَةِ. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ مَعَ وُجُودِ السَّبِيلِ إِلَيْهِ من حله. ومن أكل البقول والعدس وأختاه عَلَى خُبْزِ الْبُرِّ. وَمَنْ تَرَكَ أَكْلَ اللَّحْمِ خوفا من عارض شهوة النساء. وسيل بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ لُبْسِ الصُّوفِ، فَشَقَّ عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَتِ الْكَرَاهَةُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لُبْسُ الْخَزِّ وَالْمُعَصْفَرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الصُّوفِ فِي الْأَمْصَارِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ الْمُتَوَسِّطَةَ، لَا الْمُتَرَفِّعَةَ وَلَا الدُّونَ، وَيَتَخَيَّرُونَ أَجْوَدَهَا لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَلِلِقَاءِ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ يَكُنْ تَخَيُّرُ الْأَجْوَدِ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا. وَأَمَّا اللِّبَاسُ الَّذِي يُزْرِي بِصَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ الزُّهْدِ وَإِظْهَارَ الْفَقْرِ، وَكَأَنَّهُ لِسَانُ شَكْوَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ احْتِقَارَ اللَّابِسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ تَجْوِيدُ اللِّبَاسِ هَوَى النَّفْسِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَتِهَا، وَتَزَيُّنٌ لِلْخَلْقِ وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُنَا لِلَّهِ لَا لِلْخَلْقِ. فَالْجَوَابُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ يُذَمُّ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلنَّاسِ يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ نَهَى عَنْهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فِي بَابِ الدِّينِ. فَإِنَّ الإنسان يجب أَنْ يُرَى جَمِيلًا. وَذَلِكَ حَظٌّ لِلنَّفْسِ لَا يُلَامُ فِيهِ. وَلِهَذَا يُسَرِّحُ شَعْرَهُ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيُسَوِّي عِمَامَتَهُ وَيَلْبَسُ بِطَانَةَ الثَّوْبِ الْخَشِنَةَ إِلَى دَاخِلٍ وَظِهَارَتَهُ الْحَسَنَةَ إِلَى خَارِجٍ. وَلَيْسَ في شي مِنْ هَذَا مَا يُكْرَهُ وَلَا يُذَمُّ. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلِيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ). وَفِي صَحِيحِ. مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كبر).
(١). في ج وك: نعمة. وفى الحديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده رواء الترمذي.
197
فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ). وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى النَّظَافَةِ وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْدَلٌ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَافِرُ بِالْمُشْطِ وَالْمِرْآةِ وَالدُّهْنِ وَالسِّوَاكِ وَالْكُحْلِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: مُشْطٌ عَاجٌ يَمْتَشِطُ بِهِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَيُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِالْمَاءِ. أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الطَّيِّبَاتُ اسْمٌ عَامٌّ لِمَا طَابَ كَسْبًا وَطَعْمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ مَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالْحَوَامِي. وَقِيلَ: هِيَ كُلُّ مُسْتَلَذٍّ مِنَ الطَّعَامِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ يَسْتَوِي فِي الْمُبَاحَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَقِصَرِ الْأَمَلِ فِيهَا، وَتَرْكِ التَّكَلُّفِ لِأَجْلِهَا، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالْمَنْدُوبُ قُرْبَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ: لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا صِلَاءً وَصَلَائِقَ وَصِنَابًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَذُمُّ أَقْوَامًا فَقَالَ:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا «١» " وَيُرْوَى" صَرَائِقُ" بِالرَّاءِ، وَهُمَا جَمِيعًا الْجَرَادِقُ «٢». وَالصَّلَائِقُ (باللام): ما يلصق مِنَ اللُّحُومِ وَالْبُقُولِ. وَالصِّلَاءُ (بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْمَدِّ): الشِّوَاءُ: وَالصِّنَابُ: الْخَرْدَلُ بِالزَّبِيبِ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ حُضُورِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكُلْفَةٍ وَبِغَيْرِ كُلْفَةٍ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ شَيْخُ أشياخنا: وهو الصحيح أشاء اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ امْتَنَعَ من
(١). راجع ج ١٦ ص ١٩٩.
(٢). الجرادق: جمع جردقة، وهى الرغيف.
198
طَعَامٍ لِأَجْلِ طِيبِهِ قَطُّ، بَلْ كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ وَالْبِطِّيخَ وَالرُّطَبَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ التَّكَلُّفُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَاغُلِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ مُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ فَإِنَّ له ضراوة كضرواة «١» الْخَمْرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ عُمَرَ قَوْلٌ خَرَجَ عَلَى مَنْ خَشِيَ مِنْهُ إِيثَارَ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَشِفَاءَ النَّفْسِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَنِسْيَانَ الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالَ عَلَى الدُّنْيَا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الْعَجَمِ، وَاخْشَوْشِنُوا. وَلَمْ يرد رضي الله عنه تحريم شي أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَلَا تَحْظِيرَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ. وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى مَا امْتُثِلَ وَاعْتُمِدَ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (سَيِّدُ إِدَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ). وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الطِّبِّيخَ بِالرُّطَبِ وَيَقُولُ: (يَكْسِرُ حَرُّ هَذَا بَرْدَ هَذَا وَبَرْدُ هَذَا حَرَّ هَذَا). وَالطِّبِّيخُ لُغَةٌ فِي الْبِطِّيخِ، وَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ. وَقَدْ «٢» مَضَى فِي" الْمَائِدَةِ" الرَّدُّ عَلَى مَنْ آثَرَ أَكْلَ الْخَشِنِ مِنَ الطَّعَامِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ وَغَيْرُهَا: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يَعْنِي بِحَقِّهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ وَيَرْزُقُ، فَإِنْ وَحَّدَهُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَفَرَ فَقَدْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ (لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللَّهِ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ). وَتَمَّ الْكَلَامُ عَلَى" الْحَياةِ الدُّنْيا". ثُمَّ قَالَ" خالِصَةً" بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَافِعٍ." خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ" أَيْ يُخْلِصُ اللَّهُ الطَّيِّبَاتِ فِي الْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا، وليس للمشركين فيها شي كَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا. وَمَجَازُ الْآيَةِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا مُشْتَرِكَةٌ فِي الدُّنْيَا مَعَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ
(١). أي أن له عادة ينزع إليها كعادة الخمر. أي عادة طلابة لأكله وتسمى القرم وهى شدة شهوة اللحم.
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٦٠.
199
خالصة يوم القيامة. فخالصة مُسْتَأْنَفٌ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ الْمَوْجُودَاتِ فِي الدُّنْيَا هِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَخُلُوصُهَا أَنَّهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا وَلَا يُعَذَّبُونَ فَقَوْلُهُ:" فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" مُتَعَلِّقٌ" بِ" آمَنُوا". وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ تَفْسِيرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ دُونَهُ. وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ على" الدُّنْيا"، لأن ما بعده متعلق بقول" لِلَّذِينَ آمَنُوا" حال مِنْهُ، بِتَقْدِيرِ قُلْ هِيَ ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي حَالِ خُلُوصِهَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ" لِلَّذِينَ آمَنُوا". والعالم فِي الْحَالِ مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ:" لِلَّذِينَ" وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبَ لِتَقَدُّمِ الظَّرْفِ." كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ" أَيْ كَالَّذِي فَصَّلْتُ لَكُمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ أُفَصِّلُ لَكُمْ مَا تحتاجون إليه.
[سورة الأعراف (٧): آية ٣٣]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم الْمُشْرِكُونَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَالْفَوَاحِشُ: الْأَعْمَالُ الْمُفْرِطَةُ فِي الْقُبْحِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَرَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:" مَا ظَهَرَ مِنْها" نِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ." وَما بَطَنَ" الزِّنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: سِرُّهَا وَعَلَانِيَتُهَا. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوَاحِشِ. بَعْضُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الزِّنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالْإِثْمَ) قَالَ الْحَسَنُ: الْخَمْرُ. قَالَ الشَّاعِرِ:
وَقَالَ آخَرُ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الْإِثْمُ تذهب بالعقول
نَشْرَبُ الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا وَتَرَى الْمِسْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا «١»
" وَالْبَغْيَ" الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْبَغْيُ أَنْ يَقَعَ الرَّجُلُ فِي الرَّجُلِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَيَبْغِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْهُ بِحَقٍّ. وَأَخْرَجَ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَهُمَا مِنْهُ لِعِظَمِهِمَا وَفُحْشِهِمَا، فَنَصَّ عَلَى ذِكْرِهِمَا تَأْكِيدًا لِأَمْرِهِمَا وَقَصْدًا لِلزَّجْرِ عَنْهُمَا. وَكَذَا وَأَنْ تُشْرِكُوا وأن تقولوا وهما في موضع نصب عطفا عَلَى مَا قَبْلُ. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ بِمَعْنَى الْخَمْرِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِثْمُ مَا دُونَ الْحَدِّ وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ الْخَمْرَ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ، وَحَقِيقَةُ الْإِثْمِ أَنَّهُ جَمِيعُ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي وَجَدْتُ الْأَمْرَ أَرْشَدُهُ تَقْوَى الْإِلَهِ وَشَرُّهُ الْإِثْمُ
قُلْتُ: وَأَنْكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا وَقَالَ:" وَلَا حُجَّةَ فِي الْبَيْتِ «٢»، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: شَرِبْتُ الذَّنْبَ أَوْ شَرِبْتُ الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أَنْ يَكُونَ الذَّنْبُ وَالْوِزْرُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ كَذَلِكَ الْإِثْمُ. وَالَّذِي أَوْجَبَ التَّكَلُّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلُ بِاللُّغَةِ وَبِطَرِيقِ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَعَانِي". قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَقَدْ يُسَمَّى الْخَمْرُ إِثْمًا، وَأَنْشَدَ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ....
الْبَيْتَ وَأَنْشَدَهُ الْهَرَوِيُّ فِي غَرِيبَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ الْإِثْمُ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَعَلَى الْخَمْرِ أَيْضًا لُغَةً، فَلَا تَنَاقُضَ. وَالْبَغْيُ: التَّجَاوُزُ في الظلم، وقيل: الفساد.
[سورة الأعراف (٧): آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
(١). الصراع: إنا يشرب فيه. ومستعار: متداول. أي نتعاوره بأيدينا تشتمه.
(٢). يريد به البيت الأول.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أَيْ وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أَيِ الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ" جَاءَ آجَالُهُمْ" بِالْجَمْعِ لَا يَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ، إِلَّا أَنَّ السَّاعَةَ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ أَسْمَاءِ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ إِنَّمَا يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ. وَأَجَلُ الْمَوْتِ هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ، كَمَا أَنَّ أَجَلَ الدَّيْنِ هو وقت حلوله. وكل شي وقت به شي فَهُوَ أَجَلٌ لَهُ. وَأَجَلُ الْإِنْسَانِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ «١» الْحَيُّ فِيهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ وَقْتٌ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ موته عنه، لأمن حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ مَقْدُورًا تَأْخِيرُهُ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ بِغَيْرِ أَجَلِهِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ، وَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَحَيِيَ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَمْ يَمُتْ مِنْ أَجْلِ قَتْلِ غَيْرِهِ لَهُ، بَلْ مِنْ أَجْلِ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ إِزْهَاقِ نَفْسِهِ عِنْدَ الضَّرْبِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ مَاتَ بِأَجَلِهِ فَلِمَ تَقْتُلُونَ ضَارِبَهُ وَتَقْتَصُّونَ مِنْهُ؟. قِيلَ لَهُ: نَقْتُلُهُ لِتَعَدِّيهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، لَا لِمَوْتِهِ وَخُرُوجِ الرُّوحِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ. وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ وَالتَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ قِصَاصٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفَسَادِ وَدَمَارِ العباد. وهذا واضح.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) شَرْطٌ. وَدَخَلَتِ النُّونُ تَوْكِيدًا لِدُخُولِ" مَا". وَقِيلَ: مَا صِلَةٌ، أَيْ إِنْ يَأْتِكُمْ. أَخْبَرَ أَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنْهُمْ لِتَكُونَ إِجَابَتُهُمْ أَقْرَبَ. وَالْقَصَصُ إِتْبَاعُ الْحَدِيثِ بَعْضَهُ بَعْضًا. (آياتِي) أَيْ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي. فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ شَرْطٌ، وَمَا بَعْدَهُ جَوَابُهُ، وَهُوَ جَوَابُ الْأَوَّلِ. أَيْ وَأَصْلَحَ مِنْكُمْ مَا بيني وبينه. فلا خوف عليهم ولاهم يَحْزَنُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخَافُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ رُعْبٌ وَلَا فَزَعٌ. وَقِيلَ: قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَهْوَالُ يَوْمِ القيامة، ولكن
(١). في ك: يميت.
مَآلَهُمُ الْأَمْنُ. وَقِيلَ: جَوَابُ" إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ" مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ فَأَطِيعُوهُمْ" فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ" والقول الأول قول الزجاج.
[سورة الأعراف (٧): آية ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الْمَعْنَى أَيُّ ظُلْمٍ أَشْنَعُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال: (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أَيْ مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَعُمُرٍ وَعَمَلٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ شَقَاءٍ وَسَعَادَةٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. الْحَسَنُ وَأَبُو صَالِحٍ: مِنَ الْعَذَابِ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ. وَاخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا كُتِبَ لَهُمْ، أَيْ مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَرِزْقٍ وَعَمَلٍ وَأَجَلٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يَعْنِي رُسُلَ مَلَكِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ:" الْكِتابِ" هُنَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مَذْكُورٌ فِيهِ. وَقِيلَ:" الْكِتابِ" اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ لِي: كُلُّ شي بِقَدَرٍ، وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ بِقَدَرٍ، وَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرٍ. قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: الْعِلْمُ وَالْقَدَرُ وَالْكِتَابُ سَوَاءٌ. ثُمَّ عَرَضْتُ كَلَامَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ عَنْ بُكَيْرٍ الطَّوِيلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ" قَالَ: قَوْمٌ يعملون أعمالا لأبد لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. وَ" حَتَّى" لَيْسَتْ غَايَةً، بَلْ هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ عَنْهُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: حَتَّى وَإِمَّا وَإِلَّا
لَا يُمَلْنَ لِأَنَّهُنَّ حُرُوفٌ فَفُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ حُبْلَى وَسَكْرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: تُكْتَبُ حَتَّى بِالْيَاءِ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ سَكْرَى، وَلَوْ كُتِبَتْ إِلَّا بِالْيَاءِ لَأَشْبَهَتْ إِلَى. وَلَمْ تُكْتَبْ إِمَّا بِالْيَاءِ لِأَنَّهَا" إِنْ" ضُمَّتْ إِلَيْهَا مَا. (قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) سُؤَالُ تَوْبِيخٍ. وَمَعْنَى" تَدْعُونَ" تَعْبُدُونَ. (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أَيْ بَطَلُوا وَذَهَبُوا. قِيلَ: يَكُونُ هَذَا فِي الْآخِرَةِ. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقروا بالكفر على أنفسهم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أَيْ مَعَ أُمَمٍ، فَ" فِي" بِمَعْنَى مَعَ. وَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فِي الْقَوْمِ، أَيْ مَعَ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا، أَيِ ادْخُلُوا فِي جُمْلَتِهِمْ. وَالْقَائِلُ قِيلَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ قَالَ اللَّهُ ادْخُلُوا. وَقِيلَ: هُوَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ." (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) " أَيِ الَّتِي سَبَقَتْهَا إِلَى النَّارِ، وَهِيَ أُخْتُهَا فِي، الدِّينِ وَالْمِلَّةِ. حَتَّى إذا أدركوا فِيهَا جَمِيعًا أَيِ اجْتَمَعُوا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" تَدَارَكُوا" وَهُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِدْغَامُ فَاحْتِيجَ إِلَى أَلِفِ الْوَصْلِ. وَحَكَاهَا الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. النَّحَّاسُ: وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" حَتَّى إِذَا ادَّرَكُوا" أَيْ أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو" حَتَّى إِذَا ادَّارْكُوا" بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ عَلَى الجمع بين الساكنين. وحكى: هذان عبد اللَّهِ. وَلَهُ ثُلُثَا الْمَالِ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا:" إِذَا إِدَّارَكُوا" بِقَطْعِ أَلِفِ
الْوَصْلِ، فَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَلَى" إِذَا" لِلتَّذَكُّرِ، فَلَمَّا طَالَ سُكُوتُهُ قَطَعَ أَلِفَ الْوَصْلِ، كَالْمُبْتَدِئِ بِهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ قَطْعُ أَلِفِ الْوَصْلِ نحو قوله:
يَا نَفْسُ صَبْرًا كُلُّ حَيٍّ لَاقِي وَكُلُّ اثْنَيْنِ إِلَى إِفْتِرَاقِ
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَحُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ" حَتَّى إِذِ ادَّرَكُوا" بِحَذْفِ أَلِفِ" إِذَا" لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَحَذْفِ الْأَلِفِ الَّتِي بَعْدَ الدَّالِ." جَمِيعاً" نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أَيْ آخِرُهُمْ دُخُولًا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِأُولَاهُمْ وَهُمُ الْقَادَةُ. رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ. فَاللَّامُ فِي" لِأُولاهُمْ" لَامُ أَجْلٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَاطِبُوا أُولَاهُمْ وَلَكِنْ قَالُوا فِي حَقِّ أُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا. وَالضِّعْفُ الْمِثْلُ الزَّائِدُ عَلَى مِثْلِهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ. وَعَنِ ابن مسعود أن الضعف ها هنا الْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ" رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «١» ". وَهُنَاكَ يَأْتِي ذِكْرُ الضِّعْفِ بِأَبْشَعَ مِنْ هَذَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أَيْ لِلتَّابِعِ وَالْمَتْبُوعِ. (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ مَا بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ، إِذْ لَوْ عَلِمَ بَعْضُ مَنْ فِي النَّارِ أَنَّ عَذَابَ أَحَدٍ فَوْقَ عَذَابِهِ لَكَانَ نَوْعَ سَلْوَةٍ لَهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى" وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ" بِالتَّاءِ، أَيْ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ مَا يَجِدُونَ مِنَ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ولكن لا تعلمون يأهل الدُّنْيَا مِقْدَارَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أَيْ قَدْ كَفَرْتُمْ وَفَعَلْتُمْ كَمَا فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
(١). راجع ج ١٤ ص ٢٤٩. [..... ]
205
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أَيْ لِأَرْوَاحِهِمْ. جَاءَتْ بِذَلِكَ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ). مِنْهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَفِيهِ فِي قَبْضِ رُوحِ الْكَافِرِ قَالَ: وَيَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ كَأَنْتَنِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الخبيثة. فيقولون فلان بن فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ فَلَا يُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ" الْآيَةَ. وَقِيلَ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ إِذَا دَعَوْا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) وَالْجَمَلُ لَا يَلِجُ فَلَا يَدْخُلُونَهَا الْبَتَّةَ. وَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُمْ. وَعَلَى هَذَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا إِجْمَاعًا مِنَ الْأُمَّةِ؟ وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَنَّ مُقَلِّدَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ لَيْسُوا فِي النَّارِ. قِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ كَافِرًا لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزْعُمُوا أَنَّ الْمُقَلِّدَ كَافِرٌ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي النَّارِ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ طَرِيقُهُ النَّظَرُ دُونَ التَّوْقِيفِ وَالْخَبَرِ. وقرا حمزة والكسائي:" لا تُفَتَّحُ" بِالْيَاءِ مَضْمُومَةٍ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ:" مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «١» " فَأَنَّثَ. وَلَمَّا كَانَ التَّأْنِيثُ فِي الْأَبْوَابِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ جَازَ تَذْكِيرُ الْجَمْعِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْيَاءِ وَخَفَّفَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ التَّخْفِيفَ يَكُونُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالتَّشْدِيدَ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا غَيْرَ، وَالتَّشْدِيدُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ عَلَى الْكَثِيرِ أَدَلُّ. وَالْجَمَلُ مِنَ الْإِبِلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَمَلُ زَوْجُ النَّاقَةِ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْجَمَلِ فَقَالَ: هُوَ زَوْجُ النَّاقَةِ، كَأَنَّهُ اسْتَجْهَلَ مَنْ سأله عما يعرفه الناس جميعا. والجمع
(١). راجع ج ١٥ ص ٢١٩.
206
جِمَالٌ وَأَجْمَالٌ وَجَمَالَاتٌ وَجَمَائِلُ. وَإِنَّمَا يُسَمَّى جَمَلًا إِذَا أَرْبَعَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ:" حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ الْأَصْفَرُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ". ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ... ، فَذَكَرَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" الْجُمَّلُ" بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِهَا. وَهُوَ حَبْلُ السَّفِينَةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْقَلْسُ، وَهُوَ حِبَالٌ مَجْمُوعَةٌ، جَمْعُ جُمْلَةٍ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: الْحَبْلُ الْغَلِيظُ مِنَ الْقَنْبِ. وَقِيلَ: الْحَبْلُ الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ فِي النَّخْلِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:" الْجُمَلُ" بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ هُوَ الْقَلْسُ أَيْضًا وَالْحَبْلُ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا" الْجُمُلُ" بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَمَلٍ، كَأُسُدٍ وَأَسَدٍ، وَالْجُمْلُ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ. وَعَنْ أَبِي السَّمَّالِ" الْجَمْلِ" بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، تَخْفِيفُ" جَمَلٍ". وَسَمِّ الْخِيَاطِ: ثُقْبُ الْإِبْرَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَكُلُّ ثُقْبٍ لَطِيفٍ فِي الْبَدَنِ يُسَمَّى سَمًّا وَسُمًّا وَجَمْعُهُ سُمُومٌ. وَجَمْعُ السُّمِّ الْقَاتِلِ سِمَامٌ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ" فِي سُمِّ" بِضَمِّ السِّينِ. وَالْخِيَاطُ: مَا يُخَاطُ بِهِ، يُقَالُ: خِيَاطٌ وَمِخْيَطٌ، مِثْلَ إِزَارٍ ومئزر وقناع ومقنع." المهاد" الْفِرَاشُ. وَ" غَواشٍ" جَمْعُ غَاشِيَةٍ، أَيْ نِيرَانٌ تَغْشَاهُمْ. (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يَعْنِي الْكُفَّارَ. وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأعراف (٧): آية ٤٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ، أَيْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَمَعْنَى" لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا مِنْ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا مَا وَجَدَ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ، دُونَ مَا لَا تَنَالُهُ يَدُهُ، وَلَمْ يُرِدْ إِثْبَاتَ الِاسْتِطَاعَةِ قبل الفعل، قال ابْنُ الطَّيِّبِ. نَظِيرُهُ" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا «١» ".
(١). راجع ج ١٨ ص ١٧٠.

[سورة الأعراف (٧): آية ٤٣]

وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ نَزْعَ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ. وَالنَّزْعُ: الِاسْتِخْرَاجُ وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الصَّدْرِ. وَالْجَمْعُ غِلَالٌ. أَيْ أَذْهَبْنَا فِي الْجَنَّةِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِلِّ فِي الدُّنْيَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْغِلُّ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ كَمَبَارِكِ الْإِبِلِ قَدْ نَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:" وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ". وَقِيلَ: نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَلَّا يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تَفَاضُلِ مَنَازِلِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ:" وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «١» " أَيْ يُطَهِّرُ الْأَوْضَارَ مِنَ الصُّدُورِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْإِنْسَانِ" وَ" الزُّمَرِ «٢» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (أَيْ لِهَذَا «٣») الثَّوَابِ، بِأَنْ أَرْشَدَنَا وَخَلَقَ لَنَا الْهِدَايَةَ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. (وَما كُنَّا) قِرَاءَةُ ابْنُ عَامِرٍ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ. وَالْبَاقُونَ بِإِثْبَاتِهَا. (لِنَهْتَدِيَ) لام كي. (لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. (وَنُودُوا) أَصْلُهُ. نُودِيُوا (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ بِأَنَّهُ (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ). وَقَدْ تَكُونُ تَفْسِيرًا لِمَا نُودُوا بِهِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ. أَيْ قِيلَ لَهُمْ:" تِلْكُمُ الْجَنَّةُ" لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، أَيْ قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدْتُمْ بِهَا، أَوْ يُقَالُ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ حِينَ عَايَنُوهَا مِنْ بُعْدٍ. وَقِيلَ:" تِلْكُمُ" بمعنى هذه. ومعنى (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ وَرِثْتُمْ مَنَازِلَهَا بِعَمَلِكُمْ، وَدُخُولُكُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. كَمَا قال:" ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ «٤» ".
(١). راجع ج ١٩ ص ١٤١.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٨٤.
(٣). من ع.
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٧١.
وَقَالَ:" فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ «١» ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْهُ وَفَضْلٍ). وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنْزِلٌ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ رُفِعَتِ الْجَنَّةُ لِأَهْلِ النَّارِ فَنَظَرُوا «٢» إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ لَوْ عَمِلْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ. ثُمَّ يُقَالُ: يأهل الْجَنَّةِ رِثُوهُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَتُقْسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنَازِلُهُمْ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ فِي النَّارِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا). فَهَذَا أَيْضًا مِيرَاثٌ، نَعَّمَ بِفَضْلِهِ مَنْ شَاءَ وَعَذَّبَ بِعَدْلِهِ مَنْ شَاءَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجَنَّةُ وَمَنَازِلُهَا لَا تُنَالُ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، فَإِذَا دَخَلُوهَا بِأَعْمَالِهِمْ فَقَدْ وَرِثُوهَا بِرَحْمَتِهِ، وَدَخَلُوهَا بِرَحْمَتِهِ، إِذْ أَعْمَالُهُمْ رَحْمَةٌ منه لهم وتفضل عليهم. وقرى" أُورِثْتُمُوهَا" مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ. وَقُرِئَ بِإِدْغَامِ التَّاءِ في الثاء.
[سورة الأعراف (٧): آية ٤٤]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)
قوله تعالى: (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) هَذَا سُؤَالُ تَقْرِيعٍ وَتَعْيِيرٍ. (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) مِثْلَ" أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ" أَيْ أَنَّهُ قَدْ وَجَدْنَا. وَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ النِّدَاءِ. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) أَيْ نَادَى وَصَوَّتَ، يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ." بَيْنَهُمْ" ظَرْفٌ، كَمَا تَقُولُ: أَعْلَمُ وَسَطَهُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ:" نَعِمَ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَجُوزُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ. قَالَ مَكِّيٌّ: مَنْ قَالَ" نَعِمَ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ" نَعَمْ" الَّتِي هِيَ جَوَابٌ وَبَيْنَ" نَعَمٌ" الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ إِنْكَارَ" نَعَمْ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ في الجواب، وقال: قل
(١). راجع ج ٦ ص ٢٧.
(٢). في ك: فينظرون.
نَعِمَ. وَنَعَمْ وَنَعِمَ، لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْعِدَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَالْعِدَةُ إِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ مُوجَبٍ نَحْوَ قَوْلِكَ: أَيَقُومُ زَيْدٌ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ. وَالتَّصْدِيقُ إِذَا أَخْبَرْتَ عَمَّا وَقَعَ، تَقُولُ: قَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ نَعَمْ. فَإِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ مَنْفِيٍّ فَالْجَوَابُ بَلَى نَحْوَ قَوْلِكَ أَلَمْ أُكْرِمْكَ، فَيَقُولُ بَلَى. فَنَعَمْ لِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى الْإِيجَابِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَبَلَى، لِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١» ". وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ" وَهُوَ الْأَصْلُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ" أَنْ" وَرَفْعِ اللَّعْنَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. فَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَيَجُوزُ فِي الْمُخَفَّفَةِ أَلَّا يَكُونَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَتَكُونُ مُفَسِّرَةً كما تقوم. وَحُكِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ" إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، فَهَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كما قرأ الكوفيون «٢» " فناداه الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ" وَيُرْوَى أَنَّ طَاوُسًا دَخَلَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَاحْذَرْ يَوْمَ الْأَذَانِ. فَقَالَ: وَمَا يَوْمُ الْأَذَانِ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" فَصُعِقَ هِشَامٌ. فَقَالَ طَاوُسٌ: هَذَا ذُلُّ الصِّفَةِ فَكَيْفَ ذُلُّ الْمُعَايَنَةِ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٤٥]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِ" ظالمين" على النعت. ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم أَوْ أَعْنِي. أَيِ الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ فِي الدُّنْيَا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَهُوَ مِنَ الصَّدِّ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ. أَوْ يَصُدُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ يُعْرِضُونَ. وَهَذَا مِنَ الصُّدُودِ. (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يَطْلُبُونَ اعْوِجَاجَهَا وَيَذُمُّونَهَا فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا «٣» الْمَعْنَى.- (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أَيْ وَكَانُوا بِهَا كَافِرِينَ، فَحُذِفَ وَهُوَ كثير في الكلام.
(١). راجع ص ٣١٣ من هذا الجزء.
(٢). كذا في الأصول. وتقدم في ج ٤ ص ٧٤ أنها قراءة حمزة والكسائي فيكون الصواب: الكوفيان. وفى الشواذ قراءة ابن مسعود.
(٣). راجع ج ٤ ص ١٥٤.

[سورة الأعراف (٧): آية ٤٦]

وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)
أَيْ بَيْنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ- لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمَا- حاجز، أسور. وَهُوَ السُّورُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ «١» ". (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) أَيْ عَلَى أَعْرَافِ السُّورِ، وَهِيَ شُرَفُهُ. وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي «٢» يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ الشَّيْءُ الْمُشْرِفُ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ. وَالْأَعْرَافُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الْمُشْرِفُ، جَمْعُ عُرْفٍ. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: سَأَلْتُ الْكِسَائِيَّ عَنْ وَاحِدِ الْأَعْرَافِ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ. فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، وَاحِدُهُ يَعْنِي، وَجَمَاعَتُهُ أَعْرَافٌ، يَا غُلَامُ، هَاتِ الْقِرْطَاسَ، فَكَتَبَهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ. الْمَدْحِ، كَمَا قَالَ فِيهِ:" رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «٣» " وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي مُسْنَدِ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ (فِي آخِرِ الْجُزْءِ الْخَامِسَ عَشَرَ) حَدِيثٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ صوابه «٤» دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مثقال صوابه دخل النار). قيل: يا وسول اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ) (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ. وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ هُمْ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَرَغُوا مِنْ شَغْلِ أنفسهم، وتفرغوا لمطالعة حال الناس، فإذا
(١). راجع ج ١٧ ص ٢٤٥.
(٢). كذا في أو ج وك. وفى ز: ابن أبى زيد. والظاهر: ابن زيد. راجع ج ١٢ ص ٢٦٤.
(٣). كذا في أو ج وك. وفى ز: ابن أبى زيد. والظاهر: ابن زيد. راجع ج ١٢ ص ٢٦٤. [..... ]
(٤). الصؤابة: بيضة القملة.
211
رَأَوْا أَصْحَابَ النَّارِ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ كُلَّ شي، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ. فَإِذَا رَأَوْا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ يَرْجُونَ لَهُمْ دُخُولَهَا. وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: هُمُ الْمُسْتَشْهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عُصَاةً لِآبَائِهِمْ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَعَادَلَ عُقُوقُهُمْ وَاسْتِشْهَادُهُمْ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قول عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ" قَالَ: الْأَعْرَافُ مَوْضِعٌ عَالٍ عَلَى الصِّرَاطِ، عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يَعْرِفُونَ مُحِبِّيهِمْ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُمْ عُدُولُ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَهُمْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ، وَقَالَ: وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، فَهُمْ عَلَى السُّورِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمْ قَوْمُ أَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ صَغَائِرُ لَمْ تُكَفَّرْ عَنْهُمْ بِالْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ كَبَائِرُ فَيُحْبَسُونَ عَنِ الْجَنَّةِ لِيَنَالَهُمْ بِذَلِكَ غَمٌّ فَيَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ صَغَائِرِهِمْ. وَتَمَنَّى سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ. وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ الزِّنَى «١»، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُمْ مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِهَذَا السُّورِ، يُمَيِّزُونَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، ذَكَرَهُ أَبُو مِجْلَزٍ. فَقِيلَ لَهُ: لَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ رِجَالٌ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ ذُكُورٌ وَلَيْسُوا بِإِنَاثٍ، فَلَا يَبْعُدُ إِيقَاعُ لَفْظِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أُوقِعَ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ:" وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «٢» " فَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ يَعْرِفُونَ المؤمنين بعلاماتهم والكفار بعلاماتهم، فيبشرون المؤمنين فبدخولهم الْجَنَّةَ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ فَيَطْمَعُونَ فِيهَا. وَإِذَا رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ دَعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَأَخَّرُ دُخُولُهُمْ وَيَقَعُ لَهُمْ مَا وُصِفَ من الاعتبار في الفريقين. أَيْ بِعَلَامَاتِهِمْ، وَهِيَ بَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا فِي أَهْلِ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَيِّزِ هَؤُلَاءِ وحيز هؤلاء.
(١). في ع: الزناة.
(٢). راجع ج ١٩ ص ٨.
212
قُلْتُ: فَوُقِفَ عَنِ التَّعْيِينِ لِاضْطِرَابِ الْأَثَرِ وَالتَّفْصِيلِ، وَاللَّهُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ عَلِيمٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ وَهُوَ كُلُّ عَالٍ مُرْتَفِعٍ، لِأَنَّهُ بِظُهُورِهِ أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْخَفِضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأعراف شر ف الصِّرَاطِ. وَقِيلَ: هُوَ جَبَلُ أُحُدٍ يُوضَعُ هُنَاكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَكَرَ الزَّهْرَاوِيُّ حَدِيثًا أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْثُلُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يُحْبَسُ عَلَيْهِ أَقْوَامٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ هُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (. وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) إِنَّ أُحُدًا عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ (. قُلْتُ: وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أَيْ نَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ. أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ قَالُوا لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَلِمْتُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ. لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يطعمون أَيْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، أَيْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ." وَهُمْ يَطْمَعُونَ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا. وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ طَمِعَ بِمَعْنَى عَلِمَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّ الْمُرَادَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، أَيْ قَالَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدُ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَارِّينَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ". وَعَلَى قَوْلِهِ:" لَمْ يَدْخُلُوها". ثُمَّ يَبْتَدِئُ" وَهُمْ يَطْمَعُونَ" عَلَى مَعْنَى وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" وَهُمْ يَطْمَعُونَ" حَالًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَمْ يَدْخُلْهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمَارُّونَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ طَامِعِينَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا غَيْرَ طَامِعِينَ فِي دُخُولِهَا، فَلَا يوقف على" لَمْ يَدْخُلُوها".
[سورة الأعراف (٧): آية ٤٧]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أَيْ جِهَةَ اللِّقَاءِ وَهِيَ جِهَةُ الْمُقَابَلَةِ. وَلَمْ يَأْتِ مَصْدَرٌ عَلَى تِفْعَالٍ غَيْرَ حَرْفَيْنِ «١»: تِلْقَاءٌ وَتِبْيَانٌ. وَالْبَاقِي بِالْفَتْحِ، مِثْلَ تَسْيَارٍ وَتَهْمَامٍ وَتَذْكَارٍ. وَأَمَّا الِاسْمُ بِالْكَسْرِ فِيهِ فَكَثِيرٌ، مِثْلَ تِقْصَارٍ وَتِمْثَالٍ. قَالُوا أَيْ قَالَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ. (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سَأَلُوا اللَّهَ أَلَّا يَجْعَلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُمْ مَعَهُمْ. فَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّذَلُّلِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ:" رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «٢» " وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. عَلَى سَبِيلِ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ لَذَّةٌ.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. (قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ لِلدُّنْيَا وَاسْتِكْبَارُكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ. (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ وَخَبَّابٍ وَغَيْرِهِمْ. (أَقْسَمْتُمْ) فِي الدُّنْيَا. (لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ) فِي الْآخِرَةِ. (بِرَحْمَةٍ) يُوَبِّخُونَهُمْ بِذَلِكَ. وَزِيدُوا غَمًّا وَحَسْرَةً بِأَنْ قَالُوا لَهُمْ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ" دَخَلُوا الْجَنَّةَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالدَّالُ مَفْتُوحَةٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ" بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ «٣». وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مَلَائِكَةٌ أَوْ أَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ جَعَلَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ الْمُذْنِبِينَ كَانَ آخِرَ قَوْلِهِمْ لِأَصْحَابِ النَّارِ" وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ" وَيَكُونُ" أَهؤُلاءِ الَّذِينَ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَوَّلُ عَنِ الحسن. وقيل: هو من كلام الملائكة
(١). الذي في المصباح: قالوا ولم يجئ بالكسر إلا تبيان وتلقاء والتنضال. قلت: في هذه الصيغة خلاف.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٩٧.
(٣). فعل ماض مبنى للمجهول كما في أبى حيان.
الْمُوَكَّلِينَ بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَحْلِفُونَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَدْخُلُونَ مَعَهُمُ النَّارَ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ:" ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ"
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٠]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنادى) قِيلَ: إِذَا صَارَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا إِنَّ لَنَا قَرَابَاتٍ فِي الْجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ. وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَعْرِفُونَهُمْ لسواد وجوههم. فيقولون: (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) فَبَيَّنَ أَنَّ ابْنَ آدَمَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِنْ كَانَ فِي الْعَذَابِ. (قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) يَعْنِي طَعَامَ الْجَنَّةِ وَشَرَابَهَا. وَالْإِفَاضَةُ التَّوْسِعَةُ، يُقَالُ: أَفَاضَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْمَاءُ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَهْلِ النَّارِ حِينَ اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ" أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ «١» أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (الْمَاءُ). وَفِي رِوَايَةٍ: فَحَفَرَ بِئْرًا فَقَالَ: (هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ). وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ). وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَسْقِيَ عَنْهَا الْمَاءَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ فَعَلَيْهِ بِسَقْيِ الْمَاءِ. وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الَّذِي سَقَى الْكَلْبَ، فَكَيْفَ بِمَنْ سَقَى رَجُلًا مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا وَأَحْيَاهُ. روى
(١). في ك: أي الأعمال.
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فإذ كَلْبٌ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ «١» لَهُ فَغَفَرَ لَهُ (. قالوا: يا رسول الله، وألنا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ قَالَ:) فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ «٢» أَجْرٌ". وَعَكْسُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ «٣» الْأَرْضِ (. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا (. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ. الثَّالِثَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ، وَأَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ:" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ" لَا حَقَّ لَكُمْ فِيهَا. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: (بَابُ مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ) وَأَدْخَلَ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الْإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ). قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا خِلَافَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ أَحَقُّ بِمَائِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَأَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي).
[سورة الأعراف (٧): آية ٥١]
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتٌ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ يَكُونُ رَفْعًا وَنَصْبًا بِإِضْمَارِ. قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ أَيْ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ. كما نسوا لقاء يومهم
(١). أي أثنى عليه أو قبل عمله ذلك، أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته. (عن شرح القسطلاني).
(٢). روايه البخاري وأحمد وابن ماجة" في كل ذات كبد حراء أجر".
(٣). خشاش الأرض (مثلثة الخاء): هوامها وحشراتها.
هَذَا أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَكَذَّبُوا بِهِ. وَ" مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَنَسْيِهِمْ. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف عليه، وجحدهم.
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٢]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) يَعْنِي الْقُرْآنَ." فَصَّلْناهُ" أَيْ بَيَّنَّاهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ مَنْ تَدَبَّرَهُ وَقِيلَ:" فَصَّلْناهُ" أَنْزَلْنَاهُ مُتَفَرِّقًا. (عَلى عِلْمٍ) مِنَّا بِهِ، لَمْ يَقَعْ فِيهِ سَهْوٌ وَلَا غَلَطٌ. (هُدىً وَرَحْمَةً) قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ، فَجَعَلَهُ حَالًا مِنَ الهاء التي في" فَصَّلْناهُ". قال وَيَجُوزُ هُدًى وَرَحْمَةٌ، بِمَعْنَى هُوَ هُدًى وَرَحْمَةٌ. وقيل: يجوز هدى ورحمة بالخفض على المن كِتَابٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ هُدًى وَرَحْمَةٍ بِالْخَفْضِ عَلَى النَّعْتِ لِكِتَابٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مِثْلُ" وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «١» ". (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خُصَّ المؤمنون لأنهم المنتفعون به.
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) بِالْهَمْزِ، مِنْ آلَ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُخَفِّفُونَ الْهَمْزَةَ. وَالنَّظَرُ: الِانْتِظَارُ، أَيْ هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِقَابِ وَالْحِسَابِ. وَقِيلَ:" يَنْظُرُونَ" مِنَ النَّظَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَالْكِنَايَةُ فِي" تَأْوِيلَهُ" تَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ. وَعَاقِبَةُ «٢» الْكِتَابِ مَا وَعَدَ اللَّهُ فِيهِ من البعث والحساب. وقال مجاهد:" تَأْوِيلَهُ"
(١). راجع ص ١٤٢ من هذا الجزء.
(٢). كذا في الأصول ولعله بعد قول قتادة الآتي.
قوله تعالى :" هل ينظرون إلا تأويله " بالهمز، من آل. وأهل المدينة يخففون الهمزة. والنظر : الانتظار، أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب. وقيل :" ينظرون " من النظر إلى يوم القيامة. فالكناية في " تأويله " ترجع إلى الكتاب. وعاقبة١ الكتاب ما وعد الله فيه من البعث والحساب. وقال مجاهد :" تأويله " جزاؤه، أي جزاء تكذيبهم بالكتاب. قال قتادة :" تأويله " عاقبته. والمعنى متقارب. " يوم يأتي تأويله " أي تبدو عواقبه يوم القيامة. و " يوم " منصوب ب " يقول "، أي يقول الذين نسوه من قبل يوم يأتي تأويله. " قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء " استفهام فيه معنى التمني. " فيشفعوا " نصب لأنه جواب الاستفهام. " لنا أو نرد " قال الفراء : المعنى أو هل نرد " فنعمل غير الذي كنا نعمل " قال الزجاج : نرد عطف على المعنى، أي هل يشفع لنا أحد أو نرد. وقرأ ابن إسحاق " أو نرد فنعمل " بالنصب فيهما. والمعنى إلا أن نرد، كما قال٢ :
فقلتُ له لا تبك عينُك إنما نحاولُ ملكا أو نموتَ فَنُعْذَرَا
وقرأ الحسن " أو نرد فنعمل " برفعهما جميعا. " قد خسروا أنفسهم " أي فلم ينتفعوا بها، وكل من لم ينتفع بنفسه فقد خسرها. وقيل : خسروا النعم وحظ أنفسهم منها. " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي بطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر.
١ كذا في الأصول ولعله بعد قول قتادة الآتي..
٢ هو امرؤ القيس..
جَزَاؤُهُ، أَيْ جَزَاءُ تَكْذِيبهمْ بِالْكِتَابِ. قَالَ قَتَادَةُ:" تَأْوِيلَهُ" عَاقِبَتُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أَيْ تَبْدُو عَوَاقِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَ" يَوْمَ" مَنْصُوبٌ بِ" يَقُولُ"، أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلِ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ. (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمَنِّي. (فَيَشْفَعُوا) نُصِبَ لِأَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ. (لَنا أَوْ نُرَدُّ) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَوْ هَلْ نُرَدُّ. (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) قَالَ الزَّجَّاجُ: نُرَدُّ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ هَلْ يَشْفَعُ لَنَا أَحَدٌ أَوْ نرد. وقرا ابن إسحاق" أنرد فَنَعْمَلَ" بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ نُرَدَّ، كَمَا قَالَ «١»:
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا
وَقَرَأَ الْحَسَنُ" أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلُ" بِرَفْعِهِمَا جَمِيعًا. (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ فَقَدْ خَسِرَهَا. وَقِيلَ: خَسِرُوا النِّعَمَ وَحَظَّ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ بَطَلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) بَيَّنَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِقُدْرَةِ الْإِيجَادِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَأَصْلُ" سِتَّةِ" سِدْسَةٌ، فَأَرَادُوا إِدْغَامَ الدَّالِ فِي السِّينِ فَالْتَقَيَا عِنْدَ مَخْرَجِ التَّاءِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ تَاءٌ وَأُدْغِمَ فِي الدَّالِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا: سُدَيْسَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ أَسْدَاسٌ، وَالْجَمْعُ وَالتَّصْغِيرُ يَرُدَّانِ الْأَسْمَاءَ إِلَى أُصُولِهَا. وَيَقُولُونَ: جَاءَ فُلَانٌ سَادِسًا وَسَادِتًا وساتا، فمن قال:
(١). هو امرؤ القيس.
218
سادتا أيدل مِنَ السِّينِ تَاءً. وَالْيَوْمُ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَمْسٌ فَلَا يَوْمَ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ: وَمَعْنَى (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ، لِتَفْخِيمِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُهَا الْأَحَدُ وَآخِرُهَا الْجُمُعَةُ. وَذَكَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَلَوْ أَرَادَ خَلْقَهَا فِي لَحْظَةٍ لَفَعَلَ، إِذْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهَا كُونِي فَتَكُونُ. وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ الْعِبَادَ الرِّفْقَ وَالتَّثَبُّتَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَظْهَرَ قُدْرَتُهُ لِلْمَلَائِكَةِ شَيْئًا بَعْدَ شي. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَحِكْمَةٌ أُخْرَى- خَلَقَهَا فِي ستة أيام لأن لكل شي عِنْدَهُ أَجَلًا. وَبَيَّنَ بِهَذَا تَرْكَ مُعَاجَلَةِ الْعُصَاةِ بالعقاب، لأن لكل شي عنده أجلا. وهذا كقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ «١»). بَعْدَ أَنْ قَالَ:" وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً" قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هَذِهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ وَإِجْرَاءٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي الْكِتَابِ (الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى) وَذَكَرْنَا فِيهَا هُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا. وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ تَنْزِيهُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ عَنِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ وَلَوَاحِقِهِ اللَّازِمَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَادَتِهِمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَنْزِيهُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الْجِهَةِ، فَلَيْسَ بِجِهَةِ فَوْقٍ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَتَى اخْتَصَّ بِجِهَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ حَيِّزٍ، وَيَلْزَمُ عَلَى الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ لِلْمُتَحَيِّزِ، وَالتَّغَيُّرُ وَالْحُدُوثُ. هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً. وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ- يَعْنِي في اللغة- والكيف
(١). راجع ج ١٧ ص ٢٢. فما بعد. [..... ]
219
مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ. وَكَذَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْعُلَمَاءِ. وَالِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْعُلُوُّ وَالِاسْتِقْرَارُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَاسْتَوَى مِنَ اعْوِجَاجٍ، وَاسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيِ اسْتَقَرَّ. وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أَيْ قَصَدَ. وَاسْتَوَى أَيِ اسْتَوْلَى وَظَهَرَ. قَالَ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَاسْتَوَى الرَّجُلُ أَيِ انْتَهَى شَبَابُهُ. وَاسْتَوَى الشَّيْءُ إِذَا اعْتَدَلَ. وَحَكَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «١» " قَالَ: عَلَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
أَيْ عَلَا وَارْتَفَعَ. قلت: فعلوا اللَّهِ تَعَالَى وَارْتِفَاعُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عُلُوِّ مَجْدِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَكُوتِهِ. أَيْ لَيْسَ فَوْقَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ مَعَانِي الْجَلَالِ أَحَدٌ، وَلَا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ الْعُلُوُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لَكِنَّهُ العلي بالإطلاق سبحانه. قوله تعالى: (عَلَى الْعَرْشِ) لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَرْشُ سَرِيرُ الْمُلْكِ. وَفِي التَّنْزِيلِ" نَكِّرُوا لَها عَرْشَها «٢» "،" وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ «٣» " وَالْعَرْشُ: سَقْفُ الْبَيْتِ. وَعَرْشُ الْقَدَمِ: مَا نَتَأَ فِي ظَهْرِهَا وَفِيهِ الْأَصَابِعُ. وَعَرْشُ السِّمَاكِ: أَرْبَعَةُ كَوَاكِبَ صِغَارٍ أَسْفَلَ مِنَ الْعُوَاءِ «٤»، يُقَالُ: إِنَّهَا عَجُزُ الْأَسَدِ. وَعَرْشُ الْبِئْرِ: طَيُّهَا بِالْخَشَبِ، بَعْدَ أَنْ يُطْوَى أَسْفَلُهَا بِالْحِجَارَةِ قَدْرَ قَامَةٍ، فَذَلِكَ الْخَشَبُ هُوَ الْعَرْشُ، وَالْجَمْعُ عُرُوشٌ. وَالْعَرْشُ اسْمٌ لِمَكَّةَ. وَالْعَرْشُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُ فُلَانٍ إِذَا ذَهَبَ مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَعِزُّهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا وَذُبْيَانُ إِذْ ذَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ
(١). راجع ج ١١ ص ١٦٩.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٠٧.
(٣). راجع ج ٩ ص ٤٦٢.
(٤). العواء: خمسة كواكب على خط معقف. وقال ابن سيده. العواء منزل من منازل القمر، يمد ويقصر والألف في آخره للتأنيث.
220
وقد يئول الْعَرْشُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، أَيْ مَا اسْتَوَى الْمُلْكُ إِلَّا لَهُ جَلَّ وَعَزَّ. وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ فِي كِتَابِنَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أَيْ يَجْعَلُهُ كَالْغِشَاءِ، أَيْ يُذْهِبُ نُورَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ قِوَامُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِمَجِيءِ اللَّيْلِ. فَاللَّيْلُ لِلسُّكُونِ، وَالنَّهَارُ للمعاش. وقرى" يُغَشِّي" بِالتَّشْدِيدِ، وَمِثْلُهُ فِي" الرَّعْدِ «١» ". وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ. وَهُمَا لُغَتَانِ أَغْشَى وَغَشَّى. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى" فَغَشَّاها «٢» مَا غَشَّى" مُشَدَّدًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى" فَأَغْشَيْناهُمْ «٣» " فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ. وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى التَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ. وَالتَّغْشِيَةُ وَالْإِغْشَاءُ: إِلْبَاسُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُخُولَ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، مِثْلَ" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «٤» الْحَرَّ"." بِيَدِكَ الْخَيْرُ «٥» ". وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ" وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّهَارَ يُغْشِي اللَّيْلَ. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أَيْ يَطْلُبُهُ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ. وَ" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مُغْشِيًا اللَّيْلَ النَّهَارَ. وَكَذَا" يَطْلُبُهُ حَثِيثاً" حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ طَالِبًا لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لَيْسَتْ بِحَالٍ." حَثِيثاً" بَدَلٌ مِنْ طَالِبٍ الْمُقَدَّرِ أَوْ نَعْتٌ لَهُ، أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يَطْلُبُهُ طَلَبًا سَرِيعًا. وَالْحَثُّ: الْإِعْجَالُ وَالسُّرْعَةُ. وَوَلَّى حَثِيثًا أَيْ مُسْرِعًا. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى السَّمَاوَاتِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى- صِدْقُ اللَّهِ فِي خَبَرِهِ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ الْأَمْرُ، خَلَقَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِمَا أَحَبَّ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَقْتَضِي النَّهْيَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فمن جمع بينهما فقد كفر.
(١). راجع ج ٩ ص ٢٨٠.
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٢١.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٩.
(٤). راجع ج ١٠ ص ١٥٩.
(٥). راجع ج ٤ ص ٥١.
221
فَالْخَلْقُ الْمَخْلُوقُ، وَالْأَمْرُ كَلَامُهُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ قَوْلُهُ:" كُنْ"." إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١» " وَفِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَدْ قَالَ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ. وَذَلِكَ عِيٌّ مِنَ الْكَلَامِ وَمُسْتَهْجَنٌ وَمُسْتَغَثٌّ. وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنِ التَّكَلُّمِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ." وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ «٢» بِأَمْرِهِ"." وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ «٣» ". فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِأَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَافْتَقَرَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ يَقُومُ بِهِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ أَمْرَهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِيَصِحَّ قِيَامُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا «٤» بِالْحَقِّ". وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُمَا بِالْحَقِّ، يَعْنِي الْقَوْلَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْمَكُونَاتِ:" كُنْ". فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَخْلُوقًا لَمَا صَحَّ أَنْ يَخْلُقَ بِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُخْلَقُ بِالْمَخْلُوقِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ" وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ"." إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «٥» "." وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي «٦» ". وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبْقِ فِي الْقَوْلِ فِي الْقِدَمِ «٧»، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْأَزَلَ فِي الْوُجُودِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ كَافِيَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَلَهُمْ آيَاتٌ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ" الْآيَةَ. وَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً «٨» ". وَ" مَفْعُولًا «٩» " وَمَا كَانَ مِثْلَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: مَعْنَى" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ «١٠» " أَيْ مِنْ وَعْظٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدٍ وَتَخْوِيفٍ" إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ"، لِأَنَّ وَعْظَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَتَحْذِيرَهُمْ ذِكْرٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ «١١» ". وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ. وَمَعْنَى" وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" و" مَفْعُولًا" أراد سبحانه
(١). راجع ج ١٥ ص ٦٠ وص ١٣٩.
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٩ وص ٩٦٥ ١٨٨.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٨٣ وص ٥٣.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٨٣ وص ٥٣.
(٥). راجع ج ١١ ص ٣٤٥ وص ٢٦٦. [..... ]
(٦). راجع ج ١٤ ص ١٩ وص ٩٦٥ ١٨٨.
(٧). في ج: القديم.
(٨). راجع ج ١٤ ص ١٩ وص ٩٦٥ ١٨٨.
(٩). راجع ج ١٤ ص ١٩ وص ٩٦٥ ١٨٨.
(١٠). راجع ج ١١ ص ٣٤٥ وص ٢٦٦.
(١١) راجع ج ٢٠ ص ٣٧.
222
عِقَابَهُ وَانْتِقَامَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَنَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَا حَكَمَ بِهِ وَقَدَّرَهُ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا «١» " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" يَعْنِي به شأنه وأفعال وَطَرَائِقَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهَا أَمْرُهَا حَتَّى إِذَا مَا تَبَوَّأَتْ بِأَخْفَافِهَا مَرْعًى تَبَوَّأَ مَضْجَعَا
الثَّانِيَةُ- وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ من الإرادة في شي. وَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: الْأَمْرُ نَفْسُ الْإِرَادَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَلَمْ يُرِدْهُ مِنْهُ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُ إِلَّا خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَقَدْ أَرَادَ شَهَادَةَ حَمْزَةَ حَيْثُ يَقُولُ:" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ «٢» ". وَقَدْ نَهَى الْكُفَّارَ عَنْ قَتْلِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ. وهذا صحيح نفيس فبابه، فَتَأَمَّلْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) " تَبارَكَ" تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ الْكَثْرَةُ وَالِاتِّسَاعُ. يقال بورك الشيء وبورك فيه، قال ابْنُ عَرَفَةَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:" تَبارَكَ" تَعَالَى وَتَعَاظَمَ وَارْتَفَعَ. وَقِيلَ: إِنَّ بِاسْمِهِ يُتَبَرَّكُ وَيُتَيَّمْنُ. وَقَدْ مضى في الفاتحة معنى" رَبُّ الْعالَمِينَ «٣» "
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٥]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ) هَذَا أَمْرٌ بِالدُّعَاءِ وَتَعَبُّدٌ بِهِ. ثُمَّ قَرَنَ جَلَّ وَعَزَّ بِالْأَمْرِ صِفَاتٍ تَحْسُنُ مَعَهُ، وَهِيَ الْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ وَالتَّضَرُّعُ. وَمَعْنَى" خُفْيَةً" أَيْ سِرًّا فِي النَّفْسِ لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُ:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «٤» ". وَنَحْوَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي). وَالشَّرِيعَةُ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا من الجهر.
(١). راجع ج ٩ ص ٣٣ وص ٩٣.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢١٨.
(٣). راجع ج ١ ص ١٣٦.
(٤). راجع ج ١١ ص ٧٦.
223
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ «١» ". قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلٌ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونُ جَهْرًا أَبَدًا. وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا الْهَمْسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً). وذكر عبد اصالحا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا". وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ" آمِينَ" أَوْلَى مِنَ الْجَهْرِ بِهَا، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْفَاتِحَةِ «٢» ". وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ- وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَزَاةٍ- فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ- وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا عَلَا ثَنِيَّةً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا «٣» عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ). الْحَدِيثَ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، فَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَرَأَى شُرَيْحٌ رَجُلًا رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: مَنْ تَتَنَاوَلُ بِهِمَا، لَا أُمَّ لَكَ! وَقَالَ مَسْرُوقٌ لِقَوْمٍ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ: قَطَعَهَا اللَّهُ. وَاخْتَارُوا إِذَا دَعَا اللَّهَ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ. وَيَقُولُونَ: ذَلِكَ الْإِخْلَاصُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ. وَكَرِهَ رَفْعَ الْأَيْدِي عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ جَوَازُ الرَّفْعِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. وَمِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ «٤». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رسول الله صلى الله
(١). راجع ج ٣ ص ٣٣٢.
(٢). راجع ج ١ ص ١٢٧.
(٣). أي ارفقوا بها ولا تبالغوا في الجهد.
(٤). هو خالد بن الوليد، بعثه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي جذيمة داعيا إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. فنقم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خالد استعجاله في شأنهم وترك التثبت في أمرهم. راجع كتاب المغازي في صحيح البخاري. [..... ]
224
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ «١» رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ مَادًّا يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لَمْ يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ فَيَرُدُّهُمَا صِفْرًا (أَوْ قَالَ «٢») خَائِبَتَيْنِ (. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ وَرَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. وَبِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة أن أنس ابن مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يرفع يديه في شي مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ طُرُقًا وَأَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، فَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَقَدْ خَالَفَهُ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ (بْنِ مَالِكٍ «٣») فَقَالَ فِيهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ أَنَّ الرَّفْعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيلٌ حَسَنٌ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَيَوْمَ بَدْرٍ. قُلْتُ: وَالدُّعَاءُ حَسَنٌ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِنْسَانِ لِإِظْهَارِ مَوْضِعِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالْخُضُوعِ. فَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ شَاءَ فَلَا، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً". وَلَمْ يُرِدْ «٤» صِفَةً مِنْ رَفْعِ يَدَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ:" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «٥» " فَمَدَحَهُمْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَالَةً غَيْرَ مَا ذَكَرَ. وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ وهو غير مستقبل القبلة.
(١). تقدم في ج ٣ ص ٢٥٥. أن أهل بدر كأصحاب طالوت وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وهذا هو المشهور. فليراجع.
(٢). الزيادة عن سنن ابن ماجة.
(٣). من ج.
(٤). في ع: ولم ترد صفة.
(٥). راجع ج ٤ ص ٣٠٥.
225
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يُرِيدُ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا (إِلَى هَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ «١». وَالْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ وَمُرْتَكِبُ الْحَظْرِ. وَقَدْ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ مَا اعْتَدَى فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أي بني، سل الله الجنة وعذبه مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ). وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ فِي أَنْ تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ فِي مُحَالٍ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الشَّطَطِ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا مَعْصِيَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُفَقَّرَةً «٢» وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً قَدْ وَجَدَهَا فِي كَرَارِيسَ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ وَيَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ. كَمَا تقدم في البقرة بيانه «٣».
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٦]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى الصَّحِيحِ من الأقوال. وقال الضحاك: معناه لا تعوروا «٤» الْمَاءَ الْمَعِينَ، وَلَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ الْمُثْمِرَ ضِرَارًا. وَقَدْ وَرَدَ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ قِيلَ: تِجَارَةُ الْحُكَّامِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُرَادُ وَلَا تُشْرِكُوا، فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الشِّرْكِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْهَرْجِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمْرٌ بِلُزُومِ الشَّرَائِعِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللَّهُ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ، وَتَقْرِيرِ «٥»
(١). ما بين المربعات هكذا ورد في نسخ الأصل ولعله زيادة من الناسخ.
(٢). في ع: مقفاه.
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٠٨.
(٤). عورت عيون المياه: إذا دفنها وسددتها.
(٥). في ز: تقدير.
226
الشَّرَائِعِ وَوُضُوحِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَصَدَ إِلَى أَكْبَرِ فَسَادٍ بَعْدَ أَعْظَمِ صَلَاحٍ فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ فَلَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَأَمَّا مَا يَعُودُ ضَرَرُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَوَّرَ مَاءَ قَلِيبِ «١» بَدْرٍ وَقَطَعَ شَجَرَ الْكَافِرِينَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي قَطْعِ الدَّنَانِيرِ فِي" هُودٍ «٢» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أَمْرٌ بِأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ تَرَقُّبٍ وَتَخَوُّفٍ وَتَأْمِيلٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لِلْإِنْسَانِ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ يَحْمِلَانِهِ فِي طَرِيقِ اسْتِقَامَتِهِ، وَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا هَلَكَ الْإِنْسَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «٣» ". فَرَجَّى وَخَوَّفَ. فَيَدْعُو الْإِنْسَانُ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ وَطَمَعًا فِي ثَوَابِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «٤» ". وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْخَوْفُ: الِانْزِعَاجُ لِمَا لَا يُؤْمَنُ مِنَ الْمَضَارِّ. وَالطَّمَعُ: تَوَقُّعُ الْمَحْبُوبِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ «٥» الْخَوْفُ الرَّجَاءَ طُولَ الْحَيَاةِ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ غَلَبَ الرَّجَاءُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ). صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ. فَفِيهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالرُّحُمَ واحد، وهي بمعنى العفو الغفران، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الرَّحْمَةُ مَصْدَرٌ، وَحَقُّ الْمَصْدَرِ التَّذْكِيرُ، كَقَوْلِهِ:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ «٦» ". وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ بِمَعْنَى الْوَعْظِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بالرحمة الإحسان،
(١). القليب (بفتح القاف): البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها رب ولا حافر، تكون في البراري.
(٢). راجع ج ٩ ص ٨٤.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٤.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٣٦. [..... ]
(٥). هذا يخالف ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام لو وزن خوف المؤمن ورجاءه بميزان تريص ما زاد أحدهما على الآخر، وفى رواية" لاعتدلا". وورد عن حذيفة رضى الله عنه حين احتضر: اللهم إنك أمرتنا أن نعدل بين الخوف والرجاء والآن الرجاء فيك أمثل.
(٦). راجع ج ٣ ص ٣٤٧.
227
وَلِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا جَازَ تَذْكِيرُهُ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الْمَطَرَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُذَكَّرَ كَمَا يُذَكَّرُ بَعْضُ الْمُؤَنَّثِ. وَأَنْشَدَ:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا «١»
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذُكِّرَ" قَرِيبٌ" عَلَى تَذْكِيرِ الْمَكَانِ، أَيْ مَكَانًا قَرِيبًا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: وَهَذَا خَطَأٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ" قَرِيبٌ" مَنْصُوبًا فِي الْقُرْآنِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا قَرِيبًا مِنْكَ. وَقِيلَ: ذُكِّرَ عَلَى النَّسَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ ذَاتُ قُرْبٍ، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ طَالِقٌ وَحَائِضٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا كَانَ الْقَرِيبُ فِي مَعْنَى الْمَسَافَةِ يُذَكَّرُ مؤنث، إن كَانَ فِي مَعْنَى النَّسَبِ يُؤَنَّثُ بِلَا اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ. تَقُولُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَرِيبَتِي، أَيْ ذَاتُ قَرَابَتِي، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ: يُقَالُ فِي النَّسَبِ قَرِيبَةُ فُلَانٍ، وَفِي غَيْرِ النَّسَبِ يَجُوزُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، يُقَالُ: دَارُكَ مِنَّا قَرِيبٌ، وَفُلَانَةُ مِنَّا قَرِيبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «٢» ". وَقَالَ مَنِ احْتَجَّ لَهُ: كَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمَّ هَاشِمِ قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ سَبِيلَ المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما.
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٧]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ". ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ نِعَمِهِ، وَدَلَّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَثُبُوتِ إِلَهِيَّتِهِ. وَقَدْ مضى الكلام
(١). البيت لعامر بن جوين الطائي. وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والودق: المطر. والمزنة: السحابة (عن شرح الشواهد).
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٤٨.
228
فِي الرِّيحِ فِي الْبَقَرَةِ «١». وَرِيَاحٌ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَأَرْوَاحٌ جَمْعُ قِلَّةٍ. وَأَصْلُ رِيحٍ رِوْحٌ. وَقَدْ خُطِّئَ مَنْ قَالَ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ أَرْيَاحٌ." بُشْراً" فِيهِ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو" نُشُرًا" بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ جَمْعُ نَاشِرٍ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ نَشْرٍ، فَهُوَ مِثْلُ شَاهِدٍ وَشُهُدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ. يُقَالُ: رِيحُ النَّشُورِ إذا أتت من هاهنا وهاهنا. وَالنَّشُورُ بِمَعْنَى الْمَنْشُورِ، كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ. أَيْ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُنْشَرَةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ" نُشْرًا" بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ مُخَفَّفًا مِنْ نُشُرٍ، كَمَا يُقَالُ: كُتْبٌ وَرُسْلٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ" نَشْرًا" بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَعْمَلَ فِيهِ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَنْشُرُ الرِّيَاحَ نَشْرًا. نَشَرْتُ الشَّيْءَ فَانْتَشَرَ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً فَنُشِرَتْ عِنْدَ الْهُبُوبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الرِّيَاحِ، كَأَنَّهُ قَالَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُنْشَرَةً، أَيْ مُحْيَيَةً، مِنْ أَنَشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَنُشِرَ، كَمَا تَقُولُ أَتَانَا رَكْضًا، أَيْ رَاكِضًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نَشْرًا (بِالْفَتْحِ) مِنَ النَّشْرِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الطَّيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. كَأَنَّ الرِّيحَ فِي سُكُونِهَا كَالْمَطْوِيَّةِ ثُمَّ تُرْسَلُ مِنْ طَيِّهَا ذَلِكَ فَتَصِيرُ كَالْمُنْفَتِحَةِ. وَقَدْ فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِمَعْنَى مُتَفَرِّقَةٍ فِي وُجُوهِهَا، على معنى ينشرها هاهنا وهاهنا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ:" بُشْرًا" بِالْبَاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَالتَّنْوِينِ جَمْعُ بَشِيرٍ، أَيِ الرِّيَاحُ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ. وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ:" وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «٢» ". وَأَصْلُ الشِّينِ الضَّمُّ، لَكِنْ سُكِّنَتْ تَخْفِيفًا كَرُسُلٍ وَرُسْلٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ" بَشْرًا" بِفَتْحِ الْبَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيُقْرَأُ" بُشُرًا" وَ" بَشْرٌ مَصْدَرُ بَشَرَهُ يَبْشُرُهُ بِمَعْنَى بَشَّرَهُ" فَهَذِهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ الْيَمَانِيُّ" بُشْرَى" عَلَى وَزْنِ حُبْلَى. وَقِرَاءَةٌ سابعة" بشرى" بضم الباء والشين. (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا) السَّحَابُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَكَذَا كُلُّ جَمْعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدَتِهِ هَاءٌ. وَيَجُوزُ نَعْتُهُ بِوَاحِدٍ فَتَقُولُ: سَحَابٌ ثَقِيلٌ وَثَقِيلَةٌ. وَالْمَعْنَى: حَمَلَتِ الرِّيحُ سَحَابًا ثِقَالًا بِالْمَاءِ، أَيْ أَثْقَلَتْ بِحَمْلِهِ. يُقَالُ: أَقَلَّ فُلَانٌ الشَّيْءَ أي حمله. سقناه
(١). راجع ج ٢ ص ١٩٧.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٤٣.
229
أَيِ السَّحَابُ. (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أَيْ لَيْسَ فِيهِ نَبَاتٌ. يُقَالُ: سُقْتُهُ لِبَلَدِ كَذَا وَإِلَى بَلَدِ كَذَا. وَقِيلَ لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، فَاللَّامُ لَامُ أَجْلِ. وَالْبَلَدُ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عَامِرٍ أَوْ غَيْرِ عَامِرٍ خَالٍ أَوْ مَسْكُونٍ. وَالْبَلْدَةُ وَالْبَلَدُ وَاحِدُ الْبِلَادِ وَالْبُلْدَانِ. وَالْبَلَدُ الْأَثَرُ وَجَمْعُهُ أَبْلَادُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنْ بَعْدِ مَا شَمِلَ الْبِلَى أَبْلَادَهَا «١»
وَالْبَلَدُ: أُدْحِيُّ «٢» النَّعَامِ. يُقَالُ: هُوَ أَذَلُّ مِنْ بَيْضَةِ الْبَلَدِ، أَيْ مِنْ بَيْضَةِ النَّعَامِ الَّتِي يَتْرُكُهَا. وَالْبَلْدَةُ الْأَرْضُ، يُقَالُ: هَذِهِ بَلْدَتُنَا كَمَا يُقَالُ بَحْرَتُنَا. وَالْبَلْدَةُ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَنْجُمٍ مِنَ الْقَوْسِ تَنْزِلُهَا الشَّمْسُ فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ. وَالْبَلْدَةُ الصَّدْرُ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَاسِعُ الْبَلْدَةِ أَيْ وَاسِعُ قَالَ الشَّاعِرُ:
أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ «٣» بَلْدَةٍ قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامَهَا
يَقُولُ: بَرَكَتِ النَّاقَةُ فَأَلْقَتْ صَدْرَهَا عَلَى الْأَرْضِ. وَالْبَلْدَةُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا): نَقَاوَةُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ، فَهُمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أَيْ بِالْبَلَدِ. وَقِيلَ: أَنْزَلْنَا بِالسَّحَابِ الْمَاءَ، لِأَنَّ السَّحَابَ آلَةٌ لِإِنْزَالِ الْمَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَأَنْزَلْنَا مِنْهُ الْمَاءَ، كَقَوْلِهِ:" يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «٤» " أَيْ مِنْهَا. (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ نُحْيِي الْمَوْتَى. وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: (أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي قَوْمِكَ جَدْبًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتِلْكَ آيَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ). وَقِيلَ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَكُونُ بِمَطَرٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى قُبُورِهِمْ، فَتَنْشَقُّ عَنْهُمُ الْقُبُورُ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ. وَفِي صحيح
(١). هذا عجز بيت لابن الرقاع. وصدره:
عرف الديار توهما فاعتادها
(٢). الأدحي (بضم الهمزة وكسرها: مبيض النعام في الرمل، لأن النعام تبيض فيه وليس للنعام عش.
(٣). في الأصول:" بعد". والتصويب عن اللسان وديوان ذى الرمة. أراد بالبلدة الأولى ما يقع على الأرض من صدرها. وبالثانية الفلاة التي أناخ ناقته فيها. والبغام: صوت الناقة وأصله للظبي فاستعاره للناقة.
(٤). راجع ج ١٩ ص ١٢٢.
230
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ- أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَدَلَّ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
[سورة الأعراف (٧): آية ٥٨]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) أَيِ التُّرْبَةُ الطَّيِّبَةُ. وَالْخَبِيثُ الَّذِي فِي تُرْبَتِهِ حِجَارَةٌ أَوْ شَوْكٌ، عَنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّشْبِيهُ، شَبَّهَ تَعَالَى السَّرِيعَ الْفَهْمَ بِالْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَالْبَلِيدَ بِالَّذِي خَبُثَ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ، فَقَلْبٌ يَقْبَلُ الْوَعْظَ وَالذِّكْرَى، وَقَلْبٌ فَاسِقٌ يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ، قال الْحَسَنُ أَيْضًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلٌ لِلْمُؤْمِنِ يَعْمَلُ مُحْتَسِبًا مُتَطَوِّعًا، وَالْمُنَافِقُ غَيْرُ مُحْتَسِبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ «١» حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ)." نَكِداً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ الْعَسِرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ إِعْطَاءِ الْخَيْرِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ" إِلَّا نَكِداً" حَذَفَ الْكَسْرَةِ لِثِقَلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ" نَكَدًا" بِفَتْحِ الْكَافِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى ذَا نَكَدٍ. كَمَا قَالَ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ «٢»
وَقِيلَ:" نَكِدًا" بِنَصْبِ الْكَافِ وَخَفْضِهَا بِمَعْنًى، كَالدَّنِفِ وَالدَّنَفِ، لُغَتَانِ. (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أَيْ كَمَا صَرَّفْنَا مِنَ الْآيَاتِ، وَهِيَ الْحُجَجُ وَالدَّلَالَاتُ، فِي إِبْطَالِ الشِّرْكِ، كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ. (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك.
(١). المرماة (بكسر الميم وفتحها): ظلف الشاه. وقيل: ما بين ظلفها.
(٢). البيت للخنساء. وصدره: ترقع ما رتعت حتى إذا أدركت. الخزانة ج ١ ص ٢٠٧.

[سورة الأعراف (٧): آية ٥٩]

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى الْكَمَالِ ذَكَرَ أَقَاصِيصَ الْأُمَمِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَحْذِيرِ الْكُفَّارِ. وَاللَّامُ فِي" لَقَدْ" لِلتَّأْكِيدِ الْمُنَبِّهِ عَلَى الْقَسَمِ. وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ." يَا قَوْمِ" نِدَاءٌ مُضَافٌ. وَيَجُوزُ" يَا قَوْمِي" عَلَى الْأَصْلِ. وَنُوحٌ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَانْصَرَفَ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْ نَاحَ ينوح، وقد تقدم إن فِي" آلِ عِمْرَانَ «١» " هَذَا الْمَعْنَى وَغَيْرُهُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ فَقَدْ وَهِمَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَهْمِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْإِسْرَاءِ حِينَ لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آدَمَ وَإِدْرِيسَ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ). وَقَالَ لَهُ إِدْرِيسُ: (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ). فَلَوْ كَانَ إِدْرِيسُ أَبًا لِنُوحٍ لَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. فَلَمَّا قَالَ لَهُ وَالْأَخُ الصَّالِحُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي نُوحٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَلَا كَلَامَ لِمُنْصِفٍ بَعْدَ هَذَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وجاء جواب الآباء ها هنا كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَآدَمَ (مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ). وَقَالَ عَنْ إِدْرِيسَ (بِالْأَخِ الصَّالِحِ) كَمَا ذُكِرَ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى وَيُوسُفَ وَهَارُونَ وَيَحْيَى مِمَّنْ لَيْسَ بِأَبٍ بِاتِّفَاقٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِدْرِيسَ بُعِثَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ النَّسَّابِينَ إِنَّهُ قَبْلَ نُوحٍ، لِمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِ آدَمَ إِنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ جَازَ مَا قَالُوا: وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مُرْسَلٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: اخْتَصَّ بَعْثُ نُوحٍ لِأَهْلِ الْأَرْضِ- كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ- كَافَّةً كَنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيَكُونُ إِدْرِيسُ لِقَوْمِهِ كَمُوسَى وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَغَيْرِهِمْ. وقد استدل
(١). راجع ج ٤ ص ٦٢.
232
بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ «١» ". وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ. وَقَدْ قُرِئَ" سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ". قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ بَطَّالٍ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ، لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ. قَالَ ابْنُ عطية: ومجمع ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ بَعْثَةُ نُوحٍ مَشْهُورَةً لِإِصْلَاحِ النَّاسِ وَحَمْلِهِمْ بِالْعَذَابِ وَالْإِهْلَاكِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ الْكَلْبِيُّ: بَعْدَ آدَمَ بِثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، كَمَا أَخْبَرَ التَّنْزِيلُ. ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ سَنَةً. حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وَفَشَوْا. وَقَالَ وَهْبٌ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ شَدَّادٍ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ: التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ الْآنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ الْعَرَبَ وَفَارِسَ وَالرُّومَ وَأَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ وَلَدِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالزِّنْجَ وَالْحَبَشَةَ وَالزُّطَّ وَالنُّوبَةَ، وَكُلَّ جِلْدٍ أَسْوَدَ مِنْ وَلَدِ حَامِ بْنِ نُوحٍ. وَالتُّرْكَ وَبَرْبَرَ وَوَرَاءَ الصِّينِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالصَّقَالِبَةَ كُلَّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بِرَفْعِ" غَيْرُهُ" قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ. أَيْ مَا لَكُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ. نَعْتٌ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ:" غَيْرُ" بِمَعْنَى إِلَّا، أَيْ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: مَا أَعْرِفُ الْجَرَّ وَلَا النَّصْبَ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْخَفْضِ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ، غَيْرَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ أَجَازَا نَصْبَ" غَيْرَ" فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ" إِلَّا" تَمَّ الْكَلَامُ أَوْ لَمْ يَتِمَّ فَأَجَازَا: مَا جَاءَنِي غَيْرُكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَعْضِ بَنِي أَسَدٍ وَقُضَاعَةَ. وَأَنْشَدَ:
(١). راجع ج ١٥ ص ١١٥. [..... ]
233
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ هَتَفَتْ حَمَامَةٌ فِي سَحُوقٍ ذَاتِ أَوْقَالِ «١»
قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَلَا يَجُوزُ جَاءَنِي غَيْرُكَ، فِي الْإِيجَابِ، لِأَنَّ إِلَّا لَا تَقَعُ هَاهُنَا قَالَ النَّحَّاسُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ نَصْبُ" غَيْرَ" إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْبَحِ اللَّحْنِ.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٦٠ الى ٦٢]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)
" الْمَلَأُ" أشرف القوم ورؤساؤهم. وقد تقدم بيانه في البقرة «٢». الضلال وَالضَّلَالَةُ: الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَالذَّهَابُ عَنْهُ. أَيْ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي دُعَائِنَا إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ. (أُبَلِّغُكُمْ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَبِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِبْلَاغِ. وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لُغَتَانِ، مِثْلُ كَرَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ. (وَأَنْصَحُ لَكُمُ) النُّصْحُ: إِخْلَاصُ النِّيَّةِ مِنْ شَوَائِبَ الْفَسَادِ فِي الْمُعَامَلَةِ، بِخِلَافِ الْغَشِّ. يُقَالُ: نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ نَصِيحَةً وَنَصَاحَةً وَنُصْحًا. وَهُوَ بِاللَّامِ أَفْصَحُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأَنْصَحُ لَكُمْ" وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ. وَالنَّصِيحُ النَّاصِحُ، وَقَوْمٌ نُصَحَاءُ. وَرَجُلٌ نَاصِحُ الْجَيْبِ أَيْ نَقِيُّ الْقَلْبِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: النَّاصِحُ الْخَالِصُ من العسل وغيره. مثل الناصع. وكل شي خَلَصَ فَقَدْ نَصَحَ. وَانْتَصَحَ فُلَانٌ أَقْبَلَ عَلَى النَّصِيحَةِ. يُقَالُ: انْتَصِحْنِي إِنَّنِي لَكَ نَاصِحٌ. وَالنَّاصِحُ الْخَيَّاطُ. وَالنِّصَاحُ السِّلْكُ يُخَاطُ بِهِ. وَالنَّصَاحَاتُ أَيْضًا الْجُلُودُ. قَالَ الْأَعْشَى:
فَتَرَى الشُّرْبَ نَشَاوَى كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا مُدَّتْ نِصَاحَاتُ الرُّبَحِ
الرُّبَحُ لُغَةٌ فِي الرُّبَعِ، وَهُوَ الْفَصِيلُ. وَالرُّبَحُ أَيْضًا طَائِرٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ مَعْنًى فِي" بَرَاءَةٌ «٣» " إِنْ شاء الله تعالى.
(١). البيت لأبى قيس بن الأسلت. السحوق: ما طال من الدوم. وفى الخزانة: في غصون. وأوقاله ثماره. خ ج ٢ ص ٤٥.
(٢). راجع ج ٣ ص ٢٤٣.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٢٦.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٦٣ الى ٦٤]

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤) قوله تعالى: (أَوَعَجِبْتُمْ) فُتِحَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ. وَسَبِيلُ الْوَاوِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَّا الْأَلِفَ لِقُوَّتِهَا." (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ) " أَيْ وَعْظٌ مِنْ رَبِّكُمْ. (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أَيْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ. وَقِيلَ:" عَلى " بِمَعْنَى" مَعَ"، أَيْ مَعَ رَجُلٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ مُنَزَّلٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، أَيْ تَعْرِفُونَ نَسَبَهُ. أَيْ عَلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِكُمْ. وَلَوْ كَانَ مَلَكًا فَرُبَّمَا كَانَ فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَنَافُرُ الطبع." الْفُلْكِ" يَكُونُ وَاحِدًا وَيَكُونُ جَمْعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «١». وَ" عَمِينَ" أَيْ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَمٍ بِكَذَا، أَيْ جَاهِلٌ.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٦٥ الى ٦٩]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيِ ابْنُ أَبِيهِمْ. وَقِيلَ: أَخَاهُمْ فِي الْقَبِيلَةِ. وَقِيلَ: أي بشرا من بني أبيهم آدم.
(١). راجع ج ٢ ص ١٩٤.
235
وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ أَخَاهُمْ هُودًا أَيْ صَاحِبُهُمْ. وَعَادٌ مِنْ وَلَدِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَادٌ هُوَ ابْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ شالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُودٌ هُوَ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْجُلُودِ بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى عَادٍ نَبِيًّا. وَكَانَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا. وَ" عادٍ" مَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، وَمَنْ صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ" عَادَ الْأُولَى»
" بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَ" هُودٌ" أَعْجَمِيٌّ، وَانْصَرَفَ لِخِفَّتِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا مُشْتَقًّا مِنْ هَادَ يَهُودُ. وَالنَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِ. وَكَانَ بَيْنَ هُودٍ وَنُوحٍ فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ سَبْعَةُ آبَاءٍ. وَكَانَتْ عَادٌ فِيمَا رُوِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبِيلَةً، يَنْزِلُونَ الرِّمَالَ، رَمْلَ عَالِجَ. وَكَانُوا أَهْلَ بَسَاتِينَ وَزُرُوعٍ وَعِمَارَةٍ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ أَخْصَبَ الْبِلَادِ، فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَهَا مَفَاوِزَ. وَكَانَتْ فِيمَا رُوِيَ بِنَوَاحِي حَضْرَمَوْتَ إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَلَحِقَ هُودٌ حِينَ أُهْلِكَ قَوْمُهُ بِمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا. (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أَيْ فِي حُمْقِ وَخِفَّةِ عَقْلٍ. قَالَ «٢»:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ «٣» ". وَالرُّؤْيَةُ هُنَا وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ قِيلَ: هِيَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الرَّأْيُ الَّذِي هُوَ أَغْلَبُ الظَّنِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) " خُلَفاءَ" جَمْعُ خَلِيفَةٍ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْمَعْنَى، وَخَلَائِفُ عَلَى اللَّفْظِ. مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ سُكَّانَ الْأَرْضِ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ. (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) ويجوز" بسطة" بِالصَّادِ لِأَنَّ بَعْدَهَا طَاءً، أَيْ طُولًا فِي الْخَلْقِ وَعِظَمِ الْجِسْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَطْوَلُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَأَقْصَرُهُمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ كَانَتْ عَلَى خَلْقِ آبَائِهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى خَلْقِ قَوْمِ نُوحٍ. قَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَأْسُ أحدهم
(١). راجع ج ١٧ ص ١١٨.
(٢). هو ذو الرمة. بصف نسوة.
(٣). هو ذو الرمة. بصف نسوة.
236
مِثْلَ قُبَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ عَيْنُ الرَّجُلِ يُفَرِّخُ فِيهَا السِّبَاعُ، وَكَذَلِكَ مَنَاخِرُهُمْ. وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ يَتَّخِذُ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ حِجَارَةٍ لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ يُطِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَغْمِزُ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَتَدْخُلُ فِيهَا. (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ) أَيْ نِعَمَ اللَّهِ، وَاحِدُهَا إِلًى وَإِلْيٌ وَإِلْوٌ وَأَلًى. كَالْآنَاءِ وَاحِدُهَا إِنًى وَإِنْيٌ وَإِنْوٌ وأنى. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تقدم «١».
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٧٠ الى ٧٢]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
طَلَبُوا الْعَذَابَ الَّذِي خَوَّفَهُمْ بِهِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُمْ: (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ). وَمَعْنَى وَقَعَ أَيْ وَجَبَ. يُقَالُ: وَقَعَ الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ أَيْ وَجَبَ! وَمِثْلُهُ:" وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ «٢» ". أَيْ نَزَلَ بِهِمْ." وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ «٣» ". وَالرِّجْسُ الْعَذَابُ وَقِيلَ: عُنِيَ بِالرِّجْسِ الرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ. (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ) يَعْنِي الْأَصْنَامَ الَّتِي عَبَدُوهَا، وَكَانَ لَهَا أَسْمَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ. مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أَيْ مِنْ حُجَّةٍ لَكُمْ فِي عبادتها. فالاسم هنا بمعنى المسمى. نظيره" إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها «٤» " وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِثْلُ الْعُزَّى مِنَ الْعِزِّ وَالْأَعَزِّ وَاللَّاتَ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ العز والإلهية شي. دَابِرُ آخِرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٥». أَيْ لَمْ يَبْقَ لهم بقية.
(١). راجع ج ١ ص ١٨١.
(٢). راجع ص ٢٧١ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٣٣.
(٤). راجع ج ٩ ص ١٩٢.
(٥). راجع ج ٦ ص ٤٢٥.

[سورة الأعراف (٧): آية ٧٣]

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
وَهُوَ ثَمُودُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَهُوَ أَخُو جَدِيسَ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ مَعَايِشِهِمْ، فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا نَبِيًّا، وَهُوَ صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسِفِ بْنِ كَاشِحَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاذِرِ بْنِ ثَمُودَ. وَكَانُوا قَوْمًا عَرَبًا. وَكَانَ صَالِحٌ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ حَسَبًا فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى شَمِطَ «١» وَلَا يَتَّبِعُهُ. مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ" ثَمُودَ" لِأَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَمْ يَنْصَرِفْ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الثَّمَدِ وَهُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ. وَقَدْ قَرَأَ الْقُرَّاءُ" أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ «٢» " عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْحَيِّ. وَكَانَتْ مَسَاكِنُ ثَمُودَ الْحِجْرَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَهُمْ مِنْ وَلَدِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَسُمِّيَتْ ثَمُودُ لِقِلَّةِ مَائِهَا. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْحِجْرِ «٣» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أَخْرَجَ لَهُمُ النَّاقَةَ حِينَ سَأَلُوهُ مِنْ حَجَرٍ صَلْدٍ، فَكَانَ لَهَا يَوْمٌ تَشْرَبُ فِيهِ مَاءَ الْوَادِي كُلَّهُ، وَتَسْقِيهِمْ مِثْلَهُ لَبَنًا لَمْ يُشْرَبْ قَطُّ أَلَذَّ وأحلى منه. وكان بقدر حاجتهم على كرتهم، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «٤» ". وَأُضِيفَتِ النَّاقَةُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جِهَةِ إِضَافَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ. وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالتَّخْصِيصِ. (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ رِزْقُهَا وَمَئُونَتُهَا.
(١). الشمط، (بفتح الميم): شيب اللحية. وقيل: بياض شعر الرأس يخالط سواده.
(٢). راجع ج ٩ ص ٥٩. [..... ]
(٣). راجع ج ١٠ ص ٤٥ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٣ ص ١٢٧.

[سورة الأعراف (٧): آية ٧٤]

