تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير المنار
المعروف بـتفسير المنار
.
لمؤلفه
محمد رشيد رضا
.
المتوفي سنة 1354 هـ
ﰡ
ﭑ
ﰀ
(المص) هَذِهِ حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الرَّسْمِ بِشَكْلِ كَلِمَةٍ ذَاتِ أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكِنَّهَا تُقْرَأُ بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْأَحْرُفِ سَاكِنَةً هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، صَادْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ حِكْمَةَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ حُرُوفٍ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى مَفْهُومٌ غَيْرُ مُسَمَّى تِلْكَ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْكَلَامُ هِيَ تَنْبِيهُ السَّامِعِ إِلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الصَّوْتِ مِنَ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَهِيَ كَأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ " أَلَا " وَ " هَاءِ " التَّنْبِيهِ. وَإِنَّمَا خُصَّتْ سُوَرٌ مُعَيَّنَةٌ مِنَ الطُّوَلِ وَالْمِئِينَ الْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلِ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُوهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ لِدَعْوَتِهِمْ بِهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، وَكُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ - وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ فِيهِمَا مُوَجَّهَةً إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ - وَكُلُّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ إِلَّا سُورَةَ مَرْيَمَ وَسُورَتَيِ
الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَسُورَةَ (ن). وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّوَرِ يَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ.
فَأَمَّا سُورَةُ مَرْيَمَ فَقَدْ فُصِّلَتْ فِيهَا قِصَّتُهَا بَعْدَ قِصَّةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا الْمُشَابِهَةِ لَهَا. وَيَتْلُوهُمَا ذِكْرُ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ مَبْدُوءًا كُلٌّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَعِيسَى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ تَفْصِيلِ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ بَعْدَ سَرْدِ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٢: ١٠٢) وَخُتِمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " أَيْ سُورَةُ مَرْيَمَ " بِإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ اتِّخَاذِ اللهِ تَعَالَى لِلْوَلَدِ، وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَهِيَ بِمَعْنَى سَائِرِ السُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ تُتْلَى لِلدَّعْوَةِ وَيُقْصَدُ بِهَا إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَصِدْقِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ.
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةُ الرُّومِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدِ افْتُتِحَتْ بَعْدَ (الم) بِذِكْرِ أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدَّعْوَةِ. فَالْأَوَّلُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ إِيذَاءُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ وَاضْطِهَادُهُمْ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ. كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُطْفِئُونَ نُورَ الْإِسْلَامِ وَيُبْطِلُونَ دَعْوَتَهُ بِفِتْنَتِهِمْ لِلسَّابِقِينَ إِلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ
الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ وَسُورَةَ (ن). وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى مِمَّا فِي هَذِهِ السُّوَرِ يَتَعَلَّقُ بِإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ.
فَأَمَّا سُورَةُ مَرْيَمَ فَقَدْ فُصِّلَتْ فِيهَا قِصَّتُهَا بَعْدَ قِصَّةِ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا الْمُشَابِهَةِ لَهَا. وَيَتْلُوهُمَا ذِكْرُ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ مَبْدُوءًا كُلٌّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَعِيسَى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) وَذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذَا لَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ تَفْصِيلِ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ بَعْدَ سَرْدِ قِصَّتِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٢: ١٠٢) وَخُتِمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " أَيْ سُورَةُ مَرْيَمَ " بِإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ اتِّخَاذِ اللهِ تَعَالَى لِلْوَلَدِ، وَتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. فَهِيَ بِمَعْنَى سَائِرِ السُّوَرِ الَّتِي كَانَتْ تُتْلَى لِلدَّعْوَةِ وَيُقْصَدُ بِهَا إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَرِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَصِدْقِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ.
وَأَمَّا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةُ الرُّومِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدِ افْتُتِحَتْ بَعْدَ (الم) بِذِكْرِ أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدَّعْوَةِ. فَالْأَوَّلُ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ، وَهِيَ إِيذَاءُ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ وَاضْطِهَادُهُمْ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ. كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُطْفِئُونَ نُورَ الْإِسْلَامِ وَيُبْطِلُونَ دَعْوَتَهُ بِفِتْنَتِهِمْ لِلسَّابِقِينَ إِلَيْهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ
262
لَا نَاصِرَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ بِحَمِيَّةِ نَسَبٍ وَلَا وَلَاءٍ وَكَانَ الْمُضْطَهَدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَجْهَلُونَ حِكْمَةَ اللهِ بِظُهُورِ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ اللهُ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ يَمْتَازُ بِهَا الصَّادِقُونَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ. فَكَانَتِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُفْتَتَحَ بِالْحُرُوفِ الْمُنَبِّهَةِ لِمَا بَعْدَهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةُ الرُّومِ هُوَ الْإِنْبَاءُ بِأَمْرٍ وَقَعَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا يَكُنْ وَصَلَ خَبَرُهُ إِلَى قَوْمِهِ - وَبِمَا سَيَعْقُبُهُ مِمَّا هُوَ فِي ضَمِيرِ الْغَيْبِ ذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ فَارِسَ غَلَبَتْ دَوْلَةَ الرُّومِ فِي الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ قَدْ طَالَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمَا فَأَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ سَيَدُولُ وَتَغْلِبُ الرُّومُ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ
سِنِينَ. وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَدَقَ الْخَبَرُ وَتَمَّ الْوَعْدُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعْجِزَةً مَنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَوْ فَاتَ مَنْ تَلَاهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا لَمَا فَهِمُوا مِمَّا بَعْدَهَا شَيْئًا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُبْدَأَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَرْعِيَةِ لِلْأَسْمَاعِ الْمُنَبِّهَةِ لِلْأَذْهَانِ. وَكَانَ هَذَا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْضَ الِانْتِشَارِ، وَتَصَدِّي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَ السُّفَهَاءُ يَلْغَطُونَ إِذَا قَرَأَ وَيَصْخُبُونَ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦).
وَأَمَّا سُورَةُ " ن " فَفَاتِحَتُهَا وَخَاتِمَتُهَا فِي بَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ شُبْهَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦: ١) وَكَانَتْ شُبْهَةُ رَمْيِهِ - حَمَاهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ - بِتُهْمَةِ الْجُنُونِ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا مُكَابَرَةٍ، فَإِنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فَقِيرًا وَادِعًا سَلِمًا، لَيْسَ بِرَئِيسِ قَوْمٍ وَلَا قَائِدِ جُنْدٍ، وَلَا ذِي تَأْثِيرٍ فِي الشَّعْبِ بِخِطَابِةٍ وَلَا شِعْرٍ، يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَلَى ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ دِينَهُ سَيَهْدِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَإِصْلَاحَ شَرْعِهِ سَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ مَدَارِكِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْأُمِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَآيَاتِهِ فِي تَأْيِيدِ الْمُرْسَلِينَ، أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَصِفُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْعُلُومِ بِقَوْلِهِمْ: " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِهَا بِقَوْلِهِمْ: " سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ: بِقَوْلِهِمْ: " مُعَلَّمٌ
سِنِينَ. وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَدَقَ الْخَبَرُ وَتَمَّ الْوَعْدُ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعْجِزَةً مَنْ أَظْهَرِ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَلَوْ فَاتَ مَنْ تَلَاهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا لَمَا فَهِمُوا مِمَّا بَعْدَهَا شَيْئًا فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِأَنْ تُبْدَأَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَرْعِيَةِ لِلْأَسْمَاعِ الْمُنَبِّهَةِ لِلْأَذْهَانِ. وَكَانَ هَذَا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بَعْضَ الِانْتِشَارِ، وَتَصَدِّي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ لِمَنْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَ السُّفَهَاءُ يَلْغَطُونَ إِذَا قَرَأَ وَيَصْخُبُونَ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦).
وَأَمَّا سُورَةُ " ن " فَفَاتِحَتُهَا وَخَاتِمَتُهَا فِي بَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفْعِ شُبْهَةِ الْجُنُونِ عَنْهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦: ١) وَكَانَتْ شُبْهَةُ رَمْيِهِ - حَمَاهُ اللهُ وَكَرَّمَهُ - بِتُهْمَةِ الْجُنُونِ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا مُكَابَرَةٍ، فَإِنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فَقِيرًا وَادِعًا سَلِمًا، لَيْسَ بِرَئِيسِ قَوْمٍ وَلَا قَائِدِ جُنْدٍ، وَلَا ذِي تَأْثِيرٍ فِي الشَّعْبِ بِخِطَابِةٍ وَلَا شِعْرٍ، يَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْبَشَرِ عَلَى ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ دِينَهُ سَيَهْدِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَإِصْلَاحَ شَرْعِهِ سَيَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ مَدَارِكِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْأُمِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَآيَاتِهِ فِي تَأْيِيدِ الْمُرْسَلِينَ، أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَا يَصِفُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَبْلَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْعُلُومِ بِقَوْلِهِمْ: " إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِهَا بِقَوْلِهِمْ: " سَاحِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ " وَبَعْدَ ظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ: بِقَوْلِهِمْ: " مُعَلَّمٌ
263
مَجْنُونٌ " (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (٥١: ٥٢، ٥٣).
نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ (ن) هُنَا بِمَعْنَى الدَّوَاةِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْقَلَمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَقُومُ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٩٦: ٣، ٤) وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْحُوتِ لِأَنَّ فِي السُّورَةِ ذِكْرًا لِصَاحِبِ الْحُوتِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَمَا كُتِبَتِ النُّونُ مُفْرَدَةً وَنُطِقَتْ سَاكِنَةً، بَلْ كَانَتْ تُذْكَرُ مُرَكَّبَةً وَمُعْرَبَةً كَقَوْلِهِ: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) (٢١: ٨٧) وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ، كَمَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ
تِلْكَ الْحُرُوفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَاتٌ إِلَى مَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ تَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ تَذْهَبُ فِيهَا الْأَفْهَامُ مَذَاهِبَ تُفِيدُ أَصْحَابَهَا عِلْمًا أَوْ عِبْرَةً، بِشَرْطِ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْأَخِيرِ جَعَلَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ هَذِهِ الْأَحْرُفَ مُقْتَطَعَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا: أَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي (المص) قَالَ أَنَا اللهُ أَفْضَلُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِيهِ قَالَ: هُوَ الْمُصَوِّرُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِيهِ قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ اللهِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِيهِ قَالَ: أَنَا اللهُ الصَّادِقُ. وَرَوَى أَبْنَاءُ جَرِيرٍ، وَالْمُنْذِرُ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (المص) وَ (طه) وَ (طسم) وَ (حم عسق) وَ (ق) وَ (ن) وَأَشْبَاهُ هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.
وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ - وَالِاسْمُ الْمُرْتَجَلُ لَا يُعَلَّلُ - وَهُوَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (الم) مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ آنِفًا، وَهِيَ الَّتِي فُتِحَ عَلَيْنَا بِهَا فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ الَّذِي كُنَّا نُلْقِيهِ فِي مَدْرَسَةِ دَارِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ فِيهِ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ، إِذْ أَثْبَتْنَا أَنَّ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ وَبَلَاغِةِ التَّعْبِيرَ، الَّتِي غَايَتُهَا إِفْهَامُ الْمُرَادِ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، أَنْ يُنَبِّهُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطَبَ إِلَى مُهِمَّاتِ كَلَامِهِ وَالْمَقَاصِدِ الْأُولَى بِهَا، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِمَا يُرِيدُهُ هُوَ مِنْهَا، وَيَجْتَهِدُ فِي إِنْزَالِهَا مِنْ نَفْسِهِ فِي أَفْضَلِ مَنَازِلِهَا وَمِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ لَهَا قَبْلَ الْبَدْءِ بِهَا لِكَيْلَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَدْ جَعَلَتِ الْعَرَبُ مِنْهُ هَاءَ التَّنْبِيهِ وَأَدَاةَ الِاسْتِفْتَاحِ، فَأَيُّ غَرَابَةٍ فِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ فِي
نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ (ن) هُنَا بِمَعْنَى الدَّوَاةِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْقَلَمِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَقُومُ بِالْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٩٦: ٣، ٤) وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْحُوتِ لِأَنَّ فِي السُّورَةِ ذِكْرًا لِصَاحِبِ الْحُوتِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَمَا كُتِبَتِ النُّونُ مُفْرَدَةً وَنُطِقَتْ سَاكِنَةً، بَلْ كَانَتْ تُذْكَرُ مُرَكَّبَةً وَمُعْرَبَةً كَقَوْلِهِ: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) (٢١: ٨٧) وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ، كَمَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ
تِلْكَ الْحُرُوفِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِشَارَاتٌ إِلَى مَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ تَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ تَذْهَبُ فِيهَا الْأَفْهَامُ مَذَاهِبَ تُفِيدُ أَصْحَابَهَا عِلْمًا أَوْ عِبْرَةً، بِشَرْطِ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْأَخِيرِ جَعَلَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ هَذِهِ الْأَحْرُفَ مُقْتَطَعَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا: أَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي (المص) قَالَ أَنَا اللهُ أَفْضَلُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِيهِ قَالَ: هُوَ الْمُصَوِّرُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِيهِ قَالَ: الْأَلِفُ مِنَ اللهِ، وَالْمِيمُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَالصَّادُ مِنَ الصَّمَدِ. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ فِيهِ قَالَ: أَنَا اللهُ الصَّادِقُ. وَرَوَى أَبْنَاءُ جَرِيرٍ، وَالْمُنْذِرُ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (المص) وَ (طه) وَ (طسم) وَ (حم عسق) وَ (ق) وَ (ن) وَأَشْبَاهُ هَذَا أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى.
وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ - وَالِاسْمُ الْمُرْتَجَلُ لَا يُعَلَّلُ - وَهُوَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ (الم) مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ آنِفًا، وَهِيَ الَّتِي فُتِحَ عَلَيْنَا بِهَا فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ الَّذِي كُنَّا نُلْقِيهِ فِي مَدْرَسَةِ دَارِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ فِيهِ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ، إِذْ أَثْبَتْنَا أَنَّ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ وَبَلَاغِةِ التَّعْبِيرَ، الَّتِي غَايَتُهَا إِفْهَامُ الْمُرَادِ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، أَنْ يُنَبِّهُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطَبَ إِلَى مُهِمَّاتِ كَلَامِهِ وَالْمَقَاصِدِ الْأُولَى بِهَا، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِمَا يُرِيدُهُ هُوَ مِنْهَا، وَيَجْتَهِدُ فِي إِنْزَالِهَا مِنْ نَفْسِهِ فِي أَفْضَلِ مَنَازِلِهَا وَمِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ لَهَا قَبْلَ الْبَدْءِ بِهَا لِكَيْلَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا. وَقَدْ جَعَلَتِ الْعَرَبُ مِنْهُ هَاءَ التَّنْبِيهِ وَأَدَاةَ الِاسْتِفْتَاحِ، فَأَيُّ غَرَابَةٍ فِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ فِي
264
الْإِصْلَاحِ وَالْهُدَى؟ وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الْخِطَابِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَتَكْيِيفِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ صَيْحَةِ التَّخْوِيفِ وَالزَّجْرِ، أَوْ غُنَّةِ الِاسْتِرْحَامِ وَالْعَطْفِ، أَوْ رَنَّةِ النَّعْيِ وَإِثَارَةِ الْحُزْنِ أَوْ نَغَمَةِ التَّشْوِيقِ وَالشَّجْوِ، أَوْ هَيْعَةِ الِاسْتِصْرَاخِ عِنْدَ الْفَزَعِ، أَوْ صَخَبِ التَّهْوِيشِ وَقْتَ الْجَدَلِ. وَمِنْهُ الِاسْتِعَانَةُ
بِالْإِشَارَاتِ، وَتَصْوِيرُ الْمَعَانِي بِالْحَرَكَاتِ وَمِنْهُ كِتَابَةُ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْجُمَلِ بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ أَوْ وَضْعُ خَطٍّ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
بِالْإِشَارَاتِ، وَتَصْوِيرُ الْمَعَانِي بِالْحَرَكَاتِ وَمِنْهُ كِتَابَةُ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْجُمَلِ بِحُرُوفٍ كَبِيرَةٍ أَوْ وَضْعُ خَطٍّ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
265
هَذَا وَإِنَّنِي بَعْدَ أَنْ هُدِيتُ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ لِبَدْءِ سُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ بِهَذِهِ
الْأَحْرُفِ بَحَثْتُ
الْأَحْرُفِ بَحَثْتُ
266
عَنْ سَلَفٍ لِي فِي ذَلِكَ فَرَاجَعْتُ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ لِلرَّازِيِّ لِسِعَةِ اطِّلَاعِهِ وَبَسْطِهِ لِكُلِّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَمْ أَكُنْ أَقْرَأُ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ، فَأَلْفَيْتُهُ قَدْ ذَكَرَ لِلنَّاسِ قَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ.
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ، وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةً، وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي. (وَنَقُولُ: قَدْ نَقَلَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَعْقُولِ، وَفَصَّلَ ذَلِكَ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْلُومٌ، وَنَقَلَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا ٢١ قَوْلًا، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهَا
(أَحَدُهُمَا) أَنَّهَا عِلْمٌ مَسْتُورٌ وَسِرٌّ مَحْجُوبٌ اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ، وَسِرُّهُ فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: إِنَّ لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةً، وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَابِ حُرُوفُ التَّهَجِّي. (وَنَقُولُ: قَدْ نَقَلَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْكَرُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَعْقُولِ، وَفَصَّلَ ذَلِكَ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْلُومٌ، وَنَقَلَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا ٢١ قَوْلًا، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهَا
267
قَوْلُ ابْنِ رَوْقٍ وَقُطْرُبٍ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦) وَتَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى - لِمَا أَحَبَّ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَنَفْعِهِمْ - أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَعْرِفُونَهُ لِيَكُونَ سَبَبًا لِإِسْكَاتِهِمْ وَاسْتِمَاعِهِمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُرُوفَ فَكَانُوا إِذَا سَمِعُوهَا قَالُوا كَالْمُتَعَجِّبِينَ: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا أَصْغَوْا هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ، وَطَرِيقًا إِلَى انْتِفَاعِهِمُ اهـ. ثُمَّ سُمِّيَ هَذَا حِكْمَةً فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا، ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا - عَلَى طَرِيقَةِ الْمُفَسِّرِينَ لَا الصُّوفِيَّةِ - اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَفِي شَرْحِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهَاتٌ مَا نَصُّهُ " قَالَ الْحَرْبِيُّ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُنْتَبِهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا فَأُمِرَ جِبْرِيلُ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِهِ: الم، وَحم لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَصْغَى إِلَيْهِ (قَالَ) وَإِنَّمَا
لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ " أَلَا " وَ " أَمَّا " لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ لَهُ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ التَّنْبِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْعَدٌ، وَقَدْ كَانَ يَتَنَبَّهُ وَتَغْلِبُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الرُّوحِ الْأَمِينِ عَلَيْهِ وَدُنُوِّهِ مِنْهُ كَمَايُعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِالتَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّنْبِيهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا؛ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَوَجَّهُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ إِلَى مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَكُلُّهُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، فَهُمْ مَقْصُودُونَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ بِالدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ التَّتَبُّعِ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْحِكْمَةَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهَا بِهِ
وَفِي شَرْحِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَنْبِيهَاتٌ مَا نَصُّهُ " قَالَ الْحَرْبِيُّ: الْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَنْبِيهَاتٌ جَيِّدٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَزِيزٌ وَفَوَائِدُهُ عَزِيزَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَلَى سَمْعٍ مُنْتَبِهٍ، فَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ مَشْغُولًا فَأُمِرَ جِبْرِيلُ بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُزُولِهِ: الم، وَحم لِيَسْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ جِبْرِيلَ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَصْغَى إِلَيْهِ (قَالَ) وَإِنَّمَا
لَمْ تُسْتَعْمَلِ الْكَلِمَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّنْبِيهِ كَـ " أَلَا " وَ " أَمَّا " لِأَنَّهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ فِي كَلَامِهِمْ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَا يُشْبِهُ الْكَلَامَ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ تَنْبِيهٍ لَمْ تُعْهَدْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي قَرْعِ سَمْعِهِ اهـ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ لَغَوْا فِيهِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذَا النَّظْمَ الْبَدِيعَ لِيَعْجَبُوا مِنْهُ وَيَكُونَ تَعَجُّبُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِهِمْ لَهُ، وَاسْتِمَاعُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِاسْتِمَاعِ مَا بَعْدَهُ فَتَرِقُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ الْأَفْئِدَةُ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ جَعْلَ التَّنْبِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَبْعَدٌ، وَقَدْ كَانَ يَتَنَبَّهُ وَتَغْلِبُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى طَبْعِهِ الشَّرِيفِ بِمُجَرَّدِ نُزُولِ الرُّوحِ الْأَمِينِ عَلَيْهِ وَدُنُوِّهِ مِنْهُ كَمَايُعْلَمُ مِمَّا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ بِالتَّنْبِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّنْبِيهُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا؛ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَوَجَّهُونَ بِكُلِّ قُوَاهُمْ إِلَى مَا يَتْلُوهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَكُلُّهُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ، فَهُمْ مَقْصُودُونَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ بِالدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ التَّتَبُّعِ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْحِكْمَةَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهَا بِهِ
268
ابْتِدَاءً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَوْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ ابْنُ كَثِيرٍ لَمَا ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ إِذْ نَقَلَهُ مُوجَزًا مُجْمَلًا عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَدْ رَجَّحَ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ بَيَانُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا جَمِيعُ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ مِنْ مُفَسِّرِي عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَلَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَاخْتَارَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إِذَا قِيلَ إِنَّ (المص) اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كِتَابٌ) وَإِلَّا فَهَذَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ كِتَابٌ كَقَوْلِهِ: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) (٢: ١، ٢) وَتَنْكِيرُ (كِتَابٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي جُمْلَةُ الْقُرْآنِ الْمُشَارُ إِلَى بَعْضِهِ الْمُنَزَّلُ بِالْفِعْلِ، وَجُمْلَةُ (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صِفَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ تَعْظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَ بَدْءُ نُزُولِهِ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (أُنْزِلَ) وَلَمْ يَقُلْ أَنْزَلَ اللهُ أَوْ أَنْزَلْنَاهُ إِيجَازًا مُؤْذِنًا بِأَنَّ الْمُنْزِلَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّعْرِيفِ، وَعَنْ إِسْنَادِهِ إِلَى الضَّمِيرِ أَوِ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْبَدِيعَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) حَرَجُ الصَّدْرِ ضِيقُهُ وَغَمُّهُ وَهُوَ مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعُ
الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَجِدُ السَّالِكُ فِيهِ سَبِيلًا وَاضِحًا يَنْفُذُ مِنْهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَرَجَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدِ تَفْسِيرُهُ بِالشَّكِّ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الشَّكَّ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ حَرَجِ الصَّدْرِ وَضِيقِ الْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ (الْآيَةِ ١٢٥) وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قِيلَ: هِيَ نَهْيٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ. وَقِيلَ: حُكْمٌ مِنْهُ نَحْوَ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٩٤: ١) اهـ. وَالنَّهْيُ أَوِ الدُّعَاءُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِ مَانِعٌ كَعِنَايَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ شَأْنٍ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (٧٣: ٥) ثُمَّ نَزَلَ فِي تَفْسِيرِهِ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩: ٢١) وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ الْوَحْيُ وَهُوَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا، وَكَانَ يَكَادُ يَهِيمُ بِشِدَّةِ وَقْعِهِ وَعِظَمِ تَأْثِيرِهِ حَتَّى يَكَادَ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ، وَأَيُّ قَلْبٍ يَحْتَمِلُ وَصَدْرٍ يَتَّسِعُ لِكَلَامِ اللهِ الْعَظِيمِ، يَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ شَرْحَهُ وَإِعَانَتَهُ عَلَى
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إِذَا قِيلَ إِنَّ (المص) اسْمٌ لِلسُّورَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (كِتَابٌ) وَإِلَّا فَهَذَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ كِتَابٌ كَقَوْلِهِ: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) (٢: ١، ٢) وَتَنْكِيرُ (كِتَابٌ) لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي جُمْلَةُ الْقُرْآنِ الْمُشَارُ إِلَى بَعْضِهِ الْمُنَزَّلُ بِالْفِعْلِ، وَجُمْلَةُ (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صِفَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ تَعْظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَ بَدْءُ نُزُولِهِ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (أُنْزِلَ) وَلَمْ يَقُلْ أَنْزَلَ اللهُ أَوْ أَنْزَلْنَاهُ إِيجَازًا مُؤْذِنًا بِأَنَّ الْمُنْزِلَ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّعْرِيفِ، وَعَنْ إِسْنَادِهِ إِلَى الضَّمِيرِ أَوِ الِاسْمِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْبَدِيعَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْعَرْشِ الرَّفِيعِ (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) حَرَجُ الصَّدْرِ ضِيقُهُ وَغَمُّهُ وَهُوَ مِنَ الْحَرَجَةِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعُ
الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكِ الْمُلْتَفِّ الَّذِي لَا يَجِدُ السَّالِكُ فِيهِ سَبِيلًا وَاضِحًا يَنْفُذُ مِنْهُ، أَوِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَرَجَ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدِ تَفْسِيرُهُ بِالشَّكِّ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الشَّكَّ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ حَرَجِ الصَّدْرِ وَضِيقِ الْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ (الْآيَةِ ١٢٥) وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قِيلَ: هِيَ نَهْيٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ. وَقِيلَ: حُكْمٌ مِنْهُ نَحْوَ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٩٤: ١) اهـ. وَالنَّهْيُ أَوِ الدُّعَاءُ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَحُولَ دُونَ وُقُوعِهِ مَانِعٌ كَعِنَايَةِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَمْرٌ عَظِيمٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ شَأْنٍ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (٧٣: ٥) ثُمَّ نَزَلَ فِي تَفْسِيرِهِ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩: ٢١) وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ الْوَحْيُ وَهُوَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا، وَكَانَ يَكَادُ يَهِيمُ بِشِدَّةِ وَقْعِهِ وَعِظَمِ تَأْثِيرِهِ حَتَّى يَكَادَ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ، وَأَيُّ قَلْبٍ يَحْتَمِلُ وَصَدْرٍ يَتَّسِعُ لِكَلَامِ اللهِ الْعَظِيمِ، يَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ شَرْحَهُ وَإِعَانَتَهُ عَلَى
269
حَمْلِهِ، وَهُوَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) فَهَذَا وَجْهُ مَظِنَّةِ وُقُوعِ الْحَرَجِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْهُ بِشَرْحِهِ لِصَدْرِهِ، وَيَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ تَكْوِينِيًّا.
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ تَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّفَ بِهِ هِدَايَةَ الثِّقْلَيْنِ وَإِصْلَاحَ أَهْلِ الْخَافِقَيْنِ، وَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَالطَّعْنِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِضِيقِ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (١٥: ٩٧) وَفِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَهَا: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦: ١٢٧) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ هُودٍ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١١: ١٢) وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَمْرٍ طَبْعِيٍّ كَهَذَا الِاجْتِهَادِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ بِوَعْدِ
اللهِ وَالتَّأَسِّي بِمَنْ سَبَقَ مِنْ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْوَجِيهَانِ، مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. يُنَافِيَانِ مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَرَجِ بِالشَّكِّ، وَيُغْنِيَانِ عَمَّا تَمَحَّلَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِهِ بِالتَّأْوِيلِ الشَّبِيهِ بِالْمَحَكِّ، وَمَا أَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ بِصَحِيحٍ حَتَّى بَالَغَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كُلُّ مَا صَحَّ مِنْهُ مَقْبُولٌ، إِلَّا إِذَا صَحَّ رَفْعُهُ إِلَى الْمَعْصُومِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) (١٠: ٩٤) فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ الْمَأْلُوفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَحَالِّ، وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠: ١٠٦) وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِهَا: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (٤٣: ٨١) وَفِي ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ. وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ مِنَ الصَّدْرِ، وَانْشِرَاحِهِ لِلنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَصْدَرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) (٦١: ٨) أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكِ حَرَجٌ مِنْهُ لِأَجْلِ الْإِنْذَارِ بِهِ لِئَلَّا يُكَذِّبَكَ النَّاسُ. وَالْإِنْذَارُ التَّعْلِيمُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْمُنْذَرِ وَالْعِقَابِ الَّذِي
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ بِاعْتِبَارِ تَبْلِيغِهِ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّفَ بِهِ هِدَايَةَ الثِّقْلَيْنِ وَإِصْلَاحَ أَهْلِ الْخَافِقَيْنِ، وَمِنَ الْمُتَوَقَّعِ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى أَشَدَّ الْإِيذَاءِ وَالْمُقَاوَمَةِ، وَالطَّعْنِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِضِيقِ الصَّدْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (١٥: ٩٧) وَفِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ بَعْدَهَا: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦: ١٢٧) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ هُودٍ: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١١: ١٢) وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَمْرٍ طَبْعِيٍّ كَهَذَا الِاجْتِهَادِ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَالتَّسَلِّي عَنْهُ بِوَعْدِ
اللهِ وَالتَّأَسِّي بِمَنْ سَبَقَ مِنْ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْوَجِيهَانِ، مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. يُنَافِيَانِ مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَرَجِ بِالشَّكِّ، وَيُغْنِيَانِ عَمَّا تَمَحَّلَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَوْجِيهِهِ بِالتَّأْوِيلِ الشَّبِيهِ بِالْمَحَكِّ، وَمَا أَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ بِصَحِيحٍ حَتَّى بَالَغَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَمَا كُلُّ مَا صَحَّ مِنْهُ مَقْبُولٌ، إِلَّا إِذَا صَحَّ رَفْعُهُ إِلَى الْمَعْصُومِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) (١٠: ٩٤) فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ الْمَأْلُوفِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَحَالِّ، وَشَرْطُ " إِنْ " لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَمِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠: ١٠٦) وَقَوْلُهُ فِي غَيْرِهَا: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (٤٣: ٨١) وَفِي ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْكِتَابِ. وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ مِنَ الصَّدْرِ، وَانْشِرَاحِهِ لِلنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَصْدَرِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) (٦١: ٨) أَيْ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكِ حَرَجٌ مِنْهُ لِأَجْلِ الْإِنْذَارِ بِهِ لِئَلَّا يُكَذِّبَكَ النَّاسُ. وَالْإِنْذَارُ التَّعْلِيمُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْمُنْذَرِ وَالْعِقَابِ الَّذِي
270
يُنْذَرُهُ، أَيْ يُخَوَّفُ مِنْ وُقُوعِهِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) (٧٨: ٤٠) وَقَوْلُهُ: (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) وَالْمَفْعُولَانِ يُذْكَرَانِ كِلَاهُمَا تَارَةً وَيُذْكَرُ أَحَدُهُمَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَاتِ، وَقَدْ حُذِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُنَا لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ حَسَبَ الْقَاعِدَةِ، أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ إِذْ تُبَلِّغُهُمْ دِينَ اللهِ وَكُلَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ يَعْصِي رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِيجَازٌ بَلِيغٌ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (٦: ٩٢) وَقَدْ صَرَّحَ بِجَعْلِ الْإِنْذَارِ عَامًّا لِأُمَّةِ الْبَعْثَةِ كَافَّةً بُقُولِهِ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُوَنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (٢٥: ١) وَكَثِيرًا مَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ حَتْمًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (٣٥: ١٨)
وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (٣٦: ١١) وَقَوْلُهُ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) (٦: ٥١) الْآيَةَ.
وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ مَصْدَرٌ لِذِكْرِ الشَّيْءِ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَالِاسْمُ الذِّكْرُ بِالضَّمِّ وَكَذَا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ الْكَسْرَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى ذُكْرٍ مِنْكَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ؛ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ جَمَاعَةٌ عَلَيْهِ اهـ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالذِّكْرَى كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ النَّافِعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمُؤَثِّرَةِ - وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) (٧٩: ٤٢، ٤٣) عَلَى وَجْهٍ وَفُسِّرَتْ بِالْعِلْمِ - وَلَا بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّذَكُّرِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦: ٦٨) لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِنْسَاءِ وَقَدْ خَصَّهَا هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَوَاعِظِ كَمَا قَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥١) (: ٥٥) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩: ٥١) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (٢١: ٨٤) فِي سُورَةِ ص: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (٣٨: ٤٣) وَفِي سُورَةِ ق: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٥٠: ٨).
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْإِيمَانَ سَوَاءٌ كَانُوا آمِنُوا عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ أَمْ لَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَعَ مَا قَبْلَهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ وَسَائِرَ النَّاسِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَتَعِظَهُمْ ذِكْرَى نَافِعَةً مُؤَثِّرَةً لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ - أَوْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِلْإِنْذَارِ
وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (٣٦: ١١) وَقَوْلُهُ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) (٦: ٥١) الْآيَةَ.
وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ مَصْدَرٌ لِذِكْرِ الشَّيْءِ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَالِاسْمُ الذِّكْرُ بِالضَّمِّ وَكَذَا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ الْكَسْرَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى ذُكْرٍ مِنْكَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ؛ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ جَمَاعَةٌ عَلَيْهِ اهـ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالذِّكْرَى كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ النَّافِعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمُؤَثِّرَةِ - وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) (٧٩: ٤٢، ٤٣) عَلَى وَجْهٍ وَفُسِّرَتْ بِالْعِلْمِ - وَلَا بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّذَكُّرِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦: ٦٨) لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِنْسَاءِ وَقَدْ خَصَّهَا هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَوَاعِظِ كَمَا قَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥١) (: ٥٥) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩: ٥١) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (٢١: ٨٤) فِي سُورَةِ ص: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (٣٨: ٤٣) وَفِي سُورَةِ ق: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٥٠: ٨).
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْإِيمَانَ سَوَاءٌ كَانُوا آمِنُوا عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ أَمْ لَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَعَ مَا قَبْلَهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ وَسَائِرَ النَّاسِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَتَعِظَهُمْ ذِكْرَى نَافِعَةً مُؤَثِّرَةً لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ - أَوْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِلْإِنْذَارِ
271
الْعَامِّ وَالذِّكْرَى الْخَاصَّةِ، أَوْ هُوَ ذِكْرَى - أَوْ حَالُ كَوْنِهِ ذِكْرَى - لِمَنْ آمَنُوا وَلِمَنْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِلْإِنْذَارِ الْعَامِّ، الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي يَكْثُرُ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ، أَيْ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، الَّذِي هُوَ خَالِقُكُمْ وَمُرَبِّيكُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي شَرْعِ الدِّينِ لَكُمْ وَفَرْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْكُمْ، وَالتَّحْلِيلِ لِمَا يَنْفَعُكُمْ، وَالتَّحْرِيمِ لِمَا يَضُرُّكُمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِكُمْ مِنْكُمْ (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) تَتَّخِذُونَهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَكُمْ، بِمَا يُزَيِّنُ لَكُمْ ضَلَالَ تَقَالِيدِكُمْ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِكُمْ، فَتُوَلُّونَهُمْ أُمُورَكُمْ، وَتُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَرُومُونَ
مِنْكُمْ، مِنْ وَضْعِ أَحْكَامٍ، وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، أَوْ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَإِنَّمَا عَلَى الْعَالِمِ بِدِينِ اللهِ تَبْلِيغُهُ وَبَيَانُهُ لِلْمُتَعَلِّمِ لَا بَيَانَ آرَائِهِ وَظُنُونِهِ فِيهِ - وَلَا أَوْلِيَاءَ تَتَّخِذُونَهُمْ لِأَجْلِ إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذُنُوبِكُمْ، وَجَلْبِ النَّفْعِ لَكُمْ أَوْ رَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِصَلَاحِهِمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللهَ رَبُّكُمْ هُوَ الْوَلِيُّ، أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ تَذَكُّرًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فَلَا يُجْهَلَ وَيُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى، مِمَّا يَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَيَحْظَرُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِيهِ، أَوْ قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ فَتَرْجِعُونَ عَنْ تَقَالِيدِكُمْ وَأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصُ عَنْ عَاصِمٍ " تَذَكَّرُونَ " بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا (تَتَذَكَّرُونَ) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ " يَتَذَكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُخْرَى فِيهَا.
قَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ لُغَةً وَأَنْوَاعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا أَقْرَبُهَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) (٦: ١٢٩) وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَصْرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٦: ١٤) وَزِدْنَا هَذَا بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦: ٥١)
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) هَذَا بَيَانٌ لِلْإِنْذَارِ الْعَامِّ، الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي يَكْثُرُ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُسْلُوبِ وَسِيَاقِ الْكَلَامِ، أَيْ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، الَّذِي هُوَ خَالِقُكُمْ وَمُرَبِّيكُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِكُمْ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ وَحْدَهُ الْحَقُّ فِي شَرْعِ الدِّينِ لَكُمْ وَفَرْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْكُمْ، وَالتَّحْلِيلِ لِمَا يَنْفَعُكُمْ، وَالتَّحْرِيمِ لِمَا يَضُرُّكُمْ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِكُمْ مِنْكُمْ (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) تَتَّخِذُونَهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَلَا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يُوَسْوِسُونَ لَكُمْ، بِمَا يُزَيِّنُ لَكُمْ ضَلَالَ تَقَالِيدِكُمْ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِكُمْ، فَتُوَلُّونَهُمْ أُمُورَكُمْ، وَتُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَرُومُونَ
مِنْكُمْ، مِنْ وَضْعِ أَحْكَامٍ، وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، أَوْ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ، فَإِنَّمَا عَلَى الْعَالِمِ بِدِينِ اللهِ تَبْلِيغُهُ وَبَيَانُهُ لِلْمُتَعَلِّمِ لَا بَيَانَ آرَائِهِ وَظُنُونِهِ فِيهِ - وَلَا أَوْلِيَاءَ تَتَّخِذُونَهُمْ لِأَجْلِ إِنْجَائِكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذُنُوبِكُمْ، وَجَلْبِ النَّفْعِ لَكُمْ أَوْ رَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِصَلَاحِهِمْ يُقَرِّبُونَكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، أَوْ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ أَوِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللهَ رَبُّكُمْ هُوَ الْوَلِيُّ، أَيِ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْعِبَادِ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) أَيْ تَذَكُّرًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ، أَوْ زَمَنًا قَلِيلًا تَتَذَكَّرُونَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فَلَا يُجْهَلَ وَيُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى، مِمَّا يَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَيَحْظَرُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِيهِ، أَوْ قَلِيلًا مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ فَتَرْجِعُونَ عَنْ تَقَالِيدِكُمْ وَأَهْوَائِكُمْ إِلَى مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصُ عَنْ عَاصِمٍ " تَذَكَّرُونَ " بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا (تَتَذَكَّرُونَ) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ " يَتَذَكَّرُونَ " بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْأُخْرَى فِيهَا.
قَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ لُغَةً وَأَنْوَاعَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا أَقْرَبُهَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) (٦: ١٢٩) وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْحَصْرِ فِي كَوْنِ اللهِ تَعَالَى هُوَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٦: ١٤) وَزِدْنَا هَذَا بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦: ٥١)
272
وَكَذَا تَفْسِيرُ: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (٦: ٧٠) كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ أُخْرَى مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا وَأَعَمِّهَا بَيَانًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (٢: ٢٥٧) الْآيَةَ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِوِلَايَةِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوِلَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،
وَوِلَايَةِ الطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ.
وَنَكْتَفِي هُنَا بِأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَلِّي الْأَمْرِ - مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ وَإِلَهِهِمُ الْحَقِّ، وَهِيَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) شَرْعُ الدِّينِ، عَقَائِدُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ. (وَثَانِيهِمَا) الْخَلْقُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ فِي أُمُورِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي مَكَّنَ اللهُ مِنْهَا جَمِيعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَالْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ، وَتَسْخِيرِ الْقُلُوبِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ حَصْرِ الْوِلَايَةِ فِي اللهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِهِ تَوَلِّي أُمُورِ الْعِبَادِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُهُمْ وَشَرْعُ الدِّينِ لَهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى، هُوَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي طَاعَةِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا أَحَلُّوا لَهُمْ وَزَادُوا عَلَى الْوَحْيِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا طَاعَةً دِينِيَّةً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُنْزِلْهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ طَاعَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا الْأُمَرَاءِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَدَيُّنًا، وَمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ وَتَبْلِيغُهُ، وَإِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى فَهْمِهِ وَمَا عَسَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَطْبِيقِ الْعَمَلِ عَلَى النَّصِّ، وَحِكْمَةُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ كَبَيَانِ سِمْتِ الْقِبْلَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَهُمْ لَا يُتَّبَعُونَ فِي ذَلِكَ لِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْمُتْبَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِنَصِّهِ أَوْ فَحَوَاهُ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ وَتَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي تَنْفِيذِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيمَا نَاطَهُ بِهِمْ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْضِيَتِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَنَبْذِ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ
وَوِلَايَةِ الطَّاغُوتِ لِلْكَافِرِينَ.
وَنَكْتَفِي هُنَا بِأَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَلِّي الْأَمْرِ - مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ وَإِلَهِهِمُ الْحَقِّ، وَهِيَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) شَرْعُ الدِّينِ، عَقَائِدُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ. (وَثَانِيهِمَا) الْخَلْقُ وَالتَّدْبِيرُ الَّذِي هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ فِي أُمُورِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي مَكَّنَ اللهُ مِنْهَا جَمِيعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَالْهِدَايَةِ بِالْفِعْلِ، وَتَسْخِيرِ الْقُلُوبِ، وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ حَصْرِ الْوِلَايَةِ فِي اللهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِهِ تَوَلِّي أُمُورِ الْعِبَادِ فِيمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُهُمْ وَشَرْعُ الدِّينِ لَهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى، هُوَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي طَاعَةِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ فِيمَا أَحَلُّوا لَهُمْ وَزَادُوا عَلَى الْوَحْيِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا طَاعَةً دِينِيَّةً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يُنْزِلْهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ طَاعَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا الْأُمَرَاءِ فِي اجْتِهَادِهِ فِي أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَدَيُّنًا، وَمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَيَانُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ وَتَبْلِيغُهُ، وَإِرْشَادُ النَّاسِ إِلَى فَهْمِهِ وَمَا عَسَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَطْبِيقِ الْعَمَلِ عَلَى النَّصِّ، وَحِكْمَةُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ كَبَيَانِ سِمْتِ الْقِبْلَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَهُمْ لَا يُتَّبَعُونَ فِي ذَلِكَ لِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْمُتْبَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِنَصِّهِ أَوْ فَحَوَاهُ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ وَتَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي تَنْفِيذِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَفِيمَا نَاطَهُ بِهِمْ مِنِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَأَقْضِيَتِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ الْمَصَالِحُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَنَبْذِ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ
273
بِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي تَفْسِيرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤: ٥٩) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١) الْآيَةَ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ دَاخِلٌ
فِي عُمُومِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِهِ، وَكَذَا اتِّبَاعُهُ فِي أَحْكَامِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ مُوحًى بِهَا، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَدْ أَذِنَ لَنَا أَلَّا نَأْخُذَ بِظَنِّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثَابِتِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِظَنِّ غَيْرِهِ؟ وَمِنْهُ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
قَالَ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَاعْتَبِرُوا) كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءَ بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَدْ نَقَلْنَا فِي بَحْثِ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّازِيَّ قَدْ رَدَّ فِي مَحْصُولِهِ كَوْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٥٩: ٢) دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالًا آخَرَ بِالْآيَةِ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مُنَاقَشَةَ الْقِيَاسِيِّينَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ دَاخِلٌ
فِي عُمُومِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِهِ، وَكَذَا اتِّبَاعُهُ فِي أَحْكَامِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ مُوحًى بِهَا، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَدْ أَذِنَ لَنَا أَلَّا نَأْخُذَ بِظَنِّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثَابِتِ بْنِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَا الْقَوْلُ بِظَنِّ غَيْرِهِ؟ وَمِنْهُ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
قَالَ الرَّازِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ، فَإِنْ قَالُوا: لِمَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَاعْتَبِرُوا) كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ - قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءَ بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَدْ نَقَلْنَا فِي بَحْثِ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّازِيَّ قَدْ رَدَّ فِي مَحْصُولِهِ كَوْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٥٩: ٢) دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالًا آخَرَ بِالْآيَةِ لِنُفَاةِ الْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مُنَاقَشَةَ الْقِيَاسِيِّينَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
274
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَشْوِيَّةَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ
بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ طَاعِنًا فِي صِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ بَاطِلٌ اهـ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ هَدَى إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ، وَمُخَاطَبَتِهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَأَصْحَابِ الْعُقُولِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ تُنْكِرُ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلُ الْبَصِيرَةِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَعْلَ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَحَلًّا لِنَظَرِيَّاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ، وَمَوْقُوفًا إِثْبَاتُهَا عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ جَدَلِيَّةٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ أَصْحَابُهَا مِنْهَا غَيْرَ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنْ حَقِّ الْيَقِينِ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا عَقْلِيًّا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِتَلَقِّي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مِنْهُ مَعَ اجْتِنَابِ التَّأْوِيلِ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ فِي بَيَانِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَ بِهِ كُلَّ النَّاسِ، وَذِكْرَى وَمَوْعِظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا يَتَوَلَّوْنَهُ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى - الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقَوَاعِدِ لِأُصُولِ الدِّينِ - بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهَا وَلِمَا يَتْلُوهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فَبَدَأَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَقَالَ:
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) " كَمْ " خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ الْكَثْرَةَ وَالْقَرْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْقَرْيَةُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَلِلنَّاسِ جَمِيعًا (أَيْ مَعًا) وَيُسْتَعْمَلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (١٢: ٨٢) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْآنَ طَاعِنًا فِي صِحَّةِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ وَهُوَ بَاطِلٌ اهـ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ هَدَى إِلَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِاسْتِدْلَالِهِ بِالْمَعْقُولِ، وَمُخَاطَبَتِهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَأَصْحَابِ الْعُقُولِ، عَلَى أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ تُنْكِرُ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلُ الْبَصِيرَةِ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ جَعْلَ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَحَلًّا لِنَظَرِيَّاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ، وَمَوْقُوفًا إِثْبَاتُهَا عَلَى اصْطِلَاحَاتٍ جَدَلِيَّةٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ أَصْحَابُهَا مِنْهَا غَيْرَ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَاخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنْ حَقِّ الْيَقِينِ، وَيَرَى هَؤُلَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا عَقْلِيًّا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِتَلَقِّي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ مِنْهُ مَعَ اجْتِنَابِ التَّأْوِيلِ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالنَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ فِي بَيَانِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَ بِهِ كُلَّ النَّاسِ، وَذِكْرَى وَمَوْعِظَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَبْدَأُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَحَدًا يَتَوَلَّوْنَهُ فِي أَمْرِ التَّشْرِيعِ الْخَاصِّ بِالرَّبِّ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمًا مَقْرُونًا بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى - الَّتِي هِيَ أُمُّ الْقَوَاعِدِ لِأُصُولِ الدِّينِ - بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهَا وَلِمَا يَتْلُوهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فَبَدَأَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَقَالَ:
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) " كَمْ " خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ الْكَثْرَةَ وَالْقَرْيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْقَرْيَةُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَلِلنَّاسِ جَمِيعًا (أَيْ مَعًا) وَيُسْتَعْمَلُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (١٢: ٨٢) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
275
الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْقَرْيَةُ هَاهُنَا الْقَوْمُ أَنْفُسُهُمْ. اهـ. أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُضَافٍ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالتَّقْدِيرِ يَرَوْنَ أَنَّهُ
لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ تَهْلَكُ كَمَا يَهْلَكُ أَهْلُهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْمُضَافَ فِي قَوْلِهِ: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) فَيَقُولُونَ: جَاءَ أَهْلَهَا بَأْسُنَا - بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْبَيَاتِ وَالْقَيْلُولَةِ، وَالْمَدِينَةُ لَا تَبِيتُ وَلَا تَقِيلُ، وَالْبَيَاتُ: الْإِغَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَالْإِيقَاعُ بِهِ فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ فَهُوَ اسْمٌ لِلتَّبْيِيتِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا يُدَبِّرُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَنْوِيهِ لَيْلًا، وَمِنْهُ تَبْيِتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ. وَقِيلَ: يَأْتِي مَصْدَرًا لِبَاتَ يَبِيتُ إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَقِيلُونَ، أَيْ يَنَامُونَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَسَطَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: يَسْتَرِيحُونَ وَإِنْ لَمْ يَنَامُوا، يُقَالُ: قَالَ يَقِيلُ قَيْلًا وَقَيْلُولَةً.
