تفسير سورة الأعراف

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

وسر الله في القرآن أوائل السور، ولا يقال كيف يخاطب الله بما لا يفهم إذ له أن يكلفهم بما لا يعقل جزما كرمي الحجارة في الحج وعدد ركعات الصلاة وغيرها، لأن الحكمة المرادة منها لا تعرف يقينا، أما قولهم هي مواقع الشيطان الذي كلم إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام فيها يوم أراد ذبحه فهو أمر ظاهري ليس الا، وهذا من كمال الانقياد لقدرته وقدمنا بعض ما فيها أوائل سورتي ق ون المارتين وفي المقدمة في بحث الفرق بين الوحي الإلهام، وسنلمع في كل منها ما نقف عليه من معانيها في محله كما فعلنا في سورة ص المارة. واعلم أن جميع ما جاء من حروف الهجاء في أوائل السور أحد عشر حرفا مهملا وهي: ال م ص ط س ح ر ك هـ ع وثلاثة معجمة وهي: الياء والقاف والنون، وهي هنا اسم للسورة وفواتح أسماء الله الحسنى أنا الله المعبود الصبور المصور اللطيف المجيد الذي يفصل بين الخلق ويعلم ما هم عليه وما هم صائرون إليه وسر من أسراره الدائرة بينه وبين حبيبه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «المص ١» قال أهل المعرفة ما من سورة ابتدئت بالم إلا وتشتمل على ثلاثة أمور: ١- الخلق وكيفيته وهو البداية، ٢- والمعاد وما فيه وهو النهاية، ٣- والوسط وما يتعلق به وهو المعاش وفيه اشارة إلى مخارج الحروف الثلاثة، الحلق واللسان والشفتين، وزيد في هذه السورة حرف الصاد إعلاما بما فيها من قصص الأنبياء وغيرهم هذا «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ» ضيق وضجر «مِنْهُ» بسبب إبلاغه وتأدية ما أرسلت به منه إلى قومك ولا تنقبض من شكهم فيه وبإنزاله عليك وتكذيبهم لك وجحدهم نبوتك «لِتُنْذِرَ» متعلق بأنزل «به» أي الكتاب قومك وغيرهم من أهل الأرض «وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢» به المصدقين بك وبربك، وإنذار للمكذبين المنكرين فقل يا أيها الناس «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم «وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» كرؤوس الكفرة والشياطين الذين يدعونكم إلى الشرك بالله ويريدونكم على عبادة الأوثان والأهواء الفاسدة المبتدعة «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ٣» بعظة الله
328
ورسوله وكتابه، وما هنا لتأكيد القلة، أي أن اتعاظكم به قليل جدا ولهذا لم تنتفعوا به، ثم حذرهم من عدم التذكر ومن الإصرار على الشرك وإنكار التوحيد بقوله عز قوله «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» لعدم اتعاظها «فَجاءَها بَأْسُنا» عذابنا الذي لا يرد بحكمنا الذي لا يعقب قبل أن يصبحوا بدلالة قوله «بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ٤» ضحوة النهار لأنه أيضا وقت غفلة لا يتوقع فيه شيء بخلاف الصباح، فإن الغارات تقع فيه غالبا، وقد أهلك الله قوم لوط سحرا وقال:
(فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية ١٧٧ من الصافات في ج ٢، وأهلك قوم شعيب ضحى، ونزول العذاب وقت الغفلة أشد وقعا في النفس من غيره وأفظع هولا، وفي هذه الآية تخويف لقريش وتنبية بعدم اغترارهم بما هم فيه من الحذر، لأن الله إذا أراد إنزال عذابه بهم أنزله عليهم دفعة واحدة حال غفلتهم، كما فعل بغيرهم وهؤلاء المعذبون حينما يقع بهم العذاب «فَما كانَ دَعْواهُمْ» احتجاجهم وتضرعهم ودعاؤهم «إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا» واتصل بهم عذابنا «إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ٥» أنفسنا لعدم امتثالنا أمر رسلنا، وإصرارنا على مخالفتهم، وانكبابنا على الشرك، وبعد اعتراف هؤلاء باستحقاقهم العذاب «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» يوم القيامة بالموقف العظيم على ملأ الأشهاد وليبينوا ما أجابوا به رسلنا حين دعوهم للإيمان بنا وحدنا «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦» أيضا في ذلك المشهد هل بلغوا رسالتنا كما أمرناهم أم لا، وهذا السؤال من الله عز وجل بمثابة الجواب للقائلين (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) الآية ١٨ من المائدة في ج ٣ وفي معناها كثير في القرآن، مع أن الله تعالى لم يترك أمة بلا رسول، راجع الآية ٢٤ من فاطر الآتية، وهو أعلم بما يقولون لأجل الاستشهاد على إنكارهم وتوبيخهم وتقريعهم على رءوس الأشهاد، قال تعالى «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ» ما وقع منهم كله «بِعِلْمٍ» ويقين ليتحققوا أنا كنا حاضرين عملهم «وَما كُنَّا غائِبِينَ ٧» عنهم حينما بلغهم الرسل أو أمرنا راجع تفسير الآية ٣٠ من آل عمران في ج ٣، وفائدة هذا القصص إخزاء المنكرين عند ما يظهر كذبهم بالموقف بشهادة رسلهم عليهم، لا لأجل الاستثبات
329
من إيقاع أفعالهم لأن الله عالم بها قبل وقوعها منهم وعالم بما في الكون كليّه وجزئيه وعلمه تعالى بظاهر الأمور كعلمه يبواطنها، راجع الآية ٣ من سورة سبأ في ج ٢، قال تعالى «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ» يوم السؤال هو «الْحَقُّ» العدل الكائن لا محالة.
مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة:
واختلف في وصف الميزان وكيفية الوزن، والإيمان بهما على ظاهرهما واجب، وأصح ما قيل فيهما أن الميزان له لسان وكفتان عظيم الحجم، والوزن هو صحائف الأعمال، بدليل ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
ان الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له أتنكر شيئا من هذا؟
أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب، فيقول ألك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول تبارك وتعالى: بل إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له انه لا ظلم عليك اليوم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسمه شيء. أخرجه الترمذي واحمد بن حنبل. إن هذا يثبت ما قلناه في الميزان والحكمة من إظهار العدل للناس وتعريفهم ما لهم وعليهم، وعلامة السعادة والشقاوة، وبيان أنّ الله لا يظلم عباده، وانه امتحنهم بالإيمان في الدنيا وأقام عليهم الحجة في العقبى وليتيقنوا استحقاقهم العذاب وان الله لم يحف عليهم راجع الآية ٢٦ من ص المارة، قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» بحسناته وطاشت سيئاته «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨» الفائزون بثواب الله الناجحون في ذلك اليوم «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» بسيئاته وطاشت حسناته «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» فيه وعوقبوا بحرمانهم من ثواب الله وكرامته «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ٩» أنفسهم في الدنيا بجحدهم آياتنا وتكذيبهم رسلنا،
330
قال تعالى «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ» أيها الناس «فِي الْأَرْضِ» وأقدرناكم على التصرف فيها وملكناكم إياها «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» من كل ما تحتاجون في حياتكم من مشرب ومطعم وملبس ومسكن وغيره، ومع هذا أراكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ١٠» صنيعي فيكم وانعامي عليكم حق شكره، وذلك أن الآية تفيد أنهم يشكرون نوعا أي قليلا جدا بالنسبة لعظم أفضال الله عليهم وان حق الشكر تصور النعمة دائما وإظهارها والثناء على المنعم، وضده الكفر وهو نسيان النعم وكتمها وكان غاية شكرهم ذكرهم النعمة عند حضورها فقط وهذا لا يخلو منه إنسان
«وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ» أيها الناس من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ» في الأرحام على صورة أبيكم الذي صورناه على الأرض «ثُمَّ» أعلمناكم على لسان رسولنا بأنا «قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» عند تمام خلقه «اسْجُدُوا لِآدَمَ» «هذا الذي خلقته بيدي» «فَسَجَدُوا» له كلهم إذعانا لأمرنا «إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ١١» له استكبارا عليه وأنفة منه ومخالفة لنا «قالَ» تعالى يا إبليس «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» مع الملائكة ومن قال لك لا تسجد! ولا هنا ليست بزائدة لعدم جواز وجود زائد في القرآن ولا يقال إنها لا معنى لها لأن كل حرف في كتاب الله له معنى وهنا جيء بها للتأكيد أي أي شيء منعك أن تسجد، يؤيد هذا الآية في سورة ص، وهي ما منعك أن تسجد بدون لا، وقد سبق أن ذكرنا ما يتعلق بمثلها أول سورة القيمة وسورة البلد المارتين فراجعهما وسنأتي على تفنيد الاستناد الى الآيات المحتج بها على قولهم بأن لا فيها زائدة عند تفسيرها بحالها إن شاء الله «إِذْ أَمَرْتُكَ» بالسجود الأمر هنا للوجوب والسؤال للتوبيخ ولإظهار عناده وكفره وافتخاره بأصله وبيان حسده لآدم وتحقير أصله المبين بقوله «قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ١٢» حجة قاصرة تقدم تفنيدها في الآية ٧٦ من ص المارة إذ من المعلوم ان جوهر الطين الرزانة والهناءة والصبر والحلم والحياء والتثبت والمودة، وهذا ما دعا آدم وذريته إلى التوبة والندم والاستغفار، وجوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب والعجلة.
331
مطلب مقاييس إبليس:
وهذا ما حمل إبليس على العناد والاستكبار والافتخار، والطين عدة المسالك ومظنة الأمانة والإنماء، والنار عدة المهالك وخطة الخيانة والإفناء، والطين يطفىء النار ويتلفها وهي تصلحه وتقويه، فقد غفل اللعين عن هذه الفضائل وزل بفاسد المقاييس فأخطأ وهو أول من قاس فأخطأ، قال ابن سيرين ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، على ان الأفضلية ليست بفضيلة الأصول والجوهر بل لمن يجعله الله فضلا، لأن المؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي، وان آدم اختصه الله فجعله صفيه وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء الأشياء كلها وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، والاستثناء في هذه الآية منقطع لأن إبليس ليس من جنس الملائكة وانما استثناه منهم لأمره بالسجود معهم ولما لم يسجد أخبر الله عنه انه لم يكن من الساجدين لا انه من الملائكة وقد ثبت انه من الجان.
قال تعالى: (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٠ من الكهف في ج ٢ وانه خلق من النار والملائكة من النور. قال تعالى «فَاهْبِطْ» أيها اللعين المتخلف عن أمرنا «مِنْها» أي الجنة «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها» وتتجبر لأنها لم تخلق للمتكبرين ولا ينبغي أن يسكنها متجبر «فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ١٣» الأذلاء المهانين المحقّرين لعدم امتثالك أمري. وان التعظيم في الأصل لله لا لآدم.
قال ظافر الاسكندري:
أنت المراد بنظم كل قصيدة بنيت على الأفهام في تبجيله
كسجود أملاك السماء لآدم وسجودهم لله في تأويله
فأخرج وطرد حالا ولما علم أن سقط في يده «قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ١٥» تقدم تفسيرها في الآية ٧٤ فما بعدها من سورة ص المارة والذي جرأ الملعون على هذا السؤال علمه بحلم ذي الجلال وانما أجاب جل جلاله سؤاله بالامهال ليعلم خلقه برّه وإحسانه إلى من يسيء إليه فكيف اذن عطفه ولطفه بالمؤمنين المحسنين، ولما لم يرق له هذا الإمهال للسبب المتقدم هناك أيضا
332
«قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ١٦» أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام القويم كما يعترض قطاع الطريق وكما يكمن العدوّ لعدوه وأردنّهم عن طاعتك وأزيننّ لهم عصيانك «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» فأوقع الشك في قلوبهم بأمر الآخرة «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» فأرغبنّهم في الدنيا وإنما كانت خلفهم لأنهم تاركوها لا محالة وبما أنهم قادمون للآخرة حتما فتكون بين أيديهم أي أمامهم «وَعَنْ أَيْمانِهِمْ» أشبه عليهم أمر دينهم لإبطال حسناتهم التي يكتبها ملك اليمين «وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» أشهى لهم المعاصي لتزداد خطاياهم التي يدونها عليهم ملك الشمال، ذكر الخبيث الجهات الأربع لتأكيد إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم من كل الجهات والوجوه الممكنة، ومن تتمة كلام هذا الغضيب ما حكاه الله عنه «وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ١٧» قال هذا القول على سبيل الظن ولكنه أصاب، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية ٢٠ من سبأ في ج ٢ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة:
أخرج النسائي عن سيرة ابن ابي الفاكهة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد له في طريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال:
تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (أي محجر عليه) فعصاه وهاجر، وقعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد. قال: فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان عليه أن يدخله الجنة، أو وقصته (رفسته) دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة. قال شقيق البلخي ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الآية ١٨ من سورة طه الآتية، وأما من خلفي فيخوفني وقوع أولادي
333
في الفقر فأقرأ: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الآية ٦ من هود في ج ٢ وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ: (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) الآية ١٣٢ من طه الآتية، وأما من قبل الشمال فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) الآية ٥٤ من سبأ في ج ٢. وذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة مناظرة إبليس والملائكة وهي مذكورة في التوراة أيضا (قال للملائكة إني أسلّم أن لي إلها خالقا وموجدا لي وللخلق أجمع، ولكن ١- ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار.
٢- ما الفائدة في التكليف مع أنه لا نفع له به ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف.
٣- هب أنه كلّفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلّفني بالسجود لآدم مع علمه أني أمتنع.
٤- لما عصيته فلم لعنني وأوجب عقابي مع عدم الفائدة له ولغيره ولي فيه الضرر العظيم.
٥- إنه لما فعل ذلك لم سلطني ومكنني من إغواء الخلق.
٦- لما استمهلته لم أمهلني ويعلم أن العالم إذا كان خاليا من الشر فهو أحسن؟
قال شارح الأناجيل فأوحى الله من سرادق عظمته وكبريائه يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أن لا اعتراض عليّ في شيء، فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل. هذا، وان هذه الشبهات ليصعب على القائلين بالحسن والقبيح العقليين الجواب عنها. قال الإمام: لو اجتمع الأولون والآخرون وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، ولهذا تجد أكثر أهل الزيف يسألون أسئلة من هذا القبيل اقتداء بسيدهم إبليس، ولو عرفوا أنه تعالى علاه لا يسأل لما سألوا. ويحكى أن سيف الدولة قال لجماعته علمت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا، فقال أبو فراس ما هو؟ قال:
لك جسمي تعلّه... فدمي لم تطلّه
فابتدره أبو فراس قائلا:
أنا إن كنت مالكا... فلي الأمر كله
رحم الله الاثنين. وعليه فمن عرف أن الأمر كله لله وعرف أن الله لا يسأل عما
334
يفعل ولا يرد ما حكم عرف أن الخير برضاه والشر بقضاه واعتقد هو أن ما وقع مراد الله. واعلم أن قصة إبليس المذكورة بوضوح آخر سورة ص المارة كررت في القرآن كثيرا وذلك لأن اعجاز القرآن بالتحدي والبلاغة، فتجيء مرة موجزة وأخرى مطنبة وكل منها يؤدي المعنى المطلوب منها والغرض المقصود في الفصاحة ليعلم أن القرآن ليس كلام البشر وأنه خارج عن قدرتهم الإتيان بمثله، لأن الألفاظ لا يقدر أن يستعملها أحد مختصرة ومطنبة مع المحافظة على بلاغتها وأدائها تمام الغرض المقصود إلا الذي خلقها وأن حضرة الرسول كان يضيق صدره من جفاء قومه المرة بعد المرة فيكرر الله تعالى عليه ما لاقى الرسل إخوانه من أقوامهم وما لاقاه آدم من إبليس ليخفف عنه بعض مابه، وان المسلمين أيضا كان يحصل لهم الأذى من الكفرة، فينزل الله تعالى ما لاقى إخوانهم أنصار الأنبياء السابقين، فيهون عليهم بعض ما هم فيه، ولأن القصة الواحدة تشتمل على أمور كثيرة فقد كر تارة ويقصد بها بعض الأمور قصدا، وبعضها تبعا وتعكس مرة أخرى، فتكرر عند كل مناسبة وكل منها تفي بالمقصود الموجزة والمطنبة. وهذا من الإعجاز الذي يكل عنه طوق البشر وقد بينا في سورة الكافرين المارة ما يتعلق بهذا فراجعه وله صلة في كل قصة تكرر في السورة الآتية. ونذكر أيضا ما يلائم المقام من الأحاديث والحكايات كما هنا «قالَ» تعالى علمه لإبليس «اخْرُجْ مِنْها» لأنك لم تقدرها حق قدرها، ولم تقدر الإله العظيم الذي أسكنك فيها لأنك خلقت مذموما «مَذْؤُماً» الذأم أشد العيب وأقبحه وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن «مَدْحُوراً» مطرودا مبعدا من رحمة الله ثم أقسم جل قسمه فقال: وعزتي وجلالي «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» أي من ذرية آدم وجواب القسم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ» أنت وذريتك ومن تبعكم من بني آدم، وفي هذه الآية تغليب ضمير المخاطب على الغائب «أَجْمَعِينَ ١٨» تأكيد لضمير منكم ثم التفت جل شأنه فقال: «وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» واتخذها مسكنا ومثوى لكما. والفعل على إضمار قلنا وجئن بضمير أنت لصحة العطف إذ لا يجوز العطف على المستتر «فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما» مما فيها. جاء هنا فعل كلا مقرونا
335
بالفاء لإفادتها الجمع على سبيل التعقيب. ولم يأت بالواو لإفادتها مطلق الجمع، والمفهوم في الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافات بين النوع والجنس المفهوم من الواو، فذكر في هذه السورة النوع وسيذكر في البقرة في ج ٣ في الآية ٣٥ الجنس تأمل «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» ولا تدنوا منها أي لا تأكلوا.
فقد نهاهما عن جنس الشجرة، ولم يعينها لهما، فليس لنا أن نعينها، إذ لا طائل تحتها، لأن القصد امتثال الأمر بكف المأمور عما نهي عنه، لذلك حصل الاختلاف في نوعها، فمن قائل أنها الحنطة، ومن قائل أنها التين أو التفاح، والله أعلم بمراده فيها «فَتَكُونا» إذا أكلتما منها «مِنَ الظَّالِمِينَ ١٩» أنفسهم وتكونا قد فعلتما فعلا مخالفا لأمري مما هو خلاف الأولى والأفضل ولا شك أن هذا كان قبل النبوة وسيأتي أيضا ج هذه القضية في الآية ١١٥ من طه الآتية «فَوَسْوَسَ لَهُمَا» له ولزوجته حواء «الشَّيْطانُ» بحديث مكرر مهموس ومطلي مزخرف ألقاه في قلبهما بقوة من الله تعالى يقذفها في قلب الموسوس له مثل الهواجس والخواطر التي تقضي إلى ما يقضي عنه في بني آدم، يؤيد هذا ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) وهو محمول عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وهذا أحسن ما قيل في معنى إيصال الوسوسة من إبليس لآدم، مع إنه هبط إلى الأرض وآدم في الجنة، وما قيل إنه دخل جوف الجنة فأدخلته وقال لهما ما قال مما ذكره القصاص والأخباريون، فلا قيمة له. كما أن ما قيل إنه قام على بابها فكلمهما أو تمثل لهما بصورة دابة أو أرسل أتباعه إليهما وأتاهما بصورة طاووس من الجنة فكلمها أقاويل مجردة عن الدليل، وكذلك ما قيل إنه منع من دخول الجنة على جهة التقريب والتكريم لا على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وزوجته لا عبرة به أيضا وإنما تحرش بهما «لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما» ليكشف ما غطى وستر «مِنْ سَوْآتِهِما» سمي الفرج سوأة لاستياء الإنسان بظهوره.
336
مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم:
الحكم الشرعي في كشف العورة حرام وهي جميع بدن الحرة عدا وجهها وكفيها وباطن قدميها، ومن الرجل والأمة، ما فوق الركبة وتحت السرة والظهر والبطن من الأمة وبدوّها من كل يبطل الصلاة، هذا، وانهما لم يصغيا اولا لوسوسته إلا أنه لما حلف لهما أن هذه الشجرة ليست التي نهيتما عنها «وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ» من الملائكة المقربين خاليين من كل عناء «أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ٢٠» الذين لا يموتون، أي أن علة النهي وسببه عدم جعلكما من الملائكة وعدم خلودكما في الجنة لأن في الأكل طلب الخلد قال في سورة طه (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) الآية ١١٢ الآتية، فلهذا ولعلم آدم أن للملائكة منزلة عظمى عند الله وقربا من عرشه وأن الخلد مما يطمع به أيضا فقد حمله الطمع الذي هو من طبيعة البشر على الاستشراف بذلك محبة للعيش مع الملائكة وطول العمر بالتخليد في الجنة
«وَقاسَمَهُما» حلف لهما فوق ذلك فائلا:
«إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ ٢١» فيما ذكرته لكما، وأكد حلفه بأن واللام التأكيدتين ووقع القسم منه على صيغة المفاعلة، لأن إبليس يحلف وآدام وحواء يصدقان فصار كأنه قسم من اثنين فصدقاه لظنهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا.
قال قتادة حلف لهما حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله. ونقل بعض العلماء عن ابن عمر: من خادعنا بالله خدعنا له. وقد استزلهما بذلك كله فمالا إلى قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» على الشجرة المنهي عنها- من الدلالة أو من دلى الدلو في البئر- اي حطهما عن درجة الطاعة وازلهما إلى درك المعصية، وقيل من الدالة وعليه قوله:
أظن الحلم دل علي قومي وقد يستجهل الرجل الحليم
أي ما زال يدلي إليهما بالنصح المزعوم بما تقدم وبقوله أنا اعلم منكما لأنكما حديثا عهد بالحياة وأنا ممن جرب الأمور وغاص عواقبها ولم يزل حتى استمالهما بما زخرفه لهما من القول مظهرا النصح لهما ومبطنا الغش، وهذا هو معنى الغرور، فضلا ت (٢٢)
337
عن أنه وثق أقاويله كلها بالأيمان وهو أول من حلف بالله كاذبا لعنه الله، فانصاعا اليه وأكلا من الشجرة. قال تعالى «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ» أخذا منها يسيرا لمعرفة طعمها «بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حالا فتهافت لباسهما القدسي عنهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا من بعض ما قال قتادة كان لباسهما من جنس الأظفار شبه اللؤلؤ بياضا وعلى غاية من اللطف واللين والنضارة، فتقلص عنهما حتى بقي عند الأظفار تذكيرا للنعمة وتجديدا للندم «وَطَفِقا يَخْصِفانِ» يرقعان ويخيطان «عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» من ورق تينها ومرزها وكرمها وما شاكل ذلك من كبار الورق فيلزقان الواحدة جنب الأخرى ليسترا عورتهما فيه، وفي هذا دليل على قبح كشف العورة في ذلك اليوم «وَناداهُما رَبُّهُما» وبين ما هية هذا النداء بقوله «أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» وأحذركما من قربها لئلا يصيبكما ما أصابكما من هتك ستركما والسّبب لإخراجكما من الجنة دار الراحة وأنزلكما إلى الأرض دار الشقاء والعناء «وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢١» ظاهر العداوة، لأنه لم يسجد لأحدكما حسدا، وهذا عتاب من الله جل جلاله لآدم وزوجته ولم يتشرف بالنبوة بعد، ولو كان لما رغب بمقام الملائكة لأن مقام النبوة أشرف، فما قيل إنه كان نبيا مردود بما سيأتي الآية ٣١ من سورة البقرة في ج ٣، إذ قال بعد الأكل (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) إلخ وقوله جل قوله في طه الآتية بعد الأكل أيضا والتصريح له بالعصيان (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) الآية ١٢٢ كما تراه في تفسيرهما، فلما رأيا ما حلّ بهما من ذوقهما الشجرة وعتاب ربهما لهما «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» بمخالفة أمرك وقد غرّنا الملعون فأوقعنا بما نحن فيه «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ٢٣» رضاك مع خسراننا الجنة الهالكين بمخالفتك. وهذه الكلمات هي التي تلقاها من ربه المشار إليها في الآية من البقرة أعلاه على ما قاله ابن عباس.
وقال ابن مسعود إنها (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). والأول أولى
338
لتكرارها فيما قصه القرآن وعدم ذكر ما قاله ابن مسعود. وفي هذه الآية استدل من يقول بجواز صدور الذّنب من الأنبياء وليس بشيء لأن هذه الحادثة وقعت قبل النبوة كما تقدم وعليه جل المفسرين، ولا يوجد دليل يثبت وقوعها بعد النبوة، كيف وقد قال تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ) في الآية المذكورة آنفا من سورة طه أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك، وفي الآية دليل على أن صغار الذنوب تحتاج إلى طلب المغفرة أو عمل ما يكفرها، خلافا للمعتزلة القائلين بأنها مغفورة عفوا.
قال قتادة: قال آدم يا رب، أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك؟ قال إذن أدخلك الجنة، وأما إبليس فسأل الإنظار بما يدل على أن امتناعه من السجود كان تجبرا، فأعطى الله كلا ما سأل. هذا، ولم يعتذر آدم بإغواء إبليس له، لأنه أقدم على تناول الشجرة مختارا وفيه إيذان بإبطال مذهب الجبرية، تأمل ترشد وراجع الآية ٢٢ من سورة إبراهيم في ج ٢، «قالَ اهْبِطُوا» خطابا لآدم وحواء وإبليس، وكرر له الأمر لعنه الله إشارة إلى عدم انفكاكه عنهما وملازمته لهما في الدنيا أما ما قاله الطبري والسدي من أن الخطاب لهم وللحية فلم أر ما يؤيده وقد سبق تضعيف القول بأن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى تمكن من إغواء آدم وزوجته، ولم يسبق في القرآن ذكر للحية. وقيل إن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن إبليس أهبط إلى الأرض قبلهما، ومن شمل إبليس في هذا الخطاب قال إنه أهبط أولا من الجنة إلى السماء وفي هذا الأمر من السماء إلى الأرض معهما وهو وجيه، ومن لم يشمله قال بأن الجمع هو ما فوق الواحد، وعليه قاعدة المنطقيين استدلالا بقوله تعالى: (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤٥ من سورة النمل الآتية وفيها ما يدلك على غيرها، على أن لغات الأجانب كلها لا تثنية فيها لأنهم يعبرون بالجمع على ما فوق الواحد «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» متعادين في الأرض كما تعاديتم في السماء «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» تمكثون فيها منها «وَمَتاعٌ» تتمتعون به فيها «إِلى حِينٍ ٢٤» انقضاء آجالكم «قالَ فِيها تَحْيَوْنَ» لمدة المقدرة لكم «وَفِيها تَمُوتُونَ» فتدفنون إلى أجل معلوم تبقون في برزخكم
339
«وَمِنْها تُخْرَجُونَ ٢٥» يوم القيامة عند النفخة الثانية «يا بَنِي آدَمَ» اعلموا أنا «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ» جار مجرى التعظيم.
مطلب تواصي الله لخلقه والتزين للصلاة وغيرها:
وكل ما أعطاه الله لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل كما تقول رفعت حاجتي إلى الأمير فليس فيه نقل من سفل إلى علو «لِباساً» لما كان المطر سبب النبات وكان النبات سبب اللباس، لأنه يكون من النبات ومن الحيوان الذي يأكل النبات، جعله نازلا باعتبار ما يؤول إليه «يُوارِي» يستر ويغطي «سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً» تتزينون به من الأثاث والمتاع، تقول العرب تريش الرجل إذا تمول، أي كل ما نحتاجونه في دينكم، إلا أن هناك شيئا هو أعظم نفعا لكم إذا تزينتم به «و» هو «لِباسُ التَّقْوى»
الذي يتحلى به الإنسان بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه «ذلِكَ» لباس التقوى وقد أشار إليه بلفظ البعد تعظيما لشأنه لأن نفعه يؤول إلى الآخرة الباقية فهو حتما «خَيْرٌ» من اللباس والرياش المختصين بالدنيا لأن غايتهما دفع الحر والقر والتنعم في هذه الدنيا الفانية إلى حين، أما لباس التقوى فإنه يقي من عذاب الله ويورث الدار الآخرة الباقية والنعيم الدائم قال:
إذا أنت لم تلبس ثيابا من النقي عريت وان وارى القميص قميص
ثم أشار إلى عظمته أيضا فقال «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» الدالة على فضله ورحمته بعباده إذ أنزل عليهم ماء أنبت به ما يكون لباسا وغذاء للحيوان الذي يكون منه ما يؤكل ويلبس وغيره من الحيوانات الناطقة وغيرها من الوحوش والطيور والحوت «لعلكم تذكرون ٢٦» هذه النعم الدنيوية والأخروية فتشكرونها إظهارا لمنة الله الذي وقاكم من العري وستر عوراتكم وكفاكم مؤنتكم. وفي هذه الآية إشارة إلى أن الستر من التقوى وهو كذلك «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» فيوقعنّكم في المحنة إذا أصغيتم لوساوسه ويحرمنكم من الجنة بإغوائه «كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ» آدم وحواء لما انصاعا لخداعه «مِنَ الْجَنَّةِ» المعدة للطائعين
340
فحرمهم من نعيمها في الدنيا فانتبهوا وتيقظوا لأن من قدر على تغريرهما يستطيع أن يستميلكم إلى أهوائه ويستذلكم عن منهج الحق إلى سبيله الباطلة من باب أولى، لأنكم مهما كنتم لا تبلغون درجة أبويكم. تؤذن هذه الآية بالنهي عن الطواف بالبيت عراة إذ كانوا يفعلونه في الجاهلية «يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الذي كانا يرتديانه في الجنة بسبب فتنته لهما، وقد أسند النزع إلى الشيطان لأنه السبب الظاهري فيه وإلا في الحقيقة هو الله «لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما» انتقاما منهما لأن أحدهما آدم هو السبب بإخراجه من الجنة فيريد الانتقام منه ومن زوجته ومن ذريتهما أيضا «إِنَّهُ» إبليس وجيشه «يَراكُمْ» أيها الناس «هُوَ وَقَبِيلُهُ» ذريته لأن قبيل المرء ذريته وعترته، والقبيلة بنو أب واحد، وقبيلة معطوف على ضمير انه لا على الضمير البارز لأنه تأكيد لضمير يراكم «مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» في دار الدنيا، وإذا كان كذلك فعلينا معشر المتقين أن نستعين عليهم بمن يراهم ولا يرونه ذلك الإله العظيم القادر الذي من لجأ اليه وقاه ومن استعاذ به حماه ومن توكل عليه كفاه لا إله إلا هو له الخلق والأمر. أما ما جاء من أن حضرة الرسول رآه وأراد ربطه بسارية المسجد كما تقدم في الآية ٣٥ من ص فهو من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم، ورؤية ابن مسعود جن نصيبين الآتي بيانها أول سورة الجن في ج ٢، فهي على غير صورهم الحقيقية، ولهذا قال الشافعي رحمه الله، من زعم أنه رآهم على صورهم التي خلقوا عليها فقد ردّت شهادته وعزّر لمخالفته القرآن. هذا وليعلم أن بني آدم يرون الجن في الآخرة وهم لا يرونهم عكس الدنيا ويكونون أي مؤمنو الجن في فنائها قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ٢٧» بنا ليزيدوا في غيهم ومن لم يكن وليه الله سلط عليه الشيطان «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» مما يستقبح من الأفعال، والضمير، يعود إلى غير المؤمنين أولياء الشياطين ومنهم الطوافون عراة «قالُوا» لك يا حبيبي إذا نهيتهم عنها إنا «وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا» ولذلك نفعلها، هذه حجتهم الحقيقية والثانية قولهم بهت وافتراء «وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل «إِنَّ
341
اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ»
بل بالعفة والستر والصلاح وكل ما هو من شأن التقوى «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» أيها الكفرة «ما لا تَعْلَمُونَ ٢٨» حقيقة استفهام انكار جيء به للتوبيخ والتقريع «قُلْ» يا رسولي «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» العدل وكل ما هو مستقيم حسن طاهر فكيف تسندون له الأمر بالفحشاء ثم قال جل شأنه على طريق عطف الأمر على الخير وهو جملة «قُلْ أَمَرَ رَبِّي» أي «و» قل لهم «أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ» لأن الكلام فيه حذف وإضمار وأمثاله في القرآن كثير وهو إيجاز غير مخل وحاشا كلام الله من الخلل والنقص والزيادة الكائنة في كلام البشر بسبب الإيجاز والإطناب. وإنما يزيده براعة وبلاغة أي توجهوا اليه «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» تقصدون فيه عبادة ربكم «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا لغيره بالاستقامة الكاملة واعلموا أيها الناس أنه تعالى «كَما بَدَأَكُمْ» من العدم أول مرة فعدتم أحياء في هذه الدنيا «تَعُودُونَ ٢٩» اليه يوم القيامة أحياء كاملي الخلق لأنه تعالى يعيد لكم ما طرأ عليكم من النقص في الدنيا ويجمع كل أجزائكم المتفرقة بعد الموت وتحشرون اليه المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، يؤيد هذا قوله تعالى «فَرِيقاً هَدى» وهم الذين خلقوا في الأزل مؤمنين لاتباعهم طريق الحق الذي خلقوا اليه «وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» وهم الكافرون في سابق علمه وذلك «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» باختيارهم
ورضاهم وإيثارهم عليها «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ٣٠» بفعلهم ذلك مع ما هم عليه من الضلال، كلا ان زعمهم هذا باطل روى مسلم عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) وقوله (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فالمخلوقون للجنة لا بد وأن يختم لهم بصالح العمل وان فعلوا ما فعلوا من الشر بتوفيق الله والمخلوقون للنار لا بد وأن يختم لهم بسيئة وان عملوا ما عملوا من الخير يخذلان الله ايّاهم.
قال تعالى «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» من اللباس النظيف الحسن والطيب والدهن وترجيل الشعر وتنظيف البراجم والأسنان لأن الصلاة مناجاة للرب فيستحب لمن يقف أمام ربه
342
أن يتزين له بكل انواع الزينة المباحة شرعا ليكون طاهر البدن والثوب والمكان طاهر القلب، فلا يليق بالمسلم إذا دعي لوليمة أو مقابلة ذي جاه أن يتزين له بما يقدر عليه حتى أن بعضهم ليستعير أو يستأجر ما يتزين به، وإذا قام بين يدي ربه قام بثياب مهنته حتى انه يؤذي جاره في المسجد من كراهة رائحته بثيابه الرثة الدنسة وجسمه أيضا لتراكم وسخه فيكون مأزورا لا مأجورا، ولهذه الحكمة كره الشارع دخول المسجد لآكل الثوم والبصل، لما يترتب عليه من أذيه من بجانبه برائحتهما الكريهة، وان ما هو مثلهما بالرائحة يكون حكمه حكمهما، حتى انه وقع لشيخنا الورع الشيخ حسين الأزهري مفتي الفرات ومدرسها ان نقض تحريمته في الصلاة لوقوف شارب تبغ بجانبه وانتشار الرائحة الكريهة منه، لأن بعضهم تكون له رائحة بحيث لا تقدر أن تصبر عليها مع أنه لا يجوز قطع الصلاة إلا لأسباب معينة، كخشية وقوع أعمى أو صغير في حفرة أو رؤية حية أو عقرب قرب غافل أو صغير أو مرور من تحت جدار متداع أو نداء والد لولده لا يعلم أنه في الصلاة، وإنه رحمه الله قطعها خوف فوات الخشوع المطلوب في الصلاة، لأن انشغاله برائحة كريهة تسبب ضياعه، والسرعة في إنهاء الصلاة قد توجب نقصا فيها. وليس المراد في هذه الآية الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد وإنما أراد الدخول لكل مسجد يقف فيه العبد بين يدي ربه لصلاة أو عبادة أو اعتكاف أو طواف بالمسجد الحرام، قال ابن عباس كانت المرأة تطوف بالبيت عارية تقول من يعيرني تطوافا اي خرقة تجعلها على عورتها ثم تقول:
اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية، أخرجه مسلم. وقال مجاهد كان حي من اهل اليمن إذا قدم حاجا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب عصيت به ربي فإن قدر على أن يستعير مئزرا فعل وإلا طاف عاريا فنزلت وسيأتي زيادة توضيح لهذا البحث في الآية ١٩٧ فما بعدها من البقرة في ج ٣ إن شاء الله. وهذا الأمر للوجوب وفيه دليل وجوب ستر العورة بما يواريها من الثياب الطاهرة.
343
مطلب في الأكل المسنون وذم الشبع وبعض وصايا الله لعباده فيه:
قال تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» مما أحل لكم من أنواع الطعام وأجناسه والشراب وأصنافه، قال الكلبي كانت بنو عامر في ايام حجهم لا تأكل دسما تعظيما، فقال المسلمون نحن أحق بتعظيم الله وبيته منهم يا رسول الله فأولى أن لا نأكل، فأنزل الله هذه الآية. فلما أباح الله لهم ذلك نهاهم عما من شأنه أن يكون منهم فقال: «وَلا تُسْرِفُوا» فيما أحله الله لكم من طيبات الأطعمة والأشربة بأن تتجاوزوا حدّ الشبع وتفرطوا في تعدد أوقاته وأنواعه، فإن الأكل في اليوم مرتين من الإسراف المذموم المنهي عنه شرعا، ومن الإسراف بل والشره أن يأكل كلما يشتهي، اخرج ابو نعيم عن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة من الطعام والشراب فأنهما مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وابعد من السرف وان الله يبغض الحبر السمين (لأنه لو كان يتعظ فيما علم لأضعفه الخوف من الله) ولهذا قالوا ان القاضي إذا سمن بعد توليه القضاء فهو دليل على عدم اهتمامه بأمور الناس، وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ومن وصايا أطباء اليابان لا تأكل اللحم إلا مرة في اليوم ولا تشرب مسكرا ولا تدخن واكتف بقليل من القهوة والشاي واستحم يوميا بالماء الساخن وارتد الصوف الخفيف صيفا وشتاء ونم باكرا وأفق باكرا لتنعش بالهواء الطلق ودع غرفتك مفتوحة ليلا واجتنب المؤثرات العقلية واحرص على الراحة يوما في الأسبوع وتزوج البكر وخالط العلماء. وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال قال صلّى الله عليه وسلم ان من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت. واخرج البيهقي عن عائشة قالت رآني صلّى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين، فقال يا عائشة أما تحبين ان يكون لك شغل إلا في جوفك، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف. وعليه فيكون الأكل الشرعي مرة في الصباح ومرة في المساء، قال تعالى: من حق اهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية ٦٢ من سورة مريم الآتية فإذا أكل نهارا مرتين وأكل مساء اخرى كان مسرفا، ولا شك ان الاكل يختلف
344
باختلاف الأشخاص والأمكنة. واخرج ابن ابي شيبة عن ابن عباس انه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيله. وهذا لا ينافي ما ذكره الثعلبي وغيره من الآدباء بأنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما تشتهيه الناس وهو عندي مطلوب لأن ما يأكله لا يطلع عليه أحد وما يلبسه يظهر للناس وهو من الاقتصاد بمكان. ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني فقال يوما لعلي بن واقد: أليس في كتابكم من علم الطب شىء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان؟ فقال له جمع الله الطب كله في نصف آية، قال ما هي؟ قال قال تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال وهل يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال قد جمع الطب كله في ألفاظ يسيرة، قال وما هي؟ قال قال (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأعط كل بدن ما عودته.) فقال:
النصراني: والله ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. - من الكشاف- قال ومن النصائح الطبية ما قاله الحارث بن كلدة من حكماء العرب الأقدمين: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالج المريض ما احتمل بدنه الداء. هذا وقال تعالى «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ٣١» في الأكل والشرب واللبس وغيره، والذي لا يحبه الله يبغضه فعلينا ان نجتنب ما يكرهه ربنا. واعلم ان هذه الآية والتي قبلها لا تتعارضان مع الآية ٦ من سورة التكاثر المارة لأنه ليس كل شيء يسأل عنه المرء يوم القيمة يعاقب عليه فضلا عن تلك وردت عامة وهاتين جاءتا بمعرض الرد على الكفار الذين يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم. الا فلينتبه العاقل ويجتنب الإسراف المنافي لرضاء الله والويل كل الويل لمن لا يرضي الله. ويا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المتعجرفين عما أحل الله لهم من الطيبات الزاعمين تحريمها او كراهتها في بعض الأوقات والأمكنة والأحوال «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» من الأرض وأنزلها من السماء لنفعهم من حيوان ونبات ومعدن وما يعمل ويحصل منها «وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» الذي يستلذ به الإنسان، وفي هذه الآية دليل على ان جميع المطعومات والمشروبات
345
والملبوسات حلال طيب، تؤيدها الآية ٢٩ من البقرة وهي جملة (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لان الأصل في جميع الأشياء الحل والإباحة الا ان الشارع خصص هذا العام والتحليل والتحريم من خصائص الله ورسوله ليس لأحد من البشر مهما علت رتبته في العلم والمعرفة وما سمت فطنته في الحذق والفهم وما رفعت مكانته في الإمارة والسلطة ان يحل شيئا مما حرم الله ورسوله او يحرم شيئا مما أحلاه، والآية تتناول جميع اصناف الزينة ولولا ورود النص بالذهب والفضة والحرير بحديث رسول الله والخنزير والميتة والدم والخمر والميتة في كتاب الله، لدخلت في هذه الآية لعموم نصّها المؤيد بقوله جل قوله «قُلْ» يا محمد لأمتك كل ما يستلذّ ويشتهى عدا ما ورد النهي فيه هو من الطيبات التي «هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» غير خالصة لهم وحدهم لأن الكفار والفساق يشاركونهم فيها جميعها ويزيدون عليهم ولكنها «خالِصَةً لهم» أي للمؤمنين وحدهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» في جنة الله لا يشاركهم فيها أحد من أولئك الكفرة وهي لهم خالية من الكدر والتنغيص والأذى بخلاف شهوات الدنيا فمحشوة بذلك مملوءة من الأكدار، وإيجاد هذه الطيبات في الأصل للمؤمنين في الدنيا ايضا وصارت للكافرين بالتبعية ولكنها لم تصف للمؤمنين وفيه قيل:
جبلت على كدر وأنت تريدها صفوا من الأقذاء والأكدار
وخالصة بالرفع على انها خبر لمبتدأ محذوف وقرأت بالنصب على انها حال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة الذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيمة والأول أوجه من حيث الإعراب والقراءة بالمصاحف على النصب لذلك كان اولى من الرفع قال تعالى «كَذلِكَ» أي مثل هذا التفصيل البديع «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضّحها ونبيّنها «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣٢» حقائقها وخصائصها ويعتقدون ان الله وحده المحلل والمحرم لا غيره «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الكفار «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ» كل ما تزايد قبحه فهو فاحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» سرها وجهرها «وَالْإِثْمَ» من كل ما يؤثم الإنسان فعله
346
في جميع ما يطلق عليه اسم الذنب، وقد ذكر التعميم بعد التخصيص لئلا يتوهم ان التحريم مقصور على الكبائر الفاحشة من قول أو فعل لكنها صرفت في العرف الآن الى الزنى واللواطة فاذا أطلقت انصرفت إليهما والا ففي الأصل لا تقتصر عليهما.
