تفسير سورة الأعراف

تفسير المنار
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة الأعراف
( وهي السورة السابعة في العدد وسادسة السبع الطول وآياتها ٢٠٥ آيات عند القراء البصريين والشاميين و ٢٠٦ عند المدنيين والكوفيين )
الأعراف مكية بالإجماع وقد أطلق القول في ذلك عن ابن عباس وابن الزبير واستثنى قتادة آية ﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ ( الأعراف ١٦٣ ) رواه عنه أبو الشيخ وابن حبان. قال السيوطي في الإتقان : وقال غيره : من هنا إلى ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ﴾ ( الأعراف ١٧٢ ) مدني اه وكأن قائل هذا رأى أن هذه الآيات متصل بعضها بعض بالمعنى فلا يصح أن يكون بعضها مكيا وبعضها مدنيا، وبهذا النظر نقول : إن ما قبل هذه الآيات وما بعدها في سياق واحد وهو قصة بني إسرائيل على أن الغاية وهي :﴿ وإذ أخذ ربك ﴾ غير داخلة في المغيا فهي بدء سياق جديد عام. ومقتضى ذلك أن السورة كلها مكية وهو الصحيح المختار.
مناسبتها لما قبلها
سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام فلو كان ترتيب السبع الطول مراعى فيه تقديم الأطول فالأطول مطلقا لقدمت الأعراف على الأنعام على أنه قد روي أنها نزلت قبلها، والظاهر أنها نزلت دفعة واحدة مثلها. فلم يبق وجه لتقديم الأنعام إلا أنها أجمع لما تشترك السورتان فيه، وهو أصول العقائد وكليات الدين التي أجملنا جل أصولها في خاتمة تفسيرها، وكون ما أطيل به في الأعراف كالشرح لما أوجز به فيها أو التفصيل بعد الإجمال، ولاسيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم، وقد بينا بعض هذا التناسب بين السورتين مع ما قبلها في فاتحة تفسير الأولى ( ج ٧ تفسير ) وسنزيده تفصيلا فيما نذكره في خاتمة الأعراف على نحو ما ذكرنا في خاتمة الأنعام من الأصول الكلية فيها إن أحيانا الله تعالى. وأما سبب تأخر نزول الأنعام فهو مبني على ما علم من التدريج في تلقين الدين ومراعاة استعداد المخاطبين فيه وهي أجمع للأصول الكلية ولرد شبهات المشركين، والفرق ظاهر بين ما يراعى من الترتيب في دعوتهم وما يراعى في تلاوة المؤمنين للقرآن.
وذكر السيوطي في المناسبة بين السورتين ما نقله الآلوسي عنه وهو أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها ﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ ( الأنعام ٢ ) وقال سبحانه في بيان القرون ﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ ( الأنعام ٦ ) وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ ( الأنعام ١٦٥ ) ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله خليفة في الأرض وقال سبحانه في قصة عاد ﴿ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ ( الأعراف ٦٩ ) وفي قصة ثمود ﴿ جعلكم خلفاء من بعد عاد ﴾ ( الأعراف ٧٤ ) وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ ( الأنعام ٥٤ ) وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ﴾ ( الأعراف ١٥٦ ).
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه تقدم ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ﴾ ( الأنعام ١٥٣- ١٥٥ ) وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ﴿ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ ( الأنعام ١٥٩ ) ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) قال جل شأنه في مفتتح هذه السورة ﴿ فلنسألن الذين أرسل إليه ﴾ ( الأعراف ٦ ) وذلك من شرح التنبئة المذكورة وأيضا لما قال سبحانه :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ ( الأنعام ١٦٠ ) الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ ( الأعراف٨ ) ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته. ثم من خفت وهو على العكس. ثم أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاتهم اه. ونكتفي بهذا مع ما أشرنا إليه قبله هنا وإن كان من السهل بسطه بأوضح من هذه العبارة والزيادة عليه، ونشرع في تفسير السورة مستعينين عليه بإلهامه وتفهيمه عز وجل.

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ المص ١ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ٣ ﴾
﴿ المص ﴾ هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا ألف. لام. ميم. صاد. والمختار عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء. فهي كأداة الافتتاح " ألا " وهاء التنبيه. وإنما خصت سور معينة١ من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا الضرب من الافتتاح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية إلا الزهراوين البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر الكتاب إلا سورة مريم وسورتي العنكبوت والروم وسورة " ن " وفي كل منهما معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب.
فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها. ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب ﴾ ( مريم ١٦ ) والمراد بالكتاب القرآن فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى ﴿ واذكر في الكتاب ﴾.. وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ ( هود ٤٩ ) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته ﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليه وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾ ( يوسف ١٠٢ ) وختمت هذه السورة " أي سورة مريم " بإبطال الشرك وإثبات التوحيد ونفي اتخاذ الله تعالى لولد وتقرير عقيدة البعث والجزاء. فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين وصدق كتابه الحكيم.
وأما سورة العنكبوت وسورة الروم فكل منهما قد افتتحت بعد " الم " بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة. فالأول الفتنة في الدين. وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء واضطهادهم لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة. كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه وأكثرهم من الضعفاء الذين لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء. وكان المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم. فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها الصادقون من الكاذبين، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها.
والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه وبما سيعقبه مما هو ضمير الغيب. ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي كان قد طال أمره بينهما فأخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين. وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على المشركين، وقد صدق الخبر الوعد فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولو فات من تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئا فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان. وكان هذا بعد انتشار الإسلام بعض الانتشار، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس ولاسيما في موسم الحاج. وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون ﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ ( فصلت ٢٦ ).
وأما سورة " ن " ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى اله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون عنه، وهي أول ما نزل بعد سورة ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وكانت شبهة رميه حماه الله وكرمه بتهمة الجنون مما يتبادر إلى الأذهان من غير عداوة ولا مكابرة. فإن رجلا أميا فقيرا وادعا مسالما، وليس برئيس قوم، ولا قائد جند، ولا ذي تأثير في الشعب بخطابة ولا شعر، يدعي أن جميع البشر على ضلال الكفر والفسق، وأنه مرسل من الله لهداية هؤلاء الخلق وأن دينه سيهدي العرب والعجم وإصلاح شرعه سيعم جميع الأمم، لا يستغرب من مدارك أولئك المشركين الأميين الجاهلين بسنن الله في الأمم وآياته في تأييد المرسلين، وأن يكون أول ما يصفون به صاحب هذه الدعوى قبل ظهور الآيات والعلوم بقولهم :" إنه لمجنون " ٢ وبعد ظهورها بقولهم :" ساحر أو كاهن أو مجنون " ٣ وبعد ظهور العلم والعرفان بقولهم :" معلم مجنون " ٤ ﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون ﴾ ( الذاريات ٥٢ ).
نعم قد قيل : إن " ن " هنا بمعنى الدواة ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة كما قال في أول ما نزل عليه قبلها ﴿ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ﴾ ( العلق ٣- ٤ ) وقيل إنه بمعنى الحوت لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت يونس عليه السلام. ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة. بل كانت تذكر مركبة ومعربة كقوله :﴿ وذا النون إذ ذهبت مغاضبا ﴾ ( الأنبياء ٨٧ ) وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر كما يصح في سائر تلك الحروف أن يكون فيها إشارات إلى معاني معينة تظهر لبعض الناس دون بعض أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة بشرط أن تتفق مع هداية القرآن وإن لم يصح أن يقال : إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها. ومن هذا القبيل الأخير جعل بعض مفسري السلف هذه الأحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى أو من جمل من الكلام تشتمل عليها : أخرج أكثر رواة التفسير المأثور والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عابس في ( المص ) قال أنا الله أفصل ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير وروى هو وابن أبي حاتم عن السدي فيه قال : هو المصور. وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي فيه قال : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. وأبو الشيخ عن الضحاك فيه قال : أنا الله الصادق. وروى أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ المص وطه وطسم وحمعسق وق ون ﴾ وأشباه هذا أنه قسم أقسم الله به وهي من أسماء الله تعالى.
وأقرب من هذا إلى الفهم أنها أسماء للسور والاسم المرتجل لا يعلل وهو ما اخترناه في تفسير ألم من سورتي البقرة وآل عمران وعليه الأكثر، وهو لا ينافي ما بيناه من الحكمة آنفا وهي التي فتح علينا بها في درس التفسير الذي كنا نلقيه في مدرسة دار الدعوة والإرشاد وقد فصلناه فيه أتم تفصيل، إذ أثبتنا أن من حسن البيان وبلاغة التعبير، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع والتأثير، أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها، ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها. وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان ويجب أن يكون فيها الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى ؟
ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر، أو غنة الاسترحام والعطف، أو رنة النعي وإثارة الحزن أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع أو صخب التهويش وقت الجدل ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات٥ ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها. حتى رووا عن عليان الممرور ( الموسوس ) أنه سئل أي بيت تقوله العرب أشعر قال البيت الذي لا يحجب عن القلب قيل ماذا ؟ قال مثل قول جميل :
ألا أيها النوام ويحكم هبوا أسائلكم هل يقتل الرجل الحب
وكنت أحفظ أنه رفع صوته بالمصراع الأول وخفضه ورققه بالمصراع الثاني وعلله بأنه خاطب بالأول غافلين سماهم نواما فإنه أراد الإيقاظ والتنبيه. وخاطب بالثاني مستيقظين يسألهم عن أمر يرق له القلب ويخشع له الصوت ولكني راجعت العقد الفريد فرأيته ينقل عنه أنه عكس في الصوت وعلله بقوله : ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له.
ومنه أنه قد ورد الأمر في القرآن نفسه بترتيله وقراءته على مكث والحث على الخشوع فيه والتأثر بقراءته، وفي المسند والسنن من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" زينوا القرآن بأصواتكم " ٦ وفي رواية " حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " ٧ وكان أهل البصيرة في الدين الجامعين بين العلم والعمل والتخلق يراعون في التلاوة والمعاني وما يؤثر في القلب.
قال أبو حامد الغزالي في الأدب الثامن من آداب التلاوة الباطنة وهو ( التأثر ) : هو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره، ثم قال : فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط " أي كقوله تعالى :﴿ إني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ ( طه ٨٢ ) يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعارا لعظمته وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولدا وصاحبة يغض من صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقا إليها وعند وصف النار ترتعد فرائضه خوفا منها اه وقد ذكر في موضع آخر أن بعضهم قرأ قوله تعالى حكاية عن فرعون ﴿ فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى ﴾ ( النازعات ٢٣- ٢٤ ) فخفض صوته كالمستحي من الله عز وجل.
أقول والواجب في مثل ما ذكر أن يكون خاليا من التكلف والصنعة التي يقصد بها التأثير في قلوب الناس لكسب إعجابهم كما يفعل المراءون، ولكن بعض المسلمين اتبعوا في هذا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم الذين جعلوا عبادتهم أغاني ومعازف مطربة أو مشجية لاستمالة الناس إليهم. وقد ورد في الحديث " اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم من يعجبه شأ
١ وهي ٢٩ سورة بعدد حروف الهجاء العربية بعد الألف اللينة منها وهي صنف تلك الأحرف المستقلة إذا لم تعد منها لأنها لا ينطق بها وحدها ومن الغريب انها جامعة لكل مخارج الحروف (المؤلف)..
٢ هو ما حكاه عنهم في آخر سورة "ن" بعد الرد عليهم في أولها، وفي أوائل سورة الحجر..
٣ أشير إليه في سورة الطور..
٤ حكاه عنهم في سورة حم الدخان..
٥ مما شرحناه في ذلك الدرس أن الشعراء والخطباء من العرب وأدباء المولدين كانوا يراعون في إلقاء الكلام وإنشاد الشعر مناسبة الصوت للمعنى ومراعاة تأثير في النفس (المؤلف)..
٦ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٢ وأبو داود في الوتر باب ٢٠ والنسائي في الافتتاح باب ٨٣ وابن ماجه في الإقامة باب ١٧٦ والدرامي في فضائل باب ٣٤ واحمد في المسند ٤/ ٢٨٣- ٢٨٥- ٢٩٦- ٣٠٤..
٧ أخرجه بهذا اللفظ الدامي في فضائل القرآن باب ٣٤..
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ إذا قيل إن ﴿ ألمص ﴾ اسم للسورة فهو مبتدأ خبره كتاب وإلا فهذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره ذلك كتاب، كقوله : ألم ذلك الكتاب : وتنكير كتاب للتعظيم والتفخيم. والمراد به على القول الثاني جملة القرآن المشار إلى بعضه المنزل بالفعل وجملة " أنزل إليك " صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل إليه ولذلك سميت الليلة التي كان بدء نزوله فيها بليلة القدر. وإنما قيل :" أنزل " ولم يقل أنزله الله أو أنزلناه إيجازا مؤذنا بأن المنزل مستغن عن التعريف وعن إسناده إلى الضمير أو الاسم الصريح فإن هذا الكتاب البديع لا يمكن أن يكون إلا من فوق ذلك العرش الرفيع.
﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ﴾ حرج الصدر ضيقه وغمه، وهو من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه سبيلا ينفذ منه، أو الذي لا يقلب الزيادة كما قال الراغب، وقد فسر الحج هنا بمعناه اللغوي وروي عن الضحاك، وروي عن ابن عباس ومجاهد تفسيره بالشك كما في الدر المنثور وعزاه ابن كثير إلى مجاهد وقتادة. ووجهوه بأن الشك ضرب من ضروب حرج الصدر وضيق القلب، وتقدم تفسير مثله في الأنعام ( الآية ١٢٤ ) وقال الراغب في هذه الجملة قيل هي نهي وقيل دعاء وقيل حكم منه نحو ﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ ( الشرح ١ ) اه.
والنهي أو الدعاء عن أمر يتعلق بالمستقبل دليل على أنه مظنة الوقوع في نفسه، وبحسب سنن الله ونظام الأسباب في خلقه، والأمر هنا كذلك إلا أن يحول دون وقوعه مانع كعناية الله وتأييده، فإن هذا القرآن أمر عظيم بل هو أعظم شأن بين الله تعالى وبين عباده وقد كان في أول ما نزل قوله عز وجل :﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ﴾ ( المزمل ٥ ) ثم نزل في تفسيره ﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ ( الحشر ٢١ ) وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه الوحي وهو يتفصد عرقا، وكان يكاد يهيم بشدة وقعه وعظم تأثيره حتى كاد يلقى بنفسه من شاهق الجبل، وأي قلب يحتمل وصدر يتسع لكلام الله العظيم ينزل به عليه الروح الأمين، إذا لم يتول سبحانه بفضله شرحه، وإعانته على حمله وهو ما امتن به على رسوله بقوله ﴿ ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ﴾ ( الشرح ١- ٣ ) فهذا وجه مظنة وقوع الحرج بمعناه اللغوي الأصلي بالنسبة إلى الرسول نفسه، وكونه تعالى صرفه عنه بشرحه لصدره. ويصح فيه أن يكون النهي تكوينيا.
وله وجه آخر باعتبار تبليغه إياه فإنه صلى الله عليه وسلم كلف به هداية الثقلين، وإصلاح أهل الخافقين، ومن المتوقع المعلوم بالبداهة أن المتصدي لذلك لا بد أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة، والطعن في كتاب الله، والإعراض عن آيات الله، وهي أسباب لضيق الصدر كما قال تعالى في آخر سورة الحجر :﴿ ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون ﴾ ( الحجر ٩٧ ) وفي آخر سورة النحل بعدها ﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾ ( النحل ١٢٧ ) ومثله في سورة النمل. وقال تعالى في أوائل سورة هود ﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ؟ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ﴾ ( هود ١٢ ) والمراد من النهي عن أمر طبيعي كهذا الاجتهاد في مقاومته والتسلي عنه وبوعد الله والتأسي بمن سبق من رسله عليهم السلام.
فهذان الوجهان الوجيهان من تفسير القرآن بالقرآن ينافيان ما روي من تفسير الحرج بالشك، ويغنيان عما تمحله المفسرون في توجيهه بالتأويل الشبيه بالمحل وما أكثر ما روي في التفسير بصحيح حتى بالغ الإمام احمد فقال لا يصح فيه شيء، وما كل ما صح منه مقبول، إلا إذا صح رفعه إلى المعصوم، صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قوله تعالى في سورة يونس : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } ( يونس ٩٤ ) فهو على سبيل فرض المحال المألوف في أمثال هذه المواضع والمحال وشرط " إن " لا يقتضي الوقوع بحال من الأحوال. ومثله في هذه السورة قوله تعالى بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن دعاء غير الله ﴿ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾ ( يونس ١٠٦ ) وقوله في غيرها ﴿ قل إن كان للرحمن ولدا فأنا أول العابدين ﴾ ( الزخرف ٨١ ) وفي ابن جرير وغيره انه صلى الله عليه وسلم قال في آية يونس " لا أشك ولا أسأل ".