وَالْمَعْنَى: وَكَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا لِعِصْيَانِ رُسُلِهَا فِيمَا جَاءُوهَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا، فَكَانَ هَلَاكُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، بِأَنْ جَاءَ بَعْضَهُمْ بَأْسُنَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَيِّتِينَ أَوْ بَائِتِينَ لَيْلًا كَقَوْمِ لُوطٍ، وَجَاءَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ قَائِلُونَ آمِنُونَ نَهَارًا كَقَوْمِ شُعَيْبٍ. وَالْوَقْتَانِ وَقْتَا دَعَةٍ وَاسْتِرَاحَةٍ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَ صَفْوَ اللَّيَالِي وَلَا مُوَاتَاةَ الْأَيَّامِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِالرَّخَاءِ فَيُعِدَّهُ آيَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ، وَقَدْ يُعْذَرُ بِالْغَفْلَةِ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا عُذْرَ وَلَا عَذِيرَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُرُورِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَعِزَّةِ عَصَبِيَّتِهِمْ، وَبِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آيَةُ رِضَى اللهِ عَنْهُمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) وَلَيْسَ أَمْرُهُمْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّتِي عَرَفَتْ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، أَوْ سُنَنَ اللهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ تَغْتَرُّ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَلَا تَرْجِعُ عَنْ غَيِّهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا الْعَذَابُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ عَطْفَ " جَاءَهَا " عَلَى " أَهْلَكْنَا " بِالْفَاءِ يُفِيدُ أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ وَقَعَ عَقِبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا تَفْصِيلِيًّا لِنَوْعَيْنِ مِنْهُ، أَحَدُهُمَا لَيْلِيُّ وَالْآخَرُ نَهَارِيٌّ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ مِنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِهْلَاكِ إِرَادَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) (٥: ٦) إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا وَاوُ الْحَالِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَصْلُ: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِنُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِفْرَادِ، لَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا) (٤: ٤٣) حَيْثُ انْفَرَدْنَا بِبَيَانِ فَرْقٍ وَجِيهٍ بَيْنَ الْحَالَيْنِ هُنَالِكَ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى وَيَنْطَبِقُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ
لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هُنَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ تَهْلَكُ كَمَا يَهْلَكُ أَهْلُهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ الْمُضَافَ فِي قَوْلِهِ: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) فَيَقُولُونَ: جَاءَ أَهْلَهَا بَأْسُنَا - بِدَلِيلِ وَصْفِهِمْ بِالْبَيَاتِ وَالْقَيْلُولَةِ، وَالْمَدِينَةُ لَا تَبِيتُ وَلَا تَقِيلُ، وَالْبَيَاتُ: الْإِغَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا وَالْإِيقَاعُ بِهِ فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ فَهُوَ اسْمٌ لِلتَّبْيِيتِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا يُدَبِّرُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَنْوِيهِ لَيْلًا، وَمِنْهُ تَبْيِتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ. وَقِيلَ: يَأْتِي مَصْدَرًا لِبَاتَ يَبِيتُ إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ. وَالْبَأْسُ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْقَائِلُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَقِيلُونَ، أَيْ يَنَامُونَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَسَطَ النَّهَارِ، وَقِيلَ: يَسْتَرِيحُونَ وَإِنْ لَمْ يَنَامُوا، يُقَالُ: قَالَ يَقِيلُ قَيْلًا وَقَيْلُولَةً.
وَالْمَعْنَى: وَكَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهَا لِعِصْيَانِ رُسُلِهَا فِيمَا جَاءُوهَا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا، فَكَانَ هَلَاكُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، بِأَنْ جَاءَ بَعْضَهُمْ بَأْسُنَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُبَيِّتِينَ أَوْ بَائِتِينَ لَيْلًا كَقَوْمِ لُوطٍ، وَجَاءَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ قَائِلُونَ آمِنُونَ نَهَارًا كَقَوْمِ شُعَيْبٍ. وَالْوَقْتَانِ وَقْتَا دَعَةٍ وَاسْتِرَاحَةٍ، فَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَ صَفْوَ اللَّيَالِي وَلَا مُوَاتَاةَ الْأَيَّامِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِالرَّخَاءِ فَيُعِدَّهُ آيَةً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الدَّوَامِ، وَقَدْ يُعْذَرُ بِالْغَفْلَةِ قَبْلَ مَجِيءِ النَّذِيرِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا عُذْرَ وَلَا عَذِيرَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغُرُورِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَعِزَّةِ عَصَبِيَّتِهِمْ، وَبِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آيَةُ رِضَى اللهِ عَنْهُمْ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) وَلَيْسَ أَمْرُهُمْ بِأَعْجَبَ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّتِي عَرَفَتْ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، أَوْ سُنَنَ اللهِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ تَغْتَرُّ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَلَا تَرْجِعُ عَنْ غَيِّهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا الْعَذَابُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْآيَةِ مَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّ عَطْفَ " جَاءَهَا " عَلَى " أَهْلَكْنَا " بِالْفَاءِ يُفِيدُ أَنَّ مَجِيءَ الْبَأْسِ وَقَعَ عَقِبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا تَفْصِيلِيًّا لِنَوْعَيْنِ مِنْهُ، أَحَدُهُمَا لَيْلِيُّ وَالْآخَرُ نَهَارِيٌّ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ كَالزَّمَخْشَرِيِّ مِنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِهْلَاكِ إِرَادَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) (٥: ٦) إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ مَبَاحِثِ اللُّغَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا وَاوُ الْحَالِ لِاسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَاوِ الْعَطْفِ وَالْأَصْلُ: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِنُكْتَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ وَجُمْلَةِ الْحَالِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِفْرَادِ، لَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا) (٤: ٤٣) حَيْثُ انْفَرَدْنَا بِبَيَانِ فَرْقٍ وَجِيهٍ بَيْنَ الْحَالَيْنِ هُنَالِكَ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى وَيَنْطَبِقُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ
276
الْإِمَامُ عَبَدُ الْقَاهِرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ خَاصٌّ بِمَا كَانَتِ الْحَالُ فِيهِ وَصْفًا لِفَاعِلِ الْعَامِلِ فِيهَا كَآيَةِ النِّسَاءِ وَمِثْلِ قَوْلِكَ: نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ وَأَنَا صَائِمٌ، وَهِيَ هُنَا وَصْفٌ لِمَفْعُولِهِ فَتَأَمَّلْ. وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِالْإِعْرَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ هَلْ هِيَ لَامُ الْعَطْفِ أَوْ غَيْرُهَا، وَمَتَى تَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هِيَ وَالضَّمِيرُ مَعًا وَمَتَى يَجِبُ أَحَدُهُمَا، وَهِيَ مَبَاحِثُ لَفْظِيَّةٌ نَعْدُوهَا لِأَنَّهَا قَلَّمَا تُفِيدُ فِي الْمَعَانِي وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ فَائِدَةً تُذْكَرُ.
(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ، وَالِادِّعَاءُ نَفْسُهُ، وَالدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ، وَالْقَوْلُ مُطْلَقًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ: وَدَعْوَى فُلَانِ كَذَا - أَيْ قَوْلُهُ اهـ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ - وَعَلَى مَا قَبْلُهُ: (فَمَا) كَانَتْ غَايَةَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الدِّينِ وَزَعْمِهِمْ فِيهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ - أَوْ كَانُوا يَدَّعُونَهُ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِرَادَةِ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ - إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ بِبُطْلَانِهِ. وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ الْإِخْبَارُ بِنَوْعٍ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْمَادَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) (٣: ١٤٧) فَكَيْفَ إِذَا اخْتَلَفَتْ كَمَا هُنَا.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ فِي الدُّنْيَا يَنْدَمُ وَيَتَحَسَّرُ وَيَعْتَرِفُ بِظُلْمِهِ وَجُرْمِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَمَا كُلُّ مُعَاقَبٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَجْهَلُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِجَعْلِ عِقَابِهَا أَثَرًا لَازِمًا لَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا تَطَّرِدُ فِي الْأَفْرَادِ كَاطِّرَادِهَا فِي الْأُمَمِ، وَلَا تَكُونُ دَائِمًا مُتَّصِلَةً بِاقْتِرَافِ الذَّنْبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَقَعُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَشْعُرُ فَاعِلُهَا بِأَنَّهَا أَثَرٌ لَهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ السُّكَارَى مِنْهُ غَيْرَ مَا يَعْقُبُ الشُّرْبَ مِنْ
صُدَاعٍ وَغَثَيَانٍ، وَهُوَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ احْتِمَالُهُ وَتَرْجِيحُ لَذَّةِ النَّشْوَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يُوَلِّدُهُ السُّكْرُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ وَالْجِهَازِ التَّنَاسُلِيِّ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ النَّسْلِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَانْقِطَاعِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ (الْعَقْلِيَّةِ) فَهِيَ تَحْصُلُ بِبُطْءٍ، وَقَلَّمَا يَعْلَمُ غَيْرُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهَا مِنْ تَأْثِيرِ السُّكْرِ. ثُمَّ قَلَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِ تَأْثِيرِهَا هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ تَحْمِلَ السَّكُورَ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ دَاءَ الْخُمَارِ يُزْمِنُ وَحُبَّ السُّكْرِ يُضْعِفُ الْإِرَادَةَ، وَمَضَارُّ الزِّنَا الْجَسَدِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَفَاسِدُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّهِ الْجَسَدِيَّةِ، فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَفْطِنُ لَهَا. وَيَا لَيْتَ كُلَّ مَنْ عَلِمَ
(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ، وَالِادِّعَاءُ نَفْسُهُ، وَالدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ، وَالْقَوْلُ مُطْلَقًا، فَفِي الْمِصْبَاحِ: وَدَعْوَى فُلَانِ كَذَا - أَيْ قَوْلُهُ اهـ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ - وَعَلَى مَا قَبْلُهُ: (فَمَا) كَانَتْ غَايَةَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الدِّينِ وَزَعْمِهِمْ فِيهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ - أَوْ كَانُوا يَدَّعُونَهُ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَإِرَادَةِ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ - إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةِ بِبُطْلَانِهِ. وَفِي التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ الْإِخْبَارُ بِنَوْعٍ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ وَإِنِ اتَّحَدَتِ الْمَادَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) (٣: ١٤٧) فَكَيْفَ إِذَا اخْتَلَفَتْ كَمَا هُنَا.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ يَقَعُ عَلَيْهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ فِي الدُّنْيَا يَنْدَمُ وَيَتَحَسَّرُ وَيَعْتَرِفُ بِظُلْمِهِ وَجُرْمِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ، وَمَا كُلُّ مُعَاقَبٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَجْهَلُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِجَعْلِ عِقَابِهَا أَثَرًا لَازِمًا لَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا تَطَّرِدُ فِي الْأَفْرَادِ كَاطِّرَادِهَا فِي الْأُمَمِ، وَلَا تَكُونُ دَائِمًا مُتَّصِلَةً بِاقْتِرَافِ الذَّنْبِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَقَعُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَشْعُرُ فَاعِلُهَا بِأَنَّهَا أَثَرٌ لَهُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ السُّكَارَى مِنْهُ غَيْرَ مَا يَعْقُبُ الشُّرْبَ مِنْ
صُدَاعٍ وَغَثَيَانٍ، وَهُوَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ احْتِمَالُهُ وَتَرْجِيحُ لَذَّةِ النَّشْوَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يُوَلِّدُهُ السُّكْرُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ وَالْجِهَازِ التَّنَاسُلِيِّ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ النَّسْلِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَانْقِطَاعِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ (الْعَقْلِيَّةِ) فَهِيَ تَحْصُلُ بِبُطْءٍ، وَقَلَّمَا يَعْلَمُ غَيْرُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهَا مِنْ تَأْثِيرِ السُّكْرِ. ثُمَّ قَلَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِ تَأْثِيرِهَا هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَنْ تَحْمِلَ السَّكُورَ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ دَاءَ الْخُمَارِ يُزْمِنُ وَحُبَّ السُّكْرِ يُضْعِفُ الْإِرَادَةَ، وَمَضَارُّ الزِّنَا الْجَسَدِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَفَاسِدُهُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ أَخْفَى مِنْ مَضَارِّهِ الْجَسَدِيَّةِ، فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَفْطِنُ لَهَا. وَيَا لَيْتَ كُلَّ مَنْ عَلِمَ
277
بِضَرَرِ ذَنْبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ وَيَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَكْتَفِي بِالِاعْتِرَافِ بِظُلْمِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِذَنْبِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ لَا فِي دُنْيَاهُ، وَلَا فِي دِينِهِ، وَإِذَا كَانَ الرَّاسِخُ فِي الْفِسْقِ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ وَقَعَ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ وَعَلِمَ بِهِ، فَكَيْفَ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ لَمْ يُصِبْهُ مِنْهُ ضَرَرٌ أَوْ أَصَابَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي بِهِ؟ إِنَّمَا تَسْهُلُ التَّوْبَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِلَّا فَهِيَ لِأُولِي الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ تَقْهَرُ إِرَادَتُهُمْ شَهَوَاتِهِمْ فَهُمُ الْأَقَلُّونَ.
وَأَمَّا ذُنُوبُ الْأُمَمِ فَعِقَابُهَا فِي الدُّنْيَا مُطَّرِدٌ، وَلَكِنَّ لَهَا آجَالًا وَمَوَاقِيتَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَفْرَادِ بَلْ أَشَدُّ، فَإِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَاخْتِلَالُ النِّظَامِ وَنَشَأَ التَّرَفُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ تَمْرَضُ أَخْلَاقُهَا فَتَسُوءُ أَعْمَالُهَا وَتَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَيَفْسُدُ أَمْرُهَا وَتَضْعُفُ مَنْعَتُهَا، وَيَتَمَزَّقُ نَسِيجُ وَحْدَتِهَا، حَتَّى تُحْسَبَ جَمِيعًا وَهِيَ شَتَّى - فَيُغْرِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ بِهَا، فَتَسْتَوْلِي عَلَيْهَا، وَتَسْتَأْثِرُ بِخَيْرَاتِ بِلَادِهَا، وَتَجْعَلُ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتِ أَمْزِجَتِهَا وَقُوَاهَا، وَقَلَّمَا تَشْعُرُ أُمَّةٌ بِعَاقِبَةِ ذُنُوبِهَا قَبْلَ وُقُوعِ عُقُوبَتِهَا، وَلَا يَنْفَعُهَا بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَارِفُونَ: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعُمُّهَا الْجَهْلُ حَتَّى لَا تَشْعُرَ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ مِمَّا كَسَبَتْ أَيْدِيهَا، فَتَرْضَى بِاسْتِذْلَالِ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا رَضِيَتْ مِنْ قَبْلُ بِمَا كَانَ سَبَبًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
وَقَدْ تَنْقَرِضُ بِمَا يَعْقُبُهُ الْفِسْقُ وَالذُّلُّ مِنْ قِلَّةِ النَّسْلِ وَلَا سِيَّمَا فُشُوُّ الزِّنَا وَالسُّكْرِ، أَوْ تَبْقَى مِنْهَا بَقِيَّةٌ مُدْغَمَةٌ فِي الْكَثْرَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَثَرَ لَهَا تُعَدُّ بِهِ أُمَّةٌ. وَقَدْ تَتَوَالَى عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ حَتَّى تَضِيقَ بِهَا ذَرْعًا، فَتَبْحَثُ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَلَا تَجِدُهَا بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ إِلَّا فِي أَنْفُسِهَا، وَتَعْلَمُ صِدْقَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤٢: ٣٠) ثُمَّ تَبْحَثُ عَنِ الْعِلَاجِ فَتَجِدُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١١: ١٣) وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّغْيِيرُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ فَتَصْلُحُ الْأُمُورُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ عَمُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تَوَسَّلَ بِهِ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ بِتَقْدِيمِهِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِهِمْ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْبَلَاءَ إِنَّمَا يَرْتَفِعُ كَرَامَةً لِلصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُ بِهِمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُفْسِدُونَ. وَمَتَى عَلِمَتِ الْأُمَّةُ دَاءَهَا وَعِلَاجَهُ فَلَا تَعْدِمُ الْوَسَائِلَ لَهُ.
وَأَمَّا ذُنُوبُ الْأُمَمِ فَعِقَابُهَا فِي الدُّنْيَا مُطَّرِدٌ، وَلَكِنَّ لَهَا آجَالًا وَمَوَاقِيتَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَمَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَفْرَادِ بَلْ أَشَدُّ، فَإِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَاخْتِلَالُ النِّظَامِ وَنَشَأَ التَّرَفُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ تَمْرَضُ أَخْلَاقُهَا فَتَسُوءُ أَعْمَالُهَا وَتَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَيَفْسُدُ أَمْرُهَا وَتَضْعُفُ مَنْعَتُهَا، وَيَتَمَزَّقُ نَسِيجُ وَحْدَتِهَا، حَتَّى تُحْسَبَ جَمِيعًا وَهِيَ شَتَّى - فَيُغْرِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ بِهَا، فَتَسْتَوْلِي عَلَيْهَا، وَتَسْتَأْثِرُ بِخَيْرَاتِ بِلَادِهَا، وَتَجْعَلُ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتِ أَمْزِجَتِهَا وَقُوَاهَا، وَقَلَّمَا تَشْعُرُ أُمَّةٌ بِعَاقِبَةِ ذُنُوبِهَا قَبْلَ وُقُوعِ عُقُوبَتِهَا، وَلَا يَنْفَعُهَا بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ الْعَارِفُونَ: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعُمُّهَا الْجَهْلُ حَتَّى لَا تَشْعُرَ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ مِمَّا كَسَبَتْ أَيْدِيهَا، فَتَرْضَى بِاسْتِذْلَالِ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا رَضِيَتْ مِنْ قَبْلُ بِمَا كَانَ سَبَبًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ الْوَطَنِيِّ، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي الْمَقْصُورَةِ:
| مَنْ سَاسَهُ الظُّلْمُ بِسَوْطِ بَأْسِهِ | هَانَ عَلَيْهِ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ أَتَى |
| وَمَنْ يَهُنْ هَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ | وَعِرْضُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَى |
278
فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ أَيْنَ مَكَانُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْعِبْرَةِ، وَالشُّعُورِ بِعُقُوبَةِ الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى عِلَاجِ التَّوْبَةِ، وَقَدْ ثُلَّتْ عُرُوشُهَا، وَخَوَتْ صُرُوحُ عَظَمَتِهَا عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَانَتْ أَجْدَرَ الشُّعُوبِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي هَلَاكِ الْأُمَمِ وَاتِّقَائِهَا، وَأَسْبَابِ حِفْظِ الدُّوَلِ وَبَقَائِهَا، فَقَدْ أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ أَيْنَ هِيَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَرَكَ تَذْكِيرَهَا بِهِ الْعُلَمَاءُ، فَهَجَرَهُ الدَّهْمَاءُ، وَجَهِلَ أَحْكَامَهُ وَحِكَمَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، ثُمَّ نَبَتَتْ فِيهَا نَابِتَةٌ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أَقْنَعَهُمْ أَسَاتِذَتُهُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، بِأَنْ لَا سَبَبَ لِهُبُوطِهَا وَسُقُوطِهَا إِلَّا اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، فَأَضَلُّوهُمُ السَّبِيلَ، وَلَفَتُوهُمْ عَنِ الدَّلِيلِ، فَذَنْبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ، وَذَنْبُ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَهُ، هَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةٌ لِلْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ الْخَادِعِينَ، وَأُولَئِكَ مُقَلِّدَةٌ لِشُيُوخِ الْحَشْوِيَّةِ الْجَامِدِينَ، فَمَتَى تَنْتَشِرُ دَعْوَةُ الْمُصْلِحِينَ أُولِي الِاسْتِقْلَالِ، فَتُجْمَعُ الْكِمْلَةُ بِمَا أُوتِيَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالِاعْتِدَالِ، عَلَى قَوْلِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
بَيَّنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُمَا بَدْءٌ لِلْإِنْذَارِ - بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ - بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ بِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، قَفَّى بِهِ عَلَى تَخْوِيفِ قَوْمِ الرَّسُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، بِتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْآجِلِ، وَهُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عَطَفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ وَيَجِيءُ بَعْدَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَأْسِ آخِرُ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ " الْفَاءَ " هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفَصِيحَةَ، وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَلِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَنْفُسِ
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
بَيَّنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُمَا بَدْءٌ لِلْإِنْذَارِ - بَعْدَ بَيَانِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ - بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ بِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، قَفَّى بِهِ عَلَى تَخْوِيفِ قَوْمِ الرَّسُولِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، بِتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَعْقُبُهُ مِنَ الْعَذَابِ الْآجِلِ، وَهُوَ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عَطَفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ وَيَجِيءُ بَعْدَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْيَأْسِ آخِرُ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ " الْفَاءَ " هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْفَصِيحَةَ، وَقَدْ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، وَلِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ فِي الْأَنْفُسِ
279
وَلَا سِيَّمَا خَبَرُ الْمَشْهُورِ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِالْأَمِينِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي بَلَغَتْهَا دَعْوَةُ الرُّسُلِ، يَسْأَلُ تَعَالَى كُلَّ فَرْدٍ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رَسُولِهِ إِلَيْهِ وَعَنْ تَبْلِيغِهِ لِآيَاتِهِ، وَبِمَاذَا أَجَابُوهُمْ وَمَا عَمِلُوا مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَنِ التَّبْلِيغِ مِنْهُمْ وَالْإِجَابَةِ مِنْ أَقْوَامِهِمْ.
بُيِّنَ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) (٦١: ١٣٠) وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٢٨: ٦٥) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرِوُنَ) (١٣: ٢٩) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (١٦: ٥٦) وَهُوَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الدِّينِ كَجَعْلِهِمْ لِمَعْبُودَاتِهِمْ نَصِيبًا مِمَّا رُزِقُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِهَا بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ مَا يُنْذِرُهُ الْقُبُورِيُّونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَأَعَمُّ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّحْلِ أَيْضًا: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦: ٩٣) وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّأْكِيدِ وَالْعُمُومِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥: ٩٢، ٩٣) وَمِنْهُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (٧: ٣٦) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الرُّسُلِ: (يَوْمَ
يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) (٥: ١٠٩) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَنَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ، وَ " الْمُرْسَلِينَ " هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ: جِبْرِيلُ خَاصَّةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ: فَإِنَّ الرُّسُلَ يُسْأَلُونَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا الرِّسَالَةَ، فَمَا هِيَ ذَنْبٌ يَتَوَقَّعُ إِنْكَارُهُ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي السُّؤَالِ الْعَامِّ وَمَا يُسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ أَحَادِيثُ سَيَأْتِي بَعْضُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ السُّؤَالَ الْعَامَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَهِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢٨: ٧٨) وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) (٥٥: ٣٩) قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ١٢٩) إِلَى بَعْضِهَا، وَهُوَ أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَوْمِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالِاعْتِذَارِ
بُيِّنَ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) (٦١: ١٣٠) وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٢٨: ٦٥) وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرِوُنَ) (١٣: ٢٩) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (١٦: ٥٦) وَهُوَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الدِّينِ كَجَعْلِهِمْ لِمَعْبُودَاتِهِمْ نَصِيبًا مِمَّا رُزِقُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِهَا بِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إِلَى اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ مَا يُنْذِرُهُ الْقُبُورِيُّونَ لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَأَعَمُّ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّحْلِ أَيْضًا: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦: ٩٣) وَهُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّأْكِيدِ وَالْعُمُومِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥: ٩٢، ٩٣) وَمِنْهُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (٧: ٣٦) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُؤَالِ الرُّسُلِ: (يَوْمَ
يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) (٥: ١٠٩) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: نَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ، وَنَسْأَلُ الْمُرْسَلِينَ عَمَّا بَلَّغُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ " الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ " هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ، وَ " الْمُرْسَلِينَ " هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ، وَفِي رِوَايَةٍ: جِبْرِيلُ خَاصَّةً، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ: فَإِنَّ الرُّسُلَ يُسْأَلُونَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَقْوَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الرُّسُلِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا الرِّسَالَةَ، فَمَا هِيَ ذَنْبٌ يَتَوَقَّعُ إِنْكَارُهُ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي السُّؤَالِ الْعَامِّ وَمَا يُسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ أَحَادِيثُ سَيَأْتِي بَعْضُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ تُثْبِتُ السُّؤَالَ الْعَامَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَهِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢٨: ٧٨) وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) (٥٥: ٣٩) قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ١٢٩) إِلَى بَعْضِهَا، وَهُوَ أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْيَوْمِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالِاعْتِذَارِ
280
يَكُونُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عَنِ الذَّنْبِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ يُفَسِّرُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُ وَيَمْتَازَ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ قَالَ بَعْدَهَا: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) (٥٥: ٤١) وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ لَا يُسْأَلُونَ وَبِمَ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَازُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ حَمْلِ آيَةِ الْقَصَصِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ هَلْ أَذْنَبْتَ أَوْ هَلْ فَعَلْتَ كَذَا مِنَ الذُّنُوبِ؟ أَيْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْهُ بِذُنُوبِهِ وَقَدْ أَحْصَاهَا عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَهُوَ يَجِدُ مَا عَمِلَ حَاضِرًا فِي كِتَابِهِ مُتَمَثِّلًا فِي نَفْسِهِ، مَعْرُوضًا لَهَا فِيمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ - وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ لِمَ عَمِلَ كَذَا - أَيْ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ تَفْسِيرِهِ هُنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مُوسَى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (٢٨: ١١) وَبِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (١٢: ٣) وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْمُتَتَبَّعَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ قَصَصًا، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَصًا بِعِلْمٍ مِنَّا، يُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ وَمَا كَتَبَهُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ عَنْهُمْ (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُنَّا مَعَهُمْ نَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَنُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ، وَنُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ، كَمَا قَالَ: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (٤: ١٠٨) فَالسُّؤَالُ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، لَا لِأَجْلِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِعْلَامِ، وَهَذَا الْقَصَصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحِسَابُ وَيَتْلُوهُ الْجَزَاءُ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِهِ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا الْآيَاتُ فَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ " وَوَرَدَ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَأَعِدُّوا لِلْمَسَائِلِ جَوَابًا " قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: " أَعْمَالُ الْبِرِّ " وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِنَّ اللهَ سَائِلُ كُلِّ ذِي رَعِيَّةٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَقَامَ أَمْرَ اللهِ
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) قَالَ: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَصْلُ الْقَصِّ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مُوسَى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (٢٨: ١١) وَبِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (١٢: ٣) وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْمُتَتَبَّعَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ فَلَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ قَصَصًا، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَى الرُّسُلِ وَعَلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَصَصًا بِعِلْمٍ مِنَّا، يُحِيطُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، أَوْ عَالِمِينَ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ وَمَا كَتَبَهُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ عَنْهُمْ (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عَنْهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُنَّا مَعَهُمْ نَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ وَنُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ، وَنُحِيطُ عِلْمًا بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ، كَمَا قَالَ: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (٤: ١٠٨) فَالسُّؤَالُ لِأَجْلِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، لَا لِأَجْلِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِعْلَامِ، وَهَذَا الْقَصَصُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْحِسَابُ وَيَتْلُوهُ الْجَزَاءُ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِهِ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا الْآيَاتُ فَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْإِمَامُ يُسْأَلُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ، وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ " وَوَرَدَ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَأَعِدُّوا لِلْمَسَائِلِ جَوَابًا " قَالُوا: وَمَا جَوَابُهَا؟ قَالَ: " أَعْمَالُ الْبِرِّ " وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِنَّ اللهَ سَائِلُ كُلِّ ذِي رَعِيَّةٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَقَامَ أَمْرَ اللهِ
281
فِيهِمْ أَمْ ضَيَّعَهُ. حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ " وَمَا رَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ عَنِ الْمِقْدَامِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَكُونُ رَجُلٌ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا جَاءَ يَقْدُمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَايَةٌ يَحْمِلُهَا وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ وَيُسْأَلُونَ عَنْهُ " وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْظَرُ فِي صِلَاتِهِ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ " وَمَا رَوَاهُ هُوَ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ حَاسَبَهُ اللهُ حِسَابًا يَسِيرًا وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ - قَالُوا: وَمَا هِيَ قَالَ - تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ - وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ " وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَحُسَيْنٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُذْكَرُ كَثِيرًا فِي بَعْضِ خُطَبِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْبَزَّارَ وَالطَّبَرَانِيَّ رَوَيَاهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ " إِلَخْ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِي " عَلَّمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ - وَآخِرُهُ عِنْدَهُ
مَرْفُوعًا " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ - وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ: " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ " وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَحُسَيْنٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُذْكَرُ كَثِيرًا فِي بَعْضِ خُطَبِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ السَّفَارِينِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْبَزَّارَ وَالطَّبَرَانِيَّ رَوَيَاهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ " لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ " إِلَخْ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا " الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمَانِي " عَلَّمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ - وَآخِرُهُ عِنْدَهُ
282
وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ " - هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمَعْنَى " دَانَ نَفْسَهُ " حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يُخَفَّفُ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا اهـ.
وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ تَنْضَبِطُ وَتُقَدَّرُ
بِالْوَزْنِ وَإِقَامَةِ الْمِيزَانِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ.
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَزْنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ. يُقَالُ وَزِنْتُهُ وَزْنًا وَزِنَةً. وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْوَزْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَا يُقَدَّرُ بِالْقِسْطِ وَالْقَبَّانِ اهـ. وَتَفْسِيرُهُ الْوَزْنُ بِالْمَعْرِفَةِ تَسَاهُلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ يُرَادُ بِهِ تَعَرُّفُ مِقْدَارِ الشَّيْءِ بِالْآلَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْمِيزَانَ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَبِالْقِسْطَاسِ وَهُوَ مِنَ الْقِسْطِ وَمَعْنَاهُ النَّصِيبُ الْعَادِلُ أَوْ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَدْلِ مَجَازًا، وَكَذَا الْمِيزَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ) (٤: ١٧) وَقَوْلُهُ فِي الرُّسُلِ كَافَّةً: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٥٧: ٢٥) وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتَقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ. إِذَا انْتَصَفَ. وَلَيْسَ لِفُلَانِ وَزْنٌ - أَيْ قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (١٨: ١٠٥) قَالَ الرَّاغِبُ وَقَوْلُهُ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (٧: ٨) فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّاسِ كَمَا قَالَ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (٢١: ٤٧) أَيْ وَلِذَلِكَ. قَالَ عَقِبَهُ (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (٢١: ٤٧) وَالتَّجَوُّزُ بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ.
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الرُّسُلَ وَالْأُمَمَ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَحِقُّ بِهِ الْأُمُورُ وَتُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ كُلِّ أَحَدٍ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْإِعْرَابِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْوَزْنَ الْحَقَّ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ، لَا أَنَّ الْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ حَقٌّ، فَالْحَقُّ صِفَةٌ لِلْوَزْنِ وَيَوْمَئِذٍ هُوَ الْخَبَرُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى وَالْوَزْنُ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قِيلَ: إِنِ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مِيزَانٍ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ لِكُلِّ امْرِئٍ مِيزَانٌ وَقِيلَ: لِكُلِّ عَمَلٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يُجْمَعُ بِاعْتِبَارِ الْمُحَاسَبِينَ وَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَافَرَ فُلَانٌ عَلَى الْبِغَالِ وَإِنْ رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مَوْزُونٍ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ رَجَحَتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ فِي دَارِ الثَّوَابِ (وَمَنْ خَفَّتْ مُوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
وَلَمَّا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ تَنْضَبِطُ وَتُقَدَّرُ
بِالْوَزْنِ وَإِقَامَةِ الْمِيزَانِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ.
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَزْنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشَّيْءِ. يُقَالُ وَزِنْتُهُ وَزْنًا وَزِنَةً. وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْوَزْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَا يُقَدَّرُ بِالْقِسْطِ وَالْقَبَّانِ اهـ. وَتَفْسِيرُهُ الْوَزْنُ بِالْمَعْرِفَةِ تَسَاهُلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ يُرَادُ بِهِ تَعَرُّفُ مِقْدَارِ الشَّيْءِ بِالْآلَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْمِيزَانَ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَبِالْقِسْطَاسِ وَهُوَ مِنَ الْقِسْطِ وَمَعْنَاهُ النَّصِيبُ الْعَادِلُ أَوْ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَدْلِ مَجَازًا، وَكَذَا الْمِيزَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ) (٤: ١٧) وَقَوْلُهُ فِي الرُّسُلِ كَافَّةً: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٥٧: ٢٥) وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتَقَامَ مِيزَانُ النَّهَارِ. إِذَا انْتَصَفَ. وَلَيْسَ لِفُلَانِ وَزْنٌ - أَيْ قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (١٨: ١٠٥) قَالَ الرَّاغِبُ وَقَوْلُهُ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (٧: ٨) فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّاسِ كَمَا قَالَ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (٢١: ٤٧) أَيْ وَلِذَلِكَ. قَالَ عَقِبَهُ (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (٢١: ٤٧) وَالتَّجَوُّزُ بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ.
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَالْوَزْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الرُّسُلَ وَالْأُمَمَ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَحِقُّ بِهِ الْأُمُورُ وَتُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ كُلِّ أَحَدٍ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْإِعْرَابِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْوَزْنَ الْحَقَّ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ، لَا أَنَّ الْوَزْنَ يَوْمَئِذٍ حَقٌّ، فَالْحَقُّ صِفَةٌ لِلْوَزْنِ وَيَوْمَئِذٍ هُوَ الْخَبَرُ عَنْهُ أَوِ الْمَعْنَى وَالْوَزْنُ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قِيلَ: إِنِ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مِيزَانٍ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ لِكُلِّ امْرِئٍ مِيزَانٌ وَقِيلَ: لِكُلِّ عَمَلٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يُجْمَعُ بِاعْتِبَارِ الْمُحَاسَبِينَ وَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَافَرَ فُلَانٌ عَلَى الْبِغَالِ وَإِنْ رَكِبَ بَغْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مَوْزُونٍ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ رَجَحَتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ فِي دَارِ الثَّوَابِ (وَمَنْ خَفَّتْ مُوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)
283
أَيْ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِ بِالْكُفْرِ وَكَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، إِذْ حُرِمُوا السَّعَادَةَ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لَهَا لَوْ لَمْ يُفْسِدُوا فِطْرَتَهَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَظْلِمُونَهَا بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ
إِلَى نِهَايَةِ أَعْمَارِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ، وَعُدِّيَ الظُّلْمُ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْكُفْرِ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آيَةِ ١٠٣) وَفِي غَيْرِهَا.
وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّهُ لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَلَاحِ، وَالْكَافِرِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْخُسْرَانِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا فَهُوَ مُفْلِحٌ وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى بَعْضِ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِهَا، فَهَذَا الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فَرِيقُ الْجَنَّةِ وَفَرِيقُ السَّعِيرِ، وَهُنَالِكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَتْبَعُ الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الْوَزْنَ التَّفْصِيلِيَّ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَزْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزَنًا) وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَحْثِ الْوَزْنِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ قِيمَةٌ وَلَا قَدْرٌ، وَهُوَ لَا يَنْفِي وَزْنَ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورَ خِفَّتِهَا وَخُسْرَانِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (٢٣: ١٠٢ - ١٠٥) وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَتَيِ الْمَوَازِينِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ إِذْ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ فَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقِرُّونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا. وَهُوَ سَهْوٌ سَبَبُهُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَ عَلِقَ بِذِهْنِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَمَا مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَلَهُ حَسَنَاتٌ وَلَكِنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُهَا فَتَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا وَهِيَ تُحْصَى مَعَ السَّيِّئَاتِ وَتُضْبَطُ بِالْوَزْنِ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ مِقْدَارُ الْجَزَاءِ وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنَ التَّخْفِيفِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ بِمَا كَانَ مِنْ حِمَايَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبِّهِ لَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْخُصُوصِيَّةُ فِي نَوْعِ التَّخْفِيفِ وَمِقْدَارِهِ، إِذْ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُجَمَعِ عَلَيْهِ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُتَفَاوِتٌ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ أَبِي جَهْلٍ كَعَذَابِ أَبِي طَالِبٍ لَوْلَا الْخُصُوصِيَّةُ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (٤: ٤٠) وَمِنَ الْمَشَاهِدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَيَعْبُدُهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ كَمَا
قَالَ فِي
إِلَى نِهَايَةِ أَعْمَارِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ، وَعُدِّيَ الظُّلْمُ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْكُفْرِ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (آيَةِ ١٠٣) وَفِي غَيْرِهَا.
وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّهُ لِفَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْفَلَاحِ، وَالْكَافِرِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْخُسْرَانِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا فَهُوَ مُفْلِحٌ وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى بَعْضِ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِهَا، فَهَذَا الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ فَرِيقُ الْجَنَّةِ وَفَرِيقُ السَّعِيرِ، وَهُنَالِكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَتْبَعُ الْوَزْنُ الْإِجْمَالِيُّ الْوَزْنَ التَّفْصِيلِيَّ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَزْنَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزَنًا) وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَحْثِ الْوَزْنِ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ قِيمَةٌ وَلَا قَدْرٌ، وَهُوَ لَا يَنْفِي وَزْنَ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورَ خِفَّتِهَا وَخُسْرَانِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (٢٣: ١٠٢ - ١٠٥) وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ آيَتَيِ الْمَوَازِينِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ إِذْ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ فَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقِرُّونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا. وَهُوَ سَهْوٌ سَبَبُهُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَ عَلِقَ بِذِهْنِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَمَا مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَلَهُ حَسَنَاتٌ وَلَكِنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُهَا فَتَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا وَهِيَ تُحْصَى مَعَ السَّيِّئَاتِ وَتُضْبَطُ بِالْوَزْنِ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ مِقْدَارُ الْجَزَاءِ وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنَ التَّخْفِيفِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ بِمَا كَانَ مِنْ حِمَايَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبِّهِ لَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْخُصُوصِيَّةُ فِي نَوْعِ التَّخْفِيفِ وَمِقْدَارِهِ، إِذْ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُجَمَعِ عَلَيْهِ أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُتَفَاوِتٌ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ أَبِي جَهْلٍ كَعَذَابِ أَبِي طَالِبٍ لَوْلَا الْخُصُوصِيَّةُ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (٤: ٤٠) وَمِنَ الْمَشَاهِدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَيَعْبُدُهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْحُبِّ وَالْعِبَادَةِ كَمَا
قَالَ فِي
284
أَنْدَادِهِمْ: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ٢: ١٦٥) - وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ حُبِّهِمْ لِلَّهِ - وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَصِلُونَ الْأَرْحَامَ وَيَفْعَلُونَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْفَوَاحِشِ خَوْفًا مِنَ اللهِ. فَهَلْ يُسَوِّي الْحَكَمُ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُرْتَكِبِي الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْجِنَايَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا سِيَّمَا الْجَاحِدِينَ الْمُعَطِّلِينَ وَمُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنْهُمْ؟ حَاشَ لِلَّهِ. نَعَمْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ وَزْنَهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَلَّا يَكُونَ لَهَا مَعَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ دَخْلٌ فِي رُجْحَانِ مَوَازِينِهِمْ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْوَزْنِ وَالْمَوَازِينِ، هَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ التَّامِّ فِي تَقْدِيرِ مَا بِهِ يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ وَتَزْكِيَّتِهَا، وَفِي إِفْسَادِهَا وَتَدْسِيَّتِهَا، أَمْ هُنَاكَ وَزْنٌ حَقِيقِيٌّ، حِكْمَتُهُ إِظْهَارُ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَعَدْلِهِ فِي جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مُجَاهِدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ - وَكَذَا الْأَعْمَشُ وَالضَّحَّاكُ حَكَاهُ الرَّازِيُّ عَنْهُمَا - وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ: الْعَدْلُ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ حَسَنَاتُهُ. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ سَيِّئَاتُهُ اهـ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي فِيمَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، بَلْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ - كَمَا نَقَلَ الْحَافِظُ عَنْهُ - أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمِيزَانِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ وَيَمِيلُ بِالْأَعْمَالِ. وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ وَقَالُوا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ الْمُوَازِينَ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ لِيَرَى الْعِبَادُ أَعْمَالَهُمْ مُمَثَّلَةً لِيَكُونُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا إِذْ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. قَالَ: وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا. انْتَهَى.
نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ آخَرِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ (بَابُ قَوْلِ اللهِ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (٢١: ٤٧) وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ) وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ فَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ، كَمَا يَجُوزُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ كَذَلِكَ يَجُوزُ الْحَطُّ وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَوَازِينُ الْعَدْلُ. وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ وَلَهُ كِفَّتَانِ لَوْ وُضِعَ فِي إِحْدَاهُمَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ
وَمَنْ فِيهِنَّ لَوَسِعَتْهُ - وَمِنْ طَرِيقِ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْوَزْنِ وَالْمَوَازِينِ، هَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ التَّامِّ فِي تَقْدِيرِ مَا بِهِ يَكُونُ الْجَزَاءُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ وَتَزْكِيَّتِهَا، وَفِي إِفْسَادِهَا وَتَدْسِيَّتِهَا، أَمْ هُنَاكَ وَزْنٌ حَقِيقِيٌّ، حِكْمَتُهُ إِظْهَارُ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ وَعَدْلِهِ فِي جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ مُجَاهِدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ - وَكَذَا الْأَعْمَشُ وَالضَّحَّاكُ حَكَاهُ الرَّازِيُّ عَنْهُمَا - وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) قَالَ: الْعَدْلُ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ حَسَنَاتُهُ. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) قَالَ سَيِّئَاتُهُ اهـ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي فِيمَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى الثَّانِي، بَلْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ - كَمَا نَقَلَ الْحَافِظُ عَنْهُ - أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمِيزَانِ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ وَيَمِيلُ بِالْأَعْمَالِ. وَأَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ وَقَالُوا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَدْلِ فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ الْمُوَازِينَ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ لِيَرَى الْعِبَادُ أَعْمَالَهُمْ مُمَثَّلَةً لِيَكُونُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: أَنْكَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْمِيزَانَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَاضَ يَسْتَحِيلُ وَزْنُهَا إِذْ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا. قَالَ: وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا فَيَزِنُهَا. انْتَهَى.
نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ آخَرِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ (بَابُ قَوْلِ اللهِ: (وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (٢١: ٤٧) وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ) وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ فَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ، كَمَا يَجُوزُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ كَذَلِكَ يَجُوزُ الْحَطُّ وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَوَازِينُ الْعَدْلُ. وَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ وَلَهُ كِفَّتَانِ لَوْ وُضِعَ فِي إِحْدَاهُمَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ
وَمَنْ فِيهِنَّ لَوَسِعَتْهُ - وَمِنْ طَرِيقِ
285
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: ذُكِرَ الْمِيزَانُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: قِيلَ إِنَّمَا تُوزَنُ الصُّحُفُ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَإِنَّهَا أَعْرَاضٌ فَلَا تُوصَفُ بِثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ. وَالْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ حِينَئِذٍ تُجَسَّدُ أَوْ تُجْعَلُ فِي أَجْسَامٍ فَتَصِيرُ أَعْمَالُ الطَّائِعِينَ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ الْمُسِيئِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ تُوزَنُ، وَرَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي يُوزَنُ الصَّحَائِفُ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ قَالَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالصُّحُفُ أَجْسَامٌ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ صَحَّحَهُ وَفِيهِ " فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةِ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ " انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ " وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَفَعَهُ " تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ النَّارَ - قِيلَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ " أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ فِي فَوَائِدِهِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حُذَيْفَةَ مَوْقُوفًا أَنَّ صَاحِبَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اهـ. مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَقْصَى السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مَا وَرَدَ فِي الْمِيزَانِ أَوِ الْوَزْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّقِيمَةِ أَوْ جُلِّهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا إِلَّا مَا خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ " كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُعْتَمِدَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ فِي صِفَةِ الْمِيزَانِ وَلَا فِي أَنَّ لَهُ كِفَّتَيْنِ وَلِسَانًا فَلَا نَغْتَرُّ بِقَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يَتَسَاهَلُونَ بِإِطْلَاقِ كَلِمَةِ الْإِجْمَاعِ وَلَا سِيَّمَا غَيْرُ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَالزَّجَّاجُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي عَزْوِ كُلِّ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْخَلَفُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كَمَا عَلِمْتُ،
فَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَزْنَ بِمِيزَانٍ، هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَمْ لِكُلِّ شَخْصٍ أَوْ لِكُلِّ عَمَلٍ مِيزَانٌ؟ وَفِي الْمَوْزُونِ بِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ الْأَشْخَاصُ لَا الْأَعْمَالُ، وَفِي صِفَةِ الْمَوْزُونِ وَالْوَزْنِ، وَفِيمَنْ يُوزَنُ لَهُمْ، أَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَمْ لَهُمْ وَلِلْكُفَّارِ؟ وَفِي صِفَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَقُولُ: وَقَدِ اسْتَقْصَى السُّيُوطِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مَا وَرَدَ فِي الْمِيزَانِ أَوِ الْوَزْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالسَّقِيمَةِ أَوْ جُلِّهِ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا إِلَّا مَا خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ " كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُعْتَمِدَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ فِي صِفَةِ الْمِيزَانِ وَلَا فِي أَنَّ لَهُ كِفَّتَيْنِ وَلِسَانًا فَلَا نَغْتَرُّ بِقَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يَتَسَاهَلُونَ بِإِطْلَاقِ كَلِمَةِ الْإِجْمَاعِ وَلَا سِيَّمَا غَيْرُ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَالزَّجَّاجُ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي عَزْوِ كُلِّ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْخَلَفُ مِنْهُمْ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كَمَا عَلِمْتُ،
فَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَزْنَ بِمِيزَانٍ، هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَمْ لِكُلِّ شَخْصٍ أَوْ لِكُلِّ عَمَلٍ مِيزَانٌ؟ وَفِي الْمَوْزُونِ بِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ الْأَشْخَاصُ لَا الْأَعْمَالُ، وَفِي صِفَةِ الْمَوْزُونِ وَالْوَزْنِ، وَفِيمَنْ يُوزَنُ لَهُمْ، أَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً أَمْ لَهُمْ وَلِلْكُفَّارِ؟ وَفِي صِفَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
286
وَلِهَذَا الْخِلَافِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ: (أَحَدُهَا) اخْتِلَافُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَنِ السَّلَفِ وَأَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ وَلَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَضْلًا عَنِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ.