مطلب معنى الإثم والبغي:
وأما ما جرى عليه بعض المفسرين من أن الإثم هو الخمر فلا دليل عليه، بل لا يصح لأن العرب لم تسمها بهذا الاسم في الجاهلية ولا في الإسلام. نعم هي داخلة تحت الإثم لأنها سببه، ولأن مرتكبها آثم، إلا أن هذا لا يصرف معنى الإثم إليها فتفسيرها بالخمر خطأ بين بل غلط واضح، وليعلم أن الخمر حرمت بالمدينة بعد واقعة أحد ولم يقل أحد بأن هذه الآية مدنية لينصرف معناها إليه ولو كان مراد الله في هذه تحريم الخمر لما وردت الآيات بعدها بالتحريم تدريجيا باسمه الصريح المتعارف، إذ لو كان المراد بكلمة الإثم لكان المنهي عنه صريحا وكان بتا، ولا داعي حينئذ لتحريمه بعد ورود الآيات متتابعة أولا في النهي عن تعاطيه تعريضا في الآية ٦٧ من النحل في ج ٢، ثم النهي عن تعاطيه في الآية ٢١٩ من البقرة بسبب نفعيته وائمه، ثم في الصلاة في الآية ٤٢ من النساء ج ٣، ثم في الكف عنه جزما في جميع الأحوال في الآية ٩٠ من المائدة أيضا في ج ٣، وهذا من مقاصد اقدامي على هذا التفسير بالنمط الذي سرت فيه ليعلم غير العالم هذا وشبهه مما هو مقدم أو مؤخر، مطلق أو مقيد، عام أو خاص، ناسخ أو منسوخ بالمعنى المراد فيهما والله الهادي الى سواء السبيل. هذا، وما استدل به بعض المفسرين من قول القائل:
نهانا رسول الله أن نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا
لا يكون حجة لأن الخمر بعد أن حرمت صارت اثما، ولأنها غير معروفة عندهم بهذا الاسم وقد خصها لينصرف المعنى إليها وكذلك الاستدلال بقول الآخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول
لأنه يتأثم به وقد نعته لينصر معناه عليه وعلى هذا جرى ابن الفارض رحمه الله بقوله:
347
لا يكون دليلا على التسمية قبل التحريم وكله جار مجرى المجاز لأنها صارت إثما كبيرا بعد التحريم أما قبله فلا «وَالْبَغْيَ» أي الظلم والاستطالة على الناس وانما أفرده بالذكر مع انه داخل تحت الفواحش والإثم لعظم ارتكابه مبالغة في الزجر عن الأقدام عليه، ولو خامة عاقبته يوشك أن لا يمهل الله فاعله الى الآخرة بل يعجل عقوبته في الدنيا وفيه قيل:
لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا... جنوده ضاق عنها السهل والجبل
وقال الآخر:
ان يعد ذو بغي عليك فخله... وارقب زمانا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى... جبل على جبل لدك الباغي
«بِغَيْرِ الْحَقِّ» متعلق بالبغي لأنه لا يكون الا بغير الحق، فإذا كان الاعتداء بحق لا يسمى بغيا بل مقابلة وهي جائزة، أما لو بغى عليك بضربة يد فقابلته بالسيف فقد بغيث عليه، ولو شتمك بلسانه فشتمته وضربته فقد بغيت عليه لأن الله أباح المقابلة بالمثل، راجع الآية ١٩٤ من البقرة في ج ٣. وقد قال تعالى في الآية ١٩٠ منها: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.) ومن لا يحبه الله يبغضه والأحسن عدم المقابلة والسكوت قال ابو نواس:
خل جنبيك لرام... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير... لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنطق... مغاليق الحمام
انما السالم من أل... نجم فاه بلجام
وقال تعالى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الآية ١٣٤ من آل عمران في ج ٢، ولهذا البحث صلة في الآية ٣٧ فما بعدها من سورة الشورى في ج ٢ فراجعه ففيه الكفاية، قال تعالى «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ» حرم الإشراك لأنه مضاهاة للربوبية وهو أعظم المحرمات لأنه كفر، أما بقية المحرمات إذا لم يستحلها مقترفها فلا يكون كافرا بل عاصيا، أي تعبدوا شيئا «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
348
سُلْطاناً» حجة أو برهانا بأن يشرك به أو معه غيره من مكوناته، وهذا على نفي الإنزال إذ لا يجوز أن ينزل سلطانا على ذلك، وهو تهكم بالمشركين لأنه لما امتنع حصول الحجة بالشرك وجب أن يكون قولهم به باطلا مطلقا «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ٣٣» من الكذب والبهتان في اتخاذ الشريك والتحليل والتحريم والولد والصاحبة تعالى الله عن ذلك كله، أي كما حرم ما هو في صدد الآية كذلك حرم هذا أيضا لأنه افتراء محض على الله، فالذي حرم عليكم هو الحرام، وما حلله لكم هو الحلال لا مجال لكم في الخوض في ذلك البتة، قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» تلبث فيه في هذه الدنيا مع نبيها يأمرهم وينهاهم خلاله حتى إذا أصروا على كفرهم أمهلهم ليرجعوا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المقدر لتعذيبهم ولم ينتهوا أخذهم حالا إذ «لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه بل ولا لحظة لأن المراد بالساعة هنا مطلق الزمن «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ٢٤» ساعة حذف من الثاني بدلالة الأول كما في الآية ١٧ من سورة ق المارة.
مطلب في الساعة بقسميها:
واعلم أن الساعة في عرف المنجمين تنقسم إلى مستوية وتسمى فلكية، وهو زمان مقداره خمس عشرة درجة أبدا وكل درجة أربع دقائق، وإلى معوجة وتسمى زمانية، وهي زمان مقدر بنصف سدس النهار أو الليل أبدا، ويستعمل الأولى أهل الحساب غالبا، والثانية الفقهاء واهل الكلام ونحوهم، وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا سواء كانت مستوية أو معوجة، إلا أن كل من الليل والنهار لا يزيد على اثنى عشر ساعة معوجة أبدا، ولهذا يطولان ويقصران، وقد تتساوى الساعة المستوية والساعة المعوجة عند استواء الليل والنهار، ونظير هذه الآية الجملة الأخيرة من الآية ٢٨ من سورة يونس في ج ٢، وفيها وعيد بإنزال العذاب على قريش إذا لم يؤمنوا بنبيهم وينتهوا عما نهاهم عنه، وتهديد عظيم بسوء العاقبة إذا أصروا، فيكون شأنهم شأن كل أمّة كذبت نبيّها بعذاب الاستئصال، وكان نزولها حين سألوا حضرة الرسول إنزال عليه الصلاة والسلام العذاب الذي يهددهم به فأخبرهم فيها
349
أن له أجلا لا يتعداء لحظة إذا سألتم استعجاله أو تأخيره مهما استغثتم به منه «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا» هي إن الشرطية ضمت إليها ما فأدغمت لتأكيد الشرط ولذا لزمت الفعل الذي يليه النون الثقيلة والخفيفة مثل «يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم لا من الملائكة «يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» من أوامر ونواهي وقصص وأمثال، وجواب الشرط «فَمَنِ اتَّقى» ما نهي عنه واعتبر بما وقع على الأولين «وَأَصْلَحَ» نفسه باتباع ما أمر به واتعظ بما قص عليه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في الآخرة مما يخافه المجرمون «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٣٥» على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم يرون من نعيم الآخرة الدائم ما ينسيهم تلك الزخارف الدنيوية المموهة الفانية المشوبة بالأكدار المصاحبة للهم والغم المتناولة بالكد والتعب، وهي إن خلت من حرام فلا تخلو من مشبوه كما لا يخلو أهلها من كذب وكبر والله تعالى يقول «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» ولم يؤمنوا برسلنا استعظاما عليهم وماتوا على كفرهم «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم وهذا شأنهم وديدنهم هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ٣٥» لا يخرجون منها أبدا «فَمَنْ أَظْلَمُ» واشنع وأفظع ظلما «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» أي تقول عليه ما لم يقله اختلاقا من لدنه من تحريم ما لم يحرم «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على رسوله المصرّحة بعدم الشريك والمثيل والولد والصاحبة له جلّ شأنه «أُولئِكَ» الذين هذه سجيتهم «يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» اللوح المحفوظ المدون فيه كل ما عملوا وهو حظهم مما قدر عليهم فيه وما قدر لهم في الدنيا من الرزق والعمر والبلاء «حَتَّى إِذا» فرغ ما لهم عنده من ذلك كله حتى الهواء «جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» فيسألونهم سؤال توبيخ وتبكيت لا استعلام «قالُوا» لهم رسل الموت «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الآلهة التي كنتم تعبدونها وتلجأون إليها في مهامّكم وعند الشدة، ادعوهم الآن ليدفعوا عنكم الموت «قالُوا» المتوفون المكذبون «ضَلُّوا عَنَّا» غابوا وتركونا عند أشد حاجتنا إليهم وقد تبين لنا الآن عدم نفعهم وإنا كنا مغرورين بهم ولا ندري أين هم الآن، وذلك بعد أن استعانوا بهم فلم يردوا
350
عليهم لذلك قال تعالى «وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ٣٧» جاحدين وحدانية الله ونبوة رسله وما أنزل عليهم من الكتب، واعترافهم هذا تحسر على ما فات، وهذا السؤال والجواب واجب الإيمان به بمقتضى ظاهر القرآن وانه واقع لا محالة، وعدم سماعنا له لا يكون حجة لعدم وقوعه لأن الله قادر على ان يسمع وان لا يسمع ولا تعارض بين ما في هذه الآية وآية «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» ٢٣ من الأنعام في ج ٢ لأن مواقف القيامة متعددة كما مر في الآية ٦٠ من ص وما يرشدك لغيرها فيها وهذا غير سؤال القبر الذي يجب الاعتقاد به وهو لا يسمع ايضا أما سؤال يوم القيمة فيكون على ملأ الأشهاد ولا تردد فيه، ومنه آية الأنعام المارة ولهذا قلنا لا تعارض بينهما. هذا والطوائف مختلفة والأحوال شتى وان ما مشى عليه بعض المفسرين بأن هذا السؤال يكون يوم القيمة للكافرين من قبل ملائكة العذاب وحكمه حكم آية الأنعام ينافيه ظاهر الآية المفسرة الدالة على وقوعه في الموت، وعلى هذا يكون هنا سؤال عند الموت
وآخر في القبر لا يسمعان والثالث في البعث في جميع مواقف القيمة مسموع. تدبر و «قالَ» تعالى لأولئك الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر «ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ» أي بيتها وهي التي «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» قدمهم لمزيد شرهم ولكون شرهم عدوانا «وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ» جزاء اشراككم وبهتكم في الدنيا فهي مأواكم ومقركم «كُلَّما دَخَلَتْ» النار فهم «أُمَّةٌ» جماعة أو ملة واحدة «لَعَنَتْ أُخْتَها» من اهل ملتها التي أضلتها فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة حيث زادت في عذابها «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها» تلاحقوا واجتمعوا جميعا الأولون والآخرون «قالَتْ أُخْراهُمْ» الأتباع «لِأُولاهُمْ» المتبوعين من القادة والرؤساء «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا» في الدنيا عن الهدى وسنّوا لنا طرق الردى وأمرونا باتباعهم «فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» لأنهم ضلوا وأضلوا، والضعف في اللغة ما زاد على المثل غير مقيد بمثلين أو أكثر فأوله المثل وأكثره غير محصور لذلك يطلق على مثل الشيء وتضعيفه عند الإطلاق، فاذا أضيف لعدد اقتضى ذلك العدد
351
مثله فاذا قلت ضعف عشرة او ضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف «قالَ» تعالى «لِكُلٍّ» منهم ومنكم «ضِعْفٌ» اما هم فلضلالهم وإضلالهم، وأما أنتم فلضلالكم واتخاذكم المتبوعين أولياء تأتمرون بأمرهم وتنتهون بنهيهم. وهذا الضعف كالأول غير مقيد بالمثل فيشمل أضعافا كثيرة لأنه لم يضعف لعدد، تدبّر.
«وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ٣٨» ما أعد الله لكل منكم من العذاب لان كلا منكم مشغول بما هو فيه- وقرىء لا يعلمون بالياء-.
مطلب مواقف يوم القيامة وإمكان القدرة:
وعليه تكون هذه الجملة منفصلة عما قبلها بسبب الالتفات في الخطاب الى البغية «وَقالَتْ أُولاهُمْ» المتقدمون عليهم في المنزلة «لِأُخْراهُمْ» المتأخرين عنهم مكانة بحسب الدنيا أي قالت الأشراف للسفلة «فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» لأنكم كفرتم فما كفرنا فنحن وأنتم متساوون في العذاب وسببه، وهذا مرتب على قوله تعالى على وجه السبب «لِكُلٍّ ضِعْفٌ» فهو يؤذن بالمساواة، والفاء جواب الشرط أي إذا كان كما قال تعالى وهو كما قال فلا فضل لكم علينا فلماذا تدعون علينا وبعد ان يزجوا فى النار ويزداد تصايحهم فيها يقول لهم تعالى قوله «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٣٩» في الدنيا من الأعمال الخبيثة، فيسكتون بعد سماع كلام الله الذي لا يبدل وهو القائل (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على عظمتنا وقدرتنا الموضحة لأحكام ديننا المبلغة على لسان انبيائنا «وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها» فلم يعتنوا بها ويلتفتوا إليها في الدنيا «لا تُفَتَّحُ لَهُمْ» الآن كما هو الحال عند موتهم «أَبْوابُ السَّماءِ» أي لا يسمع دعاؤهم حين يستغيثون بنا في هذا الموقف كما لا يصعد لهم عمل في الدنيا ولا ترفع أرواحهم إليها إذا ماتوا لأن كلامهم وأعمالهم وأرواحهم خبيثة فهم محرومون من بركة السماء وغيرها ورحمة خالقها إذ لا يصعد الى الله الا الكلم الطيب والعمل الصالح والأرواح الطاهرة «وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» هؤلاء المستكبرون عنا في حياتهم الدنيا «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ» يدخل «فِي سَمِّ الْخِياطِ» ومن المعلوم عدم إمكان دخوله أي لا يدخلون ابدا، وهذا من
352
ضرب المحال كقوله لا آتيك حتى يشيب الغراب أو يبيضّ القار أو يسود الثلج، وخص الجمل لأنه أكبر الحيوانات في الجملة عندهم، حتى انهم يضربون به المثل فيقولون جسم الجمال وأحلام العصافير، لقليل العقل. ويضربون المثل الضيق المسلك بثقب الإبرة كناية عن الشيء الذي لا يكون قال:
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما شربت التي في تركها عندي الإثم
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب
ويطلق الجمل على الحبل الغليظ ولذلك فسره به بعض المفسرين لأنه مما يسلك إلا أن سلكه في الابرة محال، وعلى كل فيكون دخولهم في الجنة محالا، كما أن دخول الجمل أو الحبل الغليظ في ثقب الابرة محال، لأنه مما لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه لأنها انما تتعلق بالممكنات الصرفة، والممكن الولوج بتصغير الغليظ وتوسيع الضيق فاذا أراد الله تعالى مثل هذا فعل ما يريد وهو على كل شيء قدير. واعلم أن من فسر الجمل بالحبل قرأه بضم الجيم وتشديد الميم كي يراد به الحبل الذي ذكرناه في الآية ٣٣ في المرسلات المارة قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ذلك الجزاء الفظيع «نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ٤٠» في دنياهم في الدار الآخرة وأل فيه للجنس فيشمل كل مجرم
ثم بين حالتهم في النار بقوله «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ» فراش تحتهم «وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» أغطية منها ونظير هذه الآية قوله «مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» الآية ١٦ ص الزمر في ج ٢ يعني أن النار محيطة بهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الشديد «نَجْزِي الظَّالِمِينَ ٤١» أنفسهم في الدنيا بالعذاب الشنيع في الآخرة وحرمانهم من الجنة «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم لهم ما يشاءون في الآخرة لا يضيّق عليهم فيها أبدا لأنا «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» بما يسهل عليها ويكون في طوقها ممّا لا حرج فيه عليها من الأعمال وهذه جملة اعتراضية بين المبتدأ وهو الموصول والخبر وهو «أُولئِكَ» أي المؤمنون بالله العاملون صالحا هم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الآخرة الدائمة و «هُمْ فِيها خالِدُونَ ٤٢» أبدا، والذي أحسن وقوعها مناسبتها للمعنى لأنه لما ذكر العمل ت (٢٣)
353
الصالح الذي لا كلفة فيه ذكر أنه في وسعهم فعله، وفيه تنبيه للكفرة على أن الجنة مع عظمها يتوصل إليها بالعمل الصالح السهل إجراؤه على العامل قال تعالى «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» كان بينهم في الدنيا فلم يبق بين أهل الجنة إلا التوادد والتعاطف، قال علي كرم الله وجهه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، وما قيل أنه قال فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية لا يصح، لأن الآية مكية بالاتفاق وحادثة بدر بعد الهجرة بسنتين فيكون بينهما ما يقارب تسع سنين، هذا، وهذه الجنة التي وعدوا بها «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» ينعمون فيها دائما «وَقالُوا» لبعضهم مثنين على ربهم «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا» الفوز العظيم في الآخرة وأرشدنا إلى العمل الطيب في الدنيا «وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ» له بارادتنا وقوتنا «لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» اليه بمنه وكرمه وفضله، وفي الآية دليل على أن المهتدي هو من هداه الله، والضال من أضله، أقسموا قائلين والله «لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا» إلينا في الدنيا «بِالْحَقِّ» الصدق حيث رأوا ما وعدوهم به عيانا وهذا من قبيل المثل السائر «ليس الخبر كالمعاينة وإلا فهم قالوا هذا القول وصدقوا به في دنياهم وهو الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من النعيم «وَنُودُوا» من قبل ملائكة الرحمة «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ التي وعدتموها فادخلوها لأنكم «أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣» في دنياكم من الأعمال الصالحة ولقد نعت الله تعالى حال أهل الجنة في الجنة كما وصف حال أهل النار في النار، ألا فلينتبه من كان له قلب، روى البخاري عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين اجر والنار فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا اذن الله لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في اجر منه بمنزله في الدنيا. وروى مسلم عنه وعن أبي هريرة أن رسول الله قال:
دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبدا، وإن لكم تصحوا ولا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا ولا تهرموا أبدا، وإن لكم
354
تنعموا ولا تيأسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل (وَنُودُوا) (إلخ) وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله في النار، وأما المؤمن فإنه يرث الكافر منزله في الجنة. زاد في رواية فذلك قوله تعالى: (أُورِثْتُمُوها) وذلك لأن الكافر ميت بدليل قوله تعالى: (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) الآية ٢٤ من سورة النحل في ج ٢ والمؤمن حي بدليل قوله جل قوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) الآية. من سورة يس الآتية والحي يرث الميت ولا يرد على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم لن يدخل الجنه أحد يعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى، لأن دخول الجنة حقيقة برحمة الله إلا أن انقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وإن المؤمن لن ينال العمل الصالح إلا برحمة الله وتوفيقه فيكون دخول الجنة برحمة الله ثوابا وجزاء على الأعمال الصالحة في الدنيا قال صاحب بدء الامالي:
دخول الناس في الجنّات فضل من الرحمن يا أهل الأمالي
ونظير هذه الآية ٣٢ من سورة النحل والآية ٦٣ من سورة الزخرف في ج ٢ ولا يخفي ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله له ذلك.
مطلب خطأ قول القدرية:
قال الشيخ أبو منصور إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبروا وأبا البشر الثاني نوحا عليه السلام وأهل الجنة وأهل النار وإبليس أيضا. فالله تعالى قال: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الآية ٢٩ من سورة الرعد في ج ٣. وقال نوح وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) الآية ٣٤ من سورة هود في ج ٢. وقال أهل الجنة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) الآية المارة. وقال أهل النار (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) الآية ٢١ من سورة ابراهيم في ج ٢. وقال إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الآية ١٥ المارة فدونك أعرض قول المعتزلة على هذه وانظر قول
355
الله حكاية عن قول الموحدين وهم في مقعد صدق (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) فى حال الدنيا مع قولهم (المهتدي من اهتدى بنفسه) وانظر هداك الله ما تختاره فلا شك أنك تقول الله الهادي ولا تعدل عنه ابدا إذ لا يوازي قول الله قول. ثم شرع جل شرعه فيما يقع بينهما من المحادثة فقال: «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ» وذلك بعد أن استقر كل بمكانه «أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا» على لسان رسله من النعيم المقيم «حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ» من العذاب المترتب على تكذيبكم رسلكم في الدنيا «حَقًّا قالُوا نَعَمْ» وجدناه حقا ومسنا ألمه «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» هو صاحب الصور إسرافيل عليه السلام أو غيره من الملائكة وما قيل أنه علي عليه السلام بعيد عن الصحة لعدم الدليل ولأنه كرم الله وجهه يكون إذ ذاك في حظائر القدس فكيف يكون مؤذنا في ذلك المقام فهو أكبر مقاما وأعز شأنا وأرفع مكانا وأعظم من ذلك وكيفية الأذان هي «أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ٤٤» إعلاما بسرور أهل الجنة وخزي أهل النار. واعلم أن «أَنْ» هذه والتي قبلها مخففتان من الثقيلة أو مفسرة لكيفية المناداة وهو الأصوب لأن المخففة يعقبها اللام وهو مفقود هنا. راجع آخر سورة القلم المارة، وقرأها بعضهم بالتشديد كما قرأ (نعم) بكسر العين، هذا، وأن الذين لعنهم الله هم «الَّذِينَ» كانوا «يَصُدُّونَ» الناس في الدنيا «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» السوي «وَيَبْغُونَها» اي سبيل الله التي سنها لعباده من الحق والعدل السويين ويحاولون أن يجعلوها «عِوَجاً» مائلة الى الباطل فيبدلونها عما هي عليه. والعوج بالكسر يكون في الدين والطريق أي المذهب الذي يتدين به وما يدرك بفكر وبصيرة كالأرض البسيطة والمعاش، وبالفتح بالخلقة تقول في ساقه عوج وما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه راجع تفسير الآية الأولى من سورة الكهف في ج ٢ «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ٤٥» منكرون لانهم لم يصدقوا بوجودها حينما كانو في الدنيا ولا يقال كيف يسمع أهل النار وهم في الأرض نداء أهل الجنة وهم في السماء، لأن الله قادر ان يقوي أصوات اهل الجنة واسماع اهل النار ويصير البعيد
356
قريبا ولا يعجزه شيء، وهذا النداء من العموم الى العموم، لأن الجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من الجنة ينادي من كان يعرفه في الدنيا من أهل النار الكفرة «وَبَيْنَهُما» أي أهل الجنة وأهل النار «حِجابٌ» سور وهو المذكور في قوله تعالى «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» الآية ١٣ من سورة الحديد في ج ٣، والمراد بالرحمة الجنة وبالعذاب النار. واعلم أن هذه الآية والآية التي نحن بصددها تفيدان أن ليس بينهما سوى هذا الحجاب المعبر عنه بالسور ويؤيد هذا حديث الصراط الممدود على متن جهنم فإن من يقطعه يصل إلى الجنة مع أن الجنة في السماء والنار في الأرض فانظر قدرة القادر بعظم هذا الحجاب وإسماع أقوال الطرفين ورؤيتهما بعضهما لبعض آمنّا وصدفنا وأيقنا بأن الله تعالى قادر على أكثر من هذا وأعظم.
مطلب في اصحاب الأعراف:
«وَعَلَى الْأَعْرافِ» أعالي الحجاب وهو السور المذكور «رِجالٌ» من آخر المسلمين دخولا في الجنة لقصور أعمالهم وهم المرجون لأمر الله المذكورون في الآية ١٠٦ من سورة التوبة في ج ٣ فإنهم يحبسون عليه فيقضون على شرفه البارزة ويقال لكل مرتفع عرف، ويبقون عليه بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم بدخول الجنة والانصراف عن النار وهؤلاء الرجال «يَعْرِفُونَ كُلًّا» من الفريقين المذكورين «بِسِيماهُمْ» علامات لهم فيهم أو بسيماهم التي صاروا إليها وهي بياض وجه المؤمن ونضارته وسواد وجه الكافر وزرقة عيونه «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ» إذا عرضوا لهم ورأوا ما هم عليه من السرور فيقولون لهم «أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» يهنونهم في هذه التحية بالسلامة من هول الآخرة وحصول الأمن لهم بدخول الجنة وهؤلاء المسلمون «لَمْ يَدْخُلُوها» أي الجنة بعد لأنهم ينتظرون أمر الله فيهم «وَهُمْ يَطْمَعُونَ ٤٦» بدخولها لوثوق أملهم بربهم ورجاء لطفه بهم وعطفه عليهم بعدم زجهم في النار، بسبب قلة حسناتهم عن سيئاتهم ولعدم وجود دار في الآخرة غير الجنة أو النار، ولأن من نجا من النار طمع
357
بدخول الجنة بلا شك، وحاشا كرم الله وفضله أن يدخلهم النار بعد أن أوقفهم خارجها، لأن خيار البشر لا يرجح جهة الشر على الخير فكيف بخالق الخيار القائل «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» الآية ١٠٢ من سورة التوبة في ج ٣ والخلطة لا تقتضي التسوية فقد تكون أكثر وأقل ومساوية، وعسى من جانبه جل جلاله تكون لتحقيق هذا، واعلم أن ما قيل بأن هؤلاء الذوات فقهاء أو أنبياء أو ملائكة وان درجتهم أعلى من الجنة وأن وجودهم على الأعراف ليطلعوا على حال الفريقين لا دليل يؤيده وسياق التنزيل يأباه وسياقه ينفيه لأن الله تعالى يقول «وَهُمْ يَطْمَعُونَ» أي بدخول الجنة مما يدل على أنهم لم يستحقوها بعمل مرجح بل بطمعهم بفضل الله وبمنّه عليهم يرجون ادخالهم الجنة بترجيح حسناتهم على سيئاتهم وصرف النظر عن جهة الزيادة والنقصان، وانظر ما يقول الله عز قوله «وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ» وظهر لهم حالهم وما حل بهم من العذاب أعرضوا عنهم فلم يكلموهم والتفتوا إلى من أنعم على أولئك وانتقم من هؤلاء خائفين من مصيرهم لأنه لم يتحقق لهم بعد فاستعاذوا من حالهم و «قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٤٧» أي باعدنا عنهم فزعا مما شاهدوه من أنواع عذابهم فإن هذه الآية تؤيد ما جرينا عليه من التفسير بان أصحاب الأعراف قوم استوت أو نقصت حسناتهم عن سيئاتهم وقد أوقفهم الله على شرف السور كما مر وليسوا بفقهاء ولا أنبياء ولا ملائكة كما جاء في ذلك القيل ولذلك صاروا يتضرعون إلى ربهم بان لا يجعلهم من أهل النار وان شدة الهول والفزع مما رأوا من عذاب جهنم أنساهم طلب الجنة لأنهم يريدون البقاء على الأعراف على أن لا يدخلوا النار فقط والله أعلم بمراده بكلامه وكأن هؤلاء يبقون موقوفين على الأعراف مشرفين على الفريقين حتى الأخير ينظرون من يدخل الجنة فيهنئونه، ومن يدخل النار فيستعيذون منه، ولهذا أخير عنه مولاهم بقوله «وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا» التنكير هنا يدل على أن المناديين عظماء معروفين بالدنيا كرؤوس الكفر، وتكرير لفظ
358
الأعراف مع كفاية الإضمار للفرق بين المراد منهم هنا، لأن المنادى هناك الكل وهنا البعض، ولزيادة التقرير «يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ» التي كانوا عليها في الدنيا، لأن صورة الرجل مهما شوهت لا بد أن تبقى سيماها الدالة عليها، انظر إلى صور الرجال الذين يعلنونهم في الجرائد الهزلية كيف يشوهونها ويخرجون بعضها عن صورة الإنسان إلى غيره من الحيوانات وعند ما تراها تعرفها صورة من هي، فكذلك هنا لأن الله تعالى لم يجعل شيئا في الآخرة إلا وجعل له مثالا في الدنيا إلا أن الفرق شاسع «قالُوا» أصحاب الأعراف لأولئك الرجال الكبار المشهورين «ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ» كثرتكم في الدنيا وما جمعتموه من مال ونشب واتباع وأشياع «و» ما أغنى عنكم أيضا «ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ٤٨» عن الإيمان بالرسل وعلى الناس أجمع في دنياكم، وهذا استفهام تقريع وتوبيخ، أي أن ذلك كله ما وقاكم من عذاب الله بل زادكم تعذيبا به. قال الكلبي ينادونهم من على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان يا فلان، لكل جحجاح فخور من فراعنة أمة محمد وهكذا
فراعنة الأنبياء السالفين ينادونهم جماعة منهم الذين يعرفونهم.
ثم خاطبوهم ثانيا مشيرين إلى طائفة من أهل الجنة كانوا فقراء في الدنيا يسخرون منهم ويستهزئون بهم ويضحكون عليهم قائلين «هؤُلاءِ» صهيب وسلمان وخباب وغيرهم من فقراء أمة محمد وأصحاب العفة الذين كنتم تأنفون مجالستهم في الدنيا حتى أنكم طلبتم من حضرة الرسول أن يعين لهم مجلسا على حدة لئلا يحضروا معكم تباعدا عن أوساخهم ورثاثة لباسهم «الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ» حالة كونكم في الدنيا بأنه «لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ» نراهم قد نالوها وقد قال لهم ربهم الذي كنتم تجحدونه «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» فدخلوها وأنتم الآن في النار تعذبون وهم ينعمون وقد زادهم فضلا بقوله لهم «لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ» الآن مما يخافه غيركم «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ٤٩» على ما فتكم من نعم الدنيا ولا مما يلاقي هؤلاء إذ لا يهمكم شأنهم الآن كما كانوا في الدنيا لا يهتمون بكم، وكذلك الذين من هذا القبيل من أتباع الرسل المتقدمة، لأن الآيات كلها عامة، وان تخصيصها بأناس لا ينفي عمومها عن شمول غيرهم،
359
تدبر، قال تعالى «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» لنطفىء به بعض حرارة هذه النار المحرقة «أو» أعطونا «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» من الأشربة الطيبة لنبلّ به غليل قلوبنا، وهذه الآية تؤيد ما ذكرناه آنفا من أن الجنة فوق النار وأن لا حاجز بينهما غير السور المار ذكره «قالُوا» مجيبين لهم «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما» أي ماء الجنة وشرابها «عَلَى الْكافِرِينَ ٥٠» به الجاحدين رسله وكتبه وهم
«الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ» في الدنيا فجعلوه «لَهْواً وَلَعِباً» فحرموا ما شاءوا وأحلوا ما أرادوا وعبدوا ما زين لهم الشيطان وعملوا ما هوته أنفسهم «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها الفانية وخدعهم أملهم فيها فلم يلتفتوا إلى صانعهم الحقيقي وكتابه المنزل ولم يكترثوا برسله بل أهانوهم وكذبوهم «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ» من رحمتنا فنهملهم ولا نعتد بهم ولا نسمع دعاءهم «كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» وأهملوه فلم يعملوا صالحا لأجله ولم يعتدوا به لذلك فإني أعرض عنهم كما أعرضوا عن آياتي ورسلي «وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ٥١» يكذبون بها وبالذين جاءوهم بها، وسمى الله جزاء نسيانهم نسيانا على طريق المجاز، وهو عبارة عن تركهم في العذاب وعدم الالتفات إليهم وقد تعبر العرب بالنسيان عن الترك وإلا فإن الله تعالى لا ينسى شيئا، والمعنى أنا نعاملهم معاملة الناسين عبيدهم من خيرهم لأنهم لم يعترفوا بوحدانيتنا في الدنيا وأشركوا معنا من لا يستحق العبادة ولا ينفع نفسه. هذا ما قصه الله على نبيه من حال آدم وإبليس وأحوال الذين عبدوا غيره، والذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم، وحال أهل النار وأهل الجنة وأهل الأعراف، هم التفت إلى نبيه صلّى الله عليه وسلم وقال مقسما «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ» أي قومك يا محمد «بِكِتابٍ» عظيم جليل أنزلناه عليك وقد «فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ» منا بوجه تفصيله ووضحنا حلاله وحرامه ومواعظه وأخباره وقصصه وأمثاله وجعلناه «هُدىً» لمن اهتدى به «وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥٢» به فلماذا لا يؤمن هؤلاء الكفرة كي يقتبسوا من أنواره وينتفعوا بنوّاره كغيرهم ممن ذاق حلاوته، «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» أي أيتوقعون ما أوعدوا به من العذاب فيه، وما يؤول إليه أمرهم
360
وهو النار تصديقا لوعده، فقل لهم يا أكمل الرسل «يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» هو يوم هلاكهم في الدنيا أو يوم عذابهم في الآخرة وإذ ذاك «يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ» إتيان تأويله وتركوا امتثال أوامره ونواهيه «قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» أي يعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف، ويقولون حين نزول الموت بهم أو وقت تعذيبهم بالآخرة «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا» اليوم مما حل بنا (على المعنيين لأن الآية صالحة لهما وموافقة لمعناهما وجائز تأويله بهما) إذ لا طريق للخلاص منه إلا بالشفاعة «أو» إذا لم تكن شفاعة أمهلنا يا ربنا بأن «نُرَدُّ» إلى الدنيا «فَنَعْمَلَ» الفاء واقعة في جواب الاستفهام مثل فيشفعوا أي نعمل عملا صالحا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» من السيء فنبدل الكفر بالتوحيد والعصيان بالطاعة فلا يجابون إلى طلبهم، وهيهات أن يزاد في أجل المحتضر أو يرجع أحد من الآخرة ولعدم وجود الشفيع وعدم إمكان إمهالهم أو إرجاعهم إلى الدنيا فإنهم «قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بصرف أعمارهم التي هي رأسمالهم في الشرك والمعاصي «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ٥٣» في الدنيا من قولهم إن الأوثان آلهة وإن الملائكة بنات الله، وادعاء أهل الكتابين عزيرا والمسيح أبناء الله تعالى عن ذلك وعدم اعتراف اليهود بنبوة عيسى ومحمد والنصارى بنبوة محمد عليهم الصلاة والسلام.
مطلب في السموات والأرض والعرش وآيات الصفات:
قال تعالى ردا على هؤلاء المغترّين «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» قدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ٣٦. من سورة ق المارة إذ لم يكن زمن خلق السموات شمس ولا قمر ليعرف الزمن، وهذا على حد قوله تعالى: (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» الآية ٦١ من سورة مريم الآتية، أي بمقدارها في الدنيا بالنسبة لنا حسبما نعرفه لأن الجنه لا ليل فيها ولا نهار، ولهذا البحث صلة في الآية ٩ من سورة فصلت في ج ٢ فراجعه تعرف هذا وبدأ الأيام وآخرها وما خلق فيها، والمراد بالاستواء الاستيلاء وعليه قوله:
361
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
لأن الاستواء بمعناه المعروف محال على الله تعالى وهذه من آيات الصفات التي مر ذكرها في الآية ٣٠ من سورة ق المارة وفيها ما ترشد إليه من المواضع الأخرى الباحثة عن هذا، وخصّ العرش بالذكر مع أنه مستول على المخلوقات كافة لأنه أعظمها وأعلاها ولا يعرفه البشر إلا بالاسم وهو بما وصفه الله تعالى به نفسه فتفسيره تلاوته كما مر تفصيله وللبحث فيه صلة في الآية ٤ من سورة طه الآتية. هذا وان المنقول عن جعفر الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك وغيرهم من أعلام الأئمة أن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والجحود له كفر والسؤال عنه بدعة، وقد ألمعنا إلى شيء من هذا أول سورة القمر المارة بأنه فلك الافلاك والفلك الأطلس وانه الجسم المحيط بسائر الأجسام ويكنى به عن العزة والسلطان والملك وقيل في المعنى:
إذا ما بنوا مروان ثلث عروشهم وأودت كما أودت إياد وحمير
وقول الآخر:
أن يقتلوك فقد ثلث عروشهم بعيينة بن الحارث بن شهاب
قال تعالى: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» يلبسه ظلمة حتى يذهب بنوره وكذلك يغشي النهار الليل فيغطيه بنوره حتى يمحق ظلامه ولم يؤت بالجملة الثانية لدلالة الأولى عليها كما مر في الآية ١٧ من سورة ق المارة «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» طلبا سريعا إذ نعقب أحدهما الآخر فيخلفه دون فاصلة ما وقيل فيه:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى نطير غرابا ذا قوادم جوّن
وقال الآخر:
وكأن الشوق باب للدجى ماله خوف هجوم الصبح فتح
«وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ» جل علاه وتعريفه من طلوعهن وغروبهن وسيرهن ورجوعهن وسرعة دورانهن بانتظام بديع يتحركن بحركة الفا الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا رفع رجله وضعها بشدة عدوه تحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل حسبما يقوله الفلكيون، ويمكن أن يكون
362
اكثر أو أقل لأن أقوالهم ظنية تقديرية، وهذا هو معنى الطالب الحثيث جلت قدرته الصانع الحكيم الذي جعل هذه الحركات مستمرة إلى انقضاء الدنيا وأوان خراب هذا العالم بصورة منتظمة وقد أفرد ذكر الشمس والقمر مع أنهما داخلان في النجوم بل هما منها لبيان شرفهما على سائر الكواكب، لا لزيادة نورهما الواصل إلى الأرض فقط بل لمعرفة الأوقات في سيرهما ومنازلهما وكثرة منافعهما في نمو النبات وطعمه وتلوينه وغير ذلك.
مطلب التناكح المعنوي:
وقد ذكر الله الغشيان هنا والإيلاج في الآية ٢٧ من آل عمران وغيرها لأنها مكررة كثيرا والمراد بهما التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات الملمع إليها في قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية ٣ من سورة الرعد في ج ٣ وقبل توسع علم النبات ما كان أحد يعلم بازدواج النبات ووجود ذكر وأنثى في كل زهرة غير الله أنظر، كم من غيوب يكشفها الله لنا في هذا القرآن العظيم ونحن عنه غافلون وهذا أمر صحيح وان صح ذلك فما أصح قولهم في ضرب المثل للأمور المتوقعة (الليلة حبلى وستلد العجائب) هذا وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح والحاصل من هذا الغشيان على قولهم ما في العالم من معدن ونبات وحيوان وهو المواليد الثلاثة أو في جميع الحوادث على الإطلاق ومنه قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
لكن مع العلم والإيقان بأن المؤثر الحقيقي هو الله وحده وهو الذي خلق فيها تلك التأثيرات، اما أقوال المنجمين فقد تكون صحيحة وتكون فاسدة وكل ما ذكروه من تقدير فهو بالنسبة لما يبدو لهم في المكبرات من كبر النجوم وسيرها فيبنون علمهم وأقوالهم فيه على الظن والحدس لا على اليقين والصدق، تأمل.
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» فرق بينهما ليعلم خلقه أن كلامه غير مخلوق لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله ولهذا قال سفيان بن عيينة من جعل الأمر الذي هو كلامه
363
تعالى من جملة خلقه فقد كفر، ومن جمع بين الخلق والأمر فقد كفر فالخلق راجع لما ذكره من السموات والأرض والأفلاك، والأمر هو كلامه يأمر هذه المخلوقات وغيرها بما أراد كاملا، وكيف يكون من خلقه لها نقص أو زيادة وهو «تَبارَكَ» وتعالى «اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ٥٤» أجمع وخالقهم ورازقهم ومدير أمورهم. راجع بحث خلق القرآن في المقدمة تعلم أن كلامه منزه ومقدس عن أن يكون مخلوقا. قال في بدء الامالي:
وما القرآن مخلوقا تعالى كلام الرب عن جنس المقال
وهذا ولما اخبر جل اخباره بأنه المنفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يتذللوا اليه لكشف مهماتهم فقال «ادْعُوا رَبَّكُمْ» أيها الخلق «تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» بما ترونه من مصالحكم الدنيوية والاخروية ولا تتجاوزوا فيها الى مضرة غيركم فتعتدوا «إِنَّهُ» ربكم الذي يجيب دعائكم «لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ٥٥» في الدعاء على الغير أو بطلب ما لا يليق بالداعي من المقامات، لأن الدعاء على الغير من غير ظلم منه تعد وطلب ما لا يليق اعتداء، ومن الاعتداء رفع الصوت لما فيه من قلة الأدب مع المولى ومجاوزة الحد في كل شيء اعتداء. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس اربعوا «أي ارفقوا بأنفسكم واقصروا عن الصياح في الدعاء» على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم، والذي تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلته. قال أبو موسى وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم في نفسي فقال يا عبد الله ابن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت بلى يا رسول الله، قال:
لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.
مطلب آداب الدعاء والقراءة:
وقال تعالى في الآية ٣ من سورة مريم الآتية «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» أي بما يسمع نفسه وهذا الحد كان في الدعاء كنفس الداع أما إذا كان الناس
364
يؤمنون على دعائه فيرفع صوته بقدر ما بسمعهم وكذلك الجهر في الصلاة قال تعالى «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها» الآية ١١٢ من سورة الإسراء الآتية فإذا زاد على اسماع الغير فيكون عمل عملا مكروها في الصلاة، وكذلك إذا خافت الى حد لا تسمعه الجماعه، وفي الخطبة أيضا ينبغي أن يلاحظ هذا الحد، إذ المقصود اسماع الحاضرين فقط فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم، أخرج ابو داود عن سعد بن أبي وقاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب الأمر أن يقول اللهم اني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ثم قرأ «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» وهذا هو الحكم الشرعي في الدعاء ومن آدابه أنه إذا خاف الرياء أخفى وإذا أمنه جهر بقدر الحاجة وهو الأفضل ويكره إذا خيف التشويش على قارئ أو مصل أو إيقاظ نائم «أو مشتغل بعلم شرعي»، قال تعالى «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» ايها الناس بان تقطعوا السبل وتنهبوا الأموال وتعتدوا على الخلق بضرب أو قتل فايقاع الفساد على هذا الوجه هو خراب الأرض وإهلاك أهلها وكيف تخربونها «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل وبيان الشرائع بالنهي عن الفساد والأمر بالإصلاح والدعاء الى طاعة الله وترك الكفر ودواعيه وتكذيب الرسل وجحود ما جاءوا به من عند الله فكل هذا فساد مناف للإصلاح الذي فيه قوام الكون «وَادْعُوهُ خَوْفاً» من عقابه وعدله «وَطَمَعاً» بثوابه وفضله متضرعين اليه مخبتين له ومعنى الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وتوقع مكروه يحصل، والطمع توقع أمر محبوب، وأحسنوا أيها الناس لأنفسكم وغيركم بالمحافظة على الأمن لأنه إذا فقد انقطعت الطرق وقلقت الناس، وتراحموا فيما بينكم «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٥٦» أعمالهم مع أنفسهم وغيرهم الذين يتأدبون بآداب الله فلا يتجاوزون حدوده في الدعاء والعمل مع الله ولا مع عباده امتثالا لامره وأمر رسوله فهؤلاء هم المحسنون، وتفيد هذه الآية أن غير المحسنين بعيدون من رحمة الله، ألا فليتق الله الذين يسيئون ويقولون الله غفور رحيم ولا
365
يصرفون قسما من حياتهم فى عبادة الله طلبا لهذه الرحمة والمغفرة. وينبغي أن يجمعوا في طلب الرزق من الحلال ويقولوا الله كريم، ولا شك أن الله غفور رحيم ولكن هل تجد رحمة في كتاب الله مطلقة من قيد؟ كلا، فإنها في هذه الآية مقيدة بالإحسان، وفي آية ٨ من سورة طه الآتية (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)، وفي الآية ١٨ من سورة الجاثية في ج ٢ (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وكذلك غير هذه الآيات التي ستمر بك.