وقوله تعالى :﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين ﴾ تعليل لإنزال الكتاب والجملة قبله معترضة بين العلة والمعلول لإفادة أن الإنذار به إنما يكون مطلقا أو على وجه الكمال مع انتفاء الحرج من الصدر، وانشراحه للنهوض بأعباء هذا الأمر، وقيل تعليل للنهي عن الحرج على أن اللام مصدرية كقوله :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ﴾ ( الصف ٨ ) أي فلا يكن في صدرك حرج منه لأجل الإنذار به لئلا يكذبك الناس، والإنذار التعليم المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة، وهو يتعدى إلى مفعولين : المنذر والعقاب الذي ينذره أي يخوف من وقوعه به، ومنه قوله :﴿ إنا أنذرناكم عذابا قريبا ﴾ ( النبأ ٤٠ ) وقوله :﴿ وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ ( الأنعام ١٣٠ ) والمفعولان يذكران كلاهما تارة ويذكر أحدهما تارة بعد أخرى بحسب المناسبات وقد حذف كل منهما هنا لإفادة العموم حسب القاعدة أي لتنذر به جميع الناس إذ تبلغهم دين الله وكل ما يتلى عليك في الكتاب من عقابه تعالى لمن يعصي رسله في الدنيا والآخرة فهو إيجاز بليغ يدل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم كقوله في سورة الأنعام ﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ ( الأنعام ٩٣ ) وقد صرح بجعل الإنذار عاما لأمة البعثة كافة بقوله :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ ( الفرقان ١ ) وكثيرا ما يوجه إلى الكفار والظالمين لأنهم هم الذين يعاقبون حتما، وقد يخص به المؤمنون المتقون بأنهم هم المنتفعون به قطعا، كقوله تعالى :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ﴾ ( فاطر ١٨ ) وقوله ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ﴾ ( يس ١١ ) وقوله :﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ ( الأنعام ٥١ ) الآية.
وأما الذكرى فهي مصدر لذكر الشيء بقلبه وبلسانه والاسم الذكر بالضم وكذا بالكسر قال في المصباح : نص عليه جماعة منهم أبو عبيدة وابن قتيبة، وأنكر الفراء الكسر في ذكر القلب وقال : اجعلني على ذكر منك، بالضم لا غير ولهذا اقتصر جماعة عليه اه وقال الراغب : والذكرى كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر. اه ولعله أخذ هذا المعنى من كثرة استعمالها في القرآن بمعنى التذكر النافع والموعظة المؤثرة ولا أذكر أنها استعملت فيه بمعنى ذكر اللسان إلا في قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ فيما أنت من ذكراها ﴾ ( النازعات ٤٢- ٤٣ ) ولا بمعنى مطلق التذكر إلى في قوله :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ ( الأنعام ٦٨ ) لأنه في مقابل الإنساء. وقد خصها هنا بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ كما قال في الذاريات ﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ ( الذاريات ٥٥ ) ومثله في سورة العنكبوت ﴿ وذكرى لقوم يؤمنون ﴾ ( العنكبوت ٥١ ) وفي سورة الأنبياء ﴿ وذكرى للعابدين ﴾ ( الأنبياء ٨٤ ) وفي سورة ص ﴿ وذكرى لأولي الألباب ﴾ ( ص ٤٣ ) وفي سورة ق ﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾ ( ق ٨ ).
والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان سواء كانوا آمنوا عند نزول السورة أم لا. وتقدير الكلام مع ما قبله. أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإيمان وتعظهم ذكرى نافعة مؤثرة لأنهم هم المستعدون للاهتداء به أو أنزل إليك للإنذار العام والذكرى الخاصة، أو وهو ذكرى أو حال كونه ذكرى لمن آمنوا ولمن علم الله أنهم يؤمنون.
﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ﴾ هذا بيان للإنذار العام الذي أمر الرسول بتبليغه إلى جميع الأنام، وهو على تقدير القول الذي يكثر حذفه في مثل هذا المقام لما يدل عليه من الأسلوب وسياق الكلام، أي قل يا أيها الناس اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم، فإنه هو الذي له وحده الحق في شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم، والتحليل لما ينفعكم والتحريم لما يضركم لأنه أعلم بمصلحتكم منكم.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ تتخذونهم من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم، ما يزين لكم ضلال تقاليدكم والابتداع في دينكم، فتولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم، من وضع أحكام وحلال وحرام، زاعمين أنه يجب عليكم تقليدهم لأنهم أعلم منكم أو للاقتداء بما كان عليه آباؤكم فإنما على العالم بدين الله تبليغه وبيانه للمتعلم لا بيان آرائه وظنونه فيه، ولا أولياء تتخذونهم لأجل إنجائكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم، زاعمين أنهم بصلاحهم يقربونكم إليه زلفى، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة أو الدنيا، فإن الله ربكم هو الولي أي الذي يتولى أمر العباد بالتشريع والتدبير، والخلق والتقدير، فله وحده الخلق والأمر وبيده النفع والضر.
﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون ﴾ أي تذكرا قليلا تتذكرون، أو زمنا قليلا تتذكرون ما يجب أن يعلم فلا يجهل ويحفظ فلا ينسى مما يجب للرب تعالى، ويحظر أن يشرك معه غيره فيه، أو قليلا ما تتعظون بما توعظون به فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " تذكرون " بحذف إحدى التاءين وتخفيف الذال وتشديد الكاف، على أن أصلها ( تتذكرون ) وقرأها ابن عامر " يتذكرون " بالياء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق الالتفات، وقرأها الباقون بالتاء وتشديد الذال بإدغام التاء الأخرى فيها.
قد حققنا معنى الولاية لغة وأنواع استعمالها في القرآن مرارا أقربها ما في سورة الأنعام كقوله تعالى ؛ ﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ ( الأنعام ١٢٨ وبينا وجه الحصر في كون الله تعالى هو ولي المؤمنين في تفسير ﴿ قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ﴾ ( الأنعام ١٤ ) وزدنا هذا بيانا في تفسير ﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ﴾ ( الأنعام ٥١ ) وكذا تفسير ﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ﴾ ( الأنعام ٧٠ ) كما بيناه في تفسير آيات أخرى مما قبل سورة الأنعام ومن أوسعها وأعمها بيانا تفسير قوله تعالى :﴿ والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ ( البقرة ٢٥٧ ) الآية وفيه تفصيل لولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين بعضهم لبعض وولاية الطاغوت للكافرين ونكتفي هنا بأن نقول إن الولاية التي هي عبارة عن تولي الأمر منها ما هو خاص برب العباد وإلههم الحق وهي قسمان : أحدهما : شرع الدين عقائده وعباداته وحلاله وحرامه. وثانيهما : الخلق والتدبير الذي هو فوق استطاعة الناس في أمور الأسباب العامة التي مكن الله منها جميع الناس في الدنيا، كالهداية بالفعل، وتسخير القلوب والنصر على الأعداء وغير ذلك وكل ما يتعلق بأمر الآخرة من المغفرة والرحمة والثواب والعقاب فكل ما ورد من حصر الولاية في الله تعالى فالمراد به تولي أمور العباد فيما لا يصل إليه كسبهم وشرع الدين لهم كما فصلناه في تفسير آية البقرة وغيرها.
والمتبادر هنا من النهي عن اتباع الأولياء من دونه تعالى هو النهي عن طاعة كل أحد من الخلق في أمر الدين غير ما أنزله الله من وحيه كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحي من العبادات وما حرموا عليهم من المباحات، كما ورد في الحديث المرفوع في تفسير قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة ٣١ ) وكل من أطاع أحدا طاعة دينية في حكم شرعي لم ينزله ربه إليه فقد اتخذه ربا، والآية نص في عدم جواز طاعة أحد من العلماء ولا الأمراء في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات والحلال والحرام تدينا، وما على العلماء إلا بيان ما أنزله الله وتبليغه وإرشاد الناس إلى فهمه وما عسى أن يخفى عليهم من تطبيق العمل على النص وحكمة الدين في الأحكام كبيان سمت القبلة في البلاد المختلفة، فهم لا يتبعون في ذلك لذواتهم بل المتبع ما أنزله الله بنصه أو فحواه على حسب روايتهم له وتفسيرهم لمعناه، وإنما يطاع أولو الأمر من الأمراء وأهل الحل والعقد في تنفيذ ما أنزله الله تعالى وفيما ناطه بهم من استنباط الأحكام في سياسة الأمة وأقضيتها التي تختلف المصالح فيها باختلاف الزمان والمكان، والآية نص في بطلان القياس ونبذ الرأي في الأمور الدينية المحضة، وقد فصلنا القول في ذلك وما يتعلق به من الأصول والفروع في تفسير ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ ( النساء ٥٨ ) الآية وتفسير قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم ﴾ ( المائدة ١٠٤ ) الآية.
ولا شك في أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على لسانه وكذا اتباعه في أحكامه الاجتهادية فإنه تعالى أمرنا باتباعه وبطاعته وأخبرنا بأنه مبلغ عنه، وقال له ﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ ( النحل ٤٤ ) والجمهور على أن الأحكام الشرعية الواردة في السنة موحى بها وأن الوحي ليس محصورا في القرآن والإمام الشافعي يقول : إنها مستنبطة من القرآن. وقد قال صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " ١ رواه مسلم من حديث رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل وروى من حديث موسى ابن طلحة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فأني لن أكذب على الله عز وجل " ٢ وإذا كان عليه أفضل الصلاة والسلام قد أذن لنا أن لا نأخذ بظنه في أمور الدنيا وقال :" أنتم أعلم بأمر دنياكم " كما في حديث عائشة وثابت ابن أنس عند مسلم فما القول بظن غيره ؟ ومنه اجتهاد العلماء فيما ذكرنا آنفا.
قال الرازي : هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض. فإن قالوا : لما ورد الأمر بالقياس في القرآن، وهو قوله ﴿ فاعتبروا ﴾ كان العمل بالقياس عملا بما أنزل الله، قلنا : هب أنه كذلك " إلا أنا نقول : الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس، وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر، فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم اه. وقد نقلنا في بحث القياس أن الرازي قد رد في محصوله كون قوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ ( الحشر ٢ ) دليلا على القياس الأصولي وهو مصيب في ذلك ثم أورد استدلالا آخر بالآية لنفاة القياس وأورد عليه مناقشة القياسيين فيه، ونحن في غنى عن ذلك بتحقيق الحق في المسألة في تفسير آية المائدة التي أشرنا إليها آنفا.
ثم ذكر أن الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية. قال وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فلو جعلنا القرآن طاعنا في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل اه وكان ينبغي أن يرد عليهم بأن القرآن قد هدى إلى الدلائل العقلية باستدلاله بالمعقول، ومخاطبته لأولي الألباب وأصحاب العقول على أننا لا نعرف طائفة من الناس تنكر النظر العقلي والبراهين العقلية مطلقا، وإنما أنكر بعض العقلاء وأهل البصيرة على أمثاله من المتكلمين جعل العقائد والصفات الإلهية وأخبار عالم الغيب محلا لنظريات فلسفية، وموقوفا إثباتها على اصطلاحات جدلية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستفد أصحابها منها غير تفريق الدين، واختلاف المسلمين، والبعد عن حق اليقين، ويرى هؤلاء ان كون القرآن من عند الله تعالى قد ثبت ثبوتا عقليا من وجوه كثيرة فوجب اتباعه بتلقي العقائد والأحكام منه مع اجتناب التأويل للصفات الإلهية والأمور الغيبية بالنظريات الكلامية كما كان عليه السلف الصالح. وقد بينا هذا في مواضع أخرى.
١ أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١٤٠..
٢ أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١٣٩ واحمد في المسند ١/ ١٦٢..
﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ٤ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ٥ ﴾
كانت الآية الأولى من السورة في بيان إنزال الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به كل الناس وذكرى وموعظة لأهل الإيمان والآية الثانية استئناف بياني لما يبدأ به من التبليغ وهو أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وأن لا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع الخاص بالرب تعالى ولما كان الإنذار تعليما مقرونا بالتخويف من عاقبة المخالفة قفى على هذه القاعدة الأولى التي هي أم القواعد لأصول الدين بالتخويف من عاقبة المخالفة لها ولما يتلوها من أصول الدين وفروعه فبدأ في هاتين الآيتين بالتخويف من عذاب الدنيا فقال :
﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُون ﴾ " كم " خبرية تفيد الكثرة، والقرية تطلق على الأمة قال الراغب : القرية للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا ( أي معا ) ويستعمل لكل منهما، قال تعالى :﴿ { واسأل القرية ﴾ ( يوسف ٨٢ ) قال كثير من المفسرين معناه أهل القرية وقال بعضهم بل القرية ههنا القوم أنفسهم اه من غير تقدير مضاف. والذين يقولون بالتقدير يرون أنه لا حاجة إليه هنا لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها ولكنهم يقدرون المضاف في قوله :﴿ فجاءها بأسنا ﴾ فيقولون : جاء أهلها بأسنا بدليل وصفهم بالبيات والقيلولة والمدينة لا تبيت ولا تقيل، والبيات الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به فيه على غفلة منه فهو اسم للتبييت، وهو يشمل ما يدبره المرء أو ينويه ليلا، ومنه تبييت نية الصيام. وقيل يأتي مصدرا لبات يبيت إذا أدركه الليل، والبأس الشدة والقوة والعذاب الشديد وهو المراد هنا، والقائلون هم الذين يقيلون أي ينامون للاستراحة وسط النهار، وقيل يستريحون وإن لم يناموا يقال قال يقيل قيلا وقيلولة.
والمعنى وكثيرا من القرى أهلكناها لعصيان رسلها فيما جاءوها به من عند ربها فكان هلاكها على ضربين بأن جاء بعضهم بأسنا حال كونهم مبيتين أو بائتين ليلا كقوم لوط، وجاء بعضهم وهم قائلون آمنون نهارا كقوم شعيب. والوقتان وقتا دعة واستراحة ففيه إيذان بأنه لا ينبغي للعاقل أن يأمن صفو الليالي ولا مواتاة الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعده آية على الاستحقاق له الذي هو مظنة الدوام وقد يعذر بالغفلة قبل مجيء النذير وأما بعده فلا عذر ولا عذير، وفيه تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزة عصبيتهم، وبما كانوا يزعمون أنها آية رضى الله عنهم :﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ ( سبأ ٣٥ ) وليس أمرهم بأعجب من الأقوام التي عرفت هداية القرآن، أو سنن الله في نوع الإنسان، ثم هي تغتر بما هي عليه وإن كان دليلا على الهلاك، ولا ترجع عن غيها حتى يأتيها العذاب.
وقد استشكل بعض المفسرين من الآية ما لا إشكال فيه إذ ظنوا أن عطف جاءهم على " أهلكنا " بالفاء يفيد أن مجيء البأس وقع عقب الإهلاك وهو محال لأنه سببه، غافلين عن كونه بيانا تفصيليا لنوعين منه أحدهما ليلي والآخر نهاري كما بيناه آنفا، وتفصى بعضهم كالزمخشري منه بأن المراد بالإهلاك إرادته كما أن المراد من قوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ ( المائدة ٦ ) إذا أردتم القيام إليها.
وفي الآية من مباحث اللغة والبلاغة أن قوله تعالى :﴿ أو هم قائلون ﴾ جملة حالية حذفت منها واو الحال لاستثقال الجمع بينها وبين واو العطف والأصل : أو وهم قائلون. ولم أر أحدا تعرض لنكتة الجمع بين الحال المفردة وجملة الحال هنا والظاهر أن المقام مقام الإفراد، لا كقوله تعالى :﴿ لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ﴾ ( النساء ٤٣ ) حيث انفردنا ببيان فرق وجيه بين الحالين هنالك يقتضيه المعنى وينطبق على ما حققه الإمام عبد القاهر في الفرق بينهما، ولا يأتي مثله هنا لأن الفرق بين الحالين خاص بما كانت الحال فيه وصفا لفاعل العامل فيها كآية النساء ومثل قولك " نذرت أن أعتكف صائما أو وأنا صائم، وهي هنا وصف لمفعوله فتأمل. وقد بحث المفسرون الذين يعنون بالإعراب في مسألة الواو في الجملة الفعلية هل هي لام العطف أو غيرها ومتى تجب في الجملة الحالية هي والضمير معا ومتى يجب أحدهما، وهي مباحث لفظية نعدوها لأنها قلما تفيد في المعاني ونكت البلاغة فائدة تذكر.
﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين ﴾ الدعوى في اللغة اسم لما يدعيه الإنسان، والادعاء نفسه، والدعاء بمعانيه، والقول مطلقا، ففي المصباح : ودعوى فلان كذا أي قوله اه ومعنى الآية على هذا : فما كان قولهم وعلى ما قبله : فما كانت غاية ما يدعونه من الدين وزعمهم فيه أنهم على الحق أو ما كانوا يدعونه من الرسل على من التكذيب وإرادة التفضل عليهم إلا الاعتراف بأنهم كانوا ظالمين أنفسهم فيما كانوا عليه والشهادة ببطلانه. وفي التقدير الأول الإخبار بنوع من القول عن جنسه وهو غير الإخبار بالشيء عن نفسه، والأول صحيح فصيح وإن اتحدت المادة كقوله تعالى :﴿ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لما ذنوبنا ﴾ ( آل عمران ١٤٧ ) فكيف إذا اختلفت كما هنا.
والعبرة في الآية أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنبه في الدنيا يندم ويتحسر ويعترف بظلمه وجرمه إذا علم أنه هو سبب العقاب، وما كل معاقب يعلم ذلك لأن من الذنوب ما يجهل أكثر الناس أنه سبب للعقاب، وأما الذنوب التي مضت سنة الله تعالى بجعل عقابها أثرا لازما لها في الدنيا فلا تطرد في الأفراد كاطرادها في الأمم، ولا تكون دائما متصلة باقتراف الذنب، بل كثيرا ما تقع على التراخي فلا يشعر فاعلها بأنها أثر له، مثال ذلك أن ما يتولد من شرب الخمر من الأمراض والآلام لا يعرف أكثر السكارى منه غير ما يعقب الشرب من صداع وغثيان وهو مما يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه، وأما ما يولده السكر من أمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي وما يترتب عليه من ضعف النسل واستعداده للأمراض وانقطاعه أحيانا و غير ذلك من الأمراض الجسدية والعصبية ( العقلية ) فهي تحصل ببطء وقلما يعلم غير الأطباء أنها من تأثير السكر، ثم قلما يفيد العلم بها بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة أن تحمل السكور على التوبة لأن داء الخمار يزمن وحب السكر يضعف الإرادة ومضار الزنا الجسدية أخفى من مضار الخمر والميسر، ومفاسده الاجتماعية، أخفى من مضاره الجسدية فما كل أحد يفطن لها.