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) فِيهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ مَنَازِلَ. (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أَيْ تَبْنُونَ الْقُصُورَ بِكُلِّ مَوْضِعٍ. (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) اتَّخَذُوا الْبُيُوتَ فِي الْجِبَالِ لِطُولِ أَعْمَارِهِمْ، فَإِنَّ السُّقُوفَ وَالْأَبْنِيَةَ كَانَتْ تَبْلَى قَبْلَ فَنَاءِ أَعْمَارِهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَفِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ. الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَجَازَ «١» الْبِنَاءَ الرَّفِيعَ كَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، وَبِقَوْلِهِ:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «٢» ". ذُكِرَ أَنَّ ابْنًا لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بَنَى دَارًا وَأَنْفَقَ فِيهَا مَالًا كَثِيرًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ بِنَاءً يَنْفَعُهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ). وَمِنْ آثَارِ النِّعْمَةِ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ، وَالثِّيَابُ الْحَسَنَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً جَمِيلَةً بِمَالٍ عَظِيمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَقَدْ يَكْفِيهِ دُونَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْبِنَاءُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّينِ وَاللَّبِنِ). وَفِي خَبَرٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عنقه). قلت: بهذا أقول، لقول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَمَا أَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ خَلَفَهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا مَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ (. رَوَاهُ جابر بن عبد الله وخرجه الدارقطني.
(١). كذا في ك وفي ج: اختار جواز البناء. وفى ب وى: أجاز جواز.
(٢). راجع ص ١٩٥ من هذ الجزء.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ وَجِلْفُ «١» الْخُبْزِ وَالْمَاءُ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ" أَيْ نِعَمَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ «٢» " الْقَوْلُ فِيهِ." وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ «٣»). وَالْعِثِيُّ وَالْعُثُوُّ لُغَتَانِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" تِعْثَوْا" بِكَسْرِ التَّاءِ أَخَذَهُ مِنْ عَثِيَ يَعْثَى لا من عثا يعثو.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) الثَّانِي بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَهُوَ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الكل.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٧٧ الى ٧٩]
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) الْعَقْرُ الْجَرْحُ. وَقِيلَ: قَطْعُ عُضْوٍ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ. وَعَقَرْتُ الْفَرَسَ: إِذَا ضَرَبْتُ قَوَائِمَهُ بِالسَّيْفِ. وَخَيْلٌ عَقْرَى. وَعَقَرْتُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ: إِذَا أَدْبَرْتُهُ.
(١). الجلف بالكسر: الخبز وحده لا أدم معه. وقيل: الخبز الغليظ اليابس.
(٢). راجع ج ٤ ص ٣٣٠.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٢١.
240
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطُ بِنَا مَعًا عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
أَيْ جَرَحْتَهُ وَأَدْبَرْتَهُ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْعَقْرُ كَشْفُ «١» عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ قِيلَ لِلنَّحْرِ عَقْرٌ، لِأَنَّ الْعَقْرَ سَبَبُ النَّحْرِ فِي الْغَالِبِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَاقِرِ النَّاقَةِ عَلَى أَقْوَالٍ. أَصَحُّهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ، خَطَبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذُكِرَ النَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا فَقَالَ: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ «٢» مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ «٣» مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقِيلَ فِي اسْمِهِ: قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ مُلْكَهُمْ كَانَ إِلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا مُلْكِي، فَحَسَدَتْ صَالِحًا لَمَّا مَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالَتْ لِامْرَأَتَيْنِ كَانَ لَهُمَا خَلِيلَانِ يَعْشَقَانِهِمَا: لَا تُطِيعَاهُمَا وَاسْأَلَاهُمَا عَقْرَ النَّاقَةِ، فَفَعَلَتَا. وَخَرَجَ الرَّجُلَانِ وَأَلْجَآ النَّاقَةَ إِلَى مَضِيقٍ وَرَمَاهَا أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ وَقَتَلَاهَا. وَجَاءَ السَّقْبُ وَهُوَ وَلَدُهَا إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي خَرَجَتِ الناقة منها فرغا ثلاثا وانفجرت الصَّخْرَةُ فَدَخَلَ فِيهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ الدَّابَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى النَّاسِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النَّمْلِ «٤» ". وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَتْبَعَ السَّقْبُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ عَقَرَ النَّاقَةَ، مِصْدَعٌ وَأَخُوهُ ذُؤَابٌ «٥». فَرَمَاهُ مِصْدَعٌ بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ قَلْبَهُ «٦»، ثُمَّ جَرَّهُ بِرِجْلِهِ فَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ، وَأَكَلُوهُ مَعَهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ صَالِحًا قَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ بَقِيَ مِنْ عُمْرِكُمْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلِهَذَا رَغَا ثَلَاثًا. وَقِيلَ: عَقَرَهَا عَاقِرُهَا وَمَعَهُ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:" وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ «٧» " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النَّمْلِ". وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ" فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ «٨» ". وَكَانُوا يَشْرَبُونَ فَأَعْوَزَهُمُ الْمَاءُ لِيَمْزُجُوا شَرَابَهُمْ، وَكَانَ يَوْمَ لَبَنِ النَّاقَةِ، فَقَامَ أَحَدُهُمْ وَتَرَصَّدَ النَّاسَ وَقَالَ: لَأُرِيحَنَّ النَّاسَ مِنْهَا، فَعَقَرَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أَيِ اسْتَكْبَرُوا. عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا أَيِ اسْتَكْبَرَ. وَتَعَتَّى فُلَانٌ إِذَا لَمْ يُطِعْ. والليل العاتي: الشديد الظلمة، عن الخليل.
(١). في ج وك: كسر.
(٢). عارم: أي خبيث شرير.
(٣). في ج: أهله.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٣٣٤. وص ٢١٥.
(٥). كذا في الأصول.
(٦). انتظم الصيد: إذا طعنه أو رماه حتى ينفذه.
(٧). راجع ج ١٣ ص ٣٣٤. وص ٢١٥. [..... ]
(٨). راجع ج ١٧ ص ١٤٠.
241
(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أَيْ مِنَ الْعَذَابِ. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أَيِ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ. وَقِيلَ: كَانَ صَيْحَةً شَدِيدَةً خَلَعَتْ «١» قُلُوبَهُمْ، كَمَا (فِي «٢» قِصَّةِ ثَمُودَ) فِي سُورَةِ" هُودٍ «٣» " فِي قِصَّةِ ثَمُودَ فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة. يقال: رجف الشيء يرجف رجفا رجفانا. وَأَرْجَفَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ حَرَّكَتْهُ. وَأَصْلُهُ حَرَكَةٌ مَعَ صَوْتٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «٤» " قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْحَجَّ قَدْ آنَ وَقْتُهُ وَظَلَّتْ مَطَايَا الْقَوْمِ بِالْقَوْمِ تَرْجُفُ
(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أَيْ بَلَدِهِمْ. وَقِيلَ: وُحِّدَ عَلَى طَرِيقِ الْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى: فِي دُورِهِمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" فِي دِيارِهِمْ" أَيْ فِي مَنَازِلِهِمْ. (جاثِمِينَ) أَيْ لَاصِقِينَ بِالْأَرْضِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، كَمَا يَجْثُمُ الطَّائِرُ. أَيْ صَارُوا خَامِدِينَ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ. وَأَصْلُ الْجُثُومِ لِلْأَرْنَبِ وَشَبَهِهَا، وَالْمَوْضِعُ مَجْثَمٌ. قَالَ زُهَيْرٌ:
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثِمِ «٥»
وَقِيلَ: احْتَرَقُوا بِالصَّاعِقَةِ فَأَصْبَحُوا مَيِّتِينَ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي عند اليأس منهم. (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قال بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَتْلَى بَدْرٍ: (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) فَقِيلَ: أَتُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْجِيَفَ؟ فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْجَوَابِ). وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. يَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي لم تقبلوا نصحي.
[سورة الأعراف (٧): آية ٨٠]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠)
فِيهِ أربع مسائل:
(١). في ب: تقطت.
(٢). من ج وز وك وى.
(٣). راجع ج ٩ ص ٥٩.
(٤). راجع ج ١٩ ص ١٨٨.
(٥). العين بكسر أوله: البقر واحدها أعين وعيناه. والآرام. الظباء والأطلاء: أولادها، الواحد طلا. وخلفة: فوج بعد فوج. وقيل: مختلفة، هذه مقبلة وهذه مدبرة، وهذه صاعدة وهذه نازلة. (عن شرح المعلقات).
242
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) قَالَ الْفَرَّاءُ: لُوطٌ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا أَلْيَطُ بِقَلْبِي، أَيْ أَلْصَقُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ- يَعْنِي الْفَرَّاءَ- أَنَّ لُوطًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ لُطْتُ إِذَا مَلَّسْتُهُ بِالطِّينِ. قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ لَا تُشْتَقُّ كَإِسْحَاقَ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ السُّحْقِ وَهُوَ الْبُعْدُ. وَإِنَّمَا صُرِفَ لُوطٌ لِخِفَّتِهِ «١» لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ وَهُوَ سَاكِنُ الْوَسَطِ. قَالَ النَّقَّاشُ: لُوطٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ وَلَيْسَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ. فَأَمَّا لُطْتُ الْحَوْضَ، وَهَذَا أَلْيَطُ بِقَلْبِي مِنْ هَذَا، فَصَحِيحٌ. وَلَكِنَّ الِاسْمَ أَعْجَمِيٌّ كَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: نُوحٌ وَلُوطٌ أَسْمَاءٌ أَعْجَمِيَّةٌ، إِلَّا أَنَّهَا خَفِيفَةٌ فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ. بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أُمَّةٍ تُسَمَّى سَدُومُ، وَكَانَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَنَصْبُهُ إِمَّا بِ" أَرْسَلْنا" الْمُتَقَدِّمَةِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِمَعْنَى وَاذْكُرْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) يَعْنِي إِتْيَانَ الذُّكُورِ. ذَكَرَهَا اللَّهُ بِاسْمِ الْفَاحِشَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا زِنًى، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «٢» ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُرْجَمُ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ. وَكَذَلِكَ يُرْجَمُ الْمَفْعُولُ بِهِ إِنْ كَانَ مُحْتَلِمًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: يُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: يعزر الْمُحْصَنُ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى قِيَاسًا عَلَيْهِ. احْتَجَّ مَالِكٌ بقول تَعَالَى:" وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ". فَكَانَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ وَجَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا- أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ إِنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ كَسَائِرِ الْأُمَمِ. الثَّانِي- أَنَّ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ دَخَلَ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ بَابِ الْحُدُودِ. قِيلَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَغَلَطٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أخبر عنهم أنهم كانوا على معاصي فَأَخَذَهُمْ بِهَا، مِنْهَا هَذِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَانَ مِنْهُمْ فَاعِلٌ وَكَانَ مِنْهُمْ رَاضٍ، فَعُوقِبَ الْجَمِيعُ لِسُكُوتِ الْجَمَاهِيرِ عَلَيْهِ. وَهِيَ حِكْمَةُ اللَّهِ وَسُنَّتُهُ في عباده.
(١). من ب وج ك وى وز.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٥٣ وص ٤٢ وج ٩ ص ٨١.
243
وَبَقِيَ أَمْرُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفَاعِلِينَ مُسْتَمِرًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ). لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ. وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ قَالَ: يُرْجَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ رَجُلًا يُسَمَّى الْفُجَاءَةَ حِينَ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِالنَّارِ. وَهُوَ رَأْيُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ بِالنَّارِ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَرَّقَ بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَأَحْرَقَهُ. ثُمَّ أَحْرَقَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ. ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ. ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً أُخِذُوا فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي لِوَاطٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَوَجَدَ أَرْبَعَةً قَدْ أَحْصَنُوا فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجُوا (بِهِمْ»
) مِنْ الْحَرَمِ فَرُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتُوا، وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ، وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ، فَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا. وَتَعَلَّقَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَنْ قَالُوا: عُقُوبَةُ الزِّنَى مَعْلُومَةٌ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ غَيْرَهَا وَجَبَ أَلَّا يُشَارِكَهَا فِي حَدِّهَا. وَيَأْثِرُونَ «٢» فِي هَذَا حَدِيثًا: (مَنْ وَضَعَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ). وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْلَالٌ وَلَا إِحْصَانٌ، وَلَا وُجُوبَ مَهْرٍ وَلَا ثُبُوتَ نَسَبٍ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَدٌّ. الثَّالِثَةُ- فَإِنْ أَتَى بَهِيمَةً فَقَدْ قِيلَ: لَا يُقْتَلُ هُوَ وَلَا الْبَهِيمَةُ. وَقِيلَ: يُقْتَلَانِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ مَعَهُ). فَقُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ قَالَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا وَقَدْ عُمِلَ بِهَا ذَلِكَ الْعَمَلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنْ يَكُ الْحَدِيثُ ثابتا فالقول «٣» به
(١). كذا في ب وج وك. وفى ز: فأخرجوا بهم.
(٢). في ز: يرون.
(٣). في ج وز: فالعمل.
244
يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَإِنْ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ كَانَ حَسَنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَتْلَ الْبَهِيمَةِ لِئَلَّا تُلْقِي خَلْقًا مُشَوَّهًا، فَيَكُونُ قَتْلُهَا مَصْلَحَةً لِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ مَا جَاءَ مِنَ السُّنَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الَّذِي زَنَى بِالْبَهِيمَةِ حَدٌّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَكَمُ: أَرَى أَنْ يُجْلَدَ وَلَا يُبْلَغَ بِهِ الْحَدُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُجْلَدُ مِائَةً أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يُعَزَّرُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ «١» عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا أَشْبَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَهِيمَةُ لَهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) " مِنْ" لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، أَيْ لَمْ يَكُنِ اللِّوَاطُ فِي أُمَّةٍ قَبْلَ «٢» قَوْمِ لُوطٍ. وَالْمُلْحِدُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَالصِّدْقُ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ أَصْلَ عَمَلِهِمْ بِأَنْ دَعَاهُمْ إِلَى نَفْسِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَكَانَ يَنْكِحُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْغُرَبَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بن سيرين: ليس شي مِنَ الدَّوَابِّ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِلَّا الخنزير والحمار.
[سورة الأعراف (٧): آية ٨١]
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ) قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَلَى الْخَبَرِ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ، تَفْسِيرًا لِلْفَاحِشَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمْ يَحْسُنْ إِدْخَالُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ مَا بَعْدَهُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا قبله وبعده «٣» كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وغيرهما، واحتجوا بقوله عز وجل:
(١). في ب وج وز وك: الروايات.
(٢). في ج: غير.
(٣). كذا في الأصول والعبارة غير واضحة. [..... ]
" أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «١» " وَلَمْ يَقُلْ أَفَهُمْ. وَقَالَ:" أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ «٢» " وَلَمْ يَقُلْ أَنْقَلَبْتُمْ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ لِأَنَّهُمَا شَبَّهَا شَيْئَيْنِ بِمَا لَا يَشْتَبِهَانِ، لأن الشرط وجوابه بمنزلة شي وَاحِدٍ كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا اسْتِفْهَامَانِ. فَلَا يَجُوزُ: أَفَإِنْ مِتَّ أَفَهُمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَزَيْدٌ أَمُنْطَلِقٌ. وَقِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا جُمْلَتَانِ، فَلَكَ أَنْ تَسْتَفْهِمَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ وَغَيْرُهُمَا" شَهْوَةً" نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ تَشْتَهُونَهُمْ شَهْوَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ." بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ" نَظِيرُهُ" بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ «٣» " في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨٢ الى ٨٣]
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) أَيْ لُوطًا وَأَتْبَاعَهُ. وَمَعْنَى (يَتَطَهَّرُونَ) عَنِ الْإِتْيَانِ فِي هَذَا الْمَأْتَى. يُقَالُ: تَطَهَّرَ الرَّجُلُ أَيْ تَنَزَّهَ عَنِ الْإِثْمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ وَاللَّهِ بِغَيْرِ عَيْبٍ. (مِنَ الْغابِرِينَ) أَيِ الباقين في عذاب الله، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. غَبَرَ الشَّيْءُ إِذَا مَضَى، وَغَبَرَ إِذَا بَقِيَ. وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَاضِي عَابِرٌ بِالْعَيْنِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ. وَالْبَاقِي غَابِرٌ بَالْغَيْنِ مُعْجَمَةٍ. حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي «٤» الْمُجْمَلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" مِنَ الْغابِرِينَ" أَيْ مِنَ الْغَائِبِينَ عَنِ النَّجَاةِ وَقِيلَ: لِطُولِ عُمْرِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مِنَ الْمُعَمِّرِينَ، أَيْ إِنَّهَا قَدْ هَرِمَتْ. وَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ الْغَابِرُ الْبَاقِيَ، قَالَ الرَّاجِزُ:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ لَهُ الإله ما مضى وما غبر
[سورة الأعراف (٧): آية ٨٤]
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
(١). راجع ج ١١ ص ٢٨٧.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٢٦.
(٣). راجع ج ١٣ ص ١٣٢.
(٤). من ب وج وز وك.
" من الغابرين " أي الباقين في عذاب الله، قاله ابن عباس وقتادة. غبر الشيء إذا مضى، وغبر إذا بقي. وهو من الأضداد. وقال قوم : الماضي عابر بالعين غير معجمة. والباقي غابر بالغين معجمة. حكاه ابن فارس في المجمل١. وقال الزجاج :" من الغابرين " أي من الغائبين عن النجاة وقيل : لطول عمرها. قال النحاس : وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من المعمرين، أي أنها قد هرمت. والأكثر في اللغة أن يكون الغابر الباقي، قال الراجز :
فما وَنَى محمدٌ مذ أن غَفَرْ له الإلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ
١ من ب و ج و ز و ك..
سرى لوط بأهله كما وصف الله " بقطع من الليل١ " [ هود : ٨١ ] ثم أمر جبريل، عليه السلام فأدخل جناحه تحت مدائنهم فاقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها، وأمطرت عليهم حجارة من سجيل، قيل : على من غاب منهم. وأدرك امرأة لوط، وكانت معه حجر فقتلها. وكانت فيما ذكر أربع قرى. وقيل : خمس فيها أربعمائة ألف. وسيأتي في سورة " هود٢ " قصة لوط بأبين من هذا، إن شاء الله تعالى.
١ راجع ج ٩ ص ٨٤ فما بعد..
٢ راجع ج ٩ ص ٨٤ فما بعد..
سَرَى لُوطٌ بِأَهْلِهِ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ" بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ «١» " ثُمَّ أُمِرَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَدْخَلَ جَنَاحَهُ تَحْتَ مَدَائِنِهِمْ فَاقْتَلَعَهَا وَرَفَعَهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ وَنُبَاحَ الْكِلَابِ، ثُمَّ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ، قِيلَ: عَلَى مَنْ غَابَ مِنْهُمْ. وَأَدْرَكَ امْرَأَةَ لُوطٍ، وَكَانَتْ مَعَهُ حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. وَكَانَتْ فِيمَا ذُكِرَ أَرْبَعَ قُرًى. وَقِيلَ: خَمْسٌ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" هُودٍ «٢» " قِصَّةُ لُوطٍ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ شَاءَ الله تعالى.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨٥ الى ٨٧]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلى مَدْيَنَ) قِيلَ فِي مَدْيَنَ: اسْمُ بَلَدٍ وَقُطْرٍ. وَقِيلَ: اسْمُ قَبِيلَةٍ كَمَا يُقَالُ: بَكْرٍ وَتَمِيمٍ. وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَدْيَنَ اسْمُ رَجُلٍ لَمْ يَصْرِفْهُ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ أَعْجَمِيٌّ. وَمَنْ رَآهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ أَوِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَحْرَى بِأَلَّا يَصْرِفَهُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ بِنْتِ لُوطٍ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: كَانَ زَوْجَ بِنْتِ لُوطٍ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: وَشُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ ميكيل بن يشجر
(١). راجع ج ٩ ص ٨٤. فما بعد.
(٢). راجع ج ٩ ص ٨٤. فما بعد.
247
ابن مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ بَيْرُوتَ. وَأُمُّهُ مِيكَائِيلُ بِنْتُ لُوطٍ. وَزَعَمَ الشرقي بن القطامي أن شعيبا بن عَيْفَاءَ بْنِ يَوْبَبَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وزعم ابن سمعان أن شعيبا بن جَزَى بْنِ يَشْجُرَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَشُعَيْبٌ تَصْغِيرُ شَعْبٍ أَوْ شِعْبٍ «١». وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شُعَيْبُ بْنُ يَوْبَبَ «٢». وَقِيلَ: شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ عَيْفَاءَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ «٣». وَاللَّهُ أعلم. وكان أعمى «٤»، ولذلك قَالَ قَوْمُهُ:" وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً «٥» ". وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ. وَكَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ كُفْرٍ بِاللَّهِ وَبَخْسٍ لِلْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ بَيَانٌ، وَهُوَ مَجِيءُ شُعَيْبٍ بِالرِّسَالَةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُعْجِزَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مُعْجِزَتُهُ فِيمَا ذَكَرَ الْكِسَائِيُّ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) الْبَخْسُ النَّقْصُ. وَهُوَ يَكُونُ فِي السِّلْعَةِ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ فِيهَا، أَوِ الْمُخَادَعَةِ عَنِ الْقِيمَةِ، وَالِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّالِفَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ «٦») وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) عَطْفٌ عَلَى" وَلا تَبْخَسُوا". وَهُوَ لَفْظٌ يَعُمُّ دَقِيقَ الْفَسَادِ وَجَلِيلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْأَرْضُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا رَسُولًا يُعْمَلُ فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَتُسْتَحَلُّ فِيهَا الْمَحَارِمُ وَتُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ. قَالَ: فَذَلِكَ فَسَادُهَا. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ صَلَحَتِ الْأَرْضُ. وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ فَهُوَ صَلَاحُهُمْ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) نَهَاهُمْ عَنِ الْقُعُودِ بِالطُّرُقِ وَالصَّدِّ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانُوا يُوعِدُونَ الْعَذَابَ مَنْ آمَنَ. وَاخْتَلَفَ العلماء
(١). في شرح القاموس: تصغير شعب أو أشعب: كما قالوا في تصغير أسود سويد.
(٢). في ع: ثويب.
(٣). وردت هذه الأسماء مضطربة في نسخ الأصل وفى المصادر التي بين أيدينا. ولم نوفق لضبطها.
(٤). ليس رسول من الله أعمى وإنما شعيب الرجل الصالح صاحب موسى هو فيما قيل أعمى وبينهما ثلاثمائة سنة إذ عصمة الأنبياء تنافى ما ينفر من الصفات. مصححة.
(٥). راجع ج ٩ ص ٨٤.
(٦). من ع.
248
فِي مَعْنَى قُعُودِهِمْ عَلَى الطُّرُقِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانُوا يَقْعُدُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى شُعَيْبٍ فَيَتَوَعَّدُونَ مَنْ أَرَادَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ وَيَصُدُّونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ كَذَّابٌ فَلَا تَذْهَبْ إِلَيْهِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا نَهْيٌ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ «١»، وَأَخْذِ السَّلَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي خَشَبَةً عَلَى الطَّرِيقِ لَا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شي إِلَّا خَرَقَتْهُ فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا مَثَلٌ لِقَوْمٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهُ (- ثُمَّ تَلَا-" وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ" الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي اللُّصُوصِ وَالْمُحَارَبِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ «٢». وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: كَانُوا عَشَّارِينَ مُتَقَبِّلِينَ. وَمِثْلُهُمُ الْيَوْمَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسُونَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مَا لَا يَلْزَمُهُمْ شَرْعًا مِنَ الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ، فَضَمِنُوا مَا لَا يَجُوزُ ضَمَانُ أَصْلِهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْمَلَاهِي. وَالْمُتَرَتِّبُونَ فِي الطُّرُقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ كَثُرَ فِي الْوُجُودِ وَعُمِلَ بِهِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ. وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِهَا وَأَفْحَشِهَا، فَإِنَّهُ غَصْبٌ وَظُلْمٌ وَعَسْفٌ عَلَى النَّاسِ وَإِذَاعَةٌ لِلْمُنْكَرِ وَعَمَلٌ بِهِ وَدَوَامٌ عَلَيْهِ وَإِقْرَارٌ لَهُ، وَأَعْظَمُهُ تَضْمِينُ الشَّرْعِ وَالْحُكْمِ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا رَسْمُهُ، وَلَا مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ. يُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ فِي شَأْنِ الْمَالِ فِي الْمَوَازِينِ وَالْأَكْيَالِ وَالْبَخْسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ آمَنَ بِهِ) الضَّمِيرُ فِي" بِهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى شُعَيْبٍ فِي قَوْلِ مَنْ رَأَى الْقُعُودَ عَلَى الطَّرِيقِ لِلصَّدِّ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى السَّبِيلِ." عِوَجاً" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: كَسْرُ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي. وَفَتْحُهَا فِي الْأَجْرَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أَيْ كَثَّرَ عَدَدَكُمْ، أَوْ كَثَّرَكُمْ بِالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ. أَيْ كُنْتُمْ فُقَرَاءَ فَأَغْنَاكُمْ." فَاصْبِرُوا" لَيْسَ هَذَا أَمْرًا بِالْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ. وَقَالَ: (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ) فَذَكَّرَ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ رَاعَى «٣» اللفظ قال: كانت.
(١). في ب وج وك: الطرق.
(٢). راجع ج ٦ ص ١٤٧ فما بعد. [..... ]
(٣). الأولى: روعي لقيل.
249

[سورة الأعراف (٧): الآيات ٨٨ الى ٨٩]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَمَعْنَى" أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا" أَيْ لَتَصِيرُنَّ إِلَى مِلَّتِنَا وَقِيلَ: كَانَ أَتْبَاعُ شُعَيْبٍ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِهِ عَلَى الْكُفْرِ أَيْ لَتَعُودُنَّ إِلَيْنَا كَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، يُقَالُ: عَادَ إِلَيَّ مِنْ فُلَانٍ مَكْرُوهٌ، أَيْ صَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَهُ مَكْرُوهٌ قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ لَحِقَنِي ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أَيْ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ تَجْبُرُونَنَا عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ أَوِ الْعَوْدِ فِي مِلَّتِكُمْ. أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ هَذَا أَتَيْتُمْ عَظِيمًا. (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها) إِيَاسٌ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِلَّتِهِمْ. (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَيْ وَمَا يَقَعُ مِنَّا الْعَوْدُ إِلَى الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَشَاءُ اللَّهُ ذَلِكَ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ هُنَا عَلَى جِهَةِ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ:" وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ «١» ". وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ" وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا". وقيل: هو كقولك ألا أُكَلِّمُكَ حَتَّى يَبْيَضَّ الْغُرَابُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. وَالْغُرَابُ لَا يَبْيَضُّ أَبَدًا، والجمل لا يلج (فِي سَمِّ الْخِياطِ «٢»).
(١). راجع ج ٩ ص ٨٤.
(٢). من ز.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أَيْ عَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ." عِلْماً" نصب على التمييز." وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها" أَيْ فِي الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنْ كَرِهْتُمْ مُجَاوَرَتَنَا، بَلْ نَخْرُجُ مِنْ قَرْيَتِكُمْ مُهَاجِرِينَ إِلَى غَيْرِهَا." إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" رَدَّنَا إِلَيْهَا. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَادَ لِلْقَرْيَةِ وَلَا يُقَالُ عَادَ فِي الْقَرْيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) أَيِ اعْتَمَدْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «١». (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) قَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أُمَّتَيْنِ: أَهْلِ مَدْيَنَ، وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ «٢». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ شُعَيْبٌ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا (طَالَ «٣») تَمَادِي قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَغَيِّهِمْ، وَيَئِسَ مِنْ صَلَاحِهِمْ، دَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ «٤» " فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَأَهْلَكَهُمْ بالرجفة.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أَيْ قَالُوا لِمَنْ دُونَهُمْ. (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أَيْ هَالِكُونَ. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أَيِ الزَّلْزَلَةُ. وَقِيلَ: الصَّيْحَةُ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُهْلِكُوا بِالظُّلَّةِ «٥»، عَلَى مَا يَأْتِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: قِيلَ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيِ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا صاروا كأنهم لم يزالوا موتى." يَغْنَوْا" يقيموا، يقال:
(١). راجع ج ٤ ص ١٨٩.
(٢). الأيكة: الشجر الكثير الملتف.
(٣). من ب وج وك.
(٤). قال الفراء: فتح بمعنى حكم بلغة أهل عمان: الطبري.
(٥). الظلة: سحابة فيها نار أمطرتهم بها. وقيل: سموم. راجع ج ١٣ ص ١٣٥.
غَنَيْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَمْتُ بِهِ. وَغَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ أَيْ طَالَ مُقَامُهُمْ فِيهَا. وَالْمَغْنَى: المنزل، والجمع المغاني. قال لبيد:
وعنيت سِتًّا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ لَوْ كَانَ لِلنَّفْسِ اللجوج خلود
وقال حاتم طيّ:
غَنِينَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى (كَمَا الدَّهْرُ فِي أَيَّامِهِ الْعُسْرُ وَالْيُسْرُ) «١»
(كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِينًا وَغِلْظَةً «٢») وَكُلًّا سَقَانَاهُ بِكَأْسِهِمَا الدَّهْرُ
فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ غِنَانَا وَلَا أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) ابْتِدَاءُ خِطَابٍ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأم وَتَفْخِيمِهِ. وَلَمَّا قَالُوا: مَنِ اتَّبَعَ شُعَيْبًا خَاسِرٌ قَالَ اللَّهُ الْخَاسِرُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ. (فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أَيْ أَحْزَنُ. أَسَيْتُ عَلَى الشَّيْءِ آسَى (أَسًى «٣»)، وَأَنَا آس.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) فِيهِ إِضْمَارٌ، وَهُوَ فَكَذَّبَ أَهْلُهَا. إِلَّا أَخَذْنَاهُمْ. (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «٤». (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أَيْ أَبْدَلْنَاهُمْ بِالْجَدْبِ خِصْبًا. حَتَّى عَفَوْا أَيْ كَثُرُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. وَعَفَا: مِنَ الْأَضْدَادِ: عَفَا: كَثُرَ. وَعَفَا: دَرَسَ. أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ فَلَمْ يَزْدَجِرُوا وَلَمْ يَشْكُرُوا. وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَنَحْنُ مِثْلُهُمْ. فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً ليكون أكثر حسرة.
(١). التكملة عن ديوان حاتم.
(٢). من ب وج وك.
(٣). من ب وج وك.
(٤). راجع ج ٢ ص ٢٤٣.

[سورة الأعراف (٧): آية ٩٦]

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) يُقَالُ لِلْمَدِينَةِ قَرْيَةٌ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا. مِنْ قَرَيْتُ الْمَاءَ إِذَا جَمَعْتُهُ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى»
. (آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا. (وَاتَّقَوْا) أَيِ الشِّرْكَ. (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يَعْنِي الْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ. وَهَذَا فِي أَقْوَامٍ عَلَى الْخُصُوصِ جَرَى ذِكْرُهُمْ. إِذْ قَدْ يُمْتَحَنُ الْمُؤْمِنُونَ بِضِيقِ الْعَيْشِ وَيَكُونُ تَكْفِيرًا لِذُنُوبِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ" اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «٢» " وَعَنْ هُودٍ" ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «٣» ". فَوَعَدَهُمُ الْمَطَرَ وَالْخِصْبَ عَلَى التَّخْصِيصِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أَيْ كذبوا الرسل. والمؤمنون صدقوا ولم يكذبوا.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٩٧ الى ٩٨]
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءِ لِلْعَطْفِ. نَظِيرُهُ:" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ «٤» ". وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْقُرَى. (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أَيْ عَذَابُنَا. (بَياتاً) أَيْ لَيْلًا (وَهُمْ نائِمُونَ) (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) قَرَأَهُ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ بِإِسْكَانِ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ، عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، مِثْلَ" وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «٥» ". جَالِسْ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ. وَالْمَعْنَى: أَوْ أَمِنُوا هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ. أَيْ إِنْ أَمِنْتُمْ ضَرْبًا مِنْهَا لَمْ تأمنوا الآخر.
(١). راجع ج ١ ص ٤٩.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٣٠١. [..... ]
(٣). راجع ج ٩ ص ٥٠.
(٤). راجع ج ٦ ص ٢١٤.
(٥). راجع ١٩ ص ١٤٦.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" أَوْ" لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا. جَعَلَهَا وَاوَ الْعَطْفِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا ألف الاستفهام، نظيره" أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً «١» ". ومعنى (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أَيْ وَهُمْ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ، يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِيمَا يَضُرُّهُ ولا يجدي عليه لاعب، ذكر النَّحَّاسُ. وَفِي الصِّحَاحِ. اللَّعِبُ مَعْرُوفٌ، وَاللِّعْبُ مِثْلُهُ. وَقَدْ لَعِبَ يَلْعَبُ. وَتَلَعَّبَ: (لَعِبَ «٢») مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَرَجُلٌ تِلْعَابَةٌ: كَثِيرُ اللَّعِبِ، وَالتَّلْعَابُ «٣» (بِالْفَتْحِ) المصدر. وجارية لعوب.
[سورة الأعراف (٧): آية ٩٩]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) أَيْ عَذَابَهُ وَجَزَاءَهُ عَلَى مَكْرِهِمْ. وَقِيلَ: مكره استدراجه بالنعمة والصحة.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٠٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَهْدِ) أَيْ يُبَيَّنْ. (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) يريد كفار مكة ومن حولهم. (أَصَبْناهُمْ) أي أخذناهم (بذنبهم) أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. (وَنَطْبَعُ) أَيْ وَنَحْنُ نَطْبَعُ، فَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَصَبْنَا، نصيبهم ونطبع، فوقع الماضي موقع المستقبل.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٠١]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)
(١). راجع ج ٢ ص ٣٩.
(٢). زيادة عن كتب اللغة.
(٣). في ب: تلعابة.
قوله تعالى :" أولم يهد " أي يبين. " للذين يرثون الأرض " يريد كفار مكة ومن حولهم. " أصبناهم " أي أخذناهم " بذنوبهم " أي بكفرهم وتكذيبهم. " ونطبع " أي ونحن نطبع، فهو مستأنف. وقيل : هو معطوف على أصبنا، أي نصيبهم ونطبع، فوقع الماضي موقع المستقبل.
قوله تعالى :" تلك القرى " أي هذه القرى التي أهلكناها، وهي قرى نوح وعاد١ ولوط وهود وشعيب المتقدمة الذكر. " نقص " أي نتلو. " عليك من أنبائها " أي من أخبارها. وهي تسلية للنبي عليه السلام والمسلمين. " فما كانوا ليؤمنوا " أي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بعد هلاكهم لو أحييناهم، قاله مجاهد. نظيره " ولو ردوا لعادوا٢ " [ الأنعام : ٢٨ ]. وقال ابن عباس والربيع : كان في علم الله تعالى يوم أخذ عليهم الميثاق أنهم لا يؤمنون بالرسل. " بما كذبوا من قبل " يريد يوم الميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها لا طوعا. قال السدي : آمنوا يوم أخذ عليهم الميثاق كرها فلم يكونوا ليؤمنوا الآن حقيقة. وقيل : سألوا المعجزات، فلما رأوها ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤية المعجزة٣. نظيره " كما لم يؤمنوا به أول مرة٤ ". [ الأنعام : ١١٠ ]. " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " أي مثل طبعه على قلوب هؤلاء المذكورين كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
١ في ج: نوح وعاد ولوط وشعيب..
٢ راجع ج ٦ ص ٤١٠..
٣ في ب و ج و ك : المعجزات..
٤ راجع ص ٦٥. من هذا الجزء..
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الْقُرى) أَيْ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا، وَهِيَ قُرَى نُوحٍ وَعَادٍ «١» وَلُوطٍ وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ الْمُتَقَدِّمَةُ الذِّكْرِ. (نَقُصُّ) أَيْ نَتْلُو. (عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا. وَهِيَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أَيْ فَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ لِيُؤْمِنُوا بعد هلاكهم لأحييناهم، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. نَظِيرُهُ" وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا «٢» ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ. (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ يَوْمَ الْمِيثَاقِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَآمَنُوا كَرْهًا لَا طَوْعًا. قَالَ السُّدِّيُّ: آمَنُوا يَوْمَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ كَرْهًا فَلَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا الْآنَ حَقِيقَةً. وَقِيلَ: سَأَلُوا الْمُعْجِزَاتِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ رُؤْيَةِ الْمُعْجِزَةِ «٣». نَظِيرُهُ" كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «٤» ". (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أَيْ مِثْلَ طَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٠٢]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ)." مِنْ" زَائِدَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ، وَلَوْلَا" مِنْ" لَجَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْعَهْدَ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ وَقْتَ الذَّرِّ، وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ، أَيْ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَهْدُ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُنْقَسِمُونَ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ مَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا وَفَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَمَانَةٌ مَعَ كُفْرِهِ وَإِنْ قَلُّوا، رُوِيَ عَنْ أبي عبيدة.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٠٣]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)
(١). في ج: نوح وعاد ولوط وشعيب.
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٠.
(٣). في ب وج وك: المعجزات.
(٤). راجع ص ٦٥ من هذا الجزء.
قوله تعالى :" ثم بعثنا من بعدهم " أي من بعد نوح وهود١ وصالح ولوط وشعيب. " موسى " أي موسى بن عمران. " بآياتنا " بمعجزاتنا. " فظلموا بها " أي كفروا ولم يصدقوا بالآيات. والظلم : وضع الشيء في غير موضعه. " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " أي آخر أمرهم.
١ كذا في ع: وفي بقية الأصول: ثمود..
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أَيْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَهُودٍ «١» وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ. (مُوسى) أي موسى بن عمران (بِآياتِنا) أي بِمُعْجِزَاتِنَا. (فَظَلَمُوا بِها) أَيْ كَفَرُوا وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالْآيَاتِ. وَالظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. قوله تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ آخِرَ أمرهم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٠٤ الى ١١٢]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
حَقِيقٌ عَلى «٢» أَيْ وَاجِبٌ. وَمَنْ قَرَأَ" عَلَى أَلَّا" فَالْمَعْنَى حَرِيصٌ عَلَى أَلَّا أَقُولَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" حَقِيقٌ أَلَّا أَقُولَ" بِإِسْقَاطِ" عَلَى". وَقِيلَ:" عَلى " بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ حَقِيقٌ بِأَلَّا أَقُولَ. وَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَالْأَعْمَشِ" بِأَلَّا أَقُولَ". كَمَا تَقُولُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ وَعَلَى الْقَوْسِ. فَ" حَقِيقٌ" على هذا بمعنى محقوق. ومعنى" فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ" أَيْ خَلِّهِمْ. وَكَانَ يَسْتَعْمِلُهُمْ «٣» فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. (فَأَلْقى عَصاهُ) يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْمَعَانِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٤». وَالثُّعْبَانُ: الْحَيَّةُ الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات. (مبين)
(١). كذا في ع. وفى بقية الأصول: نمود.
(٢). قراءة نافع.
(٣). في ع: يشغلهم.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٣٢. [..... ]
256
" أَيْ حَيَّةٌ لَا لَبْسَ فِيهَا. (وَنَزَعَ يَدَهُ) أَيْ أَخْرَجَهَا وَأَظْهَرَهَا. قِيلَ: مِنْ جَيْبِهِ أَوْ مِنْ جَنَاحِهِ كَمَا فِي التَّنْزِيلِ (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «١») أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وَكَانَ مُوسَى أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ، ثُمَّ أَعَادَ يَدَهُ إِلَى جَيْبِهِ فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كان ليده نور ساطع يضئ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانَتْ تَخْرُجُ يَدُهُ بَيْضَاءَ كَالثَّلْجِ تَلُوحُ، فَإِذَا رَدَّهَا عَادَتْ إِلَى مِثْلِ سَائِرِ بَدَنِهِ. وَمَعْنَى (عَلِيمٌ) أَيْ بِالسِّحْرِ. (مِنْ أَرْضِكُمْ) أَيْ مِنْ مُلْكِكُمْ مَعَاشِرَ القبط، بتقديمه بني إسرائيل عليكم. (فَماذا تَأْمُرُونَ) أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَأِ، أَيْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ وَحْدَهُ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. كَمَا يُخَاطَبُ الْجَبَّارُونَ وَالرُّؤَسَاءُ: مَا تَرَوْنَ فِي كَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. وَ" مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنَّ" ذَا" بِمَعْنَى الَّذِي. وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّ" مَا" وَ" ذَا" شي وَاحِدٌ. (قالُوا أَرْجِهْ) قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ والكسائي بغير حمزة، إِلَّا أَنَّ وَرْشًا وَالْكِسَائِيَّ أَشْبَعَا كَسْرَةَ الْهَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَالْهَاءُ مَضْمُومَةٌ. وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: أَرْجَأْتُهُ وَأَرْجَيْتُهُ، أَيْ أَخَّرْتُهُ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَشْبَعُوا ضَمَّةَ الْهَاءِ. وَقَرَأَ سَائِرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ" أَرْجِهْ" بِإِسْكَانِ الْهَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ لِلْعَرَبِ، يَقِفُونَ عَلَى الْهَاءِ الْمُكَنَّى عَنْهَا فِي الْوَصْلِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، وَكَذَا هَذِهْ طَلْحَةُ قَدْ أَقْبَلَتْ. وَأَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ هَذَا. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى" أَرْجِهْ" احْبِسْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخِّرْهُ. وَقِيلَ:" أَرْجِهْ" مَأْخُوذٌ مِنْ رَجَا يَرْجُو، أَيْ أَطْمِعْهُ وَدَعْهُ يَرْجُو، حَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ. وَكَسْرُ الْهَاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ. وَيَجُوزُ ضَمُّهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَإِسْكَانُهَا لَحْنٌ «٢» لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي شُذُوذٍ مِنَ الشِّعْرِ. (وَأَخاهُ) عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ. (حاشِرِينَ) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. (يَأْتُوكَ) جَزْمٌ، لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا" بِكُلِّ سَحَّارٍ" وَقَرَأَ سَائِرُ النَّاسِ" ساحِرٍ" وهما متقاربان، إلا أفعالا أشد مبالغة.
(١). راجع ج ١٣ ص ١٥٦.
(٢). كذا في الأصول وإعراب القرآن للنحاس. ويلاحظ أنها قراءة أهل الكوفة.
257

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١١٣ الى ١١٤]

وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) وَحُذِفَ ذِكْرُ الْإِرْسَالِ لِعِلْمِ السَّامِعِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ عِشْرُونَ عَرِيفًا، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ عَرِيفٍ أَلْفُ سَاحِرٍ. وَكَانَ رَئِيسَهُمْ شَمْعُونُ فِي قَوْلِ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ مِنَ الْعَرِيشِ وَالْفَيُّومِ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَثْلَاثًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، وَرُوِيَ عَنْ وَهْبٍ. وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الرِّيفِ، وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الصَّعِيدِ، وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الْفَيُّومِ وَمَا وَالَاهَا. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا. وَقِيلَ: ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ مَعَهُمْ فِيمَا رُوِيَ حِبَالٌ وَعِصِيٌّ يَحْمِلُهَا ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ. فَالْتَقَمَتِ الْحَيَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ إِذَا فَتَحَتْ فَاهَا صَارَ شِدْقُهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَاضِعَةً فَكَّهَا الْأَسْفَلَ عَلَى الْأَرْضِ، وَفَكَّهَا الْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ. وَقِيلَ: كَانَ سِعَةُ فَمِهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَصَدَتْ فِرْعَوْنَ لِتَبْتَلِعَهُ، فَوَثَبَ مِنْ سَرِيرِهِ فَهَرَبَ مِنْهَا وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى، فَأَخَذَهَا فَإِذَا هِيَ عَصًا كَمَا كَانَتْ. قَالَ وَهْبٌ: مَاتَ مِنْ خَوْفِ الْعَصَا خَمْسَةٌ وعشرون ألفا. (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) أَيْ جَائِزَةً وَمَالًا. وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا بِالْفَاءِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ لَمَّا جَاءُوا قَالُوا. وقرى" إِنَّ لَنَا" عَلَى الْخَبَرِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. أَلْزَمُوا فِرْعَوْنَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مالا إن غلبوا. فقال لهم فرعون: (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أَيْ لَمِنْ أَهْلِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ لَدَيْنَا، فَزَادَهُمْ عَلَى مَا طَلَبُوا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا قَطَعُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي حُكْمِهِمْ إِنْ غَلَبُوا. أَيْ قَالُوا: يَجِبُ لَنَا الْأَجْرُ إِنْ غَلَبْنَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِخْبَارِ. اسْتَخْبَرُوا فِرْعَوْنَ: هَلْ يَجْعَلُ لَهُمْ أَجْرًا إِنْ غَلَبُوا أَوْ لَا، فَلَمْ يَقْطَعُوا عَلَى فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا اسْتَخْبَرُوهُ هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ" نَعَمْ" لَكُمُ الْأَجْرُ وَالْقُرْبُ إن غلبتم.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١١٥ الى ١١٧]