مطلب في الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر:
ومعنى الرحمة بالنسبة إلينا رقة في القلب تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وبالنسبة لله إنعام وإفضال على من يشاء من عباده وإيصال الخير إليهم، وجاء لفظ قريب بالتذكير لأنه مضاف إلى مذكر والمضاف قد يكتسب التذكير من المضاف إليه كما في قوله:
إنارة القلب مكسوف بطوع هوى وقلب عاصي الهوى يزداد تنويرا
فكلمة إنارة المؤنثة اكتسبت التذكير من المضاف إليها وهو القلب ولذلك جاء وصفها مذكرا كما هنا وبالعكس كقوله:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فقد اكتسب المضاف وهو حب التأنيث من المضاف إليه وهو الديار ولذلك جاء الضمير العائد إليه في شغفن مؤنثا، ولولا ذلك لقال في الأول مكسوفة وفي الثاني مشغف، وهذا أحسن ما قيل في معنى قريب من الآية المفسرة من أقوال كثيرة لا سيما وان الرحم مقارب للرحمة لفظا وقريب على صفة فعيل، وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول فلذلك جاء على صفة التذكير، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً» وقرىء بضمتين جمع بشير وبفتح الياء على المصدرين من بشر المخفف بمعنى بشر المشدد أي باشرات أو لأجل البشارة، وقرى بشرى كحبلى من البشارة أيضا، وهذه الرياح هي التي تؤثر بالإبرة المحدثة (باريمتر وو هي من معجزات القرآن العظيم)، إذ كلما أحدث أهل العصر شيئا دلنا على ما فيه
366
مما لم تعيه عقولنا قبل، راجع الآية ٤ من سورة النمل الآتية، وقرأ أهل المدينة والبصرة نشرا بالنون المضمومة وسكون الشين مثل بشرا وهي جمع نشور بمعنى ناشر وبضمتين أيضا بمعنى ناشرات ومنشورات، وهذه القراءة فيها تصحيف أي ابدال الباء بالنون، وهي شاذة مخالفة لما في المصاحف فلا عبرة بها، «بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي أمام الغيث «حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ» حملت تلك الرياح المبشرات غيما «سَحاباً ثِقالًا» بالمياه، وهذا من تدبير حكمته تعالى فإنه يحرك الرياح بشدة فتثير السحاب يدل على هذا قوله جل قوله في الآية ٢٢ من سورة الحجر في ج ٢ (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ)، ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد فيحيل تلك الأبخرة المتراصة إلى ماء ثم يسوقه إلى حيث يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بدليل قوله «سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ» ما حل لا كلا فيه لأجل إحيائه بالغيث وإنبات الزرع فيه، والبلاد الميتة كثيرة فقد يختص منها ما يريده وقد يعم رحمته عليها كلها «فَأَنْزَلْنا بِهِ» أي البلد الميت «الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ» أي الماء المنعصر من تلك السحب أشجارا فيها «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ» أي مثل هذا الإخراج بعد الاحياء «نُخْرِجُ الْمَوْتى» من قبورهم أحياء عند بعثهم بعد الموت، أي فكما نحي الأرض بعد موتها نحي الخلق بعد موتهم لا فرق علينا بينهما فاعتبروا «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٥٧» بالأمثال التي نضربها لكم لتعوا المراد منها وتتعظوا به، وقد ضربنا لكم هذا المثل يا منكري البعث وجاحدي إعادة الأجسام بأرواحها ليذكروا أن النبات عندنا بمثابة الإنسان بجامع الاعادة في كل قال تعالى «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ» تراه «يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» بتيسيره حسنا وافيا «وَالَّذِي خَبُثَ» ترابه كالسبخة من الأرض «لا يَخْرُجُ» نباته بسهولة «إِلَّا نَكِداً» عسرا بمشقة وكلفة قليلا لا خير فيه، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن، وهذا الطيب والخبيث يشملان الإنسان أيضا غالبا لأن الدّن ينضح بما فيه «كَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها المرة بعد الأخرى «لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ٥٨» نعمنا على هدايتهم للتفكر في ذلك، لأن الحكمة من تكرارها سوق همّة البشر
367
للاعتبار في مكونات الله، وهذا مثل ضربه الله تعالى هنا للمؤمن الذي يؤثر فيه الوعظ وينتفع فيه فهو كالأرض الطيبة تؤتي أكلها ضعفين، والكافر الذي لا ينجع فيه ولا يأتمر به فهو كالأرض الخبيثة فإنها تجحد البذر ولا ينفعها السقي والحرث كما لا ينفع الكافر الزجر والنهي، وبعد هذه الأمثال شرع جل شأنه يقص على رسوله حالة إخوانه الأنبياء الماضين مع أممهم ليسليه عما يراه من قومة فقال مقسمه «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً» بن لمك بن منوشلخ بن أخنوخ بن إدريس عليهما السلام وكان نجارا، وبعث على كمال الخمسين من عمره ودعا قومه تسعمائة وخمسين سنة لم يترك فيها طريقا من طرق النصح إلا أتاهم به، وحذر وأنذر وسلك اللين والخشوع طيلة هذه المدّة، ولم يؤمن من قومه إلا بعض ذويه، وعاش بعد إغراق قومه ستين سنة، فيكون عمره ألفا وستين سنة، وقيل له يا أطول الأنبياء عمرا كيف رأيت الدنيا؟ قال دخلت من باب وخرجت من آخر وهو أول نبي عذّبه الله قومه وأول من قاسى أشدّ الهوان وأكبر الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، ومع أنه عمر في الدنيا ما عمر فقد ذمها وصغرها وقصر شأنها والناس لم يتعظو فيتهالكوا عليها مع علمهم أن مصيرها الفناء «إِلى قَوْمِهِ» الذين هو
منهم مطلب قصة سيدنا نوح عليه السلام:
«فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا هذه الأصنام فإنها ليس بآلهة «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» فلا تشركوا به شيئا «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن أصررتم على ما أنتم عليه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٩٥» في الدنيا، يريد به الطوفان الذي أعلمه الله به وفي الآخرة التعذيب بالنار، قال عليه السلام إني أخاف مع أنه على يقين من ذلك إذ أوحى له به ربه، إلا أنه لا يعلم وقت نزوله أيعاجلها به أم يتأخر «قالَ الْمَلَأُ» الأشراف أولو الحل والعقد «مِنْ قَوْمِهِ» يا نوح «إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ» عن طريق الصواب لأنك تدعونا إلى شيء لم نعرفه نحن ولا آباؤنا فزيفك هذا «مُبِينٍ ٦٠» واضح لا خفاء فيه ردا على نصحه لهم وانما قالوا ذلك لأنه لما خوفهم بالطوفان رأوه يصنع السفينة في أرض لا ماء فيها، أي
368
أنك تتعب دون فائدة وهذا من الضلال لأن السفينة لا تجري على اليبس، ولم يعلموا أن الذي أمره بعملها هناك قادر على إيجاد الماء لها،
لهذا رد عليهم «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ٦١» إليكم لأرشدكم و «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» أوامره ونواهيه مما يعود لنفعكم «وَأَنْصَحُ لَكُمْ» فأرغبكم بفعل طاعته ليثيبكم عليها دار النعيم الدائم وأحذركم من معصيته لئلا يحل بكم عذابه الدنيوي ثم ترجعوا إلى عذابه في الآخرة، وهذا معنى النصح أما معنى الرسالة فهو عبارة عن تبليغ الرسول ما يوحى إليه من الذي أرسله إلى المرسل إليهم وتعريفه لهم وبيان ما يترتب عليه فعله وتركه وفعل نصح يتعدى باللام كما هنا وبغيره كقوله:
نصحت بني عوف فلم يتقبّلوا نصحي ولم تنجح لديهم رسائلي
إلا أن تعديه باللام أفصح لمجيئه بالقرآن نبع الفصاحة والبلاغة ومأخذها «وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ٦٢» من قدرته وشدة بطشه بأعدائه «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى» لسان «رَجُلٍ مِنْكُمْ» تعرفون نسبه ومكانته فيكم «لِيُنْذِرَكُمْ» سوء عاقبة عملكم وانكبابكم على الشرك «وَلِتَتَّقُوا» عقاب الله المترتب على عدم قبوله «وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٦٣» برفع العذاب المقدر نزوله عليكم في الدنيا وبإنالة الجزاء الحسن في الآخرة لأن القصد من إرسال الرسل من الله إليكم هو الإنذار بالكف عن المعاصي والركون للتقوى التي مصيرها الفوز برحمة الله «فَكَذَّبُوهُ» وجحدوا رسالته وأهانوه، فنزل بهم العذاب على الوجه المبين في الآية ٤٠ من سورة هود في ج ٢ قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ آمنوا مَعَهُ» من الغرق إذ أمرناهم أن يركبوا «فِي الْفُلْكِ» التي علمناه كيفية صنعها «وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» عن بكرة أبيهم «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ ٦٤» عن الحق وطرقه، يقال عم لعمى البصيرة وعام لعمى البصر، قال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي
وسيأتي أن عمى البصيرة يسمى عمها وسنذكر القصة مفصلة في تفسير الآية ٢٥ من سورة هود فما بعدها في ج ٢. قال تعالى «وَإِلى» قوم «عادٍ» أرسلنا ت (٢٤)
369
«أَخاهُمْ هُوداً» بن شالخ بن ارفخشف بن سام بن نوح وقيل عبد الله بن رباح ابن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح ولهذا قال أخاهم لأنه منهم، وهذه عاد الاولى وكانت منازلهم بالأحقاف، الرمل عند عمان وحضر موت راجع ما بيناه عنهم في الآية ٥ من سورة الفجر المارة وذكرهم في الآية ١٥ من فصلت في ج ٢ والآية ٢١ من الأحقاف أيضا «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ينعم عليكم فكيف تجعلون معه إلها آخر «أَفَلا تَتَّقُونَ ٦٥» ففيه وتخافون عقابه فيعذبكم كما عذّب قوم نوح وذلك لان كيفية إغراقهم مستفيضة بينهم «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» المتوغلون بالكفر لأنهم كافرون ويأمرون غيرهم بالكفر بهود عليه السلام ويصدّونهم عن سماع نصحه والإيمان بربه «إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ» خفة عقل وسخافة رأي وحمق، وإنما قالوا له ذلك لأنه زيّف لهم عبادتهم ونسبهم للسفه وقلة العقل وعدم انصياعهم باتخاذ ربّ واحد فقابلوه بالمثل وزادوا عليه قولهم «وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ ٦٦» في ادعائك الرسالة من الله لأنّك رجل مثلنا «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ» واني رجل مثلكم حقا «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ٦٧» أرسلني لنصحكم وأمرني «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» التي خيرني بها عليكم «وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ٦٨» على تبليغها كما تلقيتها، وإنما قال أمين لأن إعلامهم بامانته واجب عليه ليعلموا أن ما يأمرهم به هو من أمر الله بلا زيادة ولا نقص وانه لم يأتهم بشيء من عند ولا ليمدح نفسه ولا بمقابلة قولهم «إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ» لأن من أدب الأنبياء وحسن خلقهم ترك المقابلة بالسوء وكظم ما يسمعونه من النقد والإغضاء عن حقارتهم لهم لأن أقوالهم تصدر عن حلم وأناة، وأقوال الكافرين من قوم عن جهل وسفاهة، وفيه تعليم للمقدرين للنصح والإرشاد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم، والفرق بين قول نوح أنصح وقول هود ناصح لأن قول نوح كان متماديا ليل نهار كما أخبر عنه ربه بقوله «إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» الآية ٥ من سورته في ج ٢، وقول هود منقطع ولأنه لم يعش فيهم ما عاش نوح
370
وان صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة بخلاف صيغة اسم الفاعل لدلالتها على الحال فقط. ثم قال لهم «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ» المراد به هنا وفي الآية المنقدمة ما أرسلا به وأنزل عليهما من الله كما يقال للقرآن ذكر وقد يفسّر بالموعظة «مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ» بأس الله وعذابه قصد نجاتكم «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ» ربكم «خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» في أرضه ومكنكم إياها بعد إهلاكهم إذا لم يبق من قومه الا من ركب السفينة وهم ثمانون نسمة. وقد سميت الأرض التي نزلوا بها قرية الثمانين وهي معروفة حتى الآن بلفظ كردي «هشتاند» في الجزيرة قرب جبل الجودي الذي رست عليه «وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» طولا وقوة وكثرة عليهم، قيل كان طول أحدهم ما بين اثنى عشر ذراعا وستين ذراعا «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» نعمه المترادفة عليكم «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٦٩» تفوزون برضائه لأن ذكر النعم يفضي إلى شكرها المؤدي إلى النجاة في الآخرة والزيادة في الدنيا، راجع الآية ٧ من سورة ابراهيم في ج ٢ «قالُوا أَجِئْتَنا» كان له صلّى الله عليه وسلم معبدا يتعبد به قبل الرسالة فلما شرفه الله بها جاءهم ليأمرهم وينهاهم حسب تعاليم ربه التي تلقاها لذلك قالوا له أجئتنا من معبدك «لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ» كما تزعم أن ليس رب غيره «وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة عن طريق الاستفهام الإنكاري لاستبعادهم اختصاص العبادة بإله واحد وترك الأوثان والشرك الذي نشأوا عليه من قبل بعثته. ومثله من هذه بالجهة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم إنه كان اتخذ غار حراء معبدا واعتزل قومه الذين كانوا يعكفون على عبادة الأصنام، حتى جاءته النبوة فيه فأنذر بها قومه وقالوا له مثل ما قالوا له آنفا، وقالوا له أيضا «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٧٠» في ادعائك
الرسالة من الله إلينا وأن العذاب سينزل علينا ان لم نصدقك ونؤمن بربك
«قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ» رجز أي عذاب عظيم أبدلت الزاي سينا فيه وأصل الرجس الاضطراب ثم شاع في معنى العذاب لاضطراب من يحل، به وقال بن زيد، الرجس بمعنى العذاب في كل القرآن مأخوذ من الارتجاس وهو الارتجاز «وَغَضَبٌ» سخط
371
وطرد «أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ» لأحجار تعبدونها «سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» آلهة وهي خلو من اسمها ومعناها، لا دليل لكم عليها باستحقاق العبادة لأنها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع، فتسميتكم لها آلهة «ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» حجة أو برهان بل ابتدعتموها ابتداعا وكذلك آباؤكم الذين قلدتموهم بعبادتها لهذا أنصحكم أن تقلعوا عنها وتؤمنوا بالإله الواحد وإذا بقيتم مصرين على ذلك «فَانْتَظِرُوا» نزول العذاب من ربي بكم «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ٧» وقوعه إيفاء لوعيد الله لكم ووعده لي باهلاككم ونجاتي وفي هذا تهديد شديد لهم ان لم يرجعوا عن كفرهم ويؤمنوا به وبربه وقد أوقعه عليهم بدليل قوله «فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» لمن صدق وآمن بوعدنا ووعيدنا «وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا إنجازا لوعدنا له فأنزلنا بهم العذاب المترتب على تكذيبهم لنبيهم وعدم اكتراثهم به وأهلكناهم جميعا إهلاك استئصال لأن الدابر أصل الشيء أو الكائن خلفه فقطع دابرهم كناية عن تدميرهم عن آخرهم. ولهذا فإن عادا الأولى لا خلف لها «وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ ٣٢» بي ولا بالذي أرسلته إليهم ونفي الإيمان عنهم مع تكذيبهم اشعار بأنهم خصوا بالهلاك لإصرارهم على الكفر ولو لم يهلكهم لبقوا مصرين عليه ولم يؤمنوا، فهو كالعذر في عدم الصبر عليهم.
مطلب قصة هود عليه السلام:
وخلاصة القصة أن قوم هود تبسطوا في الأرض وعتو عتوا شديدا بما أعطوه من القوة والمال والكثرة، وكان لهم ثلاثة أصنام الصداء والصمود والهباء، وقد تغالوا في عبادتها وكان هود عليه السلام اعتزلهم إلى أن أرسله الله إليهم فأبدى لهم نصحه وخوّفهم وحذرهم مرفضوا الإصغاء إليه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، وكانت عادتهم إذا نزل بهم بلاء فزعوا الى بيت الله الحرام يطلبون الفرج منه عند بيته، ولما طال عليهم الأمر أوفدوا سبعين رجلا من خيارهم الى بيت الله برئاسته قيل بن عنتر ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان مؤمنا يكتم إيمانه
372
مثل مؤمن آل فرعون الذي سخره الله لموسى عليه السلام، فنزلوا على معاوية ابن أبي بكر عميد العماليق نسبة الى جدهم عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وهم أخوال معاوية هذا، حينما كان مخيّما بظاهر مكة شرفها الله، وهو يومئذ سيد مكة، فأبطأوا عنده يشربون الخمور ويأكلون السمين ويسمعون غناء الجرادتين ومن جملة ما غنتهم به قول معاوية المذكور الذي علمه لهما وأمرهما بغنائه ليتيقظوا من غفلتهم وليحرضهم على إيفاء ما جاءوا لأجله من عند قومهم وهو:
ألا يا قيل ويحك قم وهينم لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس ترجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير فقد أمست نساؤهم أيامى
وان الوحش تأتيهم جهارا ولا تخشى لعاديّ سهاما
وأنتم هاهنا فيما أتيتم نهاركم وليلكم تماما
فقبّح وفدكم من وفد قوم ولا لاقوا التحية والسلاما
ولما فرغتا منه تيقظوا وقال لهم مرثد والله لا تسقون ما لم تطيعوا نبيكم هودا وأظهر إيمانه وطفق يلومهم بقوله:
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال لهم صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد وأبصرنا الهدى وجلي العماء
وإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء
فقد حكم الإله وليس جورا وحكم الله ان غلب الهواء
على عاد وعاد شر قوم فقد هلكوا وليس لهم بقاء
واني لن أفارق دين هود طوال الدهر أو يأتي الفناء
ثم بادر بإرشاد الوفد لطاعة هود فلم يفعلوا وردّوا عليه شر ردّ وبقوا مصرين
373
على كفرهم وعبادة أوثانهم وأنفتهم من اتباع هود وقال طهمة بن البحري يرد على مرثد بن سعد.
الا يا سعد إنك من قبيل ذوي كرم وانك من ثمود
فإنا لا نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين قوم ورمل والصداء مع العمود
ونترك دين آباء كرام وذي رأي ونتبع دين هود
وقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا وخرجوا الى مكة ولما توسطوا الحرم قال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وأتى على دعائه الوفد كله ثم لحق بهم مرثد حيث أطلقه معاوية بعد ذهاب الوفد من عنده ورفع يديه الى الله وقال اللهم اعطني سؤلي برا وصدقا ولا تدخلني فيما يدعونك، فأعطي سؤله، ثم جاء لقمان بن عاد وهو سيدهم أي سيد الوفد وقال: اللهم إني جئنك وحدي في حاجتي فأعطني طول العمر، فأعطى عمر سبعة أنسر، عاش كل واحد ثمانين سنة آخرهم اسمه لبيد، وقال قيل اللهم إني اختار لنفسي ما يصيب قومي، فقيل له إنه الهلاك، فقال:
لا أبالي لا حاجة لي بالبقاء بعدهم، فأجاب الله لكل دعوته. هذا، وليعلم أن قلوب الكفرة لا تزال متشابهة قال تعالى (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ١١٨ من البقرة في ج ٣ لأن ردّ الكافرين لأنبيائهم قديما متشابه وحتى الآن «وقد كانت عندي خادمة من الأرمن من الذين اضطرهم الأتراك للهجرة وصاروا يأخذون منهم طائفة طائفه الى الجزيرة فتعدمهم وجئت يوما للدار فرأيت الخادمة تهيىء نفسها للسفر مع طائفتها، فقلت لها إن ذهبت قتلت وأنا أقدر على إبقائك عندي، فقالت لا عيش لي بعد قومي، فذهبت وقتلت معهم» ولما خرجوا من مكة ووصلوا الى خوصهم هلكوا معهم جميعا إذ ظهرت عليهم سحابات ثلاث حمراء وبيضاء وسوداء، فاختار قيل السوداء لزعمه أكثر ماء واستبشر بها وقد أخبر الله عنهم في الآية ٢٤ من سورة الأحقاف في ج ٢ بقوله «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» فجاءهم ريح عقيم استمرت سبع ليال وثمانية أيام، فأهلكتهم جميعا وارتحل مرثد مع جملة المؤمنين صحبة نبيهم هود
374
الى مكة وبقوا فيها الى أن ماتوا جميعا رحمهم الله. قالوا: وان كل نبي إذا منا أهلك الله قومه يأتي إلى مكة مع قومة المؤمنين يعبدون الله فيها حتى يموتوا، وقد في المقدمة أن هذه القصص لا يعتمد على صحتها لأنها من نقل الأخباريين، وانا نأخذ خلاصة ما لا مبالغة فيه وننبه القارئ ليكون على علم منه ونكفيه مؤونة تشوقه لقراءتها في تفاسير أو قصص مشحونة بما لا يعقل، وممزوجة بما لا يجوز قراءته: قال تعالى «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» في النسب لا في الدين وهو ابن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن جاوز بن ثمود ابن غابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» على صحة رسالتي وهي «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» أخرجها «لَكُمْ آيَةً» على صدقي «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» من ضرب أو منع من شرب أو مرعى فاذا فعلتم بها شيئا من ذلك «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٧٣» لا تطيقه أجسامكم ولا يقيكم منه أحد ولا مرد له من الله «وَاذْكُرُوا» يا قوم «إِذْ جَعَلَكُمْ» الله ربي الذي ادعو لعبادته «خُلَفاءَ» في الأرض «مِنْ بَعْدِ عادٍ» وقد علمتم ما حل بهم من العذاب «وَبَوَّأَكُمْ» أنزلكم «فِي الْأَرْضِ» أي أرض الحجاز لأن ثمد نسبة الى ماء بين الشام والمدينة من أرض الحجاز وجعلها منازل لكم وملككم إياها «تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً» ذات غرف عالية تصيفون فيها «وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» ناحية ذات حجر تشتون فيها، وهذا مما يدل على زيادة ترفهم ونعيمهم في الدنيا بالنسبة لوقتهم «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» نعمه المترادفة عليكم طلبا لدوامها، وفيها حث من الله لعباده على شكر نعمه وحق لها أن تشكر لأن الشكر يزيدها كما نوهنا عنه آنفا في الآية ٦٩ المارة فراجع ما ذكرناه هناك «وَلا تَعْثَوْا» تكثروا الفساد وتأتوا بأشده وأفظعه «فِي الْأَرْضِ» التي منحكم الله إياها وغيرها مما كانت في تلك الغير حالة كونكم «مُفْسِدِينَ ٧٤» فيها فإن مطلق الإفساد يزيل النعم عنكم ويعرضكم للهلاك ولا تكفروا فان الكفر يمحقكم «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» عن دعوة صالح الصالحة وأنفوا من إرشاده الحق «مِنْ
375
قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا»
الفقراء مالا ورجالا «لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» به عليه السلام من المستضعفين وهذه الجملة جاءت بدلا من الجملة قبلها على طريق الاستفهام الإنكاري «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بهم لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ومعتقدون به، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، إذ لم يقولوا لهم، نعم بل «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ٧٥» مصدقون وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا لهم نعلم بإرساله. وبما أرسل به ولا نشك بما جاء به ونخبركم انا مؤمنون به لأن الإيمان به واجب فهل تؤمنون به مثلنا فأجابوهم أيضا بمثل جوابهم بمقتضى الظاهر فبذل ان يقولوا لهم انا بما أرسل به مؤمنون «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأولئك المستضعفين «إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ٧٦» وفائدة هذا الرد على ما قاله. المؤمنون من جعلهم إياه معلوما ومعلما عندهم، أي أن الذي فلتموه ليس معلوما عندنا ولا مسلما، وبما أن جواب المؤمنين لم يزدهم إلا عتوا اتفقوا على مخالفة رسولهم «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» التي هي آيته أي قطعوا عروقها وهم قد ذبحوها ذبحا وسمي النحر عقرا لأن الناحر يعقر البعير
أولا ثم ينحره أي أنهم عقروها ثم ذبحوها «وَعَتَوْا» ازداد استكبارهم «عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب الذي تهددنا به «إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ٧٧» من قبل الله كما تزعم فدعا ربه «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» خفقان القلب من أثر الزلزلة الشديدة الناشئة من الصيحة إذ جاء في ٤٣ من سورة الذاريات في ج ٢ الآية وكذلك في سورة المؤمنين الآية ٤١ «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» والصيحة الشديدة يحصل منها الخفقان من شدة الخوف لأنها خارقة للعادة كيف لا وهي من السيد جبريل عليه السلام الذي وصفه الله بالقوة فلا بدع أن تزلزل الأرض منها ويضطرب من عليها «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ٧٨» على ركبهم ميتين وهم قعود، والجثوم للناس والطير ولبقية الحيوانات البروك «فَتَوَلَّى» صالح «عَنْهُمْ» لما رأى ما حل بهم وصار يخاطبهم آسفا على عدم ايمانهم به وهو مدبر عنهم وهذا كما فعل رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم مع أهل القليب، راجع الآية ٨ من سورة الأنفال في ج ٣
376
«وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي» بإرسالي من لدنه إليكم «وَنَصَحْتُ لَكُمْ» بأن تؤمنوا به وحذرتكم غليظ عذابه «وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ٧٩» بل تبغونهم وتعادونهم شأن أمثالكم الكفرة.
مطلب قصة صالح عليه السلام:
وخلاصة القصة أن قبيلة ثمود لما ملكت الأرض بعد عاد كثروا وعمروا كثيرا فعكفوا على عبادة الأصنام، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله لهم صالحا فصار يدعوهم الى طريقه السوي ويأمرهم بترك الإفساد فلم يقبلوا ولم يؤمن منهم الا قليل من فقرائهم، وقد كبر سنه عليه السلام وألح على قومه بترك عبادة الأوثان والإفساد فطلبوا منه آية على صدقه بأن يخرج لهم من صخرة كبيرة عند الحجر تسمى الكائية ناقة عشراء جوفاء وبراء مخرجه تشاكل البخت من الإبل، ذات السنامين ويؤمنوا به، فقبل منهم وأخد عليهم العهود والمواثيق على ذلك فصلّى ودعا ربه، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له فأجاب الله دعاءه وخيّبهم وأوثانهم، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل ذات السنامين ويؤمنوا به، فقبل منهم وأخذا عليهم العهود والمواثيق على ذلك. فصلّى ودعا ربه، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له، فأجاب الله دعاءه او خيبهم وأوثانهم، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل رجعلها الله معجزة عظيمة له وهي نفسها معجزة أيضا، لأن ثمود لهم ماء يشربون منه هم وحيواناتهم يوما وهي تشرب بقدر ما يشربون جميعا، وكانوا يحلبونها يوم شربها فيكفيهم حليبها كلهم وكانت تمنع الحيوانات عن شرب الماء في نوبتها وهذه الخصال دلت بأنها من أعظم المعجزات وأكبر الآيات فآمن به قليل من قومه وازداد الآخرون عتوا، وبما أنهم الأكثر قر رأيهم على ذبحها فذبحوها بداعي أنها تقاسمهم الماء وكأن الحليب الذي يأخذونه منها لا يكفيهم عنه قاتلهم الله. روى البخاري ومسلم عن عيد بن زمعة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال صلّى الله عليه وسلم «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» أي قام بسرعة لها رجل عزيز عادم «أي خبيث شرير» منيع «أي ممتنع طويل لا يقدر عليه من أراده» في رهطه مثل أبي زمعة وتقدم ما فيه، في الآية ١١ من سورة والشمس المارة. قال الأخباريون والقصاص إن إهلاكهم كان يوم الأربعاء وان عاقرها قدار بن سالف اغرته عنيزة بنت غانم
377
بإحدى بناتها إن هو عقرها ففعل، فقالوا ان سقبها أي حوارها لما رأى ما حل بأمه هرب، وأخبر صالحا به أهل البلدة حينما جاءوا يعتذرون منه لعدم مباشرتهم عقرها، فقال لهم أدركوا فعيلها لعل الله أن يرفع عنكم العذاب. فلحقوه فاذا هو قد اعتصم بجبل عال عجزوا عن تناوله، فذهب اليه صالح فلما رآه صار يبكي ثم رغا ثلاثا وانفجرت الصخرة التي خرجت منها أمه، فدخلها وانضمت عليه، كما ابتلعت أمه الأرض، وأنزل الله بهم العذاب المذكور. انظروا أيها الناس، أخرج الله لهم ناقة حسب طلبهم معجزة لنبيهم وصاووا يشربون كلهم من حليبها، فقتلوها بحجة أنها تصيف في الحر في ظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم، وتشتي في بطنه فتهرب منها مواشيهم، فتهلك من الحر والبرد، وكان لا مأوى لدوابهم غير ذلك الوادي في أرض الله الواسعة. والحق إن الذي حدا بهم لقنلها لا قضية الماء ولا المواشي بل هو غضب الله عليهم وسخطه من أعمالهم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال لما مر رسول الله بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم رفع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي. وللبخاري أنه لما نزل صلّى الله عليه وسلم الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها، فقالوا قد عجنا منها وملأنا أسقيتنا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهرقوا ذلك الماء. وروى أن أشقى الأولين عاقر الناقة، وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله وجهه. والفرق بين جزاءيهما كالفرق بين الناقة وعلي قال تعالى «وَلُوطاً» ابن هاران بن تارخ بن أخي ابراهيم عليهما السلام «إذ قال لقومه حين أرسل إليهم بعد أن هاجر مع عمه إبراهيم إلى الشام ونزل إبراهيم بفلسطين ولوط بالأردن بقرية تسمى سدوما «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» اللواطة بالذكور سميت فاحشة، لأن هذه الفعلة الخبيثة غاية في القبح ولم تعهد قبلا كما يدل عليه قوله تعالى «ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ» قبلكم وجيء بمن للتأكيد مثل قوله تعالى (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) الآية ٢١ من سورة المائدة في ج ٣ تأكيدا للنص «مِنَ الْعالَمِينَ ٨٠» أي بعضهم
لأن منهم من لم تخلق فيهم الشهوة فكانت هنا للتبعيض ثم وبخهم بالاستفهام
378
التقريعي بقوله عز قوله «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» أي أترون أن أدبار الرجال أشهى لكم من فروج النساء لا ليس الأمر كذلك
«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ٨١» متجاوزون الحلال إلى الحرام ولذلك آثرتم الدبر على الفرج، وإنما ذمهم الله لأن القصد من وضع الشهوة في الإنسان طلب الولد وبقاء النوع الإنساني وتكاثره لعمران الدنيا إلى أجل أراده الله، فإذا عدل عن هذا القصد تعطل الكون وكانت تلك الشهوة بهيميّة محضة، ولهذا خصهم الله بالإسراف لأنه وضع الشيء بغير محله «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه تعنيفه لهم على قبح فعلهم ونصحه لهم بتركه «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض «أَخْرِجُوهُمْ» أي لوطا ومن آمن به «مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ٨٢» من صنيعكم ويتنزهون مما أنتم عليه. قال ابن عباس عابوهم بما يمدح به قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها لم تؤمن به وكانت تخبر قومها بمن يأتيه من الضيفان وتحرضهم عليهم لذلك «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ٨٣» الباقين مع المعذبين من قومها ولم يقل من الغابرات، لأنها هلكت مع الرجال المغلّب ذكرهم على النساء، والغبر البقاء يقال غبر في داره إذا بقي «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» عظيما مهولا لأنه مطر عذاب لا مطر رحمة، والننوين يدل على شدة فظاعته، وقلّ أن يأتي المطر بمعنى الغيث بل قد لا يوجد في القرآن إلا بمعنى العذاب، وأمطر بمعنى أرسل، ومطر بمعنى أصاب، فيكون مطر الرحمة وأمطر للعذاب «فَانْظُرْ» أيها العاقل المفكر «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ٨٤» فهي شيء عظيم لا تتصوره العقول، هذا ما قصه الله علينا من خبر لوط عليه السلام مع قومه.
مطلب قصة قوم لوط عليه السلام:
وقال الأخباريون كانت المؤتفكة خمس مدائن بين الشام والمدينة مخصبة ذات زروع وثمار، فآذاهم الناس بالأخذ منها فعرض لهم إبليس وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا (ودعاهم إلى نفسه فلاطوا به علّمهم لعنه الله هذه الفعلة الخبيثة ابتداعا من حيث لم تخطر ببالهم، فهو أول من ليط به لأنه كان يظهر لهم على صورة البشر)
379
امتنعوا من التعدي على ثماركم ونجوتم بها، فأطاعوه وعملوا بما أشار به عليهم فهو أول من سن هذه السنة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وصاروا كلما مرّ بهم أحد تعاونوا عليه وفعلوا به، فكان لهم ما قال اللعين، لأن الناس امتنعت حتى من المرور على قراهم لأنهم رأوا ما لم يسمعوا به من الخزي والعار، وداموا عليه حتى استحكم فيهم هذا الفعل القبيح، واستحسنوه حتى صاروا يفعلونه ببعضهم وبنسائهم أيضا، فأهلكهم الله بعد أن وقع منهم التعدي على لوط وضيفانه من الملائكة، كما سيأتي في تفسير الآية ٧٧ من سورة هود في ج ٢، وكيفية إهلاكهم كما قال مجاهد أن جبريل عليه السلام نزل إلى الأرض فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها من تحت الثرى ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بما أمطروا من الحجارة.
الحكم الشرعي: الحرمة القطعية ويكفر مستحله. قال في التتارخانية نقلا عن السراجية: اللواطة بمملوكه ومملوكته حرام، وكذا امرأته، إلا أنه لا يكفر مستحلّه، وهذا بخلاف اللواطة بالأجنبية والأجنبي فإنه يكفر مستحلّه قولا واحدا، قال الإمام الأعظم لا حدّ بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. وقال الإمامان: إن فعل بالأجانب حدّ كحد الزنى، وإن في عبده وأمته وزوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حدّ اجماعا، كما في الكافي وغيره بل يعزّر في ذلك كله ويقتل من اعتاده، وروي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط بإمطار الحجارة عليهم، وقد أخرجه البيهقي وصححه الحاكم وعليه فيكون حدّه الرجم. هذا، وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنته على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحدة لعنة لعنة، فقال ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط) الحديث. وجاء أيضا (أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخطه) وعدّ منهم من يأتي الرجل-. وزعم علي بن الوليد المعتزلي أنه لا يمتنع أن تجعل اللواطة في الجنة لزوال المفسدة، ولأنها من جملة
380
الملاذ وليس هناك أذى أو قطع نسل ولذلك أبيح شرب الخمر فيها للذة إذ ليس هناك زوال عقل ولا عربدة، فقال له أبو يوسف القزويني الميل إلى الذكور عادة قبيحة والمحل (الدبر) لم يخلق للوطء، فلم تبحه شريعة ما، بخلاف الخمر فإنه خلق للشرب وأباحته بعض الشرائع قبل الإسلام، بل أوله كان مباحا، ومهما كان فلا يقاس قبح اللواط بالخمر.
مطلب رد أبي يوسف على المعتزلي:
وانكار قبح اللواطة مكابرة، وكانت الجاهلية مع ارتكابهم كافة المفاسد تعيّر بها فيقولون فلان معفر استه بمعرض الذم، وإذا كنت يا ابن الوليد ترضى به اليوم فهل ترضى به غدا في الجنة، وذلك لأنه كان مأبونا قد ألف ذلك واعتاده والعياذ بالله، فجرّه اعتياده إلى الجرأة على القول بأن هذه الفاحشة الخبيثة من ملاذ الجنة المطهرة من الأرجاس، قبحه الله وقبح فاعليها ومحبذيها. وقد صحح العلماء الأعلام أنها لا تكون في الجنة قطعا لأن الله سماها فاحشة هنا وخبثا في الآية ٧٣ من سورة الأنبياء في ج ٢، والجنة منزهة عن الفواحش والخبائث، قال بعض العارفين والله الذي لا إله إلا هو لو لم يذكر الله عمل قوم لوط في كتابه ما خطر ببالي كونه واقعا أو يقع، وذلك لطهارة سريرته وكماله، لأن الكامل لا يرى النقص، وألحق بعض العلماء السّحاق باللواطة، وبدأ أيضا في قوم لوط، لأن رجالهم لما استغني بعضهم ببعض بعد أن ألفوا اللواطة تركوا نساءهم، فصارت المرأة منهم تأتي الأخرى. جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وعن أبي عمرة قال: قلت لمحمد بن علي، عذب الله نساء قوم لوط بعمل رجالهم، فقال له: الله أعدل من ذلك، استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فعذبهن كما عذبهم جزاء وفاقا.
وعن علي كرم الله وجهه قال على المنبر سلوني، فقال ابن الكواء هل تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال سفلت وسفّه الله بك، ألم تسمع قوله تعالى (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) هذا وإن العلماء صرحوا بأن حرمة اللواطة أشدّ من الزنى عقلا وطبعا وشرعا،
381
أما عقلا وطبعا فإن العقول السليمة والطبيعة الطاهرة لم تألفه لشدة قبحه فعلا ومحلا، وأما شرعا فلأن حرمة الزنا تزول بالتزويج والحد والشراء إذا كان المفعول به رقيقا ولا يمكن شيء من ذلك في اللواطة. وقول الإمام بعدم الحدّ تعليظا لأن الحد مطهر عنده، وبه قال أكثر العلماء، وعليه فيلقى الله من أجري عليه الحد خاليا مما عمله بخلاف ما لا حد فيه كاللواطة، فإنه يلقى الله فاعلها ملوثا بجرمه.
هذا، وإن بعض السفهاء والفسقة خبيثي النفوس نجسي العقيدة كابن الوليد المذكور أخزاهم الله جميعا وأذلهم، يفتخرون بمثل هذه الفعلة الفظيعة ومنهم يفعلها انتقاما انتقم الله منه في الدنيا والآخرة، ومن المفعول بهم من اتخذها مهنة، أهانه الله، ومنهم من يقدم نفسه لبعض الخبثاء أمثالهم من الموظفين ومن هو واسطة لهم لعنهم الله وأزال نعمه عنهم ليوظفه أضافه الله لإخوانه قوم لوط، وفضحهم في الدنيا وعذبهم في الآخرة، ومنهم من ابتلي بها والعياذ بالله حتى أنهم ليعطون مالا لمن يفعل بهم وهم كثيرون في زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، لأنهم تقوا بنعمتك على معصيتك. قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» بن ثوبب بن مدين بن إبراهيم عليهما السلام، أي أرسله إلى قومه ولد مدين ومدين صارا اسما للقبيلة، وكان عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وكانوا كافرين ينقصون الكيل ويبخسون الميزان، فبادر بنصحهم وتحذيرهم عاقبة أمرهم «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ» موعظة «مِنْ رَبِّكُمْ» فاتعظوا بها، ولم تذكر لسيدنا شعيب معجزة في القرآن والقول بأنه لم يكن له معجزة غلط لأن الفاء في قوله جل قوله «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ» أتت لترتيب الأمر على مجيء البينة، والقول بأنها عاطفة على (اعْبُدُوا) بعيد لا يكاد يقوله عارف، وعدم ذكرها في القرآن لا يدل على عدم تخصيصه بشيء من المعجزات التي لا بد لكل نبي منها دلالة على صدق دعوته مما من شأنه أن يعجز البشر على مثله، ومن المعلوم أن ليس كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن العظيم وما من عموم إلا وقد خصص، وروي أنه لما كان موسى عليه السلام عنده
382
يرعى بغنمه حاربت عصاه التنين، وهذه العصا أعطاه إياها شعيب عليه السلام وهي عصا آدم، وقد وقعت على يد موسى سبع مرات وهو عند شعيب، وقد وعد موسى بأن يكون له الدرع من أولاد غنمه، فولدت كلها درعا، وهذه معجزة أيضا إذ لم يسبق أن أغناما كثيرة تلد كلها درعا على نمط واحد، ولم يكن موسى إذ ذاك نبيا لتكون هذه المعجزات له، فتكون كلها لشعيب. هذا، وبعد أن أهلك الله قومه أرسله إلى أصحاب الأيكة فأهلكهم الله بعذاب يوم الظلة كما سيأتي في الآية ١٨٩ من سورة الشعراء الآتية، ولم يبعث الله نبيا مرتين غيره فهذا من خصائصه أيضا وهي فضيلة عظيمة، وقيل إنه بعث مرة ثالثة إلى أصحاب الرّس المبينة في الآية ١٢ من سورة ق المارة، وإن إهلاك قومه مرتين لعدم اجابتهم دعوته بعد معجزة أيضا.
مطلب في عمى شعيب عليه السلام:
وهنا مسألة وهي أن العلماء نصّوا على أن الأنبياء سالمون من كل عيب ونقص حسي أو معنوي، ولا شك أن العمى نقص حسي، ومما هو شائع أن سيدنا شعيب كان أعمى، فإذا صح ذلك فيكون هذا طارئا عليه بعد النبوة كبلاء أيوب وعمى يعقوب عليهم السلام، إلا أن بلاء أيوب وعمى يعقوب زالا بحياتهما بنص القرآن لأنه من جملة ما ابتلى به أصفياءه ليختبرهم أي ليظهر للناس حالهم معه مع وجود البلاء وإلا فهو عالم بهم قبل، فلو كان عمى شعيب من هذا أقيل لذكره الله في القرآن كما ذكر بلاء غيره، وإذ لم يذكره فلا محل للقول بعماه، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٨٤ من سورة يوسف في ج ٢ والآية ٢٥ من سورة القصص الآتية، فظهر من هذا أنه لو كان أعمى حقيقة لما أغفله القرآن، وعليه فإن القول بعماه غير صحيح، قال تعالى «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ: أَشْياءَهُمْ» حقوقهم في الكيل والوزن والذرع وغيره أي لا تقصوها، أدوها كاملة وافية فإنه أبرأ الذمة.
وأمرأ للقلب «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بأن تسلبوا أو تقتلوا أو تؤذوا المارة والقارّة من العباد «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل الذين أقاموا فيها العدل بين الناس وحاربوا الفساد والظلم، بل اسلكوا طريقهم أيها الناس في الإصلاح النافع
383
ذكره في الدارين «ذلِكُمْ» عدم البخس والنقص والإفساد «خَيْرٌ لَكُمْ» عند بارئكم وأنمى لأموالكم وأصلح لنفوسكم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨٥» بالله وما أقوله لكم عنه «وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ» طريق عام أو خاص والباء هنا للملاصقة والملابسة، والأولى أن تكون بمعنى، على، لمناسبة فعل قعد، أي لا تقعدوا على مطلق طريق بدلالة التنوين «تُوعِدُونَ» من آمن بي وتهدّدونه لتعيدوه إلى الكفر الذي أنتم عليه وتمنعون الآخرين من الإيمان بالله وبما جئتكم به منه «وَتَصُدُّونَ» العامة والخاصة «عَنْ» سلوك «سَبِيلِ اللَّهِ» المستقيمة الحقة «مَنْ آمَنَ» به «وَتَبْغُونَها» أي طريق الله العادلة «عِوَجاً» مائلة عن الصواب، وتلتمسون الزيغ لها وتصفونها للناس بالاعوجاج وعدم الاستقامة لئلا يسلكونها، راجع الآية ٤٥ المارة والآية الأولى من سورة الكهف في ج ٢، قال ابن عباس كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى إليهم أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، وهكذا كانت قريش تفعل بمحمد صلّى الله عليه وسلم كما سيأتي في الآية ٧٠ من سورة النمل الآتية أيضا «وَاذْكُرُوا» يا قوم توالي نعم الله عليكم وأفضاله «إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» في العدد والعدد والقوة والمال والأولاد والعز لأن كثر المشدد يدل على التكثير، قالوا إن مدين بن ابراهيم تزوج بنت لوط فرمى في نسلها البركة وهذا مما يستوجب شكر الله، يا قوم فمالكم تكفرون به ولا تفكرون بعاقبة أمركم فتلتفتوا «وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ٨٦» من الأمم السالفة حيث أهلكهم الله حينما كذبوا رسلهم «وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» في التوحيد والتصديق بالنبوة والمعاد واجتناب المناهي وامتثال الأوامر «وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا» بشيء من ذلك أو اختلفتم بينكم من أجل الإيمان بذلك وعدمه «فَاصْبِرُوا» انتظروا أيها المعاندون «حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا» وتروا حكمه كيف يعزّ المؤمن ويذل الكافر «وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ٨٧» لأنه منزه عن الجور والحيف في حكمه وهو الحاكم الحقيقي الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ له، وما سمي الناس حكاما إلا مجازا «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» جوابا لنصحه وتهديده، والله إن لم ترتدع
384
«لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» ما دمت مناوئا لنا ولآلهتنا وعاداتنا «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» فتكون مثلنا تعمل ما نعمل وتترك ما أنت عليه، كلفوه عليه السلام اختيار أحد الأمرين مع أنه لم يكن على ملتهم قط حتى يكلفوه العودة إليها. ولكن الذين آمنوا به كانوا على ملتهم فخاطبوه تبعا لهم، وقال بعض المفسرين إنّ عاد بمعنى صار واستشهد بقول القائل:
فإن لم تك الأيام تحسن مرة اليّ فقد عادت لهن ذنوب
أي صارت وعليه يكون المعنى أو لتصيرنّ على ملتنا «قالَ» لهم شعيب عليه السلام على طريق الاستفهام الإنكاري «أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ٨٨» أي أتريدون أن نفعل أحد الأمرين كرها لأن الواو هنا للحال، وكأنهم قالوا له نعم كرها فقال عليه السلام «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فيما وعظناكم به «إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ» الضالة المهلكة «بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» واتضح لنا بطلانها وقد نظم نفسه في جملة المؤمنين مع أنه كان بريئا مما كانوا عليه لأن الكفر على الأنبياء محال، ولكنه تكلم بلسان قومه المؤمنين مجريا الكلام على حكم التغليب «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها» وهي ملة الكفر ونترك الحق الذي نحن عليه «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» خذلاننا ومنعنا من الطاقة القدسية، فحينئذ يمضي فينا قضاؤه وقدره تنفيذا لسابق علمه، وهذا القول من شعيب على لسان قومه المؤمنين أيضا الذين لا يقدرون أن يردوا عليهم لضعفهم وهو من قبيل الاستسلام لمشيئة الله، لأن الأنبياء والكاملين دائما يخافون العاقبة وانقلاب الأمر لعلمهم ان الإله لا يقيد ولا يسأل عما يفعل، فإن العبد كلما ازداد قربا من ربه ازداد خوفا منه ومعرفة بعظمته. قال الخليل عليه السلام «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» الآية ٣٥ من سورة ابراهيم في ج ٢ وكان محمد صلّى الله عليه وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ومن المعلوم بداهة ان ابراهيم يجتنب الأصنام وان محمدا ثابت قلبه على دين ربه، وعليه يكون معنى الاستثناء: إلا أن يكون قد سبق في علمك ومشيئتك أن نعود فيها. يدل على هذا قوله «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ت (٢٥)
385
بما كان قبل أن يكون وما سيكون قبل تكوينه. ونظير هذا قول إبراهيم في الآية ٨٠ من سورة الأنعام في ج ٢ لأنه لما ردّ الأمر الى المشيئة وهي غيب عليه مجد الله بالانفراد بعلم الغيب، وكذلك شعيب لما رد المشيئة الى الله مجده بقوله وسع إلخ وقال «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» في أمورنا كلها فقد أظهر عجزه لله واعتماده عليه وحده وأعرض عن المفاوضة مع الكافرين إذ رأى إصرارهم وأيس من ايمانهم، ثم قال هو والمؤمنون به «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا» الذين لم يؤمنوا بك وهم مكلفون أن يؤمنوا إيمانا «بِالْحَقِّ» الواجب عليهم اتباعه وسلوكه «وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ٨٩» الحاكمين، وفتح هنا بمعنى حكم وقضى بلغة اليمن وفرقة من حمير ومراد قال قائلهم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا فإني عن فتح حكم غنيّ
أي غني عن قاضيهم وإن اهل عمان يسمون القاضي فاتحا، ويؤذن قوله عليه السلام بانه ترك الأسباب الى مسبها واقبل الى ربه بمن معه «وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» لبعضهم «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً» وتركتم دين آبائكم الذي عليه أسلافكم من قبل «إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ٩٠» مغبونون لخلافكم اوائلكم وحرمانكم من فوائد البخس والتطفيف الذي ينهاكم عنه فلما أظهر الله للناس إصرارهم على الكفر والمعاصي أهلكهم
«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ٩١» تقدم تفسيره آنفا في الآية ٧٨ المارة قال تعالى «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا» أي ذهبوا وكأنهم لم يوجدوا في الدنيا دهرا طويلا برغادة عيش وهذا معنى غنى وضده الفقر قال حاتم..