ويا ليت كل من علم بضرر ذنبه بعد وقوعه يرجع عنه ويتركه ويتوب إلى الله تعالى منه، ولا يكتفي بالاعتراف بظلمه، ولا بالإقرار بذنبه فإن هذا لا فائدة له فيه لا في دنياه ولا في دينه، وإذا كان الراسخ في الفسق لا يتوب من ذنب وقع عليه ضرره وعلم به، فكيف يتوب من ذنب لم يصبه منه ضرر أو أصابه من حيث لا يدري به ؟ إنما تسهل التوبة على المؤمنين الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، وإلا فهي لأولي العزائم القوية الذين تقهر إرادتهم بشهواتهم وهم الأقلون.
وأما ذنوب الأمم فعقابها في الدنيا مطرد ولكن لها آجالا ومواقيت أطول من مثلها في ذنوب الأفراد وتختلف باختلاف أحوالها في القوة والضعف كما تختلف في الأفراد بل أشد، فإذا ظهر الظلم واختلال النظام وفشا الترف وما يلزمه من الفسق والفجور في أمة من الأمم تمرض أخلاقها فتسوء أعمالها وتنحل قواها، ويفسد أمرها وتضعف منعتها، ويتمزق نسيج وحدتها، حتى تحسب جميعا وهي شتى فيغري ذلك بعض الأمم القوية بها، فتستولي عليها، وتستأثر بخيرات بلادها وتجعل أعزة أهلها أذلة. فهذه سنة مطردة في الأمم على تفاوت أمزجتها وقواها، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع عقوبتها ولا ينفعها بعده أن يقول العارفون : يا ويلنا إنا كنا ظالمين. على أنه قد يعمها الجهل حتى لا تشعر بأن ما حل بها، إنما كان بما كسبت أيديها، فترضى باستذلال الأجنبي، كما رضيت من قبل بما كان سببا له من الظلم الوطني فينطبق عليها قولنا في المقصورة :
من ساسه الظلم بسوط بأسه هان عليه الذل من حيث أتى
ومن يهن هان عليه قومه وعرضه ودينه الذي ارتضى
وقد تنقرض بما يعقبه الفسق والذل من قلة النسل ولاسيما فشو الزنا والسكر، أو تبقى منها بقية مدغمة في الكثرة الغالبة لا أثر لها تعد به أمة. وقد تتوالى عليها العقوبات حتى تضيق بها ذرعا فتبحث عن أسبابها فلا تجدها بعد طول البحث إلا في أنفسها وتعلم صدق قوله تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ ( الشورى ٣٠ ) ثم تبحث عن العلاج فتجده في قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ ( الرعد ١١ ) وإنما يكون التغيير بالتوبة النصوح، والعمل الذي تصلح به القلوب فتصلح الأمور، كما قال العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء بهم : اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة. خلافا للحشوية الذين يستدلون به على أن البلاء إنما يرتفع كرامة للصالحين الذين يتوسل بهم المذنبون المفسدون. ومتى علمت الأمة داءها وعلاجه فلا تعدم الوسائل له.
فلينظر القارئ أين مكان الشعوب الإسلامية من هذه العبرة، والشعور بعقوبة الجناية والحاجة إلى علاج التوبة، وقد ثلت عروشها، وخوت صروح عظمتها على عروشها، وكانت أجدر الشعوب بمعرفة سنن الله في هلاك الأمم واتقائها وأسباب حفظ الدول وبقائها فقد أرشدها إليه القرآن، ولكن أين هي من هداية القرآن، وقد ترك تذكيرها به العلماء فهجره الدهماء، وجهل أحكامه وحكمه الملوك والأمراء، ثم نبتت فيها نابتة لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان أقنعهم أساتذتهم أعداء الإسلام، بأن لا سبب لهبوطها وسقوطها إلا اتباع القرآن، فأضلوهم السبيل، ولفتوهم عن الدليل، فذنب هؤلاء أنهم يجهلونه، وذنب أولئك أنهم لا يقيمونه. هؤلاء مقلدة للأجانب الطامعين الخادعين، وأولئك مقلدة لشيوخ الحشوية الجامدين. فمتى تنتشر دعوة المصلحين أولي الاستقلال فتجمع الكلمة بما أوتيت من الحكمة والاعتدال على قول الكبير المتعال ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ﴾ ( الرعد ١١ ).
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون ٩ ﴾
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين ﴾ عطف هذا على ما قبله بالفاء لأنه يعقبه ويجيء بعده إذ كان ذلك العذاب المعبر عنه بالبأس آخر أمرهم في الدنيا وقيل إن الفاء هنا هي التي يسمونها الفصيحة. وقد أكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد لأن المخاطبين من العرب في أول الدعوة كانوا ينكرون البعث والجزاء. ولتأكيد الخبر تأثير في الأنفس ولاسيما خبر المشهور بالأمانة والصدق كالنبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يلقبونه قبل البعثة بالأمين. والمراد : أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل يسأل تعالى كل فرد منهم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته وبماذا أجابوهم وما عملوا من إيمان وكفر، وخير وشر ويسأل المرسلين عن التبليغ منهم، والإجابة من أقوامهم.
بين هذا الإجمال في آيات منها قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ ( الأنعام ١٢٦ ) وفي سورة القصص ﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ ( القصص ٥٦ ) وفي سورة العنكبوت ﴿ وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾ ( العنكبوت ١٢ ) ومثله في سورة النحل :﴿ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون ﴾ ( النحل ٥٦ ) وهو ما ابتدعوه في الدين كجعلهم لمعبوداتهم نصيبا مما رزقوا من الحرث والأنعام يتقربون إليهم بها بنذر أو غيره ويتقربون بهم إلى الله كما تقدم في سورة الأنعام ومنه ما ينذره القبوريون لأوليائهم، وأعم منه قوله تعالى في النحل أيضا ﴿ ولتسألن عما كنتم تعملون ﴾ ( النحل ٩٣ ) وهو خطاب لجميع الناس، ومثله في التأكيد والعموم قوله في سورة الحجر ﴿ فوربك لنسألهم أجمعين عما كانوا يعملون ﴾ ( الحجر ٩ ) ومنه في السؤال عن المشاعر الظاهرة والباطنة ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ ( الإسراء ٣٦ ) وقال تعالى في سؤال الرسل ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ المائدة ١١٢ ) وتقدم تفسيره في الجزء السابع.
قال ابن عباس في تفسير الآية : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا. ونحوه عن سفيان الثوري وقيل إن الذين أرسل إليهم هم الأنبياء المرسلون والمرسلين هم الملائكة الذين نزلوا عليهم بالوحي وفي رواية جبريل خاصة، وهو خلاف الظاهر فإن الرسل يسألون ليكونوا شهداء على أقوامهم كما قال تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ ( النساء ٥١ ) ولا حاجة إلى شهادة الملائكة على الرسل لئلا ينكروا الرسالة فما هي ذنب يتوقع إنكاره منهم لو لم يكونوا معصومين من ذلك. وفي السؤال العام وما يسأل عنه الناس أحاديث سيأتي بعضها.
فإن قيل هذه الآيات تثبت السؤال العام يوم القيامة وهو يشمل العقائد والأعمال وهي حسنات وسيئات فما معنى قوله تعالى في سورة القصص ﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ ( القصص ٧٨ ) وفي سورة الرحمن ﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ ( الرحمان : ٣٩ ) قلنا قد أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أشرنا في تفسير آية الأنعام إلى بعضها وهو أن للقيامة مواقف متعددة يعبر عنها باليوم والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض. والصواب أن نفي السؤال عن الذنب في آية الرحمن لا إشكال فيه لأن ما بعد الآية يفسرها بأن المراد لا يسأل أحد عن ذنبه لأجل أن يعرف المجرم ويمتاز من غيره إذ قال بعدها ﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ ( وهو استئناف بياني كأنه قيل لم لا يسألون وبم يعرف المجرمون منهم ويمتازون من المسلمين ؟ فقال :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ ( ولا مندوحة عن حمل آية القصص على هذا المعنى وهو مروي عن ابن عباس كالأول، وروي عنه أيضا أن المذنب لا يسأل عن ذنبه هل أذنبت أو هل فعلت كذا من الذنوب ؟ أي لأن الله تعالى أعلم منه بذنوبه وقد أحصاها عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهو يجد ما عمل حاضرا في كتابه متمثلا في نفسه، معروضا لها فيما يشهد عليه من أعضائه وجوارحه وإنما يسأله لم عمل كذا أي بعد أن يعرف به، وهو يتفق مع تفسيره هنا لقوله عز وجل :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْم ﴾.
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون ٩ ﴾
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧ ﴾
فإن قيل هذه الآيات تثبت السؤال العام يوم القيامة وهو يشمل العقائد والأعمال وهي حسنات وسيئات فما معنى قوله تعالى في سورة القصص ﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ ( القصص ٧٨ ) وفي سورة الرحمن ﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ ( الرحمان : ٣٩ ) قلنا قد أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أشرنا في تفسير آية الأنعام إلى بعضها وهو أن للقيامة مواقف متعددة يعبر عنها باليوم والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض. والصواب أن نفي السؤال عن الذنب في آية الرحمن لا إشكال فيه لأن ما بعد الآية يفسرها بأن المراد لا يسأل أحد عن ذنبه لأجل أن يعرف المجرم ويمتاز من غيره إذ قال بعدها ﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ ( وهو استئناف بياني كأنه قيل لم لا يسألون وبم يعرف المجرمون منهم ويمتازون من المسلمين ؟ فقال :﴿ يعرف المجرمون بسماهم ﴾ ( ولا مندوحة عن حمل آية القصص على هذا المعنى وهو مروي عن ابن عباس كالأول، وروي عنه أيضا أن المذنب لا يسأل عن ذنبه هل أذنبت أو هل فعلت كذا من الذنوب ؟ أي لأن الله تعالى أعلم منه بذنوبه وقد أحصاها عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهو يجد ما عمل حاضرا في كتابه متمثلا في نفسه، معروضا لها فيما يشهد عليه من أعضائه وجوارحه وإنما يسأله لم عمل كذا أي بعد أن يعرف به، وهو يتفق مع تفسيره هنا لقوله عز وجل :
﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْم ﴾ قال : يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وأصل القص تتبع الأثر فيكون بالعمل كقوله تعالى حكاية عن أم موسى ﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾ ( القصص ١١ ) وبالقول ومنه ﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ ( يوسف ٣ ) وهي الأخبار المتتبعة كما حققه الراغب فليس كل خبر قصصا. أي فلنقصن على الرسل وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم لا يعزب عنه مثقال ذرة، أو عالمين بكل ما كان منهم لا يعزب عنه مثقال ذرة، أو عالمين بكل ما كان منهم، وما كتبه الكرام الكاتبون عنهم. ﴿ وَمَا كُنَّا غَآئِبِين ﴾ عنهم في حال من الأحوال ولا وقت من الأوقات بل كنا معهم نسمع ما يقولون ونبصر ما يعملون، ونحيط علما بما يسرون ويعلنون كما قال :﴿ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ ( النساء ١٠٧ ) فالسؤال لأجل البيان والإعلام لا لأجل الاستبانة والاستعلام وهذا القصص هو الذي يكون به الحساب ويتلوه الجزاء والآيات والأحاديث في بيانه كثيرة.
أما الآيات فتأتي في مواضعها وأما الأحاديث فمنها حديث ابن عمر المتفق عليه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعته : فالإمام يسأل عن الناس والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده " ١ وورد بألفاظ أخرى. وفي معناه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلة الله عليه وسلم " كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته فأعدوا للمسائل جوابا " قالوا وما جوابها ؟ قال " أعمال البر " وفي معناه ما رواه من حديث عبد الله بن مسعود " إن الله سائل كل ذي رعية عما استرعاه أقام أمر الله فيهم أم ضيعه ؟ حتى إن الرجل ليسأل عن أهل بيته " وما رواه في الكبير عن المقدام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه، فيسأل عنهم ويسألون عنه " ومنها ما رواه في الأوسط من حديث أنس " أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ينظر في صلاته فإن صلحت فقد أفلح وإن فسدت فقد خاب وخسر " وما رواه هو والبزار والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا " ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته قالوا وما هي ؟ قال تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك ".
وروى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال قاتلت في سبيلك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها ؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت فيها ؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار " ٢.
وروى الترمذي من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعا وقال حسن صحيح " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه " ٣ وروي نحوه عن ابن مسعود بلفظ " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم " وقال هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث حسين بن قيس وحسين يضعف في الحديث اه وهذه الرواية تذكر كثيرا في بعض خطب الجمعة. وذكر السفاريني في شرح عقيدته أن البزار والطبراني روياه به من حديث معاذ بسند صحيح بلفظ " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال " إلخ.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعا " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " ٤ علم عليه السيوطي في الجامع الصغير بالصحة وقال الترمذي بعد ذكره وآخره عنده " وتمنى على الله " هذا حديث حسن ومعنى " دان نفسه " حاسب نفسه في الدنيا قل أن يحاسب يوم القيامة، ويروى عن عمر بن الخطاب قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا اه.
١ أخرجه البخاري باب ١١ والجنائز باب ٣٢ والاستقراض باب ٢٠ والوصايا باب ٩ والعتق باب ١٧- ١٩ والنكاح باب ٨١- ٩٠ والأحكام باب ١ ومسلم في الإمارة حديث ٢٠ وأبو داود في الغمار ة باب ١ ٣١ والترمذي في الجهاد باب ٢٧ واحمد في المسند ٢/ ٥- ٤٥- ٥٥- ١٠٨- ١١١- ١٢١..
٢ أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٥٢ والترمذي في الزهد باب ٤٨ والنسائي في الجهاد باب ٢٢ وأحمد في المسند ٢/ ٣٢٢..
٣ أخرجه الترمذي في القيامة باب ١..
٤ أخرجه الترمذي في القيامة باب ٢٥ وابن ماجه في الزهد باب ٣١ واحمد في المسند ٤/ ١٢٤..
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون ٩ ﴾
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
ولما كان الجزاء على حسب الأعمال وهي متفاوتة تنضبط وتقدر بالوزن وإقامة الميزان قال عز وجل :
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ ﴾ قال الراغب : الوزن معرفة قدر الشيء يقال وزنته وزنا وزنة والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسط والقبان اه وتفسيره الوزن بالمعرفة تساهل وإنما هو عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالآلة التي تسمى الميزان وهو مشتق منه، وبالقسطاس وهو من القسط ومعناه النصيب العادل أو بالعدل كما قال الراغب، وأطلق على العدل مجازا وكذا الميزان ومنه قوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ ( آل عمران ٧ ) ﴿ بالحق والميزان ﴾ ( الشورى ١٧ ) وقوله في الرسل كافة ﴿ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم للناس بالقسط ﴾ ( الحديد ٢٥ ) ومن كلام العرب استقام ميزان النهار إذا انتصف وليس لفلان وزن أي قدر لخسته ومنه قوله تعالى :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ( الكهف ١٠٥ ) قال الراغب وقوله :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ ( الأعراف ٨ ) فإشارة إلى العدل في محاسبة الناس كما قال :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ ( الأنبياء ٤٧ ) أي ولذلك قال عقبه ﴿ فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾ ( الأنبياء ٤٧ ) والتجوز بالوزن والميزان في الشعر كثير.
ومعنى الجملة : والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم ويقص عليهم كل ما كان منهم هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف به حقيقة كل أحد وما يستحقه من الثواب والعقاب. وذهب أكثر علماء الإعراب إلى أن المعنى أن الوزن الحق كائن يومئذ لا أن الوزن يومئذ حق. فالحق صفة للوزن ويومئذ هو الخبر عنه أو المعنى والوزن كائن يومئذ وهو الحق الأول أظهر.
﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ قيل إن الموازين جمع ميزان فهي متعددة لكل امرئ ميزان وقيل لكل عمل. والجمهور على أن الميزان واحد وأنه يجمع باعتبار المحاسبين وهم الناس أو على حد قول العرب : سافر فلان على البغال وإن ركب بغلا واحدا، وقيل إن الموازين جمع موزون والمعنى فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة حسناته فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب والنعيم في دار الثواب.
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون ٩ ﴾
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون ﴾ أي ومن خفت موازين أعماله بالكفر وكثرة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ حرموا السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي بسبب ما كانوا يظلمونها بكفرهم بآيات الله مستمرين على ذلك مصرين عليه إلى نهاية أعمارهم كما يدل عليه التعبير بالمضارع، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى الكفر وسيأتي مثله في هذه السورة ( آية ١٠٢ ) وفي غيرها.
وظاهر هذا التقسيم أنه لفريقي المؤمنين على تفاوت درجاتهم في الفلاح، والكافرين على تفاوت دركاتهم في الخسران، فإن من مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذب على بعض ذنوبه بقدرها، فهذا الوزن الإجمالي الذي يمتاز به فريق الجنة وفريق السعير وهنالك قسم ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتي ذكرهم في هذه السورة ويتبع الوزن الإجمالي الوزن التفصيلي للفريقين. ولكن بعض العلماء يقولون إن الوزن للمؤمنين خاصة لأنه تعالى قال في الكافرين ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ( الكهف ١٠٥ وأجاب الآخرون بأن معناه ما تقدم آنفا في بحث الوزن في اللغة في أنه لا يكون لهم قيمة ولا قدر، وهو لا ينفي وزن أعمالهم وظهور خفتها وخسرانهم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى من سورة المؤمنين ﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ﴾ ( المؤمنون ١٠٣- ١٠٦ ).