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧)
تَأَدَّبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، عَلَى مَعْنَى إِمَّا أَنْ تَفْعَلَ الْإِلْقَاءَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَالُوا الرُّكُوبَ فَقُلْنَا تِلْكَ عَادَتُنَا «١»
قَالَ أَلْقُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَالْمَعْنَى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى إِنَّكُمْ لَنْ تَغْلِبُوا رَبَّكُمْ وَلَنْ تُبْطِلُوا آيَاتِهِ. وَهَذَا مِنْ مُعْجِزِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِي مِثْلُهُ فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. يَأْتِي اللَّفْظُ الْيَسِيرُ بِجَمْعِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ تهديد. أي ابتدءوا بِالْإِلْقَاءِ، فَسَتَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الِافْتِضَاحِ، إذا لَا يَجُوزُ عَلَى مُوسَى أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسِّحْرِ. وَقِيلَ: أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِيُبَيِّنَ كَذِبَهُمْ وَتَمْوِيهَهُمْ. (فَلَمَّا أَلْقَوْا) أَيِ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أَيْ خَيَّلُوا لَهُمْ وَقَلَبُوهَا عَنْ صِحَّةِ إِدْرَاكِهَا، بِمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ التَّمْوِيهِ الَّذِي جَرَى مَجْرَى الشَّعْوَذَةِ وَخِفَّةِ الْيَدِ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «٢» بَيَانُهُ. وَمَعْنَى (عَظِيمٍ) أَيْ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا وَلَيْسَ بِعَظِيمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الِاجْتِمَاعُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَبَلَغَ ذَنَبُ الْحَيَّةِ وَرَاءَ الْبُحَيْرَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفَتَحَتْ فَاهَا فَجَعَلَتْ تَلْقَفُ- أَيْ تَلْتَقِمُ- مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ مَا أَلْقَوْا حِبَالًا مِنْ أَدَمٍ فِيهَا زِئْبَقٌ فَتَحَرَّكَتْ وَقَالُوا هَذِهِ حَيَّاتٌ. وَقَرَأَ حَفْصٌ" تَلْقَفُ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالتَّخْفِيفِ. جَعَلَهُ مُسْتَقْبَلَ لَقِفَ يَلْقَفُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ" تِلْقَفُ" لِأَنَّهُ مِنْ لَقِفَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ اللَّامِ، وَجَعَلُوهُ مُسْتَقْبَلَ تَلَقَّفُ، فَهِيَ تَتَلَقَّفُ. يُقَالُ: لَقِفْتُ الشَّيْءَ وَتَلَقَّفْتُهُ إِذَا أخذته أو بلعته. تلقف وتلقم
(١). هذا صدر بيت وتمامه: أو النزول فإنا معشر نزل. في ب: فقلت تلك.
(٢). راجع ج ٢ ص ٤٣.
وَتَلْهَمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَبَلَغَنِي فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ" تَلَقَّمَ" بِالْمِيمِ وَالتَّشْدِيدِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنْتَ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ تَلْقَمُ مَا يَأْفِكُهُ السَّاحِرُ
وَيُرْوَى: تَلَقَّفُ. (مَا يَأْفِكُونَ) أَيْ مَا يَكْذِبُونَ، لِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِحِبَالٍ وجعلوا فيها زئبقا حتى، تحركت.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١١٨ الى ١٢٢]
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَقَعَ الْحَقُّ) قَالَ مُجَاهِدٌ: فَظَهَرَ الْحَقُّ. (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وَصِغَرًا وَصَغَارًا «١». أَيِ انْقَلَبَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ وَفِرْعَوْنُ مَعَهُمْ أَذِلَّاءُ مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ. فأما السحرة فقد آمنوا.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) إِنْكَارٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ. (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أَيْ جَرَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مُوَاطَأَةٌ فِي هَذَا لِتَسْتَوْلُوا عَلَى مِصْرَ، أَيْ كَانَ هَذَا مِنْكُمْ فِي مَدِينَةِ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَبْرُزُوا إِلَى هذه الصحراء
(١). هو من باب فرح وكرم.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديدا لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ أَوَّلَ مَنْ صَلَبَ، وَقَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ، الرِّجْلُ الْيُمْنَى وَالْيَدُ الْيُسْرَى، وَالْيَدُ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى، عَنِ الْحَسَنِ. (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) قَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِ الْقَافِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ لُغَةٌ يُقَالُ: نَقِمْتُ الْأَمْرَ وَنَقَمْتُهُ أَنْكَرْتُهُ، أَيْ لَسْتَ تَكْرَهُ مِنَّا سِوَى أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَهُوَ الْحَقُّ. (لَمَّا جاءَتْنا) آيَاتُهُ وَبَيِّنَاتُهُ. (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) الْإِفْرَاغُ الصَّبُّ، أَيِ اصْبُبْهُ عَلَيْنَا عِنْدَ الْقَطْعِ وَالصَّلْبِ. (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) فَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ أَخَذَ السَّحَرَةَ وَقَطَّعَهُمْ عَلَى شَاطِئِ النَّهَرِ، وَإِنَّهُ آمَنَ بموسى عند إيمان ستمائة ألف.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أَيْ بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ. (وَيَذَرَكَ) بِنَصْبِ الرَّاءِ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنِ الْفَاءِ. (وَآلِهَتَكَ) قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، فَكَانَ يَعْبُدُ وَيُعْبَدُ. قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْبُدُ الْبَقَرَ قَالَ التَّيْمِيُّ: فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ هَلْ كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ شَيْئًا؟ قَالَ نَعَمْ، إِنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ «١» شَيْئًا كان قد جعل فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى" وَآلِهَتَكَ" أَيْ وَطَاعَتَكَ، كما قيل في قول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ «٢» " إِنَّهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنْ أَطَاعُوهُمْ، فَصَارَ تَمْثِيلًا. وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ" وَيَذَرُكَ" بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ وَهُوَ يَذَرُكَ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ" وَيَذَرْكَ" مَجْزُومًا مُخَفَّفَ يَذَرُكَ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ. وَقَرَأَ أَنَسُ
(١). في زوك: أن كان ليعبد.
(٢). راجع ج ٨ ص ١٩٩.
261
ابن مَالِكٍ" وَنَذَرُكَ" بِالرَّفْعِ وَالنُّونِ. أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهُ إِنْ تَرَكَ مُوسَى حَيًّا. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ" وَإِلَاهَتَكَ" وَمَعْنَاهُ وَعِبَادَتَكَ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَانَ يَعْبُدُ وَلَا يُعْبَدُ، أَيْ وَيَتْرُكُ عِبَادَتَهُ لَكَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: فَمِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَالَ" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «١» " وَ" مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «٢» " نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ رب وآلهة. فَقِيلَ لَهُ: وَيَذَرُكَ وَإِلَاهَتَكَ، بِمَعْنَى وَيَتْرُكُكَ وَعِبَادَةَ الناس لك. وقرأ الْعَامَّةِ" وَآلِهَتَكَ" كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَرْبُوبٌ. وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ عِنْدَ حُضُورِ الْحِمَامِ" آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ" «٣» فَلَمْ يُقْبَلْ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ (لَمَّا أَتَى بِهِ «٤») بَعْدَ إِغْلَاقِ (بَابِ «٥») التَّوْبَةِ. وَكَانَ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ لَهُ إِلَهٌ يَعْبُدُهُ سِرًّا دون رب العالمين جل وعز، قال الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ" أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ". وَقِيلَ:" وَإِلَاهَتَكَ" قِيلَ: كَانَ يَعْبُدُ بَقَرَةً، وَكَانَ إِذَا اسْتَحْسَنَ بَقَرَةً أَمَرَ بِعِبَادَتِهَا، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ وَرَبُّ هَذِهِ. وَلِهَذَا قَالَ:" فَأَخْرَجَ لَهُمْ «٦» عِجْلًا جَسَداً". ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ لَهُ أَصْنَامٌ صِغَارٌ يَعْبُدُهَا قَوْمُهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ:" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ". قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَوْلُ فِرْعَوْنَ" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ". يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ شَيْئًا غَيْرَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِلَاهَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبَقَرَةُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَا الشَّمْسَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَعْجَلْنَا الْإِلَاهَةَ أن تؤبا
ثُمَّ آنَسَ قَوْمَهُ فَقَالَ (سَنَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ) بِالتَّخْفِيفِ، قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ. (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أَيْ لَا تَخَافُوا جَانِبَهُمْ. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) آنَسَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَلَمْ يَقُلْ سَنُقَتِّلُ مُوسَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ مُلِئَ مِنْ مُوسَى رُعْبًا، فَكَانَ إذا رآه بال كما يبول الحمار. ولما بلغ قوم
(١). راجع ج ١٩ ص ١٩٨.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٨٨.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٣٧.
(٤). من ب وج وز وك.
(٥). من ب وج وز وك.
(٦). راجع ج ١١ ص ٢٣٢. يلاحظ أن الآية في السامري.
262
مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ هَذَا قَالَ لَهُمْ مُوسَى: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ) أَطْمَعَهُمْ فِي أَنْ يُوَرِّثَهُمُ اللَّهُ أَرْضَ مِصْرَ. (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أَيِ الْجَنَّةُ لِمَنِ اتقى. وعاقبة كل شي: آخِرُهُ، وَلَكِنَّهَا إِذَا أُطْلِقَتْ فَقِيلَ: الْعَاقِبَةُ لِفُلَانٍ فهم منه في العرف الخير.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٢٩]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) أَيْ فِي ابْتِدَاءِ وِلَادَتِكَ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِرْقَاقِ النِّسَاءِ. (وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا) أَيْ وَالْآنَ أُعِيدَ عَلَيْنَا ذَلِكَ، يَعْنُونَ الْوَعِيدَ الَّذِي كَانَ مِنْ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: الْأَذَى مِنْ قَبْلُ تَسْخِيرُهُمْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِهِمْ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَإِرْسَالُهُمْ بَقِيَّتَهُ لِيَكْتَسِبُوا لِأَنْفُسِهِمْ. وَالْأَذَى مِنْ بَعْدُ: تَسْخِيرُهُمْ جَمِيعَ النَّهَارِ كُلِّهِ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، قَالَهُ جُوَيْبِرٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْأَذَى مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ. (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) " عَسى " مِنَ اللَّهِ واجب، جدد «١» لهم الوعد وحققه. وقد استحلفوا فِي مِصْرَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَفَتَحُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ بِهِمْ مُوسَى وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ فَكَانَ وَرَاءَهُمْ وَالْبَحْرُ أَمَامَهُمْ، فَحَقَّقَ اللَّهُ الْوَعِيدَ بِأَنْ غَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَأَنْجَاهُمْ. (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) تقدم نظائره. أَيْ يَرَى ذَلِكَ الْعَمَلَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ، إِنَّمَا يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يَقَعُ منهم.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٣٠]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) يَعْنِي الْجَدُوبَ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ، أَيْ جَدْبٌ. وتقديره جدب سنة. وفي الحديث: (اللهم
(١). في ب وج وز وك: حدد. بالمهملة. [..... ]
قوله تعالى :" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " يعني الجدوب. وهذا معروف في اللغة، يقال : أصابتهم سنة، أي جدب. وتقديره جدب سنة. وفي الحديث :( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ). ومن العرب من يعرب النون في السنين، وأنشد الفراء :
أرى مرَّ السنينِ أخذن منِّي كما أَخَذَ السِّرَارُ١ من الهِلاَلِ
قال النحاس : وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون، ولكن أنشد٢ في هذا ما لا يجوز غيره، وهو قوله :
وقد جاوزت رأس الأربعين
وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون : أقمت عنده سنينا يا هذا، مصروفا. قال : وبنو تميم لا يصرفون ويقولون : مضت له سنين يا هذا. وسنين جمع سنة، والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه أسنت القوم أي أجدبوا. قال عبد الله بن الزبعرى :
عمرُو العُلاَ هَشَمَ الثريد لقومه ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ٣
" لعلهم يذكرون " أي ليتعظوا وترق قلوبهم.
١ السرار والسرر (بفتح السين وكسرها فيهما) : الليلة التي يستسر فيها القمر آخر الشهر..
٢ في ع: أنشدوا..
٣ يريد به هاشم بن عبد مناف أبا عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمى عمرا..
اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِ يُوسُفَ (. وَمِنَ الْعَرَبِ مِنْ يُعْرِبُ النُّونَ فِي السِّنِينَ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ «١» مِنَ الْهِلَالِ
قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْبَيْتَ بِفَتْحِ النُّونِ، وَلَكِنْ أَنْشَدَ «٢» فِي هذا مالا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَقَدْ جَاوَزْتُ رَأْسَ الْأَرْبَعِينِ
وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَقَمْتُ عِنْدَهُ سَنِينًا يَا هَذَا، مَصْرُوفًا. قَالَ: وَبَنُو تَمِيمٍ لَا يَصْرِفُونَ وَيَقُولُونَ: مَضَتْ لَهُ سِنِينَ يَا هَذَا. وَسِنِينُ جَمْعُ سَنَةٍ، وَالسَّنَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْجَدْبِ لَا بِمَعْنَى الْحَوْلِ. وَمِنْهُ أَسْنَتَ الْقَوْمُ أَيْ أَجْدَبُوا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى:
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ»
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليتعظوا وترق قلوبهم.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٣١]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أَيِ الْخِصْبُ وَالسَّعَةُ. (قالُوا لَنا هذِهِ) أَيْ أُعْطِينَاهَا بِاسْتِحْقَاقٍ. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أَيْ قَحْطٌ وَمَرَضٌ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ:- الثَّانِيَةُ- (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى) أَيْ يَتَشَاءَمُوا بِهِ. نَظِيرُهُ" وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «٤» ". وَالْأَصْلُ" يَتَطَيَّرُوا" أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ:" تَطَيَّرُوا" عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مِنَ الطِّيَرَةِ وَزَجْرِ الطَّيْرِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ حتى قيل لكل
(١). السرار والسرر (بفتح السين وكسرها فيهما): الليلة التي يستسر فيها القمر آخر الشهر.
(٢). في ع: أنشدوا.
(٣). يريد به هاشم بن عبد مناف أبا عبد المطلب جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يسمى عمرا.
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٨٢.
264
مَنْ تَشَاءَمَ: تَطَيَّرَ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَيَمَّنُ بِالسَّانِحِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمِينِ. وَتَتَشَاءَمُ بِالْبَارِحِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي مِنْ نَاحِيَةِ الشِّمَالِ. وَكَانُوا يَتَطَيَّرُونَ أَيْضًا بِصَوْتِ الْغُرَابِ، وَيَتَأَوَّلُونَهُ الْبَيْنَ. وَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِمُجَاوَبَاتِ الطُّيُورِ بَعْضِهَا بَعْضًا عَلَى أُمُورٍ، وَبِأَصْوَاتِهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهَا الْمَعْهُودَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا الظِّبَاءُ إِذَا مَضَتْ سَانِحَةً أَوْ بَارِحَةً، وَيَقُولُونَ إِذَا بَرِحَتْ:" مَنْ لِي بِالسَّانِحِ بَعْدَ الْبَارِحِ «١» ". إِلَّا أَنَّ أَقْوَى مَا عِنْدَهُمْ كَانَ يَقَعُ فِي جَمِيعِ الطَّيْرِ، فَسَمَّوُا الْجَمِيعَ تَطَيُّرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَتَطَيَّرَ الْأَعَاجِمُ إذا رأوا صبيا يذهب به إلى العلم بِالْغَدَاةِ، وَيَتَيَمَّنُونَ بِرُؤْيَةِ صَبِيٍّ يَرْجِعُ مِنْ عِنْدِ الْمُعَلِّمِ إِلَى بَيْتِهِ، وَيَتَشَاءَمُونَ بِرُؤْيَةِ السَّقَّاءِ عَلَى ظَهْرِهِ قِرْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ مَشْدُودَةٌ، وَيَتَيَمَّنُونَ بِرُؤْيَةِ فَارِغِ السقاء مفتوحة (قربته «٢»)، ومتشاءمون بِالْحَمَّالِ الْمُثْقَلِ بِالْحِمْلِ، وَالدَّابَّةِ الْمُوقَرَةِ «٣»، وَيَتَيَمَّنُونَ بِالْحَمَّالِ الذي وضع جمله، وَبِالدَّابَّةِ يُحَطُّ عَنْهَا ثِقْلُهَا. فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ بِمَا يُسْمَعُ مِنْ صَوْتِ طَائِرٍ مَا كَانَ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا «٤»). وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَتَى الطَّيْرَ فِي وَكْرِهَا فَنَفَّرَهَا، فَإِذَا أَخَذَتْ ذَاتَ الْيَمِينِ مَضَى لِحَاجَتِهِ، وَهَذَا هُوَ السَّانِحُ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ أَخَذَتْ ذَاتَ الشِّمَالِ رَجَعَ، وَهَذَا هُوَ الْبَارِحُ عِنْدَهُمْ. فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا بقول: (أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا) هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ: (وُكُنَاتِهَا) قَالَ امْرُؤُ الْقِيسِ:
وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا
وَالْوُكْنَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ وَكْرٍ وَعُشٍّ. وَالْوَكْنُ: مَوْضِعُ الطَّائِرِ الَّذِي يَبِيضُ فِيهِ وَيُفْرِخُ، وَهُوَ الْخِرَقُ فِي الْحِيطَانِ وَالشَّجَرِ. وَيُقَالُ: وَكَنَ الطَّائِرُ يَكِنُّ وُكُونًا إِذَا حِضْنَ بَيْضَهُ. وَكَانَ أَيْضًا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَرَى التَّطَيُّرَ شَيْئًا، وَيَمْدَحُونَ مَنْ كَذَّبَ به. قال المرقش:
(١). هذا مثل يضرب للرجل يسئ الرجل فيقال له: إنه سوف يحسن إليك. واصل ذلك أن رجلا مرت به ظباء بارحة فقيل له سوف تسنح لك فقال: من لي... إلخ.
(٢). من ع.
(٣). الدابة الموقرة: التي أصابتها الوقرة وهى صدع في الساق.
(٤). مكناتها بكسر الكاف وقد تفتح: أي بيضها. وهى في الأصل بيض الضباب. وقيل على أمكنتها ومساكنها. قال شمر: والصحيح في قوله على مكناتها أنها جمع المكنة والملكة: التمكن. وقال الزمخشري: ويروى: مكناتها جمع مكن ومكن جمع مكان.
265
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتُ لَا أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَاتِمٍ «١»
فَإِذَا الْأَشَائِمُ كَالْأَيَا مِنِ وَالْأَيَامِنُ كَالْأَشَائِمِ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَرَّ طَائِرٌ يَصِيحُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: خَيْرٌ، خَيْرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عِنْدَ هَذَا لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَأَمَّا أَقْوَالُ الطَّيْرِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا يُجْعَلُ دَلَالَةً عَلَيْهِ، وَلَا لَهَا عِلْمٌ بِكَائِنٍ فَضْلًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ فَتُخْبِرُ بِهِ، وَلَا فِي النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، إِلَّا مَا كَانَ الله تعال خَصَّ بِهِ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْتَحَقَ التَّطَيُّرُ بِجُمْلَةِ الْبَاطِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَحَلَّمَ «٢» أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرِهِ تَطَيُّرٌ). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ- ثَلَاثًا- وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ «٣» اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ). وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ). قِيلَ: وَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ثُمَّ يَمْضِي لِحَاجَتِهِ). وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: (إِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ). ثُمَّ يَذْهَبُ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِيهِ مَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُهِمُّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ «٤». (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) وَقَرَأَ الْحَسَنُ" طَيْرُهُمْ" جَمْعُ طَائِرٍ. أَيْ مَا قدر لهم
(١). الواق بكسر القاف: الصرد وهو طائر أبقع ضخم الرأس يكون في الشجر نصفه أبيض ونصفه أسود. والحاتم: الغراب الأسود.
(٢). تحلم: إذا ادعى الرؤيا كاذبا.
(٣). كذا في مسند أبى داود وبعض نسخ الأصل. قال ابن الأثير:" هكذا جاء في الحديث مقطوعا ولم يذكر المستثنى. أي إلا وقد يعتريه التطير، وتسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصار واعتمادا على فهم السامع... وقوله:" ولكن الله يذهبه بالتوكل" معناه أنه إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلم إليه ولم يعمل بذلك الخاطر غفره الله له ولم يؤاخذه به". وفى ب:".. وما منا إلا من تطير.. " إلخ.
(٤). راجع ج ٦ ص ٥٩.
266
وَعَلَيْهِمْ. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْقَحْطِ وَالشَّدَائِدِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذُنُوبِهِمْ لَا مِنْ عند موسى وقومه.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٣٢]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) أَيْ قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى" مَهْما". قَالَ الْخَلِيلُ: الْأَصْلُ مَا، مَا، الْأُولَى لِلشَّرْطِ، وَالثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ تَوْكِيدٌ لِلْجَزَاءِ، كَمَا تُزَادُ فِي سَائِرِ الْحُرُوفِ، مِثْلَ إِمَّا وَحَيْثُمَا وَأَيْنَمَا وَكَيْفَمَا. فَكَرِهُوا حَرْفَيْنِ لَفْظُهُمَا وَاحِدٌ، فَأَبْدَلُوا مِنَ الْأَلِفِ الْأُولَى هَاءً فَقَالُوا مَهْمَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهُ مَهْ، أَيِ اكْفُفْ، مَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ. وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ، يُجَازَى بِهَا لِيُجْزَمَ مَا بَعْدَهَا عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ. وَالْجَوَابُ" فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ" (لِتَسْحَرَنا) لِتَصْرِفَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ «١». قِيلَ: بَقِيَ مُوسَى فِي الْقِبْطِ بَعْدَ إِلْقَاءِ السَّحَرَةِ سُجَّدًا عِشْرِينَ سَنَةً يُرِيهِمُ الْآيَاتِ إِلَى أَنْ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٣٣]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ نَوْفٍ الشَّامِيِّ قَالَ: مَكَثَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آل فرعون بعد ما غَلَبَ السَّحَرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مِنْجَابٍ: عِشْرِينَ سَنَةً، يُرِيهِمُ الْآيَاتِ: الْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الطُّوفانَ) أَيِ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ حَتَّى عَامُوا فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: الطُّوفَانُ الْمَوْتُ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَاحِدَتُهُ طُوفَانَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مصدر كالرجحان
(١). راجع ج ٢ ص ٢٠٠.
267
وَالنُّقْصَانِ، فَلَا يُطْلَبُ لَهُ وَاحِدٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الطُّوفَانُ فِي اللُّغَةِ مَا كَانَ مُهْلِكًا مِنْ مَوْتٍ أَوْ سَيْلٍ، أَيْ مَا يُطِيفُ بِهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَلَمْ يُصِبْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ، بَلْ دَخَلَ بُيُوتَ الْقِبْطِ حَتَّى قَامُوا فِي الْمَاءِ إِلَى تَرَاقِيهِمْ «١»، وَدَامَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفُ عَنَّا فَنُؤْمِنُ بِكَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَرَفَعَ عَنْهُمُ الطُّوفَانَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا. فَأَنْبَتَ اللَّهُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مَا لَمْ يُنْبِتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَأِ وَالزَّرْعِ. فَقَالُوا: كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ نِعْمَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ عليها الْجَرَادَ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، جَمْعُ جَرَادَةٍ فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. فَإِنْ أَرَدْتَ الْفَصْلَ نَعَتَّ فَقُلْتَ رَأَيْتُ جَرَادَةً ذَكَرًا- فَأَكَلَ زُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ حَتَّى إِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ السُّقُوفَ وَالْأَبْوَابَ حَتَّى تَنْهَدِمَ دِيَارُهُمْ. وَلَمْ يَدْخُلْ دُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهَا شي. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِ الْجَرَادِ إِذَا حَلَّ بِأَرْضٍ فَأَفْسَدَ، فَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ. وَقَالَ أَهْلُ الْفِقْهِ كُلُّهُمْ: يُقْتَلُ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَأْكُلُ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ. وَبِمَا رُوِيَ (لَا تَقْتُلُوا الْجَرَادَ فَإِنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ). وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ فِي تَرْكِهَا فَسَادَ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتال المسلم إذا أراد أخذ مال، فَالْجَرَادُ إِذَا أَرَادَتْ فَسَادَ الْأَمْوَالِ كَانَتْ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ قَتْلُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ؟ لِأَنَّهُمَا يُؤْذِيَانِ النَّاسَ فَكَذَلِكَ الْجَرَادُ. رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ: (اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ وَاقْتُلْ صِغَارَهُ وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ وَاقْطَعْ دَابِرَهُ وَخُذْ بِأَفْوَاهِهِ عَنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (. قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ قَالَ:) إِنَّ الْجَرَادَ «٢» نَثْرَةُ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ (. الرَّابِعَةُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ العلماء في أكله على الجملة،
(١). التراقي: جمع الترقوة، وهى عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. [..... ]
(٢). النثره: شبه العطسة.
268
وَأَنَّهُ إِذَا أُخِذَ حَيًّا وَقُطِعَتْ رَأْسُهُ أَنَّهُ حَلَالٌ بِاتِّفَاقٍ. وَأَنَّ ذَلِكَ يَتَنَزَّلُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الذَّكَاةِ فِيهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ يَمُوتُ بِهِ إِذَا صِيدَ أَمْ لَا، فَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُؤْكَلُ كَيْفَمَا مَاتَ. وَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْحِيتَانِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ نَافِعٍ وَمُطَرِّفٌ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلى أنه لأبد لَهُ مِنْ سَبَبٍ يَمُوتُ بِهِ، كَقَطْعِ رُءُوسِهِ أَوْ أَرْجُلِهِ أَوْ أَجْنِحَتِهِ إِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يُصْلَقُ أَوْ يُطْرَحُ فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ فَمَيْتَتُهُ مُحَرَّمَةٌ. وَكَانَ اللَّيْثُ يَكْرَهُ أَكْلَ مَيِّتِ الْجَرَادِ، إِلَّا مَا أُخِذَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ أَخْذَهُ ذَكَاةٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَدَمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ). وَقَالَ ابن ماجة: حدثنا أحمد ابن مَنِيعٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَادَيْنَ الْجَرَادَ عَلَى الْأَطْبَاقِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا. الْخَامِسَةُ- رَوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَلْفَ أُمَّةٍ سِتُّمِائَةٍ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ وَإِنَّ أَوَّلَ هَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَمِ الْجَرَادُ فَإِذَا هَلَكَتِ الْجَرَادُ تَتَابَعَتِ الْأُمَمُ مِثْلَ نِظَامِ السِّلْكِ إِذَا انْقَطَعَ (. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ) وَقَالَ: وَإِنَّمَا صَارَ الْجَرَادُ أَوَّلَ هَذِهِ الْأُمَمِ هَلَاكًا لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الطِّينَةِ الَّتِي فَضَلَتْ مِنْ طِينَةِ آدم. وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدمين لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لَهُمْ. رَجَعْنَا إِلَى قِصَّةِ الْقِبْطِ- فَعَاهَدُوا مُوسَى أَنْ يُؤْمِنُوا لَوْ كَشَفَ عَنْهُمُ الْجَرَادَ، فَدَعَا فَكُشِفَ وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ زروعهم شي فَقَالُوا: يَكْفِينَا مَا بَقِيَ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ، وَهُوَ صِغَارُ الدَّبَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالدَّبَى: الْجَرَادُ قَبْلَ أَنْ يَطِيرَ، الْوَاحِدَةُ دَبَاةٌ. وَأَرْضٌ مَدْبِيَّةٌ إِذَا أَكَلَ الدَّبَى نَبَاتَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُمَّلُ السُّوسُ الَّذِي فِي الْحِنْطَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْبَرَاغِيثُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَمْنَانُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْقُرَادِ، وَاحِدُهَا حَمْنَانَةٌ. فَأَكَلَتْ دَوَابَّهُمْ وَزُرُوعَهُمْ، وَلَزِمَتْ جُلُودَهُمْ كَأَنَّهَا الْجُدَرِيُّ عَلَيْهِمْ،
269
وَمَنَعَهُمُ النَّوْمَ وَالْقَرَارَ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ (أَبِي «١») ثَابِتٍ: الْقُمَّلُ الْجِعْلَانُ «٢». وَالْقُمَّلُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ ضَرْبٌ مِنَ الْقِرْدَانِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَعْرَابِيُّ الْعَدَوِيُّ: الْقُمَّلُ دَوَابٌّ صِغَارٌ مِنْ جِنْسِ الْقِرْدَانِ، إِلَّا أَنَّهَا أَصْغَرُ مِنْهَا، وَاحِدَتُهَا قَمْلَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ هَذَا بِنَاقِضٍ لِمَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا كُلَّهَا تَجْتَمِعُ فِي أَنَّهَا تُؤْذِيهِمْ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ" بِعَيْنِ شَمْسٍ «٣» " كَثِيبٌ مِنْ رَمْلٍ فَضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ فَصَارَ قُمَّلًا. وَوَاحِدُ الْقُمَّلِ قَمْلَةٌ. وَقِيلَ: الْقُمَّلُ الْقَمْلُ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ" وَالْقَمْلُ" بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ فَتَضَرَّعُوا فَلَمَّا كُشِفَ عَنْهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ، جَمْعُ ضِفْدِعٍ «٤» وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَاءِ، (وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ «٥» وَاحِدَةٌ هِيَ أَنَّ) النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ قَتْلِهَا، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ الذُّهْلِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ وَالضِّفْدِعِ وَالنَّمْلَةِ وَالْهُدْهُدِ. وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدِعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ. صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الصُّرَدُ أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ. وَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الشَّأْمِ إِلَى الْحَرَمِ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ كَانَتِ السَّكِينَةُ «٦» مَعَهُ وَالصُّرَدُ، فَكَانَ الصُّرَدُ دَلِيلَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَالسَّكِينَةُ مِقْدَارَهُ. فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْبُقْعَةِ وَقَعَتِ السَّكِينَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَنَادَتْ: ابْنِ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى مِقْدَارِ ظِلِّي، فَنَهَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الصُّرَدِ لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْبَيْتِ، وَعَنِ الضِّفْدِعِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَارِ إِبْرَاهِيمَ. وَلَمَّا تَسَلَّطَتْ عَلَى فِرْعَوْنَ جَاءَتْ فَأَخَذَتِ الْأَمْكِنَةَ كُلَّهَا، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى التَّنُّورِ وَثَبَتْ فِيهَا وَهِيَ نَارٌ تُسَعَّرُ، طَاعَةً لِلَّهِ. فَجَعَلَ (اللَّهُ «٧» نَقِيقَهَا تَسْبِيحًا. يُقَالُ: إِنَّهَا أَكْثَرُ الدَّوَابِّ تَسْبِيحًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَا تَقْتُلُوا الضِّفْدِعَ فَإِنَّ نَقِيقَهُ الَّذِي تَسْمَعُونَ تَسْبِيحٌ. فَرُوِيَ أَنَّهَا مَلَأَتْ
(١). من ب وج وك. والتهذيب.
(٢). الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل كصرد) وهو دابة سوداء من دواب الأرض.
(٣). عاصمة مصر يومئذ.
(٤). الضفدع: بفتح الضاد والدال وبكسرهما وسكون الفاء.
(٥). من ج وك.
(٦). السكينة: ريح خجوج، أي سريعة الممر.
(٧). من ع.
270
فيه خمس مسائل :
الأولى - روى إسرائيل عن سماك عن نوف الشامي قال : مكث موسى صلى الله عليه وسلم في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين عاما. وقال محمد بن عمان بن أبي شيبة عن منجاب : عشرين سنة، يريهم الآيات : الجراد والقمل والضفادع والدم.
الثانية - قوله تعالى :" الطوفان " أي المطر الشديد حتى عاموا فيه. وقال مجاهد وعطاء : الطوفان الموت قال الأخفش : واحدته طوفانة. وقيل : هو مصدر كالرجحان والنقصان، فلا يطلب له واحد. قال النحاس : الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل، أي ما يطيف بهم فيهلكهم. وقال السدي : ولم يصب بني إسرائيل قطرة من ماء، بل دخل بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم١، ودام عليهم سبعة أيام. وقيل : أربعين يوما. فقالوا : ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن بك، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان فلم يؤمنوا. فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع. فقالوا : كان ذلك الماء نعمة، فبعث الله عليهم الجراد وهو الحيوان المعروف، جمع جرادة في المذكر والمؤنث. فإن أردت الفصل نعت فقلت رأيت جرادة ذكرا - فأكل زروعهم وثمارهم حتى أنها كانت تأكل السقوف والأبواب حتى تنهدم ديارهم. ولم يدخل دور بني إسرائيل منها شيء.
الثالثة - واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد، فقيل : لا يقتل. وقال أهل الفقه كلهم : يقتل. احتج الأولون بأنه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم. وبما روي ( لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم ). واحتج الجمهور بأن في تركها فساد الأموال، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ مال، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها. ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب ؟ لأنهما يؤذيان الناس فكذلك الجراد. روى ابن ماجة عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال :( اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء ). قال رجل : يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ قال :( إن الجراد نثرة٢ الحوت في البحر ).
الرابعة - ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. ولم يختلف العلماء في أكله على الجملة، وأنه إذا أخذ حيا وقطعت رأسه أنه حلال باتفاق. وإن ذلك يتنزل منه منزلة الذكاة فيه. وإنما اختلفوا هل يحتاج إلى سبب يموت به إذا صيد أم لا ؟ فعامتهم على أنه لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات. وحكمه عندهم حكم الحيتان، وإليه ذهب ابن نافع ومطرف وذهب مالك إلى أنه لا بد له من سبب يموت به، كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يصلق أو يطرح في النار ؛ لأنه عنده من حيوان البر فميتته محرمة. وكان الليث يكره أكل ميت الجراد، إلا ما أخذ حيا ثم مات فإن أخذه ذكاه. وإليه ذهب سعيد بن المسيب. وروى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال ). وقال ابن ماجة : حدثنا أحمد بن منيع حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد سمع أنس بن مالك يقول : كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق. ذكره ابن المنذر أيضا.
الخامسة - روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر، وإن أول هلاك هذه الأمم الجراد فإذا هلكت الجراد تتابعت الأمم مثل نظام السلك إذا انقطع ). ذكره الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) وقال : وإنما صار الجراد أول هذه الأمم هلاكا لأنه خلق من الطينة التي فضلت من طينة آدم. وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدمين لأنها مسخرة لهم.
رجعنا إلى قصة القبط - فعاهدوا موسى أن يؤمنوا لو كشف عنهم الجراد، فدعا فكشف وكان قد بقي من زروعهم شيء فقالوا : يكفينا ما بقي، ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم القمل، وهو صغار الدبى، قاله قتادة. والدبى : الجراد قبل أن يطير، الواحدة دباة. وأرض مدبية إذا أكل الدبى نباتها. وقال ابن عباس : القمل السوس الذي في الحنطة. وقال ابن زيد : البراغيث. وقال الحسن : دواب سود صغار. وقال أبو عبيدة : الحمنان، وهو ضرب من القراد، واحدها حمنانة. فأكلت دوابهم وزروعهم، ولزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، ومنعهم النوم والقرار. وقال حبيب بن أبي٣ ثابت : القمل الجعلان٤. والقمل عند أهل اللغة ضرب من القردان. قال أبو الحسن الأعرابي العدوي : القمل دواب صغار من جنس القردان، إلا أنها أصغر منها، واحدتها قملة. قال النحاس : وليس هذا بناقض لما قاله أهل التفسير ؛ لأنه يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وهي أنها كلها تجتمع في أنها تؤذيهم. وذكر بعض المفسرين أنه كان " بعين شمس٥ " كثيب من رمل فضربه موسى بعصاه فصار قملا. وواحد القمل قملة. وقيل : القُمَّل القَمْل، قاله عطاء الخراساني. وفي قراءة الحسن " والقمل " بفتح القاف وإسكان الميم، فتضرعوا فلما كشف عنهم لم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، جمع ضفدع٦ وهي المعروفة التي تكون في الماء، وفيه مسألة٧ واحدة هي أن النهي ورد عن قتلها. أخرجه أبو داود وابن ماجة بإسناد صحيح. أخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق وابن ماجة عن محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد والضفدع والنملة والهدهد. وخرج النسائي عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. صححه أبو محمد عبد الحق. وعن أبي هريرة قال : الصرد أول طير صام. ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشأم إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة٨ معه والصرد، فكان الصرد دليله إلى الموضع، والسكينة مقداره. فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت : ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد لأنه كان دليل إبراهيم على البيت، وعن الضفدع لأنها كانت تصب الماء على نار إبراهيم. ولما تسلطت على فرعون جاءت فأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التنور وثبت فيها وهي نار تسعر، طاعة لله. فجعل الله٩ نقيقها تسبيحا. يقال : إنها أكثر الدواب تسبيحا. قال عبد الله بن عمرو : لا تقتلوا الضفدع فإن نقيقه الذي تسمعون تسبيح. فروي أنها ملأت فرشهم وأوعيتهم وطعامهم وشرابهم، فكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، وإذا تكلم وثب الضفدع في فيه. فشكوا إلى موسى وقالوا : نتوب، فكشف الله عنهم ذلك فعادوا إلى كفرهم، فأرسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم١٠ دما. وكان الإسرائيلي يغترف منه الماء، والقبطي الدم. وكان الإسرائيلي يصب الماء في فم القبطي فيصير دما، والقبطي يصب الدم في فم الإسرائيلي فيصير ماء زلالا.
" آيات مفصلات " أي مبينات ظاهرات ؛ عن مجاهد. قال الزجاج :" آيات مفصلات " نصب على الحال. ويروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام. وقيل : أربعون يوما. وقيل : شهر ؛ فلهذا قال " مفصلات ". " فاستكبروا " أي ترفعوا عن الإيمان بالله تعالى.
١ التراقي: جمع الترقوة، وهي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين.
٢ النثرة : شبه العطسة.
٣ من ب و ج و ك : والتهذيب..
٤ الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل كصرد) وهو دابة من دواب الأرض..
٥ عاصمة مصر يومئذ.
٦ الضفدع: بفتح الضاد والدال وبكسرهما وسكون الفاء..
٧ من ج و ك..
٨ السكينة: ريح خجوج: أي سريعة الممر..
٩ من ع.
١٠ من ب وج و ك و ى..
فُرُشَهُمْ وَأَوْعِيَتَهُمْ وَطَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى ذَقَنِهِ فِي الضَّفَادِعِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ وَثَبَ الضِّفْدِعُ فِي فِيهِ. فَشَكَوْا إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: نَتُوبُ، فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَعَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَسَالَ النِّيلُ عَلَيْهِمْ «١» دَمًا. وَكَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ يَغْتَرِفُ مِنْهُ الْمَاءَ، وَالْقِبْطِيُّ الدَّمَ. وَكَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ يَصُبُّ الْمَاءَ فِي فَمِ الْقِبْطِيِّ فَيَصِيرُ دَمًا، وَالْقِبْطِيُّ يَصُبُّ الدَّمَ فِي فَمِ الْإِسْرَائِيلِيِّ فَيَصِيرُ مَاءً زُلَالًا. (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) أَيْ مُبَيَّنَاتٍ ظَاهِرَاتٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآيَةِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقِيلَ: شَهْرٌ، فَلِهَذَا قَالَ" مُفَصَّلَاتٍ". (فَاسْتَكْبَرُوا) أَيْ تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تعالى.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٣٤ الى ١٣٦]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي العذاب. وقرى بِضَمِّ الرَّاءِ، لُغَتَانِ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ طَاعُونًا مَاتَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ «٢» أَلْفًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرِّجْزِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ. (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) " مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ بِمَا اسْتَوْدَعَكَ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ بِمَا اخْتَصَّكَ بِهِ فَنَبَّأَكَ. وَقِيلَ: هَذَا قَسَمٌ، أَيْ بِعَهْدِهِ عِنْدَكَ إِلَّا مَا دَعَوْتَ لَنَا، فَ" مَا" صِلَةٌ «٣». (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أَيْ بِدُعَائِكَ لِإِلَهِكَ حَتَّى يَكْشِفَ عَنَّا. (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) أَيْ نُصَدِّقُكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ. (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وَكَانُوا يَسْتَخْدِمُونَهُمْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) يَعْنِي أَجَلَهُمُ الَّذِي ضُرِبَ لَهُمْ فِي التَّغْرِيقِ. (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أَيْ يَنْقُضُونَ مَا عَقَدُوهُ
(١). من ب وج وك وى.
(٢). في ع: تسمعون.
(٣). كذا في جميع نسخ الأصل، وظاهر أنها مصدرية.
عَلَى أَنْفُسِهِمْ. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) وَالْيَمُّ الْبَحْرُ." وَكانُوا عَنْها" أَيِ النِّقْمَةِ. دَلَّ عَلَيْهَا" فَانْتَقَمْنا". وَقِيلَ: عَنِ الْآيَاتِ أَيْ لَمْ يَعْتَبِرُوا بها حتى صاروا كالغافلين عنها.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٣٧]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ) يُرِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. (الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) أَيْ يُسْتَذَلُّونَ بِالْخِدْمَةِ. (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) زَعَمَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ الْأَصْلَ" فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا" ثُمَّ حُذِفَ" فِي" فَنُصِبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ وَرِثُوا أَرْضَ الْقِبْطِ. فَهُمَا نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ، يُقَالُ: وَرِثْتُ الْمَالَ وَأَوْرَثْتُهُ الْمَالَ، فَلَمَّا تَعَدَّى الْفِعْلُ بِالْهَمْزَةِ نَصَبَ مَفْعُولَيْنِ. وَالْأَرْضُ هِيَ أَرْضُ الشَّأْمِ وَمِصْرَ. وَمَشَارِقُهَا وَمَغَارِبُهَا جِهَاتُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ بِهَا، فَالْأَرْضُ مَخْصُوصَةٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: أراد جميع الأرض، لأن بن بَنِي إِسْرَائِيلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَقَدْ مَلَكَا الْأَرْضَ. (الَّتِي بارَكْنا فِيها) أَيْ بِإِخْرَاجِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ والأنهار. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ هِيَ قَوْلُهُ:" وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «١» ". (بِما صَبَرُوا) أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَى أَمْرِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِمُوسَى. (وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) يُقَالُ: عَرَشَ يَعْرِشُ إِذَا بَنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ مَا كَانُوا يَبْنُونَ مِنَ الْقُصُورِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ تَعْرِيشُ الْكَرْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ" يَعْرُشُونَ" بِضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ" يُعَرِّشُونَ" بتشديد الراء وضم الياء.
(١). راجع ج ١٣ ص ٢٤٧.

[سورة الأعراف (٧): آية ١٣٨]

وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. يُقَالُ: عَكَفَ يَعْكِفُ وَيَعْكُفُ بِمَعْنَى أَقَامَ عَلَى الشَّيْءِ وَلَزِمَهُ. وَالْمَصْدَرُ مِنْهُمَا عَلَى فُعُولٍ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ لَخْمٍ، وَكَانُوا نُزُولًا بِالرِّقَّةِ وَقِيلَ: كَانَتْ أَصْنَامُهُمْ تَمَاثِيلَ بَقَرٍ، وَلِهَذَا أَخْرَجَ لَهُمْ السَّامِرِيُّ عِجْلًا. (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) نَظِيرُهُ قَوْلُ جُهَّالِ الْأَعْرَابِ وَقَدْ رَأَوْا شَجَرَةً خَضْرَاءَ لِلْكُفَّارِ تُسَمَّى ذَاتَ أَنْوَاطٍ «١» يُعَظِّمُونَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ. قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قوم مُوسَى" اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ" لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ في قبلكم حذو القذة «٢» بالقذة حتى إنهم لو دخلوا حجر ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ (. وَكَانَ هَذَا فِي مَخْرَجِهِ إِلَى حُنَيْنٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" بَرَاءَةٌ «٣» " إِنْ شَاءَ الله تعالى.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٣٩ الى ١٤٠]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ) أَيْ مُهْلَكٌ، وَالتَّبَارُ: الْهَلَاكُ. وَكُلُّ إِنَاءٍ مُكَسَّرٍ مُتَبَّرٌ. وَأَمْرٌ مُتَبَّرٌ. أَيْ إِنَّ الْعَابِدَ وَالْمَعْبُودَ مُهْلَكَانِ. وقوله: (وَباطِلٌ) أي ذاهب
(١). ينوطون بها سلاحهم، أي يعلقونه.
(٢). القذة ريش الهم. قال ابن الأثير: يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. [..... ]
(٣). راجع ج ٨ ص ٩٧.
مضمحل. (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كانوا صلة رائدة. (قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) ١٤٠ أَيْ أَطْلُبُ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. يُقَالُ: بَغَيْتُهُ وَبَغَيْتُ لَهُ. (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ١٤٠ أَيْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِكُمْ. وَقِيلَ: فَضَّلَهُمْ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وبما خصهم به من الآيات.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤١]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
ذَكَّرَهُمْ مِنَّتَهُ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِيَهُودِ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْجَيْنَا أَسْلَافَكُمْ. حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ «١»).
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٢]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) " فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) " ذَكَرَ أَنَّ مِمَّا كَرَّمَ اللَّهُ «٢» بِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فَكَانَ وَعَدَهُ الْمُنَاجَاةَ إِكْرَامًا لَهُ. (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. أَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ الشَّهْرَ وَيَنْفَرِدَ فِيهِ بِالْعِبَادَةِ، فَلَمَّا صَامَهُ أَنْكَرَ خَلُوفَ فَمِهِ فَاسْتَاكَ. قِيلَ: بِعُودِ خَرْنُوبٍ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْشِقُ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَأَفْسَدْتَهُ بِالسِّوَاكِ. فَزِيدَ عَلَيْهِ عَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ لَمَّا اسْتَاكَ: (يَا مُوسَى لَا أُكَلِّمُكَ حتى يعود)
(١). راجع ج ١ ص ٣٨١.
(٢). من ع.
274
فُوكَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَائِحَةَ الصَّائِمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ (. وَأَمَرَهُ بِصِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) «١» غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ فَدَى إِسْمَاعِيلَ مِنَ الذَّبْحِ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ. وَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ عَشْرٍ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ مُؤَنَّثٌ. وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ:" فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ثَلَاثِينَ وَعَشَرَةً أَرْبَعُونَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَتْمَمْنَا الثَّلَاثِينَ بِعَشْرٍ مِنْهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَشْرَ سِوَى الثَّلَاثِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِي الْبَقَرَةِ أَرْبَعِينَ وَقَالَ هُنَا ثَلَاثِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْبَدَاءِ. قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ:" وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ" وَالْأَرْبَعُونَ، وَالثَّلَاثُونَ وَالْعَشَرَةُ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ. وَإِنَّمَا قَالَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَتَأْلِيفٍ، قَالَ أَرْبَعِينَ فِي قَوْلٍ مُؤَلَّفٍ، وَقَالَ ثَلَاثِينَ، يَعْنِي شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَعَشْرًا. وَكُلُّ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
" عَشْرٌ وَأَرْبَعٌ... "
يَعْنِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ، لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْأَجَلِ لِلْمُوَاعَدَةِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَمَعْنًى قديم أَسَّسَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَضَايَا، وَحَكَمَ بِهِ لِلْأُمَمِ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي الْأَعْمَالِ. وَأَوَّلُ أَجَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَيَّامُ السِّتَّةُ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ،" وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ «٢» ٥٠: ٣٨". وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ:" إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «٣» ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ الْمُؤَجَّلِ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا ثَلَاثِينَ ثُمَّ زَادَهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ. وَأَبْطَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ التَّأَنِّي وَالتَّأَخُّرِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ مُوسَى ضَلَّ أَوْ نَسِيَ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ، وَعَبَدُوا إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ رَبِّي وَعَدَنِي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَنْ أَلْقَاهُ، وَأَخْلُفُ فِيكُمْ
(١). من ع.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٣.
(٣). راجع ص ٢١٨ من هذا الجزء.
275
هَارُونَ، فَلَمَّا فَصَلَ»
مُوسَى إِلَى رَبِّهِ زَادَهُ اللَّهُ عَشْرًا، فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي زَادَهُ اللَّهُ بِمَا فَعَلُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. ثُمَّ الزِّيَادَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى الْأَجَلِ تَكُونُ مُقَدَّرَةً، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ مُقَدَّرٌ. وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ مِنَ الْحَاكِمِ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ: مِنْ وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ لِمُوسَى. فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةَ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا يَطْرَأُ مِنَ الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. رَوَى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً «٢». قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا أَصْلٌ لِإِعْذَارِ الْحُكَّامِ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَكَانَ هَذَا لُطْفًا بِالْخَلْقِ، وَلِيَنْفُذَ الْقِيَامُ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ. يُقَالُ: أَعْذَرَ فِي الْأَمْرِ أَيْ بَالَغَ فِيهِ، أَيْ أَعْذَرَ غَايَةَ الْإِعْذَارِ الَّذِي لَا إِعْذَارَ بَعْدَهُ. وَأَكْبَرُ الْإِعْذَارِ إِلَى بَنِي آدَمَ بَعْثَةُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِتَتِمَّ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ،" وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «٣» ". وَقَالَ" وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ «٤» " قِيلَ: هُمُ الرُّسُلُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الشَّيْبُ. فَإِنَّهُ يَأْتِي فِي سِنِّ الِاكْتِهَالِ، فَهُوَ عَلَامَةٌ لِمُفَارَقَةِ سِنِّ الصِّبَا. وَجَعَلَ السِّتِّينَ غَايَةَ الْإِعْذَارِ لِأَنَّ السِّتِّينَ قَرِيبٌ مِنْ مُعْتَرَكِ الْعِبَادِ، وَهُوَ سِنُّ الْإِنَابَةِ وَالْخُشُوعِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ، وَتَرَقُّبِ الْمَنِيَّةِ وَلِقَاءِ اللَّهِ، فَفِيهِ إِعْذَارٌ بَعْدَ إِعْذَارٍ «٥». الْأَوَّلُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي بِالشَّيْبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ «٦» ". فَذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَنْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ آنَ لَهُ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ وَيَشْكُرَهَا «٧». قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، وَهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا وَيُخَالِطُونَ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ لِأَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِذَا أَتَتْ عَلَيْهِمُ اعْتَزَلُوا النَّاسَ. الثَّالِثَةُ- وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّارِيخَ يَكُونُ بِاللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" ثَلاثِينَ لَيْلَةً" لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ الشُّهُورِ. وَبِهَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ الله عنهم تخبر عن
(١). فصل: خرج.
(٢). أي لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٣١.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٣٥١.
(٥). في ب: وإنذار بعد إنذار.
(٦). راجع ج ١٦ ص ١٩٤.
(٧). كذا في ج وك وهو الصواب. وفى أوب وز وى يشكرهما.
276
الْأَيَّامِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْعَجَمُ تُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ لِأَنَّ مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِسَابُ الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ:" وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً". فَيُقَالُ: أَرَّخْتُ تاريخا، وورخت توريخا، لغتان. قوله تعالى: (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) الْمَعْنَى: وَقَالَ مُوسَى حِينَ أَرَادَ الْمُضِيَّ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْمَغِيبَ فِيهَا لِأَخِيهِ هَارُونَ: كُنْ خَلِيفَتِي، فَدَلَّ عَلَى النِّيَابَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ حِينَ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي). فَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الرَّوَافِضُ وَالْإِمَامِيَّةُ وَسَائِرُ فِرَقِ الشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، حَتَّى كَفَّرَ الصَّحَابَةَ الْإِمَامِيَّةُ- قَبَّحَهُمُ اللَّهُ- لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ النَّصُّ عَلَى اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ وَاسْتَخْلَفُوا غَيْرَهُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ عَلِيًّا إِذْ لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِ حَقِّهِ. وَهَؤُلَاءِ لَا شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ وَكُفْرِ مَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا اسْتِخْلَافٌ فِي حَيَاةٍ كَالْوَكَالَةِ الَّتِي تَنْقَضِي بِعَزْلِ الْمُوَكَّلِ أَوْ بِمَوْتِهِ، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُتَمَادٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيَنْحَلُّ عَلَى هَذَا مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِمَامِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدِ اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَغَيْرَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِخْلَافُهُ دَائِمًا بِالِاتِّفَاقِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ هَارُونُ شُرِّكَ مَعَ مُوسَى فِي أَصْلِ الرِّسَالَةِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ عَلَى مَا رَامُوهُ دَلَالَةٌ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَصْلِحْ" أَمْرٌ بِالْإِصْلَاحِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ مِنَ الْإِصْلَاحِ أَنْ يَزْجُرَ. السَّامِرِيَّ وَيُغَيِّرَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَيِ ارْفُقْ بِهِمْ، وَأَصْلِحْ أَمْرَهُمْ، وَأَصْلِحْ نَفْسَكَ، أَيْ كُنْ مُصْلِحًا. وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أَيْ لَا تَسْلُكْ سَبِيلَ العاصين، ولا تكن عونا للظالمين.
277
فيه ثلاث مسائل :
الأولى - قوله تعالى :" وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " ذكر أن مما كرم الله١ به موسى صلى الله عليه وسلم هذا فكان وعده المناجاة إكراما له. " وأتممناها بعشر " قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم : هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة، فلما صامه أنكر خلوف فمه فاستاك. قيل : بعود خرنوب، فقالت الملائكة : إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فزيد عليه عشر ليال من ذي الحجة. وقيل : إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك :( يا موسى لا أكلمك حتى يعود فوك إلى ما كان عليه قبل، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك ). وأمره بصيام عشرة أيام. وكان كلام الله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم٢ غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج. وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث. والفائدة في قوله :" فتم ميقات ربه أربعين ليلة " وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها، فبين أن العشر سوى الثلاثين. فإن قيل : فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين، فيكون ذلك من البداء. قيل : ليس كذلك، فقد قال :" وأتممناها بعشر " والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف. وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف، قال أربعين في قول مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهرا متتابعا وعشرا. وكل ذلك أربعون، كما قال الشاعر :
( عشر وأربع. . . . )
يعني أربع عشرة، ليلة البدر. وهذا جائز في كلام العرب.
الثانية - قال علماؤنا : دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال. وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات، " ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب٣ " [ ق : ٣٨ ]. وقد بينا معناه فيما تقدم في هذه السورة من قوله :" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام٤ " [ الأعراف : ٥٤ ]. قال ابن العربي : فإذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة. وقد بين الله تعالى ذلك لموسى عليه السلام فضرب له أجلا ثلاثين ثم زاده عشرا تتمة أربعين. وأبطأ موسى عليه السلام في هذه العشر على قومه، فما عقلوا جواز التأني والتأخر حتى قالوا : إن موسى ضل أو نسي، ونكثوا عهده وبدلوا بعده، وعبدوا إلها غير الله. قال ابن عباس : إن موسى قال لقومه : إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، وأخلف فيكم هارون، فلما فصل٥ موسى إلى ربه زاده الله عشرا، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله بما فعلوه من عبادة العجل، على ما يأتي بيانه. ثم الزيادة التي تكون على الأجل تكون مقدرة، كما أن الأجل مقدر. ولا يكون إلا باجتهاد من الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر : من وقت وحال وعمل، فيكون مثل ثلث المدة السالفة، كما أجل الله لموسى. فإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز، ولكن لا بد من التربص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر، قال ابن العربي. روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة٦ ). قلت : وهذا أيضا أصل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى. وكان هذا لطفا بالخلق، ولينفذ القيام عليهم بالحق. يقال : أعذر في الأمر أي بالغ فيه، أي أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده. وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم لتتم حجته عليهم، " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا٧ " [ الإسراء : ١٥ ]. وقال " وجاءكم النذير٨ " [ فاطر : ٣٧ ] قيل : هم الرسل. ابن عباس : هو الشيب. فإنه يأتي في سن الاكتهال، فهو علامة لمفارقة سن الصبا. وجعل الستين غاية الإعذار ؛ لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار٩. الأول بالنبي عليه السلام، والثاني بالشيب، وذلك عند كمال الأربعين، قال الله تعالى :" وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك١٠ " [ الأحقاف : ١٥ ]. فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها١١. قال مالك : أدركت أهل العلم ببلدنا، وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس.
الثالثة - ودلت الآية أيضا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام ؛ لقوله تعالى :" ثلاثين ليلة " لأن الليالي أوائل الشهور. وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن الأيام، حتى روي عنها أنها كانت تقول : صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعجم تخالف في ذلك، فتحسب بالأيام ؛ لأن معولها على الشمس. ابن العربي : وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك ؛ ولهذا قال :" وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ". فيقال : أرخت تاريخا، وورخت توريخا. لغتان.
قوله تعالى :" وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح " المعنى : وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون : كن خليفتي، فدل على النيابة. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي حين خلفه في بعض مغازيه :( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ). فاستدل بهذا الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على جميع الأمة، حتى كفر الصحابة الإمامية - قبحهم الله - لأنهم عندهم تركوا العمل الذي هو النص على استخلاف علي واستخلفوا غيره بالاجتهاد منهم. ومنهم من كفر عليا إذ لم يقم بطلب حقه. وهؤلاء لا شك في كفرهم وكفر من تبعهم على مقالتهم، ولم يعلموا أن هذا استخلاف في حياةٍ كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو بموته، لا يقتضي أنه متماد بعد وفاته، فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية وغيرهم. وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وغيره، ولم يلزم من ذلك استخلافه دائما بالاتفاق. على أنه قد كان هارون شرك مع موسى في أصل الرسالة، فلا يكون لهم فيه على ما راموه دلالة. والله الموفق للهداية. " وأصلح " أمر بالإصلاح. قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه. وقيل : أي ارفق بهم، وأصلح أمرهم، وأصلح نفسك ؛ أي كن مصلحا. " ولا تتبع سبيل المفسدين " أي لا تسلك سبيل العاصين، ولا تكن عونا للظالمين.
١ من ع.
٢ من ع.
٣ راجع ج ١٧ ص ٢٣..
٤ راجع ص ٢١٨ من هذا الجزء..
٥ فصل: خرج.
٦ أي لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر.
٧ راجع ج ١٠ ص ٢٣١..
٨ راجع ج ١٤ ص ٣٥١..
٩ في ب: وإنذار بعد إنذار..
١٠ راجع ج ١٦ ص ١٩٤..
١١ كذا في ج و ك وهو الصواب. وفي ا و ب و ز و ى يشكرهما..