(ثَانِيهَا) الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِهَا.
(ثَالِثُهَا) الرَّأْيُ وَالتَّخَيُّلُ وَالْقِيَاسُ مَعَ الْفَارِقِ فَإِنَّ الْخَلَفَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ خَاضُوا فِيمَا خَاضَ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ أَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَإِنْكَارِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بِحُجَّةِ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تُوزَنُ وَأَنَّ عِلْمَ اللهِ بِهَا يُغْنِي عَنْ وَزْنِهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ رَدًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَتَطْبِيقِ أَخْبَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمَأْلُوفِ فِي الدُّنْيَا فَزَعَمُوا أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّدُ وَتُوزَنُ أَوْ تُوضَعُ فِي صُوَرٍ مُجَسَّمَةٍ أَوْ أَنَّ الصَّحَائِفَ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَصَحَائِفَ الدُّنْيَا إِمَّا رِقٌّ (جِلْدٌ) وَإِمَّا وَرَقٌّ.
وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَخْبَارِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُحَكِّمُ رَأْيَنَا فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنُؤْمِنُ إِذًا بِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ وَزْنًا لِلْأَعْمَالِ قَطْعًا، وَنُرَجِّحُ أَنَّهُ بِمِيزَانٍ يَلِيقُ بِذَلِكَ الْعَالَمِ يُوزَنُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، لَا نَبْحَثُ عَنْ صُورَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عَنْ كِفَّتَيْهِ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِمَا كَمَا صَوَّرَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي مِيزَانِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جُلُّ الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَإِذَا كَانَ الْبَشَرُ قَدِ اخْتَرَعُوا مَوَازِينَ لِلْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَفَيَعْجَزُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَنْ وَضْعِ مِيزَانٍ لِلْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ؟ ! وَالنَّقْلُ وَالْعَقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الثَّابِتَةِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ: قَالَ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ١٣٩) وَقَالَ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (وَنَفْسٍ وَمَا سِوَاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مِنْ
دَسَّاهَا) (٩١: ٧ - ١٠) وَفِي سُورَةِ الْأَعْلَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (٨٧: ١٤، ١٥) وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ آخِرُهَا تَفْسِيرُ خَاتِمَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ حِكْمَةَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْحِسَابِ أَنَّهُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِعَدْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، إِذْ يَرَى فِيهِ عِبَادُهُ أَفْرَادًا
(ثَانِيهَا) الِاخْتِلَافُ فِي فَهْمِهَا.
(ثَالِثُهَا) الرَّأْيُ وَالتَّخَيُّلُ وَالْقِيَاسُ مَعَ الْفَارِقِ فَإِنَّ الْخَلَفَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ خَاضُوا فِيمَا خَاضَ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ أَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَإِنْكَارِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بِحُجَّةِ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تُوزَنُ وَأَنَّ عِلْمَ اللهِ بِهَا يُغْنِي عَنْ وَزْنِهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ رَدًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي قِيَاسِ عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَتَطْبِيقِ أَخْبَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمَأْلُوفِ فِي الدُّنْيَا فَزَعَمُوا أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّدُ وَتُوزَنُ أَوْ تُوضَعُ فِي صُوَرٍ مُجَسَّمَةٍ أَوْ أَنَّ الصَّحَائِفَ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا الْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَصَحَائِفَ الدُّنْيَا إِمَّا رِقٌّ (جِلْدٌ) وَإِمَّا وَرَقٌّ.
وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَخْبَارِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُحَكِّمُ رَأْيَنَا فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنُؤْمِنُ إِذًا بِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ وَزْنًا لِلْأَعْمَالِ قَطْعًا، وَنُرَجِّحُ أَنَّهُ بِمِيزَانٍ يَلِيقُ بِذَلِكَ الْعَالَمِ يُوزَنُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، لَا نَبْحَثُ عَنْ صُورَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عَنْ كِفَّتَيْهِ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِمَا كَمَا صَوَّرَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي مِيزَانِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جُلُّ الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَإِذَا كَانَ الْبَشَرُ قَدِ اخْتَرَعُوا مَوَازِينَ لِلْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَفَيَعْجَزُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَنْ وَضْعِ مِيزَانٍ لِلْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ؟ ! وَالنَّقْلُ وَالْعَقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الثَّابِتَةِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ: قَالَ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ١٣٩) وَقَالَ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: (وَنَفْسٍ وَمَا سِوَاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مِنْ
دَسَّاهَا) (٩١: ٧ - ١٠) وَفِي سُورَةِ الْأَعْلَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (٨٧: ١٤، ١٥) وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ آخِرُهَا تَفْسِيرُ خَاتِمَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ حِكْمَةَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْحِسَابِ أَنَّهُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِعَدْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، إِذْ يَرَى فِيهِ عِبَادُهُ أَفْرَادًا
287
وَشُعُوبًا وَأُمَمًا ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةَ إِدْرَاكٍ وَوِجْدَانٍ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ فِي خَارِجِهَا ثَانِيًا، فِيَا لَهُ مِنْ مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، وَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ رَهِيبٍ، وَمَا أَشَدَّ غَفْلَةَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعِلْمِ اللهِ عَنْهُ.
وَلَوْلَا تَحْكِيمُ النَّاسِ الرَّأْيَ وَالْخَيَالَ فِيمَا لَا مَجَالَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِكُلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكُنَّا فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ، بِالِاخْتِصَارِ فِي بَيَانِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، دُونَ الشَّاذَّةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ " حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ " الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " بَابِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ " إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. (قَالَ) فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ غَيْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ الَّذِي بَالَغَ الْجُوزَجَانِيُّ فَوَصَفَهُ بِالْكَذِبِ لَكَفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالُوا: إِنَّ لَهُ مَنَاكِيرَ. وَطَرِيقُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ. وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمِيزَانِ ذَا كِفَّتَيْنِ وَلِسَانٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ
لِإِمْكَانِ جَعْلِ الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَجَعْلِ الْكِفَّةِ تَرْشِيحًا لَهَا فَإِنَّ بَابَ الْمَجَازِ فِي رُجْحَانِ الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاسِعٌ جِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَنْهَضُ بِسَنَدِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ حُجَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا رَاجِحَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ الْحَافِظَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ تَرْجِيحَ وَزْنِ الصُّحُفِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَةً لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ - قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَزْنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ عَدَّهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي الصِّحَّةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْعُلَمَاءُ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةً مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَرْجَحُ
وَلَوْلَا تَحْكِيمُ النَّاسِ الرَّأْيَ وَالْخَيَالَ فِيمَا لَا مَجَالَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِكُلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكُنَّا فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ، بِالِاخْتِصَارِ فِي بَيَانِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، دُونَ الشَّاذَّةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ " حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ " الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " بَابِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ " إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. (قَالَ) فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ غَيْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ الَّذِي بَالَغَ الْجُوزَجَانِيُّ فَوَصَفَهُ بِالْكَذِبِ لَكَفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالُوا: إِنَّ لَهُ مَنَاكِيرَ. وَطَرِيقُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ. وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمِيزَانِ ذَا كِفَّتَيْنِ وَلِسَانٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ
لِإِمْكَانِ جَعْلِ الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَجَعْلِ الْكِفَّةِ تَرْشِيحًا لَهَا فَإِنَّ بَابَ الْمَجَازِ فِي رُجْحَانِ الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاسِعٌ جِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَنْهَضُ بِسَنَدِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ حُجَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا رَاجِحَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ الْحَافِظَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ تَرْجِيحَ وَزْنِ الصُّحُفِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَةً لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ - قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَزْنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ عَدَّهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي الصِّحَّةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْعُلَمَاءُ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةً مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَرْجَحُ
288
عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِبَاحَتِهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَإِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ لَعَلَّ أَقْوَاهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ وَجْهَ تَخْلِيصِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَآمَنُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي نَجَاةِ مِثْلِهِ.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)
تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ وَاضِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى رَبُّ الْعِبَادِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَأَنَّهُ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ نَوْعَيِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ مَنْ يَتَّبِعُونَ أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءَ أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مَوْضُوعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ التَّنْزِيلِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ - إِلَّا مَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ - هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يُوَصِّلُهَا إِلَى كَمَالِهَا، وَالنَّاهِي لَهَا عَنْ كُلِّ مَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْكَمَالِ وَكَانَ افْتِتَانُ النَّاسِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِفْسَادِ الْفِطْرَةِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ سَبَبًا
لِإِصْلَاحِهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهِ الْمُوجِبِ لِلْمَزِيدِ مِنْهُ - لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَّرَ سُبْحَانَهُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَخَلْقِ أَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ فِيهَا، وَهُوَ بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَيَانُ خَلْقِ نَوْعِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ مُسْتَعِدًّا لِلْكَمَالِ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تَصُدُّهُ عَنْهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَفْرَادِهِ مِنِ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ شَيَاطِينِهَا الْمُلْقِينَ لَهَا أَوْلِيَاءَ يَتْبَعُونَهُمْ دُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِ النِّعَمِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَيَتْلُوهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الزِّينَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا.
فَهَذَا السِّيَاقُ الِاسْتِطْرَادِيُّ أَوِ الْمُشْبِهُ لِلِاسْتِطْرَادِ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)
تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ وَاضِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى رَبُّ الْعِبَادِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَأَنَّهُ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ نَوْعَيِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ مَنْ يَتَّبِعُونَ أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءَ أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مَوْضُوعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ التَّنْزِيلِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ - إِلَّا مَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ - هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يُوَصِّلُهَا إِلَى كَمَالِهَا، وَالنَّاهِي لَهَا عَنْ كُلِّ مَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْكَمَالِ وَكَانَ افْتِتَانُ النَّاسِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِفْسَادِ الْفِطْرَةِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ سَبَبًا
لِإِصْلَاحِهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهِ الْمُوجِبِ لِلْمَزِيدِ مِنْهُ - لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَّرَ سُبْحَانَهُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَخَلْقِ أَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ فِيهَا، وَهُوَ بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَيَانُ خَلْقِ نَوْعِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ مُسْتَعِدًّا لِلْكَمَالِ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تَصُدُّهُ عَنْهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَفْرَادِهِ مِنِ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ شَيَاطِينِهَا الْمُلْقِينَ لَهَا أَوْلِيَاءَ يَتْبَعُونَهُمْ دُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِ النِّعَمِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَيَتْلُوهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الزِّينَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا.
فَهَذَا السِّيَاقُ الِاسْتِطْرَادِيُّ أَوِ الْمُشْبِهُ لِلِاسْتِطْرَادِ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ
289
وَالثَّلَاثِينَ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِلْأُمَمِ وَجَزَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَاتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَعَصَاهُمْ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبَلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ - فَتَأَمَّلْ دِقَّةَ بَلَاغَةِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا أَوْطَانًا تَتَبَوَّءُونَهَا وَتَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّاحَةِ فِي الْإِقَامَةِ فِيهَا، وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) جَمْعُ مَعِيشَةٍ وَهِيَ مَا تَكُونُ بِهِ الْعِيشَةُ وَالْحَيَاةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَغَيْرِهَا. أَيْ وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ فِيهَا ضُرُوبًا شَتَّى مِمَّا تَعِيشُونَ بِهِ عِيشَةً رَاضِيَةً وَالنُّكْتَةُ فِي تَقْدِيمِ " لَكُمْ فِيهَا " عَلَى " مَعَايِشَ " مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَعَايِشِ كَوْنُهَا نِعَمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّاسِ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لَهَا، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَا كَوْنُهَا مَجْعُولَةً وَمَخْلُوقَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْهُ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْمَعَايِشِ لَهُمْ أَهَمَّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي مَكَّنَهُمْ فِيهَا - فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْمَعَايِشُ وَكَوْنُهَا فِي الْوَطَنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ الْمَرْءُ وَكَوْنُ الْمَرْءِ مَالِكًا لَهَا وَمُتَصَرِّفًا فِيهَا، وَلَا مَشَاحَةَ فِي أَنَّ الْأَهَمَّ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَعِيشُ بِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
فِي وَطَنِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْوَاعُهُ وَأَنَّ تَكُونَ كَثِيرَةً وَهُوَ مَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ وَلَا تَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي تَقْدِيمِ مَا يَنْبَغِي وَتَأْخِيرِ مَا يَنْبَغِي مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَايِشُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى وَأَنْعَامٍ وَطَيْرٍ وَسَمَكٍ وَمِيَاهٍ صَافِيَةٍ وَأَشْرِبَةِ مُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكَانَتْ بِذَلِكَ - تَقْتَضِي شُكْرًا كَثِيرًا - وَكَانَ الشَّكُورُ مِنَ الْعِبَادِ قَلِيلًا (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) قَالَ تَعَالَى عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِهَا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أَيْ شُكْرًا قَلِيلًا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ لَا كَثِيرًا يُنَاسِبُ كَثْرَتَهَا وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ يَكُونُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا - وَثَانِيًا بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا - وَثَالِثًا بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. وَهُوَ هُنَا حِفْظُ حَيَاتِنَا الْبَدَنِيَّةِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالِاسْتِعَانَةُ بِذَلِكَ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِنَا الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَأْهِيلِهَا لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِأُصُولِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ٢٩...) الخ.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا أَوْطَانًا تَتَبَوَّءُونَهَا وَتَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّاحَةِ فِي الْإِقَامَةِ فِيهَا، وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) جَمْعُ مَعِيشَةٍ وَهِيَ مَا تَكُونُ بِهِ الْعِيشَةُ وَالْحَيَاةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَغَيْرِهَا. أَيْ وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ فِيهَا ضُرُوبًا شَتَّى مِمَّا تَعِيشُونَ بِهِ عِيشَةً رَاضِيَةً وَالنُّكْتَةُ فِي تَقْدِيمِ " لَكُمْ فِيهَا " عَلَى " مَعَايِشَ " مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَعَايِشِ كَوْنُهَا نِعَمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّاسِ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لَهَا، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَا كَوْنُهَا مَجْعُولَةً وَمَخْلُوقَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْهُ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْمَعَايِشِ لَهُمْ أَهَمَّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي مَكَّنَهُمْ فِيهَا - فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْمَعَايِشُ وَكَوْنُهَا فِي الْوَطَنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ الْمَرْءُ وَكَوْنُ الْمَرْءِ مَالِكًا لَهَا وَمُتَصَرِّفًا فِيهَا، وَلَا مَشَاحَةَ فِي أَنَّ الْأَهَمَّ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَعِيشُ بِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
فِي وَطَنِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْوَاعُهُ وَأَنَّ تَكُونَ كَثِيرَةً وَهُوَ مَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ وَلَا تَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي تَقْدِيمِ مَا يَنْبَغِي وَتَأْخِيرِ مَا يَنْبَغِي مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَايِشُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى وَأَنْعَامٍ وَطَيْرٍ وَسَمَكٍ وَمِيَاهٍ صَافِيَةٍ وَأَشْرِبَةِ مُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَكَانَتْ بِذَلِكَ - تَقْتَضِي شُكْرًا كَثِيرًا - وَكَانَ الشَّكُورُ مِنَ الْعِبَادِ قَلِيلًا (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) قَالَ تَعَالَى عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِهَا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أَيْ شُكْرًا قَلِيلًا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ لَا كَثِيرًا يُنَاسِبُ كَثْرَتَهَا وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ يَكُونُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا - وَثَانِيًا بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا - وَثَالِثًا بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. وَهُوَ هُنَا حِفْظُ حَيَاتِنَا الْبَدَنِيَّةِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالِاسْتِعَانَةُ بِذَلِكَ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِنَا الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَأْهِيلِهَا لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِأُصُولِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ٢٩...) الخ.
290
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (مَعَائِشَ) بِالْهَمْزِ، وَغَلَّطَهُ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ لَا يُهْمَزُ بَعْدَ أَلْفِ الْجَمْعِ إِلَّا الْيَاءُ الزَّائِدَةُ فِي الْمُفْرَدِ كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَيَاءُ مَعِيشَةٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْجَمْعِ كَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا خَطَأً مِنْهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ رَوَاهَا وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفْتَجِرَهَا افْتِجَارًا وَفِي الْمِصْبَاحِ قَوْلُ أَنَّهَا مِنْ مَعَشَ لَا مَنْ عَاشَ فَالْيَاءُ زَائِدَةٌ وَجَمْعُهَا مَعَائِشُ قَالَ: وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ وَالْأَعْرَجُ أَيْ فِي الشَّوَاذِّ وَأَلْحَقَهَا الْمُفَسِّرُونَ وَبَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بِمَا سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَمْثَالِهَا كَمَصَائِبَ وَمَعَائِبَ، وَقَالُوا إِنَّهُ مِنْ تَشْبِيهِ مَفَاعِلَ بِفَعَائِلَ. وَنَقُولُ إِنَّ الْعَرَبَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَضَعَهُ غَيْرُهُمْ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ، وَالْقُرْآنُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ كَلَامٍ فَأَوْلَى أَلَّا يُنْكَرَ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ لُغَةً عِنْدَ مَنْ رَوَاهَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا قُرْآنًا إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ أَصْلِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَاسْتِعْدَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْكَمَالِ بِإِغْوَاءِ
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)
هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِ أَصْلِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَاسْتِعْدَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْكَمَالِ بِإِغْوَاءِ
291
عَدُوِّ الْبَشَرِ الشَّيْطَانِ، وَيَلِيهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُتَّقَى بِهِ ذَلِكَ الْإِغْوَاءُ وَالْفَسَادُ، قَالَ تَعَالَى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى خَلَقْنَا جِنْسَكُمْ أَيْ مَادَّتَهُ مِنَ الصَّلْصَالِ وَالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالطِّينُ اللَّازِبُ الْمُتَغَيِّرُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَا مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ صُورَةَ بَشَرٍ سَوِيٍّ قَابِلٍ لِلْحَيَاةِ، أَوْ قَدَّرْنَا إِيجَادَكُمْ تَقْدِيرًا، ثُمَّ صَوَّرْنَا مَادَّتَكُمْ تَصْوِيرًا، وَمَعْنَى الْخَلْقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الشَّيْءِ الْمُقَدَّرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: خَلَقَ الْخَرَّازُ الْأَدِيمَ (أَيِ الْجِلْدَ) وَالْخَيَّاطُ الثَّوْبَ - قَدَّرَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَأَخْلَقَ لِي هَذَا الثَّوْبَ (قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ أَوْجَدَهُ عَلَى تَقْدِيرٍ أَوْجَبَتْهُ الْحِكْمَةُ اهـ. وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ اللُّغَوِيَّ
صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً. وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ وَهُوَ يُصَدِّقُ بِخَلْقِ آدَمَ وَبِخَلْقِ مَجْمُوعِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ يُقَدِّرُ اللهُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ الْمَادَّةَ الَّتِي يَخْلُقُهُ مِنْهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: (إِحْدَاهَا) وَرُوَاتُهَا كَثِيرُونَ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ فِيهِمَا: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. (وَالثَّانِيَةُ) خُلِقُوا فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صُوِّرُوا فِي الْأَرْحَامِ. أَخْرَجَهَا الْفِرْيَابِيُّ. (وَالثَّالِثَةُ) قَالَ: أَمَّا " خَلَقْنَاكُمْ " فَآدَمُ، وَأَمَّا " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " فَذُرِّيَّتُهُ. أَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهَا قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ صَوَّرَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ صَوَّرَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَالْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْهِنْدُوسِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ قَالَ:
(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أَيْ قُلْنَا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَوَّيْنَاهُ وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، مَا جَعَلْنَاهُ بِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَعَلَّمْنَاهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَهُوَ مِنَ الْجِنِّ لَا مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوِ الْجِنَّةُ (بِالْكَسْرِ) جِنْسًا لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلشَّيَاطِينِ الَّذِينَ هُمْ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَأَشْقِيَاؤُهُمْ. وَهَذَا السُّجُودُ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ لِآدَمَ لَا سُجُودَ عِبَادَةً، إِذْ نَصُّ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيُّ قَدْ تَكَرَّرَ بِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَا صَرَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قُوَى الْأَرْضِ الَّتِي تُدَبِّرُهَا الْمَلَائِكَةُ بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ الْقَصَصِيِّ، وَالْأَمْرُ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ تَكْوِينِيٌّ قَدَرِيٌّ، لَا تَكْلِيفِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى خَلَقْنَا جِنْسَكُمْ أَيْ مَادَّتَهُ مِنَ الصَّلْصَالِ وَالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْمَاءُ وَالطِّينُ اللَّازِبُ الْمُتَغَيِّرُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَا مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ صُورَةَ بَشَرٍ سَوِيٍّ قَابِلٍ لِلْحَيَاةِ، أَوْ قَدَّرْنَا إِيجَادَكُمْ تَقْدِيرًا، ثُمَّ صَوَّرْنَا مَادَّتَكُمْ تَصْوِيرًا، وَمَعْنَى الْخَلْقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الشَّيْءِ الْمُقَدَّرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْمَادَّةِ مِنْ أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: خَلَقَ الْخَرَّازُ الْأَدِيمَ (أَيِ الْجِلْدَ) وَالْخَيَّاطُ الثَّوْبَ - قَدَّرَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَأَخْلَقَ لِي هَذَا الثَّوْبَ (قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ أَوْجَدَهُ عَلَى تَقْدِيرٍ أَوْجَبَتْهُ الْحِكْمَةُ اهـ. وَلَكِنَّ هَذَا الْمَجَازَ اللُّغَوِيَّ
صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً. وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ وَهُوَ يُصَدِّقُ بِخَلْقِ آدَمَ وَبِخَلْقِ مَجْمُوعِ النَّاسِ، فَإِنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ يُقَدِّرُ اللهُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ الْمَادَّةَ الَّتِي يَخْلُقُهُ مِنْهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: (إِحْدَاهَا) وَرُوَاتُهَا كَثِيرُونَ وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ قَالَ فِيهِمَا: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. (وَالثَّانِيَةُ) خُلِقُوا فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صُوِّرُوا فِي الْأَرْحَامِ. أَخْرَجَهَا الْفِرْيَابِيُّ. (وَالثَّالِثَةُ) قَالَ: أَمَّا " خَلَقْنَاكُمْ " فَآدَمُ، وَأَمَّا " ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ " فَذُرِّيَّتُهُ. أَخْرَجَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهَا قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ ثُمَّ صَوَّرَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يَعْنِي فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ صَوَّرَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَالْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْهِنْدُوسِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ قَالَ:
(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أَيْ قُلْنَا ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَوَّيْنَاهُ وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، مَا جَعَلْنَاهُ بِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَعَلَّمْنَاهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وَهُوَ مِنَ الْجِنِّ لَا مِنْهُمْ. وَإِنْ كَانَتِ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوِ الْجِنَّةُ (بِالْكَسْرِ) جِنْسًا لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلشَّيَاطِينِ الَّذِينَ هُمْ مَرَدَةُ الْجِنِّ وَأَشْقِيَاؤُهُمْ. وَهَذَا السُّجُودُ تَكْرِيمٌ مِنَ اللهِ لِآدَمَ لَا سُجُودَ عِبَادَةً، إِذْ نَصُّ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيُّ قَدْ تَكَرَّرَ بِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَمَا صَرَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قُوَى الْأَرْضِ الَّتِي تُدَبِّرُهَا الْمَلَائِكَةُ بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ الْقَصَصِيِّ، وَالْأَمْرُ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ تَكْوِينِيٌّ قَدَرِيٌّ، لَا تَكْلِيفِيٌّ شَرْعِيٌّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ
292
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (٤١: ١١) وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ وَفِي نِهَايَتِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ كَرَامَةٌ كَرَّمَ اللهُ بِهَا آدَمَ. وَقَالَ: كَانَتِ السَّجْدَةُ لِآدَمَ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ. وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَزَادَ أَنَّ إِبْلِيسَ حَسَدَ آدَمَ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَكْرِيمٌ امْتَحَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ طَاعَةَ ذَلِكَ الْعَالَمِ الْغَيْبِيِّ لَهُ فَظَهَرَتْ عِصْمَةُ
الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَفَسَقَ إِبْلِيسُ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (١٧: ٦٢) حَسَدَهُ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْفُسُوقِ عَنْ أَمْرِ اللهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْبَقَرَةِ وَالْكَهْفِ وَغَيْرِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ السُّؤَالِ التَّالِي.
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَسْجُدَ لِآدَمَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرْتُكَ فِيهِ بِالسُّجُودِ؟ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أَيْ مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّنِي أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينَ، وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَأَشْرَفُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْأَشْرَفِ أَنْ يُكَرِّمَ مَنْ دُونِهِ وَيُعَظِّمَهُ، أَيْ وَإِنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَبُّهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ ضُرُوبًا مِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ، مَا أَوْقَعَ اللَّعِينَ فِيهَا إِلَّا حَسَدُهُ وَكِبْرُهُ فَإِنَّهُمَا يُعْمِيَانِ الْبَصَائِرَ.
(الْأَوَّلُ) الِاعْتِرَاضُ عَلَى رَبِّهِ وَخَالِقِهِ كَمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُهُ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَهَذَا كُفْرٌ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ أَوْ حِكْمَةٌ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ بَحَثَ عَنْهَا بِالتَّفَكُّرِ وَالْبَحْثِ وَسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ، وَصَبَرَ إِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، مُكْتَفِيًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ حَقَائِقِ خَلْقِهِ، وَحِكَمِ شَرْعِهِ، وَفَوَائِدِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
(الثَّانِي) الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ اعْتِرَاضَهُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُذْعِنُ لَا يَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ.
(الثَّالِثُ) جَعْلُ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَشْرُوطًا بِاسْتِحْسَانِ الْعَبْدِ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ رَفْضٌ لِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَتَرَفُّعٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَبْدِ، وَتَعَالٍ مِنْهُ إِلَى وَضْعِ نَفْسِهِ مَوْضِعَ النِّدِّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الدِّينِ كُفْرٌ، وَفِي الْعَقْلِ حَمَاقَةٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الرَّئِيسَ لِأَيَّةِ حُكُومَةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ جَمْعِيَّةٍ أَوْ شَرِكَةٍ إِذَا كَانَ لَا يُطِيعُهُ الْمَرْءُوسُونَ لَهُ إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَآرَاءَهُمْ، لَا يَلْبَثُ أَمْرُهُمْ أَنْ يَفْسُدَ بِأَنْ تَخْتَلَّ الْحُكُومَةُ وَتَسْقُطَ، وَيَنْكَسِرَ الْجَيْشُ وَيَهْلَكَ، وَتَنْحَلَّ الشَّرِكَةُ وَتُفْلِسَ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ يَقُومُ بِإِدَارَتِهَا كَثْرَةٌ، يَرْجِعُ نِظَامُهَا إِلَى جِهَةٍ
الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَفَسَقَ إِبْلِيسُ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (١٧: ٦٢) حَسَدَهُ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ فَحَمَلَهُ الْحَسَدُ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ وَالْفُسُوقِ عَنْ أَمْرِ اللهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْبَقَرَةِ وَالْكَهْفِ وَغَيْرِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ السُّؤَالِ التَّالِي.
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَسْجُدَ لِآدَمَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرْتُكَ فِيهِ بِالسُّجُودِ؟ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أَيْ مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّنِي أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينَ، وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَأَشْرَفُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْأَشْرَفِ أَنْ يُكَرِّمَ مَنْ دُونِهِ وَيُعَظِّمَهُ، أَيْ وَإِنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَبُّهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ ضُرُوبًا مِنَ الْجَهْلِ الْفَاضِحِ، مَا أَوْقَعَ اللَّعِينَ فِيهَا إِلَّا حَسَدُهُ وَكِبْرُهُ فَإِنَّهُمَا يُعْمِيَانِ الْبَصَائِرَ.
(الْأَوَّلُ) الِاعْتِرَاضُ عَلَى رَبِّهِ وَخَالِقِهِ كَمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُهُ، وَمِثْلُهُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى كَلَامِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَهَذَا كُفْرٌ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ أَوْ حِكْمَةٌ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ بَحَثَ عَنْهَا بِالتَّفَكُّرِ وَالْبَحْثِ وَسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ، وَصَبَرَ إِلَى أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَى مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، مُكْتَفِيًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ حَقَائِقِ خَلْقِهِ، وَحِكَمِ شَرْعِهِ، وَفَوَائِدِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
(الثَّانِي) الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَيِّدُ بِهِ اعْتِرَاضَهُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُذْعِنُ لَا يَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ.
(الثَّالِثُ) جَعْلُ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّبِّ تَعَالَى مَشْرُوطًا بِاسْتِحْسَانِ الْعَبْدِ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ رَفْضٌ لِطَاعَةِ الرَّبِّ، وَتَرَفُّعٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَبْدِ، وَتَعَالٍ مِنْهُ إِلَى وَضْعِ نَفْسِهِ مَوْضِعَ النِّدِّ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الدِّينِ كُفْرٌ، وَفِي الْعَقْلِ حَمَاقَةٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الرَّئِيسَ لِأَيَّةِ حُكُومَةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ جَمْعِيَّةٍ أَوْ شَرِكَةٍ إِذَا كَانَ لَا يُطِيعُهُ الْمَرْءُوسُونَ لَهُ إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَآرَاءَهُمْ، لَا يَلْبَثُ أَمْرُهُمْ أَنْ يَفْسُدَ بِأَنْ تَخْتَلَّ الْحُكُومَةُ وَتَسْقُطَ، وَيَنْكَسِرَ الْجَيْشُ وَيَهْلَكَ، وَتَنْحَلَّ الشَّرِكَةُ وَتُفْلِسَ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ يَقُومُ بِإِدَارَتِهَا كَثْرَةٌ، يَرْجِعُ نِظَامُهَا إِلَى جِهَةٍ
293
وَاحِدَةٍ، كَبَوَارِجِ الْحَرْبِ وَسُفُنِ التِّجَارَةِ وَمَعَامِلِ الصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الصَّلَاحُ وَالنِّظَامُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَتَوَقَّفُ
عَلَى طَاعَةِ الرَّئِيسِ وَهُوَ لَيْسَ رَبًّا تَجِبُ طَاعَتُهُ لِذَاتِهِ وَلَا لِنِعَمِهِ، وَلَا مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عَبِيدِهِ؟ ! وَيُشَارِكُ إِبْلِيسَ فِي هَذَا الْجَهْلِ وَمَا قَبْلَهُ كَثِيرُونَ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُؤْمِنِينَ: يَتْرُكُونَ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ مَثَلًا بِأَنَّ لَا فَائِدَةَ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صِيَامِهِمْ! ! عَلَى أَنَّ حِكَمَ الصِّيَامِ كَثِيرَةٌ جَلِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهَا مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ (ص١١٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ). وَفِي الْمَنَارِ.
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ إِبْلِيسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ اسْجُدْ لِآدَمَ فَقَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ". إِلَخْ. قَالَ جَعْفَرٌ فَمَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلِيسَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ.
(الرَّابِعُ) الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ بِالْمَادَّةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا التَّكْوِينُ. وَهَذَا جَهْلٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَوَادِّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْأَهْوَاءُ. وَأُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ التَّرْكِيبِ عَنَاصِرٌ بَسِيطَةٌ قَلِيلَةٌ يُرَجَّحُ أَنَّهَا مُتَحَوِّلَةٌ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَنِّ الْكِيمْيَاءِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ أَصْلُهَا خَسِيسٌ، فَالْمِسْكُ مِنَ الدَّمِ، وَجَوْهَرُ الْأَلْمَاسِ مِنَ الْكَرْبُونِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْفَحْمِ، وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُعَافَ مِنْ مَادَّةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُشْتَهَى وَيُحَبُّ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ اللهَبُ الْمُخْتَلِطُ بِالدُّخَّانِ فَمَا فَوْقَهُ دُخَّانٌ وَمَا تَحْتَهُ لَهَبٌ صَافٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْمَرْجِ مَعْنَاهَا الْخَلْطُ وَالِاضْطِرَابُ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ الصَّافِيَةُ خَيْرٌ مِنَ اللهَبِ الْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ. وَقَدْ سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى، بَلْ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.
(الْخَامِسُ) إِذَا سَلَّمْنَا جَدَلًا أَنَّ خَيْرِيَّةَ الشَّيْءِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهِ وَصَفَاتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَفْصِلُهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ نَوْعِهِ وَمُشَخِّصَاتِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جِنْسِهِ - فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الطِّينِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا فِيهَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعُقُولُ، وَلَيْسَ لِلنَّارِ أَوْ لِمَارِجِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْمَزَايَا وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا.
عَلَى طَاعَةِ الرَّئِيسِ وَهُوَ لَيْسَ رَبًّا تَجِبُ طَاعَتُهُ لِذَاتِهِ وَلَا لِنِعَمِهِ، وَلَا مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عَبِيدِهِ؟ ! وَيُشَارِكُ إِبْلِيسَ فِي هَذَا الْجَهْلِ وَمَا قَبْلَهُ كَثِيرُونَ مِمَّنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُؤْمِنِينَ: يَتْرُكُونَ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ مَثَلًا بِأَنَّ لَا فَائِدَةَ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، أَوْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ صِيَامِهِمْ! ! عَلَى أَنَّ حِكَمَ الصِّيَامِ كَثِيرَةٌ جَلِيَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهَا مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ (ص١١٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ). وَفِي الْمَنَارِ.
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ إِبْلِيسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ اسْجُدْ لِآدَمَ فَقَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ". إِلَخْ. قَالَ جَعْفَرٌ فَمَنْ قَاسَ أَمْرَ الدِّينِ بِرَأْيِهِ قَرَنَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلِيسَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ. أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ.
(الرَّابِعُ) الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ بِالْمَادَّةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا التَّكْوِينُ. وَهَذَا جَهْلٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْمَوَادِّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْأَهْوَاءُ. وَأُصُولُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ التَّرْكِيبِ عَنَاصِرٌ بَسِيطَةٌ قَلِيلَةٌ يُرَجَّحُ أَنَّهَا مُتَحَوِّلَةٌ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَنِّ الْكِيمْيَاءِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ أَصْلُهَا خَسِيسٌ، فَالْمِسْكُ مِنَ الدَّمِ، وَجَوْهَرُ الْأَلْمَاسِ مِنَ الْكَرْبُونِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْفَحْمِ، وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُعَافَ مِنْ مَادَّةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُشْتَهَى وَيُحَبُّ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَهُوَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ اللهَبُ الْمُخْتَلِطُ بِالدُّخَّانِ فَمَا فَوْقَهُ دُخَّانٌ وَمَا تَحْتَهُ لَهَبٌ صَافٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْمَرْجِ مَعْنَاهَا الْخَلْطُ وَالِاضْطِرَابُ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ الصَّافِيَةُ خَيْرٌ مِنَ اللهَبِ الْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ. وَقَدْ سَجَدَ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى، بَلْ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.
(الْخَامِسُ) إِذَا سَلَّمْنَا جَدَلًا أَنَّ خَيْرِيَّةَ الشَّيْءِ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهِ وَصَفَاتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَفْصِلُهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ نَوْعِهِ وَمُشَخِّصَاتِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ جِنْسِهِ - فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةٌ مِنَ الطِّينِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَاسِطَةِ، وَهِيَ خَيْرُ مَا فِيهَا بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعُقُولُ، وَلَيْسَ لِلنَّارِ أَوْ لِمَارِجِهَا مِثْلَ هَذِهِ الْمَزَايَا وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا.
294
(السَّادِسُ) أَنَّ اللَّعِينَ غَفَلَ عَمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ آدَمَ مِنْ خَلْقِهِ بِيَدِهِ، وَالنَّفْخِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعْلِ اسْتِعْدَادِهِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ تَشْرِيفِهِ بِأَمْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَجَعْلِهِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا أَفْضَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ إِبْلِيسٍ بِعُنْصُرِ الْخِلْقَةِ وَبِالطَّاعَةِ.
فَهَذِهِ أُصُولُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ الَّتِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِيهَا حَسَدُهُ لِآدَمَ وَاسْتِكْبَارُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ وَنُظَرَاءَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ مُرْتَكِسُونَ فِيهَا كُلِّهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ عَدُوُّ اللهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، فَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، وَاسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللهِ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ فَأَهْلَكَهُ اللهُ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِلتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ حِوَارٌ فِيهِ بَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْوِينِ (كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ) وَأَنَّ الْقِصَّةَ بَيَانٌ لِغَرَائِزِ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةَ الْأَرْضِ الْمُدَبَّرَةَ بِأَمْرِ اللهِ وَإِذْنِهِ لِأُمُورِهَا بِالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نِظَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (٧٩: ٥) مُسَخَّرَةً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِذْ خَلَقَ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مُسْتَعِدًّا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا كُلِّهَا بِعِلْمِهِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِعَمَلِهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ كَخَوَاصِّ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ وَالنُّورِ وَالْأَرْضِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا، وَإِظْهَارِهِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِيهَا، وَمُسْتَعِدًّا لِاصْطِفَاءِ اللهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَإِقَامَةِ مَنِ اهْتَدَى بِهِمْ لِدِينِهِ وَمِيزَانِ شَرْعِهِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (٢: ٣١) إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّيْطَانَ عَاتِيًا مُتَمَرِّدًا عَلَى الْإِنْسَانِ بَلْ عَدُوًّا لَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ بِرُوحِهِ وَسَطٌ بَيْنِ رَوْحِ الْمَلَائِكَةِ الْمَفْطُورِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبَيْنَ رُوحِ الْجِنِّ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى شِرَارِهِمْ - وَهُمُ الشَّيَاطِينُ - التَّمَرُّدُ وَالْعِصْيَانُ، وَقَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا مِنْ رَبِّهِ فِي تَرْجِيحِ مَا بِهِ يَصْعَدُ إِلَى أُفُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا بِهِ يَهْبِطُ إِلَى أُفُقِ الشَّيَاطِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ زِيَادَةُ " لَا " فِي جُمْلَةِ " مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ " إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ " ص ": (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٣٨: ٧٥) وَقَدْ عُهِدَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ أَنْ تَجِيءَ " لَا " فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِ الصَّرِيحِ لِتَقْوِيَتِهِ وَتَوْكِيدِهِ، وَكَذَا فِي
غَيْرِ النَّفْيِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَحَاوُرِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٢٠: ٩٢، ٩٣) وَعَدُّوا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٦: ١٠٩)،
فَهَذِهِ أُصُولُ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ الَّتِي أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِيهَا حَسَدُهُ لِآدَمَ وَاسْتِكْبَارُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ بِالسُّجُودِ لَهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ وَنُظَرَاءَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ مُرْتَكِسُونَ فِيهَا كُلِّهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ عَدُوُّ اللهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، فَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، وَاسْتَكْبَرَ عَدُوُّ اللهِ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ فَأَهْلَكَهُ اللهُ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِلتَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ حِوَارٌ فِيهِ بَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْوِينِ (كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ) وَأَنَّ الْقِصَّةَ بَيَانٌ لِغَرَائِزِ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَلَائِكَةَ الْأَرْضِ الْمُدَبَّرَةَ بِأَمْرِ اللهِ وَإِذْنِهِ لِأُمُورِهَا بِالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نِظَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (٧٩: ٥) مُسَخَّرَةً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، إِذْ خَلَقَ اللهُ هَذَا النَّوْعَ مُسْتَعِدًّا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا كُلِّهَا بِعِلْمِهِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَبِعَمَلِهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ كَخَوَاصِّ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْكَهْرَبَاءِ وَالنُّورِ وَالْأَرْضِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا، وَإِظْهَارِهِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِيهَا، وَمُسْتَعِدًّا لِاصْطِفَاءِ اللهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَإِقَامَةِ مَنِ اهْتَدَى بِهِمْ لِدِينِهِ وَمِيزَانِ شَرْعِهِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (٢: ٣١) إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّيْطَانَ عَاتِيًا مُتَمَرِّدًا عَلَى الْإِنْسَانِ بَلْ عَدُوًّا لَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ بِرُوحِهِ وَسَطٌ بَيْنِ رَوْحِ الْمَلَائِكَةِ الْمَفْطُورِينَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، وَبَيْنَ رُوحِ الْجِنِّ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَى شِرَارِهِمْ - وَهُمُ الشَّيَاطِينُ - التَّمَرُّدُ وَالْعِصْيَانُ، وَقَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ إِرَادَةً وَاخْتِيَارًا مِنْ رَبِّهِ فِي تَرْجِيحِ مَا بِهِ يَصْعَدُ إِلَى أُفُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا بِهِ يَهْبِطُ إِلَى أُفُقِ الشَّيَاطِينِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي هَذَا السِّيَاقِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ زِيَادَةُ " لَا " فِي جُمْلَةِ " مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ " إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ " ص ": (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٣٨: ٧٥) وَقَدْ عُهِدَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ أَنْ تَجِيءَ " لَا " فِي سِيَاقِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ وَغَيْرِ الصَّرِيحِ لِتَقْوِيَتِهِ وَتَوْكِيدِهِ، وَكَذَا فِي
غَيْرِ النَّفْيِ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَحَاوُرِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ طَهَ: (قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٢٠: ٩٢، ٩٣) وَعَدُّوا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٦: ١٠٩)،
295
وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (٦: ١٥١) وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنَى النَّفْيِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى جَعْلِ " لَا " غَيْرَ زَائِدَةٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ. وَتَقَدَّمَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَأَشَرْنَا آنِفًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَنَعَ هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَالتَّضْمِينُ كَثِيرٌ مِنَ التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ النَّحْوِيُّونَ قِيَاسًا، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ كَثِيرًا بِالتَّعْدِيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) (٤: ٢) إِذْ ضَمِنَ الْأَكْلُ مَعْنَى الضَّمِّ فَعُدِّيَ بِ " إِلَى "، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَعْبِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ: (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (١٥: ٣٢) وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ مَعَهُمْ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ تَضْمِينَ الْمَنْعِ هُنَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالِاضْطِرَارِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا أَلْزَمَكَ أَوِ اضْطَرَّكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْفَصْلَ فِي حِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ جَمِيعًا بِـ " قَالَ " وَارِدٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعُ السُّؤَالَ يَتَشَوَّقُ لِمَعْرِفَةِ الْجَوَابِ. وَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ فَيُجَابُ.
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ وَالسُّقُوطُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَا دُونِهِ، أَوْ مِنْ مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ إِلَى مَا دُونِهَا. فَهُوَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الذَّنَبِ قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا آدَمَ وَكَانَتْ عَلَى نَشْزٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَابِسَةُ قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالظُّهُورِ فِي خِضَمِّ الْمَاءِ، فَخَيْرُ مَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِسُكْنَى الْإِنْسَانِ يَفَاعُهَا وَأَنْشَازُهَا، أَوِ الَّتِي أَسْكَنَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ جَنَّةُ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ لَهُ وَلِآدَمَ وَزَوْجِهِ بَعْدَ ذِكْرِ سُكْنَى الْجَنَّةِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَطه. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُلْحَقًا بِمَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْأَخْيَارِ قَبْلَ أَنْ يَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ مِنْ جِنْسِ الْجِنَّةِ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَيَكُونُ نَوْعَيْنِ مَلَائِكَةً وَشَيَاطِينَ، كَمَا قِيلَ فِي جَنَّةِ آدَمَ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حَيَاةِ النَّعِيمِ الْأُولَى لِلنَّوْعِ الَّتِي تُشْبِهُ نَعِيمَ الطُّفُولِيَّةِ لِأَفْرَادِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أَيْ فَمَا يَنْبَغِي لَكَ وَلَيْسَ مِمَّا تُعْطَاهُ مِنَ التَّصَرُّفِ أَنَّ
تَتَكَبَّرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلْكَرَامَةِ، أَوْ فِي هَذِهِ الْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ مَنْزِلَةُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مَكَانَةُ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ. وَالْكِبْرُ اسْمٌ لِلتَّكَبُّرِ وَهُوَ مَصْدَرُ تَكَبَّرَ أَيْ تَكَلَّفَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَكْبَرَ مِمَّنْ هِيَ فِي ذَاتِهَا أَصْغَرُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَفْسِيرُ الْكِبْرِ بِأَنَّهُ " بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ بِمَظْهَرِهِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ أَلَّا يُذْعِنَ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ بَلْ يَدْفَعُهُ أَوْ يُنْكِرُهُ تَجَبُّرًا وَتَرَفُّعًا، وَأَنْ يَحْتَقِرَ غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى
وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى جَعْلِ " لَا " غَيْرَ زَائِدَةٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ. وَتَقَدَّمَ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَأَشَرْنَا آنِفًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ مَنَعَ هُنَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَالتَّضْمِينُ كَثِيرٌ مِنَ التَّنْزِيلِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ النَّحْوِيُّونَ قِيَاسًا، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ كَثِيرًا بِالتَّعْدِيَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) (٤: ٢) إِذْ ضَمِنَ الْأَكْلُ مَعْنَى الضَّمِّ فَعُدِّيَ بِ " إِلَى "، وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَعْبِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ: (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (١٥: ٣٢) وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لَكَ فَحَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ مَعَهُمْ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ تَضْمِينَ الْمَنْعِ هُنَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالِاضْطِرَارِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا أَلْزَمَكَ أَوِ اضْطَرَّكَ إِلَى أَلَّا تَسْجُدَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْفَصْلَ فِي حِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ جَمِيعًا بِـ " قَالَ " وَارِدٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ فَإِنَّ مَنْ يَسْمَعُ السُّؤَالَ يَتَشَوَّقُ لِمَعْرِفَةِ الْجَوَابِ. وَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ فَيُجَابُ.