ومن المستغرب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال بعد ذكر آيتي الموازين في الثقل والخفة من سورة المؤمنين : إن الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته إذ لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها، وهو سهو سببه والله أعلم ما كان علق بذهنه من هذا القول، وما من كافر إلا وله حسنات ولكن الكفر يحبطها فتكون هباء منثورا، وهي تحصى مع السيئات وتضبط بالوزن الذي به يظهر مقدار الجزاء وتفاوتهم فيه واستدلوا على تخفيف العذاب عن الكافر بسبب عمله الصالح بما ورد في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بما كان من حمايته للنبي صلى الله عليه وسلم وحبه له، وزعم بعضهم أن ذلك خاص به ويصح أن تكون الخصوصية في نوع التخفيف ومقداره، إذ من المتفق عليه والمجمع عليه أن عذاب الكفار متفاوت ولا يعقل أن يكون عذاب أبي جهل كعذاب أبي طالب لولا الخصوصية والله تعالى يقول :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ ( النساء ٤٠ ).
ومن المشاهد في كل زمان أن من الكفار من يحب الله ويعبده ولا يشرك به والمشركون منهم إنما أشركوا معه غيره في الحب والعبادة كما قال في أندادهم ﴿ يحبونهم كحب الله ﴾ ( البقرة ١٦٥ ) وهو يتضمن إثبات حبهم لله ويتصدقون ويصلون الأرحام ويفعلون غير ذلك من أعمال البر ويمتنعون عن الفواحش خوفا من الله فهل يسوي الحكم العدل بينهم وبين مرتكبي الفواحش والمنكرات والجنايات من الكفار ولاسيما الجاحدين المعطلين ومكذبي الرسل منهم ؟ حاش لله. نعم صح الحديث عند مسلم بأنهم يجازون على حسناتهم في الدنيا وهو لا يمنع وزنها في الآخرة وأن لا يكون لها مع الكفر والسيئات دخل في رجحان موازينهم.
وجملة القول إن المسلمين اختلفوا في هذا الوزن والموازين : هل هي عبارة عن العدل التام في تقدير ما به يكون الجزاء من الأعمال وتأثيرها في إصلاح الأنفس وتزكيتها وفي إفسادها وتدسيتها، أم هنالك وزن حقيقي حكمته إظهار علم الله تعالى بأعمال العباد وعدله في جزائهم عليها ؟ ذهب إلى الأول مجاهد من مفسري السلف – وكذا الأعمش والضحاك حكاه الرازي عنهما والجهمية والمعتزلة قال مجاهد في الآية كما في الدر المنثور " والوزن يومئذ الحق " قال العدل " فمن ثقلت موازينه " قال حسناته " ومن خفت موازينه " قال سيئاته اه وروى ابن جرير نحوه عنه وسيأتي فيما لخصه الحافظ ابن حجر.
والجمهور على الثاني بل قال أبو إسحاق الزجاج كما نقل الحافظ عنه أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك : أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها. قال وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها. انتهى.
نقل الحافظ ابن حجر ما ذكر في شرح آخر باب من أبواب البخاري وهو ( باب قول الله ﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ وإن أعمال بني آدم وقولهم توزن وقفى عليه بقوله : وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء فأسند الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ ( الأنبياء ٤٧ ) قال إنما هو مثل كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط ومن طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : الموازين العدل والراجح ما ذهب إليه الجمهور.
وأخرج أبو القاسم اللالكائي في السنة عن سلمان قال يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعته ومن طريق عبد الملك بن أبي سليمان : ذكر الميزان عند الحسن فقال : له لسان وكفتان. وقال الطيبي : قيل إنما توزن الصحف وأما الأعمال فإنها أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة. والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم توزن، ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر قال : توزن صحائف الأعمال قال فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال، ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وفيه " فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة " ١ انتهى والصحيح أن الأعمال هي التي توزن.
وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن " ٢ وفي حديث جابر رفعه " توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار قيل ومن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال أولئك أصحاب الأعراف " أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفا. وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفا إن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام اه ما لخصه الحافظ ابن حجر من أقوال أهل السنة.
أقول : وقد استقصى السيوطي في تفسير الآية من الدر المنثور ما ورد في الميزان أو الوزن من الروايات الصحيحة والسقيمة أو جله وليس في الصحيحين منها إلا ما ختم به البخاري صحيحه وهو حديث أبي هريرة المرفوع " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ٣ وإذا لم يكن في الصحيحين ولا في كتب السنن المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان ولا في أن له كفتين ولسانا فلا تغتر بقول الزجاج إن هذا مما أجمع عليه أهل السنة. فإن كثيرا من المصنفين يتساهلون بإطلاق كلمة الإجماع ولاسيما غير الحفاظ المتقنين والزجاج ليس منهم، ويتساهلون في عزو كل ما يوجد في كتب أهل السنة إلى جماعتهم وإن لم يعرف له أصل من السلف، ولا اتفق عليه الخلف منهم، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف والخلف كما علمت فاختلف علماء أهل السنة القائلون بأن الوزن بميزان هل هو ميزان واحد أم لكل شخص أو لكل عمل ميزان ؟ وفي الموزون به حتى قيل إنه الأشخاص لا الأعمال وفي صفة الموزون والوزن، وفيمن يوزن لهم أللمؤمنين خاصة أم لهم وللكفار، وفي صفة الخفة والثقل وفيها ثلاثة أقوال.
ولهذا الخلاف ثلاثة أسباب : أحدهما : اختلاف الأخبار والآثار عن السلف وأكثرها لا يصح ولا يحتج بمثله في الأحكام العملية فضلا عن المسائل الاعتقادية، ثانيها : الاختلاف في فهمها، ثالثها : الرأي والتخيل والقياس مع الفارق، فإن الخلف من المنتمين إلى مذاهب السنة خاضوا فيما خاض فيه غيرهم من تحكيم الرأي في أمور الغيب. فالمعتزلة أخطأوا في قياس عالم الغيب على عالم الشهادة وإنكار وزن الأعمال بحجة أنها أعراض لا توزن وأن علم الله بها يغني عن وزنها، ورد عليهم بعض المنتمين إلى السنة ردا مبنيا على أساس مذهبهم في قياس عالم الغيب على عالم الشهادة وتطبيق أخبار الآخرة على المعهود المألوف في الدنيا، فزعموا أن الأعمال تتجسد وتوزن أو توضع في صور مجسمة أو أن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال هي التي توزن بناء على أنها كصحائف الدنيا إما رق ( جلد ) وإما ورق.
والأصل الذي عليه سلف الأمة في الإيمان بعالم الغيب أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه نؤمن به ولا نحكم رأينا في صفته وكيفته. فنؤمن إذا بأن في الآخرة وزنا للأعمال قطعا، ونرجح أنه بميزان يليق بذلك العالم يوزن به الإيمان والأخلاق والأعمال، لا نبحث عن صورته وكيفيته ولا عن كفتيه إن صح الحديث فيهما كما صوره الشعراني في ميزانه، ويؤخذ من آيات كثيرة أن ذلك يكون باعتبار تأثيرها في النفس من تزكية أو تدسية وهو ما يترتب عليه جل الجزاء كما تقدم شرحه. وإذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحر والبرد أفيعجز الخالق البارئ القادر على كل شيء عن وضع ميزان للأعمال النفسية والبدنية المعبر عنها بالحسنات والسيئات، بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات ؟ والنقل والعقل متفقان على أن الجزاء إنما يكون بصفات النفس الثابتة، لا بمجرد ما كان سببا لها من الحركات والأعراض الزائلة قال تعالى :﴿ سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ﴾ ( الأنعام ١٣٩ ) وقال في سورة الشمس ﴿ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾ ( الشمس ٨- ١٠ ) وفي سورة الأعلى :﴿ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ﴾ ( الأعلى ١٤- ١٥ ) وقد حققنا هذا البحث في مواضع من التفسير آخرها تفسير خاتمة سورة الأنعام.
وتقدم أن حكمة وزن الأعمال بعد الحساب أنه يكون أعظم مظهرا لعدل الرب تبارك وتعالى أي ولعلمه وحكمته وعظمته في ذلك اليوم العظيم إذ يرى فيه عباده أفرادا وشعوبا وأمما ذلك بأعينهم و يعرفونه معرفة إدراك ووجدان في أنفسهم فإن أعمالهم تتجلى لهم فيها أولا، ثم تتجلى لهم ولسائر الخلق في خارجها ثانيا، فيا له من منظر مهيب، ويا له من منظر رهيب، وما أشد غفلة من قال إنه لا حاجة إليه، للاستغناء بعلم الله عنه.
ولولا تحكيم الناس الرأي والخيال فيما لا مجال لهما فيه من أمور الغيب واهتمامهم بكل ما روي فيه عن المتقدمين لكنا في غنى عن إطالة الكلام في حكاية تلك الاختلافات بالاختصار في بيان العقائد على ما ثبت في آيات الكتاب العزيز ثم الأحاديث الصحيحة المخرجة في دواوين السنة المشهورة دون الشاذة والغريبة.
ومن هذه الأحاديث الغريبة
١ أخرجه الترمذي في الإيمان باب ١٧..
٢ أخرجه الترمذي في البر باب ٦٢..
٣ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٨ والدعوات باب ٦٦ والإيمان باب ١٩ ومسلم في الذكر حديث ٣٠ والترمذي في الدعوات باب ٥٩ وابن ماجه في الأدب باب ٥٦ واحمد في المسند ٢/ ٢٣٢..
﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون ١٠ ﴾
تقدم أن الله تعالى بدأ هذه السورة بذكر إنزال القرآن على خاتم الرسل لينذر به جميع البشر فيما يدعوهم من دينه، وبيان أساس الدين الإلهي وهو أن واضع الدين هو الله تعالى رب العباد فالواجب فيه اتباع ما أنزله إليهم وأن لا يتبعوا من دونه أولياء يتولونهم ويعملون بما يأمرونهم به من عبادة وحلال وحرام، وأنه قفى على ذلك ببيان نوعي العذاب الذي أنذر به من يتبعون أولئك الأولياء أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فهذا موضوع الآيات السابقة.
ولما كان الدين الذي أمر تعالى باتباع التنزيل فيه دون غيره إلا ما بيّنه من سنة الرسول المنزل عليه بأمره هو دين الفطرة المبين لكل ما يوصلها إلى كمالها والناهي لها عن كل ما يحول بينها وبين الكمال وكان افتتان الناس بأمر المعيشة من أسباب إفساد الفطرة بالإسراف في الشهوات، من حيث إنه يجب أن تكون نعم الله عليهم بما يحتاجون إليه من أمر المعيشة سببا لإصلاحها بشكر الله عليه الموجب للمزيد منه، لما كان الأمر كذلك ذكر سبحانه الناس في هذه الآية بنعمه عليهم في التمكين في الأرض وخلق أنواع المعايش فيها وهو بدء سياق طويل فيه بيان خلق نوعهم الإنساني مستعدا للكمال وما يعرض له من وسوسة الشيطان التي تصده عنه، وما ينبغي لأفراده من اتقاء فتنة هذه الوسوسة وعدم اتخاذ شياطينها الملقين لها أولياء يتبعونهم دون ما أنزل إليهم من ربهم، فإنهم هم الذين يحملونهم بذلك على كفر النعم عوضا عن الشكر وعلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه، ويتلوه ما شرعه لهم من الزينات والطيبات وما حرمه عليهم فيهما.
فهذا السياق الاستطرادي أو المشبه للاستطراد يبتدئ من الآية التاسعة إلى الآية الثانية والثلاثين، ثم يعود الكلام إلى ذكر دعوة الرسل للأمم وجزاء من آمن بهم واتبعهم ومن كفر بهم وعصاهم، وفيه تفصيل لما أجمل في الآيتين اللتين قبل هذه الآية من جزاء الآخرة فتأمل دقة بلاغة التناسب بين آيات القرآن فإنها نوع خاص من أنواع إعجازه الكثيرة.
قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْض ﴾ أي جعلنا لكم فيها أوطانا تتبوءونها وتتمكنون من الراحة في الإقامة فيها، وتأكيد الخبر باللام وقد لتذكير الغافلين عن كونه من نعم الله عليهم به وكذا ما عطف عليه من قوله :﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِش ﴾. جمع معيشة وهي ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها. أي وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى مما تعيشون به عيشة راضية، والنكتة في تقديم ﴿ لكم فيها ﴾ على ﴿ معايش ﴾ مع أن الأصل أن يقدم المفعول به على غيره من متعلقات الفعل هو أن المقصود من ذكر خلق المعايش كونها نعما منه سبحانه على الناس جعلهم مالكين لها متمكنين من الانتفاع بها لا كونها مجعولة ومخلوقة، والقاعدة في تقديم بعض الكلام على بعض هي أن يقدم المقصود بالذات والأهم فالأهم منه كما حققه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز، ولا شك أن كون المعايش لهم أهم من كونها في الأرض التي مكنهم فيها فهاهنا ثلاثة أشياء : المعايش، وكونها في الوطن الذي يعيش في المرء، وكون المرء مالكا لها ومتصرفا فيها، ولا مشاحة في أن الأهم عند كل إنسان أن يكون مالكا لما يعيش به ويتلوه أن يكون ذلك في وطنه ويتلوه أنواعه وأن تكون كثيرة وهو ما أفاده تركيب الكلمات في الآية. ولا تجد هذه الدقة في تقديم ما ينبغي وتأخير ما ينبغي مطردة إلا في كتاب الله تعالى.
ولما كانت هذه المعايش أنواعا كثيرة من نبات شتى وأنعام وطير وسمك ومياه صافية وأشربة مختلفة الطعوم والروائح وغير ذلك وكانت بذلك تقتضي شكرا كثيرا وكان الشكور من العباد قليلا ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ ( سبأ ١٣ ) قال تعالى عقب الامتنان بها ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون ﴾ أي شكرا قليلا تشكرون هذه النعم لا كثيرا يناسب كثرتها وحسنها وكثرة الانتفاع بها. وشكر النعمة للمنعم يكون أولا بمعرفتها له والاعتراف بأنه هو مسديها والمنعم بها وثانيا بالحمد له والثناء عليه بها وثالثا بالتصرف بها فيما يحبه ويرضيه وهو ما أسداها لأجله من حكمة ورحمة. وهو هنا حفظ حياتنا البدنية أفرادا وجماعات خاصة وعامة والاستعانة بذلك على حفظ حياتنا الروحية التي تكمل بها الفطرة بتزكية الأنفس وتأهيلها لحياة الآخرة الأبدية، وسيأتي في هذا السياق بيان لأصول ذلك في قوله تعالى :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم.. ﴾ ( الأعراف ٣١ ) إلخ.
وفي الآية من المباحث اللفظية قراءة نافع في رواية عنه معائش بالهمز، وغلطه سيبويه ومن تبعه لأن القاعدة عندهم أنه لا يهمز بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة في المفرد كصحيفة وصحائف وياء معيشة أصيلة فيجب عندهم أن تثبت في الجمع كما اتفقت عليه القراءات السبع المتواترة، وهذه الرواية عن نافع غير متواترة ولذلك عدوها خطأ منه. والصواب أنه رواها وهو أجل من أن يفتجرها افتجارا. وفي المصباح قول أنها من معش لا من عاش فالياء زائدة وجمعها معائش قال : وبه قرأ أبو جعفر المدني والأعرج، أي في الشواذ وألحقها المفسرون وبعض اللغويين بما سمع عن العرب من أمثالها كمصائب ومعائب، وقالوا إنه من تشبيه مفاعل بفعائل. ونقول إن العرب لا حجر عليهم بما وضعه غيرهم لكلامهم من القواعد المبنية على الاستقراء الناقص والقرآن أعلى من كل كلام فأولى أن لا ينكر منه شيء صحت الرواية به لغة عند من رواها وإن لم يثبت كونها قرآنا إلا بالتواتر.
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم ﴾ الخطاب لبني آدم والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ المسنون وهو الماء والطين واللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم تقديرا، ثم صورنا مادتكم تصويرا، ومعنى الخلق في أصل اللغة التقدير ثم أطلق على إيجاد الشيء المقدر على صفة مخصوصة. قال في حقيقة المادة من أساس البلاغة : خلق الخراز الأديم ( أي الجلد ) والخياط الثوب قدره قبل القطع، واخلق لهذا الثوب ( قال ) ومن المجاز خلق الله الخلق أوجده على تقدير أوجبته الحكمة اه. ولكن هذا المجاز اللغوي صار حقيقة شرعية. وهذا التفسير أظهر من حيث اللغة وهو يصدق بخلق آدم وبخلق مجموع الناس فإن كل فرد من الأفراد يقدر الله خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه.