[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٣]

وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أَيْ فِي الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أَيْ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سَأَلَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ لما أسمعه كلامه. ف (قالَ لَنْ تَرانِي) أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: أَرِنِي آيَةً عَظِيمَةً لِأَنْظُرَ إِلَى قُدْرَتِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ" إِلَيْكَ" وَ" قالَ لَنْ تَرانِي". وَلَوْ سَأَلَ آيَةً لَأَعْطَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، كَمَا أَعْطَاهُ سَائِرَ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا مَقْنَعٌ عَنْ طَلَبِ آيَةٍ أُخْرَى، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ضَرَبَ لَهُ مِثَالًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَتِهِ وَأَثْبَتُ. أَيْ فَإِنْ ثَبَتَ الْجَبَلُ وَسَكَنَ فَسَوْفَ تَرَانِي، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْ فَإِنَّكَ لَا تُطِيقُ رُؤْيَتِي، كَمَا أَنَّ الْجَبَلَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَتِي. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا، وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكٍ خَلْقَهُ اللَّهُ لَهُ. وَاسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:" وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي". ثُمَّ قَالَ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) وَتَجَلَّى مَعْنَاهُ ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِكَ: جَلَوْتُ الْعَرُوسَ أَيْ أَبْرَزْتُهَا. وَجَلَوْتُ السَّيْفَ أَبْرَزْتُهُ مِنَ الصَّدَأِ، جِلَاءً فِيهِمَا. وَتَجَلَّى الشَّيْءُ انْكَشَفَ. وَقِيلَ: تَجَلَّى أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ" دَكًّا"، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا" دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا" «١» وَأَنَّ الْجَبَلَ مُذَكَّرٌ «٢». وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ" دَكَّاءَ" أَيْ جَعَلَهُ مِثْلَ أَرْضٍ دَكَّاءَ، وَهِيَ النَّاتِئَةُ «٣» لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ جَبَلًا. وَالْمُذَكَّرُ أَدَكُّ، وَجَمْعُ دَكَّاءَ دكاوات
(١). راجع ج ٢٠ ص ٥٤. [..... ]
(٢). في ب وج: قراءة.
(٣). الذي في مفردات الراغب: أرض دكاء مسواة.
278
وَدُكٌّ، مِثْلَ حَمْرَاوَاتٍ وَحُمْرٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الدُّكُّ مِنَ الْجِبَالِ: الْعِرَاضُ، وَاحِدُهَا أَدَكُّ. غَيْرُهُ: وَالدَّكَّاوَاتُ جَمْعُ دَكَّاءَ: رَوَابٍ مِنْ طِينٍ لَيْسَتْ بِالْغِلَاظِ. وَالدِّكْدَاكُ كَذَلِكَ مِنَ الرَّمْلِ: مَا الْتَبَدَ بِالْأَرْضِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ. وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ لَا سَنَامَ لَهَا. وَفِي التَّفْسِيرِ: فَسَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ يَذْهَبُ فِيهَا حَتَّى الْآنَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ تُرَابًا. عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: رَمْلًا هَائِلًا. (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: مَيِّتًا، يُقَالُ: صَعِقَ الرَّجُلُ فَهُوَ صَعِقٌ. وَصُعِقَ فَهُوَ مَصْعُوقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَوْمَ الْخَمِيسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأُعْطِيَ التَّوْرَاةَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: سَأَلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَلِذَلِكَ تَابَ. وقيل: قال عَلَى جِهَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْخُشُوعِ لَهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَا كَانَتْ عَنْ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ. وَأَيْضًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الرُّؤْيَةُ جَائِزَةٌ. وَعِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ سَأَلَ لِأَجْلِ الْقَوْمِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي التَّوْبَةَ. فَقِيلَ: أَيْ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ «١» " بَيَانُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ جَائِزَةٌ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ سُؤَالُ مُوسَى مُسْتَحِيلًا مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَا رَبِّ أَلَكَ صَاحِبَةٌ وَوَلَدٌ. وَسَيَأْتِي فِي" الْقِيَامَةِ «٢» " مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) قِيلَ: بن قَوْمِي. وَقِيلَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقِيلَ: بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا لِوَعْدِكَ السَّابِقِ، فِي ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يخيروا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَصَعِقَ فِيمَنْ صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصفته الْأُولَى (. أَوْ قَالَ (كَفَتْهُ صَعْقَتُهُ الْأُولَى). وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كَعْبٍ قال: إن الله تبارك وتعالى قسم
(١). راجع ج ٥٤ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٠٥.
279
كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٤]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) الِاصْطِفَاءُ: الِاجْتِبَاءُ، أَيْ فَضَّلْتُكَ. وَلَمْ يَقُلْ عَلَى الْخَلْقِ، لِأَنَّ مِنْ هَذَا الِاصْطِفَاءِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَقَدْ كَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ غَيْرَهُ. فَالْمُرَادُ" عَلَى النَّاسِ" الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. وَقَرَأَ" بِرِسَالَتِي" عَلَى الْإِفْرَادِ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ. وَالْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ. وَالرِّسَالَةُ مَصْدَرٌ، فَيَجُوزُ إِفْرَادُهَا. وَمَنْ جَمَعَ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ بِضُرُوبٍ مِنَ الرِّسَالَةِ فَاخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، فَجُمِعَ الْمَصْدَرُ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، كَمَا قَالَ:" إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «١» ". فَجَمَعَ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الْأَصْوَاتِ وَاخْتِلَافِ المصوتين. ووحد في قوله" الصوت" لَمَّا أَرَادَ بِهِ جِنْسًا وَاحِدًا مِنَ الْأَصْوَاتِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي التَّكْلِيمِ وَلَا وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي" الْبَقَرَةِ «٢» ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) إِشَارَةٌ إِلَى الْقَنَاعَةِ، أَيِ اقْنَعْ بِمَا أَعْطَيْتُكَ. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ مِنَ الْمُظْهِرِينَ لِإِحْسَانِي إِلَيْكَ وَفَضْلِي عَلَيْكَ، يُقَالُ: دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ. وَالشَّاكِرُ مُعَرَّضٌ لِلْمَزِيدِ كَمَا قَالَ:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «٣» ". وَيُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ بَعْدَ أَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا مات من نور الله عز وجل.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٥]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
(١). راجع ج ١٤ ص ٧١.
(٢). راجع ج ١ ص ٤٠٣.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٤٢.
280
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يُرِيدُ التَّوْرَاةَ. وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ فَمَرَّ بِهِ فِي الْعُلَا حَتَّى أَدْنَاهُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ حِينَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ الْأَلْوَاحَ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ. ابْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ. أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنْ زَبَرْجَدٍ. الْحَسَنُ: مِنْ خَشَبٍ، نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطَعَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ شَقَّهَا بِأَصَابِعِهِ، فَأَطَاعَتْهُ كَالْحَدِيدِ لِدَاوُدَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ كَتَبْنَا (لَهُ «١») فِي الألواح كنقس الْخَاتَمِ. رَبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ وَهِيَ سَبْعُونَ وِقْرَ «٢» بَعِيرٍ. وَأَضَافَ الْكِتَابَةَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ، إِذْ هِيَ مَكْتُوبَةٌ بِأَمْرِهِ كَتَبَهَا جِبْرِيلُ بِالْقَلَمِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ الذِّكْرَ. وَاسْتُمِدَّ مِنْ نَهَرِ النُّورِ. وَقِيلَ: هِيَ كِتَابَةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ وَخَلَقَهَا فِي الْأَلْوَاحِ. وَأَصْلُ اللُّوحِ: (لَوْحٌ «٣») (بِفَتْحِ اللَّامِ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «٤» ". فَكَأَنَّ اللَّوْحَ تَلُوحُ فِيهِ الْمَعَانِي. وَيُرْوَى أَنَّهَا لَوْحَانِ، وَجَاءَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَظِيمُ الْأَلْوَاحِ إِذَا كَانَ كَبِيرَ عَظْمِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَتَكَسَّرَتِ الْأَلْوَاحُ حِينَ أَلْقَاهَا فَرُفِعَتْ إِلَّا سُدُسَهَا. وَقِيلَ: بَقِيَ سُبُعُهَا وَرُفِعَتْ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا. فَكَانَ فِي الَّذِي رُفِعَ تَفْصِيلُ كل شي، وَفِي الَّذِي بَقِيَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ. وَأَسْنَدَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ فَصَامَ مِثْلَهَا فَرُدَّتْ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى" مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَتَبْيِينِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ لَفْظٌ يُذْكَرُ تَفْخِيمًا وَلَا يُرَادُ بِهِ التَّعْمِيمُ، تَقُولُ: دخلت السوق فاشتريت كل شي. وعند فلان كل شي. وَ" تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ «٥» "." وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «٦» " وقد تقدم. (موعظة وتفصيلا لكل شي) أي لكل شي أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمُ اجْتِهَادٌ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَقُلْنَا لَهُ: خُذْهَا بِقُوَّةٍ، أي بجد ونشاط. نظيره
(١). من ب، ع.
(٢). الوقر (بكسر الواو): الحمل الثقيل. وعم بعضهم به الثقيل والخفيف وما بينهما.
(٣). من ع. وهو الصواب. والذي في ب ى اك: اللمع. وليست بشيء. بدليل الآية الشاهد.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٢٦٩.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٢٠٦.
(٦). راجع ج ١٣ ص ١٨٤.
281
قوله تعالى :" وكتبنا له في الألواح من كل شيء " يريد التوراة. وروي في الخبر أنه قبض عليه جبريل عليه السلام بجناحه فمر به في العلا حتى أدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله له الألواح، ذكره الترمذي الحكيم. وقال مجاهد : كانت الألواح من زمردة خضراء. ابن جبير : من ياقوتة حمراء. أبو العالية : من زبرجد. الحسن : من خشب، نزلت من السماء. وقيل : من صخرة صماء، لينها الله لموسى عليه السلام فقطعها بيده ثم شقها بأصابعه، فأطاعته كالحديد لداود. قال مقاتل : أي كتبنا له١ في الألواح كنقش الخاتم. ربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير٢. وأضاف الكتابة إلى نفسه على جهة التشريف ؛ إذ هي مكتوبة بأمره كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر. واستمد من نهر النور. وقيل : هي كتابة أظهرها الله وخلقها في الألواح. وأصل اللوح : لوح٣ ( بفتح اللام ) ؛ قال الله تعالى :" بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ٤ " [ البروج : ٢١، ٢٢ ]. فكأن اللوح تلوح فيه المعاني. ويروى أنها لوحان، وجاء بالجمع لأن الاثنين جمع. ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبير عظم اليدين والرجلين. ابن عباس : وتكسرت الألواح حين ألقاها فرفعت إلا سدسها. وقيل : بقي سبعها ورفعت ستة أسباعها. فكان في الذي رفع تفصيل كل شيء، وفي الذي بقي الهدى والرحمة. وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال : بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة، فلما ألقى الألواح تكسرت فصام مثلها فردت إليه. ومعنى " من كل شيء " مما يحتاج إليه في دينه من الأحكام وتبيين الحلال والحرام، عن الثوري وغيره. وقيل : هو لفظ يذكر تفخيما ولا يراد به التعميم، تقول : دخلت السوق فاشتريت كل شيء. وعند فلان كل شيء. و " تدمر كل شيء٥ " [ الأحقاف : ٢٥ ]. " وأوتيت من كل شيء٦ " [ النمل : ٢٣ ]. وقد تقدم. " موعظة وتفصيلا لكل شيء " أي لكل شيء أمروا به من الأحكام، فإنه لم يكن عندهم اجتهاد، وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. " فخذها بقوة " في الكلام حذف، أي فقلنا له : خذها بقوة، أي بجد ونشاط. نظيره " خذوا ما آتيناكم بقوة " [ البقرة : ٦٣ ] وقد تقدم٧. " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ. نظيره " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم٨ " [ الزمر : ٥٥ ]. وقال :" فيتبعون أحسنه٩ " [ الزمر : ١٨ ]. والعفو أحسن من الاقتصاص. والصبر أحسن من الانتصار. وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل، وأدونها المباح. " سأريكم دار الفاسقين " قال الكلبي :" دار الفاسقين " ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود، والقرون التي أهلكوا١٠. وقيل : هي جهنم. عن الحسن ومجاهد. أي فلتكن منكم على ذكر، فاحذروا أن تكونوا منها. وقيل : أراد بها مصر، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية عنهم، عن ابن جبير. قتادة : المعنى سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها، يعني الشأم. وهذان القولان يدل عليهما " وأورثنا القوم١١ " [ الأعراف : ١٣٧ ] الآية. " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض١٢ " [ القصص : ٥ ] الآية، وقد تقدم. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير " سأورثكم " من ورث. وهذا ظاهر. وقيل : الدار الهلاك، وجمعه أدوار. وذلك أن الله تعالى لما أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، قال : ففعل، فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين.
١ من ب ع..
٢ الوقر (بكسر الواو) : الحمل الثقيل: وعم بعضهم به الثقيل والخفيف وما بينهما..
٣ من ع: والصواب والذي فب ب، ى، ا، ك، اللمع. وليست بشيء بدليل الآية الشاهد..
٤ راجع ج ١٩ ص ٢٩٦..
٥ راجع ج ١٦ ص ٢٠٦..
٦ راجع ج ١٣ ص ١٨٤..
٧ راجع ج ١ ص ٤٣٧..
٨ راجع ج ١٥ ص ٢٧٠، ٢٤٣..
٩ راجع ج ١٥ ص ٢٧٠، ٢٤٣..
١٠ في ج و ك: الذين..
١١ راجع ص ٢٧٢ من هذا الجزء..
١٢ راجع ج ١٣ ص ٢٤٧..
" خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أَيْ يَعْمَلُوا بِالْأَوَامِرِ وَيَتْرُكُوا النَّوَاهِيَ، وَيَتَدَبَّرُوا الْأَمْثَالَ وَالْمَوَاعِظَ. نَظِيرُهُ" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «٢» ". وَقَالَ:" فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «٣» ". وَالْعَفْوُ أَحْسَنُ مِنَ الِاقْتِصَاصِ. وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ مِنَ الِانْتِصَارِ. وَقِيلَ: أَحْسَنُهَا الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، وَأَدْوَنُهَا الْمُبَاحُ. سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ قَالَ الْكَلْبِيُّ:" دارَ الْفاسِقِينَ" مَا مَرُّوا عَلَيْهِ إِذَا سَافَرُوا مِنْ مَنَازِلِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَالْقُرُونِ الَّتِي «٤» أُهْلِكُوا. وَقِيلَ: هِيَ جَهَنَّمُ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. أَيْ فَلْتَكُنْ مِنْكُمْ عَلَى ذِكْرٍ، فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِنْهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا مِصْرَ، أَيْ سَأُرِيكُمْ دِيَارَ الْقِبْطِ وَمَسَاكِنَ فِرْعَوْنَ خَالِيَةً عَنْهُمْ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ. قَتَادَةُ: الْمَعْنَى سَأُرِيكُمْ مَنَازِلَ الْكُفَّارِ الَّتِي سَكَنُوهَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْعَمَالِقَةِ لِتَعْتَبِرُوا بِهَا يَعْنِي الشَّأْمَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا" وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ «٥» " الْآيَةَ." وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «٦» " الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ" سَأُوَرِّثُكُمْ" مِنْ وَرَّثَ. وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقِيلَ: الدَّارُ الْهَلَاكُ، وَجَمْعُهُ أَدْوَارٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ أَوْحَى إِلَى الْبَحْرِ أَنِ اقْذِفْ بِأَجْسَادِهِمْ إِلَى السَّاحِلِ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ بَنُو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
(١). راجع ج ١ ص ٤٣٧. [..... ]
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٧٠، ص ٢٤٣.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٧٠، ص ٢٤٣.
(٤). في ج وك: الذين.
(٥). راجع ص ٢٧٢. من هذا الجزء.
(٦). راجع ج ١٣ ص ٢٤٧.
282
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) قَالَ قَتَادَةُ: سَأَمْنَعُهُمْ فَهْمَ كِتَابِي. وَقَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَقِيلَ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا. وَقِيلَ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْ نَفْعِهَا، وَذَلِكَ مُجَازَاةً عَلَى تَكَبُّرِهِمْ. نَظِيرُهُ:" فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ «١» قُلُوبَهُمْ". وَالْآيَاتُ عَلَى هَذَا الْمُعْجِزَاتُ أَوِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ. وَقِيلَ: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. أَيْ أَصْرِفُهُمْ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِهَا. (يَتَكَبَّرُونَ) يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ. وَهَذَا ظَنٌّ بَاطِلٌ، فَلِهَذَا قَالَ: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) فَلَا يَتَّبِعُونَ نَبِيًّا وَلَا يَصْغُونَ إِلَيْهِ لِتَكَبُّرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ. أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ طَرِيقَ الرَّشَادِ وَيَتَّبِعُونَ سَبِيلَ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ، أَيِ الْكُفْرُ يَتَّخِذُونَهُ دِينًا. ثُمَّ عَلَّلَ فَقَالَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلْتُهُ بِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ. (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) أَيْ كَانُوا فِي تَرْكِهِمْ تَدَبُّرَ الْحَقِّ كَالْغَافِلِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا غَافِلِينَ عَمَّا يُجَازَوْنَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: مَا أَغْفَلَ فُلَانٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِ، وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ" وَإِنْ يُرَوْا" بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ، أَيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ" سَبِيلَ الرُّشْدِ" بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَّا عَاصِمًا" الرَّشَدِ" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَرَّقَ أَبُو عَمْرٍو بَيْنَ الرُّشْدِ وَالرَّشَدِ فَقَالَ: الرُّشْدُ فِي الصَّلَاحِ. وَالرَّشَدُ فِي الدِّينِ. قَالَ النَّحَّاسُ:" سِيبَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الرُّشْدَ وَالرَّشَدَ مِثْلُ السُّخْطِ وَالسَّخَطِ، وَكَذَا قَالَ الْكِسَائِيُّ. وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو غَيْرُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ: إِذَا كَانَ الرُّشْدُ وَسَطَ الْآيَةِ فَهُوَ مُسَكَّنٌ، وَإِذَا كَانَ رَأْسَ الْآيَةِ فَهُوَ مُحَرَّكٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَعْنِي بِرَأْسِ الْآيَةِ نَحْوَ" وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً «٢» ١٠" فَهُمَا عِنْدَهُ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ هَذَا لِتَتَّفِقَ الْآيَاتُ. وَيُقَالُ: رَشَدَ يَرْشُدُ، وَرَشُدَ يَرْشُدُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ رَشِدَ يَرْشَدُ. وَحَقِيقَةُ الرُّشْدِ وَالرَّشَدِ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَظْفَرَ الْإِنْسَانُ بِمَا يُرِيدُ، وهو ضد الخيبة".
(١). راجع ج ١٨ ص ٨٢.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٥٨.
283

[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٨]

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ خُرُوجِهِ إِلَى الطُّورِ. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) هَذِهِ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ البصرة. وقرا أهل الكوفة عَاصِمًا" مِنْ حِلِيِّهِمْ" بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ" مِنْ حَلْيِهِمْ" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: جمع حلي وحلي وَحِلِيٌّ، مِثْلَ ثَدْيٍ وَثُدِيٍّ وَثِدِيٍّ. وَالْأَصْلُ" حُلُوِيٌّ" ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَانْكَسَرَتِ اللَّامُ لِمُجَاوَرَتِهَا الْيَاءَ، وَتُكْسَرُ الْحَاءُ لِكَسْرَةِ اللَّامِ. وَضَمُّهَا عَلَى الْأَصْلِ. (عِجْلًا) مَفْعُولٌ. (جَسَدًا) نَعْتٌ أَوْ بَدَلٌ. (لَهُ خُوَارٌ) رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. يُقَالُ: خَارَ يَخُورُ خُوَارًا إِذَا صَاحَ. وَكَذَلِكَ جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا. وَيُقَالُ: خَوِرَ يَخْوَرُ خَوَرًا إِذَا جَبُنَ وَضَعُفَ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ الْعِجْلِ: أَنَّ السَّامِرِيَّ، وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظَفَرَ، يُنْسَبُ إِلَى قَرْيَةٍ تُدْعَى سَامِرَةَ. وُلِدَ عَامَ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ، وَأَخْفَتْهُ أُمُّهُ فِي كَهْفِ جَبَلٍ فَغَذَّاهُ جِبْرِيلُ فَعَرَفَهُ لِذَلِكَ، فَأَخَذَ حِينَ عَبَرَ الْبَحْرَ عَلَى فَرَسٍ وَدِيقٍ «١» لِيَتَقَدَّمَ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ- قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ حَافِرِ الْفَرَسِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ «٢» ٢٠: ٩٦". وَكَانَ مُوسَى وَعَدَ قَوْمَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا أَبْطَأَ فِي الْعَشْرِ الزَّائِدِ وَمَضَتْ ثَلَاثُونَ لَيْلَةً قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ: إِنَّ مَعَكُمْ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ وَيَسْتَعِيرُونَ مِنَ الْقِبْطِ الْحُلِيَّ فَاسْتَعَارُوا لِذَلِكَ الْيَوْمِ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِنْ مِصْرَ وَغَرِقَ الْقِبْطُ بَقِيَ ذَلِكَ الْحُلِيُّ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ السَّامِرِيُّ: إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، فَهَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ فَنُحَرِّقُهُ. وَقِيلَ: هَذَا الْحُلِيُّ مَا أَخَذَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ الْغَرَقِ، وَأَنَّ هَارُونَ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْحُلِيَّ غَنِيمَةٌ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، فَجَمَعَهَا فِي حُفْرَةٍ حَفَرَهَا فَأَخَذَهَا السَّامِرِيُّ. وَقِيلَ: اسْتَعَارُوا الْحُلِيَّ لَيْلَةَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْ مِصْرَ، وَأَوْهَمُوا الْقِبْطَ أَنَّ لهم عرسا أو مجتمعا،
(١). أي تشتهي الفحل.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٣٨.
وَكَانَ السَّامِرِيُّ سَمِعَ قَوْلَهُمْ" اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ «١» آلِهَةٌ". وَكَانَتْ تِلْكَ الْآلِهَةُ عَلَى مِثَالِ الْبَقَرِ، فَصَاغَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا، أَيْ مصمتا، غير أنهم كانوا يسمعون منه خوار. وَقِيلَ: قَلَبَهُ اللَّهُ لَحْمًا وَدَمًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا أَلْقَى تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ فِي النَّارِ عَلَى الْحُلِيِّ صَارَ عِجْلًا لَهُ خُوَارٌ، فَخَارَ خَوْرَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُثَنِّ ثُمَّ قَالَ لِلْقَوْمِ:" هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ»
٢٠: ٨٨". يَقُولُ: نسيه هاهنا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فَضَلَّ عَنْهُ- فَتَعَالَوْا نَعْبُدُ هَذَا الْعِجْلَ. فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى وَهُوَ يُنَاجِيهِ:" فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ٢٠: ٨٥". فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، هَذَا السَّامِرِيُّ أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمْ، فَمَنْ جَعَلَ لَهُ جَسَدًا؟ - يُرِيدُ اللَّحْمَ وَالدَّمَ- وَمَنْ جَعَلَ لَهُ خُوَارًا؟ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَضَلَّهُمْ غَيْرُكَ. قَالَ صَدَقْتَ يَا حَكِيمَ الْحُكَمَاءِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ «٣» ". وَقَالَ الْقَفَّالُ: كَانَ السَّامِرِيُّ احْتَالَ بِأَنْ جَوَّفَ الْعِجْلَ، وَكَانَ قَابَلَ بِهِ الرِّيحَ، حَتَّى جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُحَاكِي الْخُوَارَ، وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِمَا طُرِحَ فِي الْجَسَدِ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ مِنْ تُرَابِ قَوَائِمِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. وَهَذَا كلام فيه تهافت «٤»، قال القشيري. قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ) بَيَّنَ أَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْكَلَامِ. (وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أَيْ طَرِيقًا إِلَى حُجَّةٍ. (اتَّخَذُوهُ) أَيْ إِلَهًا. (وَكَانُوا ظَالِمِينَ) أَيْ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا مِنِ اتِّخَاذِهِ «٥». وَقِيلَ: وَصَارُوا ظَالِمِينَ أَيْ مُشْرِكِينَ لجعلهم العجل إلها.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٤٩]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أَيْ بَعْدَ عَوْدِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ. يُقَالُ لِلنَّادِمِ الْمُتَحَيِّرِ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَأُسْقِطَ. وَمَنْ قَالَ: سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: سَقَطَ النَّدَمُ، قال الأزهري والنحاس وغيرهما.
(١). راجع ص ٢٧٣ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٣٢ وص ٢٩٤ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٣٢ وص ٢٩٤ من هذا الجزء.
(٤). في ب وى: متهافت.
(٥). في ز: اتخاذهم. [..... ]
وَالنَّدَمُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْيَدَ لأنه يقال لمن تحصل على شي: قَدْ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمْرُ كَذَا، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَشْيَاءِ فِي الْغَالِبِ بِالْيَدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «١» ١٠". وَأَيْضًا: النَّدَمُ وَإِنْ حَلَّ فِي الْقَلْبِ فَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْبَدَنِ، لِأَنَّ النَّادِمَ يَعَضُّ يَدَهُ، وَيَضْرِبُ إِحْدَى يديه على الأخرى، وقال اللَّهُ تَعَالَى:" فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها «٢» " أَيْ نَدِمَ." وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ «٣» " أَيْ مِنَ النَّدَمِ. وَالنَّادِمُ يَضَعُ ذَقَنَهُ فِي يَدِهِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِئْسَارِ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَوْ يَصْرَعَهُ فَيَرْمِيَ بِهِ مِنْ يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ لِيَأْسِرَهُ أَوْ يُكَتِّفَهُ، فَالْمَرْمِيُّ مَسْقُوطٌ بِهِ فِي يَدِ السَّاقِطِ. (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) أَيِ انْقَلَبُوا «٤» بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ. (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أَخَذُوا فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَفِيهِ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ." رَبَّنَا" بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ النِّدَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخُضُوعِ. فَقِرَاءَتُهُمَا أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أولى.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) ١٥٠ لَمْ يَنْصَرِفْ" غَضْبَانَ" لِأَنَّ مُؤَنَّثَهُ غَضْبَى، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَالنُّونَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَلِفَيِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِكَ حَمْرَاءُ. وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَ" أَسِفًا" شَدِيدُ الْغَضَبِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْأَسَفُ مَنْزِلَةٌ وَرَاءَ الْغَضَبِ أَشَدُّ من ذلك. وهو أسف وأسف وَأَسْفَانٌ وَأَسُوفٌ. وَالْأَسِيفُ أَيْضًا الْحَزِينُ. ابْنُ عَبَّاسٍ
(١). راجع ج ١٢ ص ١٥.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٤٠٩.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٥.
(٤). في ب وى: ابتلوا.
286
وَالسُّدِّيُّ: رَجَعَ حَزِينًا مِنْ صَنِيعِ قَوْمِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا بِالْعِجْلِ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غَضْبَانُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا، لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ «١»، فَتِلْكَ بِتِلْكَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ، وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ. وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ. فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ اغْتَسَلَ، فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ. وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الموت ففقأ عينه. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ «٢» مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَيْهِ أَوْ مَدَّ إِلَيْهِ يَدًا بِأَذًى فَقَدْ عَظُمَ الْخَطْبُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَنْزِعُ رُوحِي؟ أَمِنْ فَمِي وَقَدْ نَاجَيْتُ بِهِ رَبِّي! أَمْ مِنْ سَمْعِي وَقَدْ سَمِعْتُ بِهِ كَلَامَ رَبِّي! أَمْ مِنْ يَدِي وَقَدْ قَبَضْتُ مِنْهُ «٣» الْأَلْوَاحَ! أَمْ مِنْ قَدَمِي وَقَدْ قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُكَلِّمُهُ بِالطُّورِ! أَمْ مِنْ عَيْنِي وَقَدْ أَشْرَقَ وَجْهِي لِنُورِهِ. فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ مُفْحَمًا. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ الْقَاصِّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيِّ فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فَأَغْضَبَهُ، فَقَامَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ). قَوْلُهُ تعالى: (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) ١٥٠ ذَمٌّ مِنْهُ لَهُمْ، أَيْ بِئْسَ الْعَمَلُ عَمِلْتُمْ «٤» بَعْدِي. يُقَالُ: خَلَفَهُ، بِمَا يَكْرَهُ. وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ أَيْضًا. يُقَالُ مِنْهُ: خَلَفَهُ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ فِي أَهْلِهِ وقومه
(١). الفيئة (بفتح الفاء وكسرها): الحالة من الرجوع عن الشيء الذي يكون قد لابسه الإنسان وباشره.
(٢). راجع ج ٦ ص ١٢٢.
(٣). في ج: به.
(٤). في ب: عملكم.
287
بَعْدَ شُخُوصِهِ. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) ١٥٠ أَيْ سَبَقْتُمُوهُ. وَالْعَجَلَةُ: التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ. وَالسُّرْعَةُ: عَمَلُ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهِ، وَهِيَ مَحْمُودَةٌ. قَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ عَجِلْتُ الشَّيْءَ سَبَقْتُهُ. وَأَعْجَلْتُ الرَّجُلَ اسْتَعْجَلْتُهُ، أَيْ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ. وَمَعْنَى" أَمْرَ رَبِّكُمْ ١٥٠" أَيْ مِيعَادُ رَبِّكُمْ، أَيْ وعد أربعين ليلة. وقيل: أن تَعَجَّلْتُمْ سَخَطَ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: أَعَجِلْتُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ١٥٠ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ١٥٠ أَيْ مِمَّا اعْتَرَاهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْأَسَفِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَعَلَى أَخِيهِ فِي إهمال أمرهم، قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ إِلْقَاءَهُ الْأَلْوَاحَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا رَأَى فِيهَا مِنْ فَضِيلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول ردئ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ، وَأَنَّهُ رُفِعَ مِنْهَا التَّفْصِيلُ وَبَقِيَ (فِيهَا «١») الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ. الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ رَمْيِ الثِّيَابِ إِذَا اشْتَدَّ طَرَبُهُمْ عَلَى الْمَغْنَى. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرْمِي بِهَا صِحَاحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرِقُهَا ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي غَيْبَةٍ فَلَا يُلَامُونَ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَمُّ بِعِبَادَةِ قَوْمِهِ الْعِجْلَ، رَمَى الْأَلْوَاحَ فَكَسَّرَهَا، وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: مَنْ يُصَحِّحُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَمَاهَا رَمْيَ كَاسِرٍ؟ وَالَّذِي ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ أَلْقَاهَا، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ؟ ثُمَّ لَوْ قِيلَ: تَكَسَّرَتْ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهُ قَصَدَ كَسْرَهَا؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّحْنَا ذَلِكَ عَنْهُ قُلْنَا كَانَ فِي غَيْبَةٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَحْرٌ مِنْ نَارٍ لَخَاضَهُ. وَمَنْ يُصَحِّحُ لِهَؤُلَاءِ غَيْبَتَهُمْ وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْمُغَنِّيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَحْذَرُونَ مِنْ بِئْرٍ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ كَيْفَ تُقَاسُ أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُقَيْلٍ عَنْ تَوَاجُدِهِمْ وَتَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ فَقَالَ: خَطَأٌ وَحَرَامٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَإِنَّهُمْ لا يعقلون ما يفعلون. فقال:
(١). من ب.
288
إِنْ حَضَرُوا هَذِهِ الْأَمْكِنَةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الطَّرَبَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ فَيُزِيلُ عُقُولَهُمْ أَثِمُوا بِمَا أَدْخَلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّخْرِيقِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَفْسَدُوا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ خِطَابُ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ قَبْلَ الْحُضُورِ بِتَجَنُّبِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ. كَمَا هُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، كَذَلِكَ هَذَا الطَّرَبُ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ التَّصَوُّفِ وَجْدًا إِنْ صَدَقُوا أَنَّ فِيهِ سُكْرَ طَبْعٍ، وَإِنْ كَذَبُوا أَفْسَدُوا مَعَ الصَّحْوِ، فَلَا سَلَامَةَ فِيهِ مَعَ الْحَالَيْنِ، وَتَجَنُّبُ مَوَاضِعِ الرِّيَبِ وَاجِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) ١٥٠ أَيْ بِلِحْيَتِهِ وَذُؤَابَتِهِ. وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا- بِثَلَاثَ سِنِينَ، وَأَحَبَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ موسى، لأنه كان لين الغضب. للعلماء فِي أَخْذِ مُوسَى بِرَأْسِ أَخِيهِ أَرْبَعَ تَأْوِيلَاتٍ الْأَوَّلُ- أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَارَفًا عِنْدَهُمْ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْضِ الرَّجُلِ عَلَى لِحْيَةِ أَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِذْلَالِ. الثَّانِي- أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِيُسِرَّ إِلَيْهِ نُزُولَ الْأَلْوَاحِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْفِيَهَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ. فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي، لِئَلَّا يُشْتَبَهَ سِرَارُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِذْلَالِهِ. الثَّالِثُ- إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ هَارُونَ مَائِلٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. الرَّابِعُ- ضَمَّ إِلَيْهِ أَخَاهُ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ هَارُونُ لِئَلَّا يَظُنَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ أَهَانَهُ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ، يَعْنِي عَبَدَةَ الْعِجْلِ، وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ أَيْ قَارَبُوا. فَلَمَّا سَمِعَ عُذْرَهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، أَيِ اغْفِرْ لِي مَا كَانَ مِنَ الْغَضَبِ الَّذِي أَلْقَيْتُ مِنْ أَجْلِهِ الْأَلْوَاحَ، وَلِأَخِي لِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُقَصِّرًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، أَيِ اغْفِرْ لِأَخِي إِنْ قَصَّرَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَبَدَ كُلُّهُمُ الْعِجْلَ غَيْرَ هَارُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُؤْمِنٌ غَيْرُ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، وَلَدَعَا لِذَلِكَ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا. وَقِيلَ: اسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ فِعْلِهِ بِأَخِيهِ،
289
فَعَلَ ذَلِكَ لِمَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَيُعَرِّفُهُ مَا جَرَى لِيَرْجِعَ فَيَتَلَافَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ:" يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ «١» ٢٠: ٩٣ - ٩٢" الْآيَةَ. فَبَيَّنَ هَارُونُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقَامَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ تغيير المنكر أن يسكت. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي" آلِ عِمْرَانَ «٢» " ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ، بَلِ اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا مِنْ إِلْقَاءِ لَوْحٍ وَعِتَابِ أَخٍ وَصَكِّ مَلَكٍ. الهدوي: لِأَنَّ غَضَبَهُ كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُكُوتَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَوْفًا أَنْ يَتَحَارَبُوا أَوْ يَتَفَرَّقُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ ابْنَ أُمَّ) ١٥٠ وَكَانَ ابْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَلَكِنَّهَا كَلِمَةُ لِينٍ وَعَطْفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لأمه لا لأبيه. وقرى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، فَمَنْ فَتَحَ جَعَلَ" ابْنَ أُمَّ ١٥٠" اسْمًا وَاحِدًا كَخَمْسَةَ عَشَرَ، فَصَارَ كَقَوْلِكَ: يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا. وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ جعله مضاف إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ حَذَفَ يَاءَ الْإِضَافَةِ، لِأَنَّ مَبْنَى النِّدَاءِ عَلَى الْحَذْفِ، وَأَبْقَى الْكَسْرَةَ فِي الْمِيمِ لِتَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ:" يَا عِبادِ «٣» ١٠". يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ السَّمَيْقَعِ" يَا بن أُمِّي" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ والفراء وأبو عبيد:"ابْنَ أُمَّ ٢٠: ٩٤
" بالفتح، تقديره يا بن أُمَّاهُ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَلِفَ خَفِيفَةٌ لَا تُحْذَفُ، وَلَكِنْ جَعَلَ الِاسْمَيْنِ اسما واحدا. وقال الأخفش وأبو حاتم:"ابْنَ أُمَّ ٢٠: ٩٤
" بِالْكَسْرِ كَمَا تَقُولُ: يَا غُلَامُ غُلَامِ أَقْبِلْ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِهَا بَعِيدَةٌ. وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَيْكَ، فَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَى مُضَافٍ إِلَيْكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تقول: يا غلام غلامي، ويا بن أخي. وجوزوا يا بن أُمَّ، يَا بْنَ عَمَّ، لِكَثْرَتِهَا فِي الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ: وَلَكِنْ لَهَا وَجْهٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ، يُجْعَلُ الِابْنُ مَعَ الْأُمِّ وَمَعَ الْعَمِّ اسْمًا وَاحِدًا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَا غُلَامِ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي اسْتَذَلُّونِي وَعَدُّونِي ضَعِيفًا. وَكَادُوا أَيْ قَارَبُوا. يَقْتُلُونَنِي بِنُونَيْنِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ. وَيَجُوزُ الْإِدْغَامُ فِي غَيْرِ «٤» الْقُرْآنِ. فَلَا تشمت بى الأعداء
(١). راجع ج ١١ ص ٢٣٦.
(٢). راجع ج ٤ ص ٤٧.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٤٣.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٧٦ ففيه خلاف هذا.
290
أَيْ لَا تَسُرُّهُمْ. وَالشَّمَاتَةُ: السُّرُورُ بِمَا يُصِيبُ أَخَاكَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْهَا وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِيَنَا
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ" تَشْمَتُ" بِالنَّصْبِ فِي التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ،" الْأَعْدَاءُ" بِالرَّفْعِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلْ بِي مَا تَشْمَتُ مِنْ أَجْلِهِ الْأَعْدَاءُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِفِعْلٍ تَفْعَلُهُ أَنْتَ بِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا" تَشْمَتْ" بِالْفَتْحِ فِيهِمَا" الْأَعْدَاءَ" بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْمَعْنَى فَلَا تَشْمَتْ بِي أَنْتَ يَا رَبِّ. وَجَازَ هَذَا كَمَا قَالَ:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «١» " وَنَحْوَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمُرَادِ فَأَضْمَرَ فِعْلًا نَصَبَ بِهِ الْأَعْدَاءَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُشْمِتْ بِيَ، الْأَعْدَاءَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَكَيْتُ عَنْ حُمَيْدٍ:" فَلَا تَشْمِتْ" بِكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ شَمِتَ وَجَبَ أَنْ يَقُولَ تَشْمَتُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَشْمَتَ وَجَبَ أَنْ يَقُولَ تُشْمِتُ. وَقَوْلُهُ: (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ١٥٠ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الذين عبدوا العجل. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «٢») تقدم.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥٢ الى ١٥٣]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ). الْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ الْعُقُوبَةُ. وذلة في الحيوة الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: الذلة الجزية.
(١). راجع ج ١ ص ٢٠٧. [..... ]
(٢). راجع ج ٣ ص ٤٣١.
وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْهُ، وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثم قال الله تعالى:" وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ". وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ الْقَوْمُ بِقَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَابُوا وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَرَى الْقَتْلُ الْعَظِيمُ- كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ «١» - أَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَتِيلًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ بَقِيَ حَيًّا فَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. وَقِيلَ: كَانَ ثَمَّ طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أحبه، فلم يتوبوا، فهم المعنيون. بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ رُجُوعِ مُوسَى مِنَ الْمِيقَاتِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَوْلَادَهُمْ. وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، أَيْ سَيَنَالُ أَوْلَادَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أَيْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ نَفْعَلُ بِالْمُفْتَرِينَ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مَا مِنْ مُبْتَدِعٍ إِلَّا وَتَجِدُ فَوْقَ رَأْسِهِ ذِلَّةٌ، ثُمَّ قَرَأَ" إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ"- حَتَّى قَالَ-" وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ" أَيِ الْمُبْتَدِعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى أُمِرَ بِذَبْحِ الْعِجْلِ، فَجَرَى مِنْهُ دَمٌ وَبَرَدَهُ بِالْمِبْرَدِ وَأَلْقَاهُ مَعَ الدَّمِ فِي الْيَمِّ وَأَمَرَهُمْ بِالشُّرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَمَنْ عَبَدَ ذَلِكَ الْعِجْلَ وَأُشْرِبَهُ «٢» ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَى أَطْرَافِ فَمِهِ، فَبِذَلِكَ عرف عبدة العجل قد مَضَى هَذَا فِي الْبَقَرَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِ مِنَ الشرك وغيره. موضع (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) أَيِ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي. (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) أَيْ مِنْ بَعْدِ فِعْلِهَا. (وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي من بعد التوبة لغفور رحيم.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) أَيْ سَكَنَ. وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ" سَكَنَ" بِالنُّونِ وَأَصْلُ السُّكُوتِ السُّكُونُ وَالْإِمْسَاكُ، يقال: جرى الوادي ثلاثا
(١). راجع ج ١ ص ٤٠١.
(٢). في ك: وشربه. ولعل أصل العبارة: اشربه وظهر. إلخ. راجع ج ٢ ص ٣١.
ثُمَّ سَكَنَ، أَيْ أَمْسَكَ عَنِ الْجَرْيِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَكَتَ مُوسَى عَنِ الْغَضَبِ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ. كَقَوْلِكَ: أَدْخَلْتُ الْأُصْبُعَ فِي الْخَاتَمِ وَأَدْخَلْتُ الْخَاتَمَ فِي الْأُصْبُعِ. وَأَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَأَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) الَّتِي أَلْقَاهَا. (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ) أَيْ" هُدىً" مِنَ الضَّلَالَةِ،" وَرَحْمَةٌ" أَيْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالنَّسْخُ: نَقْلُ مَا فِي كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ. وَيُقَالُ لِلْأَصْلِ الَّذِي كُتِبَتْ مِنْهُ: نُسْخَةٌ، وَلِلْفَرْعِ نُسْخَةٌ. فَقِيلَ: لَمَّا تَكَسَّرَتِ الْأَلْوَاحُ صَامَ مُوسَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ وَأُعِيدَتْ لَهُ تِلْكَ الْأَلْوَاحُ فِي لَوْحَيْنِ، وَلَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا" وَفِي نُسْخَتِهَا" أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ مِنَ الْأَلْوَاحِ الْمُتَكَسِّرَةِ وَنُقِلَ إِلَى الْأَلْوَاحِ الْجَدِيدَةِ هُدًى وَرَحْمَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: وَفِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سُبُعُهَا، وَذَهَبَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا. وَلَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ شي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" وَفِي نُسْخَتِهَا" أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ لَهُ مِنْهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هُدًى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَفِيمَا كُتِبَ لَهُ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَصْلٍ يَنْقُلُ عَنْهُ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: انْسَخْ مَا يَقُولُ فُلَانٌ، أَيْ أثبته في كتابك. قوله تعالى: (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أَيْ يَخَافُونَ. وَفِي اللَّامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ هِيَ زَائِدَةٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْفَرَزْدَقَ يَقُولُ نَقَدْتُ لَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، بِمَعْنَى نَقَدْتُهَا. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، الْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أجل ربهم يرهبون رِيَاءَ وَلَا سُمْعَةَ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ، الْمَعْنَى: لِلَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ حسن دخول اللام، كقول:" إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «١» ". فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ ضَعُفَ عَمَلُ الْفِعْلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَتَعَدَّى.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
(١). راجع ج ٩ ص ١٩٨.
293
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) مَفْعُولَانِ، أَحَدُهُمَا حُذِفَتْ مِنْهُ مِنْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً وَبِرًّا إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ «١»
وَقَالَ الرَّاعِي يَمْدَحُ رَجُلًا:
اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ وَاخْتَلَّ «٢» مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ
يُرِيدُ: اخْتَرْتُكَ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُ اخْتَارَ اخْتِيرَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَقَبْلَهَا فَتْحَةٌ قُلِبَتْ أَلِفًا، نَحْو قَالَ وَبَاعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أَيْ مَاتُوا. وَالرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ زُلْزِلُوا حَتَّى مَاتُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أَيْ أَمَتَّهُمْ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ «٣» "." وَإِيَّايَ ٤٠" عَطْفٌ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْتَ أَمَتَّنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الْمِيقَاتِ بِمَحْضَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى لَا يَتَّهِمُونِي. أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَانْطَلَقَ شَبَّرُ وَشَبِّيرُ- هُمَا ابْنَا هَارُونَ- فَانْتَهَوْا إِلَى جَبَلٍ فِيهِ سَرِيرٌ، فَقَامَ عَلَيْهِ هَارُونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ. فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، حَسَدْتَنَا «٤» عَلَى لِينِهِ وَعَلَى خُلُقِهِ، أَوْ كَلِمَةٍ نَحْوَهَا، الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُهُ وَمَعِيَ ابْنَاهُ! قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ، فَاخْتَارُوا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ عَشَرَةً. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا" فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: مَنْ قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني
(١). البيت للفرزدق، كما في شواهد سيبويه. في ديوانه: وخيرا.
(٢). اختل: افتقر.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٨.
(٤). في ك: حسدا.
294
أَحَدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَوَفَّانِي. قَالُوا: يَا مُوسَى، مَا تُعْصَى «١». فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ «٢» يَمِينًا وَشِمَالًا، وَيَقُولُ: (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) قال فَأَحْيَاهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ. وَقِيلَ: أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ" عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ «٣». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، وَلَمْ يَرْضُوا عِبَادَتَهُ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ السَّبْعُونَ غَيْرُ مَنْ قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وَقَالَ وَهْبٌ: مَا مَاتُوا، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبِينَ مَفَاصِلُهُمْ، وَخَافَ مُوسَى عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُمْ مَاتُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا فِي مَعْنَى سَبَبِ أَخْذِهِمْ بِالرَّجْفَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَمَقْصُودُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ:" أَتُهْلِكُنا" الْجَحْدُ، أَيْ لَسْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَإِذَا كَانَ نَفْيًا كَانَ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، كَمَا قَالَ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ «٤»
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ، أَيْ لَا تُهْلِكْنَا، وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ الْقَوْمُ الَّذِينَ مَاتُوا مِنَ الرَّجْفَةِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامُ اسْتِعْظَامٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُهْلِكْنَا، وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِ عِيسَى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «٥» ". وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ السَّبْعُونَ. وَالْمَعْنَى: أَتُهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ فِي قَوْلِهِمْ" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً"." إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ" أَيْ مَا هَذَا إِلَّا اخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ. وَأَضَافَ الْفِتْنَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ:" وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ «٦» ٨٠" فَأَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: وَقَالَ يُوشَعُ:" وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ»
". وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قوله تعالى له:
(١). في ع: ما تقضى.
(٢). ع: يتردون.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٠٣.
(٤). الراح: جمع راحة، وهى الكف.
(٥). راجع ج ٦ ص ٣٧٧.
(٦). راجع ج ١٣ ص ١١٠. [..... ]
(٧). راجع ج ١١ ص ١٢.
295
" فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ «١» ٢٠: ٨٥". فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَرَأَى الْعِجْلَ مَنْصُوبًا لِلْعِبَادَةِ وَلَهُ خُوَارٌ قَالَ (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها) أَيْ بِالْفِتْنَةِ. (مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) وهذا رد على القدرية.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٥٦]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) أَيْ وَفِّقْنَا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكْتُبُ لَنَا بِهَا الْحَسَنَاتِ. (وَفِي الْآخِرَةِ) ٢٠ أَيْ جَزَاءً عَلَيْهَا. (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أَيْ تُبْنَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ. وَالْهَوْدُ: التوبة، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «٢». قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أَيِ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهُ، أَيْ هَذِهِ الرَّجْفَةُ وَالصَّاعِقَةُ عَذَابٌ مِنِّي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" مَنْ أَشاءُ" أَيْ مَنْ أَشَاءُ أَنْ أُضِلَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) عُمُومٌ، أَيْ لَا نِهَايَةَ لَهَا أَيْ مَنْ دَخَلَ فِيهَا لم تعجز عنه. وقيل: وسعت كل شي مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى إِنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا رَحْمَةٌ وَعَطْفٌ عَلَى وَلَدِهَا. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: طَمِعَ في هذه الآية كل شي حتى إبليس فقال: أنا شي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) فَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ مُتَّقُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ" الْآيَةَ. فَخَرَجَتِ الْآيَةُ عَنِ الْعُمُومِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة.
(١). راجع ج ١١ ص ٢٣٢.
(٢). راجع ج ١ ص ٤٢٣.