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ وَالسُّقُوطُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَا دُونِهِ، أَوْ مِنْ مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ إِلَى مَا دُونِهَا. فَهُوَ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الذَّنَبِ قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا آدَمَ وَكَانَتْ عَلَى نَشْزٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتِ الْيَابِسَةُ قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالظُّهُورِ فِي خِضَمِّ الْمَاءِ، فَخَيْرُ مَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِسُكْنَى الْإِنْسَانِ يَفَاعُهَا وَأَنْشَازُهَا، أَوِ الَّتِي أَسْكَنَهُ إِيَّاهَا بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ جَنَّةُ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ لَهُ وَلِآدَمَ وَزَوْجِهِ بَعْدَ ذِكْرِ سُكْنَى الْجَنَّةِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَطه. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مُلْحَقًا بِمَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْأَخْيَارِ قَبْلَ أَنْ يَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ مِنْ جِنْسِ الْجِنَّةِ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَيَكُونُ نَوْعَيْنِ مَلَائِكَةً وَشَيَاطِينَ، كَمَا قِيلَ فِي جَنَّةِ آدَمَ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حَيَاةِ النَّعِيمِ الْأُولَى لِلنَّوْعِ الَّتِي تُشْبِهُ نَعِيمَ الطُّفُولِيَّةِ لِأَفْرَادِهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أَيْ فَمَا يَنْبَغِي لَكَ وَلَيْسَ مِمَّا تُعْطَاهُ مِنَ التَّصَرُّفِ أَنَّ
تَتَكَبَّرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلْكَرَامَةِ، أَوْ فِي هَذِهِ الْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ مَنْزِلَةُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهَا مَكَانَةُ الِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ. وَالْكِبْرُ اسْمٌ لِلتَّكَبُّرِ وَهُوَ مَصْدَرُ تَكَبَّرَ أَيْ تَكَلَّفَ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَكْبَرَ مِمَّنْ هِيَ فِي ذَاتِهَا أَصْغَرُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَفْسِيرُ الْكِبْرِ بِأَنَّهُ " بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ بِمَظْهَرِهِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ أَلَّا يُذْعِنَ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ بَلْ يَدْفَعُهُ أَوْ يُنْكِرُهُ تَجَبُّرًا وَتَرَفُّعًا، وَأَنْ يَحْتَقِرَ غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى
296
عَدَمِ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِمَزِيَّتِهِ وَفَضْلِهِ، أَوْ بِتَنْقِيصِ تِلْكَ الْمَزِيَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّ مَا دُونَهَا هُوَ فَوْقَهَا سَوَاءٌ ادَّعَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَرَفَعَهَا عَلَى غَيْرِهَا بِالْبَاطِلِ، أَوِ ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ بِأَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ بِقَصْدِ احْتِقَارِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَتَنْقِيصِ قَدْرِهِ. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ. أَيْ فَاخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ أَوِ الْمَكَانَةِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ: (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيْ أُولِي الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، أَظْهَرَ حَقِيقَتَكَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، بِإِظْهَارِهِ لِمَا كَانَ كَامِنًا فِي نَفْسِكَ مِنْ عِصْيَانِ الِاسْتِكْبَارِ. (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٣: ١٧٩) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى جَازَاهُ بِضِدِّ مُرَادِهِ، إِذْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ مَنْزِلَتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، فَجُوزِيَ بِهُبُوطِهَا مِنْهَا إِلَى مَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْمُتَكَبِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُورَةٍ حَقِيرَةٍ يَطَؤُهُمْ فِيهَا النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يُبْغِضُهُمْ إِلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَحْتَقِرُونَهُمْ وَلَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ - وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَلْيَقُ بِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلتَّكْلِيفِ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ جَزْمِهِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِلتَّكْوِينِ وَاقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ قَالَ:
" يَقُولُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ بِأَمْرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ: فَاهْبِطْ مِنْهَا بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مِنَ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الذَّلِيلِينَ الْحَقِيرِينَ. مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَمُكَافَأَةً لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ، وَسَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ".
(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ قَالَ بِلِسَانٍ قَالَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَوْ لِسَانِ حَالِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ عَلَى الْآخَرِ: رَبِّ أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ آدَمُ
وَذُرِّيَّتُهُ فَأَكُونَ أَنَا وَذُرِّيَّتِي أَحْيَاءً مَا دَامُوا أَحْيَاءً وَأَشْهَدُ انْقِرَاضَهُمْ وَبَعْثَهُمْ (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ مُخْبِرًا، أَوْ قَالَ مُرِيدًا وَمُنْشِئًا كَمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اهـ. فَهُوَ يُؤَكِّدُ بِهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْحِوَارِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ، لَا مُرَاجَعَةَ أَقْوَالٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ جُعِلَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ السُّؤَالِ إِيجَازًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَكَانَ جَوَابُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١٥: ٣٦ - ٣٨) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ
" يَقُولُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ بِأَمْرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ: فَاهْبِطْ مِنْهَا بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مِنَ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الذَّلِيلِينَ الْحَقِيرِينَ. مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَمُكَافَأَةً لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ، وَسَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ".
(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ قَالَ بِلِسَانٍ قَالَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَوْ لِسَانِ حَالِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ عَلَى الْآخَرِ: رَبِّ أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ آدَمُ
وَذُرِّيَّتُهُ فَأَكُونَ أَنَا وَذُرِّيَّتِي أَحْيَاءً مَا دَامُوا أَحْيَاءً وَأَشْهَدُ انْقِرَاضَهُمْ وَبَعْثَهُمْ (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ مُخْبِرًا، أَوْ قَالَ مُرِيدًا وَمُنْشِئًا كَمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اهـ. فَهُوَ يُؤَكِّدُ بِهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْحِوَارِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ، لَا مُرَاجَعَةَ أَقْوَالٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ جُعِلَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ السُّؤَالِ إِيجَازًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَكَانَ جَوَابُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١٥: ٣٦ - ٣٨) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ
297
مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَرَادَ إِبْلِيسُ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ فَقِيلَ لَهُ " إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ " قَالَ: النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَبَيْنَ النَّفْخَةِ وَالنَّفْخَةِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَأُخْرِجَ الْأَوَّلُ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: فَلَمْ يُنْظِرْهُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى فِي الصُّورِ هِيَ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي بِهَا يُبْعَثُونَ وَلَيْسَ بَعْدَهَا مَوْتٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَرَادَ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ، وَهَذِهِ النَّفْخَةُ تُسَمَّى نَفْخَةَ الْفَزَعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ) (٢٧: ٨٧) وَنَفْخَةُ الصَّعْقِ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩: ٦٨) وَلِاخْتِلَافِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ النَّفَخَاتِ ثَلَاثٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْبَعٌ. وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّهُمَا ثِنْتَانِ: وَهُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩: ٦، ٧) فَهُمْ يَفْزَعُونَ فَيُصْعَقُونَ، أَيْ يَمُوتُونَ بِالْأُولَى وَهِيَ الرَّاجِفَةُ وَيُبْعَثُونَ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي تَرْدُفُهَا وَتَتْبَعُهَا. وَأَصْلُ الصَّعْقِ تَأْثِيرُ الصَّاعِقَةِ فِيمَنْ تُصِيبُهُ مِنْ إِغْمَاءٍ وَغَشَيَانٍ أَوْ مَوْتٍ هُوَ الْغَالِبُ ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْغَشَيَانِ مِنْ كُلِّ صَوْتٍ شَدِيدٍ وَعَلَى الْمَوْتِ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ.
وَفِيمَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفَزَعِ وَالصَّعْقِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ عَلَى مَا اسْتَقْصَاهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ. وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ إِلَّا
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلٍ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ. مَنِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللهُ أَنْ يُصْعَقُوا؟ قَالَ: " هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ الْحَافِظُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرَيُّ اهـ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا بَلْ أَدْمَجَهُ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشُهَدَاءِ اللهِ حُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَشْهَدُونَ فِي الْآخِرَةِ بِضَلَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِهَدْيِهِمْ وَسُنَّتِهِمُ فِي اتِّبَاعِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْأَنْبِيَاءُ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ قَطْعًا، فَكُلُّ نَبِيٍّ يَشْهَدُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْهُمْ، يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا فَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الصِّدِّيقِينَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ وَكُلُّ صَدِّيقٍ شَهِيدٌ، وَمِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَلَا صَدِّيقٍ، وَلَكِنَّ كُلَّ شَهِيدٍ صَالِحٌ وَمَا كُلُّ صَالِحٍ بِشَهِيدٍ، فَبَيْنَ طَبَقَاتِ (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (٤: ٦٩) الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
وَفِيمَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفَزَعِ وَالصَّعْقِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ عَلَى مَا اسْتَقْصَاهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللهُ. وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ إِلَّا
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْبِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلٍ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ. مَنِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللهُ أَنْ يُصْعَقُوا؟ قَالَ: " هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَ الْحَافِظُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرَيُّ اهـ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا بَلْ أَدْمَجَهُ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشُهَدَاءِ اللهِ حُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَشْهَدُونَ فِي الْآخِرَةِ بِضَلَالِ كُلِّ مَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِهَدْيِهِمْ وَسُنَّتِهِمُ فِي اتِّبَاعِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْأَنْبِيَاءُ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ قَطْعًا، فَكُلُّ نَبِيٍّ يَشْهَدُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (٤: ٤١) وَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْهُمْ، يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا قَوْلًا مُسْتَقِلًّا فَإِنَّ الشُّهَدَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الصِّدِّيقِينَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ شَهِيدٌ وَكُلُّ صَدِّيقٍ شَهِيدٌ، وَمِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَلَا صَدِّيقٍ، وَلَكِنَّ كُلَّ شَهِيدٍ صَالِحٌ وَمَا كُلُّ صَالِحٍ بِشَهِيدٍ، فَبَيْنَ طَبَقَاتِ (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (٤: ٦٩) الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
الْمُطْلَقُ. وَإِذَا كَانَ الصَّعْقُ الْمُرَادُ هُوَ الْمَوْتُ فَلَا يَظْهَرُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَجْهٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْغَشَيَانُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي آيَةِ النَّمْلِ بِالْفَزَعِ وَكَانَتِ النَّفْخَةُ الْمُحْدِثَةُ لَهُ هِيَ الْأُولَى إِذْ يَتْلُوهُ مَوْتُ الْخَلْقِ وَخَرَابُ الدُّنْيَا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ. وَظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا.
فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَنْتَهِي إِنْظَارُهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ بَلْ يَمُوتُ عَقِبَ النَّفْخَةِ الْأُولَى الَّتِي يَتْلُوهَا خَرَابُ هَذِهِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) (٦٩: ١٣، ١٤) إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يَشْمَلُ زَمَنَ مُقَدِّمَاتِهِ فَيُسَمَّى كُلُّ ذَلِكَ يَوْمًا، كَمَا يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى زَمَنِ الْمُقَدِّمَاتِ وَحْدَهَا وَتَارَةً عَلَى زَمَنِ الْغَايَةِ وَحْدَهَا؛ إِذْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ كَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا مِنْ سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) (٦٩: ١٥) الْآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقُ بِأَنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ
مُوسَى آخِذًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ قَالَ " فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ غَشَيَانٌ يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي مَوْقِفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ صَعْقُ النَّفْخَةِ الْأُولَى الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَإِلَّا كَانَ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَارِضُهُ مِمَّا عَلِمْتَ بَعْضَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ بِالَّذِي يَتَّسِعُ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنْهُمْ هَذَا الْإِنْظَارَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ وَالْإِغْوَاءِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ حِكْمَتِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الْإِغْوَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الْغِوَايَةِ وَهِيَ ضِدُّ الرَّشَادِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ الْمُرْدِي مِنْ قَوْلِهِمْ غَوَى الْفَصِيلُ - كَهَوَى وَرَمَى، وَغَوِيَ كَهَوِيَ وَرَضِيَ - إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ فَهَزَلَ وَكَادَ يَهْلَكُ. وَصِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ مِنْ أَجْلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ أُقْسِمُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَأَلْزَمَنَّهُ فَأَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَأَقْطَعُهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أُزَيِّنَ
فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَنْتَهِي إِنْظَارُهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ بَلْ يَمُوتُ عَقِبَ النَّفْخَةِ الْأُولَى الَّتِي يَتْلُوهَا خَرَابُ هَذِهِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) (٦٩: ١٣، ١٤) إِلَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يَشْمَلُ زَمَنَ مُقَدِّمَاتِهِ فَيُسَمَّى كُلُّ ذَلِكَ يَوْمًا، كَمَا يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى زَمَنِ الْمُقَدِّمَاتِ وَحْدَهَا وَتَارَةً عَلَى زَمَنِ الْغَايَةِ وَحْدَهَا؛ إِذْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الزَّمَنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ كَأَيَّامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا مِنْ سُورَةِ الْحَاقَّةِ: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) (٦٩: ١٥) الْآيَاتِ. وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا النَّاطِقُ بِأَنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ
مُوسَى آخِذًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ قَالَ " فَلَا أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ غَشَيَانٌ يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ فِي مَوْقِفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ صَعْقُ النَّفْخَةِ الْأُولَى الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ إِلَّا مَنِ اسْتُثْنِيَ، وَإِلَّا كَانَ مُشْكِلًا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَارِضُهُ مِمَّا عَلِمْتَ بَعْضَهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ بِالَّذِي يَتَّسِعُ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ وَلَا سِيَّمَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنْهُمْ هَذَا الْإِنْظَارَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ وَالْإِغْوَاءِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ حِكْمَتِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الْإِغْوَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الْغِوَايَةِ وَهِيَ ضِدُّ الرَّشَادِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ الْمُرْدِي مِنْ قَوْلِهِمْ غَوَى الْفَصِيلُ - كَهَوَى وَرَمَى، وَغَوِيَ كَهَوِيَ وَرَضِيَ - إِذَا فَسَدَ جَوْفُهُ مِنْ كَثْرَةِ اللَّبَنِ فَهَزَلَ وَكَادَ يَهْلَكُ. وَصِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى فَبِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ مِنْ أَجْلِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ أُقْسِمُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَأَلْزَمَنَّهُ فَأَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَأَقْطَعُهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أُزَيِّنَ
لَهُمْ سُلُوكَ طُرُقٍ أُخْرَى أُشَرِّعُهَا لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ لِيَضِلُّوا عَنْهُ، وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَيْ فَلَا أَدَعُ جِهَةً مِنْ جِهَاتِهِمُ الْأَرْبَعِ إِلَّا وَأُهَاجِمُهُمْ مِنْهَا، وَهَذِهِ جِهَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَمَا أَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي يُرِيدُ إِضْلَالَهُمْ عَنْهُ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) (٦: ١٥٣) الْآيَةَ مَا يُوَضِّحُ مَا هُنَا، وَفُسِّرَ فِي الْآثَارِ بِالْإِسْلَامِ، وَبِطَرِيقَيِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِصَدِّهِ عَنْهُمَا (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) لِنِعَمِكَ عَلَيْهِمْ فِي عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ وَمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ رُسُلِكَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَكُونُ الشُّكْرُ التَّامُّ الْمُمْكِنُ صِفَةً لَازِمَةً لِأَكْثَرِهِمْ بَلْ لِلْأَقَلِّينَ مِنْهُمْ، قِيلَ إِنَّهُ قَالَ هَذَا عَنْ ظَنٍّ فَأَصَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٤: ٢٠) وَقِيلَ عَلَى عِلْمٍ بِالدَّلَائِلِ لَا بِالْغَيْبِ، وَالدَّلَائِلُ النَّظَرِيَّةُ غَيْرُ الْقَطْعِيَّةِ ظُنُونٌ. وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الشُّكْرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) وَهِيَ فَاتِحَةُ هَذَا السِّيَاقِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَرْبَعِ قَالَ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قَالَ أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) فَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ
(وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) أُشْبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَسْتَنُّ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) قَالَ: مُوَحِّدِينَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِأَصْلِ أُصُولِهِ وَمَنْبَتِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ. " مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ " مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا، " وَمِنْ خَلْفِهِمْ " - مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ " وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ": مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ " وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ " مِنْ جِهَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَهِيَ إِنَّمَا تُخَالِفُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ مُخَالَفَةَ تَنَاقُضٍ فِي اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَلِ الْمُرَادُ فِيمَا بَيْنَ الْأَيْدِي مَا هُوَ حَاضِرٌ أَوْ مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ وَيَتَخَلَّفُ عَنْهُ وَهُوَ الدُّنْيَا أَمْ مَا هُوَ وَرَاءَ حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ وَهُوَ الْآخِرَةُ؟ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَنْهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ " مِنْ فَوْقِهِمْ " عَلِمَ أَنَّ اللهَ فَوْقَهُمْ، وَفِي لَفْظٍ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مَا هُوَ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مَعَ تَفْصِيلٍ مَا كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَهُمَا مِنْ تَلَامِيذِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْفَوْقِيَّةُ مَعْنَوِيَّةٌ كَغَيْرِهَا، وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْطِقُ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَمِنْ صِفَاتِهِ " الْعَلِيُّ " فَنُؤْمِنُ بِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ جَمِيعًا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ بِمَا أَثْبَتْنَا بِهِ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَالشَّرُّ يُحَسِّنُهُ لَهُمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْأَرْبَعِ قَالَ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قَالَ أُشَكِّكُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) فَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ
(وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) أُشْبِهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) أَسْتَنُّ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) قَالَ: مُوَحِّدِينَ فَسَّرَ الشُّكْرَ بِأَصْلِ أُصُولِهِ وَمَنْبَتِ جَمِيعِ فُرُوعِهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ. " مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ " مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا، " وَمِنْ خَلْفِهِمْ " - مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ " وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ": مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ " وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ " مِنْ جِهَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَهِيَ إِنَّمَا تُخَالِفُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْخَلْفِ مُخَالَفَةَ تَنَاقُضٍ فِي اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَلِ الْمُرَادُ فِيمَا بَيْنَ الْأَيْدِي مَا هُوَ حَاضِرٌ أَوْ مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ وَيَتَخَلَّفُ عَنْهُ وَهُوَ الدُّنْيَا أَمْ مَا هُوَ وَرَاءَ حَيَاتِهِ الْحَاضِرَةِ وَهُوَ الْآخِرَةُ؟ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَنْهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ " مِنْ فَوْقِهِمْ " عَلِمَ أَنَّ اللهَ فَوْقَهُمْ، وَفِي لَفْظٍ: لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مَا هُوَ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مَعَ تَفْصِيلٍ مَا كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَهُمَا مِنْ تَلَامِيذِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَالْفَوْقِيَّةُ مَعْنَوِيَّةٌ كَغَيْرِهَا، وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْطِقُ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَمِنْ صِفَاتِهِ " الْعَلِيُّ " فَنُؤْمِنُ بِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ جَمِيعًا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ قَبْلُ بِمَا أَثْبَتْنَا بِهِ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ يُبْصِرُونَ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ وَالشَّرُّ يُحَسِّنُهُ لَهُمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ " اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ".
(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) يُقَالُ ذَأَمَ الْمَتَاعَ (مِنْ بَابِ فَتَحَ) وَذَامَهُ بِالتَّخْفِيفِ يُذِيمُهُ ذَيْمًا وَذَامًا (بِالْقَلْبِ) إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ. وَيُقَالُ دَحَرَ الْجُنْدُ الْعَدُوَّ إِذَا طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ لِلَّفْظَيْنِ، وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالْخُرُوجِ قَدْ ذُكِرَ لِبَيَانِ سَبَبِهِ وَهَذَا لِبَيَانِ صِفَتِهِ، وَالْمَعْنَى اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكَ مَعِيبًا مَذْمُومًا مِنَ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ مَطْرُودًا مِنْ جَنَّتِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَجَعَلَهُ رَجِيمًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) جَهَنَّمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، أَخْبَرَ تَعَالَى خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يَتَّبِعْ إِبْلِيسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِيمَا يُزَيِّنُهُ لَهُمْ مِنَ
الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْفُجُورِ وَالْفِسْقِ؛ فَإِنَّ جَزَاءَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ أَهْلَ دَارِ الْعَذَابِ يَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ ص: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨: ٨٥) وَيَدْخُلُ فِي خِطَابِهِ أَعْوَانُهُ فِي الْإِغْوَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالنُّصُوصُ فِيهِمْ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (مِنْهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلْءَ يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَإِلَّا قِيلَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ وَيَعْفُو عَنْهُمْ.
وَفِي سُورَتَيِ الْحِجْرِ وَص اسْتِثْنَاءُ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ إِغْوَائِهِ - لَعَنَهُ اللهُ - حِكَايَةً عَنْهُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَكْثَرِ هُنَا. وَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٤٢) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (١٧: ٦٥) وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاعِيَةُ شَرٍّ، وَمَا تَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ إِلَّا مُخْتَارًا مُرَجِّحًا لِلْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ وَلِلشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُضِلِّينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِيَ) (١٤: ٢٢) وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ التَّذْكِيرِ بِهَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْآتِيَةِ فِي نُصْحِ بَنِي آدَمَ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ خِطَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا التَّحَاوُرِ الطَّوِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ خِطَابٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَالْوَحْيِ لِرُسُلِ الْبَشَرِ أَمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَيْفَ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرِيمَ؟ وَتَحَكَّمُوا فِي الْجَوَابِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ فِي جَوَابِ أَسْئِلَتِهِ، وَاسْتَشْكَلُوا أَمْرَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمُ الْمُبِينِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) يُقَالُ ذَأَمَ الْمَتَاعَ (مِنْ بَابِ فَتَحَ) وَذَامَهُ بِالتَّخْفِيفِ يُذِيمُهُ ذَيْمًا وَذَامًا (بِالْقَلْبِ) إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ. وَيُقَالُ دَحَرَ الْجُنْدُ الْعَدُوَّ إِذَا طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى اللَّعْنِ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ لِلَّفْظَيْنِ، وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالْخُرُوجِ قَدْ ذُكِرَ لِبَيَانِ سَبَبِهِ وَهَذَا لِبَيَانِ صِفَتِهِ، وَالْمَعْنَى اخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكَ مَعِيبًا مَذْمُومًا مِنَ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ مَطْرُودًا مِنْ جَنَّتِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى لَعَنَهُ وَجَعَلَهُ رَجِيمًا فِي آيَاتٍ أُخْرَى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) جَهَنَّمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، أَخْبَرَ تَعَالَى خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ بِأَنَّ مَنْ يَتَّبِعْ إِبْلِيسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِيمَا يُزَيِّنُهُ لَهُمْ مِنَ
الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْفُجُورِ وَالْفِسْقِ؛ فَإِنَّ جَزَاءَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ أَهْلَ دَارِ الْعَذَابِ يَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ ص: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨: ٨٥) وَيَدْخُلُ فِي خِطَابِهِ أَعْوَانُهُ فِي الْإِغْوَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَالنُّصُوصُ فِيهِمْ كَثِيرَةٌ، وَقَوْلُهُ: (مِنْهُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلْءَ يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَإِلَّا قِيلَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بِكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَتْبَعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ وَيَعْفُو عَنْهُمْ.
وَفِي سُورَتَيِ الْحِجْرِ وَص اسْتِثْنَاءُ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ إِغْوَائِهِ - لَعَنَهُ اللهُ - حِكَايَةً عَنْهُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَكْثَرِ هُنَا. وَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٤٢) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ (١٧: ٦٥) وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاعِيَةُ شَرٍّ، وَمَا تَبِعَهُ مَنْ تَبِعَهُ إِلَّا مُخْتَارًا مُرَجِّحًا لِلْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ وَلِلشَّرِّ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْمُضِلِّينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِيَ) (١٤: ٢٢) وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ التَّذْكِيرِ بِهَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْآتِيَةِ فِي نُصْحِ بَنِي آدَمَ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا سِيَّمَا الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ خِطَابُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا التَّحَاوُرِ الطَّوِيلِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ خِطَابٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَالْوَحْيِ لِرُسُلِ الْبَشَرِ أَمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَيْفَ وَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرِيمَ؟ وَتَحَكَّمُوا فِي الْجَوَابِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ فِي جَوَابِ أَسْئِلَتِهِ، وَاسْتَشْكَلُوا أَمْرَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِإِغْوَاءِ الْبَشَرِ وَإِضْلَالِهِمُ الْمُبِينِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
301
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (الْآَيَةَ ١٧: ٦٤) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (٧: ٢٨) وَإِنَّمَا يُشْكِلُ هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلتَّكْلِيفِ. وَأَمَّا إِذَا جَعَلَ الْخِطَابَ لِلتَّكْوِينِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فَلَا إِشْكَالَ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْوَاقِعِ مِنْ صِفَةِ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْتِعْدَادِهِمَا وَأَعْمَالِهِمَا الِاخْتِيَارِيَّةِ.
وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيهَا جَدَلٌ طَوِيلٌ، فَالْأَوَّلُونَ يُثْبِتُونَ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَنْفُونَ رِعَايَةَ الرَّبِّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلٍّ مِنْ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَجْعَلُونَ الْإِنْسَانَ مَجْبُورًا فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَالْآخَرُونَ
يُخَالِفُونَهُمْ، فَنَدَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْجَدَلِيَّةِ لِابْنَيْ بَجْدَتِهَا الرَّازِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ الشَّيَاطِينِ وَكَشْفِ شُبْهَةِ الْمُسْتَشْكِلِينَ لَهُ وَلِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ إِغْوَائِهِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ التَّكْوِينِ.
حِكْمَةُ خَلْقِ اللهِ الْخَلْقَ وَاسْتِعْدَادُ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ:
اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَنْ يَتَجَلَّى بِهَا الرَّبُّ الْخَالِقُ لَهَا بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِيُعْرَفَ وَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيَحْكُمَ وَيَجْزِيَ فَيَعْدِلَ وَيَغْفِرَ وَيَعْفُوَ وَيَرْحَمَ، إِلَخْ. فَهِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَمَجْلَى سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ، وَتُرْجُمَانُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١٧: ٤٤) لِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالنِّظَامِ، الدَّالَّيْنِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَوَحْدَانِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ، الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرُّ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ، مَدَارُهُ عَلَى مَا يُؤْلِمُ الْأَحْيَاءَ أَوْ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ شَرًّا لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ أَعَظَمُ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ أَكْبَرَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي يُزِيلُ مَرَضَهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَوْ أَطْوَلُ إِيلَامًا مِنْهُ، وَقَدْ تَفُوتُهُ مَنْفَعَةٌ صَغِيرَةٌ يَكُونُ فَوْتُهَا سَبَبًا لِمَنْفَعَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، كَالَّذِي يَبْذُلُ مَالَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ فَيُكْرَمُ وَيَكُونُ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ. وَحَظُّهُ مِنْ كَرَامَةِ الْأُمَّةِ وَعُمْرَانِ الْوَطَنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى تَحَقُّقِ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى أَنْ يَخْلُقَ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُقَابَلَاتُ وَالنِّسَبُ بَيْنَ بَعْضِهَا مُخْتَلِفَةً مِنْ تَوَافُقٍ وَتَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ أَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَأَنْ يُسِيءَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ
وَلِلْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِيهَا جَدَلٌ طَوِيلٌ، فَالْأَوَّلُونَ يُثْبِتُونَ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَنْفُونَ رِعَايَةَ الرَّبِّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي كُلٍّ مِنْ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَجْعَلُونَ الْإِنْسَانَ مَجْبُورًا فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَالْآخَرُونَ
يُخَالِفُونَهُمْ، فَنَدَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الْجَدَلِيَّةِ لِابْنَيْ بَجْدَتِهَا الرَّازِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَنَخْتِمُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ الشَّيَاطِينِ وَكَشْفِ شُبْهَةِ الْمُسْتَشْكِلِينَ لَهُ وَلِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ إِغْوَائِهِ فَإِنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ هُنَا حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ التَّكْوِينِ.
حِكْمَةُ خَلْقِ اللهِ الْخَلْقَ وَاسْتِعْدَادُ الشَّيْطَانِ وَالْبَشَرِ لِلشَّرِّ:
اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَنْ يَتَجَلَّى بِهَا الرَّبُّ الْخَالِقُ لَهَا بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، لِيُعْرَفَ وَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَيَحْكُمَ وَيَجْزِيَ فَيَعْدِلَ وَيَغْفِرَ وَيَعْفُوَ وَيَرْحَمَ، إِلَخْ. فَهِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَمَجْلَى سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ، وَتُرْجُمَانُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١٧: ٤٤) لِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالنِّظَامِ، الدَّالَّيْنِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَوَحْدَانِيَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ، الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرُّ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ، مَدَارُهُ عَلَى مَا يُؤْلِمُ الْأَحْيَاءَ أَوْ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ شَرًّا لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ أَعَظَمُ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ أَكْبَرَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَأَلَّمُ مِنَ الدَّوَاءِ الَّذِي يُزِيلُ مَرَضَهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ أَوْ أَطْوَلُ إِيلَامًا مِنْهُ، وَقَدْ تَفُوتُهُ مَنْفَعَةٌ صَغِيرَةٌ يَكُونُ فَوْتُهَا سَبَبًا لِمَنْفَعَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا، كَالَّذِي يَبْذُلُ مَالَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمِلَّتِهِ وَوَطَنِهِ فَيُكْرَمُ وَيَكُونُ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ. وَحَظُّهُ مِنْ كَرَامَةِ الْأُمَّةِ وَعُمْرَانِ الْوَطَنِ أَعْظَمُ مِمَّا بَذَلَ مِنَ الْمَالِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ - ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى تَحَقُّقِ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى أَنْ يَخْلُقَ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُقَابَلَاتُ وَالنِّسَبُ بَيْنَ بَعْضِهَا مُخْتَلِفَةً مِنْ تَوَافُقٍ وَتَبَايُنٍ وَتَضَادٍّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ أَنَّ الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَأَنْ يُسِيءَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ
302
بَعْضُهُمْ مَفْطُورًا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، دَائِبًا عَلَى عِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُخْتَارًا فِي عَمَلِهِ، مُسْتَعِدًّا لِلْأَضْدَادِ فِي مَيْلِهِ وَطَبْعِهِ، يَتَنَازَعُهُ عَامِلَا الْكُفْرِ وَالشُّكْرِ، وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَقِيقَتَا التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَتَتَجَاذَبُهُ دَاعِيَتَا الْفُجُورِ وَالْبِرِّ، فَيَكُونُ لِشُكْرِهِ وَبِرِّهِ وَطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ مِنْ عِظَمِ الشَّأْنِ مَعَ مُعَارَضَةِ الْمَوَانِعِ مَا لَيْسَ
لِلْفُطُورِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَعْصِي فَيُفِيدُهُ الْعِصْيَانُ خَوْفًا وَرَهْبَةً، وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنِ اسْمَيِ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ وَقَدْ يَسْتَكْبِرُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ وَيُصِرُّ عَلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَيَكُونُ مَوْضِعًا لِعِقَابِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَآيَةٌ فِيهِ عَلَى تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ.
وَلَا نَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَفْطُورًا عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، مَجْبُورًا عَلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ الْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ عَلَى الرَّبِّ الْمَعْبُودِ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ - وَهُوَ شَرُّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالْجِنِّ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي عِصْيَانِهِ بَانِيًا إِيَّاهُ عَلَى شُبْهَةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللهُ نَوْعَهُ فَكَانُوا كَالْبَشَرِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ (الْجِنِّ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨: ٥٠) الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُودُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَعُقُوبَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ بَعْدَ عِصْيَانِ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى رَبِّهِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَصَرَّ عَلَى عِصْيَانِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى رَبِّهِ فَلَعَنَهُ وَأَخْزَاهُ، وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ عَدْلِهِ فِي عِقَابِهِ، وَقَصَّ قَصَصَهُمَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا بِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ النَّوْعَيْنِ، وَمَآلَ الْعَمَلَيْنِ، عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَابْتِلَاءً - اخْتِبَارًا - لِلْعَالِمِينَ يَمِيزُ اللهُ بِهِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ، وَيُزِيلُ بَيْنَ الطَّيِّبِينَ وَالْخَبِيثِينَ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمَا أَنَّ الْحَيَاةَ جِهَادٌ، يَظْهَرُ بِهِ مَا أُودِعَ فِي النُّفُوسِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَأَنَّ مِنْ حِكَمِ تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ، وَالْمَسُوسُ وَالسَّائِسُ، وَالْقَائِدُ وَالْجُنْدِيُّ، وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ، وَالزَّارِعُ وَالصَّانِعُ، وَالتَّاجِرُ وَالْعَامِلُ. فَلَوْلَا الْعُمَّالُ - مَثَلًا - لَمَا اتَّسَعَتْ مَسَائِلُ الْعُلُومِ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِمَا كَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَتْ نِعَمُ الْخَالِقِ وَسُنَنُهُ وَدَقَائِقُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَمَظَاهِرِ الْأَسْمَاءِ، وَمُوجِبَاتِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتْقَنٌ فِي صُنْعِهِ، مُظْهِرٌ
لِلْفُطُورِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَعْصِي فَيُفِيدُهُ الْعِصْيَانُ خَوْفًا وَرَهْبَةً، وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنِ اسْمَيِ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ وَقَدْ يَسْتَكْبِرُ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ وَيُصِرُّ عَلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَيَكُونُ مَوْضِعًا لِعِقَابِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، وَآيَةٌ فِيهِ عَلَى تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ.
وَلَا نَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَفْطُورًا عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، مَجْبُورًا عَلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ الْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ عَلَى الرَّبِّ الْمَعْبُودِ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ - وَهُوَ شَرُّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالْجِنِّ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي عِصْيَانِهِ بَانِيًا إِيَّاهُ عَلَى شُبْهَةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللهُ نَوْعَهُ فَكَانُوا كَالْبَشَرِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ (الْجِنِّ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١٨: ٥٠) الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُودُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَعُقُوبَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ بَعْدَ عِصْيَانِ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى رَبِّهِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَصَرَّ عَلَى عِصْيَانِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى رَبِّهِ فَلَعَنَهُ وَأَخْزَاهُ، وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ عَدْلِهِ فِي عِقَابِهِ، وَقَصَّ قَصَصَهُمَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا بِمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ النَّوْعَيْنِ، وَمَآلَ الْعَمَلَيْنِ، عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَابْتِلَاءً - اخْتِبَارًا - لِلْعَالِمِينَ يَمِيزُ اللهُ بِهِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ، وَيُزِيلُ بَيْنَ الطَّيِّبِينَ وَالْخَبِيثِينَ، إِذْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمَا أَنَّ الْحَيَاةَ جِهَادٌ، يَظْهَرُ بِهِ مَا أُودِعَ فِي النُّفُوسِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ، وَأَنَّ مِنْ حِكَمِ تَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ، وَالْمَسُوسُ وَالسَّائِسُ، وَالْقَائِدُ وَالْجُنْدِيُّ، وَالْمَخْدُومُ وَالْخَادِمُ، وَالزَّارِعُ وَالصَّانِعُ، وَالتَّاجِرُ وَالْعَامِلُ. فَلَوْلَا الْعُمَّالُ - مَثَلًا - لَمَا اتَّسَعَتْ مَسَائِلُ الْعُلُومِ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِمَا كَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَتْ نِعَمُ الْخَالِقِ وَسُنَنُهُ وَدَقَائِقُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتُهُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الصِّفَاتِ وَمَظَاهِرِ الْأَسْمَاءِ، وَمُوجِبَاتِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ، مُتْقَنٌ فِي صُنْعِهِ، مُظْهِرٌ
303
لِنَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا
شَيْءَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَلَا بِشَرٍّ مَحْضٍ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (١٥: ٨٥) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨: ٢٧)
وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنْ مَعْصِيَتَيْ أَبَوَيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ظُهُورُ اسْتِعْدَادِهِمْ وَإِظْهَارُ حُكْمِهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ فِي حَالَيِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَحُسْنُ الْأُسْوَةِ، وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَالِابْتِلَاءُ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهُ مِمَّا بَيَّنَّا - وَإِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الْآخَرِ - فَلَا خَفَاءَ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى فِطْرَةِ نَوْعَيْهِمَا، الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِيهِمَا، فَجِنْسُ الْجِنِّ أَوِ الْجِنَّةِ الْغَيْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ نَوْعَانِ أَوْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مَلَكِيٌّ يُلَابِسُ بَعْضُهُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، وَصِنْفٌ شَيْطَانِيٌّ يُلَابِسُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " ثُمَّ قَرَأَ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمَثَلُ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِرُوحِ الْإِنْسَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُ طَبْعَهُ - كَمَثَلِ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِجَسَدِهِ وَتَأْثِيرِهَا فِيهِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ وَسَمَّاهَا بَعْضُ الْأُدَبَاءِ النَّقَاعِيَّاتِ، فَإِنَّ مِنْهَا جِنَّةَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الْقَابِلِ لَهَا بِضَعْفِهِ، وَالْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا الصِّحَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْجِنُّ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لِلرُّوحَانِيِّينَ: الْمُسْتَتِرَةُ عَنِ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا بِإِزَاءِ الْإِنْسِ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ فَكُلُّ مَلَائِكَةٍ جِنٌّ وَلَيْسَ كُلُّ جِنٍّ مَلَائِكَةً، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا جِنٌّ. وَقِيلَ: بَلِ الْجِنُّ بَعْضُ الرُّوحَانِيِّينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَانِيِّينَ ثَلَاثَةٌ: أَخْيَارٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَوْسَاطٌ فِيهِمْ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الْجِنُّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) (٧٢: ١) إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) (٧٢: ١٤) وَالْجِنَّةُ جَمَاعَةُ الْجِنِّ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ وَحْدَةِ الْجِنْسِ؛
فَإِنَّهُ غَلَبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ اسْمَانِ مُمَيَّزَانِ لَهُمَا لِتَضَادِّهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْجِنَّةَ - بِالْكَسْرِ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٣٧: ١٥٨) بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَ
شَيْءَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَلَا بِشَرٍّ مَحْضٍ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (١٥: ٨٥) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨: ٢٧)
وَإِذَا كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنْ مَعْصِيَتَيْ أَبَوَيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ظُهُورُ اسْتِعْدَادِهِمْ وَإِظْهَارُ حُكْمِهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ فِي حَالَيِ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَحُسْنُ الْأُسْوَةِ، وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَالِابْتِلَاءُ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهُ مِمَّا بَيَّنَّا - وَإِذَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الْآخَرِ - فَلَا خَفَاءَ فِي اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى فِطْرَةِ نَوْعَيْهِمَا، الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِيهِمَا، فَجِنْسُ الْجِنِّ أَوِ الْجِنَّةِ الْغَيْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ نَوْعَانِ أَوْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مَلَكِيٌّ يُلَابِسُ بَعْضُهُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، وَصِنْفٌ شَيْطَانِيٌّ يُلَابِسُ أَرْوَاحَ الْبَشَرِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتُقَوِّي دَاعِيَتَهُمَا فِيهَا، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ " ثُمَّ قَرَأَ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَرُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمَثَلُ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِرُوحِ الْإِنْسَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُ طَبْعَهُ - كَمَثَلِ اتِّصَالِ نَوْعَيِ الْجِنَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِجَسَدِهِ وَتَأْثِيرِهَا فِيهِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ وَسَمَّاهَا بَعْضُ الْأُدَبَاءِ النَّقَاعِيَّاتِ، فَإِنَّ مِنْهَا جِنَّةَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الْقَابِلِ لَهَا بِضَعْفِهِ، وَالْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا الصِّحَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: وَالْجِنُّ يُقَالُ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لِلرُّوحَانِيِّينَ: الْمُسْتَتِرَةُ عَنِ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا بِإِزَاءِ الْإِنْسِ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ فَكُلُّ مَلَائِكَةٍ جِنٌّ وَلَيْسَ كُلُّ جِنٍّ مَلَائِكَةً، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: الْمَلَائِكَةُ كُلُّهَا جِنٌّ. وَقِيلَ: بَلِ الْجِنُّ بَعْضُ الرُّوحَانِيِّينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَانِيِّينَ ثَلَاثَةٌ: أَخْيَارٌ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَأَوْسَاطٌ فِيهِمْ أَخْيَارٌ وَأَشْرَارٌ وَهُمُ الْجِنُّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) (٧٢: ١) إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) (٧٢: ١٤) وَالْجِنَّةُ جَمَاعَةُ الْجِنِّ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ وَحْدَةِ الْجِنْسِ؛
فَإِنَّهُ غَلَبَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ اسْمَانِ مُمَيَّزَانِ لَهُمَا لِتَضَادِّهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْجِنَّةَ - بِالْكَسْرِ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٣٧: ١٥٨) بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَ
304
الْآيَةِ عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (٣٧: ١٤٩) الْآيَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْجِنَّةَ فِي الْآيَةِ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّسَبِ قَوْلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) أَيِ الْمَلَائِكَةُ (إِنَّهُمْ لَمُحْضِرُونَ) فِي النَّارِ مُقْدِمُونَ عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ. اهـ. مُلَخَّصًا بِالْمَعْنَى.
نَكْتَفِي هُنَا بِهَذَا وَنُحِيلُ فِي زِيَادَةِ بَسْطِهِ وَإِيضَاحِهِ عَلَى مَا تَكَرَّرَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ بَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوَتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَارِينَ فِي الْأَعْمَالِ وَكَذَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَوَسْوَسَتِهِمْ وَدَرَجَةِ تَأْثِيرِهَا فِي آيَاتِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا وَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي حِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
وَمِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ إِذَا قُوبِلَ مَا هَاهُنَا بِمَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ يُرَى خِلَافٌ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ مِنْ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْفَصْلِ فِي بَدْءِ كُلٍّ مِنْهَا بِـ " قَالَ " عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَاهُنَا عَطَفَ أَمْرَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ بِالْهُبُوطِ وَأَمْرَهُ الْأَوَّلَ لَهُ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ، وَكَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ " فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي " عَلَى أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَفَصَلَ طَلَبَ إِبْلِيسَ لِلْإِنْظَارِ وَجَوَابَ الرَّبِّ لَهُ وَأَمْرَهُ الثَّانِيَ بِالْخُرُوجِ وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَقَدْ وَصَلَ كُلًّا مِنْ طَلَبِ الْإِنْظَارِ وَجَوَابِهِ بِالْفَاءِ وَكَذَا فِي سُورَةِ ص، وَفَصَلَ تَعْلِيلَ إِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ بِإِغْوَاءِ الرَّبِّ لَهُ إِذْ قَالَ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) (١٥: ٣٩) فَخَالَفَ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَكِنِ اتَّفَقَتِ السُّورَتَانِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ.
فَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّنَا عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُنَزَّلَةً لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ اخْتَلَفَتْ أَسَالِيبُهَا بَيْنَ إِيجَازٍ وَإِطْنَابٍ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، حَتَّى لَا تُمَلَّ لِلَفْظِهَا وَلَا لِمَعَانِيهَا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَحْكِيَّةَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَبِّرَةٌ
عَنِ الْمَعَانِي وَشَارِحَةٌ لِلْحَقَائِقِ وَلَيْسَتْ نَقْلًا لِأَلْفَاظِ الْمُحْكَى
نَكْتَفِي هُنَا بِهَذَا وَنُحِيلُ فِي زِيَادَةِ بَسْطِهِ وَإِيضَاحِهِ عَلَى مَا تَكَرَّرَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ بَيَانِ حِكْمَةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوَتِي الِاسْتِعْدَادِ مُخْتَارِينَ فِي الْأَعْمَالِ وَكَذَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَوَسْوَسَتِهِمْ وَدَرَجَةِ تَأْثِيرِهَا فِي آيَاتِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا وَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِي حِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِ إِبْلِيسَ يُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.
وَمِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ إِذَا قُوبِلَ مَا هَاهُنَا بِمَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ يُرَى خِلَافٌ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي مَقُولِ الْقَوْلِ مِنْ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْفَصْلِ فِي بَدْءِ كُلٍّ مِنْهَا بِـ " قَالَ " عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَاهُنَا عَطَفَ أَمْرَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِإِبْلِيسَ بِالْهُبُوطِ وَأَمْرَهُ الْأَوَّلَ لَهُ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ، وَكَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ " فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي " عَلَى أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ. وَفَصَلَ طَلَبَ إِبْلِيسَ لِلْإِنْظَارِ وَجَوَابَ الرَّبِّ لَهُ وَأَمْرَهُ الثَّانِيَ بِالْخُرُوجِ وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَقَدْ وَصَلَ كُلًّا مِنْ طَلَبِ الْإِنْظَارِ وَجَوَابِهِ بِالْفَاءِ وَكَذَا فِي سُورَةِ ص، وَفَصَلَ تَعْلِيلَ إِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ بِإِغْوَاءِ الرَّبِّ لَهُ إِذْ قَالَ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) (١٥: ٣٩) فَخَالَفَ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَكِنِ اتَّفَقَتِ السُّورَتَانِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ.
فَهَاهُنَا يُقَالُ: إِنَّنَا عَلِمْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُنَزَّلَةً لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ اخْتَلَفَتْ أَسَالِيبُهَا بَيْنَ إِيجَازٍ وَإِطْنَابٍ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، حَتَّى لَا تُمَلَّ لِلَفْظِهَا وَلَا لِمَعَانِيهَا، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَحْكِيَّةَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَبِّرَةٌ
عَنِ الْمَعَانِي وَشَارِحَةٌ لِلْحَقَائِقِ وَلَيْسَتْ نَقْلًا لِأَلْفَاظِ الْمُحْكَى
305
عَنْهُمْ بِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ أَعَاجِمُ، وَلَمْ تَكُنْ لُغَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْهُمْ كَلُغَةِ الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا - دَعْ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْقِصَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِحَقَائِقَ ثَابِتَةٍ فِي نَفْسِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ، وَمَا ثَمَّ أَقْوَالٌ قِيلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا - عَلِمْنَا هَذَا وَذَاكَ. وَلَكِنَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، وَأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَالِيبِ وَطُرُقَ التَّعْبِيرِ فِيهِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَا تَخْتَلِفُ إِلَّا لِنُكَتٍ تُفِيدُ مِنْ فَهْمِهَا فَائِدَةً لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، فَمَا فَائِدَةُ مَا ذُكِرَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْلَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي مَوْضِعِهِ أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مِثْلِهِ بِالْفَصْلِ اسْتِئْنَافًا وَلَا يَحْتَاجُ فِي زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ إِلَى نُكْتَةِ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَجَدْتَ أَنَّ طَلَبَ إِبْلِيسَ الْإِنْظَارَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ مَعْطُوفًا بِالْفَاءِ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ مَقْرُونًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَلَعَنَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - فَلَا غَرْوَ إِذَا جُعِلَ طَلَبُهُ لِلْإِنْظَارِ فِيهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبِلَهُ مُتَفَرِّعًا عَنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ إِذْ طَرَدْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، فَأَطِلْ حَيَاتِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِكَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى جَوَابًا مَعْطُوفًا عَلَى طَلَبِهِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الْحِكْمَةُ، لَا إِلَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ أُمْنِيَّتُهُ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى فِي إِنْظَارِ إِبْلِيسَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ هَذَا مِنْ طَلَبِهِ الْإِنْظَارَ.
وَأَمَّا نُكْتَةُ حَذْفِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) مَعَ إِثْبَاتِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّدْرِ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ وَالْقِصَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) وَالْفَاءُ تُوجِبُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبِلَهَا، وَالنِّدَاءُ أَوَّلًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَاسْتِئْنَافَ الْكَلَامِ وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَّةٍ لَا يَقْتَضِيهَا مَا قَبْلَهَا، فَلَمْ تَحْسُنِ الْفَاءُ مَعَ قَوْلِهِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) وَالْمَوْضِعَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا نِدَاءٌ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَ مَا بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ وُصِلَ الْقَسَمُ فِيهِمَا بِالْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْفَاءِ اهـ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْلَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي مَوْضِعِهِ أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مِثْلِهِ بِالْفَصْلِ اسْتِئْنَافًا وَلَا يَحْتَاجُ فِي زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ إِلَى نُكْتَةِ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَجَدْتَ أَنَّ طَلَبَ إِبْلِيسَ الْإِنْظَارَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ مَعْطُوفًا بِالْفَاءِ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ مَقْرُونًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَلَعَنَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - فَلَا غَرْوَ إِذَا جُعِلَ طَلَبُهُ لِلْإِنْظَارِ فِيهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبِلَهُ مُتَفَرِّعًا عَنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ إِذْ طَرَدْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، فَأَطِلْ حَيَاتِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِكَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى جَوَابًا مَعْطُوفًا عَلَى طَلَبِهِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الْحِكْمَةُ، لَا إِلَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ أُمْنِيَّتُهُ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى فِي إِنْظَارِ إِبْلِيسَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ هَذَا مِنْ طَلَبِهِ الْإِنْظَارَ.