وقد اختلفت الروايات عن مفسري السلف في الجملتين فعن ابن عباس ثلاث روايات : إحداها : ورواتها كثيرون وصححها بعضهم على شرط الشيخين قال فيهما : خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء. والثانية : خلقوا في ظهر آدم ثم صوروا في الأرحام أخرجها الفريابي. والثالثة : قال : أما خلقناكم فآدم وأما ثم صورناكم فذريته. أخرجها ابن جرير وابن أبي حاتم. وروي عن قتادة نحوها قال : خلق الله آدم من طين ثم صوركم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسا العظام لحما. وعن مجاهد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني في ظهر آدم. وعن الكلبي قال خلق الإنسان في الرحم ثم صوره فشق سمعه وبصره وأصابعه اه. ملخصا من الدر المنثور. والتقدير الذي ذكرناه أولا هو الموافق لما عليه الجمهور. والإنسان الأول عندنا وعند أهل الكتاب والهندوس آدم عليه السلام ولذلك قال :
﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَم ﴾ أي قلنا ذلك بعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا ما جعلناه به خليفة في الأرض وعلمناه الأسماء كلها، كما تقدم تفصيله في سورة البقرة :﴿ فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ﴾ أي لم يكن من جملتهم لأنه أبى واستكبر وفسق عن أمر ربه. وهو من الجن لا منهم. وإن كانت الجن نوعا من جنسهم، أو الجنة ( بالكسر ) جنسا للملائكة وللشياطين الذين هم مردة الجن وأشقياؤهم. وهذا السجود تكريم من الله لآدم لا سجود عبادة إذ نص القرآن القطعي قد تكرر بأنه لا يعبد إلا الله وحده، أو هو بيان لاستعداد آدم وذريته وما صرفهم الله تعالى به من قوى الأرض التي تدبرها الملائكة بأسلوب التمثيل القصصي، والأمر فيه وفيما بعده تكويني قدري، لا تكليفي شرعي، فهو كقوله في خلق السماوات والأرض :﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ ( فصلت ١١ ) وسيأتي توضيحه في أثناء القصة وفي نهايتها إن شاء الله تعالى.
وقد روي عن ابن عباس أن هذا السجود كرامة كرم الله بها آدم وقال كانت السجدة لآدم والطاعة لله ومثله عن قتادة وزاد أن إبليس حسد آدم على هذا التكريم والدليل على أنه تكريم امتحن الله تعالى به طاعة ذلك العالم الغيبي له فظهرت عصمة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وفسق إبليس، قوله تعالى حكاية عن إبليس في سورة الإسراء ﴿ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾ ( الإسراء ٦٢ ) حسده على هذا التكريم فحمله الحسد على الاستكبار والفسوق عن أمر الله كما صرحت به الآيات المختلفة في البقرة والكهف وغيرها ويدل عليه جواب السؤال التالي :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك ﴾.
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك ﴾ أي قال تعالى له ما منعك من امتثال الأمر فحملك على أن لا تسجد لآدم مع الساجدين في الوقت الذي أمرتك فيه بالسجود ؟ واستدل علماء الأصول بهذا على أن الأمر يقتضي الوجوب على الفور ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ﴾ أي منعني من ذلك أنني أنا خير منه لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين والنار خير من الطين وأشرف، ولا ينبغي للأشرف أن يكرم من دونه ويعظمه، أي وإن أمره بذلك ربه، وهذا الجواب يتضمن ضروبا من الجهل الفاضح، ما أوقع اللعين فيها إلا حسده وكبره فإنهما يعميان البصائر.
الأول : الاعتراض على ربه وخالقه كما تضمنه جوابه ومثله في هذا كل من يعترض على كلام الله تعالى فيما لا يوافق هواه، وهذا كفر لا يقع مثله من مؤمن بالله وبكتابه، فإن المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة لله في شيء من كلامه بحث عنها بالتفكر والبحث وسؤال العلماء وصبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئن به قلبه مكتفيا قبل ذلك بأن الله تعالى يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه وحكم شرعه وفوائد أمره ونهيه.
الثاني : الاحتجاج عليه بما يؤيد به اعتراضه والمؤمن المذعن لا يحتج على ربه بل يعلم أن لله الحجة البالغة.
الثالث : جعل امتثال أمر الرب تعالى مشروطا باستحسان العبد له وموافقته لرأيه وهواه، وهو رفض لطاعة الرب، وترفع عن مرتبة العبد، وتعال منه إلى وضع نفسه موضع الند، وهو في حكم الدين كفر، وفي العقل حماقة وجهل. فإن الرئيس لأية حكومة أو جيش أو جمعية أو شركة إذا كان لا يطيعه المرؤوسون له إلا فيما يوافق أهواءهم لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختل الحكومة وتسقط وينكسر الجيش ويهلك وتنحل الشركة وتفلس، وهكذا يقال في كل مصلحة يقوم بإدارتها كثرة، يرجع نظامها إلى جهة واحدة، كبوارج الحرب وسفن التجارة ومعامل الصناعة، فإذا كان الصلاح والنظام في كل أمر يتوقف على طاعة الرئيس وهو ليس ربا تجب طاعته لذاته ولا لنعمه، ولا معصوما من الخطأ فيما يأمر به، فما القول في وجوب طاعة رب العالمين على عبيده ؟ ويشارك إبليس في هذا الجهل وما قبله كثيرون ممن يسمون أنفسهم مؤمنين : يتركون طاعة الله تعالى فيما أمر به مما يخالف أهواءهم ويحتجون على ترك الصيام مثلا بأن لا فائدة في الجوع والعطش، أو بأن الله غني عن صيامهم على أن حكم الصيام كثيرة جلية كما بيناها مرارا في التفسير ( ج ٢ ) و في المنار.
روى أبو نعيم في الحلية والدليمي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له اسجد لآدم فقال أنا خير منه " إلخ قال جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس وروى ابن جرير عن الحسن : أول من قاس إبليس.
الرابع : الاستدلال على الخيرية بالمادة التي كان منها التكوين، وهذا جهل ظاهر من وجوه : الأول : أن خيرية المواد بعضها على بعض ليس من الحقائق التي يمكن إثباتها بالبرهان، وإنما هي أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء والأهواء. وأصول المخلوقات المختلفة التركيب عناصر بسيطة قليلة يرجح أنها متحولة عن أصل واحد كما يعلم من فن الكمياء، ثانيها : أن بعض الأشياء النفيسة أصلها خسيس، فالمسك من الدم، وجوهر الألماس من الكربون الذي هو أصل الفحم، والأقذار التي تعاف من مادة الطعام الذي يشتهي ويحب، ثالثها : أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من مارج من نار وهو اللهب المختلط بالدخان فما فوقه دخان وما تحته لهب صاف فإن مادة المرج معناها الخلط والاضطراب. ولا شك في أن النور خير من النار والنار الصافية خير من اللهب المختلط بالدخان. وقد سجد الملائكة المخلوقون من النور امتثالا لأمر الله تعالى فكان هو أولى، بل أولى بأن يقال له : أولى لك فأولى١.
الخامس : إذا سلمنا جدلا أن خيرية الشيء ليست في ذاته وصفاته الخاصة التي تفصلها عن غيرها من مقومات نوعه ومشخصات نفسه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره، وإنما هي تابعة للمادة التي هي أصل جنسه فلا نسلم أن النار خير من الطين فإن جميع الأحياء النباتية والحيوانية في هذه الأرض مخلوقة من الطين بالذات أو بالواسطة وهي خير ما فيها بكل نوع من أنواع الاعتبارات التي تعرفها العقول، وليس للنار أو لمارجها مثل هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
السادس : أن اللعين غفل عما خص الله به آدم من خلقه بيده، والنفخ فيه من روحه، وجعل استعداده العلمي والعملي فوق استعداد غيره من خلقه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، وجعله بتلك المزايا أفضل من أولئك الملائكة، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة.
فهذه أصول الجهل والغباوة التي أوقع إبليس فيها حسده لآدم واستكباره عن طاعة الله بالسجود له. وأنت ترى أن أولياءه ونظراءه من شياطين الإنس مرتكسون فيها كلها والعياذ بالله تعالى. قال قتادة : حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني فكان بدء الذنوب الكبر، واستكبر عدو الله أن يسجد لآدم فأهلكه بكبره وحسده. وسيأتي تفسير الكبر والتكبر.
وهذا التفصيل مبني على كون الأمر بالسجود للتكليف وأنه وقع حوار فيه بين الرب سبحانه وبين إبليس. وأما على القول بأن الأمر للتكوين ( كما سيأتي عن ابن كثير ) وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، فالمعنى أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها كما قال تعالى :﴿ فالمدبرات أمرا ﴾ ( النازعات ٥ ) مسخرة لآدم وذريته إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها بعلمه بسنن الله تعالى فيها، وبعمله بمقتضى هذه السنن كخواص الماء والهواء والكهرباء والنور والأرض ومعادنها ونباتها وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها، ومستعدا لاصطفاء الله بعض أفراده واختصاصهم بوحيه ورسالته وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه. وقد أشير إلى ذلك في سورة البقرة بقوله تعالى :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ ( البقرة ٣١ ) إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمردا على الإنسان بل عدوا له من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم وهم الشياطين التمرد والعصيان وقد أعطي الإنسان إرادة واختيارا من ربه في ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة وما به يهبط إلى أفق الشياطين وسيأتي تفصيل ذلك في هذا السياق.
وفي الآية من المباحث اللغوية زيادة " لا " في جملة " ما منعك أن لا تسجد " إذ قال في سورة " ص " :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ ( ص ٧٥ ) وقد عهد في الكلام العربي الفصيح أن تجيء لا في سياق النفي الصريح وغير الصريح لتقويته وتوكيده وكذا في غير النفي وذلك على أنواع منها هذه الآية وفي معناها قوله تعالى في تحاور موسى وهارون من سورة طه ﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري ﴾ ( طه ٩٢- ٩٣ ) وعدوا من هذا القبيل قوله تعالى :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ ( الأنعام ١٠٨ ) وقوله عز وجل :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ﴾ ( الأنعام ١٥١ ) وفي كل منهما معنى النفي وتقدم تفسيرهما.
ومنهم من خرج هذه الآيات وأمثالها من الشواهد على جعل " لا " غير زائدة وهي طريقة شيخنا رحمه الله. وتقدم ما اخترناه في آيتي الأنعام وأشرنا آنفا في هذه الآية إلى أن منع هنا تتضمن معنى الحمل، والتضمين كثير في التنزيل وكلام العرب ولكن لم يجعله النحويون قياسيا، ويستدل عليه كثيرا بالتعدية كما بيناه في تفسير ﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾ ( النساء ٢ ) إذ ضمن الأكل معنى الضم فعدى بإلى ويقرب منه تعبير سورة الحجر ﴿ ما لك أن لا تكون مع الساجدين ﴾ ( الحجر ٣٢ ) والتقدير أي شيء عرض لك فحملك على أن لا تكون معهم، واختار ابن جرير تضمين المنع هنا الإلزام والاضطرار فيكون التقدير ما ألزمك او اضطرك إلى أن لا تسجد.
ومن مباحث البلاغة أن الفصل في حكاية السؤال والجواب جميعا " بقال قال " وارد على طريقة الاستئناف البياني فإن من يسمع السؤال يتشوق لمعرفة الجواب وينزل منزلة من يسأل عنه فيجاب.
١ أولى لك فأولى: هي كلمة تهديد ودعاء بالهلاك..
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ الهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها، فهو حسي ومعنوي والفاء لترتيب هذا الجزاء على ما ذكر من الذنب قبله، والضمير عائد إلى الجنة التي خلق الله فيها آدم وكانت على نشز مرتفع من الأرض وقد كانت اليابسة قريبة العهد بالظهور في خضم الماء فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان يفاعها وانشازها، أو التي أسكنه إياها بعد خلقه في الأرض وهي جنة الجزاء على القول بها. يدل على ذلك ما ورد من الأمر بالهبوط له ولآدم وزوجه بعد ذكر سكنى الجنة من سورتي البقرة وطه، وقيل إنه يعود إلى المنزلة التي كان عليها ملحقا بملائكة الأرض الأخيار قبل أن يميز الله الخبيث من الطيب من جنس الجنة ( بكسر الجيم ) بالسجود لآدم فيكون نوعين ملائكة وشياطين، كما قيل في جنة آدم إنها عبارة عن حياة النعيم الأولى للنوع التي تشبه نعيم الطفولية لأفراده وتقدم شرح ذلك في تفسير آيات سورة البقرة.
﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ أي فما ينبغي لك وليس مما تعطاه من التصرف أن تتكبر في هذا المكان المعد للكرامة، أو في هذه المكانة التي هي منزلة الملائكة لأنها مكانة الامتثال والطاعة. والكبر اسم للتكبر وهو مصدر تكبر أي تكلف أن يجعل نفسه أكبر مما عليه أو أكبر ممن هي في ذاتها أصغر منه، وقد ورد في الحديث الصحيح تفسير الكبر بأنه غمط الحق، أو بطر الحق واحتقار الناس١. وهو تفسير له بمظهره العلمي الذي يترتب عليه الجزاء وهو أن لا يذعن للحق إذ ظهر له بل يدفعه أو ينكره تجبرا وترفعا، وأن يحتقر غيره بقول أو عمل يدل على عدم الاعتراف له بمزيته وفضله. أو بتنقيص تلك المزية بادعاء أن ما دونها هو فوقها سواء ادعى ذلك لنفسه فرفعها على غيرها بالباطل أو ادعاه لغيره بأن يفضل بعض الناس على بعض بقصد احتقار المفضل عليه وتنقيص قدره.
﴿ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين ﴾ هذا تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. أي فاخرج من هذا المكان أو المكانة. وعلل ذلك بقوله على طريق الاستئناف البياني :﴿ إنك من الصاغرين ﴾ أي أولي الذلة والصغار أظهر حقيقتك الامتحان والاختبار الذي يميز بين الأخيار والأشرار، بإظهاره لما كان كامنا في نفسك من عصيان الاستكبار. ﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾ ( آل عمران ١٧٩ ) وقال بعضهم إنه تعالى جازاه بضد مراده إذ أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها التي كانت فيها، فجوزي بهبوطها منها إلى ما دونها، كما ورد في بعض الأخبار من أن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة بصورة حقيرة يطؤهم فيها الناس بأرجلهم، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو في أنفسهم وهذا التوجيه أليق بقول من جعل الأمر للتكليف. ولكن الحافظ ابن كثير جرى عليه بعد جزمه بالقول بأنه للتكوين واقتصاره عليه قال :" يقول تعالى لإبليس بأمر قدري كوني فاهبط منها بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها. قال كثير من المفسرين الضمير عائد إلى الجنة. ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى ( فاخرج إنك من الصاغرين } أي الذليلين الحقيرين. معاملة له بنقيض قصده، ومكافأة لمراده بضده. فعند ذلك استدرك اللعين، وسأل النظرة إلى يوم الدين ".
١ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٤٧.
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون ﴾ أي قال بلسان قاله التفسير الأول أو لسان حاله واستعداد على الآخر : رب أخرني وأمهلني إلى يوم يبعث آدم وذريته فأكون أنا وذريتي أحياء ما داموا أحياء وأشهد انقراضهم وبعثهم.
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِين ﴾ أي قال تعالى له مخبرا أو قال مريدا ومنشئا كما يقول للشيء كن فيكون : إنك من المنظرين، قال ابن كثير أجابه تعالى إلى ما سأل لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه اه. فهو يؤكد بهذا ما اختاره في مدلول هذا الحوار وهو أنه بيان لمقتضى التكوين الذي هو متعلق المشيئة، لا مراجعة أقوال من متعلق من صفة الكلام.
وظاهر الكلام أنه جعل من المنظرين إلى يوم يبعثون وإن لم يصرح به للعلم به من السؤال إيجازا قال ابن كثير : أجابه إلى ما سأل. ولكن هذا السؤال ورد في سورة الحجر فكان جوابه بلفظ آخر وهو :﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ ( الحجر ٣٦- ٣٧ ) أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآيات : أراد إبليس أن لا يذوق الموت فقيل له :" إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " قال النفخة الأولى وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. وأخرج الأول عن السدي قال : فلم ينظره إلى يوم يبعثون ولكن أنظره إلى يوم المعلوم. والنفخة الأولى في الصور هي التي يموت فيها جميع أهل الأرض دفعة واحدة والثانية هي التي بها يبعثون وليس بعدها موت ولذلك قال ابن عباس إنه أراد أن لا يذوق الموت.
وهذه النفخة تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى في سورة النمل :﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ ( النمل ٨٧ ) ونفخة الصعق لقوله في سورة الزمر :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من يشاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾ ( الزمر ٦٨ ) ولاختلاف الوصفين قال أبو بكر ابن العربي وغيره أن النفخات ثلاث وقال آخرون أربع ولكن ظاهر القرآن أنهما ثنتان وهما المراد بقوله :﴿ يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ﴾ ( الحاقة ٦- ٧ ) فهم يفزعون فيصعقون أي يموتون بالأولى وهي الراجفة، ويبعثون بالثانية التي تردفها وتتبعها. وأصل الصعق تأثير الصاعقة فيمن تصيبه من إغماء وغشيان أو موت وهو الغالب ثم صار يطلق على الغشيان من كل صوت شديد وعلى الموت منه كما فسره الفيومي في المصباح.
وفيمن استثنى الله تعالى من الفزع والصعق عشرة أقوال على ما استقصاه الحافظ في الفتح ليس في شيء منها ذكر إبليس لعنه الله وما من قول من تلك الأقوال إلا وفيه نظر من بعض الوجوه وهذا أمر غيبي لا يعلم إلا بتوقيف ولم يصح في قول منها حديث مرفوع متصل الإسناد فيما يظهر من كلامهم، ولكن ورد في حديث لأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن هذه الآية : من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا ؟ قال " هم شهداء الله عز وجل " قال الحافظ صححه الحاكم ورجاله ثقات ورجحه الطبري اه.
ولكن الحافظ لم يذكر هذا قولا مستقلا بل أدمجه في قول من قال إنهم الأنبياء.