[سورة الأعراف (٧): آية ١٥٧]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ الْحِمْيَرِيِّ: لَمَّا اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِ ربه قال الله تعالى لموسى: أن أَجْعَلُ لَكُمُ الْأَرْضَ مَسْجِدًا وَطَهُورًا تُصَلُّونَ حَيْثُ أَدْرَكَتْكُمُ الصَّلَاةُ إِلَّا عِنْدَ مِرْحَاضٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ قَبْرٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تقرءون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرَّجُلُ مِنْكُمْ وَالْمَرْأَةُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ. فَقَالَ ذَلِكَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ إِلَّا فِي الْكَنَائِسِ، وَلَا نَسْتَطِيعُ حَمْلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِنَا، وَنُرِيدُ أَنْ تَكُونَ كَمَا كَانَتْ فِي التَّابُوتِ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ونريد أَنْ نَقْرَأَهَا إِلَّا نَظَرًا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ"- إِلَى قَوْلِهِ-" الْمُفْلِحُونَ". فَجَعَلَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، اجْعَلْنِي نَبِيَّهُمْ. فَقَالَ: نَبِيُّهُمْ مِنْهُمْ. قَالَ: رَبِّ اجْعَلْنِي «١» مِنْهُمْ. قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ. فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، أَتَيْتُكَ بِوَفْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلْتَ وِفَادَتَنَا لِغَيْرِنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «٢» ". فَرَضِيَ مُوسَى. قَالَ نَوْفٌ: فَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي جَعَلَ وِفَادَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكُمْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ قال: حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني «٣» قَالَ حَدَّثَنِي نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ «٤» إِذَا افْتَتَحَ مَوْعِظَةً قَالَ: أَلَا تَحْمَدُونَ رَبَّكُمُ الَّذِي حَفِظَ غَيْبَتَكُمْ وَأَخَذَ لَكُمْ بَعْدَ سَهْمِكُمْ وَجَعَلَ وِفَادَةَ الْقَوْمِ لكم. وذلك أن موسى عليه السلام
(١). في ج: أخرني حتى تجعلني منهم.
(٢). راجع ص ٣٠٢ من هذا الجزء.
(٣). السيبانى في التقريب: بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، وسيبان بطن من حمير. التهذيب.
(٤). في ج وز وك وى: قال كان أبو عمرو البكالي إذا افتتح. إلخ وأبو عمرو كنية نوف ولعله يحدث عن نفسه.
297
وَفَدَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ (اللَّهُ «١») لَهُمْ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمُ الْأَرْضَ مَسْجِدًا حَيْثُمَا صَلَّيْتُمْ فِيهَا تَقَبَّلْتُ صَلَاتَكُمْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ من صلى فيمن لَمْ أَقْبَلْ صَلَاتَهُ الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ وَالْمِرْحَاضُ. قَالُوا: لَا، إِلَّا فِي الْكَنِيسَةِ. قَالَ: وَجَعَلْتُ لَكُمُ التُّرَابَ طَهُورًا إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ. قَالُوا: لَا، إِلَّا بِالْمَاءِ. قَالَ: وَجَعَلْتُ لَكُمْ حَيْثُمَا صَلَّى الرَّجُلُ فَكَانَ وَحْدَهُ تَقَبَّلْتُ صَلَاتَهُ. قَالُوا: لَا، إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَمَا ذَكَرْنَا أَخْرَجَتِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي، قَوْلِهِ:" فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ" وَخَلَصَتْ هَذِهِ الْعِدَةُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَ" يَتَّبِعُونَ" يَعْنِي فِي شَرْعِهِ وَدِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ. وَالرَّسُولُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ. وَقُدِّمَ الرَّسُولُ اهْتِمَامًا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَمَعْنَى النُّبُوَّةِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، وَلِذَلِكَ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَرَاءِ حِينَ قَالَ: وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَقَالَ لَهُ: (قُلْ آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) خَرَّجَهُ فِي الصَّحِيحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ:" وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" تَكْرِيرُ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ فَيَكُونُ كَالْحَشْوِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ:" وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" فَإِنَّهُمَا لَا تَكْرَارَ فِيهِمَا. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا، لِأَنَّ الرَّسُولَ وَالنَّبِيَّ قَدِ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ عَامٍّ وَهُوَ النَّبَأُ، وَافْتَرَقَا فِي أَمْرٍ (خَاصٍّ «٢») وَهِيَ الرِّسَالَةُ. فَإِذَا قُلْتَ: مُحَمَّدٌ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَرَسُولُ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْأُمِّيَّ" هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ، الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ وِلَادَتِهَا، لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا قِرَاءَتَهَا، قال ابْنُ «٣» عُزَيْزٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَلَا يَحْسُبُ، قال الله تعالى:" وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «٤» ". وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ
(١). من ج وز وى.
(٢). من ك.
(٣). من اوب وج وح وز وى. وابن عزيز أو عزير من علماء المالكية. وفى ل: ابن جرير. وفى ك: ابن العربي.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٣٥١.
298
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ). الْحَدِيثَ. وَقِيلَ: نُسِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) رَوَى الْبُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ. فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا «١»)، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ «٢» فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صما، وقلوبا غلقا. (فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ «٣») قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ لَقِيتُ كَعْبًا فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَمَا اخْتَلَفَا حَرْفًا، إِلَّا أَنَّ كَعْبًا قَالَ بِلُغَتِهِ: قُلُوبًا غُلُوفِيًّا وَآذَانًا صُمُومِيًّا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَظُنُّ هَذَا وَهَمًا أَوْ عُجْمَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَهَا: قُلُوبًا غُلُوفًا وَآذَانَا صُمُومًا وَأَعْيُنًا عُمُومِيًّا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ. وَزَادَ كَعْبٌ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَابَةَ «٤»، وَمُلْكُهُ بِالشَّأْمِ، وَأُمَّتُهُ الْحَامِدُونَ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ مَنْزِلٍ، يُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ وَيَأْتَزِرُونَ إِلَى أَنْصَافِ سَاقِهِمْ، رُعَاةُ الشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْهُمْ وَلَوْ عَلَى ظَهْرِ الْكُنَاسَةِ «٥»، صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ مِثْلُ «٦» صَفِّهِمْ فِي الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَرَأَ" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ «٧» ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) قَالَ عَطَاءٌ:" يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ" بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ." وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ" عبادة الأصنام، وقطع الأرحام.
(١). راجع ج ١٤ ص ١٩٩.
(٢). في ع، هـ: سخاب. بمهملة لغة في صخاب.
(٣). من ب وج وك وى. [..... ]
(٤). طابة: طيبة وهى المدينة المنورة.
(٥). كذا في كل الأصول. والكناسة: القمامة ومكانها. والصلاة لا تجوز على المزبلة. فتأمل.
(٦). في ج. كصفهم.
(٧). راجع ج ١٨ ص ٨١.
299
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هِيَ الْمُحَلَّلَاتُ، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطِّيبِ، إِذْ هِيَ لَفْظَةٌ تَتَضَمَّنُ مَدْحًا وَتَشْرِيفًا. وَبِحَسَبِ هَذَا نَقُولُ فِي الْخَبَائِثِ: إِنَّهَا الْمُحَرَّمَاتُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبَائِثُ هِيَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَالرِّبَا وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا حَلَّلَ مَالِكٌ الْمُتَقَذَّرَاتِ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْخَنَافِسِ وَنَحْوَهَا. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هِيَ مِنْ جِهَةِ الطَّعْمِ، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا، لِأَنَّ عُمُومَهَا بِهَذَا الْوَجْهِ مِنَ الطَّعْمِ يَقْتَضِي تَحْلِيلَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، بَلْ يَرَاهَا مُخْتَصَّةً فِيمَا حَلَّلَهُ الشَّرْعُ. وَيَرَى الْخَبَائِثَ لَفْظًا عَامًّا فِي الْمُحَرَّمَاتِ بِالشَّرْعِ وَفِي الْمُتَقَذَّرَاتِ، فَيُحَرِّمُ الْعَقَارِبَ وَالْخَنَافِسَ وَالْوَزَغَ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى. وَالنَّاسُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «١» هَذَا الْمَعْنَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الإصر: الثقل، قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَالْإِصْرُ أَيْضًا: الْعَهْدُ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ. وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ كَانَ أُخِذَ عَلَيْهِمْ عَهْدٌ أَنْ يَقُومُوا بِأَعْمَالٍ ثِقَالٍ، فَوُضِعَ عَنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْعَهْدُ وَثِقَلُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، كَغَسْلِ الْبَوْلِ، وَتَحْلِيلِ الْغَنَائِمِ، وَمُجَالَسَةِ الْحَائِضِ وَمُؤَاكَلَتِهَا وَمُضَاجَعَتِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ. وَرُوِيَ: جِلْدُ أَحَدِهِمْ. وَإِذَا جَمَعُوا الْغَنَائِمَ نَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهَا، وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَقْرَبُوهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ «٢» الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فَالْأَغْلَالُ عِبَارَةٌ مُسْتَعَارَةٌ لِتِلْكَ الْأَثْقَالِ. وَمِنَ الْأَثْقَالِ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى يَوْمَ السَّبْتِ رَجُلًا يَحْمِلُ قَصَبًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِصَاصُ. وَأُمِرُوا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً لِتَوْبَتِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَشُبِّهَ ذلك بالأغلال، كما قال الشاعر:
(١). راجع ج ٢ ص ٢٠٧.
(٢). من ع.
300
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مَالِكٍ وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
فَشَبَّهَ حُدُودَ الْإِسْلَامِ وَمَوَانِعَهُ عَنِ التَّخَطِّي إِلَى الْمَحْظُورَاتِ بِالسَّلَاسِلِ الْمُحِيطَاتِ بِالرِّقَابِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا طُوِّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
أَيْ لَزِمَكَ عَارُهَا. يُقَالُ: طُوِّقَ فُلَانٌ كَذَا إِذَا لَزِمَهُ. التَّاسِعَةُ إِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَطَفَ الْأَغْلَالَ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى الْإِصْرِ وَهُوَ مُفْرَدٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِصْرَ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْكَثْرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" آصَارَهُمْ" بِالْجَمْعِ، مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ. فَجَمَعَهُ لِاخْتِلَافِ ضُرُوبِ الْمَآثِمِ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ إِفْرَادِ لَفْظِهِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ:" وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً «١» ". وَهَكَذَا كُلَّمَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، مِثْلَ" وَعَلى سَمْعِهِمْ «٢» "." لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ «٣» " و" مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ «٤» ". كله بمعنى الجمع. العاشرة- قوله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) أَيْ وَقَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى" وَعَزَرُوهُ" بِالتَّخْفِيفِ. وَكَذَا" وَعَزَرْتُمُوهُمْ «٥» ". يُقَالُ: عَزَرَهُ يعزره ويعزره. و (النُّورَ) القرآن" الفلاح" الظفر بالمطلوب. وقد تقدم (هذا «٦»).
[سورة الأعراف (٧): آية ١٥٨]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
(١). راجع ج ٣ ص ٤٣٠ وج ١ ص ١٨٥ و١٨١.
(٢). راجع ج ٣ ص ٤٣٠ وج ١ ص ١٨٥ و١٨١.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٧٧.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٤٥.
(٥). راجع ج ٦ ص ١١٤.
(٦). من ج وك.
ذُكِرَ أَنَّ مُوسَى بَشَّرَ بِهِ، وَأَنَّ عِيسَى بَشَّرَ بِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ بِنَفْسِهِ" إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً". وَ (كَلِماتِهِ) كَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُتُبُهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ والقرآن.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٥٩]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
أَيْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهِدَايَةِ. وَ (يَعْدِلُونَ) مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ. وَفِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ، مِنْ وَرَاءِ نَهَرِ الرَّمْلِ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَتَرَكُوا السَّبْتَ، يَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَنَا، لَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا مِنَّا إِلَيْهِمْ أَحَدٌ. فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُوسَى كَانَتْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَكُونُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ أَرْضِهِ فِي عُزْلَةٍ مِنَ الْخَلْقِ، فَصَارَ لَهُمْ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ، فَمَشَوْا فِيهِ سَنَةً وَنِصْفَ سَنَةٍ حَتَّى خَرَجُوا وَرَاءَ الصِّينِ، فَهُمْ عَلَى الْحَقِّ إِلَى الْآنِ. وَبَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُمْ بَحْرٌ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ. ذَهَبَ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَآمَنُوا بِهِ وَعَلَّمَهُمْ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ مِكْيَالٌ وَمِيزَانٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ مَعَاشُكُمْ؟ قَالُوا: نَخْرُجُ إِلَى الْبَرِيَّةِ فَنَزْرَعُ، فَإِذَا حَصَدْنَا وَضَعْنَاهُ هُنَاكَ، فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُنَا إِلَيْهِ يَأْخُذُ حَاجَتَهُ. قَالَ: فَأَيْنَ نِسَاؤُكُمْ؟ قَالُوا: فِي نَاحِيَةٍ مِنَّا، فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُنَا لِزَوْجَتِهِ صَارَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. قَالَ: فَيَكْذِبُ أَحَدُكُمْ فِي حَدِيثِهِ؟ قَالُوا: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُنَا أَخَذَتْهُ لَظًى، إِنَّ النَّارَ تَنْزِلُ فَتَحْرِقُهُ. قَالَ: فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ مُسْتَوِيَةٌ؟ قَالُوا لِئَلَّا يَعْلُوَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. قَالَ: فَمَا بَالُ قُبُورِكُمْ عَلَى أَبْوَابِكُمْ؟ قَالُوا: لِئَلَّا نَغْفُلَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ. ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أُنْزِلَ عَلَيْهِ:" وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «١» " يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. يُعْلِمُهُ أَنَّ الَّذِي أَعْطَيْتُ مُوسَى فِي قَوْمِهِ أَعْطَيْتُكَ فِي أُمَّتِكَ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُوسَى قَبْلَ نَسْخِهِ، وَلَمْ يُبَدِّلُوا ولم يقتلوا الأنبياء.
(١). راجع ص ٣٢٩ من هذا لجزء. تأمل هذا مع كون الآية مدينة بالإجماع.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]

وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) ١٦٠ عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُمْ أَسْبَاطًا لِيَكُونَ أَمْرُ كُلِّ سِبْطٍ مَعْرُوفًا مِنْ جِهَةِ رَئِيسِهِمْ، فَيَخِفُّ الْأَمْرُ عَلَى مُوسَى. وَفِي التَّنْزِيلِ" وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً" وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَقَوْلُهُ:" اثْنَتَيْ عَشْرَةَ" وَالسِّبْطُ مُذَكَّرٌ لِأَنَّ بَعْدَهُ" أُمَماً ١٦٠"" فَذَهَبَ التَّأْنِيثُ إِلَى الْأُمَمِ. وَلَوْ قَالَ: اثْنَيْ عَشَرَ لِتَذْكِيرِ السِّبْطِ جَازَ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَسْبَاطِ الْقَبَائِلَ وَالْفِرَقَ، فَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْعَدَدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا عَشْرُ أَبْطُنٍ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ
فَذَهَبَ بِالْبَطْنِ إِلَى الْقَبِيلَةِ وَالْفَصِيلَةِ، فَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا. وَالْبَطْنُ مُذَكَّرٌ، كَمَا أَنَّ الْأَسْبَاطَ جَمْعُ مُذَكَّرٍ. الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى قَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً." أَسْباطاً ١٦٠" بَدَلٌ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ" أُمَماً ١٦٠" نَعْتٌ لِلْأَسْبَاطِ. وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ" وَقَطَّعْناهُمُ ١٦٠" مُخَفَّفًا." أَسْباطاً ١٦٠" الْأَسْبَاطُ فِي وَلَدِ إِسْحَاقَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَالْأَسْبَاطُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبَطِ وَهُوَ شَجَرٌ تَعْلِفُهُ الْإِبِلُ. وقد مضى في البقرة «٢» مستوفى. وروى معمر عن همام بن منبه
(١). راجع ج ٦ ص ١١٢. [..... ]
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤٠.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ" قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ. وَقِيلَ لَهُمْ:" ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً" فَدَخَلُوا مُتَوَرِّكِينَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مَرْفُوعٌ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ. وَ" مَا" بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ بِظُلْمِهِمْ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ «١». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
قوله تعالى: (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) أَيْ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَا لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقَرًّا لَهُمْ أَوْ سبب اجتماعهم. نظيره" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها «٢» ". وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) يَعْنِي أَهْلَ الْعَرْشِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَرَحًا وَاسْتِبْشَارًا «٣» بِقُدُومِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَيْ وَاسْأَلِ الْيَهُودَ الَّذِينَ هُمْ جِيرَانُكَ عَنْ أَخْبَارِ أَسْلَافِهِمْ وَمَا مَسَخَ الله منهم قردة وخنازير. هذا سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، لِأَنَّا مِنْ سِبْطِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ سِبْطِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ بِكْرُ»
اللَّهِ، وَمِنْ سِبْطِ مُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ، وَمِنْ سِبْطِ وَلَدِهِ عُزَيْرٍ، فَنَحْنُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ: سَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْقَرْيَةِ، أَمَا عَذَّبْتُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة.
(١). راجع ج ١ ص ٤٠٩.
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٤٥.
(٣). في ج وك وع وهـ: استبشارا به أي بقدومه.
(٤). زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إلى إسرائيل أن ولدك بكرى من الولد. راجع ج ٦ ص ١٢٠.
304
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ أَيْلَةُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا مَدْيَنُ بَيْنَ أَيْلَةَ وَالطُّورِ. الزُّهْرِيُّ: طَبَرِيَّةُ. قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ سَاحِلٌ مِنْ سَوَاحِلِ الشَّأْمِ، بَيْنَ مَدْيَنَ وَعَيْنُونَ، يُقَالُ لَهَا: مَقْنَاةُ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَكْتُمُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِمَا فِيهَا مِنَ السُّبَّةِ عَلَيْهِمْ. (الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) أَيْ كَانَتْ بِقُرْبِ «١» الْبَحْرِ، تقول: كنت بحضرة الدار أي بقربها. (إذا يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أَيْ يَصِيدُونَ الْحِيتَانَ، وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ، يُقَالُ سَبَتَ الْيَهُودُ، تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي سَبْتِهِمْ. وَسَبَتَ الرَّجُلُ لِلْمَفْعُولِ سُبَاتًا أَخَذَهُ ذلك، من الْخَرَسِ. وَأَسْبَتَ سَكَنَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ. وَالْقَوْمُ صَارُوا فِي السَّبْتِ. وَالْيَهُودُ دَخَلُوا فِي السَّبْتِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ. وَهُوَ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْقَطْعِ. وَيُجْمَعُ أَسْبُتٌ وَسُبُوتٌ وَأَسْبَاتٌ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ السَّبْتِ فَأَصَابَهُ بَرَصٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ). قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّمَ يَجْمُدُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِذَا مَدَدْتَهُ لِتَسْتَخْرِجَهُ لَمْ يَجْرِ وَعَادَ بَرَصًا. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةُ" يَعْدُونَ". وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ" يُعِدُّونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَشَدِّ الدَّالِ. الْأُولَى مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْإِعْدَادِ، أي يهيئو الْآلَةَ لِأَخْذِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ" فِي الْأَسْبَاتِ" عَلَى جَمْعِ السَّبْتِ." (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ) " وقرى" أَسْبَاتِهِمْ". شُرَّعًا أَيْ شَوَارِعَ ظَاهِرَةً عَلَى الْمَاءِ كَثِيرَةً. وَقَالَ اللَّيْثُ: حِيتَانٌ شُرَّعٌ رَافِعَةٌ رُءُوسَهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حِيتَانَ الْبَحْرِ كَانَتْ تَرِدُ يَوْمَ السَّبْتِ عُنُقًا «٢» مِنَ الْبَحْرِ فَتُزَاحِمُ أَيْلَةَ. أَلْهَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تُصَادُ يَوْمَ السَّبْتِ، لِنَهْيِهِ تَعَالَى الْيَهُودَ عَنْ صَيْدِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَشْرَعُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، كَالْكِبَاشِ الْبِيضِ رافعة رءوسها. حكاه بعض المتأخرين، فتعدوا فَأَخَذُوهَا فِي السَّبْتِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ) أَيْ لَا يَفْعَلُونَ السَّبْتَ، يُقَالُ: سَبَتَ يَسْبِتُ إِذَا عَظَّمَ السَّبْتَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" يُسْبِتُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ يَدْخُلُونَ فِي السَّبْتِ، كَمَا يُقَالُ: أَجْمَعْنَا وَأَظْهَرْنَا وَأَشْهَرْنَا، أَيْ دَخَلْنَا فِي الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ وَالشَّهْرِ. لَا تَأْتِيهِمْ أي حيتانهم. كذلك نبلوهم أي نشدد
(١). حاضرة البحر فيه معنى التعظيم. قال أبو حيان في البحر: يحتمل أن يريد معنى الحاضرة عل جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر إلخ.
(٢). أي طوائف يقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي قطيعا قطيعا.
305
عَلَيْهِمْ فِي الْعِبَادَةِ وَنَخْتَبِرُهُمْ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نصب. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بفسقهم. وسيل الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْحَلَالُ لَا يَأْتِيكَ إِلَّا قُوتًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِيكَ جَزْفًا جَزْفًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَأَيْلَةُ" إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ". وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَخْذِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَاتَّخِذُوا الْحِيَاضَ، فَكَانُوا يَسُوقُونَ الْحِيتَانَ إِلَيْهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَتَبْقَى فِيهَا، فَلَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ مِنْهَا لِقِلَّةِ الْمَاءِ، فَيَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: زَعَمَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُ الرَّجُلُ خَيْطًا وَيَضَعُ فِيهِ وَهْقَةً «١»، وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَبِ الْحُوتِ، وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ الْخَيْطِ وَتَدٌ وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى الْأَحَدِ، ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْا مَنْ صَنَعَ هَذَا لَا يُبْتَلَى حَتَّى كَثُرَ صَيْدُ الْحُوتِ، وَمُشِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَعْلَنَ الْفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ، فَقَامَتْ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَهَتْ، وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ. وَقِيلَ «٢»: إِنَّ النَّاهِينَ قَالُوا: لَا نُسَاكِنُكُمْ، فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ. فَأَصْبَحَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجَالِسِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمُعْتَدِينَ أَحَدٌ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا، فَعَلَوْا عَلَى الْجِدَارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ، فَفَتَحُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقِرَدَةُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْإِنْسُ أَنْسَابَهُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ، فَجَعَلَتِ الْقِرَدَةُ تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنَ الْإِنْسِ فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي، فَيَقُولُ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ! فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا نَعَمْ. قَالَ قَتَادَةُ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تَفْتَرِقْ إِلَّا فِرْقَتَيْنِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أَيْ قَالَ الْفَاعِلُونَ لِلْوَاعِظِينَ حِينَ وَعَظُوهُمْ: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُنَا فَلِمَ تَعِظُونَنَا؟ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً. (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أَيْ قَالَ الْوَاعِظُونَ: مَوْعِظَتُنَا إِيَّاكُمْ مَعْذِرَةً (إِلَى «٣» رَبِّكُمْ)، أَيْ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند
(١). الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء): الحبل في طرفيه أنشوطة يطرح في عنق الدابة والإنسان حتى تؤخذ. والأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها، إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت كعقدة التكة.
(٢). في ب وج وع وى: ويقال.
(٣). من ب وج وك وى.
306
هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ ثَلَاثَ فِرَقٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الضَّمَائِرِ فِي الْآيَةِ. فرقة عصمت وَصَادَتْ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَفِرْقَةٌ اعْتَزَلَتْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ قَالَتْ لِلنَّاهِيَةِ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا- تُرِيدُ الْعَاصِيَةَ- اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَمَا عُهِدَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَئِذٍ بِالْأُمَمِ الْعَاصِيَةِ. فَقَالَتِ النَّاهِيَةُ: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. وَلَوْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ لَقَالَتِ النَّاهِيَةُ لِلْعَاصِيَةِ: وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، بِالْكَافِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ بَعْدَ هَذَا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ هَلَكَتْ مَعَ الْعَاصِيَةِ عُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ النَّهْيِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَدْرِي مَا فُعِلَ بِهِمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَالَ مَا أَدْرِي مَا فُعِلَ بِهِمْ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ فَقَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حتى عرفته أنهم قد نحوا، فَكَسَانِي حُلَّةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هَلَكَتِ الْفِرْقَةُ الْعَادِيَةُ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ:" وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا". وَقَوْلُهُ:" وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ" الْآيَةَ. وَقَرَأَ عِيسَى وَطَلْحَةُ" مَعْذِرَةً" بِالنَّصْبِ. وَنَصْبُهُ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ. وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ فَعَلْنَا ذَلِكَ مَعْذِرَةً. وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا اعْتِذَارًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ أَمْرٍ لِيمُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَعِظُونَ؟ فَقَالُوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةً. وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: مَعْذِرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ كَذَا، يُرِيدُ اعْتِذَارًا، لَنَصَبَ. هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ). وَمَضَى فِيهَا الْكَلَامُ فِي الْمَمْسُوخِ هَلْ يَنْسُلُ أَمْ لَا، مُبَيَّنًا «١». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" وَ" الْمَائِدَةِ" الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ «٢». وَمَضَى فِي (النساء «٣») اعتزال أهل الفساد ومجانبتم، وَأَنَّ مَنْ جَالَسَهُمْ كَانَ مِثْلَهُمْ، فَلَا مَعْنَى للإعادة.
(١). راجع ج ١ ص ٤٣٩ فما بعد.
(٢). راجع ج ٤ ص ٤٦ وج ٦ ص ٢٥٣.
(٣). راجع ج ٥ ص ٤١٧ فما بعد.
307

[سورة الأعراف (٧): آية ١٦٥]

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)
وَالنِّسْيَانُ يُطْلَقُ عَلَى السَّاهِي. وَالْعَامِدُ: التَّارِكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ تَرَكُوهُ عَنْ قَصْدٍ، وَمِنْهُ" نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «١» ". وَمَعْنَى (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أَيْ شَدِيدٍ. وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً: الْأُولَى- قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ" بَئِيسٍ" عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. الثَّانِيَةُ- قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ" بِئِيسٍ" بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالْوَزْنِ وَاحِدٌ. وَالثَّالِثَةُ- قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" بِيسٍ" الْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا سِينٌ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ، وَفِيهَا «٢» قَوْلَانِ. قَالَ الكسائي: الأصل فيه" بئيس" خَفِيفَةُ الْهَمْزَةِ، فَالْتَقَتْ يَاءَانِ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَكُسِرَ أَوَّلُهُ: كَمَا يُقَالُ: رَغِيفٌ وَشَهِيدٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ" بَئِسَ" عَلَى وَزْنِ فَعِلَ، فَكَسَرَ أَوَّلَهُ وَخَفَّفَ الْهَمْزَةَ وَحَذَفَ الْكَسْرَةَ، كَمَا يُقَالُ: رَحِمَ وَرِحْمَ. الرَّابِعَةُ- قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، الْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا سِينٌ مَفْتُوحَةٌ. الْخَامِسَةُ- قَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ" بَئِسٍ" الْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْهَمْزَةُ مَكْسُورَةٌ وَالسِّينُ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ. السَّادِسَةُ- قَالَ يَعْقُوبُ الْقَارِئُ: وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ" بِعَذَابٍ بَئِسَ" الْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْهَمْزَةُ مَكْسُورَةٌ وَالسِّينُ مَفْتُوحَةٌ. السَّابِعَةُ- قراءة الأعمش" بئيس" عَلَى وَزْنِ فَيْعَلٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ" بَيْأَسٍ" عَلَى وَزْنٍ فَيْعَلٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ" بَئِّسٍ" بِبَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَهَمْزَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ، وَالسِّينُ فِي كُلِّهِ مَكْسُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ، أَعْنِي قِرَاءَةَ الْأَعْمَشِ. الْعَاشِرَةُ- قِرَاءَةُ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ «٣» " بِعَذَابٍ بَيِّسٍ" الْبَاءُ مَفْتُوحَةٌ وَالْيَاءُ مُشَدَّدَةٌ بِغَيْرِ هَمْزٍ. قَالَ يَعْقُوبُ الْقَارِئُ: وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ" بِئْيَسٍ" الْبَاءُ مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا يَاءٌ مَفْتُوحَةٌ. فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً ذَكَرَهَا النَّحَّاسُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْعَرَبُ تَقُولُ جَاءَ بِبَنَاتٍ بِيسٍ أَيْ بشيء ردئ. فمعنى" بعذاب بيس" بعذاب ردئ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ فَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ بِئْسَ، حَتَّى يُقَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ، أَوْ بِئْسَ رَجُلًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَرْدُودٌ من
(١). راجع ج ٨ ص ١٩٩. [..... ]
(٢). في ج: وقيل فيها قولان.
(٣). نصر بن عاصم الليثي البصري.
كَلَامِ أَبِي حَاتِمٍ، حَكَى النَّحْوِيُّونَ: إِنْ فَعَلْتَ كذا وكذا فبها ونعمت. يريدون فيها وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ: بِعِذَابٍ بئس العذاب.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٦٦]
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ) أَيْ فَلَمَّا تَجَاوَزُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ، أَيْ بَاعَدْتُهُ وَطَرَدْتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «١». وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ «٢» النِّقْمَةِ: وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ. فَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بِكَلَامٍ يُسْمَعُ، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى كوناهم قردة.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٦٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
أَيْ أَعْلَمَ أَسْلَافَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ غَيَّرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُعَذِّبُهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ:" آذَنَ" بِالْمَدِّ، أَعْلَمَ. وَ" أَذَّنَ" بِالتَّشْدِيدِ، نَادَى. وَقَالَ قَوْمٌ: آذَنَ وَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ، كَمَا يُقَالُ: أَيْقَنَ وَتَيَقَّنَ. قَالَ زُهَيْرٌ:
فقلت تعلم إن للصيد غرة فإلا تضعيها فَإِنَّكَ قَاتِلُهُ
وَقَالَ آخَرُ:
تَعَلَّمْ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ حَيٌّ يُنَادَى فِي شِعَارِهِمْ يَسَارُ
أَيِ اعْلَمْ «٣». وَمَعْنَى" يَسُومُهُمْ" يُذِيقُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (البقرة «٤»). قيل: المراد بخت نصر. وَقِيلَ: الْعَرَبُ. وَقِيلَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُمُ الْبَاقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" سُوءَ الْعَذابِ" هُنَا أَخْذُ الْجِزْيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فقد
(١). راجع ج ١ ص ٤٤٣.
(٢). في ع: تسبب.
(٣). قال أبو حيان في البحر: أجرى مجرى فعل القسم ولذلك أجيب بما يجاب به القسم. وكذا قال الزمخشري.
(٤). راجع ج ١ ص ٣٨٤.
أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم. وقال أبو علي :" آذن " بالمد، أعلم. و " أذن " بالتشديد، نادى. وقال قوم : آذن وأذن بمعنى أعلم، كما يقال : أيقن وتيقن. قال زهير :
فقلت تَعَلَّمْ إن للصيد غِرَّةً فإلا تُضَيِّعها فإنك قاتلُهْ
وقال آخر :
تَعَلَّمْ إن شر الناس حَيٌّ ينادَى في شعارهم يسارُ
أي اعلم١. ومعنى " يسومهم " يذيقهم، وقد تقدم في " البقرة٢ ". قيل : المراد بختنصر. وقيل : العرب. وقيل : أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أظهر ؛ فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس :" سوء العذاب " هنا أخذ الجزية. فإن قيل : فقد مسخوا، فكيف تؤخذ منهم الجزية ؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم، وهم أذل قوم، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير " سوء العذاب " قال : الخراج، ولم يجب نبي قط الخراج، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج، فجباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام.
١ قال أبو حيان في البحر: أجرى مجرى فعل القسم ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وكذا قال الزمخشري..
٢ راجع ج ١ ص ٣٨٤.
مُسِخُوا، فَكَيْفَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَهُمْ أَذَلُّ قَوْمٍ، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" سُوءَ الْعَذابِ" قَالَ: الْخَرَاجُ، وَلَمْ يَجْبُ نَبِيٌّ قَطُّ الْخَرَاجَ، إِلَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَرَاجَ، فَجَبَاهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٦٨]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أَيْ فَرَّقْنَاهُمْ فِي الْبِلَادِ. أَرَادَ بِهِ تَشْتِيتَ أَمْرِهِمْ، فَلَمْ تُجْمَعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ. (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام. ومن لم يبدل منهم ومات نَسْخِ شَرْعِ مُوسَى. أَوْ هُمُ الَّذِينَ وَرَاءَ الصِّينِ، كَمَا سَبَقَ. (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ. وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ. (وَبَلَوْناهُمْ) أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ. (بِالْحَسَناتِ) أَيْ بِالْخِصْبِ وَالْعَافِيَةِ. (وَالسَّيِّئاتِ) أَيِ الْجَدْبُ والشدائد. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ليرجعوا عن كفرهم.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٦٩]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) يَعْنِي أَوْلَادَ الَّذِينَ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:" الْخَلْفُ" بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ الْوَاحِدُ وَالْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَ" الْخَلَفُ" بِفَتْحِ اللَّامِ الْبَدَلُ، وَلَدًا كَانَ أَوْ غَرِيبًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:" الْخَلَفُ" بِالْفَتْحِ الصَّالِحُ، وَبِالْجَزْمِ الطَّالِحُ. قَالَ لَبِيدٍ:
310
وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ: خَلْفٌ. وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ" سَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا". فَخَلْفٌ فِي الذَّمِّ بِالْإِسْكَانِ، وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ فِي الْمَدْحِ. هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَشْهُورُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ". وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ. قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجرب
لَنَا القدم الأولى إليك وخلقنا لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ «١»
لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحَمْلِ وَقَفْ
وَيُرْوَى: خَضَفَ، أَيْ رَدَمَ «٢». وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الذَّمُّ. (وَرِثُوا الْكِتابَ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَرِثُوا كِتَابَ اللَّهِ فَقَرَءُوهُ وَعَلِمُوهُ، وَخَالَفُوا حُكْمَهُ وَأَتَوْا مَحَارِمَهُ مَعَ دِرَاسَتِهِمْ لَهُ. فَكَانَ هَذَا تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا. يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ وَنَهَمِهِمْ. (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) وَهُمْ لَا يَتُوبُونَ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) وَالْعَرَضُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا، بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَبِإِسْكَانِهَا مَا كَانَ مِنَ الْمَالِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الرِّشَا وَالْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ. ثُمَّ ذَمَّهُمْ باغترارهم في قولهم (سَيُغْفَرُ لَنا) وَأَنَّهُمْ بِحَالٍ إِذَا أَمْكَنَتْهُمْ ثَانِيَةً ارْتَكَبُوهَا، فَقَطَعُوا بِاغْتِرَارِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَهُمْ مُصِرُّونَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ سَيُغْفَرُ لَنَا مَنْ أَقْلَعَ وَنَدِمَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْوَصْفُ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَؤُلَاءِ مَوْجُودٌ فِينَا. أَسْنَدَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ شَيْخٍ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو عن معاذ
(١). كذا وردت هذه الأبيات في الأصول. والذي في اللسان" مادة خضف".
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ عَبْدًا إِذَا ما ناء بالحمل خضف
أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ لَا يُدْخِلُ البواب إلا من عرف
(٢). الردم: الضراط.
311
بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَيَبْلَى الْقُرْآنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ كَمَا يَبْلَى الثَّوْبُ فَيَتَهَافَتُ، يَقْرَءُونَهُ لَا يَجِدُونَ لَهُ شَهْوَةً وَلَا لَذَّةً، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، أَعْمَالُهُمْ طَمَعٌ لَا يُخَالِطُهُ خَوْفٌ، إِنْ قَصَّرُوا قَالُوا سَنَبْلُغُ، وَإِنْ أَسَاءُوا قَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا، إِنَّا لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي" يَأْتِهِمْ" لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ، أَيْ وَإِنْ يَأْتِ يَهُودَ يَثْرِبَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ كَمَا أَخَذَهُ أَسْلَافُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) يُرِيدُ التَّوْرَاةَ. وَهَذَا تَشْدِيدٌ فِي لُزُومِ قَوْلِ الْحَقِّ فِي الشَّرْعِ وَالْأَحْكَامِ، وَأَلَّا يَمِيلَ الْحُكَّامُ بِالرِّشَا إِلَى الْبَاطِلِ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي لَزِمَ هَؤُلَاءِ وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمِيثَاقُ فِي قَوْلِ الْحَقِّ، لَازِمٌ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِ رَبِّنَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (النِّسَاءِ «١»). وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَالْحَمْدُ لله. الثانية- قوله تعالى: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) أَيْ قَرَءُوهُ، وَهُمْ قَرِيبُو عهد به. وقرا أبو عبد الرحمن وادرسوا مَا فِيهِ فَأُدْغِمَ «٢» التَّاءُ فِي الدَّالِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ يَأْتِيهِمُ الْمُحِقُّ بِرِشْوَةٍ فَيُخْرِجُونَ لَهُ كِتَابَ اللَّهِ فَيَحْكُمُونَ لَهُ بِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْمُبْطِلُ أَخَذُوا مِنْهُ الرِّشْوَةَ وَأَخْرَجُوا لَهُ كِتَابَهُمُ الَّذِي كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وَحَكَمُوا لَهُ. وَقَالَ ابن عباس:" أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ" وَقَدْ قَالُوا الْبَاطِلَ فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّذِي يُوجِبُونَهُ وَيَقْطَعُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْكُمُونَ بِهَا، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مَعْنَى" وَدَرَسُوا مَا فِيهِ" أَيْ مَحَوْهُ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْفَهْمِ لَهُ، مِنْ قَوْلِكَ: دَرَسَتِ الرِّيحُ الْآثَارَ، إِذَا مَحَتْهَا. وَخَطٌّ دَارِسٌ وَرَبْعٌ دَارِسٌ، إِذَا امَّحَى وَعَفَا أَثَرُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُوَاطِئٌ- أَيْ مُوَافِقٌ- لقوله
(١). راجع ج ٦ ص ٧ فما بعدها.
(٢). كذا في الأصول، والعبارة كما في البحر: أصله تدارسوا، أي فأدغم.
312
قوله تعالى :" فخلف من بعدهم خلف " يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم :" الخلف " بسكون اللام : الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. و " الخلف " بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي :" الخلف " بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف. ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلفا ". فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم :" يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت :
لنا القدم الأولى إليك وخَلْفُنَا لأوَّلنا في طاعة الله تابع
وقال آخر.
إنا وجدنا خَلَفًا بئسَ الخَلَفْ أغلق عنا بابَهُ ثم حَلَفْ١
لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
ويروى : خضف، أي ردم٢. والمقصود من الآية الذم. " ورثوا الكتاب " قال المفسرون : هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. " يأخذون عرض هذا الأدنى " ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. " ويقولون سيغفر لنا " وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون.
قوله تعالى :" وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " والعرض : متاع الدنيا، بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.
قلت : وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد : حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا. وقيل : إن الضمير في " يأتهم " ليهود المدينة، أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم.
قوله تعالى :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ﴾ فيه مسألتان.
الأولى - قوله تعالى :" ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب " يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل.
قلت : وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، على ما تقدم بيانه في " النساء٣ " ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.
الثانية - قوله تعالى :" ودرسوا ما فيه " أي قرؤوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبدالرحمن " وادارسوا ما فيه " فأدغم٤ التاء في الدال. قال ابن زيد : كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس :" ألا يقولوا على الله إلا الحق " وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد : يعني في الأحكام التي يحكمون بها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء : إن معنى " ودرسوا ما فيه " أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولك : درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ - أي موافق - لقوله تعالى :" نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم٥ " [ البقرة : ١٠١ ] الآية. وقوله :" فنبذوه وراء ظهورهم٦ " [ آل عمران : ١٨٧ ]. حسب ما تقدم بيانه.
١ كذا وردت هذه الأبيات في الأصول. والذي في اللسان "مادة خضف"
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف***عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف.
أغلق عنا بابه ثم حلف***لا يدخل البواب إلا من عرف.