وَأَمَّا نُكْتَةُ حَذْفِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) مَعَ إِثْبَاتِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّدْرِ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ وَالْقِصَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) وَالْفَاءُ تُوجِبُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبِلَهَا، وَالنِّدَاءُ أَوَّلًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَاسْتِئْنَافَ الْكَلَامِ وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَّةٍ لَا يَقْتَضِيهَا مَا قَبْلَهَا، فَلَمْ تَحْسُنِ الْفَاءُ مَعَ قَوْلِهِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) وَالْمَوْضِعَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا نِدَاءٌ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَ مَا بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ وُصِلَ الْقَسَمُ فِيهِمَا بِالْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْفَاءِ اهـ.
306
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)
هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ الْوَارِدِ فِي النَّشْأَةِ الْأَوْلَى لِلْبَشَرِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، أُنْزِلَتْ تَمْهِيدًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ بِمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي وَعْظِ بَنِي آدَمَ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أَيْ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ - كَمَا هُوَ نَصُّ التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ - عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ -
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)
هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ الْوَارِدِ فِي النَّشْأَةِ الْأَوْلَى لِلْبَشَرِ وَشَيَاطِينِ الْجِنِّ، أُنْزِلَتْ تَمْهِيدًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ بِمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي وَعْظِ بَنِي آدَمَ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي بَحْثِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أَيْ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ - كَمَا هُوَ نَصُّ التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السِّيَاقِ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) فَإِنَّ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ - عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ -
307
كَانَ بَعْدَ الْوَسْوَسَةِ لِآدَمَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَالنِّدَاءُ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَالْأَمْرُ بِالسُّكْنَى قِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، يُقَابِلُهُ جَعْلُهُ أَمْرًا تَكْوِينِيًّا قَسْرِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي أَمْرِ إِبْلِيسَ، وَاللَّامُ فِي الْجَنَّةِ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَهِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا أَوْ لَدَيْهَا آدَمُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ
(ن) :(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (٦٨: ١٧) ؛ لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ قِصَّتِهِ الْمُكَرِّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ رَفَعَهُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْجَنَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا جَنَّةُ الْآخِرَةِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ لَهُ زَوْجٌ؛ أَيِ امْرَأَةٌ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَىأَلْقَى عَلَى آدَمَ سُبَاتًا انْتَزَعَ فِي أَثْنَائِهِ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَخَلَقَ لَهُ مِنْهُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهَا سُمِّيَتِ امْرَأَةً " لِأَنَّهَا مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ " وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ " عَلَى حَدِّ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (٢١: ٣٧) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ " أَيْ لَا تُحَاوِلُوا تَقْوِيمَ النِّسَاءِ بِالشِّدَّةِ، وَوَثَنِيُّوا الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِآدَمَ أُمَّا وَلَهَا فِي مَدِينَتِهِمُ الْمُقَدِّسَةِ (بنارس) قَبْرٌ عَلَيْهِ قُبَّةٌ بِجَانِبِ قُبَّةِ قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُمِّهِ عِنْدَهُمُ الرَّمْزُ إِلَى الطَّبِيعَةِ. وَالْآيَةُ تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فِي السُّكْنَى وَالْمَعِيشَةِ بِاقْتِضَاءِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ الَّذِي يُعَدُّ مَا خَالَفَهُ شُذُوذًا.
(فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) أَيْ فَكُلَا مِنْ ثِمَارِهَا حَيْثُ شِئْتُمَا - وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) (٢: ٣٥) - وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَضَمَّنَ التِّكْرَارُ لِلْقَصَصِ فَوَائِدَ فِي كُلٍّ مِنْهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ فِي الْمَجْمُوعِ.
(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (٢: ١٨٧) فَهُوَ يَقْتَضِي الْبُعْدَ عَنْ مَوَارِدِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُغْرِي بِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ وَرَعًا وَاحْتِيَاطًا، " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَعْرِيفُ الشَّجَرَةِ كَتَعْرِيفِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ مُشَارٌ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ بِمَا يُعَيِّنُ شَخْصَهَا، وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ نَوْعُهَا وَلَا وَصْفُهَا، إِلَّا مَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَوَّلِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مَا نَصُّهُ " ٨ وَغَرَسَ الرَّبُّ الْإِلَهُ جَنَّةً مِنْ عَدْنٍ شَرْقًا وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ ٩ وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلْأَكْلِ وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ " ثُمَّ قَالَ " ١٥ وَأَخَذَ الرَّبُّ الْإِلَهُ
(ن) :(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) (٦٨: ١٧) ؛ لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ قِصَّتِهِ الْمُكَرِّرَةِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ رَفَعَهُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْجَنَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا جَنَّةُ الْآخِرَةِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ لَهُ زَوْجٌ؛ أَيِ امْرَأَةٌ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَىأَلْقَى عَلَى آدَمَ سُبَاتًا انْتَزَعَ فِي أَثْنَائِهِ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَخَلَقَ لَهُ مِنْهُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهَا سُمِّيَتِ امْرَأَةً " لِأَنَّهَا مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ " وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ " عَلَى حَدِّ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (٢١: ٣٧) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ " أَيْ لَا تُحَاوِلُوا تَقْوِيمَ النِّسَاءِ بِالشِّدَّةِ، وَوَثَنِيُّوا الْهِنْدِ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِآدَمَ أُمَّا وَلَهَا فِي مَدِينَتِهِمُ الْمُقَدِّسَةِ (بنارس) قَبْرٌ عَلَيْهِ قُبَّةٌ بِجَانِبِ قُبَّةِ قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُمِّهِ عِنْدَهُمُ الرَّمْزُ إِلَى الطَّبِيعَةِ. وَالْآيَةُ تُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فِي السُّكْنَى وَالْمَعِيشَةِ بِاقْتِضَاءِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ الَّذِي يُعَدُّ مَا خَالَفَهُ شُذُوذًا.
(فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) أَيْ فَكُلَا مِنْ ثِمَارِهَا حَيْثُ شِئْتُمَا - وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) (٢: ٣٥) - وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَضَمَّنَ التِّكْرَارُ لِلْقَصَصِ فَوَائِدَ فِي كُلٍّ مِنْهَا لَا تُوجَدُ فِي الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ فِي الْمَجْمُوعِ.
(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الشَّيْءِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (٢: ١٨٧) فَهُوَ يَقْتَضِي الْبُعْدَ عَنْ مَوَارِدِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تُغْرِي بِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ وَرَعًا وَاحْتِيَاطًا، " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ " كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَعْرِيفُ الشَّجَرَةِ كَتَعْرِيفِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ مُشَارٌ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ بِمَا يُعَيِّنُ شَخْصَهَا، وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ نَوْعُهَا وَلَا وَصْفُهَا، إِلَّا مَا فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ طه. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ أَوَّلِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ مَا نَصُّهُ " ٨ وَغَرَسَ الرَّبُّ الْإِلَهُ جَنَّةً مِنْ عَدْنٍ شَرْقًا وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ ٩ وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلْأَكْلِ وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ " ثُمَّ قَالَ " ١٥ وَأَخَذَ الرَّبُّ الْإِلَهُ
308
آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا ١٦ وَأَوْصَى
الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا ١٧ وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ " اهـ. وَقَدْ أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَمْ يَمُتْ يَوْمَ أَكَلَهَا وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمَا، أَيْ بِفِعْلِهِمَا مَا يُعَاقَبَانِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْحِرْمَانِ مِنْ ذَلِكَ الرَّغَدِ مِنَ الْعَيْشِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ تَعَبٍ فِي الْمَعِيشَةِ.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَسْوَسَةُ الْخَطِرَةُ الرَّدِيئَةُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ وَهُوَ صَوْتُ الْحُلِيِّ، وَالْهَمْسُ الْخَفِيُّ قَالَ: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) (٢٠: ١٢٠) وَقَالَ: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ) (١١٤: ٤) وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَسْوَاسٌ اهـ. فَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ هِيَ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَوْ أَرْوَاحِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مِرَارًا. وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَكَلَّمَهُمَا وَأَقْسَمَ لَهُمَا، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَمَنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ تَمْثِيلًا لِبَيَانِ حَالِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي تُنْقَلُ فِيهَا يُفَسِّرُ الْوَسْوَسَةَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الطُّفُولَةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ هَمًّا وَلَا نَصَبًا إِلَى طَوْرِ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ يَكُونُ كَثِيرَ التَّعَرُّضِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِهَا. وَقَدْ عَلَّلْتُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ بِأَنَّ غَايَتَهَا أَوْ غَرَضَهُ مِنْهَا أَنْ يُظْهِرَ لَهُمَا مَا غُطِّيَ وَسُتِرَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا يُقَالُ: وَارَى الشَّيْءَ إِذَا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، وُورِيَ الشَّيْءُ غُطِّيَ وَسُتِرَ، وَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَمْرٍ شَائِنٍ وَعَمَلٍ قَبِيحٍ. وَالسَّوْءَةُ السَّوْآءُ الْخَلَّةُ الْقَبِيحَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمُخَالِفَةُ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَسَوْءَةٌ لَكَ، وَوَقَعَتْ فِي السَّوْءَةِ السَّوْآءِ، قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ:
ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ بَدَتْ سَوْءَتُهُ وَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا اهـ. وَإِذَا أُضِيفَتِ السَّوْءَةُ إِلَى الْإِنْسَانِ أُرِيدَ بِهَا عَوْرَتُهُ الْفَاحِشَةُ؛ لِأَنَّهُ يَسُوءُهُ ظُهُورُهَا بِمُقْتَضَى الْحَيَاءِ الْفِطْرِيِّ مَا لَمْ يُفْسِدْهُ بِتَعَوُّدِ إِظْهَارِهَا مَعَ آخَرِينَ فَيَرْتَفِعُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمْ، وَجُمِعَتْ هُنَا عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي إِضَافَةِ الْمُثَنَّى إِلَى ضَمِيرِهِ إِذْ يَسْتَثْقِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ فِيمَا هُوَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْمَعُونَ الْمُضَافَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (٦٦: ٤). وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْإِخْفَاءِ أَوِ الْمُوَارَاةِ لِسَوْآتِهِمَا عَنْهُمَا
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) (٢٠: ١٢١) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) أَيْ وَقَالَ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ لَهُمَا: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنْ تَأْكُلَا مِنْهَا إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: اتِّقَاءِ
الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا ١٧ وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا لِأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ " اهـ. وَقَدْ أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلَمْ يَمُتْ يَوْمَ أَكَلَهَا وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمَا، أَيْ بِفِعْلِهِمَا مَا يُعَاقَبَانِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْحِرْمَانِ مِنْ ذَلِكَ الرَّغَدِ مِنَ الْعَيْشِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ تَعَبٍ فِي الْمَعِيشَةِ.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَسْوَسَةُ الْخَطِرَةُ الرَّدِيئَةُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ وَهُوَ صَوْتُ الْحُلِيِّ، وَالْهَمْسُ الْخَفِيُّ قَالَ: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) (٢٠: ١٢٠) وَقَالَ: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ) (١١٤: ٤) وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَسْوَاسٌ اهـ. فَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ هِيَ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَوْ أَرْوَاحِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مِرَارًا. وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ لِآدَمَ وَزَوْجِهِ وَكَلَّمَهُمَا وَأَقْسَمَ لَهُمَا، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَمَنْ جَعَلَ الْقِصَّةَ تَمْثِيلًا لِبَيَانِ حَالِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي تُنْقَلُ فِيهَا يُفَسِّرُ الْوَسْوَسَةَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِ الطُّفُولَةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ فِيهِ هَمًّا وَلَا نَصَبًا إِلَى طَوْرِ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ يَكُونُ كَثِيرَ التَّعَرُّضِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِهَا. وَقَدْ عَلَّلْتُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةَ بِأَنَّ غَايَتَهَا أَوْ غَرَضَهُ مِنْهَا أَنْ يُظْهِرَ لَهُمَا مَا غُطِّيَ وَسُتِرَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا يُقَالُ: وَارَى الشَّيْءَ إِذَا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، وُورِيَ الشَّيْءُ غُطِّيَ وَسُتِرَ، وَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَمْرٍ شَائِنٍ وَعَمَلٍ قَبِيحٍ. وَالسَّوْءَةُ السَّوْآءُ الْخَلَّةُ الْقَبِيحَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمُخَالِفَةُ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَسَوْءَةٌ لَكَ، وَوَقَعَتْ فِي السَّوْءَةِ السَّوْآءِ، قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ:
| لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّدِيمِ وَحُقَّتْ | يَا لِقَوْمِي لِلسَّوْءَةِ السَّوْآءِ |
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) (٢٠: ١٢١) وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) أَيْ وَقَالَ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ لَهُمَا: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنْ تَأْكُلَا مِنْهَا إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: اتِّقَاءِ
أَنْ تَكُونَا بِالْأَكْلِ مِنْهَا مَلَكَيْنِ، أَيْ كَالْمَلَكَيْنِ فِيمَا أُوتِيَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْخَصَائِصِ كَالْقُوَّةِ وَطُولِ الْبَقَاءِ وَعَدَمِ التَّأَثُّرِ بِفَوَاعِلِ الْكَوْنِ الْمُؤْلِمَةِ وَالْمُتْعِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ " مَلِكَيْنِ " بِكَسْرِ اللَّامِ وَاسْتَشْهَدَ لَهُ الزَّجَّاجُ بِمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (٢٠: ١٢٠) وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ - أَوِ اتِّقَاءِ أَنْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فِي الْجَنَّةِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يَمُوتُونَ أَلْبَتَّةَ. وَأَوْهَمَهُمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يُعْطِي الْآكِلَ صِفَةَ الْمَلَائِكَةِ وَغَرَائِزَهُمْ وَيَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي الْحَيَاةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى آدَمَ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ مِنَ الْعَالِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ دُونَ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ الْمُسَخَّرِينَ لِتَدْبِيرِ أُمُورِهَا الَّذِينَ كَانَ مَعْنَى سُجُودِهِمْ لَهُ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لِنَوْعِهِ جَمِيعَ قُوَى الْأَرْضِ وَعَوَالِمِهَا - وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ هُمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلَّ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى عَدَمِ سُجُودِ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) (٣٨: ٧٥) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَالِينَ خَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ.
(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ادَّعَى اللَّعِينُ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ مَحَلَّ الظَّنَّةِ فِي نُصْحِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا. أَكَّدَ دَعْوَاهُ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ وَأَغْلَظِهَا، وَهِيَ الْقَسَمُ وَإِنَّ وَاللَّامُ وَتَقْدِيمُ (لَكُمَا) عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الدَّالُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَأَقْسَمَ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ كَقَاسَمَهُ الْمَالَ، أَيْ أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا قِسْمًا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّيغَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ فَاعَلَ وَرَدَتْ لِلْمُفْرَدِ كَثِيرًا وَهَذَا مِنْهَا فَمَعْنَاهُ: وَحَلَفَ لَهُمَا، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى أَصْلِهَا وَوَجَّهُوهُ بِوُجُوهٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا أَقْسَمَا لَهُ أَنَّهُمَا يَقْبَلَانِ نَصِيحَتَهُ إِذَا أَقْسَمَ أَنَّهُ نَاصِحٌ: وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمَا طَلَبَا مِنْهُ
الْقَسَمَ فَجَعَلَ طَلَبَهُمَا الْقَسَمَ كَالْقَسَمِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِثْلُ هَذَا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُقْسِمَ لَهُمَا وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسِمَا لَهُ وَبَنَى قَسَمَهُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَأْلُوفِ.
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) دَلَّى الشَّيْءَ تَدْلِيَةً - أَرْسَلَهُ إِلَى الْأَسْفَلِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا لِأَنَّ فِي الصِّيغَةِ مَعْنَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ - أَيْ فَمَا زَالَ يَخْدَعُهُمَا بِالتَّرْغِيبِ فِي الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ بِذَلِكَ لَهُمَا بِهِ حَتَّى أَسْقَطَهُمَا وَحَطَّهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَطَاعَةِ الْفَاطِرِ بِمَا غَرَّهُمَا بِهِ، وَالْغُرُورُ الْخِدَاعُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) وَالْغَرَارَةِ (بِالْفَتْحِ) وَهُمْ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّجْرِبَةِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ
(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ادَّعَى اللَّعِينُ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلَمَّا كَانَ مَحَلَّ الظَّنَّةِ فِي نُصْحِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا. أَكَّدَ دَعْوَاهُ بِأَشَدِّ الْمُؤَكِّدَاتِ وَأَغْلَظِهَا، وَهِيَ الْقَسَمُ وَإِنَّ وَاللَّامُ وَتَقْدِيمُ (لَكُمَا) عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الدَّالُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَأَقْسَمَ لَهُمَا؛ فَإِنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمُشَارَكَةِ كَقَاسَمَهُ الْمَالَ، أَيْ أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا قِسْمًا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّيغَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ فَاعَلَ وَرَدَتْ لِلْمُفْرَدِ كَثِيرًا وَهَذَا مِنْهَا فَمَعْنَاهُ: وَحَلَفَ لَهُمَا، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ:
| وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ | مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا |
الْقَسَمَ فَجَعَلَ طَلَبَهُمَا الْقَسَمَ كَالْقَسَمِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِثْلُ هَذَا بِالنَّقْلِ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُقْسِمَ لَهُمَا وَطَلَبَ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسِمَا لَهُ وَبَنَى قَسَمَهُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَأْلُوفِ.
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) دَلَّى الشَّيْءَ تَدْلِيَةً - أَرْسَلَهُ إِلَى الْأَسْفَلِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا لِأَنَّ فِي الصِّيغَةِ مَعْنَى التَّدْرِيجِ أَوِ التَّكْثِيرِ - أَيْ فَمَا زَالَ يَخْدَعُهُمَا بِالتَّرْغِيبِ فِي الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ نَاصِحٌ بِذَلِكَ لَهُمَا بِهِ حَتَّى أَسْقَطَهُمَا وَحَطَّهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَطَاعَةِ الْفَاطِرِ بِمَا غَرَّهُمَا بِهِ، وَالْغُرُورُ الْخِدَاعُ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) وَالْغَرَارَةِ (بِالْفَتْحِ) وَهُمْ بِمَعْنَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّجْرِبَةِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ
(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) (٦: ١١٢) وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهِ بِخِدَاعِ الشَّيْطَانِ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقِيلَ: دَلَّاهُمَا حَالَ كَوْنِهِمَا مُتَلَبِّسِينَ بِغُرُورٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا اغْتَرَّا وَانْخَدَعَا بِقَسَمِهِ وَصَدَّقَا قَوْلَهُ لِاعْتِقَادِهِمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا، وَاسْتَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَا صَدَّقَاهُ وَاسْتَكْبَرَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّ تَصْدِيقَهُ كُفْرٌ، وَرَجَّحَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ بِتَزْيِينِ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ حُبَّ التَّجْرِبَةِ وَاسْتِكْشَافَ الْمَجْهُولِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْمَمْنُوعِ، فَجَاءَ الْوَسْوَاسُ نَافِخًا فِي نَارِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ مُذَكِّيًا لَهَا، مُثِيرًا لِلنَّفْسِ بِهَا إِلَى مُخَالَفَةِ النَّهْيِ، حَتَّى نَسِيَ آدَمُ عَهْدَ رَبِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعَزْمِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مُتَابَعَةِ امْرَأَتِهِ، وَيَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ تَأْثِيرِ شَيْطَانِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ: (وَلَقَدْ عَهِدَنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (٢٠: ١١٥) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ " وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي زَيَّنَتْ لَهُ الْأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فُطِرَتْ عَلَى تَزْيِينِ مَا تَشْتَهِيهِ لِلرَّجُلِ وَلَوْ بِالْخِيَانَةِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِنَزْعِ الْعِرْقِ أَيِ الْوِرَاثَةِ.
(فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أَيْ فَلَمَّا ذَاقَا ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ظَهَرَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوْءَتُهُ وَسَوْءَةُ صَاحِبِهِ وَكَانَتْ مُوَارَاةً عَنْهُمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مِنَ الظُّفْرِ كَانَ يَسْتُرُهُمَا فَسَقَطَ عَنْهُمَا، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فِي رُءُوسِ أَصَابِعِهِمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مَجْهُولٍ كَانَ اللهُ تَعَالَى أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: بِنُورِ كَانَ يَحْجُبُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنِ
الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى ظُهُورِهَا لَهُمَا أَنَّ شَهْوَةَ التَّنَاسُلِ دَبَّتْ فِيهِمَا بِتَأْثِيرِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَبَّهَتْهُمَا إِلَى مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالْحَاجَةِ إِلَى سِتْرِهَا، وَشَرَعَا يَخْصِفَانِ أَيْ يَلْزَقَانِ أَوْ يَضَعَانِ وَيَرْبِطَانِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا مِنْ وَرَقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ الْعَرِيضِ مَا يَسْتُرُهَا - مِنْ خَصْفِ الْإِسْكَافِيِّ النَّعْلَ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا - فَالْمُوَارَاةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ حِسِّيَّةً فَمَا ثَمَّ إِلَّا الشَّعْرُ سَاتِرٌ خِلْقِيٌّ، وَقَدْ تُظْهِرُ الشَّهْوَةُ مَا أَخْفَاهُ الشَّعْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ الْأَكْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي شَرْحِ حَقِيقَتِهَا وَغَرَائِزِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِكِتَابِهِ.
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ وَقَالَ لَهُمَا رَبُّهُمَا الَّذِي يُرَبِّيهِمَا فِي طَوْرِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُرَبِّيهِمَا فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أَنْ تَقْرَبَاهَا، وَأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا مِنَ الْخَلْقِ، بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ ظَاهِرُهَا فَلَا تُطِيعَاهُ يُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ الْعَيْشُ
(فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أَيْ فَلَمَّا ذَاقَا ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ظَهَرَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَوْءَتُهُ وَسَوْءَةُ صَاحِبِهِ وَكَانَتْ مُوَارَاةً عَنْهُمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مِنَ الظُّفْرِ كَانَ يَسْتُرُهُمَا فَسَقَطَ عَنْهُمَا، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فِي رُءُوسِ أَصَابِعِهِمَا، قِيلَ: بِلِبَاسٍ مَجْهُولٍ كَانَ اللهُ تَعَالَى أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: بِنُورِ كَانَ يَحْجُبُهُمَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنِ
الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى ظُهُورِهَا لَهُمَا أَنَّ شَهْوَةَ التَّنَاسُلِ دَبَّتْ فِيهِمَا بِتَأْثِيرِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَبَّهَتْهُمَا إِلَى مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلَا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالْحَاجَةِ إِلَى سِتْرِهَا، وَشَرَعَا يَخْصِفَانِ أَيْ يَلْزَقَانِ أَوْ يَضَعَانِ وَيَرْبِطَانِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا مِنْ وَرَقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ الْعَرِيضِ مَا يَسْتُرُهَا - مِنْ خَصْفِ الْإِسْكَافِيِّ النَّعْلَ إِذَا وَضَعَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا - فَالْمُوَارَاةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ حِسِّيَّةً فَمَا ثَمَّ إِلَّا الشَّعْرُ سَاتِرٌ خِلْقِيٌّ، وَقَدْ تُظْهِرُ الشَّهْوَةُ مَا أَخْفَاهُ الشَّعْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ الْأَكْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي شَرْحِ حَقِيقَتِهَا وَغَرَائِزِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَخَلْقِهِ وَقَدَرِهِ أَصْدَقُ شَاهِدٍ لِكِتَابِهِ.
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ وَقَالَ لَهُمَا رَبُّهُمَا الَّذِي يُرَبِّيهِمَا فِي طَوْرِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، كَمَا يُرَبِّيهِمَا فِي حَالِ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أَنْ تَقْرَبَاهَا، وَأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَكُمَا دُونَ غَيْرِكُمَا مِنَ الْخَلْقِ، بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ ظَاهِرُهَا فَلَا تُطِيعَاهُ يُخْرِجُكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ الْعَيْشُ
الرَّغْدُ إِلَى حَيْثُ الشَّقَاءُ فِي الْمَعِيشَةِ وَالتَّعَبُ فِي جِهَادِ الْحَيَاةِ! وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ طه: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدْوٌ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (٢٠: ١١٧) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا سَوَاءً مَا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ.
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَذَكَّرَا نَهْيَ الرَّبِّ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ وَعِصْيَانِنَا لَكَ كَمَا أَنْذَرْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْنَا ضَعْفَنَا وَعَجَزْنَا عَنِ الْتِزَامِ عَزَائِمِ الطَّاعَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا نَظْلِمُ بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِهِدَايَتِكَ لَنَا وَتَوْفِيقِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ، وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْجَهَالَةِ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَبِقَبُولِنَا إِذَا نَحْنُ تُبْنَا إِلَيْكَ، وَبِإِعْطَائِكَ إِيَّانَا مِنْ فَضْلِكَ، فَوْقَ مَا نَسْتَحِقُّ بِعَدْلِكَ، فَوَحَقِّكَ لَنَكُونَنَّ إِذًا مِنَ الْخَاسِرِينَ لِأَنْفُسِنَا وَلِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِتَزْكِيَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَتَّبِعُ سَبِيلَكَ، دُونَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ وَيَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ كَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. الَّذِي أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَاحْتَجَّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَصَرَّ.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ مَعْنَى كَلِمَاتِ آدَمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّهِ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢: ٣٧) قَالَهَا خَاشِعًا مُتَضَرِّعًا وَتَبِعَتْهُ زَوْجُهُ بِهَا، فَحَذْفُهُمَا لِمَفْعُولِ (تَغْفِرْ) - إِذْ لَمْ يَقُولَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا ذَنْبَنَا هَذَا أَوْ ظُلْمَنَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلَّقَا النَّجَاةَ مِنَ الْخُسْرَانِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَشْمَلُ هَذَا الذَّنْبَ وَغَيْرَهُ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يَتُوبُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ بَيَانِ حَالِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُبَيَّنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي حَمْلِ الْإِنْسَانِ لِلْأَمَانَةِ، وَكَوْنِهِ كَانَ بِذَلِكَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) إِلَخْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ قَدْ عُوقِبَا عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالتَّشْهِيرِ الدَّائِمِ بِإِعْلَامِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّتَهُمَا بِهِ، وَهَاكَ مَا أَجَابَهُمَا الرَّبُّ تَعَالَى بِهِ، إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ السُّؤَالِ عَنْهُ:
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَالْمَلَامُ، أَيِ اهْبِطُوا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَكَانَةِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ - بَعْضُكُمْ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، عَدُوٌّ لِبَعْضٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ عَدُوًّا لِلشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَفِعًا إِلَى إِغْوَائِهِ وَإِيذَائِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ عَدُوًّا بِأَلَّا يَغْفَلَ عَنْ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَلَا يَأْمَنَ وَسْوَسَتَهُ وَإِغْوَاءَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخَذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٣٥: ٦) وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَذَكَّرَا نَهْيَ الرَّبِّ لَهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ وَعِصْيَانِنَا لَكَ كَمَا أَنْذَرْتَنَا، وَقَدْ عَرَفْنَا ضَعْفَنَا وَعَجَزْنَا عَنِ الْتِزَامِ عَزَائِمِ الطَّاعَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا نَظْلِمُ بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِهِدَايَتِكَ لَنَا وَتَوْفِيقِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ، وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْجَهَالَةِ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَبِقَبُولِنَا إِذَا نَحْنُ تُبْنَا إِلَيْكَ، وَبِإِعْطَائِكَ إِيَّانَا مِنْ فَضْلِكَ، فَوْقَ مَا نَسْتَحِقُّ بِعَدْلِكَ، فَوَحَقِّكَ لَنَكُونَنَّ إِذًا مِنَ الْخَاسِرِينَ لِأَنْفُسِنَا وَلِلسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِتَزْكِيَتِهَا، وَإِنَّمَا يَنَالُ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ بِمَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَتَّبِعُ سَبِيلَكَ، دُونَ مَنْ يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ وَيَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ كَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. الَّذِي أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَاحْتَجَّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَصَرَّ.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ مَعْنَى كَلِمَاتِ آدَمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّهِ، وَهِيَ الَّتِي أُشِيرُ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢: ٣٧) قَالَهَا خَاشِعًا مُتَضَرِّعًا وَتَبِعَتْهُ زَوْجُهُ بِهَا، فَحَذْفُهُمَا لِمَفْعُولِ (تَغْفِرْ) - إِذْ لَمْ يَقُولَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا ذَنْبَنَا هَذَا أَوْ ظُلْمَنَا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلَّقَا النَّجَاةَ مِنَ الْخُسْرَانِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَشْمَلُ هَذَا الذَّنْبَ وَغَيْرَهُ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يَتُوبُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ بَيَانِ حَالِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُبَيَّنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَآيَةِ الْأَحْزَابِ فِي حَمْلِ الْإِنْسَانِ لِلْأَمَانَةِ، وَكَوْنِهِ كَانَ بِذَلِكَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) إِلَخْ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ قَدْ عُوقِبَا عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِالتَّشْهِيرِ الدَّائِمِ بِإِعْلَامِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّتَهُمَا بِهِ، وَهَاكَ مَا أَجَابَهُمَا الرَّبُّ تَعَالَى بِهِ، إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ السُّؤَالِ عَنْهُ:
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَالْمَلَامُ، أَيِ اهْبِطُوا مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْمَكَانَةِ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْلِيسَ - بَعْضُكُمْ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، عَدُوٌّ لِبَعْضٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ عَدُوًّا لِلشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَفِعًا إِلَى إِغْوَائِهِ وَإِيذَائِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ عَدُوًّا بِأَلَّا يَغْفَلَ عَنْ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَلَا يَأْمَنَ وَسْوَسَتَهُ وَإِغْوَاءَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخَذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٣٥: ٦) وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا
بِالذَّاتِ وَلِذُرِّيَّتِهِمَا بِالتَّبَعِ وَفِيهِ خِطَابُ الْمَعْدُومِ - وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُمَا فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا) (٢٠: ١٢٣) إِلَخْ. وَفِي هَذِهِ التَّثْنِيَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لِآدَمَ وَحَوَّاءَ. وَالثَّانِي أَنَّهَا لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَحَوَّاءُ تَبَعٌ لِآدَمَ، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَ الْمُخَاطَبِينَ عَدُوًّا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ، لَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ الَّتِي خُلِقَتْ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ، فَعَجَبًا لِمَنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا! وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَرِيقَيِ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا الْإِخْرَاجَ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ عِقَابٌ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَأْوِيلٌ لِكَوْنِهَا ظُلْمًا مِنْهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْعِقَابِ الَّذِي قَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي طَبِيعَةِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْعَمَلِ السَّيِّئِ، مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الْآخَرُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى
الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ غَفَرَهُ تَعَالَى لَهُمَا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَجَعَلَتْهَا مَحَلًّا لِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (٢٠: ١٢١، ١٢٢).
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ اسْتِقْرَارٌ أَوْ مَكَانٌ تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمَتَاعٌ تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعِيشَتِكُمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ زَمَنٍ مُقَدَّرٍ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ أَعْمَارُكُمْ وَتَقُومُ بِهِ قِيَامَتُكُمْ، وَالْمُسْتَقَرُّ يُطْلَقُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْهُ، وَالْمَتَاعُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ هُنَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) فَهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُنَا فِيمَا خَاطَبَ بِهِ آخِرَنَا عَلَى لِسَانِ آخَرِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَهُ لِأَوَّلِنَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ الْمُجْمَلَ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتَأْنَفَهُ كَسَابِقِهِ وَهُوَ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتُمْ مِنْهَا تَحْيَوْنَ مُدَّةَ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لِكُلٍّ مِنْكُمْ وَلِمَجْمُوعِ نَوْعِكُمْ - أَوْ نَوْعَيْكُمْ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَعِنْدَمَا يُرِيدُ الْخَالِقُ أَنْ يَبْعَثَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (٢٠: ٥٥) وَهِيَ تُشْبِهُ النَّشْأَةَ الْأُولَى إِذْ قَالَ: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧: ٢٩) وَقَالَ مُذَكِّرًا بِهَا: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (٥٦: ٦٠ - ٦٢).
الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ غَفَرَهُ تَعَالَى لَهُمَا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ بِأَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَجَعَلَتْهَا مَحَلًّا لِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (٢٠: ١٢١، ١٢٢).
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ اسْتِقْرَارٌ أَوْ مَكَانٌ تَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَمَتَاعٌ تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَعِيشَتِكُمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ زَمَنٍ مُقَدَّرٍ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ أَعْمَارُكُمْ وَتَقُومُ بِهِ قِيَامَتُكُمْ، وَالْمُسْتَقَرُّ يُطْلَقُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْهُ، وَالْمَتَاعُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَهَذَا الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَتَاعُ هُنَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) فَهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُنَا فِيمَا خَاطَبَ بِهِ آخِرَنَا عَلَى لِسَانِ آخَرِ رُسُلِهِ وَخَاتَمِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَهُ لِأَوَّلِنَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ الْمُجْمَلَ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْهُ فَاسْتَأْنَفَهُ كَسَابِقِهِ وَهُوَ (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتُمْ مِنْهَا تَحْيَوْنَ مُدَّةَ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لِكُلٍّ مِنْكُمْ وَلِمَجْمُوعِ نَوْعِكُمْ - أَوْ نَوْعَيْكُمْ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَمِيعِ وَعِنْدَمَا يُرِيدُ الْخَالِقُ أَنْ يَبْعَثَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (٢٠: ٥٥) وَهِيَ تُشْبِهُ النَّشْأَةَ الْأُولَى إِذْ قَالَ: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧: ٢٩) وَقَالَ مُذَكِّرًا بِهَا: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (٥٦: ٦٠ - ٦٢).
313
مَغْزَى الْقِصَّةِ وَالْعِبْرَةُ فِيهَا
قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا
إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (٢٠: ١٢٣ - ١٢٦) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَكِتَابُ اللهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ تَمِيمٌ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ.
قَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ اللهَ قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، بِمَا يُبَيِّنُ لَنَا سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي فِطْرَتِنَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ شُكْرِهِ وَطَاعَتِهِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِ غَرَائِزِهَا، وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا مَعَ مَا يُفَسِّرُهَا وَيُوَضِّحُهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَعِدًّا لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَادَّةِ لِمَنَافِعِهِ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مُظْهِرًا لِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَتَعَلُّقِهَا بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَأَنَّهُ كَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأَوْلَى فِي جَنَّةٍ مِنَ النَّعِيمِ وَرَاحَةِ الْبَالِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ، الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُظْهِرًا لِلصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ، كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْمُنْتَقِمِ وَالْغَافِرِ، كَانَتْ نَفْسُهُ مُسْتَعِدَّةً لِلتَّأْثِيرِ بِالْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا
إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَبِالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَجْذِبُهَا إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّأَثُّرِ الْأَوَّلِ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ بِمَا تَقْبَلُهُ طَبِيعَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَاقِبَةُ الثَّانِي شَقَاءُ الدَّارَيْنِ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِيهِمَا، وَيَحْتَاجُ الْبَشَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى هِدَايَةِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْهَادِيَةِ إِلَى اتِّقَاءِ الْأَوَّلِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هَدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (٢٠: ١٢٣ - ١٢٦) وَنَحْوِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَهَذَا أَثَرُ الدِّينِ فِي الْحِفْظِ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَهَلَاكِ الْآخِرَةِ، وَكِتَابُ اللهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَا يُصَدِّقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِهِمْ، وَمَنْ يُفَسِّرُونَهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْثِيلًا لِبَيَانِ هَذِهِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ وَالشَّيَاطِينِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآدَمَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ بِاسْمِ أَصْلِهَا وَجَدِّهَا الْأَشْهَرِ فَنَقُولُ فَعَلَتْ قُرَيْشٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ تَمِيمٌ: كَيْتَ وَكَيْتَ، وَتَكُونُ الْجَنَّةُ عِبَارَةً عَنْ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، وَالشَّجَرَةُ عِبَارَةً عَنِ الْغَرِيزَةِ الَّتِي تُثْمِرُ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُخَالَفَةَ، كَمَا مَثَّلَ كَلِمَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ وَالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرَ قَدَرٍ وَتَكْوِينٍ، لَا أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَتَكْلِيفٍ، وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ شَرْحًا بَلِيغًا يُرَاجَعُ هُنَالِكَ، وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَذْهَانِ مَنْ يَعْسُرُ إِقْنَاعُهُمْ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبَيَانِ.
314
هَذَا مُلَخَّصُ مَضْمُونِ الْقِصَّةِ أَوْ مُلَخَّصُ بَقِيَّتِهَا، وَأَمَّا مُلَخَّصُ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا بِغَرَائِزِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْكَمَالِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا دُونَهُ مِنَ الْمَوَانِعِ فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ إِلَى النَّقَائِصِ، وَأَنَّ أَنْفَعَ مَا يُعِينُنَا عَلَى تَرْبِيَّتِهَا عَهْدُ اللهِ إِلَيْنَا بِأَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ، وَأَلَّا نَعْبُدَ مَعَهُ الشَّيْطَانَ وَلَا غَيْرَهُ، وَأَنْ نَذْكُرَهُ وَلَا نَنْسَاهُ فَنَنْسَى أَنْفُسَنَا، وَنَغْفُلُ عَنْ تَزْكِيَتِهَا، وَصَقْلِهَا بِصِقَالِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا عَرَضَ لَهَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ مَا يُلَوِّثُهَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُتْرَكْ صَارَ صَدَأً وَطَبْعًا مُفْسِدًا لَهَا، وَمَا أَفْسَدَ أَنْفُسَ الْبَشَرِ وَدَسَّاهَا إِلَّا غَفْلَةُ عُقُولِهِمْ
وَبَصَائِرِهِمْ عَنْهَا، وَتَرْكُهَا كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ أَهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينَ الضَّلَالَاتِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَتَهَا، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَا عَسَاهُ يَمْلِكُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ، وَأَعْلَاقِ الذَّخَائِرِ، فَإِنَّ حِرْصَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَبْذُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي أَحْقَرِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهَا أَقْصَى مَا تَسْمُو إِلَيْهِ هِمَّتُهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَيُحَاسِبُهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا بَذَلَتْ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ مَا يَصُدُّهَا عَنْهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْوَسَاوِسِ، وَيَنْصُبُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآرَاءِ وَالْخَوَاطِرِ، لِيَعْرِفَ كُنْهَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَيَلْتَزِمَهُمَا، وَأَضْدَادِهِمَا مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فَيَجْتَنِبَهُمَا. وَلِيَتَدَبَّرَ مَا قَفَّى بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْقِصَّةِ مِنَ الْوَصَايَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ.
الْإِشْكَالَاتُ فِي الْقِصَّةِ:
قَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الْإِشْكَالَاتِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّمَحُّلَاتِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَأَنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومُونَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَأَغْوَاهُ؟ وَكَيْفَ أَقْسَمَ لَهُ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يُخَالِفُ خَبَرَ اللهِ؟ وَكَيْفَ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ خَالِدًا فَطَمِعَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْبَعْثِ؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَكَيْفَ أَطَاعَهُ؟ وَهَلِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرُ وُجُوبٍ أَمْ إِبَاحَةٍ؟ وَهَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ - إِلَخْ. مَا هُنَالِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ كَانَتْ صُورِيَّةً. وَزَعَمَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْكَشْفِ أَوْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - فَأَمَّا عَلَى جَعْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَجَعْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّكْوِينِ لَا لِلتَّكْلِيفِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَمَا جَلَّيْنَاهُ فِيهِ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا رَسُولًا عِنْدَ بَدْءِ خَلْقِهِ اتِّفَاقًا، وَلَا مَوْضِعَ لِلرِّسَالَةِ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّسُلِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مُطْلَقًا، وَأَنَّ أَوَّلَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعِصْمَةُ
وَبَصَائِرِهِمْ عَنْهَا، وَتَرْكُهَا كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ أَهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينَ الضَّلَالَاتِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَتَهَا، وَيَحْرِصَ عَلَيْهَا أَشَدَّ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى مَا عَسَاهُ يَمْلِكُ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ، وَأَعْلَاقِ الذَّخَائِرِ، فَإِنَّ حِرْصَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ يَبْذُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي أَحْقَرِ مَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْلُبَ لَهَا أَقْصَى مَا تَسْمُو إِلَيْهِ هِمَّتُهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَيُحَاسِبُهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى مَا بَذَلَتْ مِنَ السَّعْيِ لِذَلِكَ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ مَا يَصُدُّهَا عَنْهُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْوَسَاوِسِ، وَيَنْصُبُ الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآرَاءِ وَالْخَوَاطِرِ، لِيَعْرِفَ كُنْهَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَيَلْتَزِمَهُمَا، وَأَضْدَادِهِمَا مِنَ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ فَيَجْتَنِبَهُمَا. وَلِيَتَدَبَّرَ مَا قَفَّى بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ عَلَى الْقِصَّةِ مِنَ الْوَصَايَا فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ.
الْإِشْكَالَاتُ فِي الْقِصَّةِ:
قَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الْإِشْكَالَاتِ، وَالْجَوَابِ عَنْهَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّمَحُّلَاتِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَأَنَّ الرُّسُلَ مَعْصُومُونَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَأَغْوَاهُ؟ وَكَيْفَ أَقْسَمَ لَهُ فَصَدَّقَهُ فِيمَا يُخَالِفُ خَبَرَ اللهِ؟ وَكَيْفَ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ خَالِدًا فَطَمِعَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْبَعْثِ؟ وَإِذَا كَانَ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَكَيْفَ أَطَاعَهُ؟ وَهَلِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ أَمْرُ وُجُوبٍ أَمْ إِبَاحَةٍ؟ وَهَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ - إِلَخْ. مَا هُنَالِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ كَانَتْ صُورِيَّةً. وَزَعَمَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْكَشْفِ أَوْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ. وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - فَأَمَّا عَلَى جَعْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَجَعْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلتَّكْوِينِ لَا لِلتَّكْلِيفِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَمَا جَلَّيْنَاهُ فِيهِ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا رَسُولًا عِنْدَ بَدْءِ خَلْقِهِ اتِّفَاقًا، وَلَا مَوْضِعَ لِلرِّسَالَةِ فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الرُّسُلِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مُطْلَقًا، وَأَنَّ أَوَّلَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعِصْمَةُ
315
الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَّا عَنْ بَعْضِ الرَّوَافِضِ. وَلَا يَظْهَرُ دَلِيلُ الْعِصْمَةِ وَلَا حِكْمَتُهَا فِيهِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ يَخَافُ مِنْ سُوءِ الْأُسْوَةِ عَلَيْهِ.
هَذَا مَا أَلْهَمَهُ تَعَالَى مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ
مَعَ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، وَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخْرَى فِي الْقِصَّةِ وَمَا يُنَاسِبُهَا. وَلَمْ نُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْآرَاءِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِ اللهِ وَلَا قَوْلِ رَسُولِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ إِذْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَوْ جُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا، وَقَدْ فُتِنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِنَقْلِهَا، كَقِصَّةِ الْحَيَّةِ وَدُخُولِ إِبْلِيسَ فِيهَا وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَوَّاءَ مِنَ الْحِوَارِ.
كَلِمَةٌ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَغَيْرِهَا
وَمَنْ أَرَادَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِيَعْلَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عِنْدَنَا وَمَا عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يُرَاجِعَ هُنَا سَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ الَّذِي نَشَرْنَاهُ مِنْهَا - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ أَحْيَلُ حَيَوَانِ الْبَرِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِحَوَّاءَ إِنَّهَا هِيَ وَزَوْجَهَا لَا يَمُوتَانِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَالَ لَهُمَا الرَّبُّ، بَلْ يَصِيرَانِ كَآلِهَةٍ يَعْرِفَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَأَنَّ حَوَّاءَ رَأَتْ أَنَّ الشَّجَرَةَ طَيِّبَةُ الْأَكْلِ بَهْجَةُ الْمَنْظَرِ مُنْيَةٌ لِلنَّفْسِ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا وَأَطْعَمَتْ زَوْجَهَا فَأَكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ فَخَاطَا لِأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ مِنْ وَرَقِ التِّينِ " فَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَهُوَ مُتَمَشٍّ فِي الْجَنَّةِ " فَاخْتَبَآ مِنْ وَجْهِهِ بَيْنَ الشَّجَرِ. فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ، فَاعْتَذَرَ بِتَوَارِيهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَسَأَلَهُ مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عُرْيَانٌ وَهَلْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَطْعَمَتْهُ. وَسَأَلَ الرَّبُّ الْمَرْأَةَ فَاعْتَذَرَتْ بِإِغْوَاءِ الْحَيَّةِ لَهَا " ١٤ فَقَالَ الرَّبُّ الْإِلَهُ لِلْحَيَّةِ: إِذْ صَنَعْتِ هَذَا فَأَنْتِ مَلْعُونَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَجَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِيَّةِ، عَلَى صَدْرِكِ تَمْشِينَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِكِ ١٥ وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَرْصُدِينَ عَقِبَهُ " وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إِنَّهُ يَكْثُرُ مَشَقَّاتُ حَمْلِهَا وَآلَامُ وِلَادَتِهَا وَأَنَّهَا تَنْقَادُ إِلَى بَعْلِهَا وَهُوَ يَسُودُهَا. وَقَالَ لِآدَمَ إِنَّ الْأَرْضَ مَلْعُونَةٌ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بِمَشَقَّةٍ يَأْكُلُ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَيَعْرَقُ وَجْهُهُ يَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى يَعُودَ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ " ٢٢ هُوَ ذَا آدَمُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ فَيَحْيَا إِلَى الدَّهْرِ ٣ فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَحْرُثَ الْأَرْضَ الَّتِي
أُخِذَ مِنْهَا " اهـ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا تَرَى وَلَيْسَ فِيمَا وَرَدَ فِي
هَذَا مَا أَلْهَمَهُ تَعَالَى مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُسْلُوبُ الْعَرَبِيُّ
مَعَ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، وَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْأُخْرَى فِي الْقِصَّةِ وَمَا يُنَاسِبُهَا. وَلَمْ نُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْآرَاءِ الْمَشْهُورَةِ، الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِ اللهِ وَلَا قَوْلِ رَسُولِهِ، وَلَا مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ إِذْ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَوْ جُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا، وَقَدْ فُتِنَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِنَقْلِهَا، كَقِصَّةِ الْحَيَّةِ وَدُخُولِ إِبْلِيسَ فِيهَا وَمَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَوَّاءَ مِنَ الْحِوَارِ.