أي بناء على أن المراد بشهداء الله حججه على خلقه بحسن سيرتهم واستقامتهم في الدنيا إذ يشهدون في الآخرة بضلال كل من كان مخالفا لهديهم و سنتهم في اتباع دين الله عز وجل، والأنبياء في مقدمتهم قطعا فكل نبي يشهد على قومه كما قال :﴿ فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ ( النساء ٤١ ) وهؤلاء الشهداء لا تخلوا الأرض منهم، يقلون تارة ويكثرون تارة أخرى ولكن يجب أن يجعل هذا قولا مستقلا فإن الشهداء أعم من الأنبياء ومن الصديقين فكل نبي شهيد وكل صديق شهيد ومن الشهداء من ليس بنبي ولا صديق ولكن كل شهيد صالح وما كل صالح بشهيد، فبين طبقات ﴿ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ ( النساء ٦٩ ) العموم والخصوص المطلق، وإذا كان الصعق المراد هو الموت فلا يظهر للقول بأن المستثنى هم الأنبياء وجه، وكذا إن كان المراد به الغشيان المعبر عنه في آية النمل بالفزع وكانت النفخة المحدثة له هي الأولى إذ يتلوه موت الخلق وخراب الدنيا كما هو الظاهر المتبادر، وظاهر بعض الأحاديث أن ذلك يكون يوم البعث وهو خلاف المتبادر من الآيات كلها.
فعلم مما ذكرنا أن إبليس لا ينتهي إنظاره إلى يوم البعث بل يموت عقب النفخة الأولى التي يتلوها خراب هذه الأرض كما قال تعالى في سورة الحاقة :﴿ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ﴾ الحاقة ١٢- ١٣ } إلا إذا قيل إن يوم القيامة ويوم البعث يطلق تارة على ما يشمل زمن مقدماته فيسمى كل ذلك يوما كما يطلق تارة على زمن المقدمات وحدها وتارة على زمن الغاية وحدها إذ معناه في اللغة الزمن الذي يتميز بعمل معين فيه كأيام العرب المعروفة، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى بعد الآيتين المذكورتين آنفا من سورة الحاقة :﴿ فيومئذ وقعت الواقعة ﴾ ( الحاقة ١٤ ) الآيات وفي هذا الباب حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما الناطق بأن الناس يصعقون يوم القيامة وأن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أول من يرفع رأسه فيجد موسى آخذا بقائمة من قوائم العرش قال :" فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل " ١ وظاهره أن ذلك غشيان يقع بعد البعث في موقفه، ويحتمل أن يعم صعق النفخة الأولى الأحياء والأموات إلا من استثني وإلا كان مشكلا يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما يعارضه مما علمت بعضه وليس هذا المقام بالذي يتسع لتحقيق هذه المسألة.
وقد استشكل المفسرون ولاسيما علماء الكلام منهم هذا الإنظار بالنسبة إلى ما يترتب عليه من الشر والإغواء وسيأتي بيان حكمته بعد انتهاء تفسير هذه الآيات.
١ أخرجه البخاري في الخصومات باب ١ والأنبياء باب ٣١ والتوحيد باب ٣١ ومسلم في الفضائل حديث ١٦٠ وأبو داود في السنة باب ١٣ والترمذي في تفسير سورة ٣٩ باب ٩ وابن ماجه كفي الزهد باب ٣٣ وأحمد في المسند ٢/ ٢٦٤- ٤٥١..
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم ﴾ الإغواء الإيقاع في الغواية وهي ضد الرشاد لأنها في أصل اللغة بمعنى الفساد المردي من قولهم غوى الفصيل كهوى ورمى، وغوي كهوي ورضي إذا فسد جوفه من كثرة اللبن فهزل وكاد يهلك، وصراط الله المستقيم هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن تتزكى نفسه بهداية الدين الحق وتكميل الفطرة، والفاء لترتيب مضمون الجملة التي تليها على مضمون ما قبلها، والباء للسببية أو القسم والمعنى فبسبب إغوائك إياي من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم أو فيه أو لألزمنه فأصدهم عنه وأقطعه عليهم بأن أزين لهم سلوك طرق أخرى أشرعها لهم من جميع جوانبه ليضلوا عنه، وهو ما فسر بقوله :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِم ﴾.
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِم ﴾
أي فلا أدع جهة من جهاتهم الأربع إلا وأهاجمهم منها، وهذه جهات معنوية كما أن الصراط الذي يريد إضلالهم عنه معنوي، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى :﴿ وإن صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ﴾ ( الأنعام ١٥٣ ) الآية ما يوضح ما هنا وفسر في الآثار بالإسلام وبطريقي الهجرة والجهاد لصده عنهما ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين ﴾ لنعمك عليهم في عقولهم ومشاعرهم وجوارحهم ومعايشهم وما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم، أي لا يكون الشكر التام الممكن صفة لازمة لأكثرهم بل للأقلين منهم، قيل إنه قال هذا عن ظن فأصاب لقوله تعالى :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ﴾ ( سبأ ٢٠ ) وقيل عن علم بالدلائل لا بالغيب والدلائل النظرية غير القطعية ظنون وتقدم تعريف الشكر في تفسير آية ﴿ ولقد خلقناكم ﴾ وهي فاتحة هذا السياق.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الأربع قال :" ثم لآتينهم من بين أيديهم " قال : أشككهم في آخرتهم " ومن خلفهم " فأرغبهم في دنياهم " وعن أيمانهم " أشبه عليه أمر دينهم " وعن شمائلهم " استن لهم المعاصي " ولا تجد أكثرهم شاكرين " قال موحدين فسر الشكر بأصل أصوله ومنبت جميع فروعه وهو توحيد الربوبية والألوهية الذي هو منتهى الكمال في معرفته تعالى، وفي رواية أخرى عنه : من بين أيديهم من قبل الدنيا ومن خلفهم من قبل الآخرة وعن أيمانهم من قبل حسناتهم وعن شمائلهم من جهة سيئاتهم وهي إنما تخالف الأولى في تفسير ما بين الأيدي والخلف، ومخالفة تناقض في اللفظ، والمراد واحد، وهو هل المراد فيما بين الأيدي ما هو حاضر أو ما هو مستقبل، وهل المراد بالخلف ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا أم ما هو وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة ؟ اللفظ يحتمل التأويلين.
وعنه : لم يستطع أن يقول من فوقهم. علم أن الله فوقهم. وفي لفظ : لأن الرحمة تنزل من فوقهم، وعن مجاهد وقتادة ما هو بمعنى ما ذكر مع تفصيل ما كما في الدر المنثور وهما من تلاميذه ( رض ). والفوقية معنوية كغيرها، وإثبات العلو والفوقية لله تعالى تنطق به الآيات والأحاديث الصحيحة ومن صفاته ( العلي ) فنؤمن به مع تنزيهه تعالى عما لا يليق به صفات خلقه جميعا وقد شرحناه من قبل بما أثبتنا به مذهب السلف فيه، وفي رواية عن مجاهد من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، وحاصل المعنى كما قال ابن جرير : جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم، وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات " اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي " ١.
١ أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠١ والنسائي في الاستعاذة باب ٦٠ وابن ماجه في الدعاء باب ١٤ واحمد في المسند ٢/ ٢٥..
هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد
﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ﴾ يقال ذأم المتاع ( من باب فتح ) وذامه بالتخفيف يذيمه ذيما وذاما ( بالقلب ) إذا عابه وذمه. ويقال دحر الجند العدو إن طرده وأبعده فهو بمعنى اللعن وبذلك ورد التفسير المأثور للفظين، والأمر الأول بالخروج قد ذكر لبيان سببه وهذا لبيان صفته، والمعنى اخرج من الجنة أو المنزلة التي أنت فيها حال كونك معيبا مذموما من الله وملائكته مطرودا من جنته، فهو بمعنى لعنه وجعله رجيما في آيات أخرى
﴿ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِين ﴾ جهنم اسم من أسماء دار الجزاء على الكفر والفسوق والعصيان. أخبر تعالى خبرا مؤكدا بالقسم بأن من يتبع إبليس من ذرية آدم فيما يزينه له من الكفر والشرك والفجور والفسق فإن جزاءهم أن يكونوا معه أهل دار العذاب يملؤها منهم أجمعين، وفي آخر سورة ص ﴿ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾ ( ص ٨٥ ) ويدخل في خطابه أعوانه في الإغواء من ذريته. والنصوص فيهم كثيرة. وقوله " منهم " بدل على أن الملء يكون من بعضهم وإلا قيل : لأملأن جهنم بكم. وذلك أن بعض من يتبعه من المؤمنين الموحدين في بعض المعاصي يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
وفي سورتي الحجر وص استثناء عباد الله المخلصين من إغوائه لعنه الله حكاية عنه وهو مقابل الأكثر هنا. وأكد سبحانه ذلك في سورة الحجر بقوله :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾ ( الحجر ٤٢ ) ونحوه في سورة ( الإسراء ٦٥ ) وفي سورة إبراهيم عليه السلام ما يفيد أنه ليس له سلطان على أحد، وإنما هو داعية شر وما تبعه من تبعه إلا مختارا مرجحا للباطل على الحق وللشر على الخير، فقد قال في سياق تخاصم أهل النار يوم القيامة من المستكبرين المضلين والضعفاء الذين اتبعوهم في ضلاهم ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( إبراهيم ٢٥ ) وسيأتي فائدة التذكير بهذا عند تفسير الآيات الآتية في نصح بني آدم وتحذيرهم من طاعة الشيطان.
وقد استشكل بعض المفسرين ولاسيما المتكلمين منهم خطاب الرب سبحانه للشيطان في هذا التحاور الطويل واختلفوا فيه هل هو خطاب بواسطة الملائكة كالوحي لرسل البشر أم بغير واسطة وكيف وهو يقتضي التكريم ؟ وتحكموا في الجواب حتى قال بعضهم إن الشيطان كان يطلع على اللوح المحفوظ فيعلم مراد الله في جواب أسئلته واستشكلوا أمر الله تعالى إياه بإغواء البشر وإضلالهم المبين في سورة الإسراء بقوله سبحانه :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ﴾ ( الإسراء ٦٤ ) الآية مع قوله تعالى :﴿ إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ ( الأعراف ٢٨ ) وإنما يشكل هذا كله على ما جروا عليه من جعل الخطاب للتكليف.
وأما إذا جعل الخطاب للتكوين كما صرح به ابن كثير فلا إشكال لأنه عبارة عن بيان الواقع من صفة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما وأعمالهما الاختيارية. وللأشعرية والمعتزلة فيها جدل طويل، فالأولون يثبتون الإغواء والإضلال لله تعالى وينفقون رعاية الرب لمصالح العباد في كل من دينهم ودنياهم ويجعلون الإنسان مجبورا في صورة مختار، والآخرون يخالفونهم. فندع أمثال هذه المباحث الجدلية لابني نجدتها الرازي والزمخشري، ونختم تفسير هذه الآيات ببيان حكمة الله تعالى في خلق إبليس وذريته الشياطين، وكشف شبهة المستشكلين له ولخلق الإنسان مستعدا لقبول إغوائه فإنها مما يحتاج إليه هنا حتى على القول بأن السياق كله لبيان حقيقة التكوين.
حكمة خلق الله الخلق واستعداد الشيطان والبشر للشر
اعلم أن الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات هي أن يتجلى بها الرب الخالق لها لما هو متصف له من صفات الكمال ليعرف ويعبد، ويشكر ويحمد، ويحكم ويجزي فيعدل، ويغفر ويعفو ويرحم، إلخ فهي مظهر أسمائه وصفاته، ومجلى سننه وآياته وترجمان حمده وشكره ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ ( الإسراء ٤٤ ) لذلك كانت في غاية الإحكام والنظام الدالين على العلم والحكمة والمشيئة والاختيار، ووحدانية الذات والصفات والأفعال، ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴾ ( النمل ٧٧ ) ﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه ﴾ ( السجدة ٧ ) كما نطق القرآن.
الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، كما ورد في الحديث. بل ليس في خلقه ما هو شر محض في نفسه، وإنما الشر أمر اعتباري مداره على ما يؤلم الأحياء أو تفوت به مصلحة أو منفعة على أحد منهم فيكون شرا له إن لم يترتب على ذلك منفعة أعظم أو دفع مفسدة أكبر، فإن الإنسان قد يتألم من الدواء الذي يزيل مرضه الذي هو أشد أو أطول إيلاما منه، وقد تفوته منفعة صغيرة يكون فوقها سببا لمنفعة أكبر منها، كالذي يبذل ماله في المصلحة العامة لملته ووطنه فيكرم ويكون قدوة في الخير، وحظه من كرامة الأمة وعمران الوطن أعظم مما بذل من المال، وفوق ذلك من يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله وهي سبيل الحق والخير وسعادة الدارين ابتغاء مرضاته والزلفى عنده.
وقد كان من مقتضى تحقق معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أن يخلق ما علمنا وما لم نعلم من أنواع المخلوقات، وأن تكون المقابلات والنسب بين بعضها مختلفة من توافق وتباين وتضاد، ويترتب على ذلك في نظام الخلق أن الضد يظهر حسنه الضد، وأن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، وأن يسيء بعضهم إلى نفسه أو غيره، وأن يكون بعضهم مفطورا على طاعة ربه، دائبا على عبادته وحمده وشكره، وأن يكون بعضهم مختارا في عمله مستعدا للأضداد في ميله وطبعه، يتنازعه عاملا الكفر والشكر، وتشتبه عليه حقيقتا التوحيد والشرك، وتتجاذبه داعيتا الفجور والبر، فيكون لشكره وبره وطاعته لربه من عظم الشأن مع معارضة الموانع ما ليس للمفطور على ذلك، وقد يعصي فيفيده العصيان خوفا ورهبة، ويحمله على التوبة، فيكون له أوفر حظ من اسمي العفو الغفور، وقد يستكبر عن الطاعة والإيمان ويصر على الفسوق والعصيان فيكون موضعا لعقاب الحكم العدل، وآية فيه على تنزهه تعالى عن الجور والظلم.
ولا نعرف نوعا من أنواع الخلق مفطورا على الباطل والشر، مجبورا على الفسق والكفر، فهو غير موجود. على أنه لو وجد لما صح أن يعترض به العبد المربوب على الرب المعبود، وهذه الآيات المبينة لمعصية إبليس وهو شر أفراد هذا النوع المسمى بالجن تدل على أنه كان مختارا في عصيانه بانيا إياه على شبهة احتج بها عليه وكذلك خلق الله نوعه فكانوا كالبشر منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر كما يعلم من السورة التي سميت باسمهم ( الجن ) قال تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ ( الكهف ٥٠ ) الفسق الخروج من الشيء فهو يدل على أنه كان قبل ذلك يطيعه ويعبده كما يدل عليه وجوده مع الملائكة وعقوبته بإخراجه منهم بعد المعصية.
وقد عصى آدم ربه عصيان إبليس، وكان الفرق بينهما أن آدم تاب إلى ربه فتاب عليه وهداه واجتباه، وجعله موضع مغفرته ورحمته، وأن إبليس أصر على عصيانه واحتج على ربه فلعنه وأخزاه، وجعله موضع عدله في عقابه وقص قصصهما على المكلفين من ذريتهما بما أظهر حقيقة النوعين، ومآل العملين، عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين، وابتلاء ( اختبارا ) للعالمين يميز الله به المحسنين والمسيئين ويزيل بين الطيبين والخبيثين، إذ كان من سننه فيهما أن الحياة جهاد، يظهر به ما أودع في النفوس من الاستعداد، وأن من حكم تفاوت البشر فيه أن يكون منهم العالم والجاهل، والحكيم والحاكم والمسوس والسائس، والجندي والقائد والمخدوم والخادم، والزارع والصانع، والتاجر والعامل. فلولا العمال مثلا لما اتسعت مسائل العلوم بالأعمال ولما أمكن الانتفاع بما كشف العلماء من أسرار الطبيعة وخواص المخلوقات، ولولا ذلك لما عرفت نعم الخالق وسننه ودقائق علمه وحكمته في الأشياء، وغير ذلك من معاني الصفات ومظاهر الأسماء وموجبات الحمد والشكر والثناء.
وجملة القول إن كل ما خلقه الله تعالى فهو حسن في نفسه، متقن في صنعه، مظهر لنوع أو أنواع من حكمه في خلقه، ومن كماله في ذاته وصفاته ولا شيء منه بباطل ولا بشر محض ﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾ ( الحجر ٧٥ ) ﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾ ( ص ٢٦ ).
وإذا كان من حكمته تعالى فيما ذكر من معصيتي أبوي الإنس والجن ظهور استعدادهما وإظهار حكمه تعالى في الجزاء على الذنوب في حالي التوبة منها والإصرار عليها، والعبرة والموعظة، وحسن الأسوة، وسوء القدوة، والابتلاء والجهاد وغيره مما بينا. وإذا كانت معصية الأول بسبب وسوسة الآخر فلا خفاء في استمرار ذلك في ذريتهما، لأنه من مقتضى فطرة نوعيهما، التي هي مظهر أسماء الله وصفاته فيهما، فجنس الجن أو الجنة الغيبي الروحاني نوعان أو صنفان : صنف ملكي يلابس بعضه أرواح البشر الميالة إلى الحق والخير فتقوى داعيتهما فيها، وصنف شيطاني يلابس أراوح البشر الميالة إلى الباطل والشر فتقوى داعيتهما فيها، كما بينه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :" إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان " ثم قرأ ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ ١ ( البقرة ٢٦٨ ) الآية رواه الترمذي وقال حسن غريب والنسائي وابن حبان والبيهقي في الشعب ورواة التفسير المأثور من حديث ابن مسعود. ومثل اتصال نوعي الجنة الروحية بروح الإنسان كل بما يناسب طبعه كمثل اتصال نوعي الجنة المادية بجسده وتأثيرها فيه بحسب استعداده، وهي ما يسميه الأطباء بالمكروبات وسماها بعض الأدباء النقاعيات، فإن منها جنة الأمراض والأوبئة التي تؤثر في الجسم القابل لها بضعفه، والميكروبات التي تقوى بها الصحة كما بيناه من قبل.