٢ الردم: الضراط.
٣ راجع ج ٦ ص ٧ فما بعدها..
٤ كذا في الأصول: والعبارة كما في البحر أصله تدارسوا أي فأدغم..
٥ راجع ج ٢ ص ٤١..
٦ راجع ج ٤ ص ٣٠٤.
تَعَالَى:" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «١» ١٠" الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:" فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «٢» ". حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (البقرة).
[سورة الأعراف (٧): آية ١٧٠]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ ١٧٠" أَيْ بِالتَّوْرَاةِ، أَيْ بِالْعَمَلِ بِهَا، يُقَالُ: مَسَّكَ بِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ أَيِ اسْتَمْسَكَ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ" يُمْسِكُونَ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْسَكَ يُمْسِكُ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِدِينِهِ فَبِذَلِكَ يُمْدَحُونَ. فَالتَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالدِّينِ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُلَازَمَةِ وَالتَّكْرِيرُ لِفِعْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
فَمَا تَمَسَّكَ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمْتَ إِلَّا كَمَا تُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَبْعِهِ يذم بكثرة نقض العهد.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) " نَتَقْنَا" مَعْنَاهُ رَفَعْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ." كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" أَيْ كَأَنَّهُ لِارْتِفَاعِهِ سَحَابَةٌ تُظِلُّ." خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ" أَيْ بِجِدٍّ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ «٣» إلى آخر الآية.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
(١). راجع ج ٢ ص ٤١.
(٢). راجع ج ٤ ص ٣٠٤.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٣٦.
313
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) أَيْ وَاذْكُرْ لَهُمْ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ تَذْكِيرِ الْمَوَاثِيقِ فِي كِتَابِهِمْ مَا أَخَذْتُ مِنَ الْمَوَاثِيقِ مِنَ الْعِبَادِ يَوْمَ الذَّرِّ. وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا وَأَحْكَامِهَا، فَنَذْكُرُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ حَسَبَ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ مِنْ ظُهُورِ بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: معنى" أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" دَلَّهُمْ بِخَلْقِهِ عَلَى توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرور أَنَّ لَهُ رَبًّا وَاحِدًا." أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" أَيْ قَالَ. فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِقْرَارِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ:" قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «١» ". ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَفَّالُ وَأَطْنَبَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَادِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا عَلِمَتْ بِهِ مَا خَاطَبَهَا. قُلْتُ: وَفِي الحديث عن النبي صلى الله عيلة وَسَلَّمَ غَيْرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْأَشْبَاحَ فِيهَا الْأَرْوَاحُ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ" فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ
(١). راجع ج ١٥ ص ٣٤٤. [..... ]
314
هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعلمون ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ". فَقَالَ رَجُلٌ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ النَّارَ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ، لِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ. وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَا «١» يُعْرَفُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ، وَنُعَيْمٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِحَمْلِ الْعِلْمِ. لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمْ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ «٢») إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ يَا رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تُعْطِهَا ابْنكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتَهُ وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ". فِي غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: فَحِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ. فِي رِوَايَةٍ: فرأى فيهم الضعف وَالْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ (وَالذَّلِيلَ «٣») وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيحَ. فَقَالَ (لَهُ «٤») آدَمُ: يَا رَبِّ، مَا هَذَا؟ أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ! قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ" أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ". وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عُقُولًا كَنَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَأَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. فَأَقَرُّوا بذلك والتزموه، وأعلمهم
(١). في ك: مسلم بن يسار يعرف. لعله الصواب.
(٢). الزيادة عن صحيح الترمذي.
(٣). من ج.
(٤). من ج.
315
بِأَنَّهُ سَيَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُولَدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُخِذَ فِيهِ الْمِيثَاقُ حِينَ أُخْرِجُوا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِبَطْنِ نُعْمَانَ، وَادٍ إِلَى جَنْبِ عَرَفَةَ. و (روي «١») عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ بِرَهْبَا- أَرْضٍ بِالْهِنْدِ- الَّذِي هَبَطَ فِيهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهَبَطَ اللَّهُ آدَمَ بِالْهِنْدِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ:" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا" قَالَ يَحْيَى قَالَ الْحَسَنُ: ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَيْهَا مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُمْنَى ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، فَقَالَ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي. وَأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ وَقَالَ لَهُمُ ادْخُلُوا النَّارَ وَلَا أُبَالِي. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: خَرَجَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلْجَنَّةِ بَيْضَاءَ، وَكُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ لِلنَّارِ سَوْدَاءَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ «٢»):" فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْخَلْقَ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا، أَوْ يُعَاقِبْهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ وَسَاقَهُمْ إِلَيْهِ، قُلْنَا: وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا؟ فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّحِيمَ الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. قُلْنَا: لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ، وَرَبُّنَا تَعَالَى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يسئلون وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَلْقُ بِالْخَالِقِ، وَلَا تُحْمَلَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِ الْإِلَهِ، وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ، صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ، وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ «٣» بِمَا أَرَادَ، وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إِنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ وَحُبُّ الثَّنَاءِ والمدح، لما يتوقع فذلك مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَالْبَارِي تَعَالَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كله، فلا يجوز أن يعتبر به". وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ. فَقِيلَ: الْآيَةُ خَاصَّةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ" فَخَرَجَ مِنْ هَذَا (الْحَدِيثِ «٤») مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ آدم لصلبه. وقال جل وعز: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) فَخَرَجَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آباء مشركون.
(١). من ك.
(٢). من ع.
(٣). في ى: وحكيم فيهم كما أراد.
(٤). من ج.
316
وَقِيلَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِيمَنْ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ طِفْلًا فَغُذِّيَ وَرُبِّيَ، وَأَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا وَخَالِقًا. فَهَذَا مَعْنَى" وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ". وَمَعْنَى (قالُوا بَلى) ٣٠ أَيْ إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا اعْتَرَفَ الْخَلْقُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ ثُمَّ ذَهَلُوا عَنْهُ ذَكَّرَهُمْ بِأَنْبِيَائِهِ وَخَتَمَ الذِّكْرَ بِأَفْضَلِ أَصْفِيَائِهِ لِتَقُومَ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ:" فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ»
". ثم مكنه من الصيطرة، وَأَتَاهُ السَّلْطَنَةَ، وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ «٢»: إِنَّ هَذَا الْعَهْدَ يَلْزَمُ الْبَشَرَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، كَمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَقَدْ نَسِيَهُ". الرَّابِعَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ مَاتَ صَغِيرًا دَخَلَ الْجَنَّةَ لِإِقْرَارِهِ فِي، الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ. وَمَنْ بَلَغَ الْعَقْلَ لَمْ يُغْنِهِ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ. وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اخْتُلِفَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي" الرُّومِ «٣» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ ظُهُورِهِمْ" بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ" مِنْ بَنِي آدَمَ". وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْأَخْذَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَيْسَ لِآدَمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ. وَوَجْهُ النَّظْمِ عَلَى هَذَا: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ ذُرِّيَّتَهُمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ ظَهْرَ آدَمَ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بَنُوهُ. وَأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا يَوْمَ الْمِيثَاقِ مِنْ ظَهْرِهِ. فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ لِقَوْلِهِ:" مِنْ بَنِي آدَمَ". (ذُرِّيَّتَهُمْ) قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّوْحِيدِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَهِيَ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً «٤» " فَهَذَا لِلْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ هِبَةَ وَلَدٍ فَبُشِّرَ بِيَحْيَى. وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى التَّوْحِيدِ في قوله:" مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ «٥» " ولا شي أَكْثَرَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ. وَقَالَ:" وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ" فهذا للجمع. وقرا الباقون
(١). راجع ج ٢٠ ص ٣٧.
(٢). في ى" الطرلوسى" بالسين المهملة.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٢٤ فما بعد.
(٤). راجع ج ٤ ص ٦٩ فما بعد.
(٥). راجع ج ١١ ص ١٢٠.
317
" ذُرِّيَّاتهمْ" بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ لَمَّا كَانَتْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ أَتَى بِلَفْظٍ لَا يَقَعُ لِلْوَاحِدِ فَجَمَعَ لِتَخْلُصَ الْكَلِمَةُ إِلَى مَعْنَاهَا الْمَقْصُودِ إِلَيْهِ لَا يشركها فيه شي وَهُوَ الْجَمْعُ، لِأَنَّ ظُهُورَ بَنِي آدَمَ اسْتُخْرِجَ مِنْهَا ذُرِّيَّاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَنَاسِبَةٌ، أَعْقَابٌ بَعْدَ أَعْقَابٍ، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فَجَمَعَ لِهَذَا الْمَعْنَى. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلى) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي" الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ بَلَى مِنْ كسب سيئة مستوفى، فتأمله هناك «١». (أن يقولوا) " أو يقولوا" قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ فِيهِمَا. رَدَّهُمَا عَلَى لفظ الغيبة المتكرر قبله، وهو قول:" مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ". وَقَوْلُهُ:" قالُوا بَلى ٣٠" أَيْضًا لَفْظُ غَيْبَةٍ. وَكَذَا" وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ"" وَلَعَلَّهُمْ" فَحَمَلَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، رَدُّوهُ عَلَى لَفْظِ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ:" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ". وَيَكُونُ" شَهِدْنا ١٣٠" مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. لَمَّا قَالُوا" بَلى " قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:" شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا"" أَوْ تَقُولُوا" أَيْ لِئَلَّا تَقُولُوا. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بَلَى، فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا قَالُوا شَهِدْنَا بِإِقْرَارِكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا أَوْ تَقُولُوا. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَوْلُهُ" شَهِدْنا ١٣٠" هُوَ مِنْ قَوْلِ بَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى: شَهِدْنَا أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا قَالُوا بَلَى شَهِدَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَيُوقَفُ عَلَى" بَلَى" وَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ" أَنْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَ بَلَى، مِنْ قَوْلِهِ:" وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ" لِئَلَّا يَقُولُوا. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ «٢» عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ فَقَالَ لَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا". أَيْ شَهِدْنَا عَلَيْكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِئَلَّا تَقُولُوا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّاءِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" شَهِدْنَا" مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ. وَالْمَعْنَى: فَشَهِدْنَا عَلَى إِقْرَارِكُمْ، قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أيضا.
(١). راجع ج ٢ ص ١١. [..... ]
(٢). في ع: عن مجاهد.
318
(وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) أَيِ اقْتَدَيْنَا بِهِمْ. (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) بِمَعْنَى: لَسْتَ تَفْعَلُ هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٧٥]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)
ذَكَّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ قِصَّةً عَرَفُوهَا فِي التَّوْرَاةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ، وَيُقَالُ نَاعِمٌ «١»، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ بِحَيْثُ إِذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْشَ. وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا" وَلَمْ يَقُلْ آيَةً، وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ أَلْفَ مِحْبَرَةٍ لِلْمُتَعَلِّمِينَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ. ثُمَّ صَارَ بِحَيْثُ (إِنَّهُ «٢») كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا (فِي «٣») أن" ليس للعالم صانع". قال مالك ابن دِينَارٍ: بُعِثَ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ لِيَدْعُوَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَأَعْطَاهُ وَأَقْطَعَهُ فَاتَّبَعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى، فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ. (رَوَى «٤») الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ بَلْعَامُ قَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، «٥» وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ قِتَالَ الْجَبَّارِينَ، سَأَلَ الْجَبَّارُونَ بَلْعَامَ بن باعوراء أن يدعوا عَلَى مُوسَى فَقَامَ لِيَدْعُوَ فَتَحَوَّلَ لِسَانُهُ بِالدُّعَاءِ على أصحابه. فقيل له في ذلك، لَا أَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَسْمَعُونَ، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ. فَقَالَ: قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، وَسَأَمْكُرُ لَكُمْ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ تُخْرِجُوا إِلَيْهِمْ فَتَيَاتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الزِّنَى، فَإِنْ وَقَعُوا فِيهِ هَلَكُوا، فَفَعَلُوا فَوَقَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الزِّنَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ بِكَمَالِهِ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَاءَ دَعَا أَلَّا يَدْخُلَ مُوسَى مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ وَبَقِيَ فِي التِّيهِ «٦». فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، بِأَيِ ذَنْبٍ بَقِينَا فِي التِّيهِ. فَقَالَ: بِدُعَاءِ بَلْعَامَ. قَالَ: فَكَمَا سَمِعْتَ دُعَاءَهُ عَلَيَّ فَاسْمَعْ دُعَائِي عَلَيْهِ. فَدَعَا مُوسَى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم،
(١). في ع وز وى: بلعم. وفي ز: ويقال: بلعم. وفي ى: ويقال: باعر.
(٢). من ع.
(٣). من ع.
(٤). من ع.
(٥). قوله: أوتى النبوة. فليتأمل كيف يؤتى النبوة ثم يضل فإنه مناف لعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
(٦). التيه: موضع بين مصر والعقبة.
319
فَسَلَخَهُ اللَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ فِي (آخِرِ «١») كِتَابِ مِنْهَاجِ الْعَارِفِينَ لَهُ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعَارِفِينَ يَقُولُ إِنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرد بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَمْ يَشْكُرْنِي يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى مَا أَعْطَيْتُهُ، وَلَوْ شَكَرَنِي عَلَى ذَلِكَ مَرَّةً لَمَا سَلَبْتُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ بَلْعَامُ نَبِيًّا وَأُوتِيَ كِتَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، فَرَشَاهُ قَوْمُهُ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَفَعَلَ وَتَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مُرْسِلٌ رَسُولًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الرَّسُولَ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ بِهِ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرِ بْنِ صَيْفِيِّ، وَكَانَ يَلْبَسُ الْمُسُوحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَفَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ:" جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ". قَالَ: فَإِنِّي عَلَيْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَسْتُ عَلَيْهَا لِأَنَّكَ أَدْخَلْتَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا". فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: أَمَاتَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيدًا وَحِيدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَعَمْ أَمَاتَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا كَذَلِكَ" وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا يُعَرِّضُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ. فَخَرَجَ أَبُو عَامِرٍ إِلَى الشَّأْمِ وَمَرَّ إِلَى قَيْصَرَ وَكَتَبَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ: اسْتَعِدُّوا فَإِنِّي آتِيكُمْ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ بِجُنْدٍ لِنُخْرِجَ مُحَمَّدًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَاتَ بِالشَّامِ وَحِيدًا. وَفِيهِ نَزَلَ:" وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ «٢» ١٠" وَسَيَأْتِي فِي بَرَاءَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهَا، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا" الْبَسُوسُ" فَكَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَقَالَتْ: اجْعَلْ لِي مِنْهَا دَعْوَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ: لَكِ وَاحِدَةٌ، فَمَا تَأْمُرِينَ؟ قَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امرأة
(١). من ج وك وهـ وى.
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٥٢ فما بعد.
320
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهَا رَغِبَتْ عَنْهُ، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً. فَذَهَبَ فِيهَا دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لَا صَبْرَ لَنَا عَنْ هَذَا، وَقَدْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهَا كَمَا كَانَتْ، فَدَعَا فَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ، وَذَهَبَتِ الدَّعَوَاتُ فِيهَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْسَلَخُوا مِنْهَا وَلَمْ يَقْبَلُوهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَلْعَامُ مِنْ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْ الْيَمَنِ. (فَانْسَلَخَ مِنْها) أَيْ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْعِلْمُ عِلْمَانِ عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ابْنِ آدَمَ (. فَهَذَا مِثْلُ علم بلعام وأشباهه، نعوذ بالله منه، ونسأل التَّوْفِيقَ وَالْمَمَاتَ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَالِانْسِلَاخُ: الْخُرُوجُ، يُقَالُ: انْسَلَخَتِ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا أَيْ خَرَجَتْ مِنْهُ. وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيِ انْسَلَخَتِ الْآيَاتُ مِنْهُ. (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أَيْ لَحِقَ بِهِ، يُقَالُ: أَتْبَعْتُ الْقَوْمَ أَيْ لَحِقْتُهُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، انْتَظَرُوا خُرُوجَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفروا به.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٧٦ الى ١٧٧]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) يُرِيدُ بَلْعَامَ. أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَمَتْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْصِيَ فَرَفَعْنَاهُ إِلَى الْجَنَّةِ. (بِها) أَيْ بِالْعَمَلِ بِهَا. (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ رَكَنَ إِلَيْهَا، عَنِ
321
ابْنِ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيِّ. مُجَاهِدٌ: سَكَنَ إِلَيْهَا، أَيْ سَكَنَ إِلَى لَذَّاتِهَا. وَأَصْلُ الْإِخْلَادِ اللُّزُومُ. يُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
لِمَنِ الدِّيَارُ غَشِيَتْهَا بِالْغَرْقَدِ كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمُخْلَدِ «١»
يَعْنِي الْمُقِيمَ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى لَزِمَ لِذَّاتِ الْأَرْضِ فَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْأَرْضِ، لِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أَيْ مَا زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: اتَّبَعَ رِضَا زَوْجَتِهِ، وَكَانَتْ رَغِبَتْ فِي أَمْوَالٍ حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَى مُوسَى. (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) ابتداء وخبر. (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ لَاهِثًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ على شي وَاحِدٍ لَا يَرْعَوِي عَنِ الْمَعْصِيَةِ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ الَّذِي هَذِهِ حَالَتُهُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَاهِثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، طَرَدْتَهُ أَوْ لَمْ تَطْرُدْهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ، لَا فُؤَادَ لَهُ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، كَذَلِكَ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى لَا فُؤَادَ لَهُ، وَإِنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ شي يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ، إِلَّا الْكَلْبَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْكَلَالِ وَحَالِ الرَّاحَةِ وَحَالِ الْمَرَضِ وَحَالِ الصِّحَّةِ وَحَالِ الرِّيِّ وَحَالِ الْعَطَشِ. فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ ضَلَّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ ضَلَّ، فَهُوَ كَالْكَلْبِ إِنْ تَرَكْتَهُ لَهَثَ وإن طردته لهث، كقول تَعَالَى:" وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «٢» ". قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: لَهَثَ الْكَلْبُ" بِالْفَتْحِ" يَلْهَثُ لَهْثًا وَلُهَاثًا" بِالضَّمِّ" إِذَا أَخْرَجَ لِسَانَهُ مِنَ التَّعَبِ أَوِ العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى" إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ" لِأَنَّكَ إِذَا حَمَلْتَ عَلَى الْكَلْبِ نَبَحَ وَوَلَّى هَارِبًا، وَإِذَا تَرَكْتَهُ شَدَّ عَلَيْكَ وَنَبَحَ، فَيُتْعِبُ نَفْسَهُ مُقْبِلًا عَلَيْكَ وَمُدْبِرًا عَنْكَ فَيَعْتَرِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا يَعْتَرِيهِ عِنْدَ الْعَطَشِ مِنْ إِخْرَاجِ اللِّسَانِ. قال الترمذي الحكيم في نوادر «٣» الأصول:
(١). الغرقد: هو بقيع الغرقد، مقابر بالمدينة. والذي في ديوانه" بالفدفد" وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. الوحى: الكتاب، وإنما جعله في حجر المسيل لأنه أصلب. عن شرح الديوان.
(٢). راجع ص ٣٤١ من هذا الجزء.
(٣). من ز.
322
إِنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْكَلْبِ مِنْ بَيْنِ السِّبَاعِ لِأَنَّ الْكَلْبَ مَيِّتُ الْفُؤَادِ، وَإِنَّمَا لُهَاثُهُ لِمَوْتِ فُؤَادِهِ. وَسَائِرُ السِّبَاعِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ لَا يَلْهَثْنَ. وَإِنَّمَا صَارَ الْكَلْبُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَرْضِ شَمِتَ بِهِ الْعَدُوُّ، فَذَهَبَ إِلَى السِّبَاعِ فَأَشْلَاهُمْ «١» عَلَى آدَمَ، فَكَانَ الْكَلْبُ مِنْ أَشَدِّهِمْ طَلَبًا. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْعَصَا الَّتِي صُرِفَتْ إِلَى مُوسَى بِمَدْيَنَ وَجَعَلَهَا آيَةً لَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَجَعَلَ فِيهَا سُلْطَانًا عَظِيمًا وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، فَأَعْطَاهَا آدَمَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ «٢») لِيَطْرُدَ بِهَا السِّبَاعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَرَهُ فِيمَا رُوِيَ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكَلْبِ وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَلِفَهُ الْكَلْبُ وَمَاتَ الْفُؤَادُ مِنْهُ لِسُلْطَانِ الْعَصَا، وَأَلِفَ بِهِ وَبِوَلَدِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، لِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَصَارَ حَارِسًا مِنْ حُرَّاسِ وَلَدِهِ. وَإِذَا أُدِّبَ وَعُلِّمَ الِاصْطِيَادَ تَأَدَّبَ وَقَبِلَ التَّعْلِيمَ «٣»، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:" تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ «٤» ". السُّدِّيُّ: كَانَ بَلْعَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْهَثُ كَمَا يَلْهَثُ الْكَلْبُ. وَهَذَا الْمَثَلُ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي كُلِّ مُنَافِقٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ" أَيْ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ بِدَابَّتِكَ أَوْ بِرِجْلِكَ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَلَا يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا شَرُّ تَمْثِيلٍ، لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ حَتَّى صَارَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بِكَلْبٍ لَاهِثٍ أَبَدًا، حُمِلَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ تَرْكَ اللَّهَثَانِ. وَقِيلَ: مِنْ أَخْلَاقِ الْكَلْبِ الْوُقُوعُ بِمَنْ لَمْ يُخِفْهُ عَلَى جِهَةِ الِابْتِدَاءِ بِالْجَفَاءِ، ثُمَّ تَهْدَأُ طَائِشَتُهُ بِنَيْلِ كُلِّ عِوَضٍ «٥» خَسِيسٍ. ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِي قَبِلَ الرِّشْوَةَ فِي الدِّينِ حَتَّى انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا عَلَى أَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ وَلَا بِعِلْمِهِ، إِذْ لَا يَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لَهُ. وَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ أَخْذِ الرِّشْوَةِ لِإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ تَغْيِيرِهِ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ «٦» ". وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ لِعَالِمٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يُبَيِّنُهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَعْطَى هَذَا آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يَخَافَ مِثْلَ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ وَأَلَّا يَقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا بِحُجَّةٍ.
(١). الإشلاء: الإغراء.
(٢). من ع، ى. [..... ]
(٣). في ع: وصار ذا أدب وعلم.
(٤). راجع ج ٦ ص ٦٥ وص ١٨٣.
(٥). في ع: غرض.
(٦). راجع ج ٦ ص ٦٥ وص ١٨٣.
323
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي هو مثل جميع الكفار. وقوله:" ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ" يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ قَبُحَ، فَهُوَ لَازِمٌ، وَسَاءَ يَسُوءُ مَسَاءَةً، فَهُوَ مُتَعَدٍّ، أَيْ قَبُحَ مَثَلُهُمْ. وَتَقْدِيرُهُ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَنُصِبَ" مَثَلًا" عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: فَجُعِلَ الْمَثَلُ الْقَوْمَ مَجَازًا. وَالْقَوْمُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. التَّقْدِيرُ: سَاءَ الْمَثَلُ مَثَلًا هُوَ مَثَلُ الْقَوْمِ. وَقَدَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ: سَاءَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ. وَقَرَأَ عاصم الجحدري والأعمش" ساء مثل القوم" رفع مثلا بساء.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٧٨]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هذه مَوْضِعٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَتَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَى جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يضل أحدا.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا بِعَدْلِهِ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ:" لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها" بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَفْقَهُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَلَا يَعْقِلُونَ ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عقابا. (أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ) بها الهدى. (وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها) الْمَوَاعِظَ. وَلَيْسَ الْغَرَضُ نَفْيَ الْإِدْرَاكَاتِ عَنْ حَوَاسِّهِمْ جُمْلَةً. كَمَا بَيَّنَاهُ فِي (الْبَقَرَةِ «١»). (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لِأَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ثَوَابٍ، فَهُمْ كَالْأَنْعَامِ، أَيْ هِمَّتُهُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَهُمْ أَضَلُّ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تبصر منافعها
(١). راجع ج ١ ص ٢١٤.
أخبر تعالى أنه خلق للنار أهلا بعدله. ثم وصفهم فقال " لهم قلوب لا يفقهون بها " بمنزلة من لا يفقه ؛ لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا. و " أعين لا يبصرون بها " الهدى. و " آذان لا يسمعون بها " المواعظ. وليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة كما بيناه في " البقرة١ ". " أولئك كالأنعام بل هم أضل " لأنهم لا يهتدون إلى ثواب، فهم كالأنعام ؛ أي همتهم الأكل والشرب، وهم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك. وقال عطاء : الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه. وقيل : الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع. و " أولئك هم الغافلون " أي تركوا التدبر وأعرضوا عن الجنة والنار.
١ راجع ج ١ ص ٢١٤.
وَمَضَارَّهَا وَتَتْبَعُ مَالِكَهَا، وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَنْعَامُ تَعْرِفُ اللَّهَ، وَالْكَافِرُ لَا يَعْرِفُهُ. وَقِيلَ: الْأَنْعَامُ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُطِيعٍ. (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أَيْ تَرَكُوا التَّدَبُّرَ وأعرضوا عن الجنة والنار.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ١٨٠ فيه ست مسائل: الأولى- قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ١٨٠ أَمْرٌ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَمُجَانَبَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُلْحِدِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ يَقُولُ فِي صلاته: يا رحمان يَا رَحِيمُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رَبًّا وَاحِدًا، فَمَا بَالُ هَذَا يَدْعُو رَبَّيْنِ اثْنَيْنِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:" وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ١٨٠". الثَّانِيَةُ- جَاءَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنَ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَ فِيهِ (إِنَّ لِلَّهِ) تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، فِي أَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى). قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ- وَذَكَرَ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ- وَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْمُتَوَاتِرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ". وَمَعْنَى" أَحْصاها" عَدَّهَا وَحَفِظَهَا. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِنَا. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ تَصْحِيحَ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَذَكَرْنَا مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا اجْتُمِعَ عَلَيْهِ وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِنَا مَا يُنَيِّفُ عَلَى مِائَتَيِ اسْمٍ. وَذَكَرْنَا قَبْلَ تَعْيِينِهَا فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَصْلًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهَا، فَمَنْ أَرَادَهُ وَقَفَ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمَوْضُوعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ (للصواب «١»)، لا رب سواه.
(١). من ج وك.
325
الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ ذَلِكَ فِي" الْكِتَابِ الْأَسْنَى". قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وُقُوعُ الِاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى وَوُقُوعُهُ عَلَى التَّسْمِيَةِ. فَقَوْلُهُ:" وَلِلَّهِ" وَقَعَ عَلَى الْمُسَمَّى، وَقَوْلُهُ:" الْأَسْماءُ" وَهُوَ جَمْعُ اسْمٍ وَاقِعٌ عَلَى التَّسْمِيَاتِ. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ:" فَادْعُوهُ بِها ١٨٠"، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ:" فَادْعُوهُ ١٨٠" تَعُودُ عَلَى الْمُسَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْمَدْعُوُّ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ" بِها" تَعُودُ عَلَى الْأَسْمَاءِ، وهي التسميات التي يدعى بلا بِغَيْرِهَا. هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ" الحديث. وقد تقدم في البقرة شي مِنْ هَذَا «١». وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، أَوْ صِفَةٌ لَهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ التَّسْمِيَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ١٨٠": فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَسْمَاءُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَاتُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَالْأَسْمَاءُ جَمْعٌ. قُلْتُ- ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى التَّسْمِيَاتِ إِجْمَاعًا مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" أَيْ أَنَّ لَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ تَسْمِيَةً بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ عِبَارَاتٌ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَوْصَافٍ شَتَّى، مِنْهَا مَا يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا يَسْتَحِقُّهُ لِصِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَسْمَاؤُهُ الْعَائِدَةُ إِلَى نَفْسِهِ هِيَ هُوَ، وَمَا تَعَلَّقَ بِصِفَةٍ لَهُ فَهِيَ أَسْمَاءٌ لَهُ. وَمِنْهَا صِفَاتٌ لِذَاتِهِ. وَمِنْهَا صِفَاتُ أَفْعَالٍ. وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ قوله تعالى:" وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ١٨٠" أَيِ التَّسْمِيَاتُ الْحُسْنَى. الثَّالِثُ- قَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: وَلِلَّهِ الصِّفَاتُ. الرَّابِعَةُ- سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَسْمَاءَهُ بِالْحُسْنَى لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ فِي الْأَسْمَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِفْضَالِهِ. وَالْحُسْنَى مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ
(١). راجع المسألة الثانية ج ١ ص ٢٨١.
326
" الْحُسْنى " فُعْلَى، مُؤَنَّثُ الْأَحْسَنِ، كَالْكُبْرَى تَأْنِيثُ الْأَكْبَرِ، وَالْجَمْعُ الْكُبَرُ وَالْحُسَنُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ أُفْرِدَ كَمَا أُفْرِدَ وَصْفُ مَا لَا يَعْقِلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" مَآرِبُ أُخْرى «١» ٢٠: ١٨" وَ" يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «٢» ١٠". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَادْعُوهُ بِها) ١٨٠ أَيِ اطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ، فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، تَقُولُ يَا رَحِيمُ ارْحَمْنِي، يَا حَكِيمُ احْكُمْ لِي، يَا رَازِقُ ارْزُقْنِي، يَا هادي اهْدِنِي، يَا فَتَّاحُ افْتَحْ لِي، يَا تَوَّابُ تُبْ عَلَيَّ، هَكَذَا. فَإِنْ دَعَوْتَ بِاسْمٍ عَامٍّ قُلْتُ: يَا مَالِكُ ارْحَمْنِي، يَا عَزِيزُ احْكُمْ لِي، يَا لَطِيفُ ارْزُقْنِي. وَإِنْ دَعَوْتَ بِالْأَعَمِّ الْأَعْظَمِ فَقُلْتَ: يَا أَللَّهُ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ اسْمٍ. وَلَا تَقُولُ: يَا رَزَّاقُ اهْدِنِي، إِلَّا أَنْ تُرِيدَ يَا رَزَّاقُ ارْزُقْنِي الْخَيْرَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَكَذَا، رَتِّبْ دُعَاءَكَ تَكُنْ مِنَ الْمُخْلِصِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٣» " شَرَائِطُ الدُّعَاءِ وفى هذه السورة أيضا «٤». الحمد لِلَّهِ. السَّادِسَةُ- أَدْخَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عِدَّةً مِنَ الْأَسْمَاءِ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ، مِثْلَ مُتِمُّ نُورِهِ، وَخَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَخَيْرُ الْمَاكِرِينَ، وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَسَادِسُ خَمْسَةٍ، وَالطَّيِّبُ، وَالْمُعَلِّمُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِابْنِ بَرْجَانَ «٥»، إِذْ ذَكَرَ فِي الْأَسْمَاءِ" النَّظِيفَ" وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. قُلْتُ: أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ:" مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ" فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ" الطَّيِّبُ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ" النَّظِيفَ". وَخَرَّجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ (رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ" الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَعَلَى هَذَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: يَا خَيْرَ الْمَاكِرِينَ امْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا" الطَّيِّبَ، وَالنَّظِيفَ" في كتابنا وغيره مما جاء
(١). راجع ج ١١ ص ١٨٥.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٦٤.
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٠٨.
(٤). راجع ص ٢٢٣ من هذا الجزء.
(٥). برجان (بفتح الياء وتشديد الراء): هو عبد السلام ابن عبد الرحمن بن أبى الرحال محمد بن عبد الرحمن أبو الحكم اللخمي الإفريقي ثم الإشبيلي الصوفي المفسر. مات بمراكش سنة ٥٣٦ (عن طبقات المفسرين).
327
ذِكْرُهُ فِي الْأَخْبَارِ، وَعَنِ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَيُدْعَى، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَلَا يُدْعَى، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ وَلَا يُدْعَى. حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ. وَهُنَاكَ يَتَبَيَّنُ لَكَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) ١٨٠ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُلْحِدُونَ ١٨٠" الْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ وَتَرْكُ الْقَصْدِ، يُقَالُ: أَلْحَدَ الرَّجُلُ فِي الدِّينِ. وَأَلْحَدَ إِذَا مَالَ. وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ، لِأَنَّهُ فِي ناحيته. وقرى" يَلْحَدُونَ" لُغَتَانِ وَالْإِلْحَادُ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: بِالتَّغْيِيرِ فِيهَا كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فَسَمَّوْا بِهَا أَوْثَانَهُمْ، فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. الثَّانِي- بِالزِّيَادَةِ فِيهَا. الثَّالِثُ- بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً يُسَمُّونَ فِيهَا اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ، وَيَذْكُرُونَ بِغَيْرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" فَحَذَارِ مِنْهَا، وَلَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْكُتُبِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي يَدُورُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا مَا فِي الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّصَانِيفِ، وَذَرُوا مَا سِوَاهَا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَخْتَارُ دُعَاءَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدِ اخْتَارَ لَهُ وَأَرْسَلَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلْقِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِيَةُ- مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْأَسْمَاءِ التَّشْبِيهُ، وَالنُّقْصَانُ التَّعْطِيلُ. فَإِنَّ الْمُشَبِّهَةَ وَصَفُوهُ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَالْمُعَطِّلَةَ سَلَبُوهُ مَا اتَّصَفَ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: إِنَّ دِينَنَا طَرِيقٌ بَيْنَ طَرِيقَيْنِ، لَا بِتَشْبِيهٍ وَلَا بتعطيل. وسيل الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْبُوشَنْجِيُّ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشَبَّهَةٍ بِالذَّوَاتِ، وَلَا مُعَطَّلَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ ١٨٠" مَعْنَاهُ اتْرُكُوهُمْ وَلَا تُحَاجُّوهُمْ وَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ. فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
328
وَحِيداً
" وَقَوْلُهُ:" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا «٢» ". وَهُوَ الظَّاهِرُ من الآية، لقول تَعَالَى: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ١٨٠. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨١]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
فِي الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ). وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: (هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ قَوْمَ مُوسَى مِثْلَهَا) وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ:" إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عيسى ابن مَرْيَمَ". فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخَلِّي الدُّنْيَا فِي وَقْتٍ مِنَ الأوقات من داع يدعو إلى الحق.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٢]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢)
أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أَنَّهُ سَيَسْتَدْرِجُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ. وَالِاسْتِدْرَاجُ هُوَ الْأَخْذُ بِالتَّدْرِيجِ، مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ. وَالدَّرَجُ: لَفُّ الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَدْرَجْتُهُ وَدَرَّجْتُهُ. وَمِنْهُ أُدْرِجَ الْمَيِّتُ فِي أَكْفَانِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الدَّرَجَةِ، فَالِاسْتِدْرَاجُ أَنْ يَحُطَّ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ إِلَى الْمَقْصُودِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلَّمَا جَدَّدُوا لَنَا مَعْصِيَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً. وَقِيلَ لِذِي النُّونِ: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قَالَ: بِالْأَلْطَافِ وَالْكَرَامَاتِ، لِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ" نُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَنُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ، وَأَنْشَدُوا:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا وَعِنْدَ صفو الليالي يحدث الكدر
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٣]
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُمْلِي لَهُمْ) أَيْ أُطِيلُ لَهُمُ الْمُدَّةَ وَأُمْهِلُهُمْ وَأُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُمْ. (إِنَّ كَيْدِي) أَيْ مَكْرِي. (مَتِينٌ) أَيْ شَدِيدٌ قَوِيٌّ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَتْنِ، وَهُوَ اللحم الغليظ الذي عن جانب
(١). راجع ج ١٩ ص ٦٩.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢. [..... ]
أخبر تعالى عمن كذب بآياته أنه سيستدرجهم. قال ابن عباس : هم أهل مكة. والاستدراج هو الأخذ بالتدريج، منزلة بعد منزلة. والدرج : لف الشيء. يقال : أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل : هو من الدرجة، فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وقيل لذي النون : ما أقصى ما يخدع به العبد ؟ قال : بالألطاف والكرامات ؛ لذلك قال سبحانه وتعالى :" سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وأنشدوا :
أحسنتَ ظنَّك بالأيام إذ حَسُنَتْ ولم تَخَفْ سوءَ ما يأتي به القَدَرُ
وسالمتك الليالي فاغتررتَ بها وعند صَفْوِ الليالي يحدثُ الكَدَرُ
قوله تعالى :" وأملي لهم " أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عقوبتهم. " إن كيدي " أي مكري. " متين " أي شديد قوي. وأصله من المتن، وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب. قيل : نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة. نظيره " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة١ " [ الأنعام : ٤٤ ].
١ راجع ج ٦ ص ٤٢٥.
الصُّلْبِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً. نَظِيرُهُ" حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «١» ". وقد تقدم.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٤]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أَيْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَقْفُ عَلَى" يَتَفَكَّرُوا" حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ:" مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ" رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ:" يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «٢» ". وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً عَلَى الصَّفَا يَدْعُو قُرَيْشًا، فَخْذًا فَخْذًا، فَيَقُولُ:" يَا بَنِي فُلَانٍ". يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ. فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَهُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ، بَاتَ يُصَوِّتُ حتى الصباح.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٥]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) عَجَبٌ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ، لِيَعْرِفُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ، حَسَبَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ «٣»). وَالْمَلَكُوتُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ ومعناه الملك العظيم. وقد تقدم «٤». الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ- وَمَا كَانَ مِثْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «٥» ١٠: ١٠١" وَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها «٦» ٥٠: ٦" وقوله:
(١). راجع ج ٦ ص ٤٢٥.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٤.
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٥.
(٤). راجع ص ٢٣ من هذا الجزء.
(٥). راجع ج ٨ ص ٣٨٦.
(٦). راجع ج ١٧ ص ٥.
330
" أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «١» " الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ:" وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «٢» "- مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ. قَالُوا: وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْظُرْ، وَسَلَبَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِحَوَاسِّهِمْ فَقَالَ:" لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها" الْآيَةَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ، هَلْ هُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، أَوِ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْحَاصِلُ فِي الْقَلْبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْمَعْرِفَةُ. فَذَهَبَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا لِمَعْرِفَتِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ بَوَّبَ فِي كِتَابِهِ (بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ «٣») ". قَالَ الْقَاضِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِاللَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَالْجَاهِلُ بِهِ كَافِرٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَاتِهِ: وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ بِالْيَقِينِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالتَّقْلِيدِ، وَبِأَوَّلِ وَهْلَةٍ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. قَالَ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَاجِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْعَامَّةِ وَالْمُقَلِّدِ مُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ صَحِيحًا لَمَا صَحَّ أَنْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا إِلَّا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. قَالَ: وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَجَازَ لِلْكُفَّارِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلُنَا، لِأَنَّ مِنْ دِينِكُمْ أَنَّ الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فَأَخِّرُونَا حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْتَدِلَّ. قَالَ: وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَلَّا يُقْتَلُوا حَتَّى ينظروا يستدلوا. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ". وَتَرْجَمَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ الْأَشْرَافِ (ذِكْرُ صِفَةِ كَمَالِ الْإِيمَانِ) أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: أشهد أن
(١). راجع ج ٢٠ ص ٣٤.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٤٠.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٤١.
331
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ- وَهُوَ بَالِغٌ صَحِيحٌ الْعَقْلِ- أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ الْكُفْرَ كَانَ مُرْتَدًّا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَدِّ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الزِّنْجَانِيُّ وَكَانَ شَيْخَنَا الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّمَنَانِيُّ يَقُولُ: أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدِّيَانِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ. قَالَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ وَأَرْفَقُ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ لَأَدَّى إِلَى تَكْفِيرِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا آحَادُ النَّاسِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أُمَّتُهُ، وَأَنَّ أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ صَفٌّ وَاحِدٌ وَأُمَّتُهُ ثَمَانُونَ صَفًّا. وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقُوهَا وَالْأَبْحَاثِ الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ وَهُوَ كَافِرٌ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَكْفِيرُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَبْدَأُ بِتَكْفِيرِهِ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ وَجِيرَانُهُ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضِهِمْ هَذَا فَقَالَ: لَا تُشَنِّعُ عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِ. أَوْ كَمَا قَالَ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ جَاهِلٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ عَلَى شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاقْتَحَمُوا في تكفير عامة المسلمين. أي هَذَا مِنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي كَشَفَ عَنْ فَرْجِهِ لِيَبُولَ، وَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَقَدْ حَجَرْتَ وَاسِعًا". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ. أَتُرَى هَذَا الْأَعْرَابِيَّ عَرَفَ اللَّهَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ؟ وَأَنَّ رَحْمَتَهُ وسعت كل شي، وَكَمْ مِنْ مِثْلِهِ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِيمَانِ. بَلِ اكْتَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَحَتَّى إِنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَاهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّوْدَاءِ:" أَيْنَ اللَّهُ"؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ:" مَنْ أَنَا"؟ قَالَتْ:
332
أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ:" أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَظَرٌ وَلَا اسْتِدْلَالٌ، بَلْ حَكَمَ بِإِيمَانِهِمْ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَنِ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ غَفْلَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ أَيْضًا وَالِاعْتِبَارُ فِي الْوُجُوهِ الْحِسَانِ مِنَ الْمُرْدِ وَالنِّسْوَانِ. قَالَ أَبُو الْفَرْجِ الْجَوْزِيُّ: قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ بَلَغَنِي عَنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَسْمَعُ السَّمَاعَ أَنَّهَا تُضِيفُ إِلَيْهِ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ، وَرُبَّمَا زَيَّنَتْهُ بِالْحُلِيِّ وَالْمُصَبَّغَاتِ مِنَ الثِّيَابِ، وَتَزْعُمُ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ الِازْدِيَادَ فِي الْإِيمَانِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ. وَهَذِهِ النِّهَايَةُ فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَمُخَادَعَةِ الْعَقْلِ وَمُخَالَفَةِ الْعِلْمِ. قَالَ أَبُو الْفَرْجِ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عُقَيْلٍ لَمْ يُحِلِ الله النظر إلا على صور لَا مَيْلَ لِلنَّفْسِ إِلَيْهَا، وَلَا حَظَّ لِلْهَوَى فِيهَا، بَلْ عِبْرَةٌ لَا يُمَازِجُهَا شَهْوَةٌ، وَلَا يُقَارِنُهَا لَذَّةٌ. وَلِذَلِكَ مَا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ امْرَأَةً بِالرِّسَالَةِ، وَلَا جَعَلَهَا قَاضِيًا وَلَا إِمَامًا وَلَا مُؤَذِّنًا، كُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ شَهْوَةٍ وَفِتْنَةٍ. فَمَنْ قَالَ: أَنَا أَجِدُ «١» مِنَ الصُّوَرِ الْمُسْتَحْسَنَةِ عِبَرًا كَذَّبْنَاهُ. وَكُلُّ مَنْ مَيَّزَ نَفْسَهُ بِطَبِيعَةٍ تُخْرِجُهُ عَنْ طِبَاعِنَا كَذَّبْنَاهُ، وَإِنَّمَا هَذِهِ خُدَعُ الشَّيْطَانِ لِلْمُدَّعِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلُّ شي فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْعَالَمِ الصَّغِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ «٢» تَقْوِيمٍ" وَقَالَ:" وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «٣» ". وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ التَّمْثِيلِ فِي أَوَّلِ" الْأَنْعَامِ «٤» ". فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى نَفْسِهِ ومتفكر فِي خَلْقِهِ مِنْ حِينِ كَوْنِهِ مَاءً دَافِقًا إِلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا، يُعَانُ بِالْأَغْذِيَةِ وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ، وَيُحْفَظُ بِاللِّينِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى، وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ. وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ: أَنَا، وَأَنَا، وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا، فَيَا وَيْحَهُ إِنْ كَانَ مَحْسُورًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ"- إِلَى قَوْلِهِ-" تُبْعَثُونَ «٥» " فَيَنْظُرُ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مُكَلَّفٌ، مُخَوَّفٌ بِالْعَذَابِ إِنْ قَصَّرَ، مُرْتَجِيًا «٦» بِالثَّوَابِ إِنِ ائْتَمَرَ «٧»، فَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ (فَإِنَّهُ «٨») وَإِنْ كان لا يراه يراه
و (لا «٩») يخشى الناس
(١). في ى: آخذ
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١١٣.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٤٠.
(٤). راجع ج ٦ ص ٣٨٧.
(٥). راجع ج ١٢ ص ١٠٨. [..... ]
(٦). من ز. وفى ى: فرحا.
(٧). في ع: إن شمر.
(٨). من ع
(٩). في ع: إن شمر.
333
فيه أربع مسائل :
الأولى - قوله تعالى :" أو لم ينظروا " عجب من إعراضهم عن النظر في آياته ؛ ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة " البقرة١ ". والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم. وقد تقدم٢.
الثانية - استدل بهذه الآية - وما كان مثلها من قوله تعالى :" قل انظروا ماذا في السماوات والأرض٣ " [ يونس : ١٠١ ] وقوله تعالى :" أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها٤ " [ ق : ٦ ] وقوله :" أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت٥ " [ الغاشية : ١٧ ] الآية. وقوله :" وفي أنفسكم أفلا تبصرون٦ " [ الذاريات : ٢١ ] - من قال بوجوب النظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته. قالوا : وقد ذم الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم فقال :" لهم قلوب لا يفقهون بها " [ الأعراف : ١٧٩ ] الآية. وقد اختلف العلماء في أول الواجبات، هل هو النظر والاستدلال، أو الإيمان الذي هو التصديق الحاصل في القلب الذي ليس من شرط صحته المعرفة. فذهب القاضي وغيره إلى أن أول الواجبات النظر والاستدلال ؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري رحمه الله حيث بوب في كتابه " باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل :" فاعلم أنه لا إله إلا الله٧ " [ محمد : ١٩ ] ). قال القاضي : من لم يكن عالما بالله فهو جاهل، والجاهل به كافر. قال ابن رشد في مقدماته : وليس هذا بالبين ؛ لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد، وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله إلى الاعتبار به في غير ما آية. قال : وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلد مؤمنين. قال : فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لما صح أن يسمى مؤمنا إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال : وأيضا فلو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم : لا يحل لكم قتلنا ؛ لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل. قال : وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم، وألا يقتلوا حتى ينظروا يستدلوا.
قلت : هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف ( ذكر صفة كمال الإيمان ) أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح العقل - أنه مسلم. وإن رجع بعد ذلك وأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد. وقال أبو حفص الزنجاني وكان شيخنا القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني يقول : أول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدم وجوب الإيمان بالله تعالى عنده على المعرفة بالله. قال : وهذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق ؛ لأن أكثرهم لا يعرفون حقيقة المعرفة والنظر والاستدلال. فلو قلنا : إن أول الواجبات المعرفة بالله لأدى إلى تكفير الجم الغفير والعدد الكثير، وألا يدخل الجنة إلا آحاد الناس، وذلك بعيد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع بأن أكثر أهل الجنة أمته، وأن أمم الأنبياء كلهم صف واحد وأمته ثمانون صفا. وهذا بين لا إشكال فيه. والحمد لله.
الثالثة - ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر، فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أورد على بعضهم هذا فقال : لا تشنع علي بكثرة أهل النار. أو كما قال.
قلت : وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بكتاب الله وسنة نبيه ؛ لأنه ضيق رحمة الله الواسعة على شرذمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامة المسلمين. أي هذا من قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وانتهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لقد حجرت واسعا ". خرجه البخاري والترمذي وغيرهما من الأئمة. أترى هذا الأعرابي عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان ؟ وأن رحمته وسعت كل شيء، وكم من مثله محكوم له بالإيمان. بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك. ألا تراه لما قال للسوداء :" أين الله " ؟ قالت : في السماء. قال :" من أنا " ؟ قالت : أنت رسول الله. قال :" أعتقها فإنها مؤمنة ". ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أول وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة. والله أعلم.
الرابعة - ولا يكون النظر أيضا والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنسوان. قال أبو الفرج الجوزي : قال أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبري بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع. وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم. قال أبو الفرج : وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل : لم يحل الله النظر إلا على صور لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها، بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنها لذة. ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا، كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة. فمن قال : أنا أجد٨ من الصور المستحسنة عبرا كذبناه. وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين. وقال بعض الحكماء : كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى :" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم٩ " [ التين : ٤ ] وقال :" وفي أنفسكم أفلا تبصرون١٠ " [ الذاريات : ٢١ ]. وقد بينا وجه التمثيل في أول " الأنعام١١ ". فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ومتفكر في خلقه من حين كونه ماء دافقا إلى كونه خلقا سويا، يعان بالأغذية ويربى بالرفق، ويحفظ باللين حتى يكتسب القوى، ويبلغ الأشد. وإذا هو قد قال : أنا، وأنا، ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وسيعود مقبورا، فيا ويحه إن كان محسورا. قال الله تعالى :" ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " إلى قول " تبعثون١٢ " [ المؤمنون : ١٢، ١٦ ] فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوف بالعذاب إن قصر، مرتجيا١٣ بالثواب إن ائتمر١٤، فيقبل على عبادة مولاه فإنه١٥ وإن كان لا يراه يراه ولا١٦ يخشى الناس والله أحق أن يخشاه، ولا يتكبر على أحد من عباد الله، فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار١٧، صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار. وقال ابن العربي : وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية :
كيف يزهُو من رَجِيعُهُ١٨ *** أبدَ الدَّهْرِ ضَجِيعُهْ
فهو منه وإليه *** وأخوه ورضيعُهْ
وهو يدعوه إلى الحُشِّ١٩ ***بصُغْرٍ فيُطِيعُهْ
قوله تعالى :" وما خلق الله من شيء " معطوف على ما قبله، أي وفيما خلق الله من الأشياء. " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، فهو في موضع خفض معطوف على ما قبله. وقال ابن عباس : أراد باقتراب الأجل يوم بدر ويوم أحد. " فبأي حديث بعده يؤمنون " أي بأي قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم٢٠ يصدقون. وقيل : الهاء للأجل، على معنى بأي حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان ؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف.
١ راجع ج ١ ص ١٨٥..
٢ راجع ج ٢٣ من هذا الجزء..
٣ راجع ج ٨ ص ٣٨٦..
٤ راجع ج ١٧ ص ٥.
٥ راجع ج ٢٠ ص ٣٤..
٦ راجع ج ١٧ ص ٤٠.
٧ راجع ج ١٦ ص ٢٤١..
٨ في ى: آخذ..
٩ راجع ج ٢٠ ص ١١٣..
١٠ راجع ج ١٧ ص ٤٠..
١١ راجع ج ٦ ص ٣٨٧..
١٢ راجع ج ١٢ ص ١٠٨.
١٣ من ز، وفي ى، فرحا..
١٤ في ع: إن شمر..
١٥ من ع..
١٦ في ع: إن شمر..
١٧ الزيادة عن ابن العربي/ والأوضار: الأوساخ..
١٨ الرجيع: العذرة والروث..
١٩ الحش (التثليث): النخل المجتمع، ويكنى به عن بيت الخلاء، لما كان من عادتهم التغوط في البساتين. في ع: بعلم وفي ى: بحصر..
٢٠ من ع.
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْذَارٍ، مَشْحُونٌ مِنْ أَوْضَارٍ «١»، صَائِرٌ إِلَى جَنَّةٍ إِنْ أَطَاعَ أَوْ إِلَى نَارٍ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شُيُوخُنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَبْيَاتِ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ العلمية:
كَيْفَ يَزْهُو مَنْ رَجِيعُهُ «٢»... أَبَدَ الدَّهْرِ ضَجِيعُهُ
فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ... وَأَخُوهُ وَرَضِيعُهُ
وَهْوَ يَدْعُوهُ إلى الحش... «٣» بصغر فيعطيه
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَفِيمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ. (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أَيْ وَفِي آجَالِهِمُ الَّتِي عَسَى أَنْ تَكُونَ قَدْ قَرُبَتْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِاقْتِرَابِ الْأَجَلِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أَيْ بِأَيِّ قُرْآنٍ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «٤») يُصَدِّقُونَ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلْأَجَلِ، عَلَى مَعْنَى بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ يُؤْمِنُونَ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ ليست بدار تكليف.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٦]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
بَيَّنَ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) بالرفع على الاستئناف. وقرى بِالْجَزْمِ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا. (يَعْمَهُونَ) أَيْ يَتَحَيَّرُونَ. وَقِيلَ: يَتَرَدَّدُونَ. وَقَدْ مَضَى في أول البقرة «٥» مستوفى.
(١). الزيادة عن ابن العربي. والأوضار: الأوساخ.
(٢). الرجيع: العذرة والروث.
(٣). الحش بالتثليث: النخل المجتمع، ويكنى به عن بيت الخلاء، لما كان من عادتهم التغوط في البساتين. في ع: بعلم. وفى ى: بحصر.
(٤). من ع.
(٥). راجع ج ١ ص ٢٠٩.

[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٧]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) " أَيَّانَ" سُؤَالٌ عَنِ الزَّمَانِ، مِثْلَ مَتَى. قَالَ الرَّاجِزُ:
أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا أَمَا تَرَى لِنَجْحِهَا أَوَانَا
وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَأَخْبِرْنَا عَنِ السَّاعَةِ مَتَى تَقُومُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا ذَلِكَ لِفَرْطِ الإنكار. و" مُرْساها" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ" أَيَّانَ". وَهُوَ ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، بُنِيَ لأن فيه معنى الاستفهام. و" مُرْساها" بِضَمِّ الْمِيمِ، مِنْ أَرْسَاهَا اللَّهُ، أَيْ أَثْبَتَهَا، أَيْ مَتَى مُثْبَتُهَا، أَيْ مَتَى وُقُوعُهَا. وَبِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ رَسَتْ، أَيْ ثَبَتَتْ وَوَقَفَتْ، وَمِنْهُ" وَقُدُورٍ راسِياتٍ «١» ". قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ ثَابِتَاتٌ. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ لَمْ يُبَيِّنْهَا لِأَحَدٍ، حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا عَلَى حَذَرٍ (لَا يُجَلِّيها) أَيْ لَا يُظْهِرُهَا." لِوَقْتِها" أَيْ فِي وَقْتِهَا" إِلَّا هُوَ" وَالتَّجْلِيَةُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: جَلَّا لِي فُلَانٌ الْخَبَرَ إذا أظهره وأوضحه. ومعنى (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خَفِيَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وَكُلُّ مَا خَفِيَ، عِلْمُهُ فَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى الْفُؤَادِ. وَقِيلَ: كَبُرَ مَجِيئُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ: عَظُمَ وَصْفُهَا «٢» عَلَى أَهْلِ السماوات والأرض. وقال قتادة: وغيره: المعنى تُطِيقُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِعِظَمِهَا: لِأَنَّ السَّمَاءَ تَنْشَقُّ وَالنُّجُومَ تَتَنَاثَرُ وَالْبِحَارَ تَنْضُبُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ثَقُلَتِ الْمَسْأَلَةُ «٣» عَنْهَا. (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أَيْ فجأة، مصدر في موضع الحال (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ)
(١). راجع ج ١٤ ص ٣٧٦.
(٢). في ع: وقعها.
(٣). في ز: غم.
عَنْهَا) أَيْ عَالِمٌ بِهَا كَثِيرُ السُّؤَالِ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْحَفِيُّ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ. وَالْحَفِيُّ الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَالِ. قَالَ الْأَعْشَى:
فَإِنْ تَسْأَلِي عني فيأرب سائل... خفي عَنِ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا
يُقَالُ: أَحْفَى فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي الطَّلَبِ، فَهُوَ مُحْفٍ وَحَفِيٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ، مِثْلَ مُخْصِبٍ وَخَصِيبٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: الْمَعْنَى يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهَا، أَيْ مُلِحٌّ. يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ أَيْ حَفِيٌّ بِبِرِّهِمْ وَفَرِحٌ بِسُؤَالِهِمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةٌ فَأَسِرَّ إِلَيْنَا بِوَقْتِ السَّاعَةِ. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ليس هذا تكريرا، ولكن أحد المسلمين لوقوعها والآخر لكنهها.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٨٨]
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أَيْ لَا أَمْلِكُ أَنْ أَجْلِبَ إِلَى نَفْسِي خَيْرًا وَلَا أَدْفَعَ عَنْهَا شَرًّا، فَكَيْفَ أَمْلِكُ عِلْمَ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي الْهُدَى وَالضَّلَالَ. (إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا شاء الله أن يملكني يمكنني مِنْهُ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلُ «١»
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنِّي مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَرِّفَنِيهِ لَفَعَلْتُهُ. وَقِيلَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ لِيَ النَّصْرُ فِي الْحَرْبِ لَقَاتَلْتُ فَلَمْ أُغْلَبْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ سَنَةَ الْجَدْبِ لَهَيَّأْتُ لَهَا فِي زَمَنِ الْخَصْبِ مَا يَكْفِينِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ التِّجَارَةَ التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل:
(١). عجز بيت للأسود بن يعفر: والبيت:
ألا هل لهذا الدهر من متعلل... عن الناس مهما
. إلخ.
الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَجَبْتُ عَنْ كُلِّ مَا أُسْأَلُ عَنْهُ. وَكُلُّهُ مُرَادٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هَذَا اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ، أَيْ لَيْسَ بِي جُنُونٌ، لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمْتُ الْغَيْبَ لَمَا مَسَّنِي سُوءٌ وَلَحَذِرْتُ،" وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ «١» ".
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٨٩ الى ١٩٠]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ آدَمُ. (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يَعْنِي حَوَّاءَ. (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) لِيَأْنَسَ بِهَا وَيَطْمَئِنَّ، وكان هذا كله في الجنة. ثُمَّ ابْتَدَأَ بِحَالَةٍ أُخْرَى هِيَ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ هُبُوطِهِمَا فَقَالَ: (فَلَمَّا تَغَشَّاها) كِنَايَةً عَنِ الْوِقَاعِ. (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً) كُلُّ مَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ فَهُوَ حَمْلٌ بِالْفَتْحِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى رَأْسٍ فَهُوَ حِمْلٌ بِالْكَسْرِ. وَقَدْ حَكَى يَعْقُوبُ فِي حَمْلِ النَّخْلَةِ الْكَسْرَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ: يُقَالُ فِي حَمْلِ الْمَرْأَةِ حَمْلٌ وجمل، يُشَبَّهُ مَرَّةً لِاسْتِبْطَانِهِ بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ، وَمَرَّةً لِبُرُوزِهِ وَظُهُورِهِ بِحِمْلِ الدَّابَّةِ. وَالْحَمْلُ أَيْضًا مَصْدَرُ حَمَلَ عَلَيْهِ يَحْمِلُ حَمْلًا إِذَا صَالَ. (فَمَرَّتْ بِهِ) يَعْنِي الْمَنِيَّ، أَيِ اسْتَمَرَّتْ بِذَلِكَ الْحَمْلِ الْخَفِيفِ. يَقُولُ: تَقُومُ وَتَقْعُدُ وَتَقَلَّبُ، وَلَا تَكْتَرِثُ بِحَمْلِهِ إِلَى أَنْ ثَقُلَ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وقيل:
(١). من ج. وفى ب: إن أنا إلا نذير وبشير. [..... ]
337
الْمَعْنَى فَاسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ" فَمَارَتْ بِهِ" بِأَلِفٍ وَالتَّخْفِيفِ، مِنْ مَارَ يَمُورُ إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ وَتَصَرَّفَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ" فَمَرَتْ بِهِ" خَفِيفَةً مِنَ الْمِرْيَةِ، أَيْ شَكَّتْ فِيمَا أَصَابَهَا، هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَوْ مَرَضٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صَارَتْ ذَاتَ ثِقْلٍ، كَمَا تَقُولُ: أَثْمَرَ النَّخْلُ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ فِي الثِّقْلِ، كَمَا تَقُولُ: أَصْبَحَ وَأَمْسَى. (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما) الضَّمِيرُ فِي" دَعَوَا" عَائِدٌ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَعَلَى هَذَا القول رُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ حَوَّاءَ لَمَّا حَمَلَتْ أَوَّلَ حَمْلٍ لَمْ تَدْرِ مَا هُوَ. وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ" فَمَرَتْ بِهِ" بِالتَّخْفِيفِ. فَجَزِعَتْ بِذَلِكَ، فَوَجَدَ إِبْلِيسُ السَّبِيلَ إِلَيْهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ إِبْلِيسَ أَتَى حَوَّاءَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لَمَّا أَثْقَلَتْ فِي أَوَّلِ مَا حَمَلَتْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي فِي بَطْنِكِ؟ قَالَتْ: مَا أَدْرِي! قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً. فَقَالَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فَقَالَ: هُوَ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ، فَإِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَوَلَدْتِ إِنْسَانًا أَفَتُسَمِّينَهُ «١» بِي؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُو اللَّهَ. فَأَتَاهَا وَقَدْ وَلَدَتْ فَقَالَ: سَمِّيهِ بِاسْمِي. فَقَالَتْ: وَمَا اسْمُكَ؟ قَالَ: الْحَارِثُ- وَلَوْ سَمَّى لَهَا نَفْسَهُ لَعَرَفَتْهُ- فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ. وَنَحْوَ هَذَا مَذْكُورٌ مِنْ ضَعِيفِ الْحَدِيثِ، فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ، فَلَا يعول عليها من لم قَلْبٌ، فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَإِنْ غَرَّهُمَا بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُطِّرَ وَكُتِبَ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خَدَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ (خَدَعَهُمَا) فِي الْجَنَّةِ وَخَدَعَهُمَا فِي الْأَرْضِ". وَعُضِّدَ هَذَا بِقِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ" أَتُشْرِكُونَ" بِالتَّاءِ. وَمَعْنَى (صَالِحًا) يُرِيدُ وَلَدًا سَوِيًّا. (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) ١٩٠ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الشِّرْكِ الْمُضَافِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ شركا في التسمية والصفة، لا في العباد وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّهُمَا لَمْ يَذْهَبَا إِلَى أَنَّ الْحَارِثَ رَبُّهُمَا بِتَسْمِيَتِهِمَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الحارث،
(١). في الأصول فتسميه.
338
لَكِنَّهُمَا قَصَدَا إِلَى أَنَّ الْحَارِثَ كَانَ سَبَبَ نَجَاةِ الْوَلَدِ فَسَمَّيَاهُ بِهِ كَمَا يُسَمِّي الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَبْدَ ضَيْفِهِ عَلَى جِهَةِ الْخُضُوعِ لَهُ، لَا عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ رَبُّهُ، كَمَا قَالَ حَاتِمٌ:
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا وَمَا فِيَّ إِلَّا تِيكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى جِنْسِ الْآدَمِيِّينَ وَالتَّبْيِينِ عَنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ:" جَعَلا لَهُ ١٩٠" يَعْنِي الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى الْكَافِرَيْنِ، ويعنى به الجنسان. وَدَلَّ عَلَى هَذَا (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وَلَمْ يَقُلْ يُشْرِكَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ" مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ" وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها" أَيْ مِنْ جِنْسِهَا" فَلَمَّا تَغَشَّاها" يَعْنِي الْجِنْسَيْنِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، فَإِذَا آتَاهُمَا الْوَلَدَ صَالِحًا سَلِيمًا سَوِيًّا كَمَا أَرَادَاهُ صَرَفَاهُ عَنِ الْفِطْرَةِ إِلَى الشِّرْكِ، فَهَذَا فِعْلُ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ- فِي رِوَايَةٍ (عَلَى هذه «١») الملة- أبواه يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ". قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يَخُصَّ بِهَا آدَمَ، وَلَكِنْ جَعَلَهَا عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بَعْدَ آدَمَ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَهَذَا أَعْجَبُ إِلَى أَهْلِ النَّظَرِ، لِمَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُضَافِ مِنَ الْعَظَائِمِ بِنَبِيِّ اللَّهِ آدَمَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ" شِرْكًا" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَأَبُو عَمْرٍو وَسَائِرُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالْجَمْعِ، عَلَى مِثْلِ فُعَلَاءَ، جَمْعُ شَرِيكٍ. وَأَنْكَرَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ جَعَلَا لَهُ ذَا شِرْكٍ، مِثْلَ" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" فَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ. الرَّابِعَةُ- وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَيَحْيَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ الْحَمْلِ يُسْرٌ»
وَسُرُورٌ، وَآخِرُهُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ:" إِنَّهُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ" يُعْطِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ:" دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما" وَهَذِهِ الْحَالَةُ مُشَاهَدَةٌ فِي الْحُمَّالِ، وَلِأَجْلِ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ جُعِلَ مَوْتُهَا شَهَادَةً، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «٣».
(١). من هـ وى.
(٢). في ج وا ول وز: بشر.
(٣). في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغريق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطلون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت يجمع شهيدة" أي تموت وفى بطنها ولد. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حيان والحكم.
339
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ فَحَالُ الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي أَفْعَالِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَهَبُ وَيُحَابِي فِي ثُلُثِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْحَامِلِ بِحَالِ الطَّلْقِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْلَ عَادَةٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ. قُلْنَا: كَذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَمْرَاضِ غَالِبُهُ السَّلَامَةُ، وَقَدْ يَمُوتُ مَنْ لَمْ يَمْرَضْ. الْخَامِسَةُ- قَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَضَتْ لِلْحَامِلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَمَلَتْ لَمْ يَجُزْ لَهَا قَضَاءٌ فِي مَالِهَا إِلَّا فِي الثُّلُثِ. وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ طَلَاقًا بَائِنًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَرَادَ ارْتِجَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ ونكاح المريضة لا يصح. السادسة- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحْضُرُ الْقِتَالَ: إِنَّهُ إِذَا زَحَفَ فِي الصَّفِّ لِلْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي ما له شَيْئًا إِلَّا فِي الثُّلُثِ، وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ مَا كَانَ بِتِلْكَ الْحَالِ. وَيُلْتَحَقُ بِهَذَا الْمَحْبُوسُ لِلْقَتْلِ فِي قِصَاصٍ. وَخَالَفَ فِي هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِذَا اسْتَوْعَبْتَ النَّظَرَ لَمْ تُرَتِّبْ فِي أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الْقَتْلِ أَشَدُّ حَالًا مِنَ الْمَرِيضِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ غَفْلَةٌ فِي النَّظَرِ، فَإِنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمَا، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ". وَقَالَ رُوَيْشِدُ الطَّائِيُّ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ سَائِلٌ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «١»
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «٢» ١٠". فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْحَالُ الشَّدِيدَةُ إِنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَةُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُقَاوَمَةِ «٣» الْعَدُوِّ وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعُظْمَى مِنْ بُلُوغِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ، وَمِنْ سُوءِ الظُّنُونِ بِاللَّهِ، ومن زلزلة القلوب واضطرابها،
(١). الصوت: الجرس، مذكر. وإنما أنثه هنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة أو الاستغاثة.
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٤٤.
(٣). في ج: مقاربة.
340
هَلْ هَذِهِ حَالَةٌ تُرَى عَلَى الْمَرِيضِ أَمْ لَا؟ هَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ، وَهَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَشَاهَدَ الرَّسُولَ وَآيَاتِهِ، فَكَيْفَ بِنَا؟ السَّابِعَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ وَقْتَ الْهَوْلِ، هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ أَوِ الْحَامِلِ. فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَامِلِ إِذَا بَلَغَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَوْلُهُمَا أَقْيَسُ، لِأَنَّهَا حَالَةُ خَوْفٍ عَلَى النَّفْسِ كَإِثْقَالِ الْحَمْلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَرْكَبِ الْبَحْرَ، وَلَا رَأَى دُودًا عَلَى عُودٍ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوقِنَ بِاللَّهِ أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ لَا فَاعِلَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ ضَعِيفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِمُوقِنٍ بِهَا، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٩١ الى ١٩٢]
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً) أَيْ أَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ. (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أَيِ الْأَصْنَامُ مَخْلُوقَةٌ. وَقَالَ:" يُخْلَقُونَ" بِالْوَاوِ وَالنُّونِ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى النَّاسِ، كَقَوْلِهِ:" فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «١» ". وقوله:" يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا «٢» مَساكِنَكُمْ". (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أَيْ إِنَّ الأصنام، لا تنصر ولا تنتصر.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٩٣]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ) قَالَ الْأَخْفَشُ: أي وإن تدعو الْأَصْنَامَ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) قال أحمد
(١). راجع ج ١١ ص ٢٨٦ وج ١٥ ص ٣٢.
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٦٩.
" ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون " أي إن الأصنام، لا تنصر ولا تنتصر.
قوله تعالى :" وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم " قال الأخفش : أي وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " قال أحمد بن يحيى : لأنه رأس آية. يريد أنه قال :" أم أنتم صامتون " ولم يقل أم صمتم. وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد. وقيل : المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ " لا يتبعوكم " مشددا ومخففا " لغتان بمعنى. وقال بعض أهل اللغة :" أتبعه " - مخففا - إذا مضى خلفه ولم يدركه. و " اتبعه " - مشددا - إذا مضى خلفه فأدركه.
ابن يَحْيَى: لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ. يُرِيدُ أَنَّهُ قَالَ:" أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ" وَلَمْ يَقُلْ أَمْ صَمَتُّمْ. وَصَامِتُونَ وَصَمَتُّمْ عِنْدَ سِيبَوَيْهَ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وقرى" لَا يَتَّبِعُوكُمْ" مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا" لُغَتَانِ بِمَعْنًى. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ:" أَتْبَعَهُ"- مُخَفَّفًا- إِذَا مَضَى خَلْفَهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ. وَ" اتَّبَعَهُ"- مُشَدَّدًا- إِذَا مضى خلفه فأدركه.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٩٤ الى ١٩٦]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) حَاجَّهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ." تَدْعُونَ" تَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: تَدْعُونَهَا آلِهَةً." مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَيْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ. وَسُمِّيَتِ الْأَوْثَانُ عباد الأنها مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ مُسَخَّرَةٌ. الْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَامَ مخلوقة أمثالكم. وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَضُرُّ وَتَنْفَعُ أَجْرَاهَا مَجْرَى النَّاسِ فَقَالَ: (فَادْعُوهُمْ)
وَلَمْ يَقُلْ فَادْعُوهُنَّ. وَقَالَ:" عِبَادٌ"، وَقَالَ:" إِنَّ الَّذِينَ" وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الَّتِي. وَمَعْنَى" فَادْعُوهُمْ" أَيْ «١» فَاطْلُبُوا منهم النفع والضر. أن عبادة الأصنام تنفع. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى فَادْعُوهُمْ فَاعْبُدُوهُمْ. ثُمَّ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَسَفَّهَ عُقُولَهُمْ فَقَالَ:" أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها" الْآيَةَ. أَيْ أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهُمْ. وَالْغَرَضُ بَيَانُ جَهْلِهِمْ، لِأَنَّ الْمَعْبُودَ يَتَّصِفُ بِالْجَوَارِحِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:" إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ اأمثالكم" بتخفيف" إن" وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب" عباد ا" بِالتَّنْوِينِ،" أَمْثَالَكُمْ" بِالنَّصْبِ. وَالْمَعْنَى: مَا الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله عباد اأمثالكم، أَيْ هِيَ حِجَارَةٌ وَخَشَبٌ، فَأَنْتُمْ تَعْبُدُونَ مَا أنتم أشرف منه.
(١). من ج.
342
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسَّوَادِ. وَالثَّانِيَةُ- أَنَّ سِيبَوَيْهَ يَخْتَارُ الرَّفْعَ فِي خَبَرِ إِنْ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى مَا، فَيَقُولُ: إِنْ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، لِأَنَّ عَمَلَ" مَا" ضَعِيفٌ، وَ" إِنْ" بِمَعْنَاهَا فَهِيَ أَضْعَفُ مِنْهَا. وَالثَّالِثَةُ- أَنَّ الْكِسَائِيَّ زَعَمَ أَنَّ" إِنْ" لَا تَكَادُ تَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى" مَا"، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ «١» "." فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ" الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مَكْسُورَةً، فَحُذِفَتِ الْكَسْرَةُ لِثِقَلِهَا. ثُمَّ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى: فَادْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَّبِعُوكُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ" أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطُشُونَ بِهَا" بِضَمِّ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْيَدُ والرجل الإذن مُؤَنَّثَاتُ يُصَغَّرْنَ بِالْهَاءِ. وَتُزَادُ فِي الْيَدِ يَاءٌ فِي التَّصْغِيرِ، تُرَدُّ إِلَى أَصْلِهَا فَيُقَالُ: يُدَيَّةٌ بِالتَّشْدِيدِ لِاجْتِمَاعِ الْيَاءَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أَيِ الْأَصْنَامُ. (ثُمَّ كِيدُونِ) أَنْتُمْ وَهِيَ. (فَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ فَلَا تُؤَخِّرُونِ. وَالْأَصْلُ" كِيدُونِي" حُذِفَتِ الْيَاءُ لِأَنَّ الْكَسْرَةَ تَدُلُّ عَلَيْهَا. وَكَذَا" فَلَا تُنْظِرُونِ". وَالْكَيْدُ الْمَكْرُ. وَالْكَيْدُ الْحَرْبُ، يُقَالُ: غَزَا فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى نَصْرِي وَحِفْظِي اللَّهُ. وَوَلِيُّ الشَّيْءِ: الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَمْنَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أَيْ يَحْفَظُهُمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ:" أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي- يَعْنِي «٢» فُلَانًا- لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ". وقال الأخفش: وقرى" إِنَّ وَلِيَّ اللَّهِ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ" يَعْنِي جِبْرِيلَ. النَّحَّاسُ. هِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ. وَالْقِرَاءَةُ الأولى أبين، لقوله:" وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ".
(١). راجع ج ١٨ ص ٢١٨.
(٢). في شرح النوري على صحيح مسلم:" هذه الكناية بقوله: يعنى فلانا، هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة، إما في حق نفسه، وإما في حقه وحق غيره فكنى عنه... قال القاضي عياض رضى الله عنه قيل: إن المكنى عنه ها هنا هو الحكم بن أبى العاص والله أعلم".
343

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٩٧ الى ١٩٨]

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) كَرَّرَهُ لَيُبَيِّنُ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) شَرْطٌ، والجواب (لا يَسْمَعُوا). (وَتَراهُمْ) مستأنف. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. يَعْنِي الْأَصْنَامَ. وَمَعْنَى النَّظَرِ فتح العينين الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، وَتَرَاهُمْ كَالنَّاظِرِينَ إِلَيْكَ. وَخَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْوَاوِ وَهِيَ جَمَادٌ لَا تُبْصِرُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ جَرَى عَلَى فِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُمْ أَعْيُنٌ مِنْ جَوَاهِرَ مَصْنُوعَةٍ فَلِذَلِكَ قَالَ" وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ" وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بأبصارهم.
[سورة الأعراف (٧): آية ١٩٩]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ. فَقَوْلُهُ: (خُذِ الْعَفْوَ) دَخَلَ فِيهِ صِلَةُ الْقَاطِعِينَ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَالرِّفْقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُطِيعِينَ وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) صِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَتَقْوَى اللَّهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَغَضُّ الْأَبْصَارِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِدَارِ الْقَرَارِ. وَفِي قَوْلِهِ (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الْحَضُّ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْعِلْمِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ أَهْلِ الظُّلْمِ، وَالتَّنَزُّهُ عَنْ مُنَازَعَةِ السُّفَهَاءِ، وَمُسَاوَاةِ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْخِصَالُ تَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ، وَقَدْ جَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ. قَالَ جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ أَبُو جُرَيٍّ: رَكِبْتُ قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْتُ إِلَى مَكَّةَ فَطَلَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ
344
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَخْتُ قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٍ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ:" وَعَلَيْكَ السَّلَامُ". فَقُلْتُ: إِنَّا مَعْشَرُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ، فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَ:" ادْنُ" ثَلَاثًا، فَدَنَوْتُ فَقَالَ:" أَعِدْ عَلَيَّ" فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: (اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْكَ فَلَا تَسُبُّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ تَعَالَى (. قَالَ أَبُو جُرَيٍّ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ شَاةً وَلَا بَعِيرًا. أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ". وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ:" خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ"؟ فَقَالَ:" لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ" فِي رِوَايَةٍ" لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّيَ" فَذَهَبَ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ". فَنَظَمَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
مَكَارِمُ الأخلاق في ثلاثة وممن كَمُلَتْ فِيهِ فَذَلِكَ الْفَتَى «١»
إِعْطَاءُ مَنْ تَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَنْ تَقْطَعُهُ وَالْعَفْوُ عَمَّنِ اعْتَدَى
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق). وقال الشاعر:
(١). في ك، ع، هـ: وفى ا، ز: الغنى.
345
كُلُّ الْأُمُورِ تَزُولُ عَنْكَ وَتَنْقَضِي إِلَّا الثَّنَاءَ فَإِنَّهُ لَكَ بَاقِي
وَلَوْ أَنَّنِي خُيِّرْتُ كُلَّ فَضِيلَةٍ مَا اخْتَرْتُ غَيْرَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بطور سيناء. قيل له: بأي شي أَوْصَاكَ؟ قَالَ: بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ، الْخَشْيَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي، وَأَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأَنْ يَكُونَ نُطْقِي ذِكْرًا، وَصَمْتِي فِكْرًا، وَنَظَرِي عِبْرَةً. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ، (أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ الْإِخْلَاصِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْعَدْلِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْقَصْدِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَأَنْ أَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي وَأَنْ يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا نظري عِبْرَةً (. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" خُذِ الْعَفْوَ" أَيِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا يَسِيرٌ مِنْ كَثِيرٍ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ مِنْ عَفَا إِذَا دَرَسَ. وَقَدْ يُقَالُ: خُذِ الْعَفْوَ مِنْهُ، أَيْ لَا تُنْقِصْ عَلَيْهِ وَسَامِحْهُ. وَسَبَبُ النُّزُولِ يَرُدُّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ دَلَّهُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهَا سَبَبُ جَرِّ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَانِ. أَيِ اقْبَلْ مِنَ النَّاسِ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَتَيَسَّرَ، تَقُولُ: أَخَذْتُ حَقِّي عَفْوًا صَفْوًا، أَيْ سَهْلًا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أَيْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" الْعُرُفِ" بِضَمَّتَيْنِ، مِثْلَ الْحُلُمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالْعُرْفُ وَالْمَعْرُوفُ وَالْعَارِفَةُ: كُلُّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ تَرْتَضِيهَا الْعُقُولُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا النُّفُوسُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
وَقَالَ عَطَاءٌ:" وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" يَعْنِي بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أَيْ إِذَا أَقَمْتَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَمَرْتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَجَهِلُوا عَلَيْكَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، صِيَانَةً لَهُ عَلَيْهِمْ وَرَفْعًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ. وَهَذَا وَإِنْ
346
" وإن تدعوهم إلى الهدى " شرط، والجواب " لا يسمعوا ". " وتراهم " مستأنف. " ينظرون إليك " في موضع الحال. يعني الأصنام. ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه، وتراهم كالناظرين إليك. وخبر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر ؛ لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. وقيل : كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال " وتراهم ينظرون " وقيل : المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم.
فيه ثلاث مسائل :
الأولى - هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله :" خذ العفو " دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله :" وأمر بالعرف " صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله :" وأعرض عن الجاهلين " الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
قلت : هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. قال جابر بن سليم أبو جري : ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت : السلام عليك يا رسول الله. فقال :" وعليك السلام ". فقلت : إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال :" ادن " ثلاثا، فدنوت فقال :" أعد علي " فأعدت عليه فقال :( اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى ). قال أبو جري : فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ". وقال ابن الزبير : ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله :" خذ العفو وأمر بالعرف " قال : ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال : إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" ما هذا يا جبريل " ؟ فقال :" لا أدري حتى أسأل العالم " في رواية " لا أدري حتى أسأل ربي " فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال :" إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك ". فنظمه بعض الشعراء فقال :
مكارم الأخلاقِ في ثَلاَثَةٍ مَنْ كملتْ فيه فذلك الفَتَى١
إعطاءُ من تحرِمه ووصلُ من تَقْطَعُه والعفوُ عَمَّنِ اعْتَدَى
وقال جعفر الصادق : أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم :( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ). وقال الشاعر :
كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثناء فإنه لك باقي
ولو أنني خُيِّرْتُ كلَّ فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق
وقال سهل بن عبد الله : كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له : بأي شيء أوصاك ؟ قال : بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة.
قلت : وقد روي عن نبينا محمد أنه قال، ( أمرني ربي بتسع الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ونظري عبرة ). وقيل : المراد بقوله :" خذ العفو " أي الزكاة ؛ لأنها يسير من كثير. وفيه بعد ؛ لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال : خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر، تقول : أخذت حقي عفوا صفوا، أي سهلا.
الثانية - قوله تعالى :" وأمر بالعرف " أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر " العرف " بضمتين، مثل الحلم، وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عطاء :" وأمر بالعرف " يعني بلا إله إلا الله.
الثالثة - قوله تعالى :" وأعرض عن الجاهلين " أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم، صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء : هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة : هي محكمة، وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال : سأستأذن لك عليه، فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال : يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل ! قال : فغضب عمر حتى هم بأن يقع به. فقال الحر : يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا٢ عند كتاب الله عز وجل.
قلت : فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها محكمة لا منسوخة. وكذلك استعملها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، على ما يأتي بيانه. وإذا كان الجفاء على السلطان تعمدا واستخفافا بحقه فله تعزيره. وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصفح والعفو، كما فعل الخليفة العدل.
١ في ك و، ع، هـ: الفتى وفي ا، ز : الغنى.
٢ أي لا يتجاوز حكمه..
كَانَ خِطَابًا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ تَأْدِيبٌ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا. فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يا بن أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَتَسْتَأْذِنُ لِي عَلَيْهِ. قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا بن الْخَطَّابِ، وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ! قَالَ: فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ. فَقَالَ الْحُرُّ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا «١» عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قُلْتُ: فَاسْتِعْمَالُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتِدْلَالُ الْحُرِّ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا مَنْسُوخَةٌ. وَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِذَا كَانَ الْجَفَاءُ عَلَى السُّلْطَانِ تَعَمُّدًا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ فَلَهُ تَعْزِيرُهُ. وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْإِعْرَاضُ وَالصَّفْحُ وَالْعَفْوُ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيفَةُ العدل.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٠]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذِ الْعَفْوَ) قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" كَيْفَ يَا رَبِّ وَالْغَضَبُ" فَنَزَلَتْ:" وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ٢٠٠" وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ: وَسَاوِسُهُ. وَفِيهِ لُغَتَانِ: نَزْغٌ وَنَغْزٌ، يُقَالُ: إِيَّاكَ وَالنَّزَّاغَ وَالنَّغَّازَ، وَهُمُ الْمُوَرِّشُونَ «٢». الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن
(١). أي لا يتجاوز حكمه. [..... ]
(٢). التوريش: التحريش، يقال: ورش بين القوم وأرش.
347
الشَّيْطَانِ أَدْنَى وَسْوَسَةٍ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَكَانَ بَيْنَهُمَا نَزْغٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَمَا أَبْقَى وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا، ثُمَّ لَمْ يَبْرَحَا حَتَّى اسْتَغْفَرَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ. وَمَعْنَى (يَنْزَغَنَّكَ) ٢٠٠: يُصِيبَنَّكَ وَيَعْرِضُ لَكَ عِنْدَ الْغَضَبِ وَسْوَسَةٌ بِمَا لَا يَحِلُّ. (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ٢٠٠ أَيِ اطْلُبِ النَّجَاةَ مِنْ ذَلِكَ بِاللَّهِ. فأمر تعالى أن يدفع الْوَسْوَسَةُ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى. فَلَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْكِلَابِ إِلَّا بِرَبِّ الْكِلَابِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ لِتِلْمِيذِهِ: مَا تَصْنَعُ بِالشَّيْطَانِ إِذَا سَوَّلَ لَكَ الْخَطَايَا؟ قَالَ: أُجَاهِدُهُ. قَالَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: أُجَاهِدُهُ. قَالَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: أُجَاهِدُهُ. قَالَ: هَذَا يَطُولُ، أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِغَنَمٍ فنبحك كلبها ومنع مِنَ الْعُبُورِ مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: أُكَابِدُهُ وَأَرُدُّهُ جَهْدِي. قَالَ: هَذَا يَطُولُ عَلَيْكَ، وَلَكِنِ اسْتَغِثْ بِصَاحِبِ الْغَنَمِ يَكُفُّهُ عَنْكَ. الثَّانِيَةُ- النَّغْزُ وَالنَّزْغُ وَالْهَمْزُ وَالْوَسْوَسَةُ سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ «١» " وَقَالَ:" مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ «٢» ". وَأَصْلُ النَّزْغِ الْفَسَادُ، يُقَالُ: نَزَغَ بَيْنَنَا، أَيْ أَفْسَدَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي «٣» " أَيْ أَفْسَدَ. وَقِيلَ: النَّزْغُ الْإِغْوَاءُ وَالْإِغْرَاءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبُّكَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ (. وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوَسْوَسَةِ قَالَ:) تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ (. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:) ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ) وَالصَّرِيحُ الْخَالِصُ. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْوَسْوَسَةُ نَفْسُهَا هِيَ الْإِيمَانَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْيَقِينُ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وَجَدُوهُ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَاقَبُوا عَلَى مَا وَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ. فَكَأَنَّهُ قَالَ جَزَعُكُمْ مِنْ هَذَا هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ وَخَالِصُهُ، لِصِحَّةِ إِيمَانِكُمْ، وَعِلْمِكُمْ بِفَسَادِهَا. فَسَمَّى الْوَسْوَسَةَ إِيمَانًا لَمَّا كَانَ دَفْعُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا والرد لها وعدم قبولها
(١). راجع ج ١٢ ص ١٤٨.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ٢٦١.
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٦٤.
348
وَالْجَزَعُ مِنْهَا صَادِرًا عَنِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ فَلِكَوْنِ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ مِنْ آثَارِ الشَّيْطَانِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِانْتِهَاءِ فَعَنِ الرُّكُونِ إِلَيْهَا وَالِالْتِفَاتِ نَحْوَهَا. فَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ وَاسْتَعْمَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ وَنَبِيُّهُ نَفَعَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ خَالَجَتْهُ الشُّبْهَةُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْحِسُّ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَافَهَتِهِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي خَالَطَتْهُ شُبْهَةُ الْإِبِلِ الْجُرْبِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا عَدْوَى". وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ أَجْرَبَهَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ" فَاسْتَأْصَلَ الشُّبْهَةَ مِنْ أَصْلِهَا. فَلَمَّا يَئِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِغْرَاءِ وَالْإِضْلَالِ أَخَذَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ أَوْقَاتَهُمْ بِتِلْكَ الْأُلْقِيَاتِ. وَالْوَسَاوِسُ: التُّرَّهَاتُ، فَنَفَرَتْ عَنْهَا قُلُوبُهُمْ وَعَظُمَ عَلَيْهِمْ وُقُوعُهَا عِنْدَهُمْ فَجَاءُوا- كَمَا فِي الصَّحِيحِ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ:" أو قد وَجَدْتُّمُوهُ"؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ حَسَبَ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «١» ". فَالْخَوَاطِرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَقِرَّةٍ وَلَا اجْتَلَبَتْهَا الشُّبْهَةُ فَهِيَ الَّتِي تُدْفَعُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَلَى مِثْلِهَا يُطْلَقُ اسْمُ الْوَسْوَسَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ «٢» هَذَا الْمَعْنَى، وَالْحَمْدُ لله.
[سورة الأعراف (٧): الآيات ٢٠١ الى ٢٠٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ٢٠ يُرِيدُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ. (إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) هَذِهِ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ" طَائِفٌ". وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" طَيِّفٌ" بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: كَلَامُ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا" طَيْفٌ" بِالتَّخْفِيفِ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ طَافَ يَطِيفُ. قال الكسائي:
(١). راجع ج ١٠ ص ٣٨ وص ٢٨ فما بعدها.
(٢). راجع ج ٣ ص ٤٢٨. ، فما بعد.
349
هُوَ مُخَفَّفٌ مِنْ" طَيِّفٍ" مِثْلُ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَى" طَيْفٌ" فِي اللُّغَةِ مَا يُتَخَيَّلُ فِي الْقَلْبِ أَوْ يُرَى فِي النَّوْمِ، وَكَذَا مَعْنَى طَائِفٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ طَيْفٍ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ فَيْعَلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هُوَ بِمَصْدَرٍ، وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَعْنَى طَائِفٍ. وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوُا المعاصي إذا لحقهم شي تَفَكَّرُوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ فَتَرَكُوا الْمَعْصِيَةَ، وَقِيلَ: الطَّيْفُ وَالطَّائِفُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ فَالْأَوَّلُ- التَّخَيُّلُ. وَالثَّانِي- الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ. فَالْأَوَّلُ مَصْدَرُ طَافَ الْخَيَالُ يَطُوفُ طَيْفًا، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ هَذَا طَائِفٌ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ:" فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «١» " فَلَا يُقَالُ فِيهِ: طَيْفٌ، لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طُفْتُ عَلَيْهِمْ أَطُوفُ، وَطَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ. وَقَالَ حَسَّانُ:
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
مُجَاهِدٌ: الطَّيْفُ الْغَضَبُ. وَيُسَمَّى الْجُنُونُ وَالْغَضَبُ وَالْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهُ لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تُشَبَّهُ بِلَمَّةِ «٢» الْخَيَالِ. (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أَيْ مُنْتَهُونَ. وَقِيلَ: فَإِذَا هُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:" تَذَكَّرُوا ٢٠" بِتَشْدِيدِ الذَّالِ. وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. الثَّانِيَةُ- قَالَ عِصَامُ بْنُ الْمُصْطَلِقِ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَأَعْجَبَنِي سَمْتُهُ وَحُسْنُ رُوَائِهِ، فَأَثَارَ مِنِّي الْحَسَدُ مَا كَانَ يُجِنُّهُ صَدْرِي لِأَبِيهِ مِنَ الْبُغْضِ، فَقُلْتُ: أَنْتَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ! قَالَ نَعَمْ. فَبَالَغْتُ فِي شَتْمِهِ وَشَتْمِ أَبِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةَ عَاطِفٍ رَءُوفٍ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ" فَقَرَأَ إِلَى قَوْلِهِ:" فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ٢٠" ثُمَّ قَالَ لِي: خَفِّضْ عَلَيْكَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ إِنَّكَ لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك،
(١). راجع ج ١٨ ص ٢٣٨ فما بعد.
(٢). الله الخطرة بالقلب.
350
وَلَوِ اسْتَرْشَدْتَنَا أَرْشَدْنَاكَ. فَتَوَسَّمَ فِيَّ النَّدَمَ عَلَى مَا فَرَطَ مِنِّي فَقَالَ:" لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «١» " أَمِنْ أَهْلِ الشَّأْمِ أَنْتَ؟ قُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ:
شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ «٢»
حَيَّاكَ اللَّهُ وَبَيَّاكَ، وَعَافَاكَ، وَآدَاكَ «٣»، انْبَسِطْ «٤» إِلَيْنَا فِي حَوَائِجِكَ وَمَا يَعْرِضُ لَكَ، تَجِدْنَا عِنْدَ أَفْضَلِ ظَنِّكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ عِصَامٌ: فَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَوَدِدْتُ أَنَّهَا سَاخَتْ بِي، ثُمَّ تَسَلَّلْتُ مِنْهُ لِوَاذًا «٥»، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) ٢٠ قِيلَ: الْمَعْنَى وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْفُجَّارُ مِنْ ضُلَّالِ الْإِنْسِ تَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ. وَقِيلَ لِلْفُجَّارِ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ. وَقَدْ سبق فهذه الْآيَةِ ذِكْرُ الشَّيْطَانِ. هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمَعْنَى" لَا يُقْصِرُونَ ٢٠" أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَسَّهُ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَنَبَّهَ عَنْ قُرْبٍ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَيَمُدُّهُمُ الشَّيْطَانُ. وَ" لَا يُقْصِرُونَ ٢٠" قِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّيْطَانِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ عَنْهُمْ وَلَا يَرْحَمُونَهُمْ. وَالْإِقْصَارُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الشَّيْءِ، أَيْ لَا تُقْصِرُ الشَّيَاطِينُ فِي مَدِّهِمُ الْكُفَّارَ بِالْغَيِّ. وَقَوْلُهُ:" فِي الغَيِّ ٢٠" يَجُوزُ أَنْ يكون متصلا بقوله:
(١). راجع ج ٩ ص ٢٥٥ فما بعد.
(٢). الشنشة (بكسر الشين): العادة والطبيعة. قال الأصمعي: وهذا بيت رجز تمثل به لأبى أخزم الطائي وهو:
إن بنى زملوني بالدم شنشة أعرفها من أخزم
من يلق آساد الرجال يكلم
قال ابن برى: وكان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال ذلك، أي إنهم أشبهوا أباهم في العقوق.
(٣). قوله: حباك الله وبياك، أي ملك واعتمدك بالتحية. وبياك: معناه وبواك منزلا، إلا أنها لما جاءت مع حياك تركت همزتها وقلبت واوها ياء... وآداك: فواك وأعانك.
(٤). الانبساط: ترك الاحتشام.
(٥). اللواذ: الاستتار.
351
" يَمُدُّونَهُمْ ٢٠" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِخْوَانِ. وَالْغَيُّ: الْجَهْلُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ" يُمِدُّونَهُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ. وَهُمَا لُغَتَانِ مَدَّ وَأَمَدَّ. وَمَدَّ أَكْثَرُ، بِغَيْرِ الْأَلِفِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ. النَّحَّاسُ: وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُونَ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَزِيدُونَهُمْ فِي الْغَيِّ. وَحَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقَالُ إِذَا كَثَّرَ شي شَيْئًا بِنَفْسِهِ مَدَّهُ، وَإِذَا كَثَّرَهُ «١» بِغَيْرِهِ قِيلَ أَمَدَّهُ، نَحْو" يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «٢» مُسَوِّمِينَ". وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ احْتَجَّ لِقِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: يُقَالُ مَدَدْتُ لَهُ فِي كَذَا أَيْ زَيَّنْتُهُ لَهُ واستدعيته أن يفعله. وأمددته فكذا أَيْ أَعَنْتُهُ بِرَأْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالِاخْتِيَارُ الْفَتْحُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَدَدْتُ فِي الشَّرِّ، وَأَمْدَدْتُ فِي الْخَيْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «٣» ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْفَتْحِ فِي هَذَا الْحَرْفِ، لِأَنَّهُ فِي الشَّرِّ، وَالْغَيُّ هُوَ الشَّرُّ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ" يُمَادُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ". وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" يَقْصُرُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصاد وتخفيف القاف. الباقون" يقصرون" بضده، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
سَمَا لَكَ شوق بعد ما كان أقصرا
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) ٢٠ أي تقرؤها عليهم. (قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها) ٢٠ لَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، وَلَا يَلِيهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى «٤». وَمَعْنَى" اجْتَبَيْتَها ٢٠" اخْتَلَقْتَهَا مِنْ نَفْسِكَ. فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الآيات من قبل الله
(١). في الأصول: مده. [..... ]
(٢). راجع ج ٤ ص ١٦٠.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٠٧.
(٤). راجع ج ٢ ص ٩١.
عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. يُقَالُ: اجْتَبَيْتَ الْكَلَامَ أَيِ ارْتَجَلْتَهُ وَاخْتَلَقْتَهُ وَاخْتَرَعْتَهُ إِذَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ. (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ٢٠ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِي. (هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ٢٠ يَعْنِي الْقُرْآنَ، جَمْعُ بَصِيرَةٍ، هِيَ الدَّلَالَةُ وَالْعِبْرَةُ. أَيْ هَذَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ بِهِ عَلَى أن وَجَلَّ وَاحِدٌ. بَصَائِرُ، أَيْ يُسْتَبْصَرُ بِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" بَصائِرُ ١٠" أَيْ طُرُقٌ. وَالْبَصَائِرُ طُرُقُ الدِّينِ. قَالَ الْجُعْفِيُّ:
رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ وَبَصِيرَتِي يَعْدُو بِهَا عَتِد وَأَيَّ «١»
" وَهُدىً" رُشْدٌ وَبَيَانٌ." وَرَحْمَةٌ" أي ونعمة.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ٢٠ قِيلَ: إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي الصَّلَاةِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَالزَّهْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صَلَّى، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَكَّةَ:" لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «٢» ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ جَوَابًا لَهُمْ" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ٢٠". وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهَا قَلِيلٌ، وَالْإِنْصَاتُ يَجِبُ فِي جَمِيعِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. النَّقَّاشُ: وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ خُطْبَةٌ وَلَا جُمُعَةٌ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا أَنَّ هَذَا فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ فَهُوَ عَامٌّ. وهو الصحيح
(١). راجع ص ٥٧ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٥٥.
353
لِأَنَّهُ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّنَّةِ فِي الْإِنْصَاتِ. قَالَ النَّقَّاشُ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمَاعَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ. النَّحَّاسُ: وَفِي اللُّغَةِ يجب أن يكون في كل شي، إلا أن يدل دليل على اختصاص شي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ٢٠" اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ وَلَا تُجَاوِزُوهُ. وَالْإِنْصَاتُ: السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ وَالْمُرَاعَاةِ. أَنْصَتَ يُنْصِتُ إِنْصَاتًا، وَنَصَتَ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالَ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ أَمْرُ سَيِّدِكُمْ فَلَمْ نُخَالِفْ وَأَنْصَتْنَا كَمَا قَالَا
وَيُقَالُ: أَنْصِتُوهُ وَأَنْصِتُوا لَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا قَالَتْ حَذَامُ فَأَنْصِتُوهَا فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ" فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ٢٠": كَانَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصًّا لِيَعِيَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، لِقَوْلِهِ:" لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" وَالتَّخْصِيصُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ فِي فَوَائِدِ الْقُرْآنِ لَهُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ وَالشَّغَبَ تفنتا وَعِنَادًا، عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ". فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَنْ يَسْتَمِعُوا، وَمَدَحَ الْجِنَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «١» " الْآيَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَجَابَهُ مَنْ وَرَاءَهُ، إِذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِ، حَتَّى يَقْضِيَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَالسُّورَةِ. فَلَبِثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، فَنَزَلَ:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٢٠" فَأَنْصِتُوا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْإِنْصَاتِ تَرْكُ الْجَهْرِ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ مُجَاوَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَيَسْأَلُهُمْ كَمْ صَلَّيْتُمْ، كَمْ بَقِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهِ تَعَالَى:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ٢٠".
(١). راجع ج ١٦ ص ٢١٠.
354
وعن مجاهد هذا أَيْضًا: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ بِحَاجَتِهِمْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". وَقَدْ مَضَى فِي الْفَاتِحَةِ الِاخْتِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَيَأْتِي فِي" الْجُمُعَةِ «١» " حُكْمُ الْخُطْبَةِ، إِنْ شَاءَ الله تعالى.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٥]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) ٢٠ نَظِيرُهُ" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً «٢» " وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مَعْنَى" وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ٢٠" أَنَّهُ فِي الدُّعَاءِ. قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَعْنِي بِالذِّكْرِ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اقْرَأِ الْقُرْآنَ بِتَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ." تَضَرُّعاً" مَصْدَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ." وَخِيفَةً" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَجَمْعُ خِيفَةٍ خِوَفٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَأَصْلُ خِيفَةٍ خِوْفَةٌ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. خَافَ الرَّجُلُ يَخَافُ خَوْفًا وَخِيفَةً وَمَخَافَةً، فَهُوَ خَائِفٌ، وَقَوْمٌ خُوَّفٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَخُيَّفٌ عَلَى اللَّفْظِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ أَنَّهُ يُقَالُ أَيْضًا فِي جمع خيفة خيف. قال الجوهري: والجيفة الْخَوْفُ، وَالْجَمْعُ خِيَفٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ. (وَدُونَ الْجَهْرِ) ٢٠ أَيْ دُونَ الرَّفْعِ فِي الْقَوْلِ. أَيْ أَسْمِعْ نَفْسَكَ، كَمَا قَالَ:" وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «٣» ١١٠" أَيْ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ مَمْنُوعٌ. عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ٢٠ قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْآصَالُ الْعَشِيَّاتُ. وَالْغُدُوُّ جَمْعُ غدوة. وقرا أبو مجلز" بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ٢٠" وَهُوَ مَصْدَرُ آصَلْنَا، أَيْ دَخَلْنَا فِي الْعَشِيِّ. وَالْآصَالُ جَمْعُ أُصُلٍ، مِثْلَ طُنُبٍ وَأَطْنَابٍ، فَهُوَ جمع الجمع، والواحد أصيل، جميع على أصل، عن الزجاج.
(١). راجع ج ١٨ ص ٩٧ فما بعد.
(٢). راجع ص ٢٢٣ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٤٢ فما بعد.
الْأَخْفَشُ: الْآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ، مِثْلَ يَمِينٍ وَأَيْمَانٍ. الْفَرَّاءُ: أُصُلٌ جَمْعُ أَصِيلٍ، وَقَدْ يَكُونُ أُصُلٌ وَاحِدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الْأُصُلُ
الْجَوْهَرِيُّ: الْأَصِيلُ الْوَقْتُ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَجَمْعُهُ أُصُلٌ وَآصَالٌ وَأَصَائِلُ، كَأَنَّهُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ
وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُصْلَانَ، مِثْلَ بَعِيرٍ وَبُعْرَانَ، ثُمَّ صَغَّرُوا الْجَمْعَ فَقَالُوا أُصَيْلَانُ، ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنَ النُّونِ لَامًا فَقَالُوا أُصَيْلَالُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: لَقِيتُهُ أُصَيْلَالًا. (وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) أَيْ عَنِ الذكر.
[سورة الأعراف (٧): آية ٢٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) ٢٠ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ بِإِجْمَاعٍ. وَقَالَ:" عِنْدَ رَبِّكَ ٢٠" وَاللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ مَكَانٍ لِأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَكُلُّ قَرِيبٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ عِنْدَهُ، عَنِ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ غَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ إِلَّا حُكْمُ اللَّهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جَيْشٌ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: هَذَا عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيفِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُكَرَّمِ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قُرْبِهِمْ فِي الْكَرَامَةِ لَا فِي الْمَسَافَةِ." وَيُسَبِّحُونَهُ ٢٠" أَيْ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ." وَلَهُ يَسْجُدُونَ ٢٠" قِيلَ: يُصَلُّونَ. وَقِيلَ: يَذِلُّونَ، خِلَافَ أَهْلِ الْمَعَاصِي.
356
الثَّانِيَةُ: وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ هَذَا مَوْضِعُ سُجُودٍ لِلْقَارِئِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ سُجُودِ الْقُرْآنِ، فَأَقْصَى مَا قِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ. أَوَّلُهَا خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ، وَآخِرُهَا خَاتِمَةُ الْعَلَقِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ وَابْنِ وَهْبٍ- فِي رِوَايَةٍ- وَإِسْحَاقَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ زَادَ سَجْدَةَ الْحِجْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ" عَلَى مَا يَأْتِي «١» بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ سِتَّ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ. فَأَسْقَطَ ثَانِيَةَ الْحَجِّ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالصَّحِيحُ سُقُوطُهَا، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ بِثُبُوتِهَا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنَيْنٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ كُلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَيْنٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟. قَالَ:" نَعَمْ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا". فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَثْبَتَهُمَا الشَّافِعِيُّ وَأَسْقَطَ سَجْدَةَ ص. وَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، وَأَسْقَطَ آخِرَةَ الْحَجِّ وَثَلَاثَ الْمُفَصَّلِ. وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ شي، الْأَعْرَافُ وَالرَّعْدُ وَالنَّحْلُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَرْيَمُ وَالْحَجُّ سَجْدَةٌ وَالْفُرْقَانُ وَسُلَيْمَانُ سُورَةَ النَّمْلِ وَالسَّجْدَةُ وَص وَسَجْدَةُ الْحَوَامِيمِ. وَقِيلَ: عَشْرٌ، وَأُسْقِطَ آخِرَةَ الْحَجِّ وَص وَثَلَاثَ الْمُفَصَّلِ، ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقيل: إنها أربع، سجدة آلم تنزيل وحم تَنْزِيلٌ وَالنَّجْمُ وَالْعَلَقُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُ النَّقْلِ في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأم الْمُجَرَّدِ بِالسُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ، هَلِ الْمُرَادُ بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ أَوْ سُجُودُ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ؟ الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ. وَتَعَلَّقَ بِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ سَجْدَةً فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ". وفي رواية
(١). راجع ج ١٠ ص ٦٣.
357
أَبِي كُرَيْبٍ" يَا وَيْلِي"، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ:" أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهِ. وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ الثَّابِتِ- خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ- أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ (فَنَزَلَ «١») فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ:" أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى رِسْلِكُمْ! إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ". وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ «٢») مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ به في ذلك. وأما قول:" أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ" فَإِخْبَارٌ عَنِ السُّجُودِ الْوَاجِبِ. وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ سُجُودَ الْقُرْآنِ يَحْتَاجُ إِلَى مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ طَهَارَةِ حَدَثٍ وَنَجَسٍ وَنِيَّةٍ وَاسْتِقْبَالِ قِبْلَةٍ وَوَقْتٍ. إِلَّا مَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيمٍ وَرَفْعِ يَدَيْنِ عِنْدَهُ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ لِلتَّكْبِيرِ لَهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا رَفَعَ كَبَّرَ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ لَهَا فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ فِي الصَّلَاةِ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّكْبِيرِ لَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَبِالتَّكْبِيرِ لِذَلِكَ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَلَا سَلَامَ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْهَا. وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَتَحَقَّقُ أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهَا لِلْإِحْرَامِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُسَلِّمُ يَكُونُ لِلسُّجُودِ فَحَسْبُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" وَهَذِهِ عِبَادَةٌ لَهَا تَكْبِيرٌ، فَكَانَ لَهَا تَحْلِيلٌ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهَا فِعْلٌ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ قَوْلٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الْخَامِسَةُ- وَأَمَّا وَقْتُهُ فَقِيلَ: يَسْجُدُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لِسَبَبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يُسْفِرِ الصُّبْحُ، أَوْ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ بعد العصر «٣».
(١). من ابن عربي.
(٢). من ك.
(٣). من ك وع وفى هـ: بعد الصبح. وهو خطأ ناسخ.
358
وَقِيلَ: لَا يَسْجُدُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَقِيلَ: يَسْجُدُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَلَا يَسْجُدُ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِنَا. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ مَا يَقْتَضِيهِ سَبَبُ قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ مِنَ السُّجُودِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- فَإِذَا سَجَدَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا. رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ. السَّابِعَةُ- فَإِنْ قَرَأَهَا فِي صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ سَجَدَ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ وَأَمِنَ التَّخْلِيطَ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ لَا يَأْمَنُ ذَلِكَ فِيهَا فَالْمَنْصُوصُ جَوَازُهُ. وَقِيلَ: لَا يَسْجُدُ. وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ النَّهْيُ عَنْهُ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاةَ سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ، جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى. وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهَا زِيَادَةً فِي أَعْدَادِ سُجُودِ الْفَرِيضَةِ. وَقِيلَ: مُعَلَّلٌ بِخَوْفِ التَّخْلِيطِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْفُرَادَى وَلَا الْجَمَاعَةُ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا التَّخْلِيطَ. الثَّامِنَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ" إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" فَسَجَدَ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ. وَفِيهِ:" وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا! كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا «١». وَقَالَ عُثْمَانُ «٢»: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَسْجُدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلَا عَلَيْكَ، حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ. وَكَانَ السَّائِبُ لَا يسجد لسجود القاص «٣» " والله أعلم.
(١). في ك وهـ: عدونا. [..... ]
(٢). في ك:" عمر"
(٣). القاص (بتشديد الصاد المهملة): الذي يقرأ القصص والأخبار والمواعظ، لكونه ليس قاصدا لتلاوة القرآن. وفي ع: القصاص.
359
Icon