كَلِمَةٌ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَغَيْرِهَا
وَمَنْ أَرَادَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِيَعْلَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا عِنْدَنَا وَمَا عِنْدَهُمْ - بِأَنْ يُرَاجِعَ هُنَا سَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ الَّذِي نَشَرْنَاهُ مِنْهَا - فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ أَحْيَلُ حَيَوَانِ الْبَرِيَّةِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِحَوَّاءَ إِنَّهَا هِيَ وَزَوْجَهَا لَا يَمُوتَانِ إِذَا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَالَ لَهُمَا الرَّبُّ، بَلْ يَصِيرَانِ كَآلِهَةٍ يَعْرِفَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَأَنَّ حَوَّاءَ رَأَتْ أَنَّ الشَّجَرَةَ طَيِّبَةُ الْأَكْلِ بَهْجَةُ الْمَنْظَرِ مُنْيَةٌ لِلنَّفْسِ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا وَأَطْعَمَتْ زَوْجَهَا فَأَكَلَ، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ فَخَاطَا لِأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ مِنْ وَرَقِ التِّينِ " فَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الْإِلَهِ وَهُوَ مُتَمَشٍّ فِي الْجَنَّةِ " فَاخْتَبَآ مِنْ وَجْهِهِ بَيْنَ الشَّجَرِ. فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ، فَاعْتَذَرَ بِتَوَارِيهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَسَأَلَهُ مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عُرْيَانٌ وَهَلْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَطْعَمَتْهُ. وَسَأَلَ الرَّبُّ الْمَرْأَةَ فَاعْتَذَرَتْ بِإِغْوَاءِ الْحَيَّةِ لَهَا " ١٤ فَقَالَ الرَّبُّ الْإِلَهُ لِلْحَيَّةِ: إِذْ صَنَعْتِ هَذَا فَأَنْتِ مَلْعُونَةٌ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَجَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِيَّةِ، عَلَى صَدْرِكِ تَمْشِينَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِكِ ١٥ وَأَجْعَلُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَرْصُدِينَ عَقِبَهُ " وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إِنَّهُ يَكْثُرُ مَشَقَّاتُ حَمْلِهَا وَآلَامُ وِلَادَتِهَا وَأَنَّهَا تَنْقَادُ إِلَى بَعْلِهَا وَهُوَ يَسُودُهَا. وَقَالَ لِآدَمَ إِنَّ الْأَرْضَ مَلْعُونَةٌ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بِمَشَقَّةٍ يَأْكُلُ طُولَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَيَعْرَقُ وَجْهُهُ يَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى يَعُودَ إِلَى التُّرَابِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ " ٢٢ هُوَ ذَا آدَمُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا يَعْرِفُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ فَيَحْيَا إِلَى الدَّهْرِ ٣ فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَحْرُثَ الْأَرْضَ الَّتِي
أُخِذَ مِنْهَا " اهـ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا تَرَى وَلَيْسَ فِيمَا وَرَدَ فِي
316
الْقُرْآنِ شَيْءٌ مُشْكِلٌ فِيهَا. وَقَدْ صَرَّحَ النَّصَارَى مِنْهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ دَخَلَ فِي الْحَيَّةِ وَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى إِغْوَاءِ حَوَّاءَ، وَنَقَلَ عَنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِمَا يُخَالِفُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَا يَغُرَنَّكَ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَكْثَرُهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِلْكَيْدِ لَهُ، وَكَذَا الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ. كَانَ الرُّوَاةُ يَنْقُلُونَ عَنِ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ مَا مَصْدَرُهُ عِنْدَهُ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَيَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. فَيَعُدُّونَهُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا لَا يُخَالِفُ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَيَنْقُلُونَ رِوَايَاتِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ. فَصَارَ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ الْمُخَالِفِ مِنَ الْمُوَافِقِ إِلَّا عَلَى أَسَاطِينِ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ. وَكُلَّمَا قَلَّ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمَّةِ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ بِالتَّسْلِيمِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا. وَزَادُوا وَنَقَصُوا. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَلَا نُصَدِّقُ رِوَايَاتِهِمْ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا حَرَّفُوهُ أَوْ زَادُوهُ، وَلَا نُكَذِّبُهَا لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا أُوتُوهُ فَحَفِظُوهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا صَحَّ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ زَنَادِقَتِهِمْ، وَيَقِلُّ فِي صَحِيحِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَإِنْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي تُرْوَى أَكْثَرُ أَحَادِيثِهِ عَنْعَنَةً وَأَقَلُّهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالسَّمَاعِ وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كِتَابٌ فِي فَنِّ التَّفْسِيرِ نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ بَحْثًا طَوِيلًا فِي الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَالَ إِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا. وَمِنْهُ فَصْلٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ - وَهُوَ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ - وَقَدْ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: -
" فَمَا كَانَ مِنْهُ مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِلَ، وَمَا لَا بِأَنْ نُقِلَ
عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ (أَيْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُمَا مِنْ خِيَارِهِمْ عِنْدَ الرُّوَاةِ وَمُعْظَمُ الْخُرَافَاتِ وَالْأَكَاذِيبِ نُقِلَتْ عَنْهُمَا) وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَا يَغُرَنَّكَ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي تَفْصِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَأَكْثَرُهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْخُوذٌ مِنْ تِلْكَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِلْكَيْدِ لَهُ، وَكَذَا الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ. كَانَ الرُّوَاةُ يَنْقُلُونَ عَنِ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ مَا مَصْدَرُهُ عِنْدَهُ هَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَيَغْتَرُّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ. فَيَعُدُّونَهُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ. حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ عَنْ بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا لَا يُخَالِفُ كَلَامَ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَيَنْقُلُونَ رِوَايَاتِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ. فَصَارَ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ الْمُخَالِفِ مِنَ الْمُوَافِقِ إِلَّا عَلَى أَسَاطِينِ الْعُلَمَاءِ الْوَاسِعِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ حَقَّ الْفَهْمِ. وَكُلَّمَا قَلَّ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمَّةِ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ بِالتَّسْلِيمِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا. وَزَادُوا وَنَقَصُوا. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، فَلَا نُصَدِّقُ رِوَايَاتِهِمْ لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا حَرَّفُوهُ أَوْ زَادُوهُ، وَلَا نُكَذِّبُهَا لِئَلَّا تَكُونَ مِمَّا أُوتُوهُ فَحَفِظُوهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا صَحَّ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَكْثَرَ الرُّوَاةُ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ زَنَادِقَتِهِمْ، وَيَقِلُّ فِي صَحِيحِ الْمَأْثُورِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا هُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَإِنْ رَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي تُرْوَى أَكْثَرُ أَحَادِيثِهِ عَنْعَنَةً وَأَقَلُّهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالسَّمَاعِ وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كِتَابٌ فِي فَنِّ التَّفْسِيرِ نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ بَحْثًا طَوِيلًا فِي الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَالَ إِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا. وَمِنْهُ فَصْلٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ قِسْمَانِ: مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ - وَهُوَ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ - وَقَدْ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: -
" فَمَا كَانَ مِنْهُ مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِلَ، وَمَا لَا بِأَنْ نُقِلَ
عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ (أَيْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُمَا مِنْ خِيَارِهِمْ عِنْدَ الرُّوَاةِ وَمُعْظَمُ الْخُرَافَاتِ وَالْأَكَاذِيبِ نُقِلَتْ عَنْهُمَا) وُقِفَ عَنْ تَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَكَذَا مَا نُقِلَ
317
عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّحَابِيِّ بِمَا يَقُولُهُ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟ وَأَمَّا الْقَسَمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ " اهـ
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)
بَعْدَ أَنَّ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ قِصَّةَ نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى وَمَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهَا هَذِهِ النَّصَائِحَ الْهَادِيَةَ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ طُرُقِ تَرْبِيَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ - كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ تَنَاسُبِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ السِّيَاقِ - فَقَالَ:
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) الرِّيشُ: لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ، وَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ كَالطَّيْرِ فِي كَثْرَةِ أَنْوَاعِ رِيشِهَا وَبَهْجَةِ مَنَاظِرِهَا وَتَعَدُّدِ أَلْوَانِهَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَالزِّينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ (وَرِيَاشًا) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. قِيلَ: الرِّيَاشُ جَمْعُ رِيشٍ، فَهُوَ كَشِعْبٍ
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)
بَعْدَ أَنَّ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ قِصَّةَ نَشْأَتِهِمُ الْأُولَى وَمَا خُلِقُوا مُسْتَعِدِّينَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ، رَتَّبَ عَلَيْهَا هَذِهِ النَّصَائِحَ الْهَادِيَةَ لَهُمْ إِلَى أَقْوَمِ طُرُقِ تَرْبِيَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ - كَمَا قُلْنَا فِي بَيَانِ تَنَاسُبِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ السِّيَاقِ - فَقَالَ:
(يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) الرِّيشُ: لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ، وَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ كَالطَّيْرِ فِي كَثْرَةِ أَنْوَاعِ رِيشِهَا وَبَهْجَةِ مَنَاظِرِهَا وَتَعَدُّدِ أَلْوَانِهَا. فَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ الْمَنَافِعِ، وَالزِّينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ (وَرِيَاشًا) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. قِيلَ: الرِّيَاشُ جَمْعُ رِيشٍ، فَهُوَ كَشِعْبٍ
318
وَشِعَابٍ وَذِئْبٍ وَذِئَابٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الرِّيشُ وَالرِّيَاشُ بِمَعْنَى كَاللِّبْسِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ الرِّيَاشُ مُخْتَصٌّ بِالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيشُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ رَاشَهُ اللهُ يَرِيشُهُ رِيَاشًا وَرِيشًا. كَمَا يُقَالُ لَبِسَهُ يَلْبَسُهُ لِبَاسًا وَلِبْسًا (بِكَسْرِ اللَّامِ) (ثُمَّ قَالَ) وَالرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ الْمَتَاعِ مِمَّا يُلْبَسُ أَوْ يُحْشَى مِنْ فِرَاشٍ أَوْ دِثَارٍ وَالرِّيشُ إِنَّمَا هُوَ الْمَتَاعُ وَالْأَمْوَالُ عِنْدَهُمْ. وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي الثِّيَابِ وَالْكُسْوَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَالِ، يَقُولُونَ: أَعْطَاهُ سَرْجًا بِرِيشِهِ - أَيْ بِكُسْوَتِهِ وَجَهَازِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَحَسَنُ رِيشِ الثِّيَابِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرِّيَاشُ فِي الْخِصْبِ وَرَفَاهَةِ الْعَيْشِ. ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مَا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الرِّيشَ الْمَالُ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ الْمَعَاشُ أَوِ الْجَمَالُ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَالزِّينَةِ مَعًا، بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِلِبَاسِ السَّتْرِ الَّذِي يُوَارِي الْعَوْرَاتِ وَلِبَاسِ التَّقْوَى.
خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْبَعِيدُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ عَرَبُهُمْ وَعَجَمُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالشِّرْعَةِ الْقَوِيمَةِ، تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، بِمَا يَقْرَعُ الْآذَانَ، فَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ أَنْ أَنْبَأَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ عُرْيِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِ - بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِ وَأَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَدْنَى الَّذِي يَسْتُرُ السَّوْءَةَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ إِلَى أَنْوَاعِ الْحُلَلِ الَّتِي تُشْبِهُ رِيشَ الطَّيْرِ فِي وِقَايَةِ الْبَدَنِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ وَالْجِمَالِ اللَّائِقَةِ بِجَمِيعِ ذُكْرَانِ الْبَشَرِ وَإِنَاثِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْنَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ عُلُوِّ سَمَائِنَا بِتَدْبِيرِنَا لِأُمُورِكُمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِنَا،
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَهُوَ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلُّهُ الَّذِي يُعَدُّ فَاقِدُهُ ذَلِيلًا مَهِينًا - وَرِيشًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَسَاجِدِكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ وَمَجَامِعِكُمْ، وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَكْمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَا يَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَالِامْتِنَانُ بِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْأُسْلُوبِ، أَوْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ بِطْرِيقِ الْمَنْطُوقِ عَلَى مَا اخْتَرْنَا آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ مَا ذُكِرَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِبَنِي آدَمَ مَادَّتَهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَرِيشِ الطَّيْرِ وَالْحَرِيرِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَّمَهُمْ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَسَائِلَ صُنْعِ اللِّبَاسِ مِنْهَا كَالزِّرَاعَةِ وَالْغَزْلِ وَالنَّسْجِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَإِنَّ مِنَنَهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَاتِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافُ مِنَنِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ شُعُوبِ بَنِي آدَمَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُمْ لَهُ أَعْظَمَ، فَقَدْ بَلَغَ مِنْ إِتْقَانِ صِنَاعَاتِ اللِّبَاسِ أَنَّ عَاهِلَ أَلْمَانِيَّةَ الْأَخِيرَ (قَيْصَرَهَا) دَخَلَ مَرَّةً أَحَدَ مَعَامِلِ الثِّيَابِ لِيُشَاهِدَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنَ
خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْبَعِيدُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ عَرَبُهُمْ وَعَجَمُهُمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالشِّرْعَةِ الْقَوِيمَةِ، تَنْبِيهًا لِلْأَذْهَانِ، بِمَا يَقْرَعُ الْآذَانَ، فَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ - بَعْدَ أَنْ أَنْبَأَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ عُرْيِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِ - بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِ وَأَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَدْنَى الَّذِي يَسْتُرُ السَّوْءَةَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ إِلَى أَنْوَاعِ الْحُلَلِ الَّتِي تُشْبِهُ رِيشَ الطَّيْرِ فِي وِقَايَةِ الْبَدَنِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِسَتْرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ وَالْجِمَالِ اللَّائِقَةِ بِجَمِيعِ ذُكْرَانِ الْبَشَرِ وَإِنَاثِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْنَانِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ إِنَّا بِمَا لَنَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ مِنْ عُلُوِّ سَمَائِنَا بِتَدْبِيرِنَا لِأُمُورِكُمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِنَا،
لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَهُوَ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلُّهُ الَّذِي يُعَدُّ فَاقِدُهُ ذَلِيلًا مَهِينًا - وَرِيشًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ فِي مَسَاجِدِكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ وَمَجَامِعِكُمْ، وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَكْمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا لِبَاسُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَا يَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَالِامْتِنَانُ بِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الِامْتِنَانِ بِمَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْأُسْلُوبِ، أَوْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ بِطْرِيقِ الْمَنْطُوقِ عَلَى مَا اخْتَرْنَا آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ مَا ذُكِرَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِبَنِي آدَمَ مَادَّتَهُ مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَرِيشِ الطَّيْرِ وَالْحَرِيرِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَّمَهُمْ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَسَائِلَ صُنْعِ اللِّبَاسِ مِنْهَا كَالزِّرَاعَةِ وَالْغَزْلِ وَالنَّسْجِ وَالْخِيَاطَةِ.
وَإِنَّ مِنَنَهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَاتِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَضْعَافُ مِنَنِهِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ شُعُوبِ بَنِي آدَمَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُمْ لَهُ أَعْظَمَ، فَقَدْ بَلَغَ مِنْ إِتْقَانِ صِنَاعَاتِ اللِّبَاسِ أَنَّ عَاهِلَ أَلْمَانِيَّةَ الْأَخِيرَ (قَيْصَرَهَا) دَخَلَ مَرَّةً أَحَدَ مَعَامِلِ الثِّيَابِ لِيُشَاهِدَ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنَ
319
الْإِتْقَانِ فَجَزُّوا أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ صُوفَ بَعْضِ أَكْبَاشِ الْغَنَمِ - وَلَمَّا انْتَهَى مِنَ التِّجْوَالِ فِي الْمَعْمَلِ وَمُشَاهَدَةِ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ فِيهِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ قَدَّمُوا لَهُ مِعْطَفًا لِيَلْبَسَهُ تِذْكَارًا لِهَذِهِ الزِّيَارَةِ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ صُنِعَ مِنَ الصُّوفِ الَّذِي جَزُّوهُ أَمَامَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ - فَهُمْ قَدْ نَظَّفُوهُ فِي الْآلَاتِ الْمُنَظِّفَةِ فَغَزَلُوهُ بِآلَاتِ الْغَزْلِ فَنَسَجُوهُ بِآلَاتِ النَّسْجِ فَفَصَلُوهُ فَخَاطُوهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ الْقَصِيرَةِ فَانْتَقَلَ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ مِنْ ظَهْرِ الْخَرُوفِ إِلَى ظَهْرِ الْإِمْبِرَاطُورِ.
وَامْتِنَانُهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ بِلِبَاسِ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (١٨: ٧) وَإِنْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِحْسَانَ الْعَمَلِ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ بِالزُّهْدِ فِيهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَيُنَاقِضُ غَرَائِزَهَا، بَلْ هُوَ مُهَذِّبٌ وَمُكَمِّلٌ لَهَا. وَحُبُّ الزِّينَةِ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الدَّافِعَةِ لَهُمْ إِلَى إِظْهَارِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلِيقَةِ وَأَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (٧: ٣٢) فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى كَوْنِهَا ابْتِلَاءً أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ بِهَا طَالِبَهَا مَا يَقْصِدُ مِنْهَا؟ وَوَاجِدَهَا أَيَشْكُرُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَمَاذَا يَقْصِدُ وَيَنْوِي بِتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ مِنْهَا. وَفَاقِدُهَا أَيَصْبِرُ عَلَى
فَقْدِهَا أَمْ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ وَحَاسِدًا لِأَهْلِهَا؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) فَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ اللِّبَاسُ الْمَعْنَوِيُّ الْمَجَازِيُّ. فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ عَيَّنَ التَّقْوَى - أَيِ اللِّبَاسُ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى - وَذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَقَالَ: يَتَّقِي اللهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ تَفْسِيرُهُ بِالْإِسْلَامِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنَ الرِّيشِ وَاللِّبَاسِ وَعَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ الْحَيَاءُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ. وَمُرَادُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ طِيبِ السَّرِيرَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَهُ. وَرَوَوْا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ عَمَلًا سِرًّا إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهُ عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي أَنَّهُ قَالَ وَرِيَاشًا وَلَمْ يَقُلْ وَرِيشًا، وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ بِمَا يَلْبَسُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَا: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَلْبَسُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا. هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ مُلَخَّصَةٌ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، فَفِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَرْبِ: الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَالْآلَاتُ الَّتِي يُتَّقَى
وَامْتِنَانُهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ بِلِبَاسِ الزِّينَةِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (١٨: ٧) وَإِنْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِحْسَانَ الْعَمَلِ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ بِالزُّهْدِ فِيهَا. ذَلِكَ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهَا وَيُنَاقِضُ غَرَائِزَهَا، بَلْ هُوَ مُهَذِّبٌ وَمُكَمِّلٌ لَهَا. وَحُبُّ الزِّينَةِ مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ الدَّافِعَةِ لَهُمْ إِلَى إِظْهَارِ سُنَنِ اللهِ فِي الْخَلِيقَةِ وَأَنْوَاعِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ فِي تَفْسِيرِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (٧: ٣٢) فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى كَوْنِهَا ابْتِلَاءً أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُ بِهَا طَالِبَهَا مَا يَقْصِدُ مِنْهَا؟ وَوَاجِدَهَا أَيَشْكُرُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهَا، وَمَاذَا يَقْصِدُ وَيَنْوِي بِتَرْكِ مَا يَتْرُكُهُ مِنْهَا. وَفَاقِدُهَا أَيَصْبِرُ عَلَى
فَقْدِهَا أَمْ يَكُونُ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ وَحَاسِدًا لِأَهْلِهَا؟
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) فَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ اللِّبَاسُ الْمَعْنَوِيُّ الْمَجَازِيُّ. فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ عَيَّنَ التَّقْوَى - أَيِ اللِّبَاسُ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى - وَذَكَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَقَالَ: يَتَّقِي اللهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ تَفْسِيرُهُ بِالْإِسْلَامِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. قَالَ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ خَيْرٌ مِنَ الرِّيشِ وَاللِّبَاسِ وَعَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ الْحَيَاءُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ. وَمُرَادُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ طِيبِ السَّرِيرَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَهُ. وَرَوَوْا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا يُؤَيِّدُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ عَمَلًا سِرًّا إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهُ عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي أَنَّهُ قَالَ وَرِيَاشًا وَلَمْ يَقُلْ وَرِيشًا، وَفَسَّرَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ بِمَا يَلْبَسُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَا: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَلْبَسُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللِّبَاسَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى، ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدُّنْيَا. هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ مُلَخَّصَةٌ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الْحِسِّيِّ الْحَقِيقِيِّ، فَفِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُ لِبَاسُ الْحَرْبِ: الدِّرْعُ وَالْمِغْفَرُ وَالْآلَاتُ الَّتِي يُتَّقَى
320
بِهَا الْعَدُوُّ. وَاخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (١٦: ٨١) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي دَاوُدَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (٢١: ٨٠) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا مِنِ اسْتِعْمَالِ التَّقْوَى هُنَا فِيمَا يَعُمُّ هَذَا وَذَاكَ. أَيْ تَقْوَى اللهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَتَقْوَى فَتْكِ الْعَدُوِّ بِلَبْسِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَنَحْوِهِمَا، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَارَضُ مَدْلُولَاتُهَا فِي الِاشْتِرَاكِ وَفِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ. وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ فِي لِبَاسِ التَّقْوَى أَنَّهُ لِبَاسُ النُّسُكِ وَالتَّوَاضُعِ كَدُرُوعِ الصُّوفِ وَمُرَقَّعَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا بَعْضُ الْعُبَّادِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرٌّ لَا خَيْرٌ لِأَنَّهَا لِبَاسُ شَهْوَةٍ وَشُهْرَةٍ مَذْمُومَةٍ. وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ مِنَ الثِّيَابِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرِّيشُ.
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ نِعَمِ اللهِ بِإِنْزَالِ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ إِحْسَانِهِ إِلَى بَنِي آدَمَ وَكَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُعِدَّهُمْ وَتُؤَهِّلَهُمْ لِتَذَكُّرِ فَضْلِهِ وَمِنَنِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهَا، وَاتِّقَاءِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ بِإِبْدَاءِ الْعَوْرَاتِ تَارَةً وَبِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ تَارَةً أُخْرَى، وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَوَافِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ عُرَاةً وَمَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الضَّمِيرِ فِي الرَّبْطِ. وَجَعَلَ جُمْلَةَ (ذَلِكَ خَيْرٌ) خَبَرًا لِقَوْلِهِ: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا بِتَكْرَارِ الْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْلِ (ذَلِكَ) صِفَةَ لِبَاسٍ وَمِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا لَهُ.
(يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ. وَتَكْرَارُ النِّدَاءِ فِي مَقَامِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ مِنْ أَقْوَى أَسَالِيبِ التَّنْبِيهِ وَالتَّأْثِيرِ، يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْعُرُ بِهِ فِي قَلْبِهِ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ قِصَّةُ الْجِنِّ مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِذْ جَاءَ فِيهَا الْوَعْظُ وَالْإِنْذَارُ بِتَكْرَارِ النِّدَاءِ: يَا قَوْمَنَا.... يَا قَوْمَنَا.... وَوَعْظُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: يَا قَوْمِ..... يَا قَوْمِ..... وَقَدْ فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نِسْبَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْجَدِّ الَّذِي صَارَ رَئِيسَ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي انْحَصَرَ نَسَبُهَا فِيهِ كَقُرَيْشٍ، وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، وَعُثْمَانَ مُؤَسِّسِ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ عَلِيٍّ الْكَبِيرِ مُؤَسِّسِ دَوْلَةِ مِصْرَ الْجَدِيدَةِ. أَوِ الَّذِي لَهُ صِفَةٌ مُمْتَازَةٌ يَقْتَضِي الْمَقَامُ تَذْكِيرَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِهَا لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِيهَا أَوْ لِلتَّعْرِيضِ
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ نِعَمِ اللهِ بِإِنْزَالِ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ إِحْسَانِهِ إِلَى بَنِي آدَمَ وَكَثْرَةِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُعِدَّهُمْ وَتُؤَهِّلَهُمْ لِتَذَكُّرِ فَضْلِهِ وَمِنَنِهِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهَا، وَاتِّقَاءِ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ بِإِبْدَاءِ الْعَوْرَاتِ تَارَةً وَبِالْإِسْرَافِ فِي الزِّينَةِ تَارَةً أُخْرَى، وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَوَافِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ عُرَاةً وَمَا لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الضَّمِيرِ فِي الرَّبْطِ. وَجَعَلَ جُمْلَةَ (ذَلِكَ خَيْرٌ) خَبَرًا لِقَوْلِهِ: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا بِتَكْرَارِ الْإِسْنَادِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْلِ (ذَلِكَ) صِفَةَ لِبَاسٍ وَمِنْهُمُ الزَّجَّاجُ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا لَهُ.
(يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ. وَتَكْرَارُ النِّدَاءِ فِي مَقَامِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ مِنْ أَقْوَى أَسَالِيبِ التَّنْبِيهِ وَالتَّأْثِيرِ، يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَشْعُرُ بِهِ فِي قَلْبِهِ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ قِصَّةُ الْجِنِّ مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ، إِذْ جَاءَ فِيهَا الْوَعْظُ وَالْإِنْذَارُ بِتَكْرَارِ النِّدَاءِ: يَا قَوْمَنَا.... يَا قَوْمَنَا.... وَوَعْظُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: يَا قَوْمِ..... يَا قَوْمِ..... وَقَدْ فَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ النِّدَاءِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نِسْبَةِ الْإِنْسَانِ إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِهِ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْجَدِّ الَّذِي صَارَ رَئِيسَ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي انْحَصَرَ نَسَبُهَا فِيهِ كَقُرَيْشٍ، وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، وَعُثْمَانَ مُؤَسِّسِ السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ عَلِيٍّ الْكَبِيرِ مُؤَسِّسِ دَوْلَةِ مِصْرَ الْجَدِيدَةِ. أَوِ الَّذِي لَهُ صِفَةٌ مُمْتَازَةٌ يَقْتَضِي الْمَقَامُ تَذْكِيرَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِهَا لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِيهَا أَوْ لِلتَّعْرِيضِ
321
بِتَجَرُّدِهِ مِنْهَا مَثَلًا. كَأَنْ تَقُولَ لِبَعْضِ أَحْفَادِ الْخِدِيوِي تَوْفِيقٍ يَا ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ هَذَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي مَقَامِ السَّخَاءِ وَسَعَةِ الْعَطَاءِ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا. وَلَوْ قُلْتَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا ابْنَ تَوْفِيقٍ كَانَ خَطَأً؛ فَإِنَّ تَوْفِيقًا لَمْ يَشْتَهِرْ بِصِفَةِ السَّخَاءِ وَكَثْرَةِ الْهِبَاتِ. وَتَسْمِيَةُ النَّاسِ أَبْنَاءَ آدَمَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَفِي كُلٍّ مِنْهَا تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ أَحَدُ الْأَجْدَادِ وَلَيْسَ هُوَ الْأَبُ. فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِالنِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَوْلَادِ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا عَرَضَهُمَا
عَلَى النَّارِ لِيَعْرِفَ الزَّيْفَ مِنَ النُّضَارِ. وَحَجَرُ الصَّائِغِ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ يُسَمَّى الْفَتَّانَةَ، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ بِالْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ غَالِبًا، وَقَدْ تَكُونُ بِالِاسْتِمَالَةِ بِالشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْسَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ.
وَمَعْنَى (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) : لَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَوَسْوَسَتِهِ لَكُمْ فَتُمَكِّنُوهُ بِذَلِكَ مِنْ خِدَاعِكُمْ بِهَا وَإِيقَاعِكُمْ فِي الْمَعَاصِي، كَمَا وَسْوَسَ لِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَزَيَّنَ لَهُمَا مَعْصِيَةَ رَبِّهِمَا. فَفَتَنَهُمَا حَتَّى عَصَيَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا عَنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَا يَتَمَتَّعَانِ بِنَعِيمِهَا، وَدَخَلَا فِي طَوْرٍ آخَرَ مِنَ الْحَيَاةِ يُكَابِدُونَ فِيهَا شَقَاءَ الْمَعِيشَةِ وَهُمُومَهَا وَأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَفْتُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَسْهَلُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَفَاوَتَ نَعِيمُ الْجَنَّتَيْنِ وَمُدَّةُ اللُّبْثِ فِيهِمَا.
(يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) أَيْ أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِعًا عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا - أَيْ سَبَبًا لِنَزْعِ مَا اتَّخَذَاهُ لِبَاسًا لَهُمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ أَنْ يُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أَوْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِرَاءَتَهُمَا سَوْآتِهِمَا دَائِمًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ أَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا عُرْيَانَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ ثِيَابٌ تُصْنَعُ وَمَا ثَمَّ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَيْثُ يُوجَدُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَكَانَ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجَا مِنْهَا؟ وَجَمِيعُ الْبَاحِثِينَ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَعَادِيَّاتِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّنَاعَاتِ يَعِيشُونَ عُرَاةً، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا اكْتَسَوْا بِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ وَجُلُودُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَصْطَادُونَهَا، وَلَا يَزَالُ فِي الْمُتَوَحِّشِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعْلُهُمْ (يَنْزِعُ) حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُخْرِجُ، وَمِثْلُهُ جَعَلَهُ حَالًا (مِنْ أَبَوَيْكُمْ) الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ مَا هَنَا عَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظُهُورِ سَوْآتِهِمَا لَهُمَا عَقِبَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ بَعْدَ سَتْرِهِمَا سَوْآتِهِمَا بِمَا خَصَفَا عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فَنُزِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ مُوَارًى فَظَهَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى.
وَالْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَتَنَ الصَّائِغُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِذَا عَرَضَهُمَا
عَلَى النَّارِ لِيَعْرِفَ الزَّيْفَ مِنَ النُّضَارِ. وَحَجَرُ الصَّائِغِ الَّذِي يَخْتَبِرُهُمَا بِهِ يُسَمَّى الْفَتَّانَةَ، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ بِالْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ غَالِبًا، وَقَدْ تَكُونُ بِالِاسْتِمَالَةِ بِالشَّهَوَاتِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْسَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ.
وَمَعْنَى (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) : لَا تَغْفُلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَوَسْوَسَتِهِ لَكُمْ فَتُمَكِّنُوهُ بِذَلِكَ مِنْ خِدَاعِكُمْ بِهَا وَإِيقَاعِكُمْ فِي الْمَعَاصِي، كَمَا وَسْوَسَ لِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَزَيَّنَ لَهُمَا مَعْصِيَةَ رَبِّهِمَا. فَفَتَنَهُمَا حَتَّى عَصَيَاهُ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا عَنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَا يَتَمَتَّعَانِ بِنَعِيمِهَا، وَدَخَلَا فِي طَوْرٍ آخَرَ مِنَ الْحَيَاةِ يُكَابِدُونَ فِيهَا شَقَاءَ الْمَعِيشَةِ وَهُمُومَهَا وَأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَفْتُونَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَسْهَلُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَفَاوَتَ نَعِيمُ الْجَنَّتَيْنِ وَمُدَّةُ اللُّبْثِ فِيهِمَا.
(يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) أَيْ أَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ حَالَ كَوْنِهِ نَازِعًا عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا - أَيْ سَبَبًا لِنَزْعِ مَا اتَّخَذَاهُ لِبَاسًا لَهُمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ أَنْ يُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا أَوْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِرَاءَتَهُمَا سَوْآتِهِمَا دَائِمًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ أَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا عُرْيَانَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ ثِيَابٌ تُصْنَعُ وَمَا ثَمَّ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَيْثُ يُوجَدُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَكَانَ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ ذُو وَرَقٍ عَرِيضٍ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُخْرِجَا مِنْهَا؟ وَجَمِيعُ الْبَاحِثِينَ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَعَادِيَّاتِ الْبَشَرِ وَآثَارِهِمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّنَاعَاتِ يَعِيشُونَ عُرَاةً، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا اكْتَسَوْا بِهِ وَرَقُ الشَّجَرِ وَجُلُودُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَصْطَادُونَهَا، وَلَا يَزَالُ فِي الْمُتَوَحِّشِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَعِيشُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَعْلُهُمْ (يَنْزِعُ) حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُخْرِجُ، وَمِثْلُهُ جَعَلَهُ حَالًا (مِنْ أَبَوَيْكُمْ) الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ يُخْرِجُ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ مَا هَنَا عَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظُهُورِ سَوْآتِهِمَا لَهُمَا عَقِبَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ بَعْدَ سَتْرِهِمَا سَوْآتِهِمَا بِمَا خَصَفَا عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِهَا، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فَنُزِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ مُوَارًى فَظَهَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ يَرَى.
322
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا اللِّبَاسُ حِسِّيًّا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَعْنَوِيًّا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ لِبَاسَهُمَا كَانَ الظُّفْرُ، وَأَنَّهُ نُزِعَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ تَذْكِرَةً وَزِينَةً، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا نُورٌ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ السَّوْءَتَيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّا
هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) قَالَ: التَّقْوَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ غَيْرَهَا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَارَ التَّفْوِيضُ وَتَرْكُ تَعْيِينِ ذَلِكَ اللِّبَاسِ.
وَهَذَا مَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ التَّعْيِينَ فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنَ الْمَعْصُومِ. وَأَمَّا مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَرَاهَةِ رُؤْيَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَوْءَةَ الْآخَرِ حَتَّى فِي خَلْوَةِ الْمُبَاعَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْفِطْرَةِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَلْ هُوَ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ شَدِيدٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهَا فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ الْحَلَّالِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا بِمَا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاحِ وَلَا حَجْرَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ. وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ فَآدَابٌ إِرْشَادِيَّةٌ لِلْخَوَاصِّ يَسْتَفِيدُ كُلٌّ مِنْهَا بِقَدْرِ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَدَرَجَةِ أَدَبِهِ وَفَضِيلَتِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى مِنْهَا وَلَا رَأَتْ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَعْلَ رُؤْيَةِ السَّوْءَةِ وَلَا سِيَّمَا بَاطِنُهَا مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا فَلَا يَحْسُنُ التَّمَادِي فِيهَا - مِمَّا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ تَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْعِنَانِ فِي الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ صَاحِبُهُ زِيَادَةَ اللَّذَّةِ فَيَصْدُقُ قَوْلُ الْأَمْثَالِ: مَنْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ وَقَعَ فِي النُّقْصَانِ. وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتِ الْآكِلَ وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ، وَمَا جَاوَزَ حَدَّهُ جَاوَرَ ضِدَّهُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ عَالِيَةٌ لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا حَكِيمٌ خَبِيرٌ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ مُنْتَهَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّةِ - وَإِنْ مُبَاحَةً - فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ أَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَلَا فِطْرِيٍّ وَلَا طِبِّيٍّ آلَ أَمْرُهُ فِي الْإِسْرَافِ إِلَى إِضْعَافِ هَذِهِ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِثَارَتِهَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا نَاقِصَةً وَيُكَرِّرُ إِضْعَافَهَا بَعْدَ إِثَارَتِهَا بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ حَتَّى تَكُونَ مَرَضًا. وَيَكُونُ صَاحِبُهَا حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُتْرَفِينَ سَيِّئِي الْهَضْمِ شَدِيدِي الْإِقْهَاءِ وَالطَّسِّيِّ يُكْثِرُونَ حَتَّى فِي سِنِّ الشَّبَابِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُحَرِّضَاتِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعَاجِينِ وَالْحُبُوبِ السَّامَّةِ
الَّتِي تُقَوِّي الْبَاهَ فَتَنْتَابُهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْهَرَمُ إِذَا لَمْ يُسْرِعِ الْحِمَامُ.
هُنَالِكَ أَنَّ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) قَالَ: التَّقْوَى. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ غَيْرَهَا، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَبَرٌ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ. وَاخْتَارَ التَّفْوِيضُ وَتَرْكُ تَعْيِينِ ذَلِكَ اللِّبَاسِ.
وَهَذَا مَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ فِي رَدِّ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ التَّعْيِينَ فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنَ الْمَعْصُومِ. وَأَمَّا مَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ، فَأَخَذْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى كَرَاهَةِ رُؤْيَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَوْءَةَ الْآخَرِ حَتَّى فِي خَلْوَةِ الْمُبَاعَلَةِ الزَّوْجِيَّةِ. وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِ الْفِطْرَةِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. هَلْ هُوَ الْكَرَاهَةُ أَوِ الْإِبَاحَةُ؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَرَاهَةِ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ شَدِيدٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الْفِطْرَةِ، وَحَجْرٌ عَلَيْهَا فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ الْحَلَّالِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا بِمَا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُبَاحِ وَلَا حَجْرَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ. وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ فَآدَابٌ إِرْشَادِيَّةٌ لِلْخَوَاصِّ يَسْتَفِيدُ كُلٌّ مِنْهَا بِقَدْرِ سَلَامَةِ فِطْرَتِهِ، وَدَرَجَةِ أَدَبِهِ وَفَضِيلَتِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى مِنْهَا وَلَا رَأَتْ مِنْهُ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَعْلَ رُؤْيَةِ السَّوْءَةِ وَلَا سِيَّمَا بَاطِنُهَا مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا فَلَا يَحْسُنُ التَّمَادِي فِيهَا - مِمَّا لَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ تَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْعِنَانِ فِي الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ صَاحِبُهُ زِيَادَةَ اللَّذَّةِ فَيَصْدُقُ قَوْلُ الْأَمْثَالِ: مَنْ طَلَبَ الزِّيَادَةَ وَقَعَ فِي النُّقْصَانِ. وَرُبَّ أَكْلَةٍ هَاضَتِ الْآكِلَ وَحَرَمَتْهُ مَآكِلَ، وَمَا جَاوَزَ حَدَّهُ جَاوَرَ ضِدَّهُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ حِكْمَةٌ عَالِيَةٌ لَا يَفْقَهُهَا إِلَّا حَكِيمٌ خَبِيرٌ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ مُنْتَهَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّذَّةِ - وَإِنْ مُبَاحَةً - فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ أَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَلَا فِطْرِيٍّ وَلَا طِبِّيٍّ آلَ أَمْرُهُ فِي الْإِسْرَافِ إِلَى إِضْعَافِ هَذِهِ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَحْتَاجَ فِي إِثَارَتِهَا إِلَى الْمُعَالَجَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا نَاقِصَةً وَيُكَرِّرُ إِضْعَافَهَا بَعْدَ إِثَارَتِهَا بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ حَتَّى تَكُونَ مَرَضًا. وَيَكُونُ صَاحِبُهَا حَرَضًا أَوْ يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَلِهَذَا تَرَى أَكْثَرَ الْمُتْرَفِينَ سَيِّئِي الْهَضْمِ شَدِيدِي الْإِقْهَاءِ وَالطَّسِّيِّ يُكْثِرُونَ حَتَّى فِي سِنِّ الشَّبَابِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُحَرِّضَاتِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعَاجِينِ وَالْحُبُوبِ السَّامَّةِ
الَّتِي تُقَوِّي الْبَاهَ فَتَنْتَابُهُمُ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْهَرَمُ إِذَا لَمْ يُسْرِعِ الْحِمَامُ.
323
(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِمَّا يَبْغِي مِنَ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ وَضَرَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَرَانَا هُوَ وَقَبِيلُهُ أَيْ جُنُودُهُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَلَا نَرَاهُمْ (وَأَصْلُ الْقَبِيلِ: الْجَمَاعَةُ كَالْقَبِيلَةِ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْقَبِيلَةَ بِمَنْ كَانَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَالْقَبِيلُ أَعَمُّ) وَ (حَيْثُ) ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُونَ غَيْرَ مَرْئِيِّينَ مِنْكُمْ، وَالضَّرَرُ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يُرَى كَانَ خَطَرُهُ أَكْبَرَ، وَوُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِاتِّقَائِهِ أَشَدَّ، كَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ بَعْضِ الْأَدْوَاءِ وَالْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَثْبُتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنَيْنِ بِالْمِجْهَرِ - أَيِ الْمِرْآةِ أَوِ النَّظَّارَةِ الْمُكَبِّرَةِ لِلْمَرْئِيَّاتِ - وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ مِنْهَا جِنَّةً مِنَ الدِّيدَانِ أَوِ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ تَنْفُذُ إِلَى الْبَدَنِ بِنَقْلِ الذُّبَابِ أَوِ الْبَعُوضِ أَوِ الْقَمْلِ أَوِ الْبَرَاغِيثِ، أَوْ مَعَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ أَوِ الْهَوَاءِ، فَتَتَوَالَدُ وَتُنَمَّى بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَى الْمَرْءِ رِئَتَهُ فِي دَاءِ السُّلِّ، وَأَمْعَاءَهُ فِي الْهَيْضَةِ الْوَبَائِيَّةِ، وَدَمَهُ فِي الطَّاعُونِ وَالْحُمَّيَاتِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى سَبَبِ الطَّاعُونِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، وَإِلَى دَاءِ السُّلِّ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَحَوُّلِ الْغُبَارِ فِي الصَّدْرِ إِلَى نَسَمَةٍ.
وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ: تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا. أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ
الْوَاقِيَةِ فِيهِ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ.
كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَأْثِيرَهَا فِي
وَفِعْلُ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِي أَنْفُسِ الْبَشَرِ كَفِعْلِ هَذِهِ الْجِنَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الْمَيَكْرُوبَاتِ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَجْسَامِ الْأَحْيَاءِ: تُؤَثِّرُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى فَتُتَّقَى. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا فِي اتِّقَاءِ ضَرَرِهَا بِنَصَائِحِ أَطِبَّاءِ الْأَبْدَانِ - وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَوْبِئَةِ - كَاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالتَّوَقِّي مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُلَوَّثِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمُصَابِينَ بِالْهَيْضَةِ أَوِ الْحُمَّى التَّيْفُوئِيدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يُغْلَى ثُمَّ يُحْفَظَ فِي آنِيَةٍ نَظِيفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ تِلْكَ الْجِنَّةَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يَرَاهَا الْأَطِبَّاءُ بِمُجَاهَرِهِمْ لَاتَّقَوْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْصِيَةٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَالْوِقَايَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّخَاذُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ طُرُوءَهَا مِنَ الْخَارِجِ، كَالَّذِي تَفْعَلُهُ الْحُكُومَاتُ فِي الْمَحَاجِرِ الصِّحِّيَّةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ وَمَدَاخِلِهَا، أَوْ فِي أَمْكِنَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا كَجَزَائِرِ الْبِحَارِ لِلْوِقَايَةِ الْعَامَّةِ لِلْبِلَادِ كُلِّهَا. أَوْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ مَا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْبُيُوتِ لِوِقَايَةِ بُيُوتِهِمْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَقْوِيَةُ الْأَبْدَانِ بِالْأَغْذِيَةِ الْجَيِّدَةِ وَالنَّظَافَةِ التَّامَّةِ لِتَقْوَى عَلَى مَنْعِ فَتْكِ هَذِهِ الْجِنَّةِ فِيهَا إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهَا، كَمَا يُتَّقَى تَوَلُّدُ السُّوسِ فِي حَبِّ الْحَصِيدِ بِتَجْفِيفِهِ وَوَضْعِ بَعْضِ الْمَوَادِّ
الْوَاقِيَةِ فِيهِ، وَكَمَا يُتَّقَى وُصُولُ الْعُثِّ إِلَى الثِّيَابِ الصُّوفِيَّةِ بِمَنْعِ وُصُولِ الْغُبَارِ إِلَيْهَا، أَوْ بِوَضْعِ الدَّوَاءِ الْمُسَمَّى بِالنَّفْتَالِينِ بَيْنَهَا، وَهُوَ يَقْتُلُ الْعُثَّ بِرَائِحَتِهِ.
كَذَلِكَ يَجِبُ الْأَخْذُ بِإِرْشَادِ طِبِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَرْوَاحِ فِي وِقَايَتِهَا مِنْ فَتْكِ جِنَّةِ الشَّيَاطِينِ فِيهَا بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلنَّاسِ الْأَبَاطِيلَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ فِي هَذَا الطِّبِّ لِشِدَّةِ ضَرَرِهَا - وَلَمْ يُحَرِّمِ الدِّينُ شَيْئًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا لِضَرَرِهِ وَإِفْسَادِهِ - فَإِنَّ مَدَاخِلَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَأْثِيرَهَا فِي
324
قُلُوبِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، كَدُخُولِ تِلْكَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَأْثِيرِهَا فِي أَعْضَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا تُرَى وَاتِّقَاؤُهَا كَاتِّقَائِهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ، وَحُبُّ الْحَقِّ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُخْلَصُونَ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٣٩ - ٤٢) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا آدَمُ وَزَوْجُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ
إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (٢٣) الْآيَةَ. وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠٠، ٢٠١) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ.
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ الْأَرْوَاحِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ حَتَّى تَرْسُخَ فِيهِ مَلَكَاتُ الْخَيْرِ، وَحُبُّ الْحَقِّ، وَكَرَاهَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ - فَحِينَئِذٍ تَبْعُدُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فَتَبْعُدُ عَنْهَا، وَلَا تُطِيقُ الدُّنُوَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُثِّ مَعَ الثَّوْبِ الْمُشَبَّعِ بِرَائِحَةِ النَّفْتَالِينِ، بَلِ الْجُعَلِ مَعَ عِطْرِ الْوَرْدِ أَوِ الْيَاسَمِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ هُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُخْلَصُونَ، الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَارِدَةِ بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١٥: ٣٩ - ٤٢) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ، وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فِي الْآيَةِ هُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْخِلْقَةِ الرُّوحِيَّةِ بِأَنَّ الرُّوحَ الْكَامِلَ الْمُهَذَّبَ بِالتَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيُكْرُوبَاتِ وَالْهَوَامَّ لَا تَجِدُ لَهَا مَأْوًى فِي الْأَجْسَادِ النَّظِيفَةِ الطَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي - مِنْ هَذِهِ التَّقْوَى - مَا يُعَالَجُ بِهِ الْوَسْوَاسُ بَعْدَ طُرُوئِهِ، كَمَا يُعَالَجُ الْمَرَضُ بَعْدَ حُدُوثِهِ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْهَوَامِّ الْخَفِيَّةِ فِيهِ، بِالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَقْتُلُهَا وَتَمْنَعُ امْتِدَادَ ضَرَرِهَا. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذَكُّرِ لِمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَنْ تُتْرَكَ الْمَعْصِيَةُ وَيُؤَدَّى الْوَاجِبُ وَيَتُوبُ الْعَاصِي كَمَا تَابَ أَبُونَا آدَمُ وَزَوْجُهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ
إِلَيْهِ بِاللِّسَانِ كَمَا فَعَلَ أَبَوَانَا بِقَوْلِهِمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (٢٣) الْآيَةَ. وَفَاقَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي تَأْثِيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَالَجَةِ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَفْكَارِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تُحْدِثُهَا هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠٠، ٢٠١) وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ فِرَارِ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِهِ مَا سَلَكَ فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَهُ.