قال الراغب في مفرداته : والجن يقال على وجهين : أحدهما : للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة، وعلى هذا قال أبو صالح الملائكة كلها جن وقيل بل الجن بعض الروحانيين، وذلك أن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فيهم أخيار وأشرار وهم الجن. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي ﴾ إلى قوله عز وجل :﴿ وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون ﴾ ( الجن ١٤ ) والجنة جماعة الجن اه.
وأقول : إن هذا لا يخالف ما ذكر قبله من وحدة الجنس فإنه غلب على قسمين منه اسمان مميزان لهما لتضادهما. وقد فسرت الجنة ( بالكسر ) في قوله تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون ﴾ ( الصافات ١٥٨ ) بالملائكة كما يدل عليه قوله قبل الآية عن كفار قريش ﴿ فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ﴾ ( الصافات ١٤٩ ) الآيات. قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وأبو مالك وقتادة : إن الجنة في الآية الملائكة وإن المراد بالنسب قولهم : الملائكة بنات الله ﴿ ولقد علمت الجنة ﴾ أي الملائكة ﴿ إنهم لمحضرون ﴾ في النار مقدمون على عذاب الكفر اه ملخصا با
١ أخرجه الترمذي في تفسير في سورة ٢ باب ٣٥. .
هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة ﴾ أي قلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة كما نص التعبير في سورة البقرة فهو معطوف على قوله تعالى في أول السياق :﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ وهذا أظهر من جعله معطوفا على قوله تعالى في الآية السابقة لهذه ﴿ قال اخرج منها مذءوما مدحورا ﴾، فإن إخراجه من الجنة على قول الجمهور كان بعد الوسوسة لآدم كما هو مبين في هذه الآيات، والنداء يفيد الاهتمام بالأمر بعده. والأمر بالسكنى قيل للإباحة وقيل للوجوب بناء على أنه أمر تكليف، ويقابله جعله أمرا تكوينيا قسريا كما تقدم مثله في أمر إبليس. واللام في الجنة للعهد الخارجي وهي الجنة التي فيها أو لديها آدم، ومثله قوله تعالى في سورة ن :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ﴾ ( القلم ١٧ ) لأن آدم خلق من الأرض في الأرض ولم يرد في شيء من آيات قصته المكررة في عدة سور أن الله رفعه إلى الجنة التي هي دار الجزاء على الأعمال، وتقدم بيان الخلاف في هذه الجنة في تفسير القصة في سورة البقرة والجمهور على أنها جنة الآخرة.
والآية تدل على أن آدم كان له زوج أي امرأة وليس في القرآن مثل ما في التوراة من أن الله تعالى ألقى على آدم سباتا انتزع في أثنائه ضلعا من أضلاعه فخلق له منه حواء امرأته، وأنها سميت امرأة " لأنها من امرئ أخذت " وما روي في هذا المعنى فهو مأخوذ من الإسرائيليات. وحديث أبي هريرة في الصحيحين " فإن المرأة خلقت من ضلع " على حد ﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ ( الأنبياء ٣٧ ) بدليل قوله :" فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء " ١ أي لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة، ووثنيو الهند يزعمون أن لآدم أما ولها في مدينتهم المقدسة ( بنارس ) قبر عليه قبة بجانب قبة قبره، وقيل إن المراد بأمه عندهم الرمز إلى الطبيعة. والآية ترشد إلى أن المرأة تابعة للرجل في السكنى والمعيشة باقتضاء الفطرة وهو الحق الواقع الذي يعد ما خالفه شذوذا.
﴿ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ أي فكلا من ثمارها حيث شئتما وفي سورة البقرة ﴿ وكلا منها رغدا حيث شئتما ﴾ ( البقرة ٣٥ ) ومن سنة القرآن أن يتضمن التكرار للقصص فوائد في كل منها لا توجد في الأخرى من غير تعارض في المجموع.
﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين ﴾ النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه كما بيناه في تفسير ﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾ ( البقرة ١٨٧ ) فهو يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي تغري به وتفضي إليه ورعا واحتياطا " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " ٢ كما ورد في الحديث وتعريف الشجرة كتعريف الجنة، وهي مشار إليها في الآية بما يعين شخصها ولم يبين في القرآن نوعها ولا وصفها، إلا ما في الآية التالية عن إبليس ومثله في سورة طه. وفي الفصل الثاني من سفر التكوين أول أسفار التوراة ما نصه " ٨ وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هناك آدم الذي جبله ٩ وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر " ثم قال " ١٥ وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ١٦ وأوصى الرب آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلا ١٧ وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتا تموت " اه وقد أكل آدم من الشجرة ولم يمت يوم أكلها، والقرآن قد علل النهي بأنه يترتب على مخالفته أن يكونا من الظالمين لأنفسهما أي بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من ذلك الرغد من العيش وما يعقبه من التعب في المعيشة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.


١ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١ ومسلم في الرضاع حديث ٦٢..
٢ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٩ في المساقاة حديث ١٠٨ والدرامي في البيوع باب ٣ وابن ماجه في الفتن باب ١٤ والدرامي في البيوع باب ١..
هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا ﴾ قال الراغب الوسوسة الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي، والهمس الخفي، قال :﴿ فوسوس إليه الشيطان ﴾ ( طه ١٢٠ ) وقال :﴿ من شر الوسواس ﴾ ( الناس ٤ ) ويقال لهمس الصائد وسواس اه فوسوسة الشيطان للبشر هي ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم ومعاملتهم وقد فصلنا القول في ذلك مرارا. والظاهر هنا أن الشيطان تمثل لآدم وزوجه وكلمهما وأقسم لهما، ولا مانع منه على قول الجمهور. ومن جعل القصة تمثيلا لبيان حال النوع البشري في الأطوار التي تنقل فيها يفسر الوسوسة بما تقدم آنفا فإن الإنسان عندما ينتقل من طور الطفولة التي لا يعرف فيها هما ولا نصبا إلى طور التمييز الناقص يكون كثير التعرض لوسوسة الشيطان وأتباعها. وقد عللت هذه الوسوسة بأن غايتها أو غرضه منها أن يظهر لهما ما غطي وستر عنهما من سوآتهما. يقال وارى الشيء إذا غطاه وستره و( ووري الشيء ) : غطي وستر، والسوأة ما يسوء الإنسان من أمر شائن وعمل قبيح. والسوأة السوآء الخلة القبيحة والمرأة المخالفة. قال في حقيقة الأساس : وسوأة لك، ووقعت في السوأة السوآء قال أبو زبيد :
لم يهب حرمة النديم وحقت يا لقومي للسوأة السوآء١
ثم قال : ومن باب الكناية بدت سوأته وبدت لهما سوآتهما اه وإذا أضيفت السوءة إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري ما لم يفسده بتعود إظهارها مع آخرين فيرتفع الحياء بينهم. وجمعت هنا على القاعدة في إضافة المثنى إلى ضميره إذ يستثقلون الجمع بين ثنتين فيما هو كالكلمة الواحدة فيجمعون المضاف كقوله تعالى :﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ﴾ ( التحريم ٤ ) وسنذكر معنى ما كان من هذا الإخفاء أو المواراة لسوآتهما عنهما في تفسير قوله تعالى :﴿ فبدت لهما سوآتهما ﴾ وما هو ببعيد.
﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِين ﴾ أي وقال فيما وسوس به لهما : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا منها إلا لأحد أمرين : اتقاء أن تكونا بالأكل منها ملكين أي كالملكين فيما أوتي الملائكة من الخصائص كالقوة وطول البقاء وعدم التأثير بفواعل الكون المؤلمة والمتعبة وغير ذلك، وقرأ ابن عباس وابن كثير " ملكين " بكسر اللام واستشهد له الزجاج له بما حكاه تعالى عن الشيطان في سورة طه بقوله :﴿ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ﴾ ( طه ١٢٠ ) وهو ضعيف والقراءة شاذة أو اتقاء أن تكونا من الخالدين في الجنة، أو الذين لا يموتون البتة. أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة يعطي الآكل صفة الملائكة وغرائزهم ويقتضي الخلود في الحياة، واستدلوا به على تفضيل الملائكة على آدم، وخصه بعضهم بملائكة السماء والكرسي والعرش من العالين والمقربين دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها الذين كان معنى سجودهم له أن الله سخر لنوعه جميع قوى الأرض وعوالمها. وذكر الرازي في تفسير الآية أنها أحد الدلائل على كون الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض فقط، واستدل الشيخ محيي الدين بن العربي على عدم سجود جميع الملائكة له بقوله تعالى لإبليس في سورة الحجر :﴿ أستكبرت أم كنت من العالين ﴾ ( ص ٧٥ ) ؟ بناء على أن العالين خواص الملائكة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.


١ البيت من الخفيف وهو لأبي زبيد الطائي ص ٢٨ ولسان العرب (سوأ) مقاييس اللغة ٣/ ١١٣ وتهذيب اللغة ١٣/ ١٣١ وأساس البلاغة (سوأ) والمقاصد النحوية ٢/ ٠٥٧ وخزانة الأدب ٤/ ١٨٩ والمعاني الكبير ص ٤٦٣ وتاج العروس (سوأ) وشرح شواهد المغنى ص ٦٤٠ وطبقات فحول الشعراء ص ٦٠٤ وبلا نسبة في لسان العرب (هيب)..
هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين ﴾ ادعى اللعين أنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة. ولما كان محل الظنة في نصحه عندهما، لأنه تعالى أخبرهما بأنه عدو لهما، أكد دعواه بأشد المؤكدات وأغلظها، وهي القسم وإن اللام وتقديم " لكما " على متعلقه الدال على الحصر. وكان الظاهر أن يقال وأقسم لهما فإن المقاسمة تدل على المشاركة كقاسمه المال أي أخذ كل منهما قسما وللمفسرين في الصيغة قولان أحدهما أن صيغة فاعل وردت للمفرد كثيرا وهذا منها فمعناه : وحلف لهما، واستشهد له ابن جرير بقول خالد بن زهير :
وقاسمها بالله جهدا لأنتمُ ألذ من السلوى إذا ما نشورها١
والقول الثاني إنها على أصلها، ووجهوه بوجوه لا دليل عليها كقولهم إنهما أقسما له أنهما يقبلان نصيحته إذ أقسم أنه ناصح، وقولهم إنهما طلبا منه القسم فجعل طلبهما القسم كالقسم، وإنما يعلم مثل هذا بالنقل عن المعصوم. ولو قيل إنه هو الذي عرض عليهما أن يقسم لهما وطلب منهما أن يقسما له وبنى قسمه على ذلك لكان أقرب إلى المألوف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.


١ البيت من الطويل وهو لخالد بن زهير في شرح أشعار الهذليين ص ٢١٥ ولسان العرب (سلا) وتهذيب اللغة ١٣/ ٦٩ والمخصص ٥/ ٥/ ١٥- ١٣/ ١٠- ١٤- ٢٤١ وبلا نسبة في كتاب العين ٧/ ٢٩٨..
هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور ﴾ دلى الشيء تدلية أرسله إلى الأسفل رويدا رويدا لأن في الصيغة معنى التدريج أو التكثير أي فما زال يخدعهما بالترغيب في الأكل من الشجرة والقسم على أنه ناصح بذلك لهما به، حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة الفاطر بما غرهما به، والغرور الخداع بالباطل وهو مأخوذ من الغرة ( بالكسر ) والغرارة ( بالفتح ) وهما بمعنى الغفلة وعدم التجربة كما حققناه بالتفصيل في تفسير ﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ ( الأنعام ١١١ ) واستشهدنا عليه بخداع الشيطان لآدم وحواء في مسألتنا. وقيل دلاهما حال كونهما متلبسين بغرور. والأول أظهر.
والظاهر أنهما اغترا وانخدعا بقسمه وصدقا قوله لاعتقادهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، واستنكر بعضهم أن يكونا صدقاه واستكبر أن يقع ذلك منهما، وزعم أن تصديقه كفر، ورجح هؤلاء أن يكون الغرور بتزيين الشهوة، فإن من غرائز البشر حب التجربة واستكشاف المجهول، والرغبة في الممنوع، فجاء الوسواس نافخا في نار هذه الشهوات الغريزية مذكيا لها، مثيرا للنفس بها إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه، ولم يكن له من العزم ما يصرفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه، كما قال تعالى في سورة طه :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ﴾ ( طه ١١٥ ) وفي حديث أبي هريرة في الصحيح " ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها " ١ بناء على أنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة. والمراد أن المرأة فطرت على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له، وقيل إن ذلك بنزع العرق أي الوراثة.
﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ﴾ أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مواراة عنهما، قيل بلباس من الظفر كان يسترها فسقط عنهما، وبقيت له بقية في رؤوس أصابعهما، وقيل بلباس مجهول كان الله تعالى ألبسهما إياه، وقيل بنور كان يحجبهما ولا دليل على شيء من ذلك، ولم يصح به أثر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. والأقرب عندي أن معنى ظهورها لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الأكل من الشجرة فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها، وشعرا بالحاجة إلى سترها، وشرعا يخصفان أي يلزقان أو يضعان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها من خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها فالمواراة كانت معنوية فإن كانت حسية فما ثم إلا الشعر ساتر خلقي، وقد تظهر الشهوة ما أخفاه الشعر، وإن لم يسقط بتأثير ذلك الأكل. ويدل على كل من هذين الوجهين فطرة الإنسان التي نزلت الآيات في شرح حقيقتها وغرائزها، والله أعلم بمراده، وخلقه وقدره أصدق شاهد لكتابه.
﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين ﴾ الاستفهام هنا للعتاب والتوبيخ، أي وقال لهما ربهما الذي يربيهما في طور المخالفة والعصيان، كما يربيهما في حال الطاعة والإذعان : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة أن تقرباها وأقل لكما إن الشيطان عدو لكما دون غيركما من الخلق بين العداوة ظاهرها فلا تطيعاه يخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في المعيشة والتعب في جهاد الحياة. وهذا القول هو ما ورد في سورة طه :﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾ ( طه ١١٧ ) والقرآن يفسر بعضه بعضا سواء ما تقدم نزوله منه وما تأخر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.


١ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١ ٢٥ ومسلم في الرضاع حديث ٦٤- ٦٥ واحمد في المسند ٢/ ٣٠٤- ٣٠٥- ٣٤٩..
هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾ هذا بيان مستأنف لما كان من أمرهما بعد أن تذكرا نهي الرب لهما عن الأكل من الشجرة لما فيه من ظلمهما لأنفسهما به وهو أنهما قالا : يا ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان وعصياننا لك كما أنذرتنا، وقد عرفنا ضعفنا وعجزنا عن التزام عزائم الطاعات وإن لم تغفر لنا ما نظلم به أنفسنا، وترحمنا بهدايتك لنا وتوفيقك إيانا إلى ترك الظلم، والاعتصام من الجهل والجهالة بالعلم والحلم، بقبولنا إذا نحن تبنا إليك وبإعطائك إيانا من فضلك فوق ما نستحق بعدلك، فوحقك لنكونن إذا من الخاسرين لأنفسنا وللسعادة والفلاح بتزكيتها، وإنما ينال الفوز والفلاح بمغفرتك ورحمتك من يتوب إليك ويتبع سبيلك دون من يصر على ذنبه ويحتج على ربه كالشيطان الرجيم، الذي أبى واستكبر واحتج لنفسه على المعصية وأصر.
هذا ما يدل عليه المقام وتقتضيه الحال من معنى كلمات آدم التي تلقاها من ربه وهي التي أشير إليها في سورة البقرة :﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ﴾ ( البقرة ٣٧ ) قالها خاشعا متضرعا وتبعته زوجه بها، فحذفهما لمفعول " تغفر " إذ لم يقولا وإن لم تغفر لنا ذنبنا هذا أو ظلمنا يدل على أنهما قد علقا النجاة من الخسران على المغفرة العامة المطلقة التي تشمل هذا الذنب وغيره، من كل ذنب يتوب الإنسان عنه ويرجع إلى ربه وهو الذي يقتضيه مقام بيان حال الفطرة البشرية المبين في آيات أخرى كآية الأحزاب في حمل الإنسان للأمانة وكونه كان بذلك ظلوما جهولا، وآية المعارج ﴿ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين ﴾ ( المعارج ١٩ -٢٢ ) إلخ ويؤيده أن هذا الذنب بعينه قد عوقبا عليه بالإخراج من الجنة وبالتشهير الدائم بإعلامه تعالى ذريتهما به، وهاك ما أجابهما الرب تعالى به، إذ المقام مقام السؤال عنه :﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.

هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ ﴾ الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام وللشيطان عليه اللعنة والملام، أي اهبطوا من هذه الجنة او من هذه المكانة على ما تقدم مثله في قصة إبليس بعضكم وهو الشيطان عدو لبعض وهو الإنسان وأما الإنسان فليس عدو للشيطان لأنه ليس مندفعا إلى إغوائه وإيذائه، وإنما يجب عليه أن يتخذه عدوا بأن لا يغفل عن عداوته له ولا يأمن وسوسته وإغوائه وإيذائه كما قال تعالى :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ﴾ ( فاطر ٦ ) وقيل إن الخطاب لهما بالذات ولذريتهما بالتبع وفيه خطاب المعدوم، وقيل هو خطاب لهما فقط بدليل قوله في سورة طه ﴿ قال اهبطا منها ﴾ ( طه ١٢٣ ) إلخ. وفي هذه التثنية قولان للمفسرين : أحدهما أنها لآدم وحواء، والثاني أنها لآدم وإبليس وحواء تبع لآدم، وهذا أقوى لأنه جعل بعض المخاطبين عدوا لبعض وإنما العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين المرء وزوجه التي خلقت ليسكن إليها وتكون بينهما المودة والرحمة. فعجبا لمن غفل عن هذا. ويحتمل أن تكون التثنية للفريقين فريقي الإنسان والشيطان، والمتبادر أن هذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية، وتأويل لكونها ظلما منهما لأنفسهما، وهو من نوع العقاب الذي قضت سنته تعالى في طبيعة الخلق أن يكون أثرا طبيعيا للعمل السيئ مترتبا عليه ترتب المسبب على السبب، وأما النوع الآخر من العقاب عليه من حيث هو عصيان للرب تعالى الذي يكون في الآخرة فقد غفره تعالى لهما بالتوبة التي ذهبت بأثره من النفس، وجعلتها محلا لاصطفائه تعالى كما قال في سورة طه ﴿ وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ﴾ ( طه ١٢١- ١٢٢ ).
﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين ﴾ أي ولكم في الأرض استقرار أو مكان تستقرون فيه ومتاع تنتفعون به في معيشتكم إلى حين، أي زمن مقدر في علم الله تعالى وهو الأجل الذي تنتهي فيه أعماركم وتقوم به قيامتكم. والمستقر يطلق مصدرا بمعنى الاستقرار، واسم مكان منه. والمتاع ما ينتفع به، وهذا المستقر والمتاع هنا بمعنى قوله تعالى في أول هذا السياق ﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ فهو تعالى يذكرنا فيما خاطب به آخرنا على لسان آخر رسله وخاتمتهم صلى الله عليه و سلم بما قاله لأولنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.

هذه الآية تتمة السياق الوارد في النشأة الأولى للبشر وشياطين الجن أنزلت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم، وإرشادهم إلى ما تكمل به فطرتهم، كما بيناه في بحث التناسب بين الآيات السابقة.
ثم بين تعالى هذا القول المجمل بما هو جدير أن يفكر فيه ويسأل عنه فاستأنفه كسابقه وهو ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون ﴾ أي في هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم ولمجموع نوعكم أو نوعيكم، على أن إبليس داخل في الخطاب. وفيه دليل على أنه لا يبقى إلى يوم البعث. وفيها تموتون عند انتهائه ومنها تخرجون بعد موت الجميع، وعندما يريد الخالق أن يبعثكم يوم القيامة للنشأة الآخرة، كما قال في سورة طه ﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ﴾ ( طه ٥٥ ) وهي تشبه النشأة الأولى إذ قال ﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ ( الأعراف ٢٩ ) وقال مذكرا بها ﴿ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ﴾ ( الواقعة ٦٠- ٦٢ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مغزى القصة والعبرة فيها
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.

﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ٢٦ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون٢٧ ﴾
بعد أن قص الله تعالى على بني آدم قصة نشأتهم الأولى وما خلقوا مستعدين له من السعادة ونعيم الجنة، وما يصدهم عن ذلك من وسوسة الشيطان وإغوائه رتب عليها هذه النصائح الهادية لهم إلى أقوم طرق تربيتهم لأنفسهم كما قلنا في بيان تناسب الآيات في أول ذلك السياق فقال :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ الريش لباس الحاجة والزينة مستعار من ريش الطائر وليس من أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها وبهجة مناظرها وتعدد ألوانها فهي جامعة لجميع المنافع، والزينة ومنها ما هو أجمل من جميع ما في الطبيعة وقرأ أبو زيد عن المفضل ( ورياشا ) وهو مروي عن زر بن حبيش والحسن البصري، وفيه حديث مرفوع قال ابن جرير في إسناده نظر. قيل الرياش جمع ريش، فهو كشعب وشعاب وذئب وذئاب، وقال الجوهري الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس، وهو اللباس الفاخر. وقال ابن السكيت الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال. وقال ابن جرير. ويحتمل أن يكون أراد به مصدرا من قول القائل راشه الله يريشه رياشا وريشا كما يقال لبسه يلبسه لباسا ( بكسر اللام ) ( ثم قال ) والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار، والريش إنما هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال، يقولون أعطاه سرجا بريشه أي بكسوته وجهازه. ويقولون إنه لحسن ريش الثياب. وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش. ثم نقل عن بعض مفسري السلف ما يؤيد هذه الأقوال فعن ابن عباس ومجاهد والسدي وعروة بن الزبير أن الريش المال، وعن آخرين أنه المعاش أو الجمال والمختار عندنا من هذه الأقوال أنه لباس الحاجة والزينة معا بدليل اقترانه بلباس الستر الذي يواري العورات ولباس التقوى.
خاطب الله تعالى بني آدم في هذه الآية وأمثالها بالنداء الذي يخاطب به البعيد لما كان عليه عربهم وعجمهم عند نزول هذه السورة في مكة من البعد عن الفطرة السليمة، والشرعة القويمة، تنبيها للأذهان، بما يقرع الآذان، فامتن عليهم بعد أن أنبأهم بما كان من عري سلفهم الأول بما أنعم به عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وأنواعه من الأدنى الذي يستر السوأة عن أعين الناس إلى أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير في وقاية البدن من الحر والبرد بستر جميع البدن وما في ذلك من أنواع الزينة والجمال اللائقة بجميع ذكران البشر وإناثهم على اختلاف أسنانهم وأحوالهم. فهو يقول : يا بني آدم، إنا بما لنا من القدرة والنعمة والرحمة قد أنزلنا عليكم من علو سمائنا ؟ بتدبيرنا لأموركم من فوق عرشنا لباسا يواري سوآتكم وهو أدنى اللباس وأقله الذي يعد فاقده ذليلا مهينا وريشا تتزينون به في مساجدكم ومجالسكم ومجامعكم وهو أعلاه وأكمله، وبينهما لباس الحاجة وهو ما يقي الحر والبرد. والامتنان به يؤخذ من الامتنان بما فوقه بطريق المفهوم من الأسلوب أو هو داخل فيه بطريق المنطوق على ما اخترنا آنفا.
والمراد بإنزال ما ذكر أن الله تعالى خلق لبني آدم مادته من القطن والصوف والوبر وريش الطير والحرير وغيرها وعلمهم بما خلق لهم من الغرائز والقوى والأعضاء وسائل صنع اللباس منها كالزراعة والغزل والنسج والخياطة.
وإن مننه تعالى بهذه الصناعات على أهل هذا العصر أضعاف مننه على المتقدمين من شعوب بني آدم، فيجب أن يكون شكرهم له أعظم فقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أن عاهل ألمانية الأخير ( قيصرها ) دخل مرة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض أكباش الغنم، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه وأراد الخروج قدموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة، وأخبروه أنه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله، فهم قد نظفوه في الآلات المنظفة فغزلوه بآلات الغزل فنسجوه بآلات النسج ففصلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور.
وامتنانه تعالى على بني آدم بلباس الزينة يدل على استحبابها ولا يعارضه قوله تعالى في أوائل سورة الكهف ﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ ( الكهف ٨ ) وإن فسر الحسن البصري إحسان العمل بترك الدنيا وسفيان الثوري بالزهد فيها. ذلك بأن دين الإسلام هو دين الفطرة فليس فيه ما يخالف مقتضاها ويناقض غرائزها، بل هو مهذب ومكمل لها. وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة وأنواع نعمه على عباده كما سنفصله في تفسير ﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ ( الأعراف ٣٢ ) في هذا السياق وتحقيق معنى كونها ابتلاء إن الله تعالى يختبر بها طالبها ما يقصد منها ؟ وواجدها أيشكر المنعم عليه بها إذا استعملها، ويقف عند الحد المشروع فيها، وماذا يقصد وينوي بترك ما يتركه منها. وفاقدها أيصبر على فقدها أم يكون ساخطا على ربه وحاسدا لأهلها ؟
وأما قوله تعالى ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْر ﴾ فجمهور مفسري السلف على أنه اللباس المعنوي المجازي. فعن ابن زيد أنه عين التقوى أي اللباس الذي هو التقوى وذكر من معناه ما يناسب المقام قال : يتقي الله فيواري عورته. وعن زيد ابن علي تفسيره بالإسلام. وعن ابن عباس أنه الإيمان والعمل الصالح، قال الإيمان والعمل خير من الريش واللباس. وعن الجهني أنه الحياء. وفي رواية عن ابن عباس أنه السمت الحسن في الوجه. ومراده ما يدل على ما عليه النفس من طيب السريرة وبذلك يكون بمعنى ما سبقه. ورووا من الحديث المرفوع ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : رأيت عثمان على المنبر قال : أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " والذي نفس محمد بيده ما عمل أحد قط عملا سرا إلا ألبسه الله رداءه علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر " ثم تلا هذه الآية. وفيه إنه قال ورياشا ولم يقل وريشا. وفسره عكرمة وعطاء بما يلبس المتقون يوم القيامة قالا : هو خير مما يلبس أهل الدنيا ومعناه أن اللباس الذي يكون في الآخرة جزاء على التقوى، ذلك خير من لباس أهل الدنيا.
هذه أقوالهم ملخصة من الدر المنثور وجعله بعضهم من اللباس الحسي الحقيقي. ففي بعض كتب المفسرين عن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام أنه لباس الحرب : الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها العدو. واختاره أبو مسلم الأصفهاني. وهو مأخوذ من قوله تعالى في سورة النحل ﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ﴾ ( النحل ٨١ ) وقوله تعالى في داود من سورة الأنبياء عليهم السلام ﴿ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ﴾ ( الأنبياء ٧٩ ) ولا مانع عندنا من استعمال التقوى هنا فيما يعم هذا وذاك. أي تقوى الله بالإيمان والعمل وتقوى فتك العدو بلبس الدرع والمغفر ونحوهما. على ما قررناه من قبل في مثل هذه المعاني التي لا تتعارض مدلولاتها في الاشتراك وفي الحقيقة والمجاز. والأمر أوسع فيما يسمونه عموم المجاز. وأضعف الأقوال في لباس التقوى أنه لباس النسك والتواضع كدروع الصوف ومرقعاته التي ابتدعها بعض العباد والمتصوفة. وإنما هي شر لا خير لأنها لباس شهوة وشهرة مذمومة، وكذا القول بأنه الحسن من الثياب فإن هذا هو الريش.
﴿ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون ﴾ أي ذلك الذي ذكر من نعم الله بإنزال أنواع الملابس الصورية والمعنوية من آيات الله تعالى ودلائل إحسانه إلى بني آدم وكثرة نعمه عليهم. التي من شأنها أن تدعهم وتؤهلهم لتذكر فضله ومننه والقيام بما يجب عليهم من شكرها. واتقاء فتنة الشيطان لهم بإبداء العورات تارة وبالإسراف في الزينة تارة أخرى. وسيأتي ما ذكر مفسرو السلف في هذا السياق من طوائف المشركين بالبيت الحرام عراة وما لهم من الشبهة في ذلك.
ومن مباحث اللفظ أن اسم الإشارة في قوله تعالى :﴿ ولباس التقوى ذلك خير ﴾ استعمل مكان الضمير في الربط. وجعل جملة ﴿ ذلك خير ﴾ خبرا لقوله ﴿ ولباس التقوى ﴾ يدل على تأكيد مضمونها بتكرار الإسناد. وذهب بعضهم إلى جعل " ذلك " صفة لباس ومنهم الزجاج وجعله بعضهم بدلا أو بيانا له.
سورة الأعراف
( وهي السورة السابعة في العدد وسادسة السبع الطول وآياتها ٢٠٥ آيات عند القراء البصريين والشاميين و ٢٠٦ عند المدنيين والكوفيين )
الأعراف مكية بالإجماع وقد أطلق القول في ذلك عن ابن عباس وابن الزبير واستثنى قتادة آية ﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ ( الأعراف ١٦٣ ) رواه عنه أبو الشيخ وابن حبان. قال السيوطي في الإتقان : وقال غيره : من هنا إلى ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ﴾ ( الأعراف ١٧٢ ) مدني اه وكأن قائل هذا رأى أن هذه الآيات متصل بعضها بعض بالمعنى فلا يصح أن يكون بعضها مكيا وبعضها مدنيا، وبهذا النظر نقول : إن ما قبل هذه الآيات وما بعدها في سياق واحد وهو قصة بني إسرائيل على أن الغاية وهي :﴿ وإذ أخذ ربك ﴾ غير داخلة في المغيا فهي بدء سياق جديد عام. ومقتضى ذلك أن السورة كلها مكية وهو الصحيح المختار.
مناسبتها لما قبلها
سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام فلو كان ترتيب السبع الطول مراعى فيه تقديم الأطول فالأطول مطلقا لقدمت الأعراف على الأنعام على أنه قد روي أنها نزلت قبلها، والظاهر أنها نزلت دفعة واحدة مثلها. فلم يبق وجه لتقديم الأنعام إلا أنها أجمع لما تشترك السورتان فيه، وهو أصول العقائد وكليات الدين التي أجملنا جل أصولها في خاتمة تفسيرها، وكون ما أطيل به في الأعراف كالشرح لما أوجز به فيها أو التفصيل بعد الإجمال، ولاسيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم، وقد بينا بعض هذا التناسب بين السورتين مع ما قبلها في فاتحة تفسير الأولى ( ج ٧ تفسير ) وسنزيده تفصيلا فيما نذكره في خاتمة الأعراف على نحو ما ذكرنا في خاتمة الأنعام من الأصول الكلية فيها إن أحيانا الله تعالى. وأما سبب تأخر نزول الأنعام فهو مبني على ما علم من التدريج في تلقين الدين ومراعاة استعداد المخاطبين فيه وهي أجمع للأصول الكلية ولرد شبهات المشركين، والفرق ظاهر بين ما يراعى من الترتيب في دعوتهم وما يراعى في تلاوة المؤمنين للقرآن.
وذكر السيوطي في المناسبة بين السورتين ما نقله الآلوسي عنه وهو أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها ﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ ( الأنعام ٢ ) وقال سبحانه في بيان القرون ﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ ( الأنعام ٦ ) وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ ( الأنعام ١٦٥ ) ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله خليفة في الأرض وقال سبحانه في قصة عاد ﴿ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ ( الأعراف ٦٩ ) وفي قصة ثمود ﴿ جعلكم خلفاء من بعد عاد ﴾ ( الأعراف ٧٤ ) وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ ( الأنعام ٥٤ ) وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ﴾ ( الأعراف ١٥٦ ).
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه تقدم ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ﴾ ( الأنعام ١٥٣- ١٥٥ ) وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ﴿ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ ( الأنعام ١٥٩ ) ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) قال جل شأنه في مفتتح هذه السورة ﴿ فلنسألن الذين أرسل إليه ﴾ ( الأعراف ٦ ) وذلك من شرح التنبئة المذكورة وأيضا لما قال سبحانه :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ ( الأنعام ١٦٠ ) الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ ( الأعراف٨ ) ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته. ثم من خفت وهو على العكس. ثم أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاتهم اه. ونكتفي بهذا مع ما أشرنا إليه قبله هنا وإن كان من السهل بسطه بأوضح من هذه العبارة والزيادة عليه، ونشرع في تفسير السورة مستعينين عليه بإلهامه وتفهيمه عز وجل.
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة ﴾ يقال في هذا النداء ما قيل فيما قبله، وتكرار النداء في مقام الوعظ والتذكير، من أقوى أساليب التنبيه والتأثير، يعرف ذلك الإنسان من نفسه، ويشعر به في قلبه. ونظيره في التنزيل قصة الجن من سورة الأحقاف إذ جاء فيها الوعظ والإنذار بتكرار النداء يا قومنا.. يا قومنا.. ووعظ مؤمن آل فرعون في سورة غافر :.. يا قوم... وقد فاتنا أن نذكر في تفسير النداء في الآية الأولى أن الذي يفهم من أساليب العربية في نسبة الإنسان إلى أحد أجداده أنه خاص بالجد الذي صار رئيس القبيلة أو العشيرة الكبيرة التي انحصر نسبها فيه، كقريش وعبد القادر الجيلاني وعثمان مؤسس السلطنة العثمانية ومحمد علي الكبير مؤسس دولة مصر الجديدة. أو الذي له صفة ممتازة يقتضي المقام تذكير من ينسب إليه بها لمشاركته له فيها أو للتعريض بتجرده منها مثلا، كأن تقول لبعض أحفاد الخديوي توفيق يا ابن إسماعيل أو هذا ابن إسماعيل في مقام السخاء وسعة العطاء إثباتا أو نفيا. ولو قلت له في هذا المقام يا ابن توفيق كان خطأ فإن توفيقا لم يشتهر بصفة السخاء وكثرة الهبات. وتسمية الناس أبناء آدم من النوع الأول. وفي كل منهما تدل القرينة على أن المنسوب إليه أحد الأجداد وليس هو الأب. فمن استدل بالنداء في هذه الآيات على أن أولاد الأولاد يدخلون في الوقف على الأولاد بدلالة اللغة فقد أخطأ.
والفتنة الابتلاء والاختبار وأصله من قولهم فتن الصائغ الذهب والفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار. وحجر الصائغ الذي يختبرهما به يسمى الفتانة. والفتنة تكون بالمحن والشدائد غالبا. وقد تكون بالاستمالة بالشهوات فإن الصبر عن الشهوات قد يكون أعسر من الصبر على الشدائد.
ومعنى لا يفتننكم الشيطان لا تغفلوا عن أنفسكم ووسوسته لكم فتمكنوه بذلك من خداعكم بها وإيقاعكم في المعاصي كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزين لهما معصية ربهما، ففتنا حتى عصياه بالأكل من الشجرة التي نهاهما عنها، فكان ذلك �