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلا سقاناه بكأسهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
«الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ ٩٢» أنفسهم ونشبهم في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة «فَتَوَلَّى» شعيب «عَنْهُمْ» أي المهلكين «وَقالَ» آسفا على عدم إيمانهم ومبيّنا تقصيرهم وعدم تقصيره بإرشادهم «يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى» أحزن وأتوجع «عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ٩٣» أي
386
لا يجب على ذلك لأني لم آل جهدا في نصحهم، وانما قال هذا لأنه كان يتوقع منهم الإيمان وكانوا كثيرين لذلك أحس بالحزن عليهم واشتد به الأمر حتى قال ما قال وعزّى نفسه بأنهم هم الذين اهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر وعدم التفاتهم الى نصحه وقد تقدم إليهم بالمعذرة وهكذا عاقبة كل أمة لم تؤمن برسولها وهو شأن صغار العقول الذين يقال فيهم:
إذا الأحوال دبّرها شباب... فإن مصيرها صاح الرزايا
متى تصل العطاش الى ارتواء... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد... وقد جلس الأكابر في الزوايا
وانّ ترفّع الوضعاء يوما... على الرفعاء من بعض البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي... فقد طابت منادمة المنايا
مطلب قصه سيدنا شعيب عليه السلام:
هذا ما قصه الله علينا في أمر شعيب وقومه وكيفية إهلاكهم، اما ما ذكره القصاص فخلاصته أنه عليه السلام أرسله الله الى اصحاب الأيكة فلم يؤمنوا فأرسل عليهم حرا شديدا أخذ بانفاسهم وحبس الريح عليهم سبعة أيام ولم يجدوا ما يقيهم منه حيث لا واقي من أمر الله فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة وهي الظلة المذكورة في الآية ١٨٩ من سورة الشعراء الآية، فاجتمعوا تحتها كلهم فالهبها الله نارا عليهم ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا جميعا، ثم أرسله إلى أهل مدين الذين كان ملوكهم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وكان ملكهم حين إهلاك الظلة، كلمن، فلما دعاهم الى الإيمان ولم يؤمنوا أيضا أرسل عليهم جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة أخذتهم الرجفة من هولها فأهلكوا جميعا كما جاء في الآية ٣٧ من سورة العنكبوت ج ٢ وقالوا ان كلمن رثته بنته عند نزول العذاب بهم بقولها:
كلمن قد هدّد كن... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه... الحتف نار تحت ظلة
جعلت نارا عليهم... دارهم كالمضمحلة
387
وليس هذا مما يعول عليه، والأحرى عدم صحته لأن العذاب نزل دفعة واحدة فمتى تمكنت من إنشاء هذه الأبيات، وعلى القول بأنها كانت مع المسلمين، فإن أباها لم يهلك بالظّلة لأن أصحاب الظلة أهل الأيكة الذي ذكرهم في الآية ١٨٩ من سورة الشعراء وأبوها هلك بالصيحة مع قومه أهل مدين، وهذه الزيادة أسقطت اعتبار صحة الأبيات فيها على فرض أنها مسلمة لم تهلك، وهكذا الأخباريون أحيانا يهرفون بما لا يعرفون، ولذلك لا يوقن بنقلهم قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ» تشير هذه الجملة بالإجمال إلى سائر الأمم وأحوالها مع أنبيائها وفيها تخويف لقريش وتحذير من أن تكون عاقبتهم الإهلاك إن لم يؤمنوا كسائر الأمم الكافرة، وفيها حذف وإضمار أي فكذبوه «إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ» الفقر ودواعيه «وَالضَّرَّاءِ» المرض ولوازمه «لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ٩٤» إلى ربهم فيرجعون عن كفرهم فيؤمنوا فيقبلهم ويعفو عنهم، وفي هذه الجملة زجر لكافة الكفرة بأن يقلعوا عما هم عليه وإلا فمصيرهم التدمير. وتعريف لحضرة الرسول بأحوال الأنبياء مع أممهم وسنة الله فيهم تسلية له ليهون عليه ما يلاقيه من قومه من الأذى والتكذيب «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ» أي بدل البلاء والمحنة والشدة التي كانوا عليها بالسعة والصحة والرخاء مما يستدعي الإيمان بنا والانقياد إلى طاعتنا شكرا لنعمنا عليهم بدفع السيء عنهم وجلب الحسن لهم «حَتَّى عَفَوْا» كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وعفى تأتي بمعنى زاد قال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الآية ٢٢٩ من البقرة في ج ٣ وبمعنى كثر ونمى كما هاهنا، أما ما جاء في الحديث أعفوا اللحى واحفوا الشارب، بمعنى اتركوا اللحى لا تحلقوها وليس المراد لا تقصوا منها شيئا إذ يجوز أخذ ما زاد منها على القبضة والمراد بإحفاء الشارب الأخذ منه أيضا بحيث تظهر حواف الشفة، وقد غلط من فسّره بالحلق، لأن الرسول لم يفعله ولأنه مثلة والشريعة جميلة مجملة لا تأمر بما هو مثلة، ولهذا البحث صلة في الآية ١٨٧ من هذه السورة. أما ما فسره أبو مسلم بأن المراد من عفوا اعرضوا عن الشكر، فليس بيانا للمعنى اللغوي بل أخذا من معنى الآية وليس بشيء
388
«وَقالُوا» لما غفلوا عن استدراجنا إياهم ولم يعلموا كيفية إملائنا للظالم وأخذه على غرّة، واننا تارة نأخذ العاصين بالشدّة وطورا بالرخاء، وظنوا أن عادة الدهر هكذا مرة سيئا وأخرى حسنا، وأن الشدة لم تكن عقوبة، قال بعضهم لبعض اثبتوا على ما أنتم عليه كما ثبت آباؤكم من قبل إذ «قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» مثلنا فصبروا ولم يغيروا دينهم بسبب ما أصابهم، ولما أظهروا ما انطوت عليه سرائرهم إثر إنعامنا عليهم ولم يصغوا لنصح رسلهم أوقعنا بهم ما هدّدوا به «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ٦٥» بشيء من المخاوف لأنهم كانوا في مأمن من العذاب بزعمهم ولم يخطر مكروه ببالهم قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا» بالله ورسله وعملوا ما أمروا به وانتهوا عما نهوا عنه «وَاتَّقَوْا» الكفر والإفساد في الأرض «لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ» من رياح لينة وغيث نافع «وَالْأَرْضِ» من نبات وثمر ولصببنا عليهم الخيرات من كل جهة «وَلكِنْ كَذَّبُوا» آياتنا ورسلنا «فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ٩٦» من الأعمال الخبيثة وعاقبناهم بأنواع العذاب «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى» كفار مكة وأضرابهم فيشمل كل أهل قرية كذبت الرسل وأنكرت ما جاءتهم به «أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا» عذابنا «بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ٩٧» أي لا يأمنوا وقوع العذاب بهم على غرة وغفلة «أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ٩٨» حالة كونهم لاهين عما يراد بهم خائضين بالكفر معرضين عن الإيمان، وفي هاتين الآيتين تهديد شديد وزجر ووعيد لكل من هذا شأنهم «أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ» استدراجه إياهم بالنعم وأخذه لهم على بغتة ليلا أو نهارا، وأنهم متى ما أمنوا مكر الله هلكوا «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ٩٩» أنفسهم وأهليهم وأموالهم في الدنيا والسعادة الدائمة في الأخرى، لأن الله تعالى إذا أسدى نعمه على عبده وجب عليه شكرها فإذا لم يفعل كان كافرا لها جاحدا المنعم بها، وحينئذ عليه أن لا يظن أنها نعمة حقيقية لخيره بل نقمة محضة لشره، قالت ابنة الربيع بن هيثم: يا
أبت ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال يا بنتاه إن أباك يخاف البيات، أراد الآية المارة، رحمه الله
389
رحمة واسعة، فيجب على كل عاقل أن يخاف هذا، لأن الموت يأتي بغتة والقيامة كذلك، فإذا حلّ الأجل لا يستطيع القائم القعود ولا القاعد القيام، ولهذا حث الشارع على الوصية، فلا ينبغي له أن ينام إلا ووصيته تحت رأسه، لئلا يفاجئه الموت فلا يتمكن من بيان ماله وما عليه، وما يريد أن يخصّ منه لأرحامه ولوجوه البر فيندم من حيث لا ينفعه الندم قال تعالى «أَوَلَمْ يَهْدِ» يتبين من أحوال الأمم السابقة «لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ» إهلاك «أَهْلِها» بنوع من أنواع العذاب الذي قصصناه عليك يا أكمل الرسل بأنا «لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ» أخذناهم «بِذُنُوبِهِمْ» كما أخذنا من قبلهم «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلا نتركها تعي منافع الإيمان ونهملها وشأنها حتى تختار الكفر والشرك كما فعلنا بمن قبلهم من الأمم الباغية وإذا ختمنا على قلوبهم منعناها من قبول الإيمان «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ١٠٠» المواعظ الحسنة سماع قبول، أي لا يقبلونها لأنا لا نريد إيمانهم لخبث طويتهم وإصرارهم على الكفر
قال تعالى «تِلْكَ الْقُرى» التي بينا لأهلها طريقي الخير والشر كقوم نوح وعاد وصالح وهود ولوط وشعيب الذين ختمنا على قلوبهم لعلمنا بخبثها فلم ندعها تقبل نصح رسلهم وأهلكناهم ببغيهم «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا محمد «مِنْ أَنْبائِها» أخبار أهلها وأمر رسلهم معهم لتعلم ماهية مقاومتهم للرسل وعاقبة أمرهم معهم وتتيقن أنا ناصروك على قومك كما نصرناهم، ومهلكو من لم يؤمن بك كما أهلكنا من لم يؤمن بهم «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» مثلما جئنهم بالمعجزات «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بعد رؤية ما أظهروه لهم من المعجزات «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مجيء الرسل إليهم ورؤية آياتهم، بل استمروا على كفرهم وأصروا على عنادهم، وفاجأوا رسلهم بالتكذيب، ولم يلتفتوا إلى معجزاتهم، فكانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ولم يؤمروا ولم ينهوا وهذه الآية قريبة في المعنى من قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ٢٨ من سورة الأنعام في ج ٢، أي لو أحييناهم بعد معاينة العذاب لم يؤمنوا «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ١٠١» الذين
390
سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون من قومك ولو جاءتهم كل آية وأنهم يختارون الكفر عنادا «و» من جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة نقض العهد والميثاق لأنا «ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ» أي الأمم الخالية «مِنْ عَهْدٍ» أوفوا به لنا في عالم الذر، كما أنهم لم يوفوا بعهدهم لرسلهم، لأنهم كلما عاهدوهم على الإيمان نقضوا، فلا وفاء لهم البتة.
مطلب في تفاوت حروف الجرّ.. وألقاب الملوك:
وجيء، بمن، هنا للتأكيد والإحكام كما نوهنا به في الآية ٨٠ المارة ولا يعبّر عن مثل هذا بسيف خطيب أن زائدة لأنه قول زائد، إذ لا نزاع بأن قولك ما جاءني من أحد أبلغ من قولك ما جاءني أحد، وعليه يكون وجودها له معنى بليغ في النفوس والأسماع لا يكون بغيرها، وبني كلام الله على البلاغة لأنها من معجزاته وانظر لهذا الجناس التام المماثل بين قوله وما وجدنا وبين قوله «وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ٢٠١» خارجين عن طاعتنا ناكثين ميثاقنا الذي أخذناه عليهم حين أخرجنا ذراريهم من ظهور أبيهم آدم عليه السلام المبين في الآية ١٧٠ الآتية، قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يحفظوا ما وصاهم به، وإن في صدر هذه الآية مخففة من الثقيلة وخبرها ضمير الشأن واللام، في لفاسقين اللام الفارقة بين أن النافية والمخففة حيث أوجبوا وجود اللام بعد أن المخففة، لئلا تلتبس بالنافية التي لا يأتي اللام بعدها، والمعنى أنه أي الحال والشان وجدنا أكثرهم فاسقين راجع الآية ٤٥ المرة، وقال بعض المفسرين إنّ إن بمعنى ما واللام بمعنى إلّا، أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين وهو وجيه وفيه من البلاغة ما لا يوجد في التفسير الأول، وسياق صدر هذه الآية بواتي المعنى إلا أن مجيء اللام بمعنى إلّا شاذّ، لهذا قدمنا الأول مع اختيارنا للثاني لولا ذلك المانع، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» «مُوسى» بن عمران بآياتنا التسع الآتية بعد في هذه السورة «إِلى فِرْعَوْنَ» الوليد بن مصعب بن الريان ملك مصر المبالغ في الكبرياء والجبروت والإفراط حتى ادعى الإلهية وكلمة فرعون علم لكل من يملك القبط، كما أن النجاشي لمن يملك الحبشة
391
وقيصر للروم، وخاقان للترك، وكسرى للفرس، والخليفة للمسلمين، والعزيز لمصر، وحمير لتبّع، وحمى للهند، وجالوت للبربر، ونمرود للصابئة، ومقوقس للاسكندرية «وَمَلَائِهِ» خص أشراف قومه بالذكر لأنهم إذا آمنوا آمن أتباعهم ولأن أتباعهم يشقون بعدم إيمانهم ويقتلون بعدم طاعتهم ويهانون لأجلهم «فَظَلَمُوا بِها» كفروا وجحدوا وأجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية ١٢ من لقمان في ج ٢، «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ١٠٣» بالأرض حيث أمرهم إلى الهلاك، ثم شرع يبين له ما وقع لموسى مع قومه ليهون عليه ما يلاقيه من قومه بقوله جلّ قوله «وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٠٤» إليك وإلى قومك «حقيق» جدير فمن «عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» لأني رسوله والرسول لا يقول إلا الذي أرسل به ومن شأن كل رسول أن يكون أمينا على ما أرسل به وأن يؤديه كما أمر به إذا كان من مثله لمثله فكيف إذا كان من عند الله فهو حتما لا يتصور فيه إلا الحق والصدق. وقرأ نافع عليّ بالتشديد وعليها يرتفع الجار والمجرور بالابتداء ويكون خبره أن لا أقول. وقرأ عبد الله (حقيق بأن لا أقول) على تقدير حرف الجر وهو على أو الباء فيكون التقدير (أنا حقيق بأن لا أقول) فتكون على بمعنى الياء كما كانت الباء بمعنى على في، قوله تعالى: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) الآية ٨٥ المارة. ومن المعلوم أن حروف الجر تخلف بعضها أي تأتي من بمعنى الباء، والياء بمعنى على، وعلى بمعنى في وهكذا وقرأ أبي (بأن لا أقول) والأولى فيها وجوه ١- أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير:
كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا قوادم حرب لا تلين ولا تمري
وتلحق خيل لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمرى
أي وتشقى الضياطرة بالرماح والضياطرة الرجال العظام فتكون كقراءة نافع.
٢- تكون على حد ان ما لزمك فقد لزمته أي فلما كان قول الحق حقيق عليه
392
كان هو حقيقا على قول الحق لإزماله ٣- أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هجني بمعنى ذكرني. ٤ وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاقتضاء المقام، لا سيما وقد روي أن فرعون قال له إني رسول من رب العالمين فقال له موسى أنا حقيق على قول الحق واجب علي أن أقوله ولا يرضى الحق إلا بمثلي قال تعالى: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ» حجة واضحة «مِنْ رَبِّكُمْ» أضاف الاسم الجليل إليهم مع عدم اعترافهم به لتأكيد وجوب الإيمان، وإيذانا بأن ما يزعمونه من الألوهية باطل «فَأَرْسِلْ» يا فرعون «مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ ١٠٥» يعقوب عليه السلام لأنهم سكنوا مصر زمن يوسف عليه السلام، الذين خذلتهم بقهرك وتعمدت إذلالهم بظلمك وقصدت احتقارهم بكبريائك فدعهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة وطن آبائهم وخل سبيلهم من الرق بمقتضى أمر الحق وإلا سينزل بك وبقومك ما لم يكن بالحسبان كما وعدني ربي، وإنما سلطه الله عليهم بعد أن كانوا ملوكا قادة حكاما بسبب اختلافهم ونبذهم دين آبائهم، أي خل عنهم وأطلقهم وسلمني إياهم لأني من ولد إسرائيل وقد أرسلني الله لأخلصهم منك وأرشدك وإياهم إلى الايمان به وحده.
مطلب كيفية معجزة موسى وأنواعها:
قالَ فرعون يا موسى «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ» تدل على رسالتك وصدقك «فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ١٠٦» بقولك لتثبت دعواك عندنا ونتبعك «فَأَلْقى عَصاهُ» بين أيديهم «فَإِذا هِيَ» بلا معالجة واستعمال أسباب وأدوات واعية للتبدل كما يفعله السحرة «ثُعْبانٌ مُبِينٌ ١٠٧» ذكر واضح من الحيات الكبار، واعلم أن لا معارضة بين هذه الآية والآية ٣١ من القصص الآتية لأنها بمجرد إلقائها صارت في عظم الجثة كالثعبان في الجسم، لهذا وصفها هنا به، وفي صفه الحركة كانت كالحية الصغيرة لذلك وصفها هناك بالجان، أي الحية الصغيرة، قال ابن عباس والسديّ لما ألقى موسى عصاه وصارت حية عظيمة خضراء شقراء فاغرة فاها، ما بين لحييها ثمانون ذراعا، وقامت على ذنبها مرتفعة عن الأرض بقدر
393
ميل، واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، فتوجهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب عن سريره هاربا، وأحدث، وانهزم الناس المجتمعون، وقتل بعضهم بعضا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها، وأرسل معك بني إسرائيل وأومن بك، فأخذها فعادت عصا كما كانت دون عمل أي شيء، ثم نكث عهده ولم يؤمن وطلب منه آية أخرى، فقام «وَنَزَعَ يَدَهُ» أخرجها من تحت إبطه «فَإِذا هِيَ» دون توسط شيء ما من وضع عقاقير أو غيرها أيضا ظهرت «بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ ١٠٨» بباضا عجيبا خارقا للعادة لها شعاع يفوق نور الشمس، ولما كان البياض المفرط عيبا في الجسد لأنه من نوع البرص، قال تعالى في الآية ٢٣ من سورة طه (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص، وهذا مما يعجز عنه البشر أيضا ولذلك سميت معجزة وهي على قسمين ١- قسم على نوع قدرة البشر ولكنهم عجزوا عنه لتدل على أنها من فعل الله وعلى صدق النبي كتمني الموت في قوله تعالى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية ٩٤ من البقرة في ج ٣، فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند الله ودل على صدق الرسول. ٢- القسم الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كاحياء الموتى وقلب العصا حية حقيقية لا بتمويه السحرة، وإخراج الناقة من الصخرة وكلام الحجر والشجر والحيوان، ونبع الماء من بين الأصابع، وتكثير القليل واحالة الماء صخرا والمشي عليه كما وقع لسيدنا عيسى ومحمد وموسى وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ومما هو خارق للعادة ويعجز البشر عن مثلها، فإذا أتى النبي بشيء من هذه علم على أنه من عند الله وأن الله أظهرها على يده لتكون برهانا على صدق ما يخبر به عن ربه، راجع أول سورة القمر المارة تجد تفصيل بحث المعجزات. هذا وقد ثبت بالحجة والعقل أن الله تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سابق وإخراجها من العدم، وأنه قادر على قلب الأعيان فبالأحرى أن يكون قادرا على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده من غير واسطة، ولكنه جلت قدرته أرسل إليهم رسلا ليعرفهم معالم دينه وتكليفاته وجعلهم
394
واسطة بينه وبينهم ليبلغوهم كلامه ويعرفوهم أحكام دينه، وقد تكون الواسطة من غير البشر كالملائكة مع الأنبياء، ومن جنس البشر كالأنبياء مع الأمم، ولا مانع من هذا عقلا، والمراد بالعقل هو السليم الذي يصدر عنه الفكر السامي والتدبير النافع، وإلا فلا يسمى عقلا بل طيشا، كما أن النفس لا تكون طاهرة، إلا إذا كان لها مبدأ شريف تحلى بمكارم الأخلاق ناشيء عن قلب طيب ولا يكون القلب طيبا إلا إذا كان له حب طاهر في الأمور النافعة وإلا فهو رجس، فإذا جاز هذا في العقل، وقد جاءت الرسل بمعجزات دلت على صدقهم وجب تصديقهم في جميع ما يأتون به، لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائمة مقام قول الله عز وجل، صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه، وتختلف عن الكرامة بعدم دعوى التحدي وتخالف السحر بعدم الدوام، قال تعالى «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» وهم أهل الحل والعقد من عماله بعد رؤية هاتين الآيتين «إِنَّ هذا» الساحر موسى «لَساحِرٌ عَلِيمٌ ١٠٩» ماهر في السحر لأنه يأخذ بأعين الناس ويخيل لهم قلب العصى حية والسمرة بياضا ناصعا، وكان عليه السلام آدم اللون أسمر وقد أراهم يده السمراء بيضاء تتوقد نورا وكان في ذلك الزمن السحر غالب على كل ما يدعى من الفضل كما كان الطب في زمن عيسى
والبلاغة في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يعارض هذه الآية ما جاء في سورة الشعراء الآتية انها من قول فرعون لملائه لأن الكلام متبادل بينهم فتارة هو يقول لملائه كما في الآية ٣٤ منها وأخرى هم يقولون له كما في هذه الآية لما بهرهم مما رآوا، وهذا من باب اتحاد الرأي وتوارد الخاطر في الكلام، ولإعلام العامة أن هذا سحر ليس كما يقول موسى معجزة «يُرِيدُ» هذا الساحر موسى «أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» أيها القبط وطن آبائكم «فَماذا تَأْمُرُونَ ١١٠» به من الرأي، أشيروا عليّ بما يجب أن أعمله لحفظ كيانكم وبلادكم وعلو كلمتكم لأن هذا يريد سلب ملككم ونعمتكم ويستعيدكم كما استعبدنا قومه
«قالُوا» لما رأوا فرعون هم بقتله وتوقف على أخذ رأيهم «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» هرون، لأنه كان معه إلا أنه لم يتول شيئا ولم يتكلم لأن الله أرسله مصدقا لأخيه وعونا له ونائبا عنه بغيابه
395
أي أخرهما لا تقتلهما ليتبين حالهما للناس أنهما ساحران، وقال بعض المفسرين أرادوا حبسهما، ولذلك قال صاحب روح البيان إنه لم يكن قادرا على حبسهما لما رأى من المعجزتين، وهو وجيه، ولكن يرده ما جاء في سورة الشعراء بعد نظير هذه الآية في الآية ٣٥ منها (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وما قيل إن آية الشعراء هذه نزلت قبل آية الأعراف هذه غير سديد لأن الشعراء لم تنزل بعد وأن الطواسيم نزلت متوالية، أما إذا أراد أنه في علم الله غير قادر على حبسهما فمسلم والواقع يؤيده إذ لم يثبت أنه حبسهما، ثم قالوا له «وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ١١٥» من شرطتك يجمعون لك السحرة من كافة المدن، واشتقاق المدينة من مدن بالمكان إذا أقام به وأمرهم بحزم وعزم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ١١٢» بالسحر ماهر بفتونه ليتبارون معه، فإن كان ما عنده من السحر غلبوه وظهروا عليه وبان للناس أنه وأخوه ساحران، فإذا قتلتهما بعد ذلك فلا لوم عليك لأنهما مفسدان والمفسد يجوز قتله، أما قتلهما الآن قبل أن يظهر كذبهما للعامة ففيه ما فيه من التعدي والظلم وسوء السمعة على الملك ونحن لا نريد أن تسام بالظلم، وان تقتل دون أن يتحقق استحقاق القتل لمن تقتله.
وجاء في الآية ٢٧ من الشعراء سحّار بالمبالغة وهو الذي يدوم سحره ويعلّم الناس السحر، والساحر من يكون سحره منقطعا وقتا دون وقت، قال ابن عباس والسدي وابن اسحق: لما رأى فرعون من سلطان الله وقدرته في العصا واليد قال لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فبعث غلمانا من بني إسرائيل إلى مدينة الغوصاء ليعلموهم السحر، وضرب لموسى موعدا للمباراة بعد أن تعلموا جاءوا ومعلموهم، فقال فرعون للمعلم: ما صنعته؟ قال علمتهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فلا طاقة لهم به ثم بعث من مماليكه حسبما أشار عليه ملؤه، فلم يترك ساحرا إلا أتى به، قال مقاتل، جمع اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل، ثم قال الملأ لفرعون إن غلبوا موسى علمنا والناس أجمع أنه ساحر وإذ ذاك إذا قتلتهما فلا لوم عليك لما في بقائهما من الفساد والإفساد، وإن غلبهم صدقناه واتبعناه، فلم يرد على كلامهم لأن الشق الأخير منه لم يعجبه لأنه
396
بفطنته علم أن ما جاء به موسى من عند الله وفي تصديقه ذهاب ملكه، ولولا خشيته ذهاب الملك لآمن به، لأن ما هو عليه من حذق ومهارة لا يخفى عليه السحر من غيره.
مطلب ما وقع بين موسى والسحرة:
«وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا» يا فرعون أ «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» عندكم تعطونا إياه «إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ١١٣» لموسى وأخيه ولا يقال هنا إن حق الكلام أن يقال (فقالوا) لأن الكلام فيه حذف وإيجاز وهو من محسنات البديع في الكلام والتقدير كأن سائلا سئل ما قالوا إذ جاءوا إليه فأجيب بقوله قالوا ومثله كثير في القرآن وهذه جرأة من القائل راجع الآية ٦٧ من يونس في ج ٢ وما ترشدك إليه «قال» فرعون بحضور ملأه لأن القول الفصل له وإنما لملائه إبداء الرأي فقط، وهكذا يكون الوزراء مع الملوك راجع الآية ٣٢ من سورة النمل الآتية «نَعَمْ» إن لكم عندنا لأجرا وتكرمة «وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ١١٤» عندنا رفعة ومكانة إذا غلبتم موسى، وأخذهم لأرض الميعاد وجاء موسى وأخوه وتفاوض مع السحرة وأبدى لهم نصحه، وأخبرهم أن ما جاء به ليس بسحر، بل هو من عند الله، وأكد لهم ذلك، وأرشدهم للكف عما جاءوا به، فلم ينجع بهم لما يؤملونه من فرعون وهم لم يروا بعد من موسى شيئا «قالُوا» كف عنا ما تقول «يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» عصاك أو غيرها مما عندك من أنواع السحر «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ١١٥» ما عندنا من أصناف السحر، وإما هنا بكسر الهمزة لأنها للتخيير وهكذا تكون مكسورة في الشرط والشك أيضا، ومفتوحة في الأمر والنهي والخبر، وإنما قدموه وجعلوا له الخيار في التقديم للإلقاء تأدبا معه لما علموا منه أثناء المفاوضة أنه على علم عظيم ومناظرة مفحمة، حتى أنهم لولا الخوف من فرعون لما ناظروه إذ حصل لهم شبه اليقين أنه ليس بساحر ولذلك منّ الله عليهم بالإيمان والهداية، مكافأة لاحترامهم نبيه موسى وتأدبهم معه، وإنما أمرهم أن يتقدموا عليه بالإلقاء بإلهام من الله لظهور معجزته وبيان غلبه «قالَ أَلْقُوا» ما عندكم إن كنتم
397
ترون أنكم محقون في مباراتي وان ما تفعلونه حق لا تمويه «فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي وغيرها، وتمثلت للناس بغير ما هي عليه، إذ «سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ» وحرّفوها عن إدراك الحقيقة بالتمويه والتخييل، ولذلك لم يقل جل قوله سحروا الناس لأن السحر صرف العين عن إدراك الشيء وقلبه إلى صورة أخرى بأعينهم، والمعجزة قلب الأعيان حقيقة وبقاء الجوارح على حالها «وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» أي طلبوا بذلك التخيل إيقاع الرهبة والخوف في قلوب الناس من شدة ما أروهم من سحرهم الموصوف بقوله تعالى «وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ١١٦» بأعين الناس إذ أروهم الحبال حيات عظيمة والأخشاب جبالا شامخة وقد تراكمت الحيات بعضها على بعض وملأت الوادي وتشامخت الجبال حتى لا يكاد يدركها الطرف فخاف الناس وفزعوا لهول ما رأوا وذلك لأنهم طلو الجبال بالزئبق وحشوا الأخشاب به أيضا، قبل طلوع الشمس، حتى رآها الناس أنها حبال وأخشاب، وصاروا يدمدمون عليها حتى طلعت الشمس وارتفعت، فلما وصلت حرارتها إلى العصي التوى بعضها على بعض، وارتفعت هي والأخشاب، وكذلك الأحبال بتأثير الزئبق وتطاولت وكلما ازدادت حرارة الشمس ازدادت حركاتها وعظمها، فخيّل للناس أنها صارت حيات وجبالا حقيقية، قالوا وكانت الأرض التي وقعت فيها المباراة ميلا بميل، فلما امتلأت بذلك ضاقت بالناس وتباعدوا فزعا مما رأوا، إذ غلب على ظنهم حقيقة ما رأوا من حركات العصي والأخشاب والأحبال وتعاظمها، وذلك قوله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) الآية ٩٤، وقوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الآية ٦٥ من سورة طه الآتية، وإنما خاف عليه السلام أن يصدق الناس ما رأوه حقيقة ولهذا خاف ليس إلا لأنه بتعليم الله إياه علم أن ذلك سحر وهو موقن أنه يغلبهم لعلمه بحقيقة عملهم فخاف لفزع الناس واضطرابهم، وخوفهم أن يتفرقوا قبل أن يشاهدوا معجزته، وهو إنما أمر السحرة بالتقدم عليه ليرى الناس عظمة ما جاءوا به، ويكبروها، حتى إذا ألقى عصاه وأبطلت ما جاءوا به لأن الله جعل فيها قوة تلقف الزئبق من حبالهم وعصيهم وأخشابهم، قال تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)
398
الآية الآتية وهو الزئبق لا نفس العصي والأحبال والأخشاب بل ما طليت به وتعيدها إلى حالتها الأولى، فظهر للناس كذب السحرة وأن ما فعلوه لا حقيقة له ويعترفون بعظمة معجزة موسى وإكبار غلبه لهم، ولو أنه تقدم بالإلقاء
لم يظهر أن الغلب له ولقال الناس أنهم لم يقدروا عليه فقط، فلم يظهر غلبه للعامة بمثل هذه الكيفية العظيمة الباهرة، قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا «فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ١١٧» أي تبلع ما زوّروه بأعين الناس وخيّلوا لهم به قلبه عن حقيقته فعاد الحبل حبلا والعصى عصى والخشب خشبا كما كانت وتمثلت عصى موسى بالصورة المارة في الآية ١٠٧ فظهر حق موسى وبطل السحرة «فَوَقَعَ الْحَقُّ» من الله على يد رسوله «وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١١٨» من السحر، واتضح أمر السحرة بين الناس وظهر لهم كذبهم وتمويههم وتخييلهم وعجزهم عن مناواة موسى «فَغُلِبُوا هُنالِكَ» في ذلك المشهد العظيم وقهروا وخسئوا «وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ١١٩» أي فرعون وجماعته باندحار السحرة، وذلوا بأعين الناس لظهور عجزهم عن مقابلة موسى وأخيه، ولما عرف السحرة أن ما جاء به موسى ليس من عنده ولا هو من نوع السحر الذين هم أعلم بطرقه، وما هو إلا من عند الله سحبتهم العناية الإلهية والألطاف الربانية المقدرة لهم في علمه الأزلي على هذه الحادثة تابوا من كفرهم توبة نصوحا وآمنوا بموسى، قال تعالى «وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ١٢٠» لله تعالى استغفروا من ذنوبهم بمقابلة رسوله الذي تحقق لديهم صدقه، إذ لو كان ما جاء به سحر لبقيت حبالهم وعصيهم وأخشابهم على حالها ولا يضرهم أن يأتي موسى بمثلها أو أعظم منها ولكان غاية ما في الأمر أن يقول الناس جاء كل من الفريقين بسحر عظيم ولهذا حلت الهداية قلوبهم عند ما عاينوا قدرة الله في عصي موسى الباهرة مما هو ليس في طوق البشر
ثم «قالُوا» بأعلى صوتهم على مسمع من فرعون وملاءه والناس أجمعين «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ١٢١» ليعلم الناس كلهم حقيقة غلبة موسى واندحارهم، وأن موسى صادق وهم كاذبون وأنهم لم يخشوا فرعون ولا غيره بقول الحق، فقال لهم فرعون تعنوني قالوا لا وإنما
399
نعني غيرك لأنا أعلنا إيماننا بالله «رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ١٢٢» زادوا هرون لئلا يتوهم أنه المقصود بذلك لأنه ربى موسى فأزالوا توهمه وأكدوا إليه إيمانهم بالله، وأن قصدهم برب موسى أنه هو الإله الذي لا رب غيره دون أي فزع وخوف «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالإيمان وآمركم به «إِنَّ هذا» الذي صنعتموه ودبرتموه بينكم «لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ» أنتم وموسى «فِي الْمَدِينَةِ» قاعدة مصر والإسكندية كما قيل أن الحادثة كانت فيها قبل خروجكم للمناظرة وقد عملتم هذه الحيلة «لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» وهم القبط وتستولوا عليها أنتم وموسى وقومه، ولهذا لم تقدموا بما يكون فيه الغلب لنا عليه «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ١٢٣» عاقبة أمركم هذا، وما سأفعله بكم أنتم وموسى الذي أغواكم.
ساق لهم هذا الوعيد والتهديد بطريق الإجمال للتهويل وهو من بديع الكلام، ثم عقبه بالتفسير تفصيلا فقال وعزتي «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس «ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ١٢٤» أنتم وموسى وهرون، تشهيرا بكم وتنكيلا لأمثالكم. قال ابن عباس: أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل مخالفة هو فرعون «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ١٢٥» عائدون إليه إذا فعلت ذلك بنا أو لم تفعله، وإنا لا نبالي بما تفعله بعد علمنا بأنا صائرون إلى الآخرة، وأن مردنا إلى الله، فلأن نأته مقتولين في سبيله أولى من أن نأتيه ميتين حتف أنفنا باقين على كفرنا. بارك الله فيهم فكأن قائلهم يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في الله مضجعي
ويقول أيضا:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحد
ويقول مهددا لفرعون:
إلى ديان يوم العرض نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
ثم خاطبوه قائلين «وَما تَنْقِمُ مِنَّا» أي تكرهه وتطعن به علينا وتعيبنا
400
به وتنتقم منا بسبه ومالنا عندك ذنب فتعذبنا عليه «إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» على يد رسوله موسى وهذا مما نفتخر به لأنه أصل المحاسن كلها فافعل بنا ما بدا لك إذا كان هذا ذنبا على حد قوله في الآية ١٨ من سورة طه (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) وفي هذه الآية من أنواع البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، ثم انهم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا إلى الله والتجئوا إليه وسألوه بقولهم «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» على ما يوقعه بنا من التعذيب الدنيوي واغمرنا بالصبر وأفض علينا من عنايتك لنثبت على الإيمان بك «وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ١٢٦» لك قائمين على دينك لا يؤثر بنا وعيد فرعون وتهديده بما يعدنا ليصرفنا عن دينك القويم. قال ابن عباس كانوا أول النهار سحرة كفرة وآخره شهداء وبررة، ولهذا قال الكلبي ان فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وقال غيره إنه لم يقدر عليهم لأن الله قال في الآية ٣٥ من سورة القصص الآتية (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) وهو الصواب والله أعلم، وسيأتي لهذا البحث صلة عند تفسير هذه الآية إن شاء الله «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» لفرعون بعد أن عاينوا ما عاينوا وعرفوا ان بقي الحال على ما هو عليه ذهب ملكهم، كما أخبرهم فرعون قيل «أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ» بني إسرائيل على ما هم عليه وتركهم احياء، بعد أن تعظموا بما وقع في موسى فتذعهم على حالتهم هذه ولا تنتقم منهم وقد شاع بين الناس علو كلمة موسى على السحرة المنتخبين من قبلك بعد أن آمنوا به والتحقوا مع قومه بعد غلبهم لأنه إذا تركهم وشأنهم تقوى شوكتهم وتعلو كلمتهم، ويلتحق بهم غيرهم «لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» التي هي ملكك ويأمرون الناس بمخالفتك والخروج عليك وينبذون طاعتك فتدارك الأمر قبل الفوات. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
وهذه الآية تشير إلى ما أشارت اليه آية القصص الأنفة الذكر من أنه لم يسلط على السحرة لأن الله لم يقدره أن يفعل بهم شيئا فضلا عن موسى وأخيه وأن الله ت (٢٦)
401
تعالى لم يذكر لنا عن تنفيذ وعيده بهم شيئا «وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» فينبذ كما جميعا ويذر بالنصب عطفا على ليفسدوا أو نصب بجواب الاستفهام بعد فاء السببية أو واو المعية وعلى هذا قول الخطيئة:
ألم أك جاركم ويكون ببني وبينكم المودة والإخاء
قال ابن عباس: كانت لفرعون بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها، ولذلك صاغ لهم السامري عجلا لأنه من جنس معبودهم، ولذلك عكفوا عليه وانكبوا على عبادته دون ترو. وقال السدى: كان فرعون اتخذ أصناما لقومه يأمرهم بعبادتها ويقول لهم أنا ربكم الأعلى أي ربكم ورب هذه الأصنام راجع الآية ٢٤ من سورة النازعات في ج ٢ وهذا والمراد من قوله تعالى على لسان ملأ فرعون (يَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقيل إنه كان يعبد ولا يعبد استدلالا بالآية ٣٨ من سورة القصص الآتية وهي قوله تعالى: (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وكان دهريا ينكر الصانع. وقيل إنه عني بالآلهة الشمس والقمر، لأنه يعبدها وعلى كل فهو كافر ملعون جبار خبيث متعنت عات عنيد، ولذلك قال مجيبا لملأ «سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ» الذكور «وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» للخدمة كما كنا نفعل بها قبل ظهور موسى ثم جاهر بكبريائه فقال: «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ١٢٧» غالبون لم نتغير ولا يغرنا ما جاء به موسى وهم تحت أيدينا لا قدرة لهم على مقاومتنا إذ لا عدد لهم ولا قوة قصد المتهوّر الطائش، ان بني إسرائيل تعلم فعله السابق بهم من قتل الذكور وترك الإناث منذ حمل بموسى، وكيفية استرقاقهم قبل وذلك أنه لما رأى عجزه عن الانتقام من موسى بما أوقعه الله في قلبه من الهيبة له صار يندد بهم بذلك ففجر بنو إسرائيل خوفا من أن يفعل بهم ما ذكره، ففزعو إلى موسى وشكوا أمرهم إليه ليبين لهم المخلص منه «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ» عليه «وَاصْبِرُوا» على ما أنتم عليه، فإن الله مانعه منكم «وإِنَّ الْأَرْضَ ليست لفرعون وإنما هي «لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ» المحمود «لِلْمُتَّقِينَ ١٢٨» وأنتم منهم فيكون لكم النصر عليه والظفر بأرضه لا محالة وصا
402
يمنّيهم بهلاك فرعون وقومه ويطمعهم باستملاك أرضه تسلية لهم وتثبيتا لعزمهم «قالُوا» يا موسى «أُوذِينا» من قبل فرعون وقومه «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» أوذينا أيضا أي قبل ولادتك وبعدها فمتى يكون ما توعدنا به وذلك لأن قلوبهم مقطعة من أذى القبط قبلا وبوجود موسى خفت وطأتهم عليهم وبعد حادثة السحرة خافوا أن يوقع بهم ما هدّدهم به من استيناف الحالة الأولى قتل الذكور واسترقاق الإناث واستخدام الآخرين، وطالبوه إنجاز ما وعدهم به يظنون أن الأمر بيد موسى والذليل المحتقر أمثالهم، يظن أن العزيز مثل موسى قادر على كل شيء «قالَ» لهم موسى إن الأمر بيد الله ينجزه بالوقت المقدر له في علمه الأولى وليس بيدي كما تزعمون لأوقعه بهم حالا، فاصبروا يا قوم «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» قبل أن يمكنه من إيقاع شيء فيكم «وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ» بدله ويجعلكم ملوكا على أرضه أمناء على عباده، وهذا توكيد لما سلّاهم به على أبلغ وجه وهو عنده واقع جزما لأنه من وعد الله الذي لا يخلف وعده، وعسى هنا للقطع وعبر بها تأدبا مع ربه ولهذا قال «فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ١٢٨» إذا خلفتم فيها أتحسنون الخلافة في عباده وأرضه أم لا، وهل تشكرون أم تكفرون بعد. وفي هذه الآية رمز للبشارة بتنفيذ ما وعدهم به، ولكنهم لضعف إيمانهم وصغر نفوسهم التي تربت على الذل لا يصدقون ويريدون الأمر فورا، ثم شرع تعالمت شرائعه في تفصيل مبادئ إيقاع الإهلاك في فرعون وقومه فأوحى إلى موسى أن يحدث قومه بما هو فاعل بهم، قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ» القبط خاصة لأنه منهم وأضاف إليه لفظ آل مع أنه خاص بالأشراف بمقابل أهل في غيرهم، لما له من الشرف الدنيوي بين قومه وان كان في نفس الأمر، خسيسا وإن الكلمات التعظيمية للملوك جارية حتى الآن سواء كان كتابيا أو وثنيا فضلا عن المسلم «بِالسِّنِينَ» جمع سنة، والمراد بها سني القحط والجدب ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم في دعائه على قريش: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. وفي رواية: سنينا كسنين يوسف، فالأول منون على لغة بن عامر وبنو تميم يقولون سنين بلا تنوين
403
ويجرون إعرابها على النون بالحركات كحين عند من يعربها، وعليه فإن النون لا تخذف بالإضافة كما جاء أعلاه وعليه قول الشاعر:
دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا
واللغة المشهورة إعرابها بالحروف لأنها من ملحقات جمع المذكر السالم، وتقول العرب مستهم السنة إذا أخذهم الجوع، قال الأبو صيري:
وأحيت السنة الشهباء دعوته حتى حكت غرة بالأعصر الدهم
مطلب ما أوقع الله يفرعون من الآيات:
وهذه أول آية أوقعها الله فيهم وفيها إعلام بأنه لم يمهل فرعون وقومه بعد أن صمّموا على تنفيذ خطتهم القديمة وهو أكرم من ذلك، والآية الثانية قوله «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» من زروعهم وأشجارهم إذ أوقع عليها آفات أفسدتها قال قتادة السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات لأهل المدن «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ١٣٠» أن ذلك بسبب إصرارهم على الكفر وظلمهم لبني إسرائيل علهم يرجعون عما صمموا عليه، لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله فيلجأون إليه،
قال تعالى حاكيا ما وقع منهم بقوله «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ» في خصب وسعة وصحة «قالُوا لَنا هذِهِ» استحقاقا ولم يردوها إلى الله ولم يروها منه «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب وضيق ومرض «يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» من بني إسرائيل فيقولون ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم تشاؤهما بهم، وهذا دليل على أنهم لم يتعظوا ولم ينتبهوا بما صب عليهم من العذاب، أدخل جل شأنه على الحسنة لأن وقوعها كالكائن، ولأن جواب إذا يكون حقيقة غالبا، وإن على السيئة المنكرة لندرة وقوع جوابها إذ قد يكون شكا. قال سعيد بن جبير: عاش فرعون ستمائة وعشرين سنة ملك منها أربعمائة سنة لم ير فيها مكروها قط في بدنه ولا في ماله وملكه فلو جعل له وجع يوم أو حمى ليلة أو جوع ساعة لما ادعى الربوبية، قال تعالى ردا عليهم «أَلا» أداة تنبيه على أن شؤمهم ليس من موسى وأصحابه «إِنَّما طائِرُهُمْ»
404
شؤمهم «عِنْدَ اللَّهِ» وحده بسبب كفرهم، وأداة الحصر تشعر بذلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ١٣١» كونه من عند الله لأنهم يضيفون الحوادث للأسباب الظاهرة لا إلى قضاء الله وقدره، وبما أن موسى يحذرهم وينذرهم مقت الله إن لم يطيعوه فيسندوا ما يصيبهم إليه، وتفيد الآية أن بعضهم يعلم حقيقة ذلك ومنهم فرعون ولكن لا يعملون بما يعلمون «وَقالُوا» القبط لموسى بعد انقشاع الآيتين المارتين «مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ» بيان لهما وسموها آية على طريق الاستهزاء تبعا لتسمية موسى سخرية به، ولو اعتقدوها آية لما قالوا «لِتَسْحَرَنا بِها» فتصرفنا عن ديننا بضروب سحرك وإنا إن فعلت ما فعلت «فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ١٣٢» لسحرك ولا مصدقين لأنه زائل، ومهما هذه اسم شرط على الصحيح في الأصل ومحلها رفع الابتداء، وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو كلاهما على اختلاف في ذلك، ويجوز أن تكون ظرفا قال ابن مالك إنه مسموع من العرب وأنشد:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
على أنها هنا ظرف بمعنى متى خلافا لمن منع ذلك ولهذا استعملها المنطقيون بمعنى كلما وجعلوها سورا للكلية لإفادتها العموم. أما في الآية فليست ظرفا البتة وأصلها ما الجزائية ضمت إليها ما المزيدة المذكورة للجزاء ثم قلبت ألف ما الأولى هاء لعدم تكرار الحرفين المتجانسين لاستثقاله عندهم فصارت مهما وموضعها النصب بتأتنا، والضمير في به وبها يعودان للآية، وأنت الثاني باعتبار المعنى، فاغتاظ موسى عليه السلام واعترته الحدة، فدعا عليهم لأنهم فضلا عن أنهم لم يتعظوا بالآيات المتقدمة العصا واليد اللتين كسرت شوكتهم وأذلتهم، والقحط والنقص اللذين أوقعا فيهم ما أوقعاه رموه بالشؤم وأيأسوه من الإيمان بدلالة معنى مهما وأفادتها ذلك، فأجاب الله دعاءه بانزال عقاب آخر عليهم وهي الآية الثالثة وتكون الخامسة مع آيتي اليد والعصا بينه بقوله «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ» بأن فجرنا الأرض عيونا وأرسلنا السماء بالمياه الغزيرة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا الى تراقيهم قالوا ولم يدخل بيوت بني إسرائيل شيء منه، مع أنها مختلطة مع بيوتهم ودام ذلك سبعة أيام،
405
فمن جلس منهم غرق ومن بقي قائما نجا وبقي معذبا لا يقدر أن يستريح أو يتحرك من موضعه خشية الغرق، فقالوا يا موسى أدع لنا ربك لئن كشف عنا هذا آمنا بك وأرسلنا معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفعه عنهم وأنبت لهم الكلأ والزرع، وضاعف لهم الثمر بصورة لم يروها قبل، فكلفهم الإيفاء بوعدهم فأبوا وقالوا ما كان ذاك عذابا وإنما هو نعمة، ونكثوا عهدهم وازداد طغيانهم، فدعا عليهم بقوله يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وطغى، وان قومه قد نكثوا العهد، رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث عليهم عذابا سادسا بينه بقوله «وَالْجَرادَ» المعروف فأكل زرعهم وثمارهم وثيابهم وسقوف دورهم، ولم يدخل دور بني إسرائيل، فضجوا إلى موسى وفزعوا لشدة ما حل بهم وأعطوه العهود والمواثيق بأنه إذا كشف عنهم هذا الضر يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل، فدعا ربه فكشفه بعد أن دام سبعة أيام وقبل أن يقضي على البقية الباقية من مواشيهم، فلما كشف عنهم، قالوا بقي لدينا ما يكفينا ما نحن بتاركي ديننا من أجلك ونكثوا عهودهم، فدعا عليهم فأرسل الله عذابا سابعا ذكره بقوله «وَالْقُمَّلَ» القمل المعروف وقيل هو الدّبى أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها وقيل البراغيث أو كبار القراد أو السوس الذي يخرج من الحنطة والحشمان نوع من الجراد أو صغار الذر، وكان الحسن يقرأها بفتح القاف وسكون الميم بما يدل على أنه القمل، وبه قال عطاء الخراساني، فملأ طعامهم وشرابهم وآلمهم بقرحة وأكل منهم شعور رؤسهم وأهدابهم وحواجبهم، ولم يصيب بني إسرائيل شيء منه، فاشتد عليهم البلاء أكثر من ذي قبل، فعجوا إلى موسى واستغاثوا به ووثقوا إليه العهود وعظموا له الايمان بأنه إذا كشف عنهم هذه المرة يؤمنون ولا يعودون إلى الكفر ويرسلون معه بني إسرائيل، وذلك بعد أن دام عليهم سبعة أيام أيضا، فرق لهم موسى ورحمهم ودعا ربه، فكشف عنهم، فلم يبق منه واحدة، فقالوا ما كنا نوقن أنه ساحر مثل اليوم! كيف ذهب ما كنا نراه بكلمة واحدة، ونكثوا عهدهم، ونقضوا أيمانهم، فدعا عليهم، فأرسل عذابا ثامنا بينه بقوله
406
«وَالضَّفادِعَ» حيوان معلوم بري وبحري والفرق بينهما وجود غشاء رقيق بين أصابع البحري ليستعين به على العوم في الماء والبري خلو منه لعدم الحاجة، إليه جلت عظمته أعطى كل شيء ما يحتاجه، هدى كل خلقه لمنافعهم وأحسن كل شيء خلقه، فلا نقص ولا اعوجاج فيما خلق فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأوانيهم وأطعمتهم منها، حتى صارت تثب عليهم إذا تكلموا، فتدخل أفواههم، ولم يصب بني إسرائيل شيء منه، لأنه مرسل إلى القبط خاصة والقبط قانعون بأنه معجزة مسلطة عليهم فقط لأنهم يرون أن بني إسرائيل سالمون منه، ولكنهم طغاة معاندون حريصون على بقاء ملكهم مع الكفر لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ودام سبعة أيام أيضا حتى ذاقوا العذاب الأليم والبلاء العظيم فوقعوا على موسى باكين شاكين مستغيثين به قائلين: هذه المرة نتوب ولا نعود أبدا، وأكثروا له من العهود
والمواثيق، وغلظوا له الأيمان بأنه إذا كشفه عنهم يؤمنون ويرسلون معه بني إسرائيل، ولا يعودون الى الكفر فدعى فكشفه عنهم حتى لم تر واحدة منها فقالوا هذا سحر مثل القمل فأين ذهبت هذه الضفادع لو كانت حقيقية؟ ولم ينتبهوا أن الذي أحدثها عليهم بلحظة واحدة قادر على إزالتها عنهم بمثلها، ولكنهم لا يعقلون بقلوبهم ولا يتذكرون ذلك، ونكثوا ونقضوا أيضا، فاشتد غضب موسى عليهم ودعا الله ربه، فأرسل عليهم عذابا تاسعا إذا عد القحط ونقص الثمرات اثنين أما أذاعوا واحدا كما قال قتادة في الآية ٣٠ المارة آنفا فتكون هذه الآية ثامنة وبينها بقوله «وَالدَّمَ» الرعاف كما قاله زيد اني اسلم وقال غيره سال النّيل عليهم دما عبيطا وانقلبت مياه الآبار والعيون وغيرها كذلك على القبط خاصة، حتى أن القبطي والاسرائيلي إذا اجتمعا على ماء واحد فيكون من جهة القبطي دما وما يلي الاسرائيلي ماء، وهكذا إذا تناول القبطي من أمام الاسرائيلي ماء انقلب دما وإذا تناول الاسرائيلي دما من القبطي انقلب ماء، ومع هذا كله لم يعتبروا ولم يجزموا أنه من عند الله، ولكنهم لما يرونه ملازما لهم يراجعون فرعون أولا فيقول لهم سحركم موسى بضروب السحر وقوي عليكم، فيقولوا، له من أين سحرنا
407
والأمر كما ترى؟ فيقول اصبروا وكان نفسه يمضغ الأشجار فتعصر في فيه دما، ولكنه لشدة عتوه يتحمل ويمّني قومه لئلا يروا ضعفا فيه، ودام الحال عليهم سبعة أيام ولما لم يروا من فرعون ما ينقذهم وهو يمنّهيم بالصبر، شأن كل مرة، رجعوا الى موسى شاكين باكين متذللين خاضعين، فرقّ لهم لكثرة ما يوثقون له الأيمان فطمع بصدقهم فدعا الله فأزاله عنهم وكذلك لم يؤمنوا لسابق شقائهم مع رؤيتهم هذه المعجزات «آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» واضحات دالات على صدق نبوة موسى وقد ذاقوا عذابها كلها، ولم ينجح بهم، مع انها معجزات لا تحتاج الى فكر وروية ملموسة حسية ظاهرة تبع بعضها بعضا، قالوا وكان بين كل آية وأخرى شهر واحد، مرتبات، كما يستفاد من قوله هنا مفصلات «فَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان بها وبمن أنزلها وأنزلت عليه مع أن كل منها كافية للتصديق والإيمان ولكن ما كان الله ليهدي قوما خلقوا في الأزل ضلالا «وَكانُوا مُجْرِمِينَ ١٣٣» بإصرارهم على الكفر وانفتهم عن الإيمان وبعد أن يكون الإنسان مجرما لم يبق له إلا الحكم عليه، وهكذا إذا أوقع أحد جرما يكون أولا مدعى عليه ثم ظنينا ثم متهما ثم مجرما ثم محكوما، هذا وقد اشتد غضب موسى فدعا عليهم بما ألهمه ربه، فأجاب دعاءه بما ذكره بقوله عز قوله «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» الموت قال سعيد بن حيدر هو الطاعون وهذا هو العذاب الأخير وهو الآية التاسعة على قول قتادة فمات منهم في اليوم الأول سبعون الفا فأمسوا لا يتدافتون روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فاذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه. وهذه الرواية الأولى على بنى إسرائيل لا يستدل بها على ما نحن فيه لأن الرجز هذا خاص بالضبط كسائر الآيات المتقدمة أما على الرواية الثانية وهي على من قبلكم فيصلح دليلا لما هنا.
هذا ولما رأو ما حل بهم نسوا فرعون والسحر وعجوا واقعين على الأقدام «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» وأوصاك به من النبوة والمرحمة،
408
وهذه الياء للقسم الاستعطافي كذا يستعطفونه عليه السلام وهم باكون ضاجون قائلين والله ربك «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» الموت الذي حل بنا بافترائنا عليك وكذبنا بمواثيقنا ونفقنا عهودنا فالآن وعزة ربك وجلاله «لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ١٣٤» وو الله ربك لا يسعنا بعد هذا إنكار أو تكذيب أو القول بأنه سحر لأنه الموت يا موسى ذقناه ولمسناه هذا، الذي لا رجوع بعده بخلاف الآيات الأول لأنا نراها تزول فتتغير عقب زوالها وتعود الى الكفر وننقض عهودنا ومواثيقنا بسبب رؤيتنا عودة الحالة السابقة إلى طبيعتها، أما الآن فلا وأكثروا من العويل والاستكانة وتمسكوا به خاضعين خاشعين، ولما رأى اعترافهم بالآيات وآنس منهم الصدق في هذه المرة حنّ عليهم وقبل رجائهم فدعى الله مولاه بكشفه عنهم فأجاب دعائه أيضا. قال تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ» أتى بالظاهر موضع المضمر للتأكيد وقد أخرناه «إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ» وهو وقت إغراقهم بالبحر المعلوم وقته عنده والذي هم واصلون اليه لا محالة «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ١٣٥» ما أعطوه من إيمان وعهود ومواثيق، وعاد إلى الطعن والتكذيب شأنهم في كل مرة ولا يقال إن الله تعالى عالم بأن آل فرعون لم يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، فلم والى عليهم هذه المعجزات لأنه نظير قوله جل قوله: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الآية ١٦٤ الآتية.
مطلب جواب الله ورسوله عمّا يقال:
هذا هو جواب الله إلى هذا المعترض وجواب لرسول. هو قوله تعالى: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) يفعل ما يشاء ربكم ما يريد، وهذا جواب أهل السنة والجماعة، أما جواب المعتزلة القائلين برعاية الأصلح إن الله علم من قوم فرعون أن بعضهم يؤمن بتوالي المعجزات وظهورها فلذلك والاها عليهم والله أعلم بمراده وهو قول وجيه لو لم يقترن برعاية الأصلح أي أن فعل الأصلح للعبد واجب على الله عندهم ومذهب أهل السنة والجماعة بخلافه. قال صاحب الجوهرة:
409
وقال في بدء الأمالي:
وما قيل إن الصلاح واجب عليه زور ما عليه واجب
وما أن فعل أصلح ذو افتراض على الهادي المقدس ذي التعالي
ومعنى النكث في الأصل فل طاقات الغزل ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه. راجع تفسير الآية ٩١ من بعدها في سورة النمل في ج ٢، وجواب لما مقدر تؤذن به إذا الفجائية أي فاجئوا بالنكث، وما قيل بأن جوابها الجملة المقترنة بها فيه تساهل وتسامح وكلا من لما وإذا معمول لذلك الفعل المقدر الأولى ظرفه والثاني مفعوله وذلك محافظة لما ذهبوا اليه من أنه يجب أن يكون الذي يلي لما من الفعلين ماضيين لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا الفجائتين في موقع المفعول به للفعل لأن لما تجاب بإذا الفجائية الداخلة على الجملة الاسمية فلا لزوم إلى هذا التكليف بتقدير الفعل قال تعالى «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» أي فرعون وقومه ومناصريه جزاء نكثهم المترادف «فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ» معظم ماء البحر وسلبنا نعمتنا منهم وأهلكناهم. قال ابن قتيبة: اليم سرياني معرب وما قيل إنه أسم خاص للبحر الذي غرق فيه فرعون وقومه ليس بشيء، قال الألوسي في روح المعاني إن هذا القول غريق في يم الضعف وإنما جعلنا هذا الإغراق عقوبة لهم «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الدالة على صدق نبينا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ١٣٦» لاهين لاعبين لم يتفكروا بمن أظهرها ولم يتذكروا بها ولم يبالوا بمن أنزلها وأنزلت عليه ولم يتعظوا بنزول النقمة بهم المسببة عن الأعراض عن تلك الآيات وعدم التفاتهم إلى زجر نبيّهم واعراضهم عما يؤول اليه أمرهم واتباع من كان السبب فيها، فكأنها لم تكن، والغفلة ليست من فعل الإنسان، على أن من شاهد مثل تلك الآيات لا ينبغي له التكذيب بل التصديق والانقياد قال تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ» أي يستذلون ويسترقون ويهانون وهم بنوا إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة ولا أعظم من هذا اهانة وهوانا فجعلنا نحن إليه الكل من الذكور الذين كانوا مملوكين ملوكا وأنبياء وملكناهم «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» اي جهاتها بما فيها بيت المقدس ومصر والشام وهذا أولى من الاقتصار على ارض
410
مصر التي كانوا فيها عبيدا هم ونساؤهم، وهذه الأرض هي «الَّتِي بارَكْنا فِيها» بكثرة الثمار والزروع والأشجار والخصب وسعة الرزق وكونها مساكن الأنبياء والصالحين ومرقدهم، وكلها كانت داخلة في ملك داوود وسليمان وهما من بني إسرائيل ولم يقتصر ملكهما على مصر والشام بل بيت المقدس وما حواليه واليمن وغيرها هذا، وقد جاء في فضل الشام أحاديث كثيرة اخترنا منها ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال: ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
واخرج ابن عساكر عن حمزة ابن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها اسرى به إليها. وهذا مؤيد بإسراء حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم ومهاجرة ابراهيم ولوط عليهما الصلاة السلام، لانهم ليسوا منها.
مطلب ما جاء في مدح الشام:
واخرج احمد عن عبد الله بن خولة الأزدي أنه قال يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه، قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده. واخرج ابن عساكر عن واثلة ابن الأصقع قال: سمعت رسول الله يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من عباده. وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام. وجاء من حديث أحمد والترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم أيضا عن زيد بن ثابت أنه صلّى الله عليه وسلم قال: طوبى، للشام، فقيل له ولم؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها. هذا، والأحاديث في فضل الشام كثيرة، إلا أن فيها مقالا فمنها الضعيف والمنكر والموضوع، وسبب وضع بعضها ما كان يتملّق به بعض المنافقين زمن الأمويين، والشام اسم للاقليم المعروف من حدود الحجاز إلى الترك، ومن مصر إلى العراق، قال في القاموس الشام بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا أي تياسروا إليها ولأنها مساكن سام بن نوح وأن السين تقرأ بالعبرية شينا. أخرج ابن ابي لحاتم عن ابي الأعمش وكان قد أدرك أصحاب رسول الله أنه سئل عما بورك من الشام، أي مبلغ حده فقال: أول حدوده
411
عريش مصر، والحد الآخر طرف الثنية، والحد الآخر الفرات، والحدّ الآخر جعل فيه قبر هود عليه السلام. وان دمشق أو جلق المعروفة الآن بالشام فهي داخلة هذا الإقليم، وفيها خاصة ما قاله بعضهم:
دمشق غدت جنة للورى... زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي... ولا عيب فيها سوى أهلها
وقال آخر:
تجنب دمشق ولا تأتها... وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق... وفجر الفجور بها ساطع
وهذا القائل تشابه قلبه مع قلب من حرّف ما كتب على معرض دمشق عام ١٩٣٤ عبارة معرض دمشق وسوقها بعبارة: معرص دمشق وفسوقها، وهكذا قلوب المنافقين تتشابه كقلوب الكافرين ألا تراهم على وتيرة واحدة في أفكارهم ومداهنتهم راجع الآية ١١٨ من البقرة في ج ٣. وقال آخر:
قيل ما يقول في الشام حبر... شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول فى وصف أرض... هي في وجنة المحاسن شامه
وفي الحقيقة هي الآن قبة الإسلام ومعهد العلوم وباب التقوى ومعدن حلق الذكر وتداول كتاب الله ومركز أهل الفضل والصلاح وكنانة الله في أرضه وملاك الخيرات. أما ما يتفوه به بعضهم فله نوع من الصحة لأنها بلدة عظيمة فيها الغث والسمين، وكل يعمل على شاكلته:
(لكل امرئ في دهره ما تعودا)... (وكل إناء بالذي فيه ينضح)
والطيور على أشكالها تقع، فنسأل الله أن يولي الأمور خيارها ويوفقهم وسائر المسلمين لإزالة ما وصمهم به عدوهم، قال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى» التي هي النصر على العدو وانجاز الوعد بتمكينهم في الأرض واستخلافهم فيها وتلك منّة جلّى «عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» من الله إذ ذاك، أما الآن فنسأله بحرمته أن يدمرهم ويذيقهم أشد ما لاقاه آباؤهم ويطهر الأرض المقدسة منهم ويولي عليهم من يعيد لهم زمن فرعون إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، لأنهم لم يقدروا
412
نعم الله الذي جعلهم بعد الرق أحرارا وبعد الذل أعزاء وجعل منهم ملوكا وأنبياء بعد العبودية «بِما صَبَرُوا» اولا على الأذى والقتل والأسر، إعادة الله عليهم وذلك لأنهم انتظروا وعد نبيهم موسى عليه السلام بالفرج الذي مناهم به أربعين سنة، ولا شك أن الانتظار أشد من النار، قال تعالى «وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ» من البنايات العالية والقصور الشامخة في مصر وغيرها «وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ١٣٧» من الكرم وغيره في الجنان، وجاز ضم راء يعرشون والكسر أفصح، وقد حصل هذا التدمير باغراقهم بالبحر وتركهم ديارهم وجناتهم وبالطوفان الذي أوقعه الله عليهم المنوه به في الآية ١٢٣ المارة، وهذا آخر ما قصه الله علينا في هذه السورة بما جرى بين فرعون وموسى، وانظر ما يقصه الله علينا مما أحدثه بنو إسرائيل بعد ألطاف الله عليهم التي يجب أن يقابلوها بالشكر، قال تعالى «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» بعد انجائهم منه وإغراق فرعون وقومه وخلفناه وراء ظهورهم وأمنوا من كيد فرعون وقومه الذي قطع أمعاءهم كما سيأتي في القصة مفصلا بالآية ٥٣ من سورة الشعراء الآتية «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ» قال قتادة هم طائفة من لخم كانوا نزولا على الرقة أي ساحل البحر لا الرقة التي على شاطىء الفرات من أعمال دير الزور، ولعلها سميت رقة لهذا السبب أيضا، وقال غيره هم الكنعانيون الذين أمر الله موسى بقتالهم ولما رأوهم «قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» تماثيل من الأصنام وكانت على صورة البقر أي ليعبدوها مثلهم، قاتلهم الله استحسنوا عمل أولئك الكفرة وطلبوا مثله ولم وتجفّ أقدامهم بعد من انجائهم من البحر «قال» موسى زجرا لهم وتعجبا من حالهم وقولهم هذا بعد رؤية تلك الآيات التي خلصتهم من عبودية القبط وأهلكت أعداءهم دونهم على مرأى منهم، إذ كانوا في البحر جميعا، وصادف خروج آخر واحد منهم دخول آخر واحد من القبط فيه، ولما رأى عليه السلام طيشهم هذا «قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ١٣٨» عظمة الله وقوة سلطانه ولا تقدرون نعمه، أتريدون أن تشركوا بالله وتكفروا نعمه بعد أن نجاكم
413
من الذل والعار والخزي والقتل والغرق «إِنَّ هؤُلاءِ» الذين ترونهم يعبدون الأصنام ويتخذون عبادتها قربة إلى الله، الذين تريدون أن يكون لكم مثل ما لهم من الأوثان «مُتَبَّرٌ» مدمّر هالك «ما هُمْ فِيهِ» من الحال ويؤدي إلى تدميرهم وليس بدين يتدين به وأن الله سيقدرني على تحطيم أصنامهم هذه وتبديدها وتصييرها فتاتا، لأن عبادتهم لها كفر محض واشراك مع حضرة الربوبية ومثل هذا الطلب محرم وهؤلاء قوم حمق «وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١٣٩» من صنعها وعبادتها فهم كفار يجب قتالهم، لأنهم لم يريدوا بعبادتها وجه الله ثم «قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً» كلا لا إله غيره «وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ١٤٠» في زمانكم وهو المستحق للعبادة وحده لأنه النافع الضار، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر فكيف تريدون عبادتها وهي لا تدفع شرا عن نفسها هذا جزاء الله منكم أيها الفسقة. أخرج الترمذي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين امرّ بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا (أي طائفة ممن معه) اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلّى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) والذي نفسي بيده لتركين سنن من قبلكم، الحديث.
ثم شرع يعدد عليهم نعمه فقال «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ» يولونكم ويكلفونكم ويبغونكم «سُوءَ الْعَذابِ» أشده وأقساه ثم بينه بقوله «يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» العذاب المهين محنة فظيعة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ١٤١» لا أعظم منه في الدنيا فهو غاية الذل ونهاية الخزي والعار، فالرب الذي أنجاكم من وأهلك عدوكم وملككم أرضه وماله، أليق بكم أن تشتغلوا بعبادته طلبا لرضاه وشكرا لما أولاكم وأجدر أن لا تشركوا معه شيئا أبدا، لا أن تقولوا اجعل لنا إلها من أحجار وأخشاب ومعادن جامدة أو من حيوان عاجز، انتهوا عن هذا واستغفروا لئلا يحل بكم غضبه، قال تعالى «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» للتشرف بمناجاتنا وهو شهر ذي القعدة «وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» من ذي الحجة «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ
414
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»
مع يوم العيد الذي هو يوم الوعد، وذلك أنه عليه السلام بعد أن نجى الله قومه وعبر بهم البحر وزجرهم على ما وقع منهم، وكان وعد قومه بأنه إذا أهلك الله عدوهم يأتيهم بكتاب من عند ربه فيه ما يأتون وما يذرون.
ولما تمّ له ذلك طالبه قومه به، فسأل ربه انجاز وعده، فأمره أن يصوم ذا القعدة ثلاثين يوما فصامها، وأنكر خلوف فمه، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك، ثم أمره أن يصوم عشرة أيام من أول ذي الحجة ويحضر لمناجاته وإنزال الكتاب عليه، فصامها وتوجه إلى المحل الذي أمره أن يحضر فيه «وَقالَ... لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» مدة ذهابي لمناجاة ربي «وَأَصْلِحْ» أمورهم واحسن خلافتي فيك وفيهم وراقبهم في حركاتهم وسكناتهم «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ١٤٢» منهم، وقد أعطى هذه الأوامر أخاه وهو يعلم أنه يصلح ولا يسلك سبيل من أفسد منهم ولكنه من قبيل التوكيد لشدة حرصه عليهم، ولعلمه بصغر عقولهم، ولأنهم قوم ترّبوا على الذل والصغار لا يأمن أن يستميلهم الأشرار، وتوصية لهرون الذي لا يتصور منه وقوع ما أوصاه به، وحذره عنه، على حد قول سيدنا إبراهيم (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية ٢٦٠ من البقرة في ج ٣، وعلى حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية ١٣٤ من سورة النساء، أي اثبتوا على إيمانكم وداوموا عليه، فكأنه يقول لأخيه دم على أخلاقك وإصلاحك شأنهم كما كنت أنا وأنت دائبين عليه، وكأنه عليه السلام نفث في روعه أنهم سيزيغون عن عبادة الله بما يسوله لهم شرارهم فأوصى أخاه بما أوصاه لأن الأنبياء ملهمون، وسبب وصيته هذه أن الرئاسة كانت لموسى دون هرون، وقال الشيخ محي الدين العربي الأكبر في فتوحاته ما معناه إن هرون نبي أصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل إن هذا كان كما يقوله أحد المأمورين بمصلحة واحدة إذا أراد الذهاب لحاجة كن عوضا عني، أي ابذل جهدك ووسعك بحيث يكون عملك عمل اثنين، وهو وصية لأن هرون مثل موسى مرسل لبني إسرائيل أيضا.
415
مطلب ميقات موسى وتكليمه:
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» الذي عينّاه له في طور سيناء «وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» من غير واسطة ولا كيفية. وقد ذهب الحنابلة ومن تابعهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، وذهب المتكلمون إلى أنه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وهي صفة أزلية قديمة، وعليه فإن القائلين بهذا القول قالوا إن موسى سمع تلك الصفة القديمة الأزلية حقيقة وقالوا:
فكما أنه لا تبعد رؤية ذاته وليست جسما ولا عرضا، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنه ليس بصوت ولا حرف، ومع هذا فإنه لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور من ذلك، أما من قال إن تكليمه تعالى عبارة عن خلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في الألواح، وهو ما ذهب إليه الزمخشري ومن على طريقته من المعتزلة فهو قول باطل، لانه يقضي بأن تقول الشجرة التي كلمه منها أو الجرم الذي كلمه عليه إنني أنا الله، وإن هذه الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول ذلك فظهر فساد مذهبهم في هذا. وإن مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه جمهور العلماء وبعض من المتكلمين سلفا وخلفا، هو أن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله، والحقيقة أن الله تعالى كلم موسى بلا واسطة ولا كيفية، وأسمعه كلامه ومناجاته، فاستحلى ما سمع وطمع في رؤيته لغلبة شوقه إليه «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» سأل عليه السلام ربه أن يريه ذاته المقدسة مع علمه بأن الله لا يرى في الدنيا بسائق ما هاج به من الغرام في لذة المناجاة وما فاض عليه من الجلال حتى استغرق في بحر محبّته، فسأل الرؤية، ولعل هذه أيضا من جملة ما ألهم بأنه سيأتي نبي بعده يرى ربه بأم عينه فطمع بذلك وطلبها، أو أنه طلب التمكن من الرؤية مطلقا بالتجلي والظهور وهما مقدمان على النظر ومسببان له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم فيكون المعنى: مكني من رؤيتك أو تجلّ علي فأنظر إليك وأراك، ولم يرد إيجاد الرؤية لعلمه باستحالتها في الدنيا فأجابه ربه بالمنع «قالَ لَنْ تَرانِي» وأنت على ما أنت عليه لأن البشر لا يطيق
416
النظر إليّ في هذه الدار، وفي هذا دليل لأهل السنة والجماعة على جواز الرؤية في الآخرة، لأن موسى اعتقد أن الله يرى، فسأل الرؤية لأنها جائزة واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر، ولأنه تعالى لم يقل لن أرى ليكون نفيا للجواز ولو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان، قال تعالى «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» طور سيناء الذي هو قريب منه واسمه زبيد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» بعد أن تجلى عليه وبقي كما هو عليه الآن «فَسَوْفَ تَرانِي» إذا تجليت عليك أيضا، وهذا دليل أيضا على جواز الرؤية لأنه علقها باستقرار الجبل وهو ممكن وتعليق الشيء بالممكن دليل على إمكانه كالتعليق بالممتنع دليل على امتناعه، والدليل على أن استقرار الجبل ممكن قوله (جَعَلَهُ دَكًّا) ولم يقل اندك، وما أوجده الله تعالى كان جائزا أن لا يوجد لو لم يوجده، لأنه مختار في فعله، ولأنه تعالى ما آيسه من الرؤية ولا عاتبه على طلبها كما عاتب نوحا بقوله:
(أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الآية ٤٦ من سورة هود في ج ٢، ولا يقال أن محمدا من البشر وكيف رأى ربه وقوي على رؤيته، لأن الله تعالى أودع فيه قوة على ذلك مكنته من الرؤية لأنها من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم كما خص موسى بالتكليم وقواه على سماع كلامه مشافهة دون غيره، فلا مناقشة في هذا وما عموم إلا خصص.
هذا، ومن قال انّ (لن) للتأييد والدوام واستدل على عدم جواز الرؤية حتى في الآخرة فقد أخطأ إذ لا شاهد له بالعربية على قوله، ولا دليل له في الكتاب والسنة وأن الدلائل لإثبات الرؤية في الآخرة صريحة في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية ٢٤ من سورة القيامة المارة، وجاء في الصحيحين أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ومما ينقض قوله أنّ لن للنفي ألا يرى قوله تعالى في نعت اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) الآية ٩٥ من البقرة في ج ٣، مع أنهم يتمنونه يوم القيامة في قوله تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الآية ٧٧ من الزخرف في ج ٢، وقوله (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الآية ١٧ من سورة الحاقة في ج ٢، وقوله في الآية ٢٥ من سورة مريم الآتية (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) ت (٢٧)
417
فظهر لك من هذا كله أنّ لن ليست للتأييد، قال تعالى «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه بعد أن جعله مدركا، لذلك قال الشيخ أبو منصور نقلا عن الأشعري، أنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلما ورؤية حتى رأى ربه، فلما رآه جلت رؤيته «جَعَلَهُ دَكًّا» مفتوتا ساوى به الأرض بحيث لم يبق له أثر، والدّكّ والدق أخوان وكذلك الشك والشق، وهذا نص بكونه مرئيا ثابت لا مرية فيه، ونص بجهل منكر الرؤية كما مرت الإشارة إليه، ولا يستغرب هذا، لأنه داخل في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الآية ٤٤ من سورة الإسراء الآتية، فظاهر هذه الآية يستلزم كون جميع الأشياء حية مدركة بحياة وإدراك لا يقين بها، وكل بنسبة عالمه، وإذا دققت النظر في مغزى اسمه القادر هان عليك ما لا يقبله عقلك أو تنصوره مخيّلنك، اللهم بصرنا وأرشدنا إلى ما به النجاة من الحيرة. هذا، والاحتجاج بجمادية الجبل لا قيمة له، لأن الله تعالى قال في الآية ٩ من سورة سباء في ج ٢ (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) فالذي أقدر الجبال على التسبيح مع داود عليه السلام أقدر هذا الجبل على الفهم والتعقل وخلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحلول الحياة له والعقل فيه فهكذا هنا، فلم يبق مجال للقول بإنكار الرؤية وجوازها بعد أن بان لك تبعتها بالدلائل العقلية والسمعية، وعلمت بأن ما جاء به منكر الرؤية مصدره التأويل والتفسير راجع تفسير الآية ١٠٢ من سورة الأنعام في ج ٢، قال ابن عباس: ظهر نور الربوبية للجبل فصار ترابا «وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» صائحا مغشيا عليه ساقطا على الأرض من هيبة الربوبية وعظمتها التي لا تكيف «فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ» تعاليت وتنزهت عن المثالية والمشابهة لخلقك وعن أن يثبت أحد لمشاهدتك «تُبْتُ إِلَيْكَ» عن سؤال الرؤية في الدنيا ومن أن أسألك شيئا بغير إذنك «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ١٤٣» بأن البشر لا يطيق رؤيتك في الدنيا إلا من قربته منك وقويته بمعونتك وأيدته بتأييدك وخصصته بها دون سائر خلقك، وكان رمز إليه بأنه سيظهر نبي بعدك يرى ربه «قالَ يا مُوسى
418
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ»
اخترتك وميزتك «عَلَى النَّاسِ» الموجودين على الأرض في زمنك «بِرِسالاتِي» التي أرسلتك بها لتبلغها لعبادي وهي الصحف التي أنزلتها إليك قبل أسفار التوراة التي أنزلها عليك الآن «وَبِكَلامِي» لك دون واسطة «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ» من هذه الفضائل التي خصصتك بها وحدك ولم تكن لأحد قبلك فاقبلها واعمل بها «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ١٤٤» نعمائي من تشريفك بالرسالة وتتويجك بالتكليم، ولا يضق صدرك من منعي لك الرؤية لأنها لم تقدر لك في أزلي، فرضي موسى، وشكر ربه، قال تعالى «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ» المسطور عليها التوراة «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه هو وقومه من أمر ونهي وحلال وحرام وحدود وأحكام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم «وَأْمُرْ قَوْمَكَ» يا رسولي «يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» عند وقوع شيء له جهتان، كالعفو فإنه أحسن من القصاص، والصبر فإنه خير من الانتقام والضجر، والكظم فهو أولى من الانتصار، والصلة فهي أحسن من القطيعة، وهذه موافقة لشريعتنا قال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية ٥٥ من سورة الزمر في ج ٢، والقرآن كله حسن وإنما الفرق بين الحسن والأحسن كثرة الثواب، ويستدل من هذه الآية أن التكليف كان على موسى أشد منه على
قومه إذ لم يرخص له ما رخص لهم من الأخذ بالأحسن بل خصصه بالحزم، وهو من أولي العزم إذ يقول له (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وكذلك كلف صلّى الله عليه وسلم بأكثر مما كلفت أمته فكلف بقيام الليل على سبيل الفرض ومنع من تطليق نسائه ومن الزواج عليهنّ، إلى غير ذلك.
مطلب أعمال الكفرة ورؤية موسى ربه:
هذا، وقد أمره ربه في مناجاته هذه بعد أن أقر عينه بالاصطفاء أن يمرّن قومه على الأخلاق الفاضلة لعلمه بما يصدر عنهم بخلافها لتكون عليهم الحجة ولهذا نبههم بقوله «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ١٤٥» الخارجين عن الطاعة الذين يؤثرون الأخلاق السافلة على العالية، فليعتبر قومك يا محمد بالأمم الماضية كيف دمرناها لما
419
أصروا على الكفر، وعليهم أن يتعظوا قبل أن يحل بقومك ما حل بهم من الوبال والتنكيل وليعلموا أني «سَأَصْرِفُ عَنْ» فهم ومعرفة معنى «آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ» على خلقي «بِغَيْرِ الْحَقِّ» حسبما تسوّل لهم أنفسهم فيظلمون ويبغون على الناس بمقتضى دينهم الباطل الذي اختلقوه وتلقوه من آبائهم الضالين «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ» من آياتي التي أظهرتها لهم على أيدي رسلهم «لا يُؤْمِنُوا بِها» ولا يزيدهم نزولها وتبليغها لهم من قبل رسلهم إلا إنكارا وإصرارا على الكفر «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» بل يعرضون عنه «وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» عنادا وعتوا لا جهلا لأن كل من عنده لمحة من إدراك يميز بين الرشد والغي، كما يميز بين الظلمة والنور فيعرف الأول نافعا والثاني ضارا ولكنهم لا يريدون إلا الانكباب على عوائدهم الشائنة «ذلِكَ» اختيارهم طريق الشر على طريق الخير، وإيثارهم الكفر على الإيمان «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الواضحة الدالة على حسن ما أمرناهم به بواسطة رسلنا «وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ١٤٦» غير مفكرين بها ولا ملقين لها بالا، لاهين عن الاتعاظ بها معرضين عنها «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ» فجمعوا بين التكذيب والجحود أمثال من تقدمهم من الأمم المهلكين، المصرفين عن فهم حقائق آياتنا والتصديق بالبعث والحشر «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من برّ وصلة وقرى ضيف وفك أسير وإغاثة ملهوف وإقالة عثرة ومطلق إحسان، مما يثاب عليه المؤمن في الآخرة من عوائدهم الحسنة التي كانوا يفعلونها بطلت ومحق ثوابها، لأنهم لم يفعلوها لوجه الله في الدنيا ولذلك لم ينتفعوا فيها بالآخرة، وقد حرموا من ثوابها بسبب تكذيبهم وكفرهم، ولأنا قد كافأناهم عليها في الدنيا بكثرة الأموال والأولاد والصحة والأمن والجاه لأنا لا نضيع أجر من أحسن عمله، فإن كان مؤمنا أثبناه عليه في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا كافيناه عليه في الدنيا فقط وما له في الآخرة من نصيب، فانظروا «هَلْ يُجْزَوْنَ» هؤلاء وأضرابهم يوم القيامة «إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١٤٧» بدنياهم فيجازون عليه إن خيرا فخير، وان شرا فشر، إلا أن الكافر يعجل له
420
ثواب عمله الصالح في الدنيا ليلقى الله ولا حسنة له راجع تفسير الآية ٢٠ من سورة الأحقاف في ج ٢، والمؤمن يدخر له هذا.
مطلب إشارات القوم في الرؤية:
وقد اختلف المفسرون والعلماء بأن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا؟ فذهب الأكثر إلى عدم الرؤية لا قبل الصعق ولا بعده، وقال الشيخ الأكبر إنه رآه بعد الصعق، لأنه كان موتا، أخذا من قوله تعالى:
(فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية ٦٨ من سورة الزمر في ج ٢، أي أنه حين صعق مات فرأى ربه وسأله عما جاء في الآية وأجابه بما جاء فيها، ووافقه على هذا، القطب الرازي. أخرج الحاكم والترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فقال: قال الله يا موسى إنه لن يراني حيّ إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم. وجاء في الخبر الذي رواه أبو الشيخ عن ابن عباس: يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا، قال موسى رب ان أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا. وجاء في باب الإشارات: (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال هيهات ذلك وأين الثريا من الثرى ومن يد المتناول أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الانانية، فإذا أردت ذلك فخل نفسك وأتني، فهان عليه الفناء في جانب الرؤية للمحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذا رأى عزة المطلوب، فبذل وجوده وأعطاه موجوده، فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته، وكان وما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطغى المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الانس في رياض القدس (ينعم)
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرقّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أمّلتها فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا
وقد أبدع ابن الفارض في تائيته الكبرى فمن شاقه البحث فليراجعها، ففيها
421
ما تقرّ به العين ويشرح الصدر وترتاح له الجوارح، وإن كتب الصوفية العارفين كالرسالة القشيرية والأبريز والإنسان الكامل وغيرها مما تقدم ذكره في المقدمة ملأى من هذا، فمن أراد الوصول إلى حضرة القبول، فليخل نفسه ويتوجه بكلية قلبه ولبه إلى ربه، وإلّا لا وصول ولا قبول. قال عيسى عليه السلام: لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، ولن يلج ملكوت السموات إلّا من ولد مرتين. هذا، وإن السادة الصوفية قالوا بصحة الصعق الذي يحصل لبعضهم عند سماع آية رغبة أو رهبة أو ما في معناهما من هذا، كما أشرنا إليه في تفسير الآية ١٤ من سورة المزمل المارة.
وأرى أن لا يعترض عليهم في ذلك كما لا يعترض على ما جاء في كتبهم من عبارات قصر الفهم عن إدراك معناها ووقف العقل عن تناول مغزاها.
مطلب الصعق وتحريم النظر في كتب القوم لغيرهم:
فقد جاء في ص ٢٩٤ في الجزء الثالث من حاشية الدر المختار لابن عابدين ما نصه:
(نحن قوم يحرم النظر في كتبنا) وذلك لأنهم تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها فيما بينهم وأرادوا بها غير معناها المتعارف، فمن حملها على معناها الظاهر فقد كفر.
وقد سئل بعضهم عن هذا فأجابه بما نصه: (الغيرة على أن يدعي طريقنا من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله) وقد سئل العلامة عز الدين بن عبد السلام عن ابن العربي وكان يطعن فيه ويقول هو زنديق، فقال هو القطب، فقال لم تطعن فيه، فقال لا أخون ظاهر الشرع، أي أنه كان يرى منه ما يخالف الشرع ظاهرا فيطعن فيه من هذه الجهة. راجع تفسير الآية ٤٢ من سورة والنجم، ومن هذا القبيل كان اعتراض موسى عليه السلام على الخضر. راجع الآية ٦٥ فما بعدها من سورة الكهف في ج ٢، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٢٧ من سورة الزمر في ج ٢. هذا، وقد ذهب الشيخ ابراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دكّ الجبل عند التجلي، واستدل بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ،
422
وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين، وجمع بين هذا وبين قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود.
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى الله عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق، كما أن الكلام الذي إعطاء لموسى كذلك بخلاف رؤية موسى فإنها لم تجتمع له مع البقاء، وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال أنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت، هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين، أي بعد أن يصل إلى درجة الأبرار فتموت نفسه فتنقل إلى رتبة المقربين فتحيا بها فيرى أن ما كان منه في الدرجة الأولى خطأ ينبغي الاستغفار منه والتوبة عن مثله، لما هو من العمل الذي ولد عليه في رتبة المقربين. ولهذا قالوا حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا والله أعلم. واعلم أن الذاهبين إلى عدم الرؤية مطلقا، وهو ما ذهبت إليه يجيبون عما ذكر في حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر المارين آنفا، بأن الثاني ليس فيه أكثر من اثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام في غير رؤية، إذ لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور، وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام، لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تجليات شتى غير ذلك، فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحته واحد منها وقد يقطع بذلك، فإنه سبحانه تجلى عليه بكلامه واصطفائه وقرب منه على الوجه الخاص اللائق به، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الابصار، وهذا أولى مما قيل إن اللام في لموسى للتعليل، ومتعلق تجلى محذوف، أي لما تجلى الله للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر، وهذا الحق الذي لا محيص عنه. أما الزمحشري فقد بالغ في عدم إمكان الرؤية وأصر على أنّ لن للتأييد ولدوام النفي وتأكيده،
423
وقال إن قول موسى (تبت إليك) دليل على خطأه بسؤال الرؤية، وقال في كشافه أعجب من المتسمين بالإسلام المسميين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة (أي قولهم إن الله تعالى يرى بلا كيفية مثل الحوقلة والبسملة والصلعمة وغيرها) فإنه من مصنوعات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم:
وجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه
ويريد بهذا هو وجماعته ومن تابعهم من المعتزلة نفي الرؤية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم ليلة الإسراء المجمع عليها، لأنه من غلاة منكريها والتشنيع على القائلين بها، وقد رد على قولهم هذا تاج الدين السبكي رحمه الله بقوله:
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة
وتلقّبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وقال صاحب مبدأ الأمالي:
يراه المؤمنون بغير كيف وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
أي من نعمة الرؤية لأن جزاءهم حرمانها، قال تعالى «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ» أي بعد ذهابه للمناجاة وتخليف أخيه هرون عليهم مدة غيابه «مِنْ حُلِيِّهِمْ» جمع حلي كندى وهو ما يتزين به من الذهب والفضة والجواهر «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صياح صوت كصوت البقر.
مطلب أصوات الحيوانات وقصة العجل:
حيث يسمى خوارا، كالثغاء للغنم، واليعار للمعز، والينيب للنيس، والنباح للكلب، والسحيل. والنهيق للحمار، والزئير للأسد، والعواء والوعوعة للذئب، والضباح
424
للثعلب، والصنّى للفيل، والثغيم للضبي، والقباع للخنزير، والمواء للهرة، والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للخيل، والرغاء للناقة، والضغيب للأرنب، والعرار للظليم ذكر النعام، والعرمرة للبازي، والغقغقة للصقر، والصفير للنسر، والهديل للحمام، والسجيع للقمري، والسقسقة للعصفور، والنعيق والنعيب للغراب، والصقاع والزقاء للديك، والقوقاء والنقنقة للدجاج، والفحيح للحية، والنقيق للضفدع، والصّئيّ للعقرب وللفأر، والصرير للجراد، إلى غير ذلك. وقرأ عليّ كرم الله وجهه جوار بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد كالصياح والصراخ، وهي تصحيف خوار بلا زيادة في الحروف. وخلاصة القصة أن بني إسرائيل كانوا استعاروا حلي القبط ليتزينوا به في عيدهم وذهبوا مع موسى إلى البحر قبل أن يردّوه إليهم، وقد هلك القبط في البحر حينما تبعوهم ونجوهم منه وبقي حليهم عندهم فصار ملكا لهم، لأن الاستيلاء على مال الكفّار يوجب زوال ملكيته عنهم وصيرورته ملكا للمتولى عليه، لذلك نسبه الله إليهم، وهذا مما هو موافق لشريعتنا من شريعة موسى عليه السلام إذا كان لا يعد من الغنائم الحربية لأنها لم تحل لبني إسرائيل ومن شريعتهم حرقها، أما في شريعتنا فهي حلال ومن خصائص الأمة المحمدية الخمس المختص بحضرة الرسول الآتي بيانه في الآية ١٥٨ الآتية، ولما مر على ذهاب موسى عليه السلام ثلاثون يوما ولم يعد إليهم ولم يعلموا أن الله زاده عشرة أيام أخر ويعلمون أن موسى لا يخلف وعده، وكان السامري من قوم موسى منافقا وكان رجلا حاذقا وهو كما قيل رباه جبريل عليه السلام واسمه موسى أيضا وفيه وفي موسى عليه السلام قال القائل:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت عقول مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وكان يرى جبريل عليه السلام ويرى أن حافر فرسه كلما وطىء شيئا اخضرّ فعرف المغزى من ذلك وهو إحياء الأرض الميتة بوطىء حافر فرسه فأخذ شيئا من تراب أثر فرسه واحتفظ فيه، وكان مطاعا في بني إسرائيل فوسوس إليه الشيطان أن يصنع صنما لهم فكلفهم بإحضار الحلي الذي استعاروه من القبط بداعي أنه لا يجوز
425
لهم أخذه، فأحضروه له فصاغه عجلا وأخرج ذلك التراب فوضعه في هيكل العجل فصار له صراخ كصراخ العجل، فقال لهم هذا هو الإله الذي قصده موسى قد نسيه هنا، لأن المدة المعينة مضت ولم يحضر وأغراهم بذلك وأمرهم بعبادته، وصاروا كلما صاح سجدوا له. وهذا الذي خطر على قلب موسى في توصية أخيه وخوفه على بني إسرائيل الضلال. قيل إن تصويته كان يحصل من أنابيب صاغها في بطنه وكلما دخل فيها الهواء صوتت، والأول أصح على القول بأنه وضعت فيه حياة خاصة بسبب التراب المار ذكره، والثاني أجدر بالقبول للعقول لما للهواء من التأثير في المكونات التي اطلع عليها البشر، وخاصة أهل هذا الزمن والعجل لولد البقر خاصة، ولولد الناقة حرار، والفرس مهر، والحمار جحش، والشاة حمل، والمعزى جدي، والأسد شبل، والفيل دغفل، والكلب جرو، والظبي خشف، والأرنب خرنق، ويضرب فيه المثل بالنعومة قال:
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملق
واعمد لأخرى ذات دلّ مونق ليّنة اللمس كمس الخرنق
ولولد الضبع فرعل، والدب دسيم، والخنزير فنوص، والحية حويش، والنعام رأل، والدجاجة فروج، والفأر ردوص، والضب حسل، فرد الله على السامري بقوله «أَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء السفهة «أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ» هذا العجل «وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا» لأنه لا يعقل ولا يفهم «اتَّخَذُوهُ» ليرشدهم إلى طريق الصواب أم ليدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا كآحاد البشر، وهذا تقريع وتشنيع على فرط ضلالهم وإضلالهم بالأمور النظرية «وَكانُوا ظالِمِينَ ١٤٨» باتخاذهم إياه وإعراضهم عن عبادة الله مع علمهم بأنه صورة مصنوعة لا تقدر على شيء ومن كان كذلك فهو ناقص والناقص لا يصلح للألوهية، وهذه الآية كالآية ٨٩ من سورة طه الآتية من حيث المعنى، وقد أنّبهم هرون عليه السلام بما فى معناها وأمرهم بالكف عنه والرجوع لعبادة الله فلم يفعلوا كما سيأتي في الآيتين ٩٠ و ٩١ من سورة طه أيضا، ولما ينغهم قدوم موسى أحسّوا بسوء صنيعهم وعرفوا أنهم على ضلال فأنزل الله قوله جل قوله
426
«وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» هذا مثل تقوله العرب لكل نادم على أمر لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده ويضرب بها على فخذه فتصير يده ساقطة والسقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل، لذلك يقولون لمن هذا شأنه سقط في يده «وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا» تيقنوا وعلموا أن عبادتهم العجل خطأ صراح، وندموا على ما وقع منهم وعدم التفاتهم إلى نصح هرون عليه السلام في ترك عبادته، ولاموا بعضهم فانقسموا شطرين شطرا مع السامري عكفوا على عبادته، وشطرا مع هرون امتنعوا عنها ثم ندم بعض الذين أغواهم السامري حيث عرفوا الحق مع هرون بعد أن أكثر لهم من إسداء النصح وتفنيد الصورة المصنوغة وطلبوا من هرون العفو وسؤال المغفرة من الله «قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا» ذلتنا هذه «لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ١٤٩» في الدنيا والآخرة اعترافا منهم بالذنب وإظهارهم الرغبة إلى الله رهبة منه وطلبا لإقالة عثرتهم، قال تعالى «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ» من طور سيناء حيث أخبره ربه بما فعل قومه كما سيأتي في الآية ٨٤ من سورة طه أيضا، وكان عليه السلام «غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الحزن على ما وقع من قومه أثناء مناجاة ربه بما أوجب تركها ورجوعه لإنقاذهم مما هم فيه «قال» مخاطبا لهم جميعا أو لكل من الفريقين على حدة، لأن منهم من لم يزل منكبا على عبادة العجل حتى شاهدهم بنفسه كما قال تعالى في الآية ٩٩ من سورة طه حينما كلفهم هرون بالانكفاف عنه قالوا (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» وهذا صالح لخطاب الطرفين لعبدة العجل والسامري، لأنهم كفروا بعبادة العجل وتركهم عبادة الله وإلى هرون ومن معه إذ لم يمنعوهم ويحولوا دون عبادتهم للعجل فيحجبونهم عن الكفر فقال الظالمون تأخرت عن موعدك وظننا أن هذا هو الإله الذي ذهبت إليه فعبدناه، قال موسى «أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ» فتقدمتم به قبل وقته. وهذا معنى العجلة، ولذلك صارت مذمومة بخلاف السرعة لأنها عمل الشيء أول وقته فلا تكون مذمومة وعليها قوله تعالى في الآية من سورة طه: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ولما سمع
427
منهم جوابهم اشتد غضبه عليهم «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ» المسطور عليها التوراة، وضرب المثل: (ليس الخبر كالمعاينه) ينطبق هنا لأن الله أخبره بأن قومه عبدوا العجل ولم يلق الألواح بل استمر على سماع المناجاة، وفي مجيئه لم ير زيادة على ما أخبره به ربه، ولكن الرؤية لها وقع شديد وتأثير بليغ لهذا اشتد غضبه عليه السلام فترك الألواح «وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» لزيادة موجدته، ولأنه لم يرسل إليه خبرا بفعلهم هذا ليرجع ويتلافى الأمر، فاعتذر إليه هرون بقوله الذي قصه الله الَ يَا بْنَ أُمَّ»
لم يقل يا ابن أبي أو يا أخي مع أن أباهما واحد أيضا طلبا لترقيقه عليه ولأن أمه هي التي قاست بتربيته ما قاست من أجله، فلعله أن يرحمه بسائق رحمة أمه له، لهذا استعطفه بذلك ليرق قلبه عليه ثم أوضح له معذرته وسبب الإقامة معهم وعدم لحوقه ليخبره بصنيعهم بقوله «إِنَّ الْقَوْمَ» بعد ذهابك يا ابن أمي قد «اسْتَضْعَفُونِي» فلم يلتفتوا لقولي ولم يصغوا إلي «وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي» حينما شددت عليهم بالمنع من عبادة العجل «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» بما
توقعه بي فتسرهم بما ينالني من مكروه (والشماتة الفرح ببلية العدو) «وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٢٥٠» أنفسهم بعبادة العجل والتشويق لعبادته، ولا تؤاخذني بعدم إخبارك لأني لما أردت ذلك هددوني بالقتل ولم أقدر أن أنفكّ عنهم،
ولما سمع موسى من أخيه معذرته وعلم أنه تعدى عليه «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما فعلناه بأخي لأنه من أجلك وتبين لي أنه لم يستوجب جزاء ما «وَلِأَخِي» اغفر أيضا لعدم قدرته على منعهم وعدم تقصير في نصحهم وعدم تركهم له لإخباري «وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» الواسعة لمثل ما وقع منا وأعظم «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٢٥١» فاشملنا برحمتك يا إلهنا واغمرنا بعفوك الضافي، ثم قال تعالى مخاطبا لأولئك الظالمين اعلم يا موسى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» وعبدوه من دوني «سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ» في الآخرة إن لم يتوبوا وتقبل توبتهم «وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أيضا بأن يعترفوا بخطيئاتهم ذليلين حقيرين، يعلوهم الصغار بإسلام أنفسهم للقتل «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ١٥٢» علينا، وهذا مما أخبر الله به موسى أثناء
428
المناجاة بدليل صرف الاستقبال في سينالهم بالنسبة لوقت الإخبار. وقد أخبرنا الله عن كيفية توبتهم في الآية ٥٤ من سورة البقرة في ج ٣، وهذه من الأمور الشاقة المبينة في الآية ١٥٦ الآتية المخصصة بشريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، لأن التوبة تقبل قولا وتتم بحسن النية، أما اليهود فلا تقبل توبتهم إلا باستئذان من الله ولا تكون إلّا فعلا، فيا حسرتهم لم يؤمنوا به ولم يتبعوه كي يستفيدوا من هذا التخفيف، وان أسلافهم الكرام، لما أخبرهم موسى بقبول توبتهم على أن يقتل بعضهم بعضا رضوا بحكم الله فقتل بعضهم بعضا حتى أن الأب صار يقتل ابنه والابن أباه والأخ أخاه، وهكذا حتى ماتوا شهداء تائبين رحمهم الله، ولا يتصور بعد هذا أن ينالهم غضب وذلة لأن الحد مزيل للعقوبة ومطهر منها ولا حد أكبر من القتل ولا أفظع منه بالصورة المذكورة، والله تعالى أكبر من أن يجعل على عباده عذابين، وخاصة بعد أن خضعوا لأمره وأنابوا لمراده وهذا أحسن وجه للتفسير، وما قاله ابن جريح من أن الغضب والذّلة لمن مات على عبادة العجل أو فر من القتل وجيه، ولكن المفسرين على خلافه، ولذلك جرينا على أن الغضب لمن لم يتب منهم ولم تقبل توبته، أي بأن كان حال يأس، ومن قال ان المراد بهم اليهود الذين في زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلم ومن قال ان المراد بهم أولاد الذين عبدوا العجل على عهده صلّى الله عليه وسلم، وفسر الغضب بعذاب الآخرة مطلقا والذلة بالجزية. ومن قال أن الآية على حذف مضاف أي سينال أولادهم ذلك يأباه سياق التنزيل، ولا يوجد ما يؤيده من أمارة أو دليل، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق ولم يوجد في مكة بين الرسول واليهود أخذ، وردّ، وإنما هذا من جملة ما قصه الله على رسوله من أخبار الماضين، وهذه الأقوال ناشئه من عدم النظر إلى ترتيب نزول السور قال أبو قلاية هذه الآية جزاء كل مفتر الى يوم القيامة بان يذله الله في الدنيا ويغضب عليه في الآخرة، وقال سفيان بن عينية هي في كل مبتدع إلى يوم القيمة. وقال مالك بن انس: مامن مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية، قال والمبتدع مفتر في دين الله.
429
مطلب عظيم عفو الله وتكسير الألواح:
ومما يؤيد ما اخترناه لتفسير هذه الآية على الوجه المار ذكره، قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٥٣» لأن حكمها عام يدخل فيه عبدة العجل وغيرهم مهما عظمت جنايتهم، وهي من أعظم البشارة للمذنبين التائبين، لأن الذنوب مهما عظمت فعفو الله أعظم وما أحسن ما قيل:
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
وقول أبي نواس:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
وقوله أيضا:
إذا كنت بالميزان أوعدت من عصى فوعدك بالغفران ليس له خلف
لئن كنت ذا بطش شديد وقوة فمن جودك الإحسان والمن واللطف
ركبنا خطايانا وعفوك مسبل وهلا لشيء أنت ساتره كشف
إذا نحن لم نهفو وتعفو تكرما فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو
وقول الشافعي رحمه الله:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
قال تعالى مبينا بقية ما وقع لموسى مع قومه «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ» أي سكنت ثورته استعاد السكوت للسكوت لأنه بمعناه وقرأ معاوية ابن قرة سكن وهي تصحيف أيضا «أَخَذَ الْأَلْواحَ» التي القاها على الأرض حال شدة الغضب عند مشاهدة طائفة من قومه عاكفين على عبادة العجل «وَفِي نُسْخَتِها» المكتوب عليها التوراة «هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ
430
يَرْهَبُونَ ١٥٣»
يخافون من شدة عذابه، قالوا انها لم تتكسر حين ألقاها أولا حال الغضب، إذ لم يوجد حديث صحيح أو خبر صادق يمكن الاحتجاج به على تكسيرها، والقول بأنها تكسرت ثم عادت في لوحين بعد أن كانت في سبعة الواح، وبعد أن صام أربعين يوما، ننقله على علاته، إذ لم نقف على ما يؤيده، وكذلك القول، بأنها تكسرت ولم تعد، وأن النسخ في الآية من شذاذها المكسرة، وأحسن هذه الأقوال القول ببقائها نفسها لم يطرأ عليها شيء حين الإلقاء، وبليه القول بانها عادت بعد التكسير لحالتها الأولى لموافقته ظاهر القرآن إذ يقول الله تعالى (أَخَذَ الْأَلْواحَ) بلام التعريف بما يدل على أنها هي نفسها لأن المعرفة إذا أعيدت تكون غير الأولى، بخلاف النكرة كما بيناه في سورة الانشراح المارة والمراد بنسختها ما نسخ في اللوح المحفوظ منها وكتب فيها، فالفعلة هنا بمعنى المفعول كالخطبة ومن قال انها تكسرت استند لهذه الآية إذ قال في آية أخذ الألواح المارة عدد ١٤٥ (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وفي هذه الآية الكائنة بعد الإلقاء قال وفي نسختها هدى ورحمة فقط ولهذا قالوا إنها كانت سبعة أسباع، واحد فيه الأحكام والحدود المعبر عنها بالرحمة والهدى للخلق لتعلقها في مصالحم وهي الباقية، والستة التي فيها تفصيل كل شيء من بداية الخلق لنهايته تكسرت ووضع رذاذها في التابوت، وإليه الإشارة في الآية ٢٤٦ من سورة البقرة في ج ٣، وعلى هذا فالعلوم التي أوحاها الله لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم مما هو خاص بنفسه لم يبثها، أما الذي هو خاص بالبشر فبلغه إليهم والله أعلم. ثم إن بني إسرائيل لما رجعوا وتابوا لم يعرف عليه السلام مناط قبول توبتهم وكيفيتها فلهذه الغاية ولقبول اعتذار هارون عليه السلام ومن كان معه الذين لم يحولوا بين العجل وعابديه ولم يخبروا موسى بالأمر.
مطلب الميقات الثاني الذي وقته الله لموسى:
أوحى الله إلى موسى ما ذكره بقوله «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا
431
لِمِيقاتِنا»
فيها حذف الجار واتصال الفعل بالمجرور، والأصل من قومه وهذا من باب الحذف والإيصال، وعليه قول الفرزدق:
منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هبّ الرياح الزعازع
والمراد بالميقات هنا الميقات الثاني الذي خصصه به ربه لمناجاته من توبة التابعين للسامري واعتذار المعتذرين المذكورين، وقد استصحب هذا العدد المختار من قومه معه وتوجه لمناجاة ربه بخلاف ذهابه للميقات الأول الذي ذهب به لأجل استلام التوراة التي وعده بها كما مر ذكره في الآية ١٤١، وهؤلاء المختارون كلهم ممن كان مع هرون ولم يعبد العجل، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ثم دخل بهم في الوقت الذي وقته له ربه ما بين الغمام والجبل في طور سيناء وقال لهم أدنوا مني فدنوا حتى دخلوا كلهم فسجد وسجدوا معه وسمعوا كلام الله لموسى، فطمعوا وقالوا (أرنا الله جهرة) حتى نؤمن لك فما أتموا كلامهم حتى أخذتهم الصاعقة ورجف بهم الجبل فماتوا جميعا، وهذا أصح ما قاله المفسرون في هذه الآية، كما سيأتي تفصيلهم في تفسير الآية ٥٥ من سورة البقرة في ج ٣ إن شاء الله «فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» ورآهم موسى جثثا هامدة «قالَ» وقد أخذته الدهشة لموتهم «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ» خروجهم معي إلى ميقاتك هذا حين فرطوا في النهى عن عبادة العجل ولم يفارقوا عبدته حين إصرارهم على عبادته «وَإِيَّايَ» أهلكت أيضا قبل أن أخرج بهم إليك. وهذا تواضع منه إلى ربه وتسليم إليه، أي وأهلكتنى أيضا حين طلبت منك الرؤية التي أدت إلى طلبهم إياها وكان لحقه وهم من أن يتهمه بنو إسرائيل بقتلهم لأنهم قوم بهت ظنّان، وصار يتضرع إلى ربه ويبكى ويقول «أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ» عبدة العجل الظالمون «مِنَّا» دون رضا واختيارنا، لا يا رب لا تفعل ذلك ولا تأخذنا بذنب غيرنا وأنت لا تقاصص أحد إلا بما اقترفه، وصار يردد أقوالا كهذه، وهو يعلم أن البلاء يعم الصالح والطالح لأن الصالح إذا لم يردع الطالح يكون راضيا بعمله فيستحق الجزاء من هذه الحيثية ولهذا البحث صلة في الآية ٢٤ من سورة الأنفال في ج ٣، لأن المسبب للذنب
432
والحاث عليه والمهيء أسبابه يعاقب كالفاعل في شريعته، وفي شريعتنا يعاقب لكن ليس كالفاعل، ولهذا دأب يتحنّن ويستعطف ربه بإحيائهم حتى أحياهم له جميعهم بمنه وفضله، ولما اطمأن بحياتهم وقد أخذ منه الخوف مأخذه قال في حال شدته وارتعاده «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» اختبارك وما افتتن أولئك الجهال إلا بمحنتك وابتلائك لعبادك وهذه الفتنة «تُضِلُّ بِها» عن طريقك السوي «مَنْ تَشاءُ» إضلاله فيضل وفاقا لما هو في علمك الأزلي «وَتَهْدِي بها مَنْ تَشاءُ» هدايته فيهتدي طبقا لما هو مكتوب في أزلك «أَنْتَ وَلِيُّنا» لا ولي لنا غيرك ولا مرجع لنا في كشف مصابنا إلاك «فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ١٥٥» فضلا منك، وغيرك قد لا يغفر إلا لغرض ولا يعفو إلا لعوض، وذلك بمحض اللطف منك، والناس لطلب السمعة والرياء ونشر الصيت أو لدفع ضر حاضر أو لأمل مستقبل، طلب عليه السلام المغفرة له لإقدامه على الحضرة المقدسة بقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ولقومه لجرأتهم على طلب الرؤية، وقد سمعوا ما وقع عليه من أجلها «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً» بالحياة الطيبة فيها «وَفِي الْآخِرَةِ» حسنة أيضا وحذفت من الثانية لدلالة الأولى عليها وقد تقدم مثله في الآية ١٧ من سورة ق المارة وبعدها كثير، ومن هنا فما بعد أكثر أي المثوبة الحسنى وهي الجنة «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» تبنا توبة نصوحا من أن نسألك ما لا ترضى وما لا يجوز طلبه، مشتق من هاد إذا رجع وتاب قال:
إني امرؤ مما جنيت هائد ربي اغفر إني إليك عائد
ولهذا ومنذ ذلك اليوم سمو يهودا، وقيل كانوا يدعون بأسباطهم، وما قيل أن منهم من اسمه يهوذا كان ملكا وسموا باسمه، فهو بعد هذا لأنهم قبله كانوا عبيدا «قالَ» تعالى يا موسى قل لقومك هذا الحكم الذي فضيته عليهم بقبول التوبة هو «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» لا اعتراض لأحد عليّ فيما أفعل، ولا راد لحكمي فيما أحكم، وفيه إشارة إلى غلظ عقوبة عابدي العجل، لأنه القتل كما سيأتي في الآية المنوه بها آنفا من سورة البقرة. واعلم يا موسى كما أن عذابي شديد فإن عفوي ت (٢٨)
433
عظيم «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» وفيها إعلام بشمول رحمته قبول عذر المعتذرين وفي نسبة العذاب بصيغة المضارع، ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات، والعذاب مقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة فى جانب الرحمة أيضا. أما عدم التصريح بها فقيل تعظيما لأمر الرحمة، وقيل إشعار بغاية ظهورها، ولما نزلت هذه الآية بلفظها العام قال إبليس عليه اللعنة! أنا شيء أيضا يريد بذلك شموله بالرحمة، أخزاه الله، وتطاولت نفسه الخبيثة إليها فنزع ذلك من وهم قوله تعالى «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الكفر وللفواحش «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» لعيالي، وخص الزكاة بالذكر مع دخولها في معنى التقوى تعريضا لقوم موسى لأن إنفاق المال عليهم شاق لشدة حرصهم ومزيد حبهم للدنيا «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ١٥٦» لا يجحدون شيئا منها أبدا، فأيس الخبيث من هذه الرحمة، ثم طمحت نفوس أهل الكتابين فقالوا نحن نتقي ونزكي ونؤمن بالله فنزع الله منهم هذا الظن بقوله «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ» محمدا بدليل وصفه في قوله «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» ولا نبي أمي غيره.
مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين:
ثم أكد وصفه بقوله «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» سأبين تعريفه وما يتعلق به في الآية ١٠٤ من سورة آل عمران في ج ٣ ليعملوا به «وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» ليجتنبوه وسيأتي تفسير هناك أيضا «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» من كل ما استطابته النفس عدا ما نص على تحريمه، وهو عام في كل طيب، والمراد هنا لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر لأهل الكتاب، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام للعرب، وتشمل كل ما حرموه على أنفسهم مما هو في التوراة والإنجيل وما هو من عندياتهم ومفترياتهم وسيأتي تفصيل هذا في الآية ١٣٦ من سورة الأنعام في ج ٢ والآية ١٠٢ من المائدة والآية ٩٣ من آل عمران في ج ٣ «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة والد ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله والربا والرشوة والخمر والميسر، وكل ما خبث
434
من الفعل والقول والعمل «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» التكاليف الشاقة، كقطع عضو المذنب في غير السرقة، وعدم قبول التوبة إلّا بالقتل، وقطع الثوب المتنجس، وإحراق الغنائم، وتعيين القصاص في الخطأ، وعدم قبول الدية، وعدم قبول العفو، وعدم جواز الصلاة إلا في الكنائس، ومؤاخذة المتسبب كالفاعل، وتحريم العمل يوم السبت والأحد، وعدم التطهير بغير الماء، وحرمة أكل الصائم بعد النوم، ومنع الطيبات عنهم بما اكتسبوا من الذنوب، وغير ذلك «وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» المتقدم ذكرها، المقيدين بها الموجودة في التوراة لأن الإنجيل لا أحكام فيه غير تحليل بعض ما حرم على اليهود لقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في الآية ٥٠ من آل عمران في ج ٣، ولهذا فإن النصارى تابعون في الأحكام إلى التوراة، قال عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية ليحبس نفسه على العبادة وذلك قوله تعالى «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ» بهذا الرسول الموصوف بالأوصاف المذكورة وهو لا شك محمد صلّى الله عليه وسلم «وَعَزَّرُوهُ» عظموه ووقروه «وَنَصَرُوهُ» على أعدائه وعلى إقامة ما جاء به من الدين «وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» وهو القرآن العظيم منور القلوب والأخلاق، وإنما قال معه لأنه أنزل مع النبوّة مع جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلم «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٥١» الفائزون بكل خير، الناجون من كل شر، وهذه الرحمة الموصوفة يفوز بها كل مؤمن بالله متبع رسوله سواء كان من بني إسرائيل أو غيرهم ولا يمكن تخصيصها فيمن كانوا على زمن موسى إلى إرسال عيسى لأنه لا يجوز أن يتبعوا شرائع نبي لم يبعث بل يجوز أن يعتقدوا نبوته حسبما وصفه الله في التوراة، كما أنه من المعلوم أن الإنجيل لا وجود له حسا في ذلك الزمن، فيكون المراد منه أمة عيسى الذين سيجدون نعته صلّى الله عليه وسلم مكتوبا في الإنجيل الذي سينزله الله عليهم، إذ من المحال أن يجدوه قبل نزوله. وذكره قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
435
مطلب وصف الرحمة وصفة الرسول في الكتب القديمة:
أما اللاحقون زمانه في هاتين الأمتين فلا تكتب لهم هذه الرحمة إلّا باتباعه بأن يؤمنوا به وينصروه ويعظموه ويتبعوا ما جاء به، وقد وصفه الله بأنه الرسول أي الواسطة بينه وبين خلفه لتبليغ أوامره ونواهيه وشرائعه، وبأنه النبي المخبر عن الله وهو من أعلى المراتب وأشرفها وصفا، وأنه الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من أسنى التعظيم وصفا لإتيانه بالقرآن العظيم بأفصح اللغات، ومن أكبر البراهين على رسالته لأنه لو كان يقرأ ويكتب لاتهم بأنه تعلمه من الغير وكتبه عنهم وقرأه عليهم، وهذه النسبة أحسن من النسبة لأم القرى أو إلى الأم بحيث لم يخرج عما ولدته عليه أمه لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب.
واعلم أن الأمّية كمال مادي يعود نفعه على المعاش وليست بكمال روحي، ولهذا فإنها بحق الرسول كمال لتنزهه عن الصنايع العملية التي هي من أسباب المعاش، أما بحقنا فنقص لاحتياجنا لذلك، ولهذا البحث صلة في الآية ٤٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ فراجعها تجد تفصيله بصورة أوسع. روى البخاري عن عطاء بن يسار قال:
لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة، فقال أجل إنه موصوف في التوراة ببعض صفته بالقرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب (كثير الصياح) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء (الكافرة لأن الاعوجاج ضدّ الاستقامة) بأن تقول لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما وقلوبا غفلا، (لا يصل إليها شىء ينفعها، كأنها في غلاف عن سماع الحق) ومثله في رواية البخاري وغيره. وجاء من حديث أخرجه ابن مسعود وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهيل مولى خيثمة قال:
قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، لا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس
436
قميصا مرقوعا. ومن فعل ذلك فقد بريء من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد. وفي الزبور أيضا راجع الآية ١٠٤ وسورة الأنبياء في ج ٢، وإنما لم يذكره الله هنا لأن بني إسرائيل سابقا ولا حقا يقرأون التوراة والإنجيل فقط، لذلك اقتصر عليهما، ولأن الزبور خلو من الأحكام مقتصر على الأمثال والأدعية، والتنزيه، وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى في الزبور: يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتي يوم القيامة، ونورهم مثل نور الأنبياء. وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الأنبياء قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا اؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعافا مضاعفة، ولهم عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا، أو قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة. يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا وبما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار. وإلى غير ذلك من الأخبار الناطفة بأنه صلّى الله عليه وسلم مكتوب نعته في الكتب السماوية قبل أن يطرأ عليها التبديل والتغيير، ومن راجع الآية ٤٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ يجد ما يغنيه عن غيرها.
437
مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم:
قال تعالى «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك وللخلق أجمع «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ» وحده «وَرَسُولِهِ» محمد «النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» مما نزل عليه منها ومما نزل على الأنبياء قبله من أسفار وصحف وكتب، وقرأ بعضهم (كلمته) وأراد بأنها عيسى بن مريم تعريضا باليهود، وتنبيها على أن من لم يؤمن به ويعتقد بأنه من روح الله وأمه صدّيقة طاهرة عذراء لا يعتبر إيمانه، بل هو كافر لأن من لم يؤمن به على هذه الصفة لم يؤمن بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم، وان جاحدهما لا شك بكفره. وهذه القراءة جائزة لأنها من حيث الرسم موافقة، وغاية ما فيها قصر الميم، والقراءة إذا لم يكن فيها نقص حرف أو زيادته لا بأس بها «وَاتَّبِعُوهُ» جميعكم عربكم وعجمكم يهودكم ونصاراكم مجوسكم وصابئتكم، على اختلاف مللكم ونحلكم وأجناسكم وألوانكم والسنتكم «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٨» بهديه إلى طريق الصواب. تشير هذه الآية بوضوح لا مزيد عليه بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله مرسل إلى البشر كافة رسالة عامة، لعموم اللفظ المخاطب به، والأمر فيها للوجوب، مما يدل على صحة دعواه عموم الرسالة للإنس والجن أيضا، راجع تفسير أول الفرقان الآتية والآية ٢٨ من سورة سبأ في ج ٢ والآيتين ١٥ و ٦٩ من سورة المائدة في ج ٣ تعلم بأنه مرسل لمن على الأرض على الإطلاق، لا خصوص العرب كما يقوله بعض أهل الكتاب والمبتدعة والزنادقة وغيرهم ممن لا نصيب لهم في معرفة كتاب الله ولا حظ لهم في الآخرة، وتعلن أيضا بأن الذي أرسله هو مالك الملك والكون ومدبره الإله الواحد الذي لا شريك له القادر على الإحياء والإماتة، ومؤكدة لزوم الإيمان به أولا لأنه الأصل ثم برسوله الموصوف بوصف يميزه عن غيره، ويخصصه بأنه محمد بن عبد الله لا غيره، لأن الإيمان به فرع عن الإيمان بالله، وملزمة عامة الخلق باتباعه فيما يأمر
438
وينهى، رجاء الوصول إلى الرشد والصواب، وهذة المتابعة واجبة بالأقوال كلها أما بالأفعال فيفعل ما كان يفعله الرسول من واجبات لم يخص بها نفسه، أما ما خص به نفسه كصوم الوصال والتزوج بأكثر من أربعة وعدم الوجوب عليه في القسم وما شاكل ذلك فلا، راجع الآية ١٤٤ المارة، وأن يتابعه على طريق الندب بما يفعله أيضا مما لم يختص به ويتأدب بآدابه. روى البخاري ومسلم عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة. وفي رواية وبعثت إلى الناس عامة بدلا من كل أحمر وأسود. والمراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب أو الإنس والجن. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بسته أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون. وعليه فقد ثبت عموم رسالته بالقرآن والحديث قال تعالى «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ» جماعة عظيمة وطائفة طاهرة مؤمنة «يَهْدُونَ» الناس «بِالْحَقِّ وَبِهِ» أي الحق «يَعْدِلُونَ ١٥٩» بين الناس في أحكامهم.
مطلب ما قضى به صلّى الله عليه وسلم والمراد من قوم موسى:
وهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية إمّا قوم متمسكون بدين موسى قبل تبديله وتغييره وماتوا عليه، وإما أن تكون بحق من أسلم منهم وحسن إسلامه على عهد محمد صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وعلى هذا تكون هذه الآية من قبيل الآيات المغيبة أي إخبار حضرة الرسول بغيب لم يقع قبل وقوعه، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن عبد الله ولا غيره مسلما من اليهود، والأول أوجه لشموله كل من مات قبل بعثة محمد على دين موسى وعيسى الحقيقيين، والله أعلم، لأن لفظ الآية يدل على الكثرة، وعبد الله وأصحابه فليلون، وما قيل بجواز إطلاق
439
الكثرة عليهم بسبب إخلاصهم في الدين على حد قوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) الآية ١٢٠ من سورة النحل في ج ٢ فوجيه، أما ما قيل بأن أحد الأسباط الذين لم يشترك بقتل الأنبياء كان يتبرأ من بقية الأسباط الذين اشتركوا في قتلهم، وسأل الله أن يبعده عنهم، ففتح الله نفقا عبروا منه إلى ما وراء الصين أو هم قوم بأقصى الشرق على نهر يسمى الأردن، وأن رسول الله رآهم ليلة الإسراء وأبلغوه سلام موسى عليه السلام ووصفوهم بأوصاف كاملة وأن الرسول أقرأهم عشر سور من القرآن وأوصاهم بالصلاة والزكاة وبالجمعة وترك السبت، فلم يرد به نقل صحيح، وفيه ما ينفيه لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وكذلك الجمعة لم تقم إلا هناك، وغير معقول أن يأمرهم بشيء لم يؤمر به بعد وكان نزول أكثر من عشر سور فكيف يقتصر على تعليم عشر فقط وهو مأمور بأن لا يكتم من وحي الله شيئا على أحد، وهذا كاف لبطلان هذا القول والنقل، ومما يدل على عدم صحته أنه صلّى الله عليه وسلم لم يذكر شيئا عن هؤلاء الجماعة في جملة ما ذكره مما رآه ليلة الإسراء لأن هذا أيضا من جملة العجائب، فلو كان لذكره لقومه لهذا لا عبرة به، لأنه من نقل الأخباريين والقصّاص فهو أضعف من الضعيف لا يلتفت إليه البتة، وإنما نقلناه ليطلع عليه القارئ ويردّ على من تكلم به ويفنده له والله أعلم.
قال تعالى «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً» قبيلة من اثنى عشر ولدا وهم أولاد يعقوب عليه السلام المبينين في تفسير الآية ٩ من سورة يوسف في ج ٢، والسبط ابن الولد ويقال له حفيد كما في الآية ٧٢ من سورة النحل في ج ٢ ولم تتكرر في القرآن، والسبط جاء في سورة البقرة أيضا فقط، والاستعمال الجاري بين الناس أن الحفيد ابن الابن والسبط ابن البنت «أمما» جماعات وطوائف وهو بدل من اثنى عشر والمميز ماعدا العشرة يكون مفردا فعلى القاعدة النحوية يقتضي أن يكون سبطا ولكنه لما كان بمعنى القبيلة وهو المراد هنا والقبيلة أسباط لا سبط واحد وضع أسباط موضع القبيلة «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ» بالتيه لأنهم عطشوا وليس لديهم ماء وفسر الإيحاء بقوله «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ
440
الْحَجَرَ»
فضربه عليه السلام «فَانْبَجَسَتْ» ترشحت عن ماء قليل وهو معنى الانبجاس ولم تكرر هذه في القرآن أيضا، وجاء في الآية ٦٠ من البقرة في ج ٣ (انفجرت) أي خرج منها ماء كثير، قال يعبر بالانبجاس اعتبارا بأول الخروج، وبالانفجار اعتبارا بنهايته «منه» أي الحجر المضروب «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» لكل سبط عين «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» منها على حدة لئلا يدخل سبط على الآخر فيأخذ من سقائه فيختلفوا والله أكرم من أن يجعل على عباده عذابين، عذاب التيه وعذاب الاختلاف، ثم شكوا إلى موسى بعد أن أمن لهم شربهم عدم وجود ما يظلهم من الشمس فدعا الله ربه فأجابه بقوله: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ» بحيث صار يسير معهم إذا ساروا ويسكن إذا وقفوا ثم شكوا إليه الجوع إذ نفد ما عندهم فدعا ربه فأجابه بقوله «وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» المنّ معروف شيء حلو لزج يضرب إلى البياض، والسلوى نوع من الطير يسمى الآن السمن أميز من العصفور، جلّت قدرته هو الذي شردهم جزاء مخالفتهم، وهو الذي تلطف بهم وتعطف عليهم وقال لهم «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من الماء العذب والمن الحلو والسلوى الدسم والظل الوافر طيلة مدة تيهكم «و» هؤلاء لما كفروا بهذه النعم الجليلة التي تأتيهم دون تعب وقالوا قد سئمنا منها، كما سيأتي في الآية ٦١ من البقرة من ج ٣ «ما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١٦٠» بتضجرهم وعدم صبرهم كأن لهم علينا منّة ويتطلبون ما تهوى أنفسهم، ولم يعلموا أنا إنما نعاقبهم لسوء أعمالهم. ونرحمهم لعلهم يرجعون إلينا تائبين، لأن المكلف إذا مر بشيء فعدل إلى غيره كان هو الجاني على نفسه، وهو الظالم لها، لأنه أوردها للشرّ، فيكون وبال ظلمه عليه لا على غيره.
مطلب أسباب تشرد بني إسرائيل والآيات المدنيات:
ثم شرع جل شأنه يقص علينا أسباب تشردهم وعملهم الذي أوجبه فقال (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) بواسطة نبيهم عليه السلام «اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» بيت المقدس
441
المبارك «وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ» من ثمارها وفواكهها وحبوبها وبقلها «وَقُولُوا حِطَّةٌ» أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا شكرا للنعم الموجودة فيها، مما لم يكن لكم مثله قبل «وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً» تعظيما للبيت وإجلالا لربه الذي أنعم عليكم بدخولها ومنحكم من خيراتها وبركاتها «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ» المتراكمة عليكم وأحسنوا لأنفسكم وغيركم لأنا «سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ١٦١» على المغفرة ثوابا من إفضالنا، وخيرا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» أو أمرنا هذه ولم يقدروا نعمنا عليهم وقالوا «قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» فبدل الحطة قالوا خطة، وبدل أن يدخلوا الباب ساجدين احتراما لنا خاضعين لأوامرنا دخلوه زحفا على أستاههم «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ» بسبب مخالفتهم هذه «رِجْزاً» عذابا شديدا نازلا عليهم «مِنَ السَّماءِ» وهو الموت والفرق بين أنزلنا وأرسلنا أن الإرسال يدل على الكثرة، والإنزال على القلة وذلك «بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ١٦٢) أنفسهم لخروجهم عن الطاعة وسيأتي زيادة تفصيل لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية ٥٨ من سورة البقرة من ج ٣. وهذه أولى الآيات المدنيات في هذه السورة، وهي كما ذكرنا في مثلها مغرضة بين ما قبلها وما بعدها كالمستطردة قال تعالى (وَسْئَلْهُمْ)
يا أكمل الرسل يريد اليهود الموجودين معه في المدينة «عَنِ الْقَرْيَةِ»
هي طبرية وقيل مدينة بين مدين والطور أو مصر والمدينة أو بين مدين وعيوني على الساحل «الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» قريبة منه على ساحله والحاضرة المدينة الكبيرة المرتبط بها غيرها من القرى والقصبات، ويقال لساكنها حضريّ ضد البادية فالمخيم بها بدويّ «إِذْ يَعْدُونَ» يتعدون حدود الله ويتجاوزون أوامره التي سنّها لهم وأوجبها عليهم «فِي السَّبْتِ» الذي حرم عليهم العمل فيه ثم بين تعديهم بمناسبة ذكرى مخالفتهم المذكورة آنفا فقال «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» ظاهرة متتابعة على وجه الماء «وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» وهذا من قبيل الإلهام لهذه الحيوانات كأنها تعلم أن أحدا لا يعارضها يوم السبت فتظهر
442
وتتلهى على الساحل وتعلم أنها تصاد في غيره فتختفي «كَذلِكَ» مثل هذا الاختبار والابتلاء «نَبْلُوهُمْ» نمتحنهم «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٣» يخرجون من طاعتنا ونحن أعلم بما يقع منهم قبل الاختبار، ولكنا نظهره لعبادنا ليعلموا حال المخالفين لهم، وإنا لا نعذب أحدا بغير ذنب وقد نثيب بغير عمل تفضلا منا. وهذه الآية من الأخبار بالغيب معجزة له صلّى الله عليه وسلم تجاه يهود زمانه إذ أخبرهم بما وقع في أسلافهم بمخالفة الله أدت لمسخهم قردة وخنازير كما في الآية ١٦٥ الآتية ونظريتها الآية ٦٠ من سورة المائدة من ج ٣ فقد أخبرهم صلّى الله عليه وسلم ما اقترفه آباؤهم زمن سيدنا داود عليه السلام، مع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يخرج من مكة طيلة عمره حتى هاجر إلى المدينة وفي المدينة لم يطلع على كتب الأقدمين لعدم معرفته القراءة، وهم يعلمون ذلك، وسبب مسخهم أنهم كانوا حفروا حياضا وسقوا لها ساقية متصلة بالبحر فصارت الأسماك تدخلها يوم السبت على حسب عادتها لعدم المعارضة لها ولم تعرف ماحيك لها من الحيل، فسدّوا عليها طرف الساقية من جهة البحر يوم السبت وتركوها حتى إذا دخل يوم الأحد اصطادوها، فعاقبهم الله بالمسخ، ولهذا قال بعض العلماء من أكل الربا بالحيلة حشر يوم القيامة على صورة القردة والخنازير، كما سيأتي في الآية ٢٧٤ من البقرة من ج ٣، قال تعالى «وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ» جماعة «مِنْهُمْ» أي يهود ذلك الزمن لأنهم بعد اقترافهم هذا الذنب بالحيلة والمكر افترقوا ثلاث فرق: فرقة تطاولت فتعدت حدود الله باقترافهم صيد السمك على تلك الصورة، وفرّقة سكتت ولم تشاركهم في خداعهم هذا ولم تنههم عنه، وفرقة نهت وامتنعت من المشاركة وحذّرت الفاعلين غضب الله. كما كانت حالتهم في عبادة العجل إذ افترقوا ثلاث فرق أيضا كما مر في الآية ١٤٨.
مطلب الرضى بالمعصية معصية
: فقال الساكتون للناجين «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك، لئلا نكون قد
443
فرطنا في واجبنا المطلوب منها وهو النهي، لئلا نعد راضين بفعلهم، لأن الساكت عن فعل منهى عنه كالراضي به، والراضي كالفاعل. وفيه تقريع للفرقة الساكتة، لأن سكوتهم قد يعد رضى وإقرارا في بعض الأحوال. لهذا روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وجاء في حديث آخر: (ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من لا ينكر عليهم إلا عمّهم الله بعذابه). ثم قال تعالى على لسان الناهين «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ١٦٤» الله فيما فعلوا فيرجعوا إليه خوفا من عقابه وينتفعوا بموعظتنا، وإنا طمعا بارتداعهم وتوبتهم نصحناهم قياما بالواجب المترتب علينا، قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا» هؤلاء المخالفون «ما ذُكِّرُوا بِهِ» من قبل الناهين ولم يقبلوا موعظتهم «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» لأنهم قاموا بما هو مترتب عليهم ولم يسكنوا ليؤاخذوا بسكوتهم الذي يعد رضى منهم «وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ» عظيم محزن مخز «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٥» يخرجون عن طاعتنا والفرق بين يفسقون ويظلمون أن الظالمين من وصفوا بالظلم والفاسقين من خرجوا عن الطاعة، وإنما عد تركهم نسيانا لإهمالهم الأخذ بنصح جماعتهم وتشبيه التارك بالنّاسي استعارة، والجامع بينهما عدم المبالاة في كل، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقته السببية، ولم يحمل على ظاهره لأن النسيان في شريعتنا لا يؤاخذ عليه، والترك عن عمد يترتب عليه العقاب. روى ابن ماجه عن البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
(إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما في شريعة موسى عليه السلام فالنسيان مؤاخذ عليه، وكذلك الخطأ، كما مرّ في تفسير الآية ١٥٧، وقوله صلّى الله عليه وسلم رفع، يدل على عدم العذاب في شريعتنا على الثلاثة الواردة في الحديث والعقاب على من قبلنا عليها وإلا لم يقل رفع، تأمل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فلا أدري ما فعل الله بالفرقة الثالثة الساكتة وجعل يبكي، فقال عكرمة جعلني الله
444
فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما عليه الفرقة المقترفة وقالوا للفرقة الناهية لم تعظون إلخ الآية، إنه وإن لم يقل أنجيتهم فلم يقل أهلكتهم، فأعجبه قولي وأمر لي ببردين وكسانيهما، وقال نجت الساكتة يؤيده قول يمان بن رباب نجت الطائفتان وهو قول الحسن أي الآمرة والساكتة، أما ما قاله ابن زيد وروي عن أبي عبد الله:
نجت الناهية فقط فمستبعد هذا على شريعتنا، أما على شريعة موسى فلا وعلى كل فالله تعالى أكبر وأكرم قال تعالى «فَلَمَّا عَتَوْا» أبوا الرجوع «عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» تكبرا وأنفة «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ١٦٦» أذلاء صاغرين منسوخين فكانوا كذلك.
مطلب في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام:
قال تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أعلم وفيه معنى التوعد والتهديد لافترانه بالقسم الدالّ عليه وجود لامه في قوله «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي اليهود، لأنهم بدلوا وغيروا أحكام التوراة وأجروا أحكام ما بقي منها على الضعيف دون القوي، وحرّفوا كثيرا منها، وكذلك فعل النصارى في الإنجيل لما رأوا أن حضرة الرسول يخبر عما فيهما، وكانوا قبلا يحورون ما يتعلق بالأحكام فقط، فلما ظهر الرسول صاروا يرفعون منها ما يتعلق بأوصافه صلّى الله عليه وسلم قصد نهي اتباعهم له والإيمان به، مع أن الواجب عليهم إبقاؤها والإيمان بما جاء فيها مصدقا للقرآن أخزاهم الله، ولهذا أقسم الله جل شأنه على الجزم بأنه ليرسلنّ عليهم «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ» يكلفهم على الدوام «سُوءَ الْعَذابِ» أقساه وأشده مما لا رحمة فيه «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» إذا شاء عقاب أمثال هؤلاء في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٦٧» لمن آمن ورجع عن كفره ودخل بالإسلام فلم يعاقبه ولم يسأله عما فعل لعظيم مغفرته وكبر عفوه، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
ومن جملة إذلال اليهود وإصغارهم أنهم صاروا يؤدون الجزية إلى المجوس لما سلّط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وملوك الروم، فساموهم وأهانوهم، ولم يزالوا كذلك محتقرين إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم، فقبل من أسلم منهم ومن لم يسلم قبل منه الجزية
445
فأدوها له صاغرين، وهي ملازمة لهم إلى يوم القيامة إن شاء الله، ولولا أن الله تعالى منعه من قتالهم لدمرهم ولم يبق منهم أحدا، ولكن لله حكم لا تعيها عقولنا وهم في زماننا محقّرون أيضا مهانون يعطون أضعاف الجزية التي كانوا يؤدونها للمسلمين إلى الانكليز والأمريكان الذين لا يقيمون لهم وزنا كالإسلام الذين ساووهم في كافة الحقوق اتباعا لقوله صلّى الله عليه وسلم لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم أخزاهم الله أعداء الداء للإسلام، لا يذكرون معروفهم ولا يعترفون بإحسانهم، وإن العز الذي يتوقعونه في فلسطين بواسطة المذكورين في هذا الزمن الذي نحن فيه ويتطاولون إليه سيكون إن شاء الله الذل والصغار لهم فيه، لأنه إنما يكون- لا كونه الله لهم- تحت رقابة الأمريكيين وهو الاستعمار بعينه، راجع الآية ٧ من سورة الإسراء الآتية، فنسأل الله أن يجمع كلمة الإسلام ويهلك الصهيونيين، وإن من بقي مشردا منهم بآخر الزمن يتبعون الدّجال ويدعون إلهيته، فيزدادون كفرا على كفرهم، لأنهم يزعمونه المسيح الذي أخبر به موسى عليه السلام وأوجب عليهم اتباعه، ولم يعلموا بل يعلمون ويجحدون أن المسيح عيسى بن مريم الذي كذبوه وناوءوه عتوا وعنادا وحبا ببقاء الرئاسة لهم وقصدوا قتله قاتلهم الله، فأنجاه منهم ربه وحفظه من أن تنال قدسيته أيديهم القذرة، فألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه لقاء دراهم معدودة، مثل قيمة يوسف عليه السلام التي ابتاعه فيها اخوته قبل تشرّفهم بالنبوة، راجع تفسير الآية ٩ من سورة يوسف في ج ٢، إذ ما من نبي إلا وله منافق، يدلك على هذا قوله تعالى في الآية ٣١ من سورة الفرقان الآتية فقد جعل الله لموسى السّامري، ولمحمد عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا لعيسى عليهم السلام، فقتل هذا الخبيث جزاء وفاقا وصلب وبصق عليه وسخر به، إذ يقولون له أنت المعلم لماذا لا تخلص نفسك وكنت جئت بخلاص العالم ولم يقبلوا منه ما اعتذر به بأنه ليس المعلم (أي عيسى إذ كانوا يسمونه معلما) أنا الذي دللتكم عليه، فيزيدونه لكما ولطما وصفعا وبصاقا، ويقولون له الآن تنكر نفسك وكنت تدعي النبوة وخراب الهيكل إلى غير ذلك، كما سيأتي توضيحه في الآية ١٥٨ من
446
سورة النساء في ج ٣ وذلك أن الله تعالى الكامل إذا جعل شيئا جعله كاملا فلما ألقى شبهه على يهوذا صار كأنّه هو عيسى نفسه، ولذلك فإن أمه والنساء معها لم ينكرن أنه هو حقيقة، لذلك صرن يبكين عليه وحزنّ لأجله، إذ لا يستطيع أحد أن يقول ليس هو بعيسى، هذا وإن الله تعالى سيهلك الدجال مسيح اليهود وأتباعه على يد مسيح المسلمين الذي سمي مسيحا لأنه يمسح بيده المريض والأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن الله تعالى حالا، بخلاف مسيح اليهود الذي هو الدجال، فإنه إنما سمي مسيحا لأنه ممسوح العين اليمنى أعور أشقر، فأين هذا من ذاك، وإن الله تعالى لا بدّ وأن يسلط على يهود زماننا من يهلكهم ويزيد في ذلهم وصغارهم، وسنورد الأحاديث الصحيحة الدالة على نزول عيسى وقتله الدجال واقامة القسط في الأرض بين الناس في الآية ٦١ من سورة الزخرف في ج ٢ إن شاء الله تعالى القائل «وَقَطَّعْناهُمْ» أي اليهود قطعهم الله وأخزاهم «فِي الْأَرْضِ أُمَماً» فرقا وطوائف مشتتين محقرين فلا تجد أرضا خالية منهم أخلاهم الله منها ولا بلدا إلا وفيها منهم غير حماة، ولذا قيل حماها الله من كل ظالم أي كل يهودي لأنه لا يكون إلا ظالما، وهذا حتى تستقيم القاعدة (ما من عموم إلا وخصص) ولا يعلم السبب في حماية حماة من اليهود إلا أهل حمص الذين قلدوهم بذلك، لأن كلا من أهالي هاتين البلدتين يعرف خبايا الآخر على الحقيقة وزيادة (وهذه نكتة أتينا بها هنا) قال تعالى «مِنْهُمُ» اليهود الأولون على زمن موسى فمن بعده حتى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم «الصَّالِحُونَ» الذين ثبتوا على دينهم فلم يغيروا ولم يبدلوا حتى ماتوا عليه قبل بعثة عيسى عليه
السلام، والذين أدركوا عيسى وآمنوا به وبقوا على إيمانهم حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم وماتوا على ذلك، والذين أدركوا محمدا وآمنوا به وماتوا على إيمانهم فهم صالحون من أهل الجنة، لأن الله تعالى لا يظلم حق أحد والقرآن كلام الله لم يغمط حق أحد أيضا ولا يغفل ذكره كيف وهو القائل في كتابه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام في ج ٢ «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فسقة ومخطئون، لأنهم خالفوا بعض الأوامر وامتثلوا بعضها وماتوا قبل بعثة عيسى
447
ومحمد- عليهما السلام- على الصورة المذكورة أعلاه، ومنهم كفرة وهم الذين غيروا وبدلوا وحرفوا وكفروا بعيسى ومحمد وكتابهما، وهؤلاء لم يشر إليهم القرآن هنا اكتفاء بما ذكر قبلا وبما سيذكر بعد، ودائما هم متفرقون إلى ثلاث فرق منذ التحاقهم بموسى إلى اليوم فرّقهم الله وشتت كلمتهم، قال تعالى «وَبَلَوْناهُمْ» امتحناهم واختبرناهم «بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ» لأن النعمة إذا شكرت ترغب بالطاعة فتدعوا إلى الإيمان والشدة يخاف عاقبتها فتدعو إلى الإيمان أيضا، أي إنا بلوناهم بكلا الأمرين «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ١٦٨» عن غيهم فلم ينجع بهم «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» الخلف القسري الذي يجيء بعد قرن كان قبله، أي حدث من بعدهم حدث سوء تبدل عما كان عليه، وهو بسكون اللام وإذا فتحت قيل خلف خير خلف صدق أما ما جاء في قول زهير:
لنا القوم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وما جاء في قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فاسكان اللام بالأول وهو في معرض المدح وفتحها في الثاني وهو في معرض الذم فلضرورة الشعر. وقال البصريون يجوز تحريك اللام وسكونها في الرديء وفي الجيد التحريك فقط، وهؤلاء هم الفرقة الثالثة الكافرة المشار إليها في الآية ١٦٥ المارة لأنها لم تذكر فيها، قال تعالى في ذمّهم إنهم «وَرِثُوا الْكِتابَ» التوراة بانتقالها لهم من آبائهم فلم يعملوا بها وصاروا «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا» الشيء «الْأَدْنى» من حطام الدنيا الذميمة كالرشوة القبيحة، وقد تنزه القرآن عن التصريح بها لخساستها ودناءة آخذيها، راجع الآية ١٢٨ من البقرة في ج ٣ كي يبدلوا أحكام التوراة التي آلت إليهم بطريق الإرث ويحرفونها ويغيرون ما فيها لقاء عرض تافه حقير، والعرض بفتح الراء يطلق على جميع متاع الدنيا، فيقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، وأما بسكونه فكل ما يطلق عليه لفظ مال غير النقدي «وَيَقُولُونَ» مع عملهم هذا «سَيُغْفَرُ لَنا» ما نفعله، يتمنون ويطمعون
448
بالمغفرة أماني باطلة «وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» أيضا حلالا كان أو حراما، مصرين على عملهم غير تائبين منه، أي ان الذين كانوا من هذه الفرقة يعيبون المرتشين المحرفين المغيرين المبدلين، إذا جاءهم عرض مثل عرض سلفهم لا يمتنعون عن أخذه أيضا، فوبخهم الله تعالى بقوله «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» في العهد والصدق في المواثيق التي أخذها الله عليهم في التوراة «وَدَرَسُوا» والحال أنهم قد قرأوا «ما فِيهِ» من تلك العهود والمواثيق «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» واطلعوا في التوراة أيضا على ما أعده الله لأهل طاعته من الثواب، ولأهل معصيته من العقاب المرتب على الامتثال والانقياد، والتغيير والتبديل والتحريف فيها، وعرفوا أن العمل الصالح لتلك الدار «خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» العمل السيء هناك في تلك الدار الآخرة «أَفَلا تَعْقِلُونَ ١٦٩» أن ما فيها من الخير خير وأبقى مما يأخذونه في الدنيا من الرشوة. أخرج الترمذي عن شداد بن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: الكيس من دان نفسه (حاسبها) وعمل لما بعد الموت. (قبل أن يحاسب عليها) والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. والشاهد فيه أن اليهود يعضون الله ويطلبون مغفرته، قال تعالى «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» ويعتصمون به ويعملون بما فيه «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» المفروضة عليهم لأن هذه من الآيات المدنيات كما ذكرنا، وخص الصلاة بالذكر مع أنها داخلة بالتمسك تنبيها على عظم شأنها لأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله ورسوله «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ١٧٠» أنفسهم الثابتين على صلاحهم، نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا في المدينة من يهودها، فطوبى لهم ولمن يثبت على الإسلام ويموت عليه،
ثم ندّد في بني إسرائيل السابق ذكرهم بمناسبة ذكر الصالحين منهم فقال «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ» الطور أو جبلا غيره، وهذه الجملة عطف على جملة وإذ قيل لهم المارة في الآية ١٦١ المكية وكلمة نتقنا لم تكرر في القرآن وسيأتي في الآيتين ٦٣، ٩٣ من سورة البقرة في ج ٣ ما يتعلق بهذا، أي رفعناه وصيرناه «فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» خيمة كبيرة ت (٢٩)
449
أو سحابة غيم عظيمة، أي اذكر يا محمد لقومك ويهود زمانك حين خلعنا الجبل من أصله من الأرض، ورفعناه فوقهم إلى جهة السماء، وجعلناه كالسقف على المعاندين من أسلافهم الموجودين عندك الآن. وكل ما يقي من الشمس يسمى ظلة حتى الشمسية المتعارفة لأنها تقي من وهج الشمس والمطر، ولذلك تسمى ظلة ومظلة «وَظَنُّوا» تيقنوا وجزموا «أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» لا محالة إن لم يمتثلوا ما أمروا به وقلنا لهم «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم أي تقبلوا أحكامه جبرا عنكم «وَاذْكُرُوا ما فِيهِ» كله لا تنسوه واعملوا به فإن عدم العمل به يؤدي إلى النسيان، والنسيان يؤدي إلى الهلاك، وإذا أردتم النجاة داوموا على ذكره «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٧١» وقوع الجبل عليكم وسبب ذلك أنهم أبو قبول أحكام التوراة لمشقّتها فلما رأوا الجبل ساقطا عليهم لا محالة سجد كل منهم على خدّه وحاجبه الأيسرين وجعل ينظر إلى الجبل بعينه اليمنى خوفا من سقوطه عليه إلى أن زيح عنهم، ولذلك إذا اقتضى أن يسجدوا لله شكرا أو لصلاة اعتادوها سجدوا كذلك على تلك الصفة. انتهت الآيات المدنيات.
مطلب كيفية أخذ العهد على الذرية:
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» وبين كيفية الإشهاد بقوله «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» مربّيكم ومالك أمركم وليس لأحد دخل في شأنكم غيري «قالُوا بَلى شَهِدْنا» على أنفسنا بذلك، وهنا يحسن الوقف لأنه من تتمة كلام الذرية، ومن استحسن الوقف على بلى قال إن شهدنا من كلام الملائكة، أي قال لهم اشهدوا على خلقي هؤلاء قالوا شهدنا، والأول أولى بالنظر لسياق الآية وعدم ذكر الملائكة قبلها يؤيده قوله تعالى «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» حين نسألكم عن هذا العهد «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا» الميثاق «غافِلِينَ ١٧٢» أي لم ننتبه إليه حين أخذه علينا «أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ» زماننا هذا وقد سنّوا لنا الشرك بالتاء على الخطاب للذرية وهي القراءة المختارة في المصاحف، أما القراءة بالياء على الغيبة فيتجه ولكنه
450
ليس مختارا، لأن الله تعالى صرف الخطاب عن حبيبه محمد إلى نسم الذرية كافة لئلا يحتجوا بعد فيقولوا «وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» لم نهتد إلى طريق التوحيد ورفض الشرك «أَفَتُهْلِكُنا» يا ربنا «بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ١١٣» أسلافنا وهذا الخطاب لجميع الخلق الموجودين ومن بعدهم ومن تقدمهم على طريق التغليب، أي فعلنا ما فعلنا من أخذ هذا العهد عليكم أيها الناس، لئلا يبقى لكم عذر، ولا يسعهم الاعتذار إذ ذاك، ولا تقبل لهم حجة لثبوت أخذه عليهم كلهم في الأزل ولأن الرسل المتتابعة ذكرتهم به فضلا عن أنه مما يتذكر به بمجرد العقل، لأن العاقل يفهم بادىء الرأي أن شيئا لا ينفع ولا يضر لا يستحق الاحترام والتعظيم فكيف يستحق العبادة، وان إلها قادرا على الإحياء والإماتة خالفا لهذه المكونات الذي هو من جملتها، هو المستحق للعبادة وحده، كيف وقد جبلت النفوس على حبّ النفع وكره الضر، فكيف لا يتيقظون لذلك؟ ولهذا قطع الله قبول عذرهم في هذه الآية التي ذكر بها رسوله محمدا وأخبره بهذا العهد المأخوذ من البشر فردا فردا، وخلاصة القول في كيفية هذا العهد على ما قاله الأنبارى من مذاهب أصحاب الحديث وغيرهم، وما استنبط من بعض الآيات والأحاديث وأقوال كبار العلماء، أن الله جلّت قدرته أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده إلى يوم القيامة بعضهم من بعض بحسب ما يتوالد الأبناء عن الآباء، ولذلك لم يقل من ظهر آدم مع أن الذرية في الحقيقة كلها من ظهره، وإذا تنبهت إلى معنى قوله تعالى في الآية ٩٨ من سورة الأنعام في ج ٢، وهو جملة (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) عرفت ذلك بداهة كما سيأتي في تفسيرها. ثم أخذ عليهم الميثاق بأنه خالقهم وأنهم من مصنوعاته وحده، وأن لا رب لهم يستحق العبادة غيره، فاعترفوا بذلك وأذعنوا بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، وقبلوا ما كلّفوه، كما جعل للجبال عقولا خاطبهم بها، راجع تفسير الآية ١٠ من سورة سبأ والآية ١١ من سورة فصلت والآية ٦٨ من سورة النحل والآية ٨٠ من سورة الأنبياء في ج ٢ تعلم حقيقة هذا، إذ جعل الجماد والحيوان صالحا للخطاب بما ركب فيهما من عقل
451
كيف وهو الذي جعل النملة تتكلم بما ينم عن رفع الضر عنها وعن جماعتها وجلب النفع لهم، كما سيأتي في الآية ١٨ من سورة النمل الآتية بما ركب فيها من عقل، وجعل البعير والظبي والحجر والشجر تكلم حضرة الرسول بما أودع فيها من فهم لرفع ظلامتها إليه، وسعي الشجرة إليه، وانشقاق القمر بإشارته، إذا فلا يمتري من عنده لمحة من عقل أن يتردد في هذا العهد وأخذه من نسم الذرية وإجابتهم لخالقهم بما ذكر، اعترافا بالعبودية له وإذعانا لعظمته، وإن هذا العهد لقطع العذر يوم القيامة، وعدم قبول الاحتجاج بعدم علمهم به حينما يسألون عنه، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية الموافق لمذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح والخلف الناجح، وهو مؤيد بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم بن يسار الجهني بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية قال: سئل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون.
فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار، فيدخل النار- أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وقال حديث حسن، وأخرج الطبري نحوه عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث من حيث أن الحديث يقول من ظهر آدم والآية تتضمن من ظهر ذريته لما مر تفصيله في تفسيرها آنفا، وقد بين الله تعالى سبب أخذ العهد آخر الآية وخاطبهم بإيجاب الاعتراف بربوبيته عليهم على طريق الاستفهام التقريري وإجابته بأسرها بالإيجاب، وأوجب على الرسل تذكير أقوامهم ومن أرسلوا إليهم بهذا العهد، وان الرسل لا شك نبهوهم له وأرشدوهم للمحافظة عليه، لئلا يبقى لهم عذر، فمن أنكر كان معاندا ناقضا عهده لا عذر له البتة، قال تعالى
452
«وَكَذلِكَ» أو مثل هذا التفصيل البليغ «نُفَصِّلُ الْآياتِ» ونوضحها ليتدبرها الناس فيعرضوا عن الكفر ويرجعوا إلى الإيمان «وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ١٧٤» إلى تذكر ميثاقهم الأول فيعملون بمقتضاه حتى لا تحق عليهم كلمة العذاب.
هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى رسوله بتذكير قومه في هذا العهد العظيم وبين كيفيته ذكّره بقضية أخرى ليذكرها لقومه على سبيل الاتعاظ والانتباه والتحذير فقال عز قوله «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «عَلَيْهِمْ» أي قومك. وقال بعض المفسرين على اليهود، وهو غير سديد، لأن الآية مكية ولا مخاطبة بينه وبين اليهود بمكة، على أن لا مانع من شمولها اليهود وغيرهم لأنها جاءت بلفظ عام ولأنه مرسل إلى الخلق كافة ولا سيما أنه تلاها عليهم عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة لا عند نزول الآية، فالقول باختصاصهم بها لاصحة له. أي أخبرهم «نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» من علماء بني إسرائيل.
مطلب قصة بلعام ابن باعوراء وسببها:
قيل إنه من الكنعانيين من بلد الجبارين، أو من مدينة البلقاء، واسمه بلعام أو بلعم بن باعوراء أو باعراء أو ابن امرئ، اوتي علما ببعض كتب الله المنزلة على الرسل قبله وفي زمانه فكفر بها ونبذها وراء ظهره «فَانْسَلَخَ مِنْها» انسلاخ الجلد عن الشاة، ويقال لكل من فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه.
وفي هذه الآية دلالة على أن العلم لا ينزع من الرجل لقوله جل شأنه انسلخ لا انسلخت منه، يؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب الرجال، وإنما يكون بفقد العلم بموت العلماء). والقرآن يفسر ببعضه وبالسنة تدبر قوله جل قوله «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» لحقه وأدركه، وفيه تلميح المبالغة باللحوق إذ جعل كأنه أمام الشيطان والشيطان مبالغ في اتباعه وهو من الذم بمكان على حد قوله:
453
«فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ١٧٥» بعد أن كان من المهتدين الراشدين، قال تعالى «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» بتلك الآيات التي علمها إلى منازل الأبرار ومراتب الأخيار «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ» ركن ومال ملازما «إِلَى الْأَرْضِ» أي الدنيا رغبة بملاذّها، ونزولا لشهواتها الوضيعة، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسّر به كما فسرت الأرض بالدنيا لأنها حاوية لشهواتها، وبالطلب منها أنه يخلد إليها فخلد «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بإيثار الدنيا على الآخرة «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» بالخساسة والدناءة لأنه يرجع من قيئه ويأكل القذرة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريفي، قال الإمام الشافعي رحمه الله:
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة... وليتنا ما نرى مما نرى أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها... والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وقال الفقيه منصور في شعب الإيمان:
الكلب أحسن عشرة... وهو النهاية في الخساسة
ممّن ينازع في الريا... سة قبل أوقات الرياسة
والكلب المضروب به المثل «إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ» لتزجره أيها الإنسان وتشد عليه وتطرده «يَلْهَثْ» يدلع لسانه بالنفس الشديد، وهو طبع في الكلب لأنه لا يقدر لنقص الهواء المتسخّن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده، بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء «أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» فاللهث غريزة فيه لا تنقيد في حال التعب والعطش وشدة الحر، إلا أن الحالة تزداد معه فيها «ذلِكَ» المثل الذي ضربه الله عز وجل لعباده فيمن آتاه الحكمة وتركها وعدل عنها فترك آخرته وآثر دنياه في الخسة والضعة، بأخس الحيوانات في أحسن أحواله، لأن الكلب حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه وهذا هو «مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي مثل العالم الذي اتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه، لأن الحريص على الدنيا إذا وعظته لا ينجع به وإن لم تعظه، فهو باق على حرصه فصار الحرص على الدنيا
454
طبعا له غريزيا، وهذا المثل الذي ضربه الله للمكذب بآياته يعم كل مكذب بها لأنهم إذا جاءتهم الرسل بالهداية لم يهتدوا فهم ضلال في كل حال «فَاقْصُصِ» يا سيد الرسل على قومك هذا «الْقَصَصَ» من أخبار الكافرين بآياتنا «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ١٧٦» فيها فيتعظون، ولفظ الكلب لم يأت في القرآن إلا هنا وفي الآيتين ١٧ و ٢٣ من سورة الكهف في ج ٢، «ساءَ مَثَلًا» أي بئس المثل مثل «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» وقدم المفعول للحصر فقال «وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ ١٧٧» لا غيرها لأن وبال تكذيبهم خاص بهم، قال تعالى «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ» منكم أيها الناس «فَهُوَ الْمُهْتَدِي» حقا وثواب هدايته له «وَمَنْ يُضْلِلْ (منكم) فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ١٧٨» دنياهم وآخرتهم، ولا أضر من هذا الخسران. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون ونقله ابن عباس ومحمد بن اسحق والسدي وغيرهم هو أن موسى عليه السلام لما قصد الجبّارين نزل أرض كنعان من الشام، فقال أهلها إلى بلعام، وكان عنده اسم الله الأعظم إن موسى صنديد ومعه جنود كثيرة وأنت رجل مجاب الدعوة، فادع عليه ليرد نفسه وجنوده عنا لئلا يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بني إسرائيل، فقال لهم هذا نبي وإن فعلت معه ما تريدون ذهبت دنياي وآخرتي، قالوا لا بد أن تفعل، فقال حتى أستأمر ربي، قالوا لا بأس، فاستخار ربه فأري أن لا يدعو عليه، فأخبر قومه، فألحوا عليه وأهدوا إليه هذايا وطلبوا منه أن يدعو عليه، فاستأمر ربه ثانية فلم يؤمر بذلك، فأخبرهم فراجعوه، وقالوا لو كره ربك لنهاك عنه، ثم تضرعوا إليه وأغروه بما قدموا له من المال حتى فتنوه، فركب أتانه وتوجه إلى جبل هناك يسمى حسانا ليظلع عليه بني إسرائيل ويدعو عليهم، فربضت الأتان فصار يضربها فقامت ثم ربضت أيضا، وهكذا عدة مرات، ولما آلمها قالت له إنك تسوقني والملائكة يردونني، ويلك كف عني، أتذهب ويحك إلى مناوأة نبيّ الله الذي علمك اسمه لتستجلب به رضاه أو سخطه فتدعو على نبيه، فلم ينزع عن ضربها، فألهمت بمطاوعته كما ألهمت معاكسته، فانطلقت به وصعدت الجبل، فترجل عنها ونظر
455
إلى بني إسرائيل حتى إذا أشرف عليهم صار يدعو باسم الله الأعظم أن يخذلهم، فانصرف دعاؤه إلى قومه، وصار كلما دعا على قوم موسى بشيء أوقعه الله على قومه ولا يدعو لقومه بشيء إلا صرفه الله إلى قوم موسى، وذلك أنه صار ينطق بغير اختياره فقال له قومه: ويلك يا بلعام إنما تدعو لهم وعلينا فقال هذا مما لا أملكه، فقد غلبني الله عليه، ولم يزل يدعو لقومه وعلى بني إسرائيل وهو يجاب بالعكس حتى اندلع لسانه وقال لهم ذهبت دنياي وآخرتي ولم يبق لكم إلا المكر والحيل، وسأبين لكم ما يكون به إليكم الغلبة عليه، فقالوا كيف قال: جمّلوا نساءكم واتركوهن بين معسكرهم وأوصوهن أن لا يمنعن أحدا من الزنى بهنّ فإن زنى واحد منهم بواحدة منكم كفيتموهم، ففعلوا وطافت نساؤهم بين عساكرهم فمرت امرأة تسمى كستى بنت صور من أجمل النساء على رمزي بن شلهوم من عظماء بني إسرائيل فاقتادها، قرآه موسى فقال هي حرام عليك لا تقربها، فلم ينته، وأدخلها قبته وضاجعها، فأرسل الله الطاعون على قوم موسى، وكان صاحب أمره فخاص ابن العيزار غائبا، فلما
حضر وبلغه ذلك دخل عليهما بالقبة وانتظمهما بحربته، ورفعهما إلى السماء وقال اللهم هذا فعلنا بمن عصاك فأرنا فعلك في عدونا واكشف عنا ما ابتلينا به بسببه، فرفع الله عنهم الطاعون، وقد بلغ من مات من حين ضاجعها إلى زمن قتلهما سبعين ألفا. وفي بلعام المذكور نزلت هذه الآية على حضرة الرسول ليقصها على قومه، وهي من الإخبار بالغيب معجزة له صلّى الله عليه وسلم. وتروى هذه القصة بصورة أخرى. وهي أن ملك البلقاء كلف بلعاما أن يدعو على بني إسرائيل وموسى وكان ما كان مما قصصناه أعلاه وفيها أن الله استجاب دعاءه ووقع موسى وقومه في التيه، وأن موسى قال رب كما استجبت دعاءه فاستجب دعائي عليه وانزع منه اسمك الأعظم والإيمان، فاستجاب الله دعاءه وسلخه من المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء، ولا يقال كيف يدعو موسى بسلبه الإيمان ويرضى له بالكفر مع علو منصبه وأمره بدعوة الناس إلى الإيمان ذلك لأنه لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده كفره وارتداده عن الإيمان بدعائه عليه وعلى قومه وإيثاره الدنيا على الآخرة
456
إلا أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب بحق موسى، لأن التيه قدره عليهم بسبب مخالفتهم لأمره في حرب الجبارين وكان عليه روح وراحة، وهذا مما لا شك فيه في حقه، أما على قومه، فكان فيه بعض المشقة والكلفة جزاء مخالفتهم أمره وكان هذا بدعائه عليهم لا بدعاء بلعام كما سيأتي في الآية ٢٥ من المائدة في ج ٣، قال الألوسي في تفسيره روح المعاني أنا أعجب من هذا الشقي لم لم يدع على ملك البلقاء ليخلص من شره ويدعو على موسى، ما هي إلا جهالة سوداء. هذا، وما جاء في كلام أبي المعتمر من أن بلعاما أوتي النبوة مردود لأن الأنبياء معصومون مما وقع من بلعام وان بلعاما كفر وهم معصومون من الكفر، ولعل هذا أراد ما أوتيه من الآيات والاسم الأعظم، على حد قوله صلّى الله عليه وسلم من حفظ القرآن فقد طوى النبوة في جنبيه.
مطلب قصة أمية بن الصلت:
وقال عبد الله بن عمر وبن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إن هذه الآية نزلت في أمية بن الصلت الثقفي، وكان قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله مرسل رسولا ورجا أن يكون هو، فلما شرف محمدا بالرسالة حسده وكذبه وقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه، قاتله الله ألم يعلم أن النبي مرسل للقريب والبعيد، وأن الكافر عنده كافر سواء كان من أقربائه أو من أعدائه، لأن الجامع فيما بينه وبين الناس هو الإيمان، فلما مات أتت أخته ضارعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألها عن كيفية وفاته فقالت: نزل عليه اثنان من السقف فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه أوعى فقال وعى، قال أذكى قال أبى، فسألته عن هذا فقال خيرا أريد بي فصرف عني ثم قال:
وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده
كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني قبل ما قد بدا لي في خلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
فقال لها صلّى الله عليه وسلم بعد أن سمع هذا منها أنشديني ما سمعت من شعره، فقالت سمعته يقول ذات يوم:
457
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا... ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم قالت أيضا:
وقف الناس للحساب جميعا... فشقىّ معذب وسعيد
حتى أتت على آخرها ثم قالت أيضا:
عند ذي العرش يعرضون عليه... يعلم الجهر والخفاء الخفيّا
يوم يأت الرحمن وهو رحيم... إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا
فقال صلّى الله عليه وسلم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه.
مطلب قصتي النعمان والبسوس:
وقيل إنها نزلت في النعمان بن صيفي الراهب، كما روي عن ابن أبي حاتم بأنه رجل ترهب في الجاهلية وقدم المدينة على حضرة الرسول، فسأله عن دينه فقال صلّى الله عليه وسلم الحنيفية ديني ودين جدّي إبراهيم عليه السلام، فقال له أنا عليها، فقال صلّى الله عليه وسلم:
لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فلست عليها، فقال له: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، وخرج إلى الشام واستنفر المنافقين، وطلب من قيصر النجدة لمحاربة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلم يجبه ولم يوفق لمطلبه وبقي مقهورا حتى مات بالشام طريدا وحيدا.
إلا أن هذه لا تصح أن تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية والحادثة هذه وقعت في المدينة، وإنما تنطبق في المعنى على هذا وأضرابه من كل من آثر دنياه على آخرته كما تقدم في تفسيرها، ولأن بين نزول هذه الآية وحادثة النعمان هذا الذي سلب الله نعمته وأهلكه بحكمه على نفسه سنين كثيرة راجع تفسير الآية ١٠٧ من سورة التوبة في ج ٣. وقيل إنها نزلت في البسوس، وهي رواية عن ابن عباس، وخلاصة القصة أنه كان رجلا له زوجة وثلاثة أولاد وقد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، فقالت له زوجته اجعل لي منها واحدة ففعل، فقالت أدع
458
الله أن يجعلني أجمل امرأة، فدعا فصارت فرغبت عنه، فدعا عليها فصارت كلبة، فقال أولادها لأبيهم إن الناس تعيرنا بأمنا فادع الله أن يردّها إلى حالتها الأولى ففعل، فذهبت دعواته فيها. وليست بشيء لأن البسوس امرأة لا رجل، ويضرب فيها المثل فيقال أشأم من البسوس (وحرب البسوس) وهي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرّة الذي قتل ابن عمه كليب بسبب قتله ناقتها التي دخلت في حماه، فشكته إلى جساس فاغتاظ منه واستحين الفرصة من كليب، ولا زال يترصده حتى رآه خرج إلى حماه أعزل فتبعه وطعنه من قفاه بحربته فوقع صريعا على الأرض، ولما رآه وعرفه أنه ابن عمه طلب منه ماء فأعطاه طعنة أخرى فقال كليب:
المستجير بعمر وعند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
فذهبت مثلا ومات كليب فطلب ثأره أخوه المهلهل ودام الحرب بينهما أربعين سنة، وقصتها مشهورة بالتواتر ولم يذكر لنا التاريخ بسوسا غير هذه. وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أن الذي نزلت فيه هذه الآية رجل من علماء بني إسرائيل كان يقدمه موسى عليه السلام في الشدائد ويكرمه وينعم عليه، فبعثه إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان به، وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى وتبع دين ملك مدين، قال المرحوم السيد محمود الآلوسي: هذه الرواية أولى عندي بالقبول ووجه اختياره لها، والله أعلم أن نظم التنزيل جاء مطلقا وتنطبق الآية على من هذا شأنه، لأن الرواية جاءت مطلقة في رجل من بني إسرائيل والآية مطلقة أيضا فلذلك اختارها. وقال الحسن وابن كيسان إن المراد بهذه الآية منافقو أهل الكتاب، وهذا بعيد أيضا إذ لا منافقين في مكة والآية مكية، وأبعد منه قول أبي مسلم إن المراد به فرعون وبالآيات الحجج والمعجزات التي ظهرت على يد موسى والأول أولى، قال تعالى «وَلَقَدْ ذَرَأْنا» خلقنا وهذا قسم من الله أي وعزتنا لقد هيأنا «لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» الكافرين منهم ولا تنافي بين هذه الآية وقوله: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٧ من الذاريات، لأنه تعالى خلق للعبادة من علم أنه يعبده، وخلق لجهنم من علم
459
أنه يجحده وكم من عام يراده به الخصوص، ومن قال أن هذه اللام التي فى لجهنم لام العاقبة كاللام في قوله تعالى: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) الآية ٨٨ من سورة يونس في ج ٢، وكاللام في قول صاحب الزبد:
له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب
بمعنى أنه لما كانت عاقبتهم جهنم جعلوا كأنهم خلقوا لها فرارا عن إرادة المعاصي.
لا عبرة به، لأنه عدول عن الظاهر، ولأن اللام واقعة في جواب القسم كما ذكرنا، والآية الأخرى والبيت المستشهد به لا قسم فيهما. على أن هذه الآية نفسها حجة واضحة لمذهب أهل السنة القائلين: إن الله تعالى خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها بصريح اللفظ قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٧ من الصافات في ج ٢، ولا زيادة على بيان الله، ثم وصف هؤلاء المخلوقين لجهنم بقوله عز قوله «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها» لأن معنى الفقه الفهم والعلم ثم جعل علما على علم الدين، وهؤلاء لا يفهمون المراد من خلقهم ولا يعلمون ما يصيرون إليه «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» طريق الهدى والرشد ولا ينظرون بها آيات الله وأدلة توحيده في سمائه وأرضه «وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» المواعظ سماع قبول لأنهم صمّ فإنهم للشر أسمع من الخير، ولكنهم قوم صرفوا حواسهم كلها إلى الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، لذلك حرموا نعم تلك الحواس فيما يؤول به إلى خيرهم فلم ينتفعوا فيها قال الشاعر:
وعوراء الكلام صممت عنها وإني إذ أشاء لها سميع
ولهذا قال ابن الفارض رحمه الله:
إذا نظرت ليلى فكلي أعين وإن نطقت ليلى فكلي مسامع
«أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «كَالْأَنْعامِ» البهائم العجم «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» منها لأنها تعرف ما ينفعها ويضرها ولهذا تراها تجتنب بعض الأعشاب ولا تلقي نفسها من الصعدات، وتخاف كل صيحة، وتنقي ما تراه من أسورة وغيرها فتتنبه وتقف وترجع إلى الوراء وتجتنب الحفر والمياه، وهؤلاء لا يعرفون عاقبة ما يضرهم ولا
460
نفع ما يسرهم معرفته حقيقة، مع أنهم أعطوا ما لم تعطه الحيوانات من القوة العقلية «أُولئِكَ» المشبهون بالأنعام «هُمُ الْغافِلُونَ ١٧٨» عن فهم هذه الأمثال المضروبة لمن يعقل عله يتعظ بها.
مطلب في أسماء الله الحسنى:
«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» تأنيث الأحسن اسم تفضيل، لأنها أحسن أسمائه وكل أسمائه حسنة، إلا أن هذه تدل على معاني حسنه من تحميد وتمجيد وتقديس وتنبىء عن معاني كثيرة ومغازي شريفة لا تدل عليها غيرها. قال مقاتل: إن رجلا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم دعا الله ودعا الرحمن، فقال أبو جهل قبحه ولعنه الله:
يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما لهذا يدعو إلهين؟ جهلا منه بصفات الله، فنزلت هذه الآية. أما ما قيل من أنها نزلت حينما قرأ رجل في صلاته (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية قبل الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فغير وجيه لأنها لم تنزل، بعد وسنأتي على معاني أسماء الله الحسنى في أوائل سورة طه الآتية إن شاء الله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
(إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر) وفي رواية، من أحصاها. وفي رواية أخرى إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر، وهي معلومة محصورة في نوعين الأول عدم افتقاره إلى غيره والثاني افتقار غيره إليه «فَادْعُوهُ بِها» أيها الناس لا بغيرها من الأسماء، وفي هذه الجملة دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ويؤكده عدم جواز قولك الله سخي بدل جواد، وعاقل بدل عالم، وطبيب بدل حكيم، وعارف بدل خبير، وعدم جواز الدعاء بغيرها لقوله جل قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» لا تقلدوهم بما يقولون واتركوهم وشأنهم إذا لم يمتثلوا أمركم بالميل عن الإلحاد الذي هو عدول عن القصد والاستقامة إذ لا يجوز أن تطلق أسماء غيره عليه ولا أسماءه على غيره ولا نسميه بما لم يسم به نفسه مما لم يرد في قرآن أو سنة، فلا يجوز أن تقول يا ضار يا مانع يا خالق القردة
461
يا هدام الديار على الانفراد، بل إذا قلت هذا فقل: يا ضار يا نافع يا معطي يا مانع، يا خالق الخلق يا جبار القلوب، تأدبا معه جل جلاله، وإن كان في الحقيقة تلك من أسمائه لأنه هو المدمر والمخرّب والمحرّك، ولكنها ليست من الأسماء الحسنى، وكذلك لا يجوز أن نسميه باسم لا نعرف معناه كما جاء في الطلاسم والتعاويذ والرقى، فقد يكون مما لا يليق بجنابه العظيم فنعرض أنفسنا لما لا يرضاه مما يشير إليه قوله تعالت قدرته «سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١١٩» أولئك الملحدون في أسمائه، وفيها من الوعيد والتهديد ما لا يخفى على بصير. أما ما ذكره الشيخ علي محفوظ في الفصل التاسع من كنابه (الإبداع في مضار الابتداع) من أن من يسميه تعالى بغير اسم ورد في القرآن أو السنّة فقد كفر، ففيه ما فيه من المبالغة وحمل على السادة الصوفية وتنديد بهم، فهو قول مغالى فيه لا محل له من القبول، لأن التكفير أمر عظيم لا يكون إلا بإنكار أحد أركان الإسلام، وقال العلماء المنصفون لو وجد تسع وتسعون قولا بالتكفير وواحد بعدمه يفتى بالواحد، إذ لا يخرج الرجل من الإسلام إلا بإنكار ما دخل به فيه،
قال تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» جماعة إلى الجنة وهذا بمقابل (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) في الآية السابقة ونظيرتها الآية ١٥٩ المارة، وهذه الطائفة المباركة هم الذين دأبهم أنهم «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» ويرشدون الناس إلى طريقه «وَبِهِ يَعْدِلُونَ ١٨٠» بأحكامهم على أنفسهم وعلى غيرهم لا يفرقون في الحق بين قريب وغريب وعدو وصديق وحقير وشريف. قال ابن عباس يريد بهذه الآية أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال وهو يخطب:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). وفي الآية هذه والحديث هذا إشارة إلى أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» من أي أمة كانت لأن الصيغة للعموم فتتناول الكل إلا ما دل الدليل على استثنائه فهؤلاء «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» شيئا فشيئا إلى الهلاك «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ١٨١» ما يراد بهم ولا يشعرون بمصيرهم ولا يحسون
462
بمنقلبهم حتى يستأصلوا بالعذاب على غرّة، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم الدنيا ويزيدهم من نعيمها ما عليه يغبطون، وإذا أقدموا على ذنب أو عملوا جرما فتح عليهم أبواب الرزق ليزدادوا تماديا في الشرّ ويحسبون أنه أثرة من الله آثرهم بها على غيرهم وينسيهم سيئاتهم حتى لا يرجعوا عنها ويستغفروا منها ويظنوا أن الله لا يحاسبهم عليها وهم لا يعلمون أن ذلك كله عربون لأخذهم بغتة وإهلاكهم على حين غفلة، إذ يفاجئهم بأمر لا محيص لهم منه، ويدل على هذا قوله «وَأُمْلِي لَهُمْ» أمهلهم بإطالة أعمارهم ولا أعاجلهم بالعقوبة حتى يظنوا أنهم أهملوا، ولم يذكروا «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ١٨٢» قوي شديد لا يجارى ولا يبارى، ومن جملة هذا الكيد أن أغلق عليهم باب التوبة، فلا أجعلهم يتصورونها. وأراد بالكيد هنا الأخذ وإنما سمي كيدا تشبيها به من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الباطن خذلان ثم شرع يندد في كفار قريش بقوله عز قوله «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا» هؤلاء الذين يصمونك بالجنة أيها الكامل مع أني أقول لهم «ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» فكيف ينسبونك إلى الجنون وأنت مصاحب لهم ليل نهار ويعلمون يقينا أنك أكمل البشر وأقول لهم «إِنْ» ما «هُوَ» صاحبكم «إِلَّا نَذِيرٌ» لكم يخوفكم من أن يأخذكم ربكم بعذاب شديد لا تطيقونه إن أصررتم على كفركم ولم تؤمنوا به وهو «مُبِينٌ ١٨٣» لكم طريق الخير وموضح لكم سبل الصواب ومرشدكم لكل ما به نفعكم واجتناب ما يصركم، نزلت هذه الآية حينما وقف صلّى الله عليه وسلم على الصفا ودعى قريشا فخذا فخذا وحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إن لم يؤمنوا به، وأنه ينزل بهم من العذاب ما أخذ به من قبلهم، فقال بعضهم لبعض إن هذا لمجنون دعوه يصوت حتى الصباح فأكذبهم الله فيها، طفق يحثهم على دلائل وحدانيته مما يؤدي لإيمانهم إن كانوا يعقلون، فقال «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وعظمتهما وما فيهما من المنافع، والملكوت هو الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة مثل جبروت ورحموت مبالغة في التجبر والرّحمة، ويتأملوا «فى ما خَلَقَ اللَّهُ» فيهما وبينهما وما فوقهما وتحتهما «مِنْ شَيْءٍ» ذكر الشيء ليعم فيشمل جميع الأشياء
463
العلوية والسفلية، إذ في كل منها عبر توجب التفكر والتدبر والنظر لدلالتها على آثار قدرته في مكوناته وعجائب صنعه في مخلوقاته:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
أي لماذا لم يتذكر الناس فيما برأه ربهم في هذين الهيكلين العظيمين وما خلقه لهم فيهم «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» فيموتوا على كفرهم فيخسروا آخرتهم كما خسروا دنياهم، فيا سيد الرسل إذا لم يؤمنوا بك وأنت الذي لا نبيّ ولا كتاب بعدك «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ١٨٤» لأنك خاتم الأنبياء وكتابك خاتم الكتب، أي أنهم لا يؤمنون البتة لأن اعراضهم هذا لسابق ضلالهم وأنهم في علم الله خبثاء لا يتوقع منهم الهدى لأن «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» أبدا إذ طبع الله على قلوبهم فمالوا عن الحق إلى الضلال وقد أعماهم عن سلوكه لأنه يريدهم إلى ما قدره إليهم في أزله «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١٨٥» لا يدركون شيئا في بصيرتهم كما لا يرونه بأبصارهم فهم دائما متحيرون لا يهتدون إلى صواب:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة... إلى أين يسعى من يغص بماء
مطلب في الساعة ومعنى احفوا الشارب:
ثم إن من كفرة قريش من سأل حضرة الرسول عن الساعة التي يخوفهم بها لأنهم ينكرونها فيقولون له متي تكون فأنزل الله «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ» سؤال سخرية واستهزاء لأنهم لا يصدقون بها لهذا يقولون لك هؤلاء الكفرة «أَيَّانَ مُرْساها» يريدون متى تأتي، لأن الإرساء هو الوقوف والإثبات، فإذا جاءت فكأنها ثبتت أمامهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل أنا لا أعلم وقت مجيئها «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» وحده لا يعلمها غيره، فكما أنه أخفى عليكم أجل موتكم فقد أخفاها عليّ وعلى الناس أجمع ليكونوا كلهم على حذر دائم من وقوعها، فإخفاؤها أدعى لملازمة الطاعة والمثابرة عليها والمبادرة إلى التوبة والمباعدة عن المعاصي «لا يُجَلِّيها» ليظهرها ويكشف أمرها «لِوَقْتِها» المقدر لها كي يراها الناس «إِلَّا هُوَ» وحده، واعلموا أيها الناس إن الساعة قد «ثَقُلَتْ» عظمت وكبرت وقيل
464
خفيت لأن الشيء إذا ثقل خفي فأبدل اللفظ به، وعليه فإن في الآتية بمقام على، أي اشتد هو لها على من «فِي السَّماواتِ» من الملائكة «و» على من في «الْأَرْضِ» من الثقلين الإنس والجن وأهمهم شأنها وأخافهم هولها، وهنا حذف لفظ أهل وهو من بديع الكلام ولذلك قدرنا (من) لفظ قبل السموات والأرض، واعلموا أيها الناس إنها «لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» فجأة على غرة وغفلة من الناس أجمع.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة الوالدة حديثا) فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط (يطين ويصلح) حوضه فلا يسقى فيه، ولنقومن الساعة وقد رفع أكلته (بضم الهمزة اللقمة) إلى فيه فلا يطعمها. ومن هنا قال بعضهم إن الساعة تؤلف ولا تؤلفان لأن حروف بغتة بحساب الجمل ألف وثمانمائة واثنان والصحيح انها وأربعمائة واثنان، لأن التاء مكررة فيها والمكرر لا يحسب عادة ولكن تضاف حروف الكلمة لها فتكون ١٤٠٦، ونحوها قوله تعالى (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الآية ٧٦ من الإسراء الآتية، فإن حروفها عدا المكرر ١٣٩٩ وحروفها ١١ فتكون ١٤١٠ تدبر. وأعلم أن هذا لطريق الاستنباط لا غير، وفي الحقيقة لا يعلم مداها إلا هو «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» بليغ في علمها شديد السؤال عنها، أي. يسألونك عنها كأنك حفي بها ففيه حذف والإحفاء هو الاستقصاء بالشيء ومنه حديث احفوا الشارب المار ذكره في الآية ٩٥ أي استقصوا في قصه حتى يكون كالحاجب بأن تكون له حواف، أي تبدو منه حواف شفته. وقد أخطأ صنعا من زين شاربه استدلالا بهذا الحديث لزعمه أن معنى الإحفاء هو ذاك، مع أنه مع بقاء اللحية مثلة، وحاشا رسول الله أن يأمر بها، ألم يعلم هذا المتحفف أن رسول الله لم يزّين شاربه بالموسى ولا بالمقصّ بل كان يأخذ منه مازاد على الشفة، وأنه لا يأمر بما لا يفعل، وأن الاقتداء به هدى والمخالفة له ضلال.
قرأ ابن مسعود (حفيّ بها) أي كأنك عالم بها مراعاة لمعنى الباء المؤدية لمعنى ت (٣٠)
465
عن في الآية المارة، وهي قراءة إن صحت عنه فهي شاذة لا يجوز أن تقرأ لما فيها من إبدال حرف بغيره متباينين في المعنى، وقيل إن معنى حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله، واستقصاه إذا اعتنى به، وعليه قول الأعشى:
فإن تسألوا عني فيا رب سائل حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
والأول أولى، راجع الآية ٩٥ المارة في بحث الإحفاء وعلى كل «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» كرر الجواب جل شأنه لتكرار السؤال تأكيدا للحكم وتقديرا له واشعارا بعلّته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها بصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم، فالسؤال الأول عن بيان وقت قيام الساعة، والثاني عن بيان أحوالها الشافة، ولهذا قال جل شأنه «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ١٨٦» معنى اختصاص علم الله بها، فبعضهم ينكرها رأسا ولا يسأل عنها إلا تلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة، ولهذا قال أكثرهم:
ويزعم أن محمدا واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بها من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها بأن يقول كيف يدعي الرسالة ويخوفنا القيامة ولا يعرف متى تقوم، وبعضهم واقف على جلية الحال ويسأل امتحانا فهو ملحق بالجاهلين لعدم علمه بعمله وعمله بعلمه. هذا، ولما سأل أهل مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم ألا يخبرك ربك بالأسعار لنتيقن ونتحقق الربح، وبالجدب والخصب لنأمن على أنفسنا وحيواناتنا من الجوع والعطش، أنزل الله «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا» لأني بشر مثلكم فلا أقدر على دفع الضر وجلب الخير «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لي من ذلك أن أملكه بتمليكه إياي، وهذا غاية في إظهار العبودية ونهاية في التبري عن خصائص الإلهية ومبالغة في إظهار العجز، وبما أن ذلك من العلم بالغيب أتبع هذا التبرّي بقوله «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ» كما تظنون «لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي من موجباته ولم أكن مغلوبا لكم في بعض الأحوال، وهذا قبل أن يطلعه الله على بعض مغيباته ولما أطلعه أخبره، قال تعالى: (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ
466
أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)
الآيتان ٢٦ و ٢٧ من سورة الجن الآتية، ثم أكد نفي ذلك بقوله «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ» للكافرين أمثالكم من أن يلحقهم غضب الله إن لم يرجعوا عن كفرهم «وَبَشِيرٌ» بالثواب العظيم من الله «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١٨٧» بي ويصدقون رسالتي، ثم ذكرهم بأصل خلقهم بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «وَجَعَلَ مِنْها» من نفسها زوجها» حواء لأنها خلقت من نفس آدم، لذلك قال منها أي من جنسها، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى، ونظير هذه الآية من حيث المعنى الآية الأولى من سورة النساء في ج ٣ والآية ٩٧ من سورة الأنعام في ج ٢، أما كيفية خلقها فعلى ما هو عند الله تعالى مما هو مجهول عندنا، والله لا يعجزه شيء وقال تعالى في الآية ٧٢ من سورة النحل في ج ٢ (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وعليه ينبغي أن تكون من هنا ابتدائية، ويكون المعنى من جنسكم أيضا، ويحتمل أن تكون تبعيضية، فيصير المعنى من جسدكم، فالمعنى الأول ينطبق على آدم وسائر البشر، وعلى الأخير لا ينطبق إلا على آدم، وسنأتي على تفصيل كل من هذه الآيات في محله إن شاء الله «لِيَسْكُنَ إِلَيْها» يأوي ويأنس بها واللام للعلة الغائبة، أي يطمئن إليها.
مطلب أدب التعبير وحمل حواء الأول:
وقد ذكّر الضمير في ليسكن ولم يؤنثه باعتبار النفس كما هو الظاهر لأن المراد منها آدم، ولو أنث الضمير على الظاهر لتوهم نسبة السكون للأنثى وهو خلاف المقصود من قوله «فَلَمَّا تَغَشَّاها» والغشي منسوب للذكر قولا واحدا وهو أحسن كناية عن الجماع وأكثر أدبا فيه، لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة، وفي هذا تنبيه لحفظ اللسان من الكلام البذيء ولو كان لا بأس به، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: تأدبوا بآداب الله كي ينزه الإنسان دائما لسانه عن ذكر ما فيه فحش ولو حلالا، وهذا من جملة آداب القرآن، ويقال له أدب التعبير في علم البلاغة «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» بادىء بدء لأنه عبارة عن نطفة فلا يحس بها ثم يتدرج إلى علقة فمضغة وهكذا إلى
467
كماله، ولهذا قال تعالى «فَمَرَّتْ بِهِ» أي بحملها لخفته لأن كبره في الرحم تدريجيا والثقل التدريجي لا يحس به غالبا، وقرأ أبو العالية مرت بالتخفيف مثل ظلت، في ظللت أو من المرية أي شكت في حملها، لأنه شيء لم يعهد عندهما قبل وقرأ ابن الجحدري فمارت من مار يمور إذا جاء وذهب يريد به الحمل لأنه يتقلب بالمشيمة، وكل هذه القراءات جائزة إذ لا زيادة فيها ولا نقص والتصحيف لا بأس به.
أما ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ استمرت ففيها زيادة حرف وتبديل حرف فلا يجوز قراءتها «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» بكمال الحمل وارتفاع البطن وصارت تتألم لضرب الولادة «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» تضرعا وإخباتا لأنهما رأيا شيئا عجيبا لم يصرفا مصيره وخافا عاقبة الأمر واهتما بحال خروج الولد، فتوجها إلى مالك أمرهما وطلبا منه حسن العاقبة فقالا «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً» بشرا سويا مثلنا سالما من النقص والزيادة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ١٨٨» لنعمائك دائبين عليه، وذلك لأنهما لم يريا أحدا من جنسهما ولم يكن إذ ذاك غير الجن والحيوان والوحش والطير، فخافا أن يكون من جنس أحدهما فرغبا إلى ربهما أن يكون على شكلهما ولونهما «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً» كما أرادا «جعلا» أي نسلهما وأولاده على حذف مضاف مثل قولك سال الوادي وتريد ماءه، ومثل قوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهلها، وحذف المضاف متعارف عند العرب واتخذا «له» للإله الواحد «شُرَكاءَ» من الملائكة والبشر والحيوان والجماد وغيرها من مخلوقاته وأشركوها بعبادته «فِيما آتاهُما» أي أولادهما وأنفسهما من النسل إذ أضافوا ذلك إليهما، وإنما ثني الضمير باعتبار أن الذي أتاهما ذكر وأنثى، وعبر بما بدل من لأن هذين الصنفين عند ولادتهما ملحقان بما لا يعقل وإنما أسند الجعل للنسل كله مع أن البعض لم يجعل لنلبسه بمحض الإيمان لأنهم الأكثر على حد قولهم (بنو تميم قتلوا فلانا) والقاتل واحد، وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ) الآية ٦٧ من سورة مريم الآتية وليس كل إنسان يقول ذلك «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨٩» معه من لا يستحق العبادة، وجمع الضمير على عوده للنسل الذي أشرك، وفيه تغليب
468
المذكر على المؤنث إيذان بعظم الشرك ولأن من جوّز الشريك الواحد جوز الشركاء، وقد أضاف جل شأنه في هذه الآية فعل الآباء إلى الأبناء متهكما فيما آل إليه أمر ذريتهم، كما أضاف فعل الأبناء إلى الآباء في قوله اتخذتم العجل.
وقتلتم نفسا. الآيات ٥١ و ٩٢ و ٧٢ من سورة البقرة في ج ٣ إذ خاطب فيها اليهود الذين على زمن محمد صلّى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم زمن موسى عليه السلام وهذا أحسن الأقوال في تفسير هذه الآية. ولا يقال إن هذا من قبيل الرأي وتفسير على خلاف الظاهر، لما ذكرنا في المقدمة من لزوم اتباع الظاهر حسب المستطاع، إذ لا استطاعة هنا ولا مخلص إلا بالأخذ على خلاف الظاهر، لأنه أليق بالمقام وأوفق للمعنى، ولأنه إذا تعذرت الحقيقة وجب الجنوح إلى المجاز، ولأن إعمال الكلام ولو تأويلا عند جواز المعنى أولى من إهماله. وبلي هذا القول قول من قال إن الضمير في خلقكم يعود إلى قريش آل قصي، إذ لا يجوز عوده لآدم عليه السلام، لأن إسناد الشرك إليه محال، كيف وهو نبي معصوم! واستدل بضمير الجمع في (يُشْرِكُونَ) لأنهم خلقوا من جنس قصي وزوجته القرشية بنت سيد مكة من خزاعة، وقد سميا أولادهما عبد مناف وعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار، بدلا من عبد الله وعبد الرحمن مثلا، فيكون المراد بهذه الآية هما وأعقابهما الذين اقتدوا فيهما بالشرك، وأيد قوله هذا بقول أم معبد:
فيا لقصي ما روى الله عنكم به من فخار لا يبارى وسؤدد
حتى قال جماعة من العلماء إنه تفسير حسن لا إشكال فيه. نعم هو وجيه إلا أنه يرد عليه عدم علمنا بقصي وزوجته بأنهما وعدا الله عند الحمل بما ذكر في الآية، لأنهما كانا كافرين وكانت قريش متفرقة، ثم جمعها قصي ولذلك سمي مجمعا، فلم يخلق المذكورون من نفسه فضلا عن أنه لا محل لاستغرابهما الحمل مثل آدم وزوجته.
أما ما قاله بعض المفسرين من أن الإشراك بالتسمية فقط وهو لا يعد شركا وجوزوا إطلاقه على آدم عليه السلام وزوجته، واستدلّوا بما قاله عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء ولكن كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان وقال لهما، إن سركما أن
469
يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث يعني نفسه، لأنه كان بين الملائكة يسمى حارثا ففعلا فعاتبهما الله على ذلك بما ذكر بالنسبة لمنصبهما، على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقول الآخرين من أنه يفهم من قوله تعالى أثقلت، أن حواء كانت تسقط حملها قبل كماله، فلما كمل في هذه المرة دعوا الله بما قصه في هذه الآية، واستدل بما أخرجه الترمذي وأحمد وحسنه الحاكم وصححه عن سمرة بن جندب قال:
قال صلّى الله عليه وسلم: لما ولدت حواء طاف إبليس وكانت لا يعيش لها ولد، فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته، قال القطب: لا بعد هذا شركا لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، ولكن أطلق عليها لفظ الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون أمر عظيم. وقال الطيبي: هذا أحسن الأقوال لأنه مقتبس من مشكاة النبوة. وقال غيرهم إنه موافق لسياق الآية المنزلة بحسب الظاهر، ولا يصار لغيره إلا بدليل، أقول نعم لو كان هذا الحديث مسلما بصحته أما لا فلا:
لأن في سنده عمر بن ابراهيم المصري، قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به متروك وفضلا عن هذا فإنه ليس مرفوعا بل هو موقوف على سمرة، والموقوف على الصحابي فيه ما فيه، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط الاستدلال به، وقد جاءت روايات أخرى عن معمر عن الحسن، وعن ابن جرير عن الحسن، وعن قتادة عن الحسن كلها مختلفة باللفظ متضاربة بالمعنى، وإن هكذا روايات لا تخلو عن الدس من أهل الكتاب، لأنه لو ثبت عن الحسن ما نقلوه عنه لما فسرت هذه الآية على غير ما روي عنه، وهناك رواية أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحارث خرجها ابن جرير عن الخبر، بما يدل على أن هذه وتلك منقولة عن أهل الكتاب لما قيل إنها نزلت في اليهود والنصارى، لأنهم هوّدوا ونصّروا أولادهم إلى غير ذلك من الأقوال التي لا ترتكز على ما يطمئن له الضمير ويركن إليه العقل، وشكّ أن الآية من المشكلات وقد تضاربت فيها آراء المفسرين، وأحسن شي ما أثبتناه في تفسيرها وهو ما اعتمده جهابذة المفسرين، ولو كان هناك حديث صحيح لا غبار عليه يفهم منه تفسيرها على غير ما جرينا عليه لاتبعناه، قال الشافعي رحمه
470
إذا صح الحديث فهو مذهبي، وعلى هذا أكثر المفسرين من أساطين الإسلام الذين هم أعلى رتبة وأسنى مقاما من مخالفيهم. هذا، وكان يولد لهما في كل بطن ذكر وأنثى وكانا يزوجان ذكر البطن الأول البنت من البطن الثانية وذكر البطن الثانية البنت من البطن الأول، وهكذا تناسلا وكثرا، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٢٧ من سورة المائدة في ج ٣، ومن هذا النسل من جرأ واتخذ لحضرته سبحانه شركاء، من الأصنام والنجوم والملائكة والنار والبقر وغيرها من مخلوقاته تعالى الله عن ذلك وتنزه، وأشركا ذلك النسل فيما أتاهما من الأولاد إذ أضافوا ذلك إليهم، وعبّر هنا أيضا بما دون من لأن هذه الاضافة وقعت منها عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل كما أشرنا إليه آنفا، وإسناد الجعل للنسل على العموم، مع أن البعض لم يجعلوا جاء على ما هو متعارف عند العرب كما مر في تفسير الآية ١٨٩ ومثله قوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الآية ١٦ من سورة عبس المارة والمراد بعض الإنسان تدبر وقل «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٩٠» فيه ذلك النسل الذي جعل له شركاء، وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذانا بعظم إشراكهم، قال منددا صنيعهما على طريق الاستفهام الإنكاري
«أَيُشْرِكُونَ» بي وأنا خالقهم «ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً» من الأشياء أصلا، ومن حق المعبود أن يكون خالقا وهؤلاء «وَهُمْ يُخْلَقُونَ ١٩١» بصنع أيدي مخلوقي وجاء ضمير الجمع على صفة من يعقل بناء على اعتقاد الكفار بأن الأصنام تعقل وتنفع وتضر، فأجراها مجرى من يعقل، وفي قوله «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة شركاء لي «هم» لعابديهم عند حاجتهم لهم «نَصْراً» مما يحل بهم من أمر مهم أو خطب ملمّ «وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ١٩٢» أيضا إذا وقع عليهم تعد من كسر واهانة «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها الكفرة «إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ» هذا بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم بالنص، والهدى مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تجعل للطالب، راجع تفسير الآية ١٧ من سورة فصلت في ج ٢ «سَواءٌ عَلَيْكُمْ» أيها المشركون بهم «أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
471
صامِتُونَ. ١٩٣»
وهذا مثل ضربه الله تعالى في عدم الإفادة منهم في الدعاء وعدمه، أي أن دعاءكم لهم في عدم الإفادة وسكوتكم عنهم سيان، فلا يتغير حالكم في الحالتين كما لا يتغير حالهم في الحالين، لأنها جماد والجماد يستوي فيه الحالان، وقال بعض المفسرين إن ضمير تدعوهم يعود لحضرة الرسول على سبيل التعظيم، أو له وللمؤمنين وضمير المفعولين في (تدعوهم) و (أدعوتموهم) للمشركين والمراد بالهدى دين الحق، أي إن تدعو المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم. إلا أن سياق النظم الكريم وسياقه لا يساعد هذا البتة كما ترى، لأنه لو كان كذلك لقال عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الآية ١٠ من سورة يس الآتية، لأن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة للداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، وإن من نقل هذا القول عن الحسن لم يتثبت بنقله ولم يترو بصحته. أما من نقله عن الطبرسي فإن صح فليس بشيء لأنه رحمه الله لم يحقق ما ينقله حتى قيل عنه إنه (حاطب ليل) ومما يقرر ما جرينا عليه ويؤكده قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونهم آلهة ليسوا بآلهة إنما هم «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» مسخّرون مذلّلون لله ومن جملة مملوكيه قرأ ابن سعيد بتخفيف (إن) ونصب عباد على حد قول القائل:
إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين
وقرأ آخرون بنصب أمثالكم أيضا على أنّ أن المخففة تنصب الجزأين المبتدأ والخبر على حد قوله:
إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
والقراءة الأولى أولى وهي التي عليها المصاحف المختارة على غيرها إذ ذكرنا غير مرة إن القراءة إذا لم تكن تبدل أو تغير فتجوز وإلا فلا لأن التخفيف والتشديد والمد والإمالة لا تغير الحروف ولا الكلمات ولا المعنى وكل ما كان كذلك فلا بأس به «فَادْعُوهُمْ» أيها المشركون «فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» ما تدعونهم به «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ١٩٤» في زعمكم أنهم ينفعونكم، وهذا تحقيق لمضمون ما قبله وتبكيت
472
لهم بما يدّعونه فهم من القدرة والهدى والضلال، ومما يؤكد هذا ويزيد في التوبيخ ونفي ما يتوهمونه في أوثانهم قوله جل قوله «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» حتى تخاطبوهم؟ وترجوا نصرهم كأناس أمثالكم، كلا ليس لهم حواس كحواسكم وجوارحكم فليس لكم مصلحة بهم أصلا، فيا أكمل الرسل «قُلِ» لهؤلاء الأغبياء «ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» واستعينوا بهم لينصروكم أو يدفعوا عنكم ضرا، إن كان ما تتصورونه بها حقا «ثُمَّ كِيدُونِ» جميعا أنتم وشركاؤكم بما تستطيعون من أنواع الحيل والمكر فإن قدرتم علي «فَلا تُنْظِرُونِ ١٩٥» لحظة واحدة ولا تمهلوني لأستعين بأحد عليكم، وإذا تحققتم عدم نصرتها وعدم إجابتها دعاءكم وظهر لكم عجزها وعجزكم أيضا عن أن تمسوني بشيء لأن معبودي يملك النصر ويجيب الدعاء فلا يمكّنكم من إيصال كيدكم إلي، وذلك «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ» القوي العزيز القاهر لكل شيء الحافظ لمن يتولاه الخاذل من يتكل على غيره المذل من عاداه هو الإله «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» علي وشرفني بالنبوة «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ١٩٦» أمثالي لعمارة هذه الأرض ويطهرها من الشرك ويحفظني ومن اتبعني من كيد الكائدين وينصرنا على من يناوثنا «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أنتم وأمثالكم أوثانا «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ١٩٧» كررت هذه الآية بالمعنى بزيادة بعض الكلمات زيادة في التقريع والتوبيخ، وفيها بيان أن الفرق بين من من تجوز عبادته وهو الله، ومن لا تجوز وهي أوثانكم المشار إليها بقوله «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى» لما به نفعكم واجتناب ضركم في الدنيا والآخرة «لا يَسْمَعُوا» دعاءكم لأنها جماد أو حيوان «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ» أي يخيل إليك يا حبيبي أن الأصنام تبصر من ينظرها بعيونها المصنوعة من الجواهر المتلألئة «وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ١٩٨» لأن قوة النظر لا تكون بشيء مما يصوغونه من مكوناتنا، وإنما هي من قدرة الإله الخالق الذي أعجز جميع خلقه عن معرفة المادة الموجودة في الأعين ولا يزالون عاجزين إلى أن يشاء الله. هذا ما يقتضيه
473
سياق الآية بالنسبة لما قبلها، ونقل عن الحسن أن الخطاب في (وإن تدعوهم) إلى المؤمنين وضمير المفعول للمشركين، على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى (يَنْصُرُونَ) خاتمة الآية قبلها وعليه يكون المعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم. وعليه يحسن تفسير السماع بالقول، وجعل وتراهم خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد، ويكون في الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد، وهو وجيه أيضا.
مطلب: في مكارم الأخلاق التي يأمر بها الله رسوله:
قال تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» الميسور من أخلاق الناس مما يسهل عليهم ولا تستقص عليهم فينفروا منك، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، أي لا تكلفهم بما يشق عليهم واقبل منهم ما تيسر وعليه قوله:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب
يريد سكوتها عند ثورة غضبه، وفي رواية: في صورتي أي لا تقابليني بما أتكلم عليك.
ويجوز أن يكون المراد اعف عن المذنبين من أصحابك، وعاملهم بالعفو، وهو أولى لموافقة الظاهر وما يوافق الظاهر أظهر. روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، ومعنى العفو لغة الفاضل الزائد على قدر الحاجة من المال، ولذلك قال ابن عباس: معناها هنا خذ ما عفا من أموال الناس مما آتوك به لا تكلفهم غيره. وهذا قبل نزول آية الصدقات عدد ٢٦٦ من سورة البقرة في ج ٣، وأخرج أبو الشيخ عن الجوهري أنه قال: لما نزلت هذه الآية كان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفاضل، إلى أن نزلت آية الزكاة «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» المستحسن من الأفعال والأقوال فإنه أقرب إلى قول الناس، لأن الأمر بالجميل من الأقوال والأفعال وكل ما يرتضيه العقل والشرع من الخصال إذا كان بالمعروف يتلقى بالقبول، وجاء في باب التأويل: وأمر بكل ما يأمرك الله به وعرفته من الوحي وهو كما ترى «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ١٩٩»
474
بمقالك وكتابك وربك، ولا تكافئهم على سفههم ولا تمارهم على جدالهم، وعاملهم بالحكمة وأغض عما يسوءك منهم وعن مساوئهم، وقابلهم بأخلاقك لا بأخلاقهم، فإنه أجدر بمقامك وأوقع بمكانتك وأليق بمخاطبتك ودم على هذا حتى يأتي الوقت الذي ستؤمر فيه بقسرهم، وهذه الآية أجمع آية في القرآن العظيم لمكارم الأخلاق، ففي أخذه بالعفو صلة من قطيعة والصفح عن من ظلمه، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وغض البصر عن المحارم وصون اللسان عن الكذب، وفي الإعراض عن الجاهلين تنزيه النفس عن السفهاء ومنازعة اللجوجين، ولا شيء منها إلا وهو داخل في هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم، هذا وان ما قاله السدي بأن هذه الآية منسوخة بآية القتال لا وجه له، ولا توجد ضرورة داعية إلى دعوى النسخ لأنها عبارة عن تحري حسن المعاملة والمعاشرة مع الناس وتوخي تبدل الجهد وإفراغ الوسع في الإحسان إليهم والمداراة لهم فيما لا يضر بالدين ويجلب إلى المودة وتحسين العلائق معهم.
مطلب في النسخ والنزغ ومعناه.
وأساس هذا كله المحبة للحق، ومن دواعي المحبة وملاكها هذه المعاملة المبيّنة أعلاه والمعاشرة التي هي أساس كل خير وخلاصته، وإذا علم أن للقرآن العظيم مادة عامة ومادة خاصة وان استعمال كل في موقعه من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل حكيم محاكم لأمره ناظر عاقبته أيقن أن لا نسخ في هذه الآية وأشباهها مما أشرنا إليه قبلا سنشير به بعد، وقد علم كل أناس مشربهم ولكل وجهة، فالسعيد من لا يتعدى بوجهته ظاهر كلام الله ما وجد له محملّا خشية أن يقع بما لا يرضيه، وفقنا الله لرضاه. هذا. وما أحسن وقع هذه الآية الجليلة بعد تعداد أباطيل المشركين وقبائحهم بما لا يطاق حمله: قال ابن زيد لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم: كيف بالغضب يا رب؟ فأنزل الله جل انزاله «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» أي نخس بوسوسة يروم إبقاءها في قلبك الشريف على خلاف ما أمرت به في هذه الآية وما قبلها مما أنزل عليك من الوحي فلا تمل إليه ولا تركن لما ينخسك به ولا
475
تطعه بوساوسه في كل ما هو مخالف لشرعك وأخلاقك التي أمرت بها، وإذا ضاق صدرك مما ينزغه ولم تقدر على دفعه «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» بالالتجاء إليه «إِنَّهُ سَمِيعٌ» لإجابة استعاذاتك به سريع لقبولها بأن يعصمك من نزغه وينزعه من قلبك فلا يترك فيه شيئا منها لما فيه من الخطر على مقام النبوة الذي تكلف الله بعصمته فلا يثبت فيه شيء لا يرضاه لك، ومعنى النزغ لغة شك الجلد بالابرة أو بطرق العصاة وكذلك النخس والنسغ وقد يكون بمعنى الإفساد وهو بالنسبة لحضرة الرسول باعتباره المجازي عبارة عن اعتراء الغضب ليس إلا «عَلِيمٌ ٢٠٠» بك وبما ينالك من جميع خلقه ليسمع تضرعك إليه ويعلم ما تريده منه قبل استعاذتك به، روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال صلّى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا وإياك يا رسول الله، قال وإياي إلا ان الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير (قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم أي صار مؤمنا لا يأمر إلا بخير، وبفتحها أي أسلم من فتنته وشره، واختاره الخطابي، ورجح القاضي عياض الأول وقال: الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وهذا الحديث يشير إلى التحذير من فتنته ووسوسته واغوائه وهذا الخطاب قد يراد به غير الرسول لأنه صلّى الله عليه وسلم معصوم من النزغ وهو جار على حد قوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية ٦٥ من الزمر في ج ٢ لأنه معصوم من الشرك قطعا وعليه يكون المراد بالآية جنس الإنسان ومثله فيما نحن في تفسيرها أي مطلق إنسان ونظير هذه الآية ٣٦ من سورة فصلت في ج ٢ فإنهما مطلقتان بطلب الاستعاذة في جميع الأحوال أما آية النحل عدد ٩٩ في ج ٢ فهي خاصة بالقراءة والمراد فيها مطلق قارئ لا مطلق إنسان كما هنا، تدبر، إذ يخاطب صلّى الله عليه وسلم بشيء ويراد به غيره وهو جار بين العرب حتى ضرب به المثل وهو «إياك اعني واسمعي يا جارة»
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم ورسخت التقوى بقلوبهم واتصفوا بها «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ» لمّة ألمت به «مِنَ الشَّيْطانِ» لأن الطائف ما يطوف بالإنسان ويلم به وقرىء «طيف» وهو مثله بالمعنى ويفيد الوسوسة أو تسمى طيفا أو طائفا
476
إيذانا بأنها لا تؤثر بالأنبياء البتة، فكأنها تطوف حولهم فلا تمسهم ولا تؤثر فيهم بل لا تصل إليهم ولهذا عبر بالنزغ بحقهم لأنه أول الوسوسة، وبالمس بحق المتقين لأنه لا يكون إلا بعد التمكن من النزغ فيهم، فيعقبه المس، ولهذا جاءت هذه الآية تأكيدا وتقريرا لوجوب الاستعاذة المارة عند حدوث الوسوسة لئلا يتخطى الأمر إلى المس، وإنباء بأن عادة المتقين إذا اعتراهم المس وأحسوا به ركنوا إلى ذكر الله استنادا لقوله «تَذَكَّرُوا» أوامره ونواهيه فيما طرأ عليهم منه فيلجأون إلى الله من مكايد الشيطان ومكره «فَإِذا هُمْ» بسبب الذكرى التي أمروا بها عند وقوع غفلة أدت إلى الوسوسة أو اعراض سبب المس «مُبْصِرُونَ ٢٠١» مواقع خطاهم فيعدلون عنها إلى السداد ويدفعون خطراته بعد أن يزنوها بميزان الشرع ويعرضوها على أصوله وقواعده ويستغفروا ربهم منها إذا ظهر لهم مخالفتها فيغفرها لهم. وقد بينا الحكم الشرعي في الاستعاذة في المقدمة فراجعها تعلم سنيتها في سائر الأحوال. هذا، ولما ذكر الله تعالى حال الأنبياء والمتقين شرع في بيان حال من يقبل نزعات الشيطان ويؤثر فيهم مسه فقال عز قوله «وَإِخْوانُهُمْ» الجاهلين المبعدين من طرق التقوى وهم الشياطين قرناء الفسقة من البشر «يَمُدُّونَهُمْ» يكونون لهم مددا وعدونا «فِي الغَيِّ» وطرقه فيزيدونهم على غيهم غيا قصد ضلالهم وإضلالهم. وقرأ الجحدري يمادّونهم من باب المفاعلة، أي كأن الشيطان يعاضدهم بالإغراء وتهوين المعاصي بأعينهم على إغواء البشر أيضا فهم يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال «ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ٢٠٢» لا يمسكون عن إغوائهم ولا يكفون عن مسهم فيصروا على تلك الوساوس ولا يرجعوا عنها إن استطاعوا، حتى إذا تمكنوا منها عمدوا إلى المس فيتدرجوا فيه إلى أن يوقعوه في الغيّ والإغواء فيصير من صنفهم وقد علمت أن ضمير الجمع المضاف إليه أولا في إخوانهم والمفعول ثانيا في يمدونهم يعودان إلى الجاهلين، وضمير الفاعل في يقصرون يعود إلى الشياطين إخوان الجاهلين، فالخبر جاء على غير ما هو له على حد قوله: أقوم إذا الخيل جالوا في كويتها...
قال تعالى «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ» معجزة باهرة ظاهرة «قالُوا» لك المشركون
477
يا سيد الرسل «لَوْلا اجْتَبَيْتَها» اختلقتها وأنشأتها كما أتيت بغيرها استهزاء وسخرية بك «قُلْ» يا حبيبي أنا لا أفتري شيئا من عندي، ولا أقدر على إجابة طلبكم إظهار آية ما «إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ» وأتلقاه «مِنْ رَبِّي» دون اقتراح عليه بإنزال الآيات، إذ ليس لي ذلك أبدا، وإذا كنتم تفنعون بالآيات وتؤمنون بها فدونكم «هذا» القرآن الذي أنزله علي وبلغتكم إياه فهو أعظم آية وأكبر معجزة وهو «بَصائِرُ» دلائل وحجج وبراهين قاطعة «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصركم بصدقي وتنير لكم طرق الحق وتريكم الهدى والرشد لأنها نفسها «هُدىً» لمن أراد الاهتداء لسلوك العناية الإلهية «وَرَحْمَةٌ» من الرحيم ونعمة من المنعم لعباده ومنّة من المنّان «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٢٠٣» به ويتبعون رسله، أما الكافرون فهو لهم ضلال في الدنيا وعذاب في الآخرة لأن هذا القرآن نور لأناس ظلمة لآخرين بآن واحد، إذ يسمعه اثنان فيكون لأحدهما نور وللآخر همى كما سيأتي في تفسير الآية ٤٤ من فصلت في ج ٢ والآيه ١١ من الأحقاف أيضا فراجعهما.
مطلب الناس على ثلاث مراتب:
ومن هنا يعلم أن الناس على ثلاث مراتب: فالذين بلغوا غاية علم التوحيد حتى صار لهم كالمشاهدهم أصحاب عين اليقين فهم السابقون المقربون، فالقرآن في حق هؤلاء بصائر، والذين بلغوا درجة الاستدلال والنظر هم أصحاب علم اليقين فهم أصحاب اليمين، فالقرآن في حقهم هدّى، والذين ليسوا من الطريقين وهم عامة المسلمين فهم أصحاب اليقين وهم المقلدون لأهل العلم الماشون على طريقهم، فالقرآن في حقهم رحمة والذين دون هؤلاء إذا ماتوا على الإيمان فهم ناجون لأن من زحزح عن النار فقد فاز، وإلا فالعياذ بالله هم الخاسرون في الدنيا والآخرة مع إخوانهم الكافرين إخوان الشياطين.
وهكذا كما يتفاوت الناس في العلم والعمل والمكانة في الدنيا يتفاوتون في الآخرة بالمنازل والدرجات في الجنة، وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في سورة التكاثر المارة.
478
مطلب وجوب الاستماع والسكوت عند القراءة:
قال تعالى «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» أيها الناس بتفكر وتدبر وأصفوا له بكليتكم لتفهموا معانيه وتعوا مواعظه «وَأَنْصِتُوا» عند قراءته ليقر في قلوبكم وتلهموا مبانيه لأن الكلام عند سماعه لا يجوز إذ يضيع المغزى المراد منه لذلك أمركم ربكم بالسكوت، وهذان أمران ظاهرهما الوجوب، فيكون الاستماع والسكوت واجبين عليكم أيها المؤمنون عند قراءة القرآن بدليل هذه الآية، وكلمة أنصتوا لم تكرر إلا في الآية ٢٩ من سورة الأحقاف ج ٢، قال الحسن وأهل الظاهر (إذا قرىء القرآن في أي وقت وموضع يجب على كل واحد الاستماع والسكوت لعموم الأمر، ولذلك قال عروة ابن الزبير والقاسم بن محمد إن المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو رواية عن ابن عمرو، هذا بالنسبة للتفسير أحسن من رواية من رأى وجوبها في حالتي الإسرار والجهر إذ قال به الأوزاعي وذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وحجتهم أن الآية نزلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية، ويستدلون بالأخبار الواردة بقراءة الفاتحة، وأحسن من روايته من رأى عدم القراءة في الحالتين وهو مروي عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقال الحسن وأبو حنيفة رحمهما الله وحجتهم ظاهر هذه الآية لأنه لا يعدل عن الظاهر إلّا بمسوغ أقوى ولا يوجد، وإن القول الأول هو الحالة الوسطى وخير الأمور أوساطها، لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلّت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السرّ جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وإذا أنعم النظر وأمعن الفكر وجد هذا القول أحسن الأقوال، فاتبعوه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٢٠٤» باقتضاء ما أمرتم به وابتعاد ما نهيتم عنه، وإن وجوب الاستماع هو سبب نزول هذه الآية لمناسبة السباق وموافقة السياق، وقيل نزلت في تحريم الكلام في الصلاة إذ كانوا يتكلمون فيها فمنعوا، وقيل إنها نزلت في ترك الجهر خلف الإمام إذ كانوا
479
يجهرون خلفه: ، وهذه روايات وأقاويل بعيدة عن الثبوت ولا شيء يؤيدها، لأن الصلاة لم تفرض بعد على القول بأن الإسراء وقع في السنة العاشرة من البعثة عند نزول أول سورة الإسراء الآتيه وهو الصحيح، أما على القول بأن الإسراء كان في السنه الخامسة أو السادسة عند نزول سورة والنجم المارة المنوه بها في بحث الإسراء صراحة فسديد، ولكن يا للأسف لم نجد ما يؤيده حتى الآن، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا البحث آخر سورة والنجم فراجعه، واعلم أن الآية عامة مطلقة في القراءة دون الصلاة مما يطلب الاستماع إليها والإنصات لها، أما ما روي عن ابن مسعود أنه سمع أناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إلخ كما أمركم الله فهو لا يؤيد سبب النزول ولا دليل فيه عليه وإنما ينصرف على لزوم الإنصات عند قراءة الإمام وهو واجب بلا شك، وإذا كان الإنصات دون الصلاة واجب ففيها من باب أولى، وان ابن مسعود قال هذا القول في حادثة أناس يقرأون مع الإمام في المدينة لا في سبب النزول الكائن في مكة: لأنه لا يعرف تاريخ قوله هذا ليستدل به على النزول فإن في مكة فهو غير صحيح وإن في المدينة لا دليل له عليه، وأضعف من هذه الأقوال القول بأنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، لأن هذه الآية مكية قطعا وإنما وجبت الجمعة في المدينة، تأمل هذا واعرف مزية هذا التفسير الذي جاء على ترتيب نزول القرآن وعرفك المقدم والمؤخر، وإلا لغرقت في أقوال ينسيك آخرها أولها ولا رتبكت واحتججت بروايات تضارب إحداها الأخرى فتفحم من غير غلب وتحقر من غير ذنب فتسكت للواقع وأنت محق في المواقع، فاحمد الله.
مطلب في الذكر السري وحالة الخوف والرجاء:
«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» سرالا تسمع به غيرك، وهذا خطاب لخاصة الرسول وعامة المؤمنين، لأن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع على هذه الصفة لقربها من الإخلاص وبعدها من الرياء، لا سيما إذا كان الذاكر استحضر في قلبه عظمة المذكور لما فيه من الإشعار بقرب العبد من ربه عز وجل.
480
وفي هذه الآية إيذان بمقام الرجاء لأن لفظ الرب يشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام ربه عليه وإحسانه إليه يقوى مقام رجائه، وإذا كان الذكر باللسان فقط عاريا عن حضور القلب كان عديم الفائدة التي هي استشعار عظمة المذكور واستحضاره وتخيلك بين يديه وتصورك بلا كيف وجود عظيم الوجود أمامك وجلاله وكبريائه فوقك. وبعد أن بين الله تعالى مقام الرجاء في صدر هذه الآية أعقبه بالإشارة إلى مقام الخوف فقال وإذا ذكرت ربك فاذكره «تَضَرُّعاً» إليه بإظهار الذل والخضوع وإبداء الاستكانة إلى المذكور «وَخِيفَةً» من هيبته لأنك في حال مخاطبته في حضرته، ومن عرف عظم المقام وجب أن يكون في حالة خوف ورهبة وخشية لا محالة، وإذا حصل هذا في قلب الذاكر وكان بين الخوف والرجاء، قوي إيمانه وتنور قلبه وثبت جنانه فتفجرت منه الحكمة، فعلى العاقل أن لا يفارق حالة الخوف والرجاء في الشدة والرخاء وأن يصاحبهما في جميع حالاته لا في حالة الذكر فقط، إلا أنه يستحب له أن يغلب حالة الخوف على الرجاء في حالة الصحة والرفاء، وحالة الرجاء على الخوف في حالة المرض والاحتياج، لأن مقام الموت والحاجة مقام رجاء ومقام الصحة والرفاه مقام خوف فى الغالب لأنه لا يدري ما يحل به ويفجأ به. قال أنس رضي الله عنه: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا يجتمعان (الخوف والرجاء) في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف- أخرجه الترمذي-.
ومن هذه الآية الكريمة أخذ السادة الصوفية بارك الله فيهم الذكر السري وجعلوه من أورادهم وهو دليل واضح لهم لا يحتاج إلى تعليل مؤيد لقوله صلّى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي وخير المال ما يكفي- أخرجه أحمد- فمن تقول بعد هذا النص القاطع بأن الذكر الخفي لا أجر فيه لذاكره فقد أخطأ وهو لا أجر له على اجتهاده هذا بل يأثم، والله أعلم إذ لا اجتهاد في مورد النص وإنما يجتهد في المشكلات والمتشابهات مما لا نص قطعي فيها ففي مثلها إذا أخطأ يكون له أجر وإذا أصاب أجران ت (٣١)
481
لأن اجتهاده فيما لا نص فيه غاية وسعه ونهاية جهده في بذل فكرته وقدح فطنته أما الأمور الظاهرة كهذه فلا محل للاجتهاد فيها. هذا، وقد جاء النص هنا بلفظ الأمر الدال على الوجوب ولا صارف له عن حقيقته فالمعترض عليه غير مصيب، تنبه، ثم بين جل شأنه حالة ثانية لذكره جل ذكره فقال «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» أي مقتصدا، أرفع من الذكر الخفي وأدنى من الجهري لما فيه من رعاية الأدب مع المذكور، لان ارتفاع الصوت بحضرته غير جائز لما فيه من سوء الأدب، وهذه الحالة مطلوبة في الصلاة أيضا، قال تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) الآية ١١٠ من سورة الإسراء الآتية ومطلوبة في الدعاء أيضا قال صلّى الله عليه وسلم لأناس يرفعون أصواتهم بالدعاء (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) ومرغوبة في كل حال قال تعالى (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الآية الثانية هن سورة الحجرات في ج ٣، هذا ومن كمال فقه الرجل لزومه هذه الحالة في هذه الأحوال وغيرها، ومن تأدبه مراعاتها في مخاطبة الناس ولا سيما للعلماء العاملين لأنهم ورثة الأنبياء والمشايخ الكاملين لاقتقائهم آثارهم. ثم بين جل شأنه أحسن الأوقات لذكره بقوله «بِالْغُدُوِّ» أول النهار بكرة «وَالْآصالِ» آخره عشيا والغدوة من طلوع الفجر أو طلوع الشمس وتمامها من طلوع الشمس إلى الضحوة والآصال جمع أصيل ما بين العصر والمغرب، فإذا قام الإنسان بذكر ربه في هذين الوقتين ختم نهاره بخير كما بدأه بخير وإذا سلمت الغاية والمغيا فالله أكرم بالعفو عما يقع بينهما، وإنما خص هذين الوقتين لأن الإنسان يقوم صباحا من نومه الذي هو أخو الموت ليتداول عمله نهارا فينبغي له أن يذكر الله فيه شكرا على نعمة نومه وافاقته وأنه لم يتوفاه فيه قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية ٤٢ من سورة الزمر في ج ٢، وكذلك ينبغي له أن نذكره بعد المساء بعد فراغ أشغاله وخاصة عند النوم ليختم يومه بخير شكرا على نعمة إبقائه وراحته من أعماله، لأنه قد لا يقوم من نومه فيموت على ذكر الله، قال صلّى الله عليه وسلم: من كان آخر كلامه
482
لا إله إلا الله دخل الجنة، ففيه بشارة عظيمة للذاكر فإذا فعل هذا بات مطمئنا قرير العين فمن تلبس بهاتين الحالتين وداوم عليهما كان ناجيا ومن تركهما يخشى عليه الهلاك لذلك ختم الله تعالى هذه الآية المشتملة عليهما بقوله عظم قوله «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ٢٠٥» عن الذكر في هذين الوقتين المقربين إلى الله فتعتريك الغفلة عن ذكره فتكون بعيدا عنه، والبعد عنه والعياذ بالله هلاك ما بعده هلاك لأن مقام الغفلة خطر عظيم، إذ ربما أن كان الأجل الذي أخبرنا الله بإتيانه على بغته، فإياك أيها العبد أن تغفل عن ذكر ربك الذي سواك فعدلك ولم يجعلك كالبهائم الغافلة عما يراد بها، ودوام على ذكره في كل الأوقات والأحوال وان فاتك الذكر لأمر ما في هذين الوقتين فاقضه في غيرهما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية ٦٢ من سورة الفرقان الآتية. ترشد هذه الآية إلى أن من فاته الذكر النهار قضاه ليلا ومن قامه ليلا قضاه نهارا لأن الليل يخلف النهار وبالعكس، وانظر إلى مدح الله عباده الذاكرين في قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية ١٩١ من آل عمران في ج ٣ وفي قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) الآية ١٦ من سورة السجدة في ج ٢، فمن فعل هذا كان قريبا من الله وحصل على ملاك الخير في
الدنيا والآخرة ودخل في جملة من مدحهم الله وهنيئا لمن كان في عدادهم ثم أخبر الله عباده أهل السماء ليقتدوا بهم فقال «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة المقربين مكانة ومنزلة لأقرب مكان ومنزل، فهم مع علو مراتبهم ورفعة شأنهم وقربهم من ربهم بالزلفى والرقى «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» ولا يلتفتون لغيره بل يتذللون لعظمته ويخضعون لهيبته، فيؤدون العبادة له حسبما أمروا بها أمام كبريائه لأنهم عبيد طائعون منقادون لسلطانه وقد قال في وصفهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (الآية ٧ من سورة التحريم ج ٣) طوعا واختيارا وحبا بقربهم منه طلبا لمرضاته وليتصف عباده أهل الأرض بصفة عباده أهل السماء «وَيُسَبِّحُونَهُ»
483
ينزهونه عما لا يليق بجنابه ويقدسونه ويمجدونه بما هو أهله «وَلَهُ يَسْجُدُونَ ٢٠٦» خضوعا وخشوعا لجلاله ويفوزون بهذه الصفات المحمودة المرضية.
مطلب ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية:
قال بعض الأكابر إن قوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية إشارة إلى أعلى المراتب وهي صفة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه (ودون الجهر) رمز إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل قوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ايماء الى مرتبة النازلين من السالكين وقال مشيرا إلى كلمة (خيفة) :
أشتاقه فإذا بدا... اطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة... وصيانة لجماله
وقوله عز قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم المقربون من الملائكة والمفنون أنفسهم به من البشر الباقون به سبحانه وهم أرباب الاستقامة أهل المقام العظيم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية وانمحاقهم بالكيفية والكمية (ويسبحونه) بنفيها (وله يسجدون) بالفناء التام وطمس البقية الباقية من مهجهم، وهذه السجدة من عزائم السجود واجبة على القارئ والمستمع كما نوهنا به آخر سورة والنجم المارة وقد بينا فيها وفي سورة العلق كيفية السجود وما يقرأ فيه بصورة مفصلة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فقرأ سورة فيها سجدة فسجد وسجدنا معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم في السجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأببت فلي النار. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة، هذا، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
484
Icon