325
قَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ تَأْثِيرِ الْأَحْيَاءِ الْخَفِيَّةِ الْمُجْتَنَّةِ فِي الْأَجْسَادِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَقَدْ أَعَدْنَاهُ هُنَا مُفَصَّلًا لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَقْوَى مَا يَرُدُّونَ بِهِ شُبَهَاتِ بَعْضِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنَّةِ وَالشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُمْ؛ أَوْ لِأَنَّ وَجُودَهُمْ بَعِيدٌ عَنِ النَّظَرِيَّاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَهُمُ الْخَبِيثَةَ الَّتِي يُنْكِرُونَ وَجُودَهَا أَيْضًا هِيَ أَوْسَعُ الْأَوْطَانِ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ صَحِيحًا وَأَصْلًا يَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لَمَّا بَحَثَ عَاقِلٌ فِي الدُّنْيَا عَمَّا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى الْمَجْهُولَةِ، وَلَمَا كُشِفَتْ هَذِهِ الْمَيُكْرُوبَاتُ الَّتِي ارْتَقَتْ بِهَا عُلُومُ الطِّبِّ وَالْجِرَاحَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا، وَلَا تَزَالُ قَابِلَةً لِلِارْتِقَاءِ بِكَشْفِ أَمْثَالِهَا، وَلَمَّا عُرِفَتِ الْكَهْرَبَاءُ الَّتِي أَحْدَثَ كَشْفُهَا هَذَا التَّأْثِيرَ الْعَظِيمَ فِي الْحَضَارَةِ، وَلَوْ لَمْ تُكْشَفْ هَذِهِ الْمَيْكُرُوبَاتُ وَأَخْبَرَ أَمْثَالَهُمْ بِهَا مُخْبِرٌ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ لِعَدُّوهُ مَجْنُونًا، وَجَزَمُوا بِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ أَحْيَاءٍ لَا تُرَى يُوجَدُ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ الصَّغِيرَةِ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْهَا، وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَبْدَانِ مِنْ خُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ أَوِ الْبُرْغُوثِ إِلَخْ. كَمَا أَنَّ مَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَهْرَبَاءِ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ، وَمَا تَعْرِفُهُ الشُّعُوبُ الْكَثِيرَةُ الْآنَ مِنْ تَخَاطُبِ النَّاسِ بِهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِآلَاتِ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ اللَّاسِلْكِيَّةِ - كُلُّهُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَقَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ.
فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ
تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا: إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ
فَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ فِي اتِّقَاءِ مَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ وَفِي الْمُعَالَجَةِ وَالتَّدَاوِي مِنْهَا إِلَّا إِذَا رَآهَا كَمَا يَرَوْنَهَا وَثَبَتَ عِنْدَهُ ضَرَرُهَا كَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ - فَإِنَّنَا نَعْذُرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ أَلَّا يَقْبَلَ أَحَدٌ قَوْلَ أَطِبَّاءِ الْأَرْوَاحِ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَوَرَثَتُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْهَادِينَ الْمُرْشِدِينَ فِي اتِّقَاءِ تَأْثِيرِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ، وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ سُوءِ
تَأْثِيرِهَا بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ - وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْعَقْلُ الْمَادِّيُّ الْمَأْلُوفُ قَاضِيًا عَلَى أَصْحَابِهِ الْمَسَاكِينِ بِفَسَادِ أَبْدَانِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ ثَبَتَتْ فَائِدَةُ طِبِّهِمْ وَأَدْوِيَتِهِمْ بِالتَّجْرِبَةِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ وَالتَّسْلِيمُ لَهُمْ بِمَا يَقُولُونَ - قُلْنَا: إِنَّ فَائِدَةَ طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ وَصَلَاحِ أَعْمَالِهِمْ أَشَدُّ ثُبُوتًا، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا يَقُولُهُ الْأَطِبَّاءُ. وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا بِنَظَرِيَّاتِ الْفِكْرِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي حِفْظِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَا يَجْنِي عَلَيْهِمْ كُفْرُهُمْ بِالطِّبِّ الرُّوحِيِّ الدِّينِيِّ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ جَمِيعًا، فَإِنَّ هَذَا الْكُفْرَ يَحْصُرُ هَمَّهُمْ فِي التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيُسْرِفُونَ فِيهَا بِمَا يُضْعِفُ أَبْدَانَهُمْ مَهْمَا تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِهَا عَظِيمَةً، دَعْ إِفْسَادَ أَخْلَاقِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ وَمَا يَجْنِيهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ وَعَلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا، وَنَاهِيكَ بِمَضَارِّ مَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ السُّكْرِ وَالزِّنَا وَالْقُمَارِ وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، فَلَوْ كَانَ الْخَوَنَةُ الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمُ الْأَجَانِبُ
326
أَعْوَانًا لَهُمْ عَلَى اسْتِعْبَادِ أُمَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ، مُعْتَصِمِينَ بِتَقْوَى اللهِ وَهَدْيِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ بِالْبَاطِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، لَمَا خَانُوا اللهَ وَخَانُوا أَمَانَةَ أُمَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمُ اتِّبَاعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَطَمَعًا فِي تَأَثُّلِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ لِأَوْلَادِهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٨: ٢٧، ٢٨).
بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ (فِي١٠ أَغُسْطُسَ سَنَةَ ١٩٠٣) وَكَتَبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ (ج ٣ م ٢٣ مِنَ الْمَنَارِ).
وَمِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى الْبَشَرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطِبِّ الدِّينِ الرُّوحِيِّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ لَا يَقِفُونَ فِيهَا عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهُ حَمَلَتُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ زَادُوا وَمَا زَالُوا يَزِيدُونَ فِيهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، مَا جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ وَفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَفِّرُونَهُمْ مِنْهُ - فَتَرَاهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْوَسْوَاسَ الضَّارَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ كَمَا يَجِبُ،
وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَضْلِيلَ الدَّجَّالِينَ وَالدَّجَّالَاتَ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُمْرِضُونَ الْأَجْسَادَ وَيَخْطِفُونَ الْأَطْفَالَ. وَأَنَّ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ صِلَةً بِهِمْ وَتَأْثِيرًا فِي حَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الضَّرَرِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى النَّفْعِ بِشِفَاءِ الْمَرْضَى وَرَدِّ الْمَفْقُودِينَ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْعُشَّاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّارُ الَّذِي يُخْرِجُونَ بِهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْأَجْسَادِ بِزَعْمِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْخُرَافَاتِ مَضَارٌّ وَرَزَايَا كَثِيرَةٌ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ. فَهِيَ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْمَادِّيِّينَ عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْجُهَّالِ وَالدَّجَّالِينَ. وَالدِّينُ لَمْ يُثْبِتْ لِلشَّيَاطِينِ مَا يَزْعُمُهُ الدَّجَّالُونَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّيَاطِينِ وَسْوَسَةً هِيَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا كَتَأْثِيرِ جِنَّةِ الْهَوَامِّ فِي الْأَجْسَادِ الْمُسْتَعِدَّةِ. وَأَنَّ مُقَاوَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرَوْنَ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَنْفُونَ مَا أَثْبَتَ كِتَابُ اللهِ وَيُثْبِتُونَ مَا نَفَاهُ. وَيَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى الْجِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (٧٢: ١) وَلَكِنْ
بَلْ قَالَ أَعْظَمُ فَيْلَسُوفٍ يَحْتَرِمُونَ عَقْلَهُ وَعِلْمَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ الَّتِي تَغَلَّبَتْ فِي أُورُبَّةَ عَلَى الْفَضَائِلِ قَدْ مَحَتِ الْحَقَّ مِنْ عُقُولِ أَهْلِهَا، فَلَا يَعْقِلُونَ مِنْهُ إِلَّا تَحْكِيمَ الْقُوَّةِ، وَسَتَتَخَبَّطُ بِهِ الْأُمَمُ وَيَتَخَبَّطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ هُوَ الْأَقْوَى فَيَكُونُ سُلْطَانَ الْعَالَمِ. هَذَا مَا سَمِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مِنَ الْفَيْلَسُوفِ هِرْبِرْتِ سِبِنْسَرْ (فِي١٠ أَغُسْطُسَ سَنَةَ ١٩٠٣) وَكَتَبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ زَادَنَا فِي رِوَايَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ لَهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ هَذِهِ الْحَرْبَ الْعَامَّةَ الْوَحْشِيَّةَ، وَيُعِدُّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ وَضِعْفِ الْفَضِيلَةِ. وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بِالْمَعْنَى مِنْ فَوَائِدَ أُخْرَى فِي رِحْلَتِنَا الْأُورُبِّيَّةِ (ج ٣ م ٢٣ مِنَ الْمَنَارِ).
وَمِنَ الْمَصَائِبِ عَلَى الْبَشَرِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِطِبِّ الدِّينِ الرُّوحِيِّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ لَا يَقِفُونَ فِيهَا عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهُ حَمَلَتُهُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ زَادُوا وَمَا زَالُوا يَزِيدُونَ فِيهِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، مَا جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ وَفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يُنَفِّرُونَهُمْ مِنْهُ - فَتَرَاهُمْ لَا يَتَّقُونَ الْوَسْوَاسَ الضَّارَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي خَوَاطِرِهِمْ كَمَا يَجِبُ،
وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَضْلِيلَ الدَّجَّالِينَ وَالدَّجَّالَاتَ، كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُمْرِضُونَ الْأَجْسَادَ وَيَخْطِفُونَ الْأَطْفَالَ. وَأَنَّ لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ صِلَةً بِهِمْ وَتَأْثِيرًا فِي حَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الضَّرَرِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى النَّفْعِ بِشِفَاءِ الْمَرْضَى وَرَدِّ الْمَفْقُودِينَ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْعُشَّاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّارُ الَّذِي يُخْرِجُونَ بِهِ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْأَجْسَادِ بِزَعْمِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْخُرَافَاتِ مَضَارٌّ وَرَزَايَا كَثِيرَةٌ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ. فَهِيَ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ كَبِيرَةٌ لِلْمَادِّيِّينَ عَلَى الْمُتَدَيِّنِينَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْجُهَّالِ وَالدَّجَّالِينَ. وَالدِّينُ لَمْ يُثْبِتْ لِلشَّيَاطِينِ مَا يَزْعُمُهُ الدَّجَّالُونَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى لِلشَّيَاطِينِ وَسْوَسَةً هِيَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا كَتَأْثِيرِ جِنَّةِ الْهَوَامِّ فِي الْأَجْسَادِ الْمُسْتَعِدَّةِ. وَأَنَّ مُقَاوَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرَوْنَ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ النَّاسُ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَنْفُونَ مَا أَثْبَتَ كِتَابُ اللهِ وَيُثْبِتُونَ مَا نَفَاهُ. وَيَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى الْجِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْهُ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) (٧٢: ١) وَلَكِنْ
327
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَآهُمْ، وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الشَّيَاطِينَ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَرَى أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَاصَّةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنْ صَاحِبِهِ الرَّبِيعِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ رَدَدْنَا شَهَادَتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ
الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرُؤْيَتِهِمْ عَلَى صُورَتِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفَتْ فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَشَكُّلِهِمْ بِالصُّوَرِ، فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُونَهُ وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ تَخْيِيلٌ كَتَخْيِيلِ سَحَرَةِ الْإِنْسِ - وَتَقَدَّمَ نَصُّ الرِّوَايَةِ فِي بَحْثِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيَاطِينِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِيهَا - وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تَخَيَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَلَا يَصُدَّنَّ عَنْهُ وَلْيَمْضِ قُدُمًا فَإِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَشَدُّ فَرَقًا مِنْكُمْ مِنْهُمْ " إِلَخْ. وَهُوَ صَحِيحٌ فِي كَوْنِ الشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ الْجِنِّ الْعَاقِلَةِ تَخَافُ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَرْقَى مِنْهُمْ، كَجِنِّ الْحَشَرَاتِ الَّذِينَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يَطِيرُ وَمِنْهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيمَا وَرَدَ فِي الْجِنِّ وَمَا قِيلَ فِيهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ
الْمَنَارِ وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِهَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ جَهَلَةِ الْعَوَامِّ بِالْبَاطِلِ، بِوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ وَوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، وَقَدْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنْهُمْ حَتَّى أَوْقَعُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَوْقَعُوهُمْ فِي ضَلَالَاتٍ كَثِيرَةٍ.
إِنَّ مَفَاسِدَ (الزَّارِ) كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ وَصَفْنَاهَا مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ. وَسَبَبُهَا اعْتِقَادُ الْكَثِيرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمَرِيضَاتِ بِأَمْرَاضٍ عَادِيَّةٍ - وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ عَصَبِيَّةً - أَنَّ الشَّيَاطِينَ قَدْ دَخَلَتْ فِي أَجْسَادِهِنَّ. وَأَنَّ صَانِعَاتِ الزَّارِ يُخْرِجْنَهُمْ مِنْهَا بِإِرْضَائِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالْقَرَابِينِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَزَالَهَا الْإِسْلَامُ بِإِصْلَاحِهِ، وَلَمَّا جُهِلَ الْإِسْلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ وَقَبَائِلِ الْبَدْوِ عَادَتْ إِلَى أَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنْ حَسَنَاتِ تَأْثِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُجَدِّدِ لِلْإِسْلَامِ فِي نَجْدٍ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْجِنِّ وَغَيْرِ الْجِنِّ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا أَهْلُ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ الْأَزْهَرِ هُنَا لَا يُعْنَوْنَ أَقَلَّ عِنَايَةٍ بِمُقَاوَمَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَا الْمَعَاصِي الْفَاشِيَةِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعَةً وَقَفْنَا عَلَيْهَا مِنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْتِينَا بِاللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ مِنْ رِيفِ الْجِيزَةِ. وَهِيَ أَنَّ وَلَدَهَا غَرِقَ فِي النِّيلِ فَسَأَلَتْ عَنْهُ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ فَأَخْبَرَهَا بِأَنَّ أَحَدَ الْأَسْيَادِ (أَيْ عَفَارِيتِ الْجِنِّ) أَنْقَذَهُ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ يَعِيشُ فِي ضِيقٍ وَشَظَفٍ، وَأَنَّهُ هُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَصِّلَ إِلَيْهِ مَا تَجُودُ بِهِ وَالِدَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ تُعْطِيهِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَمَامِ الْمَقْلِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ أُجْرَةً لِنَقْلِهِ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَصِلُ إِلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْعِفْرِيتِ الَّذِي أَخَذَهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا يُطْلِقُهُ بَعْدُ، وَمَا زَالَ أَهْلُ بَيْتِنَا يَنْصَحْنَ
328
لَهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ الدَّجَّالِ الْمُفْتَرِي الْمُحْتَالِ حَتَّى أَقْنَعْنَهَا بِكَذِبِهِ بَعْدَ أَنْ خَسِرَتْ كُلَّ مَا كَانَتْ تَرْبَحُهُ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي سَبِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَنَاجِيلَ أَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ وَتَصْرَعُهُمْ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (٢: ٢٧٥) وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَمْثِيلٌ حَكَى بِهِ مَا كَانَ مَأْلُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ دُونَ الْخُرَافِيِّينَ وَقَائِعُ فِيهِ كَوَقَائِعِ الْإِنْجِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أُسْتَاذِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَلْ تُنْكِرُ كُلَّ ذَلِكَ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ أَسَانِيدَ صَحِيحَةً مُتَّصِلَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا لَا حُجَّةَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا - وَإِنْ كَانَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ مِنْ أَجَلِّ الثِّقَاتِ عِنْدَنَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا بِالْجَزْمِ - فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهَا إِجْمَالٌ، هِيَ بِهِ قَابِلَةٌ لِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدَّجَّالِينَ الَّتِي يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَأَيْنَ دَجَلُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُحْتَالِينَ مِنْ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا، فَيَشْفِي عَلَى يَدَيْهِ مَصْرُوعًا أَلَمَّ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمْ لَمْ يُلِمَّ، وَمَا إِلْمَامُ الشَّيْطَانِ بِبَعْضِ النَّاسِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا حَتَّى نَحَارَ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَنَا بَلْ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُصْرَعُ أَصْحَابُهَا لَابَسَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا أَمْ لَا لَتُشْفَى بِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَبِتَأْثِيرِ إِرَادَةِ الْأَرْوَاحِ الْقَوِيَّةِ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَائِلَةً شِفَاءَهَا، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينَ يُدَارُونَ الْمَادِّيِّينَ أَوْ يُبَالُونَ بِإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ لَهُمْ، بَلْ نَرَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ يُفِيدُ فِي مَجْمُوعِهِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَا لَنَا لَا نَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِدُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَتَاتِ الِاتِّفَاقِ وَنَوَادِرِ الْمُصَادَفَاتِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِنَا (القلمون) فِي سُورِيَّةَ رَجُلٌ صَيَّادٌ اسْمُهُ (عُمَرُ كَسِنْ) رَمَى شَبَكَتَهُ لَيْلَةً فِي الْبَحْرِ فَسَمِعَ صَوْتًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ يُصْرَعُ، وَيُخَيَّلُ هُجُومُ فِئَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ مُتَّهِمِينَ إِيَّاهُ بِإِصَابَةِ فَتَاةٍ مِنْهُمْ، وَرَآنِي وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْحِسِّ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي كُنْتُ أَخْلُو فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ فِي حُجْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَبِيَدِي مِخْصَرَةٌ قَصِيرَةٌ مِنَ الْأَبَنُوسِ كُنْتُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا - وَلَمْ يَكُنْ رَأَى ذَلِكَ قَطُّ - رَآنِي أَطْرُدُ الْجِنَّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِخْصَرَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ ذَكَرُوا لِي أَمْرَهُ، ثُمَّ دَعَوْنِي إِلَى رُؤْيَتِهِ وَرُقْيَتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَذَهَبْتُ فَأَلْفَيْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مِمَّنْ
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَنَاجِيلَ أَثْبَتَتْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ وَتَصْرَعُهُمْ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخْرِجُ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (٢: ٢٧٥) وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ تَمْثِيلٌ حَكَى بِهِ مَا كَانَ مَأْلُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ دُونَ الْخُرَافِيِّينَ وَقَائِعُ فِيهِ كَوَقَائِعِ الْإِنْجِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أُسْتَاذِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَهَلْ تُنْكِرُ كُلَّ ذَلِكَ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟
فَالْجَوَابُ: إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ لِهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ أَسَانِيدَ صَحِيحَةً مُتَّصِلَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا أَلَّا نُصَدِّقَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ فِيمَا لَا حُجَّةَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا - وَإِنْ كَانَ شَيْخَا الْإِسْلَامِ مِنْ أَجَلِّ الثِّقَاتِ عِنْدَنَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا بِالْجَزْمِ - فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهَا إِجْمَالٌ، هِيَ بِهِ قَابِلَةٌ لِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدَّجَّالِينَ الَّتِي يُنْكِرُهَا الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَأَيْنَ دَجَلُ هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُحْتَالِينَ مِنْ مُعْجِزَةٍ أَوْ كَرَامَةٍ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا، فَيَشْفِي عَلَى يَدَيْهِ مَصْرُوعًا أَلَمَّ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمْ لَمْ يُلِمَّ، وَمَا إِلْمَامُ الشَّيْطَانِ بِبَعْضِ النَّاسِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا حَتَّى نَحَارَ فِي فَهْمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَنَا بَلْ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُصْرَعُ أَصْحَابُهَا لَابَسَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهَا أَمْ لَا لَتُشْفَى بِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ وَبِتَأْثِيرِ إِرَادَةِ الْأَرْوَاحِ الْقَوِيَّةِ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَائِلَةً شِفَاءَهَا، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينَ يُدَارُونَ الْمَادِّيِّينَ أَوْ يُبَالُونَ بِإِنْكَارِهِمْ لِكُلِّ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْحِسُّ لَهُمْ، بَلْ نَرَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كُلِّ الْأُمَمِ يُفِيدُ فِي مَجْمُوعِهِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَا لَنَا لَا نَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُعِدُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَلَتَاتِ الِاتِّفَاقِ وَنَوَادِرِ الْمُصَادَفَاتِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَلَدِنَا (القلمون) فِي سُورِيَّةَ رَجُلٌ صَيَّادٌ اسْمُهُ (عُمَرُ كَسِنْ) رَمَى شَبَكَتَهُ لَيْلَةً فِي الْبَحْرِ فَسَمِعَ صَوْتًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ فَمَا لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ يُصْرَعُ، وَيُخَيَّلُ هُجُومُ فِئَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَيْهِ يَضْرِبُونَهُ مُتَّهِمِينَ إِيَّاهُ بِإِصَابَةِ فَتَاةٍ مِنْهُمْ، وَرَآنِي وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْحِسِّ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي كُنْتُ أَخْلُو فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ فِي حُجْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَبِيَدِي مِخْصَرَةٌ قَصِيرَةٌ مِنَ الْأَبَنُوسِ كُنْتُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا - وَلَمْ يَكُنْ رَأَى ذَلِكَ قَطُّ - رَآنِي أَطْرُدُ الْجِنَّ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمِخْصَرَةِ، وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ ذَكَرُوا لِي أَمْرَهُ، ثُمَّ دَعَوْنِي إِلَى رُؤْيَتِهِ وَرُقْيَتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَذَهَبْتُ فَأَلْفَيْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ مِمَّنْ
329
حَوْلَهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: جَاءَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَشِيدٌ.... وَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَوَجَّهْتُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ وَخُشُوعٍ وَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى رَأْسِهِ وَقُلْتُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ هَذَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ لَا أَذْكُرُهُ وَشَفَاهُ تَعَالَى وَأَذْهَبَ عَنْهُ الرَّوْعَ ثَانِيَةً بِنَحْوِ مِمَّا أَذْهَبَهُ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَكِنَّنِي
لَمْ أَرَ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَرَانِي أُجَادِلُهُمْ وَأَذُودُهُمْ عَنْهُ، وَالْوَاقِعَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عِنْدِي، وَلَا أُعِدُّهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى كَوْنِ صَرْعِهِ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَنَا فِي الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَنْ شَهِدَهَا.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَاشِرُ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذَا الصَّرَعِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَحْدُثُ لَهُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ قَطُّ، وَمِنْهُمْ حَمُّودَهْ بِكْ أَخُو شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كُنْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعَاشَرَةً لَهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يُكْثِرُ زِيَارَتَهُمْ إِلَّا وَرَأَى حَمُّودَهْ يُصْرَعُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اشْتِدَادِ النَّوْبَاتِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِ الشَّيْخِ وَبَعْدِهِ، حَتَّى كَانَتْ رُبَّمَا تَتَعَدَّدُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَمْكُثُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَامِي. وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ صَدِيقُنَا مُحَمَّد شَرِيف الْفَارُوقِيُّ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - وَلَا أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْأَرْوَاحِ تَأْثِيرٌ فِي بَعْضٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا أَنْفِي عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوَادِرِ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يَنْقُلُونَ عَنْ جَدِّي الثَّالِثِ غَرَائِبَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَإِنَّنِي لَمْ أَذْكُرْ هَذَا إِلَّا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنِّي أَمِيلُ فِي تَشَدُّدِي فِي كَشْفِ غِشِّ الدَّجَّالِينَ إِلَى آرَاءِ الْمَادِّيِّينَ وَثَانِيهِمَا: أَلَّا يَجْعَلَ أَحَدٌ مَا نُقِلَ عَنْ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِرْسَالِهِ رَسُولًا إِلَى الْمَصْرُوعِ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّيْطَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُنْكِرُ دَجَلَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ عِبَادِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الدُّعَاةِ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، بِتَخْوِيفِ النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِيفُ مِنْهُمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ عِبَادَةً لَهُمْ، كَمَا يَعْبُدُ الْيَزِيدِيَّةُ إِبْلِيسَ جَهْرًا بِدَعْوَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَّقُونَ شَرَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَانِسَةِ وَالْمُتَشَاكِلَةِ، أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ شِرَارُ الْجِنِّ أَوْلِيَاءَ لِشِرَارِ الْإِنْسِ،
لَمْ أَرَ أُولَئِكَ الْجِنَّ الَّذِينَ كَانَ يَرَانِي أُجَادِلُهُمْ وَأَذُودُهُمْ عَنْهُ، وَالْوَاقِعَةُ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عِنْدِي، وَلَا أُعِدُّهَا دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى كَوْنِ صَرْعِهِ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لِشُهْرَتِهَا عِنْدَنَا فِي الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَنْ شَهِدَهَا.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَاشِرُ بَعْضَ أَصْحَابِ هَذَا الصَّرَعِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَحْدُثُ لَهُمْ وَأَنَا مَعَهُمْ قَطُّ، وَمِنْهُمْ حَمُّودَهْ بِكْ أَخُو شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، كُنْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُعَاشَرَةً لَهُمْ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ كَانَ يُكْثِرُ زِيَارَتَهُمْ إِلَّا وَرَأَى حَمُّودَهْ يُصْرَعُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اشْتِدَادِ النَّوْبَاتِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِ الشَّيْخِ وَبَعْدِهِ، حَتَّى كَانَتْ رُبَّمَا تَتَعَدَّدُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَمْكُثُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَامِي. وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ صَدِيقُنَا مُحَمَّد شَرِيف الْفَارُوقِيُّ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى - وَلَا أَسْتَبْعِدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْأَرْوَاحِ تَأْثِيرٌ فِي بَعْضٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا أَنْفِي عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَوَادِرِ الِاتِّفَاقِ، وَكَانَ شُيُوخُ بَلَدِنَا يَنْقُلُونَ عَنْ جَدِّي الثَّالِثِ غَرَائِبَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَإِنَّنِي لَمْ أَذْكُرْ هَذَا إِلَّا لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنِّي أَمِيلُ فِي تَشَدُّدِي فِي كَشْفِ غِشِّ الدَّجَّالِينَ إِلَى آرَاءِ الْمَادِّيِّينَ وَثَانِيهِمَا: أَلَّا يَجْعَلَ أَحَدٌ مَا نُقِلَ عَنْ مِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِرْسَالِهِ رَسُولًا إِلَى الْمَصْرُوعِ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّيْطَانَ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُنْكِرُ دَجَلَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ عِبَادِ الشَّيَاطِينِ أَوِ الدُّعَاةِ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، بِتَخْوِيفِ النَّاسِ مِمَّا لَا يُخِيفُ مِنْهُمْ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعَدُّ عِبَادَةً لَهُمْ، كَمَا يَعْبُدُ الْيَزِيدِيَّةُ إِبْلِيسَ جَهْرًا بِدَعْوَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَّقُونَ شَرَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَانِسَةِ وَالْمُتَشَاكِلَةِ، أَنْ يَكُونَ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ شِرَارُ الْجِنِّ أَوْلِيَاءَ لِشِرَارِ الْإِنْسِ،
330
وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِيمَانَ إِذْعَانٍ بِحَيْثُ يَهْتَدُونَ بِوَحْيِهِ وَيُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَتِهِ وَآدَابِهِ حَتَّى يَبْعُدَ التَّنَاسُبُ وَالتَّجَانُسُ بَيْنَهُمَا. فَهَذَا الْجَعْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْجَبْرِيَّةُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَهُ خَارِجًا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ وَنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى مُكْتَسِبِيهَا بِاعْتِبَارِ صُدُورِهَا عَنْهُمْ، وَإِلَى الْخَالِقِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَسُنَنِهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذِهِ الْوِلَايَةَ إِلَى مُكْتَسِبِيهَا بِمُزَاوَلَةِ أَسْبَابِهَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي قَرِيبًا:
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) فَاكْتِسَابُ الْكُفَّارِ لِوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِ وَسْوَسَتِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الشِّرِّيرَةِ مِنْ لَمَتِهِمْ، كَاكْتِسَابِ ضُعَفَاءِ الْبِنْيَةِ لِلْأَمْرَاضِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهَا، كَالْقَذَارَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْفَاسِدَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ جَرَاثِيمِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا - فَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالْمُتَوَلُّونَ لِقُرَنَائِهِ مِنْ أَهْلِ الطَّاغُوتِ وَالدَّجَلِ وَالنِّفَاقِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، لَا بِطَاعَتِهِمْ فِي وَسْوَسَتِهِمْ فَقَطْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِيذُ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعِيذُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (٧٢: ٦) وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ الْيَوْمَ بِالْبَخُورِ وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦: ٦٠، ٦١) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الشَّيَاطِينِ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَشَدِّهِ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَسْفَلِهَا، فَهَلْ يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنَ الَّذِي يَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ فِي مَصَالِحِهِ يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَ عَلَى الْجِنِّ وَجَعَلَهُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ كَالشَّيَاطِينِ لَتَصَرَّفُوا فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُونَ بِجِنَّةِ الْهَوَامِّ وَمَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ - وِفَاقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَّا أَشَدُّ مِنْ خَوْفِنَا مِنْهُمْ - وَالْوَسْوَسَةُ مِنْهُمْ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِنَا لِقَبُولِهَا فَذَنْبُهَا عَلَيْنَا. وَمَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ مِنْ ضَرَرِهِمْ وَصَرْعِهِمْ فَأَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَدَجَلٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) فَاكْتِسَابُ الْكُفَّارِ لِوِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لِقَبُولِ وَسْوَسَتِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْبَاطِلَةِ أَوِ الشِّرِّيرَةِ مِنْ لَمَتِهِمْ، كَاكْتِسَابِ ضُعَفَاءِ الْبِنْيَةِ لِلْأَمْرَاضِ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا، وَعَدَمِ احْتِرَاسِهِمْ مِنْ أَسْبَابِهَا، كَالْقَذَارَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْفَاسِدَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسَادِ بِمَا فِيهَا مِنْ جَرَاثِيمِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا - فَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ هُمْ أَصْحَابُ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ وَالْخُرَافَاتِ وَالطُّغْيَانِ، وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَالْمُتَوَلُّونَ لِقُرَنَائِهِ مِنْ أَهْلِ الطَّاغُوتِ وَالدَّجَلِ وَالنِّفَاقِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ. وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ، لَا بِطَاعَتِهِمْ فِي وَسْوَسَتِهِمْ فَقَطْ، بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعِيذُ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعِيذُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (٧٢: ٦) وَكَانُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُعْطِفُهُمْ عَلَيْهِمْ فَيَمْنَعُ ضَرَرَهُمْ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى نَفْعِهِمْ، كَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمُ الدَّجَّالُونَ الْيَوْمَ بِالْبَخُورِ وَالْعَزَائِمِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦: ٦٠، ٦١) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ بَعْضَ الدَّجَّالِينَ يَتَقَرَّبُ إِلَى الشَّيَاطِينِ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَشَدِّهِ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَسْفَلِهَا، فَهَلْ يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنَ الَّذِي يَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَلْجَأَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ فِي مَصَالِحِهِ يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَ عَلَى الْجِنِّ وَجَعَلَهُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ كَالشَّيَاطِينِ لَتَصَرَّفُوا فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُونَ بِجِنَّةِ الْهَوَامِّ وَمَيُكْرُوبَاتِ الْأَمْرَاضِ - وِفَاقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَّا أَشَدُّ مِنْ خَوْفِنَا مِنْهُمْ - وَالْوَسْوَسَةُ مِنْهُمْ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِنَا لِقَبُولِهَا فَذَنْبُهَا عَلَيْنَا. وَمَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ مِنْ ضَرَرِهِمْ وَصَرْعِهِمْ فَأَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَدَجَلٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
331
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ آثَارِ وِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ إِنَّهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي إِغْوَائِهِمْ فِي أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَشْعُرُونَ بِقُبْحِهَا.
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: وَإِذَا فَعَلَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ، قَبِيحًا مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْفَاحِشَةُ، وَذَلِكَ تَعَرِّيهِمْ لِلطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَتَجَرُّدُهُمْ لَهُ فَعُذِلُوا عَلَى مَا أَتَوْا مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَعُوتِبُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَجَدْنَا عَلَى مِثْلِ مَا نَفْعَلُ آبَاءَنَا فَنَحْنُ نَفْعَلُ مِثْلَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِمْ وَاللهُ أَمَرَنَا بِهِ فَنَحْنُ نَتَّبِعُ أَمْرَهُ فِيهِ اهـ. وَالْفَاحِشَةُ: كُلُّ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَفَسَّرَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ هُنَا بِطَوَافِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانُوا يَعْذِلُونَهُمْ وَيُقَبِّحُونَ فِعْلَتَهُمْ هَذِهِ كَانُوا يُجِيبُونَ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَمِمَّا رَوَاهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: نَطُوفُ كَمَا وَلَدَتْنَا أُمَّهَاتُنَا، فَتَضَعُ الْمَرْأَةُ عَلَى قُبُلِهَا النِّسْعَةَ (أَيِ الْقِطْعَةَ مِنْ سُيُورِ الْجِلْدِ) أَوِ الشَّيْءَ فَتَقُولُ:
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْفَاحِشَةِ وَمَا رُوِيَ مِنْ شُبْهَتِهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ بِبَيْتِ رَبِّهِمْ فِي ثِيَابٍ عَصَوْهُ بِهَا وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ.
فَأَمَّا اعْتِذَارُهُمْ بِالتَّقْلِيدِ فَقَدْ رَدَّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ. وَقَالَ مُفَسِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالرَّازِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُجِبْ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَهِيَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ حَاصِلٌ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَلَوْ كَانَ حَقًّا لَزِمَ الْقَوْلُ بِحَقِّيَّةِ الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. فَلَمَّا كَانَ
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) هَذَا بَيَانٌ لِبَعْضِ آثَارِ وِلَايَةِ الشَّيَاطِينِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ إِنَّهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي إِغْوَائِهِمْ فِي أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَشْعُرُونَ بِقُبْحِهَا.
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: وَإِذَا فَعَلَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ، قَبِيحًا مِنَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْفَاحِشَةُ، وَذَلِكَ تَعَرِّيهِمْ لِلطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَتَجَرُّدُهُمْ لَهُ فَعُذِلُوا عَلَى مَا أَتَوْا مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِمْ وَعُوتِبُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَجَدْنَا عَلَى مِثْلِ مَا نَفْعَلُ آبَاءَنَا فَنَحْنُ نَفْعَلُ مِثْلَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِمْ وَاللهُ أَمَرَنَا بِهِ فَنَحْنُ نَتَّبِعُ أَمْرَهُ فِيهِ اهـ. وَالْفَاحِشَةُ: كُلُّ مَا عَظُمَ قُبْحُهُ، وَفَسَّرَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ هُنَا بِطَوَافِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كَانُوا يَعْذِلُونَهُمْ وَيُقَبِّحُونَ فِعْلَتَهُمْ هَذِهِ كَانُوا يُجِيبُونَ بِهَذَا الْجَوَابِ، وَمِمَّا رَوَاهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: نَطُوفُ كَمَا وَلَدَتْنَا أُمَّهَاتُنَا، فَتَضَعُ الْمَرْأَةُ عَلَى قُبُلِهَا النِّسْعَةَ (أَيِ الْقِطْعَةَ مِنْ سُيُورِ الْجِلْدِ) أَوِ الشَّيْءَ فَتَقُولُ:
| الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ |
فَأَمَّا اعْتِذَارُهُمْ بِالتَّقْلِيدِ فَقَدْ رَدَّهُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي مَوَاضِعَ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ. وَقَالَ مُفَسِّرُو الْمُتَكَلِّمِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَالرَّازِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُجِبْ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَهِيَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّهُ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ حَاصِلٌ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَلَوْ كَانَ حَقًّا لَزِمَ الْقَوْلُ بِحَقِّيَّةِ الْأَدْيَانِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. فَلَمَّا كَانَ
332
فَسَادُ هَذَا الطَّرِيقِ ظَاهِرًا لَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى الْجَوَابَ عَنْهُ، هَذَا تَقْرِيرُ الرَّازِيِّ، وَقَوْلُهُ بِفَسَادِ التَّقْلِيدِ وَكَوْنُهُ حُجَّةً دَاحِضَةً فِي نَظَرِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ صَحِيحٌ. وَلَكِنَّ زَعْمَهُ أَنَّ هَذَا سَبَبٌ
لِعَدَمِ الرَّدِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَقَدْ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (٢: ١٧٠) وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّدِّ الصَّحِيحِ هُنَا بِرَدِّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْمُتَضَمِّنُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِتِلْكَ الْفَحْشَاءِ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْحَضَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا الْقَوْلُ تَكْذِيبٌ لَهُمْ مِنْ طَرِيقَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا خِلَافَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ أَيْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْفَحْشَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهَا هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ النَّقَائِصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ مَنْ تَوَسَّعُوا فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا طَرِيقُ النَّقْلِ فَهُوَ أَنَّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ بِوَحْيٍ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولٍ مِنْ عِنْدِهِ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى لَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَالِاسْتِفَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ، وَلِلرَّدِّ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فَإِنَّهُمْ بِاتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ فِي آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ.
وَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ النَّقْلِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ وَالنَّفْيِ، تَوَجَّهَتِ الْأَنْفُسُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ فَبَيَّنَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ. قَائِلًا لِرَسُولِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أَيِ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْوَسَطُ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا نَظِيفًا لَائِقًا بِحَالِ لَابِسِهِ فِي النَّاسِ، لَا ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي تَفْرِيطِ التَّبَذُّلِ، وَلَا فِي إِفْرَاطِ التَّطَرُّسِ. وَسَيَأْتِي الْأَمْرُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْعِبَادَةِ وَلُبَابِهَا، الدَّالُّ عَلَى جَهْلِهِمْ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
فَأَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - أَوْ وَقُلْ لَهُمْ: أَقِيمُوا إِلَخْ.
إِقَامَةُ الشَّيْءِ: إِعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَتَوْفِيَتُهُ شُرُوطَهُ كَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ.
لِعَدَمِ الرَّدِّ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَقَدْ رَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (٢: ١٧٠) وَالصَّوَابُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّدِّ الصَّحِيحِ هُنَا بِرَدِّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْمُتَضَمِّنُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِتِلْكَ الْفَحْشَاءِ الَّتِي وَجَدُوا عَلَيْهَا آبَاءَهُمْ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْحَضَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا الْقَوْلُ تَكْذِيبٌ لَهُمْ مِنْ طَرِيقَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا خِلَافَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ أَيْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْفَحْشَاءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهَا هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ النَّقَائِصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ مَنْ تَوَسَّعُوا فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا طَرِيقُ النَّقْلِ فَهُوَ أَنَّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ بِوَحْيٍ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولٍ مِنْ عِنْدِهِ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى لَهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَالِاسْتِفَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ، وَلِلرَّدِّ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ فَإِنَّهُمْ بِاتِّبَاعِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ فِي آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ غَيْرِ الْمُسْنَدَةِ إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ.
وَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ النَّقْلِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ وَالنَّفْيِ، تَوَجَّهَتِ الْأَنْفُسُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ فَبَيَّنَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ. قَائِلًا لِرَسُولِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أَيِ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْوَسَطُ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا نَظِيفًا لَائِقًا بِحَالِ لَابِسِهِ فِي النَّاسِ، لَا ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي تَفْرِيطِ التَّبَذُّلِ، وَلَا فِي إِفْرَاطِ التَّطَرُّسِ. وَسَيَأْتِي الْأَمْرُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِ هُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْعِبَادَةِ وَلُبَابِهَا، الدَّالُّ عَلَى جَهْلِهِمْ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ
فَأَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - أَوْ وَقُلْ لَهُمْ: أَقِيمُوا إِلَخْ.
إِقَامَةُ الشَّيْءِ: إِعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَتَوْفِيَتُهُ شُرُوطَهُ كَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ بِالْقِسْطِ.
333
وَالْوَجْهُ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ٣٠: ٣٠) مِنَ الثَّانِي. وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ وَصِحَّةُ الْقَصْدِ؛ فَإِنَّ الْوَجْهَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ، وَمَا هُنَا مِنَ الثَّانِي وَإِنْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْسِيرُهُ بِالْأَوَّلِ أَيْضًا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ أَيْنَمَا كَانَ. وَالْمَعْنَى أَعْطُوا تَوَجُّهَكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْبُدُونَهُ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَصَرْفِ الشَّوَاغِلِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِبَادَةُ طَوَافًا أَوْ صَلَاةً أَوْ ذِكْرًا أَوْ فِكْرًا - وَادْعُوهُ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، بِأَلَّا تَشُوبُوا دُعَاءَكُمْ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ عِبَادَتِكُمْ لَهُ بِأَدْنَى شَائِبَةٍ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا إِلَى مَا وُضِعَ لِلتَّذْكِيرِ بِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهَا - وَلَا مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ الرِّيَاءُ وَحُبُّ إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى عِبَادَتِكُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْكُمْ بِهَا وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِكُمْ فِيهَا. وَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مَعَهُ زَاعِمِينَ أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ وَيُقِيمَ وَجْهَهُ لَهُ حَنِيفًا، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الطَّاهِرِينَ الْمُكَرَّمِينَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَهُ وَيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَهَذَا مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ، وَشُبْهَتُهُمْ فِيهِ كَشُبْهَتِهِمْ فِي عَدَمِ الطَّوَافِ فِي ثِيَابٍ عَصَوْهُ فِيهَا، وَجَعْلُهُمْ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الدِّينِ وَنِسْبَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ وَقَوْلٌ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا أَوْحَى إِلَيْهِمْ مَا نَطَقَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِالْأَمْرِ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، وَالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ - كَمَا أَمَرَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَجَعَلَ الظَّاهِرَ عُنْوَانًا لِلْبَاطِنِ فِي طَهَارَتِهِ وَحُسْنِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى تَحَرِّي الْقِسْطِ وَالْعَدْلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ.
(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) هَذَا تَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَدَعْوَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي إِثْرِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ وَمَنَاطِ الْأَمْرِ فِيهِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي سِيَاقِ أَصْلِ تَكْوِينِ الْبَشَرِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَا لِلشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَعَدَمِ سُلْطَانِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، فَإِنَّهَا دَعْوَى مُتَضَمِّنَةٌ لِلدَّلِيلِ بِتَشْبِيهِ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ فَهُوَ يَقُولُ:
كَمَا بَدَأَكُمْ رَبُّكُمْ خَلْقًا وَتَكْوِينًا بِقُدْرَتِهِ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - حَالَةَ كَوْنِكُمْ فَرِيقَيْنِ - فَرِيقًا هَدَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ، فَاهْتَدَوْا بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِقَامَةِ وُجُوهِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَدُعَائِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا - وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ لِاتِّبَاعِهِمْ إِغْوَاءَ الشَّيْطَانِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ:
(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) هَذَا تَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَدَعْوَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فِي إِثْرِ بَيَانِ أَصْلِ الدِّينِ وَمَنَاطِ الْأَمْرِ فِيهِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي سِيَاقِ أَصْلِ تَكْوِينِ الْبَشَرِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَا لِلشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَعَدَمِ سُلْطَانِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَنْ أَبْلَغِ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ، فَإِنَّهَا دَعْوَى مُتَضَمِّنَةٌ لِلدَّلِيلِ بِتَشْبِيهِ الْإِعَادَةِ بِالْبَدْءِ فَهُوَ يَقُولُ:
كَمَا بَدَأَكُمْ رَبُّكُمْ خَلْقًا وَتَكْوِينًا بِقُدْرَتِهِ تَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - حَالَةَ كَوْنِكُمْ فَرِيقَيْنِ - فَرِيقًا هَدَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ، فَاهْتَدَوْا بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِقَامَةِ وُجُوهِهِمْ لَهُ وَحْدَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَدُعَائِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ أَحَدًا وَلَا شَيْئًا - وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ لِاتِّبَاعِهِمْ إِغْوَاءَ الشَّيْطَانِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ:
334
ثَبَتَتْ بِثُبُوتِ أَسْبَابِهَا الْكَسْبِيَّةِ، لَا أَنَّهَا جُعِلَتْ غَرِيزَةً لَهُمْ فَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَيْهَا، يَدُلُّ عَلَى هَذَا تَعْلِيلُهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَادَ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِينَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ خِطَابِ الْمُحْتَجِّينَ مِنْهُمْ بِمَا يُبْطِلُ حُجَّتَهُمُ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمْ - وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا يُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِيِّ وَالْعُدْوَانِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فِيمَا تُلَقِّنُهُمُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَجَعْلِ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى زُلْفَى، وَجَعْلِ الرَّبِّ تَعَالَى كَالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ، لَا يَقْبَلُ عِبَادَةَ عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ. كَالْمَلِكِ الْجَاهِلِ مَعَ وُزَرَائِهِ وَحُجَّابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ شُبْهَتِهِمْ عَلَى طَوَافِهِمْ عُرَاةً، وَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَأَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْبَشَرِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَقَلُّ الْكُفَّارِ الْجَاحِدُونَ لِلْحَقِّ كِبْرًا وَعِنَادًا كَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ فِي عُصُورِهِمْ، وَحَاسِدِيهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَكَرَّمَهُمْ بِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَاسْتَكْبَرَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ فِرْعَوْنُ وَالْمَلَأُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) وَمِنْهُمْ كُبَرَاءُ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣) وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَضَالُّونَ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، أَوْ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١٨: ١٠٣، ١٠٤) وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ عُذْرًا مَقْبُولًا لَكَانَ أَكْثَرُ كُفَّارِ الْأَرْضِ
فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ مَعْذُورِينَ نَاجِينَ كَالْمُؤْمِنِينَ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَدْ أَضَلَّ الْأُلُوفَ الَّتِي لَا تُحْصَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ " فَتَرَكُوا هِدَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاتَّبَعُوا الْبِدَعَ الْمُسْتَحْدَثَةَ، فَإِذَا دَعَوْا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ قَالُوا: قَالَ الشَّيْخُ فُلَانٌ، وَفَعَلَ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ فُلَانٌ، وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَهْدَى مِنَّا بِالسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَادَ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِينَ بَعْدَ انْتِهَاءِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولَ مِنْ خِطَابِ الْمُحْتَجِّينَ مِنْهُمْ بِمَا يُبْطِلُ حُجَّتَهُمُ الَّتِي حَكَاهَا عَنْهُمْ - وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمُ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلِّ مَا يُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِيِّ وَالْعُدْوَانِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فِيمَا تُلَقِّنُهُمُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الشُّبُهَاتِ، كَجَعْلِ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى زُلْفَى، وَجَعْلِ الرَّبِّ تَعَالَى كَالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الظَّالِمِينَ، لَا يَقْبَلُ عِبَادَةَ عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَهُ. كَالْمَلِكِ الْجَاهِلِ مَعَ وُزَرَائِهِ وَحُجَّابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ شُبْهَتِهِمْ عَلَى طَوَافِهِمْ عُرَاةً، وَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَأَكْثَرُ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْبَشَرِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَأَقَلُّ الْكُفَّارِ الْجَاحِدُونَ لِلْحَقِّ كِبْرًا وَعِنَادًا كَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ فِي عُصُورِهِمْ، وَحَاسِدِيهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَكَرَّمَهُمْ بِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ وَاسْتَكْبَرَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ فِرْعَوْنُ وَالْمَلَأُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) وَمِنْهُمْ كُبَرَاءُ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣) وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَضَالُّونَ بِالتَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، أَوْ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١٨: ١٠٣، ١٠٤) وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ عُذْرًا مَقْبُولًا لَكَانَ أَكْثَرُ كُفَّارِ الْأَرْضِ
فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ مَعْذُورِينَ نَاجِينَ كَالْمُؤْمِنِينَ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَدْ أَضَلَّ الْأُلُوفَ الَّتِي لَا تُحْصَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ " فَتَرَكُوا هِدَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاتَّبَعُوا الْبِدَعَ الْمُسْتَحْدَثَةَ، فَإِذَا دَعَوْا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ قَالُوا: قَالَ الشَّيْخُ فُلَانٌ، وَفَعَلَ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ فُلَانٌ، وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ وَأَهْدَى مِنَّا بِالسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا
335
أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانُ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ
وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ الْحَقِّ لِيَتْبَعَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْحَثْ.
ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ فَاتَّبَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ طَاقَتُهُ وَكَانَ مُخَالِفًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَدْخُلُ فِي مَدْلُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦). وَقَدِ اشْتَرَطُوا
فِي حُجِّيَّةِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ كَوْنَهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْحُجَّةِ يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُ مِنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا بَلَغَهُ بِصُورَةٍ مُشَوَّهَةٍ تَدْعُو إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَاتِّقَاءِ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي النَّظَرِ فِيهَا، وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِهَا، وَمَا أَجْهَلَهُمْ بِحَالِ الْعَصْرِ وَأَهْلِهِ وَبِالدَّعْوَةِ وَأَدِلَّتِهَا، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا مُنْذُ قُرُونٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَهِلُوهَا.
قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ التَّعْلِيلِ أَوِ التَّأْكِيدِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ " بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا " وَالْأَوَّلُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ هَدَاهُ اللهُ تَعَالَى، شَامِلٌ لِلْمُعَانِدِ وَالْمُخْطِئِ، وَالثَّانِي مُخْتَصٌّ بِالثَّانِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمُقَصِّرِ فِي النَّظَرِ وَالْبَاذِلُ غَايَةَ الْوُسْعِ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ الذَّمِّ عَلَى الْأَخِيرِ وَخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَمَذْهَبُ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ أَصْلًا وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَمْ يُدْرِكْ بِهِ الْحَقَّ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَدَعْ فِي الْقَوْسِ مَنْزَعًا فِي طَلَبِهِ، فَحَيْثُ يُعْذَرُ الْأَوَّلُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، يُعْذَرُ
وَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ الْحَقِّ لِيَتْبَعَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْحَثْ.
ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحَقِّ فَاتَّبَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ طَاقَتُهُ وَكَانَ مُخَالِفًا فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَدْخُلُ فِي مَدْلُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦). وَقَدِ اشْتَرَطُوا
فِي حُجِّيَّةِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ كَوْنَهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْحُجَّةِ يُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ كُلِّ مَا يَبْلُغُهُ مِنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا بَلَغَهُ بِصُورَةٍ مُشَوَّهَةٍ تَدْعُو إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَاتِّقَاءِ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي النَّظَرِ فِيهَا، وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِهَا، وَمَا أَجْهَلَهُمْ بِحَالِ الْعَصْرِ وَأَهْلِهِ وَبِالدَّعْوَةِ وَأَدِلَّتِهَا، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا مُنْذُ قُرُونٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَهِلُوهَا.
قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ التَّعْلِيلِ أَوِ التَّأْكِيدِ، وَلَعَلَّ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ " بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا " وَالْأَوَّلُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ هَدَاهُ اللهُ تَعَالَى، شَامِلٌ لِلْمُعَانِدِ وَالْمُخْطِئِ، وَالثَّانِي مُخْتَصٌّ بِالثَّانِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمُقَصِّرِ فِي النَّظَرِ وَالْبَاذِلُ غَايَةَ الْوُسْعِ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَوَجُّهِ الذَّمِّ عَلَى الْأَخِيرِ وَخُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَمَذْهَبُ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ أَصْلًا وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَمْ يُدْرِكْ بِهِ الْحَقَّ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَدَعْ فِي الْقَوْسِ مَنْزَعًا فِي طَلَبِهِ، فَحَيْثُ يُعْذَرُ الْأَوَّلُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، يُعْذَرُ
336
الثَّانِي لِذَلِكَ. وَلَا يَرَوْنَ مُجَرَّدَ الْمَالِكِيَّةِ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ حُجَّةً. وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْتِزَامُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ مُعَانِدٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَظُهُورِ أَمْرِ الْحَقِّ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ - وَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الْيَوْمَ كَافِرٌ مُسْتَدِلٌّ - مِمَّا لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا مُسْلِمٌ مُعَانِدٌ، أَوْ مُسْتَدِلٌّ بِمَا هُوَ أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ. وَإِنَّهُ لَأَوْهَنُ الْبُيُوتِ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَانِدُ وَمِنَ الْمَعْطُوفِ الْمُخْطِئُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَا اهـ.
هَذَا وَإِنَّ الْمَعْذُورَ فِي الْخَطَأِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ كَالْمُصِيبِ، وَإِنَّ الَّذِي يَتَحَرَّى الْحَقَّ الْمَرْضِيَّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى الْمُنَجِّيَ فِي الْآخِرَةِ، لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ بِإِخْلَاصِهِ فِي النَّظَرِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَمَعْرِفَتُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ إِذْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ فِي نَظَرِهِ عَلَى هَوًى. وَيَتَفَاوَتُ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدُونَ الْمُخْطِئُونَ بِتَفَاوُتِ حُظُوظِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَاجْتِنَابِ ضِدِّهِ، إِذْ بِذَلِكَ تَتَزَكَّى الْأَنْفُسُ، وَالْمَدَارُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَا هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا هُنَا. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا وَمُخْرِجُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةً وَتَقُولُ:
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَأَلْقَتْ ثِيَابَهَا فَطَافَتْ وَوَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى قُبُلِهَا وَقَالَتْ: (الْبَيْتَ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)
هَذَا وَإِنَّ الْمَعْذُورَ فِي الْخَطَأِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ كَالْمُصِيبِ، وَإِنَّ الَّذِي يَتَحَرَّى الْحَقَّ الْمَرْضِيَّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى الْمُنَجِّيَ فِي الْآخِرَةِ، لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ بِإِخْلَاصِهِ فِي النَّظَرِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَمَعْرِفَتُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ إِذْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ فِي نَظَرِهِ عَلَى هَوًى. وَيَتَفَاوَتُ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدُونَ الْمُخْطِئُونَ بِتَفَاوُتِ حُظُوظِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَاجْتِنَابِ ضِدِّهِ، إِذْ بِذَلِكَ تَتَزَكَّى الْأَنْفُسُ، وَالْمَدَارُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَا هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا هُنَا. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا وَمُخْرِجُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةً وَتَقُولُ:
| الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ | كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أَحِلُّهُ |
إِلَى قَوْلِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِاللَّيْلِ عُرَاةً وَأَكْثَرُهَا مُطْلَقَةٌ. وَفِي بَعْضِهَا عَنْهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا حَجُّوا فَنَزَلُوا فِي أَدْنَى الْحِلِّ نَزَعُوا ثِيَابَهُمْ وَوَضَعُوا رِدَاءَهُمْ وَدَخَلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ رِدَاءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ صَدِيقٌ مِنَ الْحُمْسِ فَيُعِيرُهُ ثَوْبَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ طَعَامِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلُونَ، فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ يُضْرَبُ وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ قَتَادَةَ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْ حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَلْبَسُ ثِيَابَهُ فِي
الطَّوَافِ إِلَّا الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَيِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ: يَطُوفُونَ بِثِيَابِهِمْ - وَهَذَا حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الِانْفِرَادِ بِهِ - وَيَأْتُونَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ لَا مِنْ بَابِهِ إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَقَدْ أَبْطَلَ هَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢: ١٨٩) وَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (جَبَلُ قُزَحٍ) بِمُزْدَلِفَةَ لَا فِي عَرَفَاتٍ وَيُعَلِّلُونَ هَذَا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَعَرَفَةُ خَارِجُ حَدِّ الْحَرَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَلَمَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْفِرُ الْحَجَّاجُ مِنْ بَيْنِهِمَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَوْقِفِ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عَرَفَةَ فَيَقِفُونَ فِيهَا فَخَابَ ظَنُّهُمْ، وَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِيَازَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَبَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِنَّهُ أَبَى أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فِي " مِنًى " يَسْتَظِلُّ فِيهِ مِنَ الشَّمْسِ لَمَّا أَرَادُوا عَمَلَهُ لَهُ. وَقَالَ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا فِي نُزُولِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ اللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ مُبْطِلَةً لِتِلْكَ الضَّلَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَاحِشَةِ، وَمُقَرِّرَةً لِوُجُوبِ اتِّخَاذِ الْمَلَابِسِ لِلسَّتْرِ وَلِزِينَةِ التَّجَمُّلِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قُلْنَا فِي مِثْلِهِ قَبْلَهُ وَنَزِيدُ أَنَّهُ يَشْمَلُ النِّسَاءَ بِالتَّبَعِ لِلرِّجَالِ شَرْعًا لَا لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَسَنَعُودُ إِلَى
الطَّوَافِ إِلَّا الْحُمْسِ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَيِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ: يَطُوفُونَ بِثِيَابِهِمْ - وَهَذَا حَسَنٌ فِي نَفْسِهِ دُونَ الِانْفِرَادِ بِهِ - وَيَأْتُونَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ لَا مِنْ بَابِهِ إِذَا كَانُوا مُحْرِمِينَ، وَقَدْ أَبْطَلَ هَذَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢: ١٨٩) وَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (جَبَلُ قُزَحٍ) بِمُزْدَلِفَةَ لَا فِي عَرَفَاتٍ وَيُعَلِّلُونَ هَذَا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَعَرَفَةُ خَارِجُ حَدِّ الْحَرَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَلَمَيْنِ الْمَنْصُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْفِرُ الْحَجَّاجُ مِنْ بَيْنِهِمَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْهَا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَوْقِفِ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عَرَفَةَ فَيَقِفُونَ فِيهَا فَخَابَ ظَنُّهُمْ، وَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتِيَازَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَبَدَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ حَتَّى إِنَّهُ أَبَى أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فِي " مِنًى " يَسْتَظِلُّ فِيهِ مِنَ الشَّمْسِ لَمَّا أَرَادُوا عَمَلَهُ لَهُ. وَقَالَ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهَا فِي نُزُولِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ اللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مُخْتَصَرًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ مُبْطِلَةً لِتِلْكَ الضَّلَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَاحِشَةِ، وَمُقَرِّرَةً لِوُجُوبِ اتِّخَاذِ الْمَلَابِسِ لِلسَّتْرِ وَلِزِينَةِ التَّجَمُّلِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يُقَالُ فِي هَذَا النِّدَاءِ مَا قُلْنَا فِي مِثْلِهِ قَبْلَهُ وَنَزِيدُ أَنَّهُ يَشْمَلُ النِّسَاءَ بِالتَّبَعِ لِلرِّجَالِ شَرْعًا لَا لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ وَسَنَعُودُ إِلَى
338
هَذَا فِي تَفْسِيرِ آخِرِهَا، وَالزِّينَةُ: مَا يُزَيِّنُ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ، فَهِيَ اسْمٌ مِنْ زَانَهُ يَزِينُهُ زَيْنًا، ضِدُّ شَانَهُ - أَيْ عَابَهُ - يَشِينُهُ شَيْنًا. وَأَخْذُهَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّزَيُّنِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِأَخْذِ مَا يُزَيَّنُ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الثِّيَابُ الْحَسَنَةُ الْمُعْتَادَةُ، بِدَلِيلِ الْقَرِينَةِ وَالْإِضَافَةِ وَسَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ - وَإِلَّا فَأَنْوَاعُ الزِّينَةِ فِي الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ - وَمِنْهَا الْمَالُ وَالْبَنُونُ - فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ الَّتِي يَتَحَبَّبْنَ بِهَا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ شَاغِلَةً عَنِ الْعِبَادَةِ، وَأَقَلُّ هَذِهِ الزِّينَةِ مَا يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ أَقْبَحَ مَا يَشِينُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَقَدِ اقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا لِأَجْلِ جَعْلِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِصِحَّةِ الصَّلَاة
وَالطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ وَقَالُوا: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّجَمُّلِ بِزِينَةِ اللِّبَاسِ اللَّائِقِ عِنْدَ الصَّلَاةِ - وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَفِي الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزِّينَةِ لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ النَّاسِ فِي تَزَيُّنِهِمُ الْمُعْتَدِلِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِلِ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْمَلِ حَالَةٍ لَائِقَةٍ بِهِ لَا تَكَلُّفَ فِيهَا وَلَا إِسْرَافَ، فَمَنْ قَدَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ عَلَى عِمَامَةٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ، لَا يَكُونُ مُتَمَثِّلًا لِلْأَمْرِ بِالزِّينَةِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى إِزَارٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فَقَطْ (وَهِيَ عِنْدُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ السَّوْءَتَانِ فَقَطْ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ) لِلرَّجُلِ وَمَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَإِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ بَيَانِ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ لَا شَرْطَ لِصِحَّتِهَا. وَإِنَّ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، حَتَّى جُعِلَتِ النِّعَالُ مِنَ الزِّينَةِ وَهِيَ كَذَلِكَ وَإِنْ تَرَكَهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّهُمْ يَفْرِشُونَهَا كَمَا يَفْرِشُونَ بُيُوتَهُمْ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالْبُسُطِ وَالطَّنَافِسِ.
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ (أَيْ أَرَادَ الصَّلَاةَ) فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ إِذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلْ أَحَدُكُمْ فِي صِلَاتِهِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ " وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُصَلِّينَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي لِحَافٍ (ثَوْبٌ يُلْتَحَفُ بِهِ) وَاحِدٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عُدَيٍّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ - قَالُوا: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: الْبِسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا " وَأَخْرَجَ
وَالطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ وَقَالُوا: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّجَمُّلِ بِزِينَةِ اللِّبَاسِ اللَّائِقِ عِنْدَ الصَّلَاةِ - وَلَا سِيَّمَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَفِي الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَلَكِنَّ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزِّينَةِ لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ النَّاسِ فِي تَزَيُّنِهِمُ الْمُعْتَدِلِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَحَافِلِ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْمَلِ حَالَةٍ لَائِقَةٍ بِهِ لَا تَكَلُّفَ فِيهَا وَلَا إِسْرَافَ، فَمَنْ قَدَرَ بِلَا تَكَلُّفٍ عَلَى عِمَامَةٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ، لَا يَكُونُ مُتَمَثِّلًا لِلْأَمْرِ بِالزِّينَةِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى إِزَارٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فَقَطْ (وَهِيَ عِنْدُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ السَّوْءَتَانِ فَقَطْ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ) لِلرَّجُلِ وَمَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، فَإِنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ بَيَانِ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ لَا شَرْطَ لِصِحَّتِهَا. وَإِنَّ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، حَتَّى جُعِلَتِ النِّعَالُ مِنَ الزِّينَةِ وَهِيَ كَذَلِكَ وَإِنْ تَرَكَهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّهُمْ يَفْرِشُونَهَا كَمَا يَفْرِشُونَ بُيُوتَهُمْ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالْبُسُطِ وَالطَّنَافِسِ.
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ (أَيْ أَرَادَ الصَّلَاةَ) فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ إِذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلْ أَحَدُكُمْ فِي صِلَاتِهِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ " وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُصَلِّينَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي لِحَافٍ (ثَوْبٌ يُلْتَحَفُ بِهِ) وَاحِدٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ: وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عُدَيٍّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ - قَالُوا: وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: الْبِسُوا نِعَالَكُمْ فَصَلُّوا فِيهَا " وَأَخْرَجَ
339
الْعُقَيْلِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللهِ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قَالَ: " صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ " وَفِي مَعْنَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِضْعَةُ أَحَادِيثَ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ يُؤَيِّدُهَا مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَكَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: " أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ. ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللهُ فَأَوْسِعُوا. جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ، وَذَكَرُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَا فَقَالَ أُبَيٌّ: الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَفِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ - فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَلَمْ يَأْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ - أَيْ لَمْ يُقَصِّرْ - وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ السِّبْطِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ لَبِسَ أَجْوَدَ ثِيَابِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ فَأَتَجَمَّلُ لِرَبِّي وَهُوَ يَقُولُ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وَالْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا مَا حَقَّقَهُ وَفَصَّلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ كَالنَّفَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) (٦٥: ٧) فَمَنْ عِنْدَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلْيَسْتُرْ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهِ وَيُصَلِّ بِهِ - فَإِنْ لَمْ يَسْتُرْ إِلَّا الْعَوْرَةَ كُلَّهَا أَوِ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ - وَهِيَ السَّوْءَتَانِ - فَلْيَسْتُرْ بِهِ مَا يَسْتُرُهُ، وَمَنْ وَجَدَ ثَوْبَيْنِ مَهْمَا يَكُنْ نَوَعُهُمَا أَوْ أَكْثَرَ فَلْيُصَلِّ بِهِمَا، وَالْخُلَاصَةُ أَنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوْسَطِ حَالٍ حَسَنَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَدَّ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقْدُ الرَّجُلِ لِلثِّيَابِ اللَّائِقَةِ بِهِ بَيْنَ أَمْثَالِهِ حَتَّى الْعِمَامَةِ لِلْعَالِمِ.
هَذَا الْأَمْرُ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - لَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُعْرَفُ بَعْضُ قِيمَتِهِ مِمَّا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ مَنْ قَرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُتَوَحِّشِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي الْحَرَجَاتِ وَالْغَابَاتِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ يَأْوُونَ إِلَى
الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَالْقَبَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْوَثَنِيَّةِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: " أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ. ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللهُ فَأَوْسِعُوا. جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ، وَذَكَرُوا فِي هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَا فَقَالَ أُبَيٌّ: الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَفِي الثِّيَابِ قِلَّةٌ - فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَلَمْ يَأْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ - أَيْ لَمْ يُقَصِّرْ - وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ السِّبْطِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالرِّضْوَانُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ لَبِسَ أَجْوَدَ ثِيَابِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ فَأَتَجَمَّلُ لِرَبِّي وَهُوَ يَقُولُ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وَالْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَغَيْرِهَا مَا حَقَّقَهُ وَفَصَّلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ كَالنَّفَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) (٦٥: ٧) فَمَنْ عِنْدَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلْيَسْتُرْ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهِ وَيُصَلِّ بِهِ - فَإِنْ لَمْ يَسْتُرْ إِلَّا الْعَوْرَةَ كُلَّهَا أَوِ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ - وَهِيَ السَّوْءَتَانِ - فَلْيَسْتُرْ بِهِ مَا يَسْتُرُهُ، وَمَنْ وَجَدَ ثَوْبَيْنِ مَهْمَا يَكُنْ نَوَعُهُمَا أَوْ أَكْثَرَ فَلْيُصَلِّ بِهِمَا، وَالْخُلَاصَةُ أَنَّهُ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوْسَطِ حَالٍ حَسَنَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَدَّ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقْدُ الرَّجُلِ لِلثِّيَابِ اللَّائِقَةِ بِهِ بَيْنَ أَمْثَالِهِ حَتَّى الْعِمَامَةِ لِلْعَالِمِ.
هَذَا الْأَمْرُ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - لَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ - أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُعْرَفُ بَعْضُ قِيمَتِهِ مِمَّا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ مَنْ قَرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُتَوَحِّشِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فِي الْحَرَجَاتِ وَالْغَابَاتِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ يَأْوُونَ إِلَى
الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَالْقَبَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْوَثَنِيَّةِ
340
فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْبِحَارِ وَجِبَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، كُلُّهُمْ يَعِيشُونَ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ نِسَاءً وَرِجَالًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ مَا وَصَلَ إِلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَعَلَّمَهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ بِإِيجَابِهِ لِلسَّتْرِ وَلِلزِّينَةِ إِيجَابًا شَرْعِيًّا، وَلَمَّا أَسْرَفَ بَعْضُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ الْأُورُبِّيِّينَ فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ لِتَنْفِيرِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَتَحْوِيلِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، وَلِتَحْرِيضِ أُورُبَّةَ عَلَيْهِمْ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ، فَذَكَرَ فِي رَدِّهِ أَنَّ لِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ مِنْهُ عَلَى أُورُبَّةَ بِنَشْرِهِ لِلْمَدَنِيَّةِ فِي أَهْلِهَا بِحَمْلِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْعُرْيِ وَإِيجَابِهِ لُبْسَ الثِّيَابِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِرَوَاجِ تِجَارَةِ النَّسِيجِ الْأُورُبِّيَّةِ فِيهِمْ. بَلْ أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ كَانَ يَغْلِبُ فِيهَا مَعِيشَةُ الْعُرْيِ، حَتَّى إِذَا مَا اهْتَدَى بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ صَارُوا يَلْبَسُونَ وَيَتَجَمَّلُونَ ثُمَّ صَارُوا يَصْنَعُونَ الثِّيَابَ، وَقَلَّدَهُمْ جِيرَانُهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْضَ التَّقْلِيدِ، وَهَذِهِ بِلَادُ الْهِنْدِ عَلَى ارْتِقَاءِ حَضَارَةِ الْوَثَنِيِّينَ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَا يَزَالُ أُلُوفُ الْأُلُوفِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ عُرَاةً أَوْ أَنْصَافَ أَوْ أَرْبَاعَ عُرَاةٍ، فَتَرَى بَعْضَ رِجَالِهِمْ فِي مَعَاهِدِ تِجَارَتِهِمْ وَصِنَاعَتِهِمْ بَيْنَ عَارٍ لَا يَسْتُرُ إِلَّا السَّوْءَتَيْنِ - وَيُسَمُّونَهُمَا " سَبِيلَيْنِ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ - أَوْ سَاتِرٍ لِنِصْفِهِ الْأَسْفَلِ فَقَطْ، وَامْرَأَةٍ مَكْشُوفَةِ الْبَطْنِ وَالْفَخِذَيْنِ أَوِ النِّصْفِ الْأَعْلَى مِنَ الْجِسْمِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ. وَقَدِ اعْتَرَفَ بَعْضُ عُلَمَائِهِمُ الْمُنْصِفِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الَّذِينَ عَلَّمُوهُمْ لُبْسَ الثِّيَابِ وَالْأَكْلَ فِي الْأَوَانِي. وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ فُقَرَائِهِمْ يَضَعُونَ طَعَامَهُمْ عَلَى وَرَقِ الشَّجَرِ وَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ سَتْرًا وَزِينَةً لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حُكَّامَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا وَلَا يَزَالُونَ مِنْ أَرْقَى مُسْلِمِي الْأَرْضِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَأْثِيرًا فِي وَثَنِيِّ بِلَادِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْجَهْلُ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي اللِّبَاسِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَمِنْهُمْ نِسَاءُ مُسْلِمِي (سيام) اللَّاتِي لَا يَرَيْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَوْرَةً سِوَى السَّوْءَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فَحَيْثُ يَقْوَى الْإِسْلَامُ يَكُونُ السَّتْرُ وَالزِّينَةُ اللَّائِقَةُ بِكَرَامَةِ الْبَشَرِ وَرُقِيِّهِمْ.
فَمِنْ عَرِفَ مِثْلَ هَذَا عَرِفَ قِيمَةَ هَذَا الْأَصْلِ الْإِصْلَاحِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الدِّينُ الْمَدَنِيُّ الْأَعْلَى أَخْذَ الزِّينَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ - يَعْنِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ - لَمَا نَقَلَ أُمَمًا وَشُعُوبًا كَثِيرَةً مِنَ الْوَحْشِيَّةِ الْفَاحِشَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُ هَذَا الْفَضْلَ لَهُ مَنْ يَجْهَلُ التَّارِيخَ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهِلْهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي مُتَحَذْلِقَةِ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ فِي مَلْهًى أَوْ مَقْهًى أَوْ حَانَةٍ مُتَّكِئًا مُمِيلًا طَرْبُوشَهُ عَلَى رَأْسِهِ
يَقُولُ: مَا مَعْنَى جَعْلِ أَخْذِ زِينَةِ النَّاسِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى وَحْيٍ إِلَهِيٍّ وَلَا شَرْعٍ دِينِيٍّ؟ وَقَدْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ إِرْشَادٌ عَالٍ أَيْضًا فِيهِ صَلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا عَصْرٍ مِنْ
فَمِنْ عَرِفَ مِثْلَ هَذَا عَرِفَ قِيمَةَ هَذَا الْأَصْلِ الْإِصْلَاحِيِّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الدِّينُ الْمَدَنِيُّ الْأَعْلَى أَخْذَ الزِّينَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ - يَعْنِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ - لَمَا نَقَلَ أُمَمًا وَشُعُوبًا كَثِيرَةً مِنَ الْوَحْشِيَّةِ الْفَاحِشَةِ إِلَى الْحَضَارَةِ الرَّاقِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُ هَذَا الْفَضْلَ لَهُ مَنْ يَجْهَلُ التَّارِيخَ وَإِنْ كَانَ مَنْ أَهِلْهُ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي مُتَحَذْلِقَةِ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَجْلِسُ فِي مَلْهًى أَوْ مَقْهًى أَوْ حَانَةٍ مُتَّكِئًا مُمِيلًا طَرْبُوشَهُ عَلَى رَأْسِهِ
يَقُولُ: مَا مَعْنَى جَعْلِ أَخْذِ زِينَةِ النَّاسِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبَشَرِ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى وَحْيٍ إِلَهِيٍّ وَلَا شَرْعٍ دِينِيٍّ؟ وَقَدْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ إِرْشَادٌ عَالٍ أَيْضًا فِيهِ صَلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا عَصْرٍ مِنْ
341
الْأَعْصَارِ، وَكُلُّ مَا بَلَغُوهُ مِنْ سِعَةِ الْعِلْمِ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يُغْنِهِمْ عَنْهُ، بَلْ هُوَ يُغْنِي الْمُهْتَدِي بِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ مُعْظَمِ وَصَايَا الطِّبِّ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ - وَالْمَعْنَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَكُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاشْرَبُوا الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ النَّافِعَةِ الْمُسْتَلِذَّاتِ (وَلَا تُسْرِفُوا) فِيهَا وَلَا تَعْتَدُوا بَلِ الْزَمُوا الِاعْتِدَالَ (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أَيْ إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ لِمَنْفَعَتِكُمْ، لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْإِسْرَافِ بِقَدْرِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ، فَالنَّهْيُ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، بَلْ حَذْفُ الْمَعْمُولِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ لَا تُسْرِفُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ جِنْسَ الْمُسْرِفِينَ - أَيْ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ سُنَنَهُ فِي فِطْرَتِهِمْ، وَشَرِيعَتَهُ فِي هِدَايَتِهِمْ، بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي ضَرَرِ أَبْدَانِهِمْ، وَضَيَاعِ أَمْوَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَضَارِّ الْإِسْرَافِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ. أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ " وَفِي مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ إِذَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. وَالْمَخِيلَةُ (بِفَتْحِ الْمِيمِ بِوَزْنِ سَفِينَةٍ) الْخُيَلَاءُ وَالْإِعْجَابُ وَالْكِبْرُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ " وَلَا تُسْرِفُوا " قَالَ: فِي الثِّيَابِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: مِنَ السَّرَفِ أَنْ يَكْتَسِيَ الْإِنْسَانُ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قَالَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَفِي أُخْرَى قَالَ: أَحَلَّ اللهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً.. وَلَمْ يَذْكُرِ اللِّبَاسَ وَالْمَخِيلَةَ تَظْهَرُ فِيهِ وَلَا تَظْهَرُ فِي نَفْسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنَّمَا قَدْ تَظْهَرُ فِي أَوَانِيهَا كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِسْرَافِ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْحُدُودُ مِنْهَا طَبِيعِيٌّ كَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالظَّمَأِ وَالرَّيِّ، فَلَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِذَا أَحَسَّ بِالْجُوعِ وَمَتَى
شَعَرَ بِالشِّبَعِ كَفَّ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلِذُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِالظَّمَأِ وَاكْتَفَى بِمَا يُزِيلُهُ رَيًّا فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لِاسْتِلْذَاذِ بَرْدِ الشَّرَابِ أَوْ حَلَاوَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا فِي أَكْلِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ نَافِعًا لَهُ - وَمِنْهَا اقْتِصَادِيٌّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الثَّلَاثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَخْلِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْتَغْرِقُ كَسْبَهُ، فَمَنْ نَفَيْنَا عَنْهُ الْإِسْرَافَ الطَّبِيعِيَّ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، قَدْ يَكُونُ مُسْرِفًا فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ نَوْعُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ مِمَّا لَا يَفِي دَخْلَهُ بِمِثْلِهِ - وَمِنْهَا عَقْلِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ، وَمِنْهَا عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَمِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمِنَ الشَّرَابِ الْخَمْرَ وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ مِنْهُمَا كَالسُّمُومِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ الْحَرِيرَ الْمُصْمَتَ أَيِ الْخَالِصَ وَكَذَا الْغَالِبَ - عَلَى
وَالْأَصْلُ فِي الْإِسْرَافِ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْحُدُودُ مِنْهَا طَبِيعِيٌّ كَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ وَالظَّمَأِ وَالرَّيِّ، فَلَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِذَا أَحَسَّ بِالْجُوعِ وَمَتَى
شَعَرَ بِالشِّبَعِ كَفَّ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلِذُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَلَوْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِالظَّمَأِ وَاكْتَفَى بِمَا يُزِيلُهُ رَيًّا فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لِاسْتِلْذَاذِ بَرْدِ الشَّرَابِ أَوْ حَلَاوَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا فِي أَكْلِهِ وَشَرَابِهِ، وَكَانَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ نَافِعًا لَهُ - وَمِنْهَا اقْتِصَادِيٌّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الثَّلَاثَةِ عَلَى نِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ دَخْلِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْتَغْرِقُ كَسْبَهُ، فَمَنْ نَفَيْنَا عَنْهُ الْإِسْرَافَ الطَّبِيعِيَّ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، قَدْ يَكُونُ مُسْرِفًا فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ نَوْعُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ مِمَّا لَا يَفِي دَخْلَهُ بِمِثْلِهِ - وَمِنْهَا عَقْلِيٌّ أَوْ عِلْمِيٌّ، وَمِنْهَا عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَمِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمِنَ الشَّرَابِ الْخَمْرَ وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، كَمَا حَرَّمَ كُلَّ ضَارٍّ مِنْهُمَا كَالسُّمُومِ، وَمِنَ اللِّبَاسِ الْحَرِيرَ الْمُصْمَتَ أَيِ الْخَالِصَ وَكَذَا الْغَالِبَ - عَلَى
342
الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ - فَهَذِهِ أَشْيَاءٌ مُحَرَّمَةٌ بِأَعْيَانِهَا، فَلَا تُبَاحُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. وَحَرَّمَ مِمَّا يُلَابِسُهَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهَذَا وَمَا قَبِلَهُ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُ مِنَ السَّرَفِ الَّذِي يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَنَهَى أَيْضًا عَنْ لِبَاسِ الشُّهْرَةِ وَعَنْ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِهِمْ.
وَاعْتَبَرَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ عُرْفَ النَّاسِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (٦٥: ٧) الْآيَةَ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْغَنِيِّ لِزَوْجَتِهِ الْغَنِيَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ غِذَاءٍ وَلِبَاسٍ، وَلَكِنَّ دَرَجَاتِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا وَتَحْدِيدُهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ عُرْفُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنْهُمُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي طَاقَتِهِمْ - وَمَنْ تَجَاوَزَ طَاقَتَهُ مُبَارَاةً لِمَنْ هُمْ فِي الثَّرْوَةِ مِثْلُهُ مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَوْ لِمَنْ هُمْ أَغْنَى مِنْهُ وَأَقْدَرُ كَانَ مُسْرِفًا، وَكَمْ خَرَّبَتْ هَذِهِ الْمُبَارَاةُ وَالْمُنَافَسَةُ مِنْ بُيُوتٍ كَانَتْ عَامِرَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتُّبِعَتْ فِيهَا أَهْوَاءُ النِّسَاءِ فِي التَّنَافُسِ فِي الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، وَالْمُهُورِ وَتَجْهِيزِ الْعَرَائِسِ وَاحْتِفَالَاتِ الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ الْوَلَائِمِ وَالْوَضَائِمِ وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَرَى مِنَ الْعَارِ أَنْ تَلْبَسَ الْغِلَالَةَ أَوِ الْحُلَّةَ فِي زِيَارَتِهَا لِأَمْثَالِهَا مَرَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ زِيَارَةٍ مِنْ حُلَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَهَذَا سَرَفٌ كَبِيرٌ وَضَرَرُهُ عَلَى الْأُمَّةِ أَكْبَرٌ مِنْ ضَرَرِهِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي تَأْتِي بِكُلِّ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنَ الْبِلَادِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَتَذْهَبُ ثَرْوَتُهَا إِلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى اسْتِذْلَالِهِمْ وَسَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ.
وَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ فِي التَّقَشُّفِ: فَإِنَّ هَذَا الْهَدْيَ الْقُرْآنِيَّ هُوَ أَصْلُ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ فَلَهُ سَبَبٌ يَعْرِفُهُ الْوَاقِفُ عَلَى جُمْلَةِ سِيرَتِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَافُوا عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ بِالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ إِلَى تِلْكَ السَّعَةِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا.
عَلَى أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى التَّقَشُّفِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ تَدَيُّنًا مَعْهُودٌ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ كَضِدِّهِ، وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَصْدُ هُوَ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ الشَّرْعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ مِنَ الْإِسْرَافِ ضَعِيفٌ وَمُعَارَضٌ بِالصِّحَاحِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَاجَهْ " إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَ " ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَحِكْمَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يَكْبَحْ جُمُوحَهَا بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ عَنْ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا
وَاعْتَبَرَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ عُرْفَ النَّاسِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (٦٥: ٧) الْآيَةَ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْغَنِيِّ لِزَوْجَتِهِ الْغَنِيَّةِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ غِذَاءٍ وَلِبَاسٍ، وَلَكِنَّ دَرَجَاتِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا وَتَحْدِيدُهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ عُرْفُ الْمُعْتَدِلِينَ مِنْهُمُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي طَاقَتِهِمْ - وَمَنْ تَجَاوَزَ طَاقَتَهُ مُبَارَاةً لِمَنْ هُمْ فِي الثَّرْوَةِ مِثْلُهُ مِنَ الْمُسْرِفِينَ أَوْ لِمَنْ هُمْ أَغْنَى مِنْهُ وَأَقْدَرُ كَانَ مُسْرِفًا، وَكَمْ خَرَّبَتْ هَذِهِ الْمُبَارَاةُ وَالْمُنَافَسَةُ مِنْ بُيُوتٍ كَانَتْ عَامِرَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتُّبِعَتْ فِيهَا أَهْوَاءُ النِّسَاءِ فِي التَّنَافُسِ فِي الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ، وَالْمُهُورِ وَتَجْهِيزِ الْعَرَائِسِ وَاحْتِفَالَاتِ الْأَعْرَاسِ وَالْمَآتِمِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ الْوَلَائِمِ وَالْوَضَائِمِ وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَرَى مِنَ الْعَارِ أَنْ تَلْبَسَ الْغِلَالَةَ أَوِ الْحُلَّةَ فِي زِيَارَتِهَا لِأَمْثَالِهَا مَرَّتَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ زِيَارَةٍ مِنْ حُلَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَهَذَا سَرَفٌ كَبِيرٌ وَضَرَرُهُ عَلَى الْأُمَّةِ أَكْبَرٌ مِنْ ضَرَرِهِ عَلَى الْأَفْرَادِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي تَأْتِي بِكُلِّ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنَ الْبِلَادِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَتَذْهَبُ ثَرْوَتُهَا إِلَى مَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى اسْتِذْلَالِهِمْ وَسَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ.
وَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ فِي التَّقَشُّفِ: فَإِنَّ هَذَا الْهَدْيَ الْقُرْآنِيَّ هُوَ أَصْلُ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ فَلَهُ سَبَبٌ يَعْرِفُهُ الْوَاقِفُ عَلَى جُمْلَةِ سِيرَتِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَافُوا عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ بِالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ إِلَى تِلْكَ السَّعَةِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا.
عَلَى أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى التَّقَشُّفِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ تَدَيُّنًا مَعْهُودٌ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ كَضِدِّهِ، وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَصْدُ هُوَ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ الشَّرْعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ مِنَ الْإِسْرَافِ ضَعِيفٌ وَمُعَارَضٌ بِالصِّحَاحِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَاجَهْ " إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَ " ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَحِكْمَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يَكْبَحْ جُمُوحَهَا بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ عَنْ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا
343
تَقُودُهُ إِلَى الْإِسْرَافِ وَإِلَى شُرُورٍ أُخْرَى؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللهُ الصِّيَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَقَدْ مَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْغُلُوِّ وَشَرَعُوا فِيهِ بِتَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ وَغَشَيَانِ النِّسَاءِ حَتَّى اسْتَأْذَنَ بَعْضُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِصَاءِ فَأَدَّبَهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ تَفْصِيلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) (٥: ٨٧) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ وَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ مَا عَنَى بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ بِنَقْلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الزُّهْدِ فِي الطَّعَامِ كَالْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ فَأَكْثَرُهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَوْضُوعُ وَالضَّعِيفُ وَأَقَلُّهُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ مِنْ خَشِنٍ وَمُسْتَلَذٍّ، لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسَرِينَ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلِلْمُوسَرِينَ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِهِ، وَقَدْ أُيْسِرُوا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ اللَّحْمُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِالطَّعَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمَاءِ وَالشَّرَابِ، فَلَا يَشْرَبُ إِلَّا النَّظِيفَ الْعَذْبَ، وَيُحِبُّ الْبَارِدَ الْحُلْوَ، حَتَّى كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَكَانَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ يَلْبَسُ مَا كَانَ يَلْبَسُ قَوْمُهُ. وَلَبِسَ مِنْ خَشِنِ اللِّبَاسِ وَمَنْ أَجْوَدِ أَنْوَاعِهِ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ضَرُورَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَلَكِنْ ضَلَّ فِيهَا فَرِيقَانِ مِنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ - فَرِيقُ الْبُخَلَاءِ وَالْغُلَاةِ فِي الدِّينِ، الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ النَّافِعَةِ بُخْلًا وَشُحًّا أَوْ يُحَرِّمُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْرِيمًا دَائِمًا أَوْ فِي أَيَّامٍ أَوْ أَشْهُرٍ مَخْصُوصَةٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِضْعَافِ الْجِسْمِ - وَفَرِيقُ الْمُتْرَفِينَ الْمُسْرِفِينَ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ كَمَا تَتَمَتَّعُ الْأَنْعَامُ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا فِي تَمَتُّعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا تَقِفُ عِنْدَ حَاجَةِ فِطْرَتِهَا دُونَهُمْ فَلَا تَعْدُوا فِيهَا دَاعِيَةَ غَرِيزَتِهَا الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا حَيَاتَهَا الْفَرْدِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا الْمُتْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي ذَلِكَ فَيَأْكُلُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْجُوعِ وَيَشْرَبُونَ عَلَى غَيْرِ ظَمَأٍ، وَيَتَجَاوَزُونَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا يَتَجَاوَزُونَهُ فِي غَيْرِهِمَا وَيَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّوَابِلِ وَالْمُحَرِّضَاتِ لِلشَّهْوَةِ فَيُصَابُونَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِتَمَدُّدِ الْمَعِدَةِ، وَسُوءِ الْهَضْمِ وَفَسَادِ الْأَمْعَاءِ مِنَ التُّخْمَةِ، وَكَثْرَةِ الْفَضَلَاتِ فِي الْجِسْمِ الَّتِي تُحْدِثُ تَصَلُّبَ الشَّرَايِينِ الْمُعَجِّلَ بِالْهَرَمِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي شَهْوَةِ دَاعِيَةِ النَّسْلِ الَّتِي بَيَّنَّا ضَرَرَ الِانْهِمَاكِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا قَرِيبًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ سَتْرِ السَّوْءَتَيْنِ حَتَّى فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ لِأَجْلِ هَذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي زِينَةِ اللِّبَاسِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ضَرُورَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَلَكِنْ ضَلَّ فِيهَا فَرِيقَانِ مِنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ - فَرِيقُ الْبُخَلَاءِ وَالْغُلَاةِ فِي الدِّينِ، الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ النَّافِعَةِ بُخْلًا وَشُحًّا أَوْ يُحَرِّمُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْرِيمًا دَائِمًا أَوْ فِي أَيَّامٍ أَوْ أَشْهُرٍ مَخْصُوصَةٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِضْعَافِ الْجِسْمِ - وَفَرِيقُ الْمُتْرَفِينَ الْمُسْرِفِينَ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ كَمَا تَتَمَتَّعُ الْأَنْعَامُ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا فِي تَمَتُّعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا تَقِفُ عِنْدَ حَاجَةِ فِطْرَتِهَا دُونَهُمْ فَلَا تَعْدُوا فِيهَا دَاعِيَةَ غَرِيزَتِهَا الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا حَيَاتَهَا الْفَرْدِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا الْمُتْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي ذَلِكَ فَيَأْكُلُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْجُوعِ وَيَشْرَبُونَ عَلَى غَيْرِ ظَمَأٍ، وَيَتَجَاوَزُونَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا يَتَجَاوَزُونَهُ فِي غَيْرِهِمَا وَيَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّوَابِلِ وَالْمُحَرِّضَاتِ لِلشَّهْوَةِ فَيُصَابُونَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِتَمَدُّدِ الْمَعِدَةِ، وَسُوءِ الْهَضْمِ وَفَسَادِ الْأَمْعَاءِ مِنَ التُّخْمَةِ، وَكَثْرَةِ الْفَضَلَاتِ فِي الْجِسْمِ الَّتِي تُحْدِثُ تَصَلُّبَ الشَّرَايِينِ الْمُعَجِّلَ بِالْهَرَمِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي شَهْوَةِ دَاعِيَةِ النَّسْلِ الَّتِي بَيَّنَّا ضَرَرَ الِانْهِمَاكِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا قَرِيبًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ سَتْرِ السَّوْءَتَيْنِ حَتَّى فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ لِأَجْلِ هَذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي زِينَةِ اللِّبَاسِ.
344
هَذَا وَإِنَّ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ قَوَاعِدُ وَأُصُولٌ، فُرِّعَتْ مِنْهَا مَسَائِلُ وَفُرُوعٌ فَيَحْسُنُ الِاسْتِنَارَةُ بِهَا وَبِعِلْمِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ: وَاتِّبَاعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (٤: ٥).
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) : حَرَّمَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا زِينَةَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ تَعَبُّدًا وَقُرْبَةً، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَذَلِكَ، وَحَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَحَرَّمَ غَيْرُهُمْ
مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ كَذَلِكَ. فَجَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. الْمُطَهِّرُ الْمُرَبِّي لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ - يُنْكِرُ هَذَا التَّحَكُّمَ وَالظُّلْمَ لِلنَّفْسِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) إِنْكَارِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ. لَا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ سُبْحَانَهُ حَقَّ التَّبْلِيغِ عَنْهُ لِغَيْرِهِمْ، وَإِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُؤْذِنُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَالْمِنَّةِ بِهَا. وَإِخْرَاجُهَا لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَوَادِّهَا لَهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ طَرَائِقَ صُنْعِهَا، بِمَا أَوْدَعَ فِي فَطْرِهِمْ مِنْ حُبِّهَا. وَفِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِبْدَاعِ فِيهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ لِلْمُنْعِمِ شُكْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ بِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ عِلْمًا (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حَلَالًا يُؤْخَذُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهَا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٦٨) وَالْمَائِدَةِ (٥: ٩٠ - ٩١).
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْبَشَرَ مُسْتَعِدِّينَ لِإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمْ مَيْلًا إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ وَكَشْفِ الْمَجْهُولَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَفِيَّاتِ، لَا حَدَّ لَهُ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَحُبًّا لِلشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالزِّينَةِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، لَا حَدَّ لَهُ أَيْضًا. فَانْدَفَعُوا بِهَذِهِ الْغَرَائِزِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ كَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ، فَلَمْ يَدَعُوا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِلَّا عَنَوْا بِالْبَحْثِ فِيهِ، وَلَا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِعُقُولِهِمْ إِلَّا بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْثُهُمْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لِأَغْرَاضٍ شَتَّى لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُقْضَى عَلَيْهَا بِالنِّهَايَةِ وَكَأَنَّمَا هُمْ مَخْلُوقُونَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا حَدَّ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ غَرَائِزُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَدٌّ.
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) : حَرَّمَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا زِينَةَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ تَعَبُّدًا وَقُرْبَةً، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَذَلِكَ، وَحَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَحَرَّمَ غَيْرُهُمْ
مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ كَذَلِكَ. فَجَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. الْمُطَهِّرُ الْمُرَبِّي لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ - يُنْكِرُ هَذَا التَّحَكُّمَ وَالظُّلْمَ لِلنَّفْسِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) إِنْكَارِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ. لَا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ سُبْحَانَهُ حَقَّ التَّبْلِيغِ عَنْهُ لِغَيْرِهِمْ، وَإِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُؤْذِنُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَالْمِنَّةِ بِهَا. وَإِخْرَاجُهَا لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَوَادِّهَا لَهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ طَرَائِقَ صُنْعِهَا، بِمَا أَوْدَعَ فِي فَطْرِهِمْ مِنْ حُبِّهَا. وَفِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِبْدَاعِ فِيهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ لِلْمُنْعِمِ شُكْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ بِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ عِلْمًا (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حَلَالًا يُؤْخَذُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهَا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٦٨) وَالْمَائِدَةِ (٥: ٩٠ - ٩١).
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْبَشَرَ مُسْتَعِدِّينَ لِإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمْ مَيْلًا إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ وَكَشْفِ الْمَجْهُولَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَفِيَّاتِ، لَا حَدَّ لَهُ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَحُبًّا لِلشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالزِّينَةِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، لَا حَدَّ لَهُ أَيْضًا. فَانْدَفَعُوا بِهَذِهِ الْغَرَائِزِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ كَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ، فَلَمْ يَدَعُوا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِلَّا عَنَوْا بِالْبَحْثِ فِيهِ، وَلَا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِعُقُولِهِمْ إِلَّا بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْثُهُمْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لِأَغْرَاضٍ شَتَّى لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُقْضَى عَلَيْهَا بِالنِّهَايَةِ وَكَأَنَّمَا هُمْ مَخْلُوقُونَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا حَدَّ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ غَرَائِزُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَدٌّ.
345
وَلَقَدْ كَانَتْ غَرِيزَةُ حُبِّ الزِّينَةِ وَغَرِيزَةُ حُبِّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ سَبَبًا لِتَوَسُّعِ الْبَشَرِ فِي أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَمَا يُرَقِّيهَا مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ وَإِظْهَارِ عَجَائِبِ عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْعَالَمِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْخَلْقِ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّ مَا تَنْبُتُ لَهُ الْأَرْضُ مِنَ الْغِذَاءِ لِحِفْظِ حَيَاةِ أَفْرَادِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَبَقَاءِ حَيَاتِهِ النَّوْعِيَّةِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَ