تفسير سورة النّور

بيان المعاني
تفسير سورة سورة النور من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

هذه السّورة بالمعنى الذي بدئت به وهو من بديع النّظم ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به فقط والله أعلم. وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم.
تفسير سورة النّور عدد ١٦ و ١٠٢ و ٢٤
نزلت بالمدينة بعد سورة الحشر عدا الآية ٥٥ على القول بأنها مكية. وهي أربع وستون آية والف وثلاثمائة وستّ عشرة كلمة وخمسة آلاف وتسعمئة وثمانون حرفا.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدأت به، وقد ختمت سورة النّساء والأنفال بما ختمت به، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «سُورَةٌ» عظيمة جليلة مشتملة على قصص وأحكام وعبر ومواعظ وحدود وأمثال قد «أَنْزَلْناها» على رسولنا محمد ليتلوها على قومه وجميع خلقنا «وَفَرَضْناها» أوجبناها وكلفناه وأمته بما فيها من الأحكام «وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ» أيها النّاس «تَذَكَّرُونَ ١» بما فيها فتتعظون وتعتبرون بها فهي ظاهرة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير. ثم بين أول أحكامها فقال عز قوله «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» من أي ملة كانا وقد رفع أمرهما إليكم أيها الحكام «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما» إذا لم يكونا محصنين «مِائَةَ جَلْدَةٍ» ضربة على جلده مباشرة دون حائل ما، وبهذا القيد يمتاز عن الضّرب لأنه يكون مع الحائل وغيره، وما يستر العورة من البزّ الرّقيق لا يعد حائلا لأنه لا يقي ألم الضّرب «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ» عليهما فتتأثروا أو تجرءوا على الشّفاعة بهما، لأنها لا تجوز بوجه من الوجوه في حد من حدود الله تعالى، لأنها تقتضي إلى تعطيل الأحكام فيفشو الفساد في الأرض وتكثر الجرأة على محارم الله إذا تهاون النّاس بها ولم ينفذوها، وهذا لا يجوز «فِي دِينِ اللَّهِ» الذي يجب التصلب فيه والقيام بشعائره والمحافظة عليه «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا تتقاعوا عن تنفيذ أوامره وتهملوا حدوده «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (٢) لا يقلون عن أربعة وذلك نصاب شهادة
105
الزنى، وإنما أمر بالإشهاد زيادة في الرّوع والزجر وتشهيرا لحال الزناة وتحذيرا من الإقدام عليه وتنفيرا من قربانه. ويشترط لإقامة هذا الحكم الشّرعي على الزاني أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما غير محصن، ثابت عليه بأربعة شهود عيان، وكذلك المرأة، وسيأتي أن الإسلام ليس بشرط لإقامة هذا الحد. وعلى العبد والأمة غير المحصنين نصف ذلك، أما المحصنان من الأحرار فيرجمان بالأحجار والعظام وشبهها حتى بموتا، أما العبد والأمة فلا يرجمان لأن الموت لا ينصف إذ يشترط للرجم الحربة والإسلام والإحصان والعقل والبلوغ والنّكاح الصّحيح والدّخول، فإن فقدوا واحدا منها فلا رجم، بل يصار إلى الحد أي الضّرب للحر أو الحرة مئة وللعبد والأمة خمسون.
مطلب كيفية الجلد وشروطه وتحوله لأهل الكتاب وغيرهم وما قيل فيه والاختلاف الواقع بين الخراج وما نسب إلى عمر رضي الله عنه في الرّجم وغيره:
وكيفية الجلد أن بجرد الرّجل ويضرب قائما، ويرمى عن المرأة الفرو والحشو وما شاكلهما فقط، وتضرب قاعدة ويجتنب الضّارب الرّأس والوجه والمذاكير والبطن والظّهر، ولا يضرب ضربا مبرّحا يتعدّى إلى اللّحم بأن يفطر الجلد بل يقتصر على ما يؤثر في الجلد. وهذه الآية مقيدة لآية الحبس المار ذكرها في الآية ١٤ من سورة النّساء، وهذا هو السّبيل الذي وعد الله به هناك وشرعه في الزانية والزاني الذي أوجب عليهما الأذى أولا في الآية ١٥ منها أيضا لأنها مخصصة لها أيضا وللتعذيب الوارد في السّنة، ولا يجري حد الرّجم والجلد على أهل الكتاب وغيرهم إلا إذا تحاكموا عندنا لنبوته في التوراة التي هي مرجع عام لمن كان قبل نزول القرآن، أما الإنجيل فلا أحكام فيه كافية لما يتعلق بأمور العباد جميعها، ولذلك يرجع للتوراة فيما لم ينص عليه الإنجيل المعدل لبعض أحكامها، وقد جاء في الصّحيحين في حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا، فقال صلّى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرّجم؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام كذبتم فيما زعمتم إن فيها الرّجم، فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع عبد الله بن صوريا يده على آية الرّجم وقرأ ما قبلها وما
106
بعدها، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرّجم فقالوا صدق يا محمد، فأمر بهما النّبي صلّى الله عليه وسلم فرجما، ومن هنا لم يشترط الإسلام، وما جاء في بعض الأحاديث من اشتراط الإسلام لم نثبت صحتها، والمختار في علم الحديث أنه إذا تعارض الرّفع والوقف حكم بالرفع عند صحة الطّريق إليه، وما ورد في هذا الشّأن لم يصح طريقه صحة معتبرة. هذا وإن سؤال حضرة الرّسول اليهود لا ليعلم حكم الرّجم لأنه معلوم عنده، بل لتبكيتهم وإظهار كذبهم على ملأ النّاس وعامتهم. ومن قال إن الرّسول حينما جاء إلى المدينة أمر بالحكم بالتوراة قول لا صحة له باطل لا يوجد ما يؤيده، وإنما كان يعمل بشرعه الذي أنزل إليه، والشّرائع الإلهية متشابهة، ولأن شريعته صلّى الله عليه وسلم لم تنسخ التوراة كافة بل ما هو مخالف لما في القرآن فقط، وأن كثيرا من أحكامها موافق للقرآن، وان شرع من قبلنا إذا وافق شرعنا فهو شرع لنا أيضا، والعمل فيه لا يعني أنه عمل بالتوراة بل بالقرآن هذا وإن ما رواه اسحق بن راهويه في سنده قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبد الله عن نافع عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال من أشرك بالله فليس بمحصن، وإذا كان ليس بمحصن فلا رجم عليه، ولذلك استدل به على شرطية الإسلام بالرجم إلا ان هذا الحديث فضلا عن الاختلاف الوارد في رفعه ووقفه ورجوع راهويه نفسه عن رفعه، فلم يعرفه هل هو مقدم على حديث ابن عمر المار ذكره الذي لا مرية فيه، أم مؤخر عنه؟ وقال أئمة الحديث إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر فيقدم القول لأن الدّلالة القولية غنية عن الدّلالة الفعلية لا العكس، إذ لا يخفى ان دلالة القرآن العظيم لفظية. هذا وإن تقديم القول موجب لدي الحد، وتقديم الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحدود، والأولى في الحدود ترجيح الرّافع عند التعارض، ولا يخفى ان كلّ مترجح محكوم بتأخيره اجتهادا، وعلى هذا يكون المعول عليه في هذا الباب حديث ابن عمر الوارد في الصحيحين إذ لو كان الإسلام شرطا لما رجم حضرة الرّسول اليهودي واليهودية وعلى القول أن فعله ذلك على شريعتهم فيكون شرعا له، ولأنه لا فرق بين زنى المسلم والكتابي والكافر من حيث هو زنى، وإن قول الرّسول ان لهم ما للمسلمين وعليهم
107
ما عليهم يؤيد هذا. وقد خالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الشّافعي واشترط الإسلام، وإن صاحبه أبا يوسف وافق للشافعي بعدم الاشتراط، والأحسن أن يقال إن الشافعي وافق أبا يوسف لأنه متقدم عليه، وخالف أبا حنيفة لهذه العلة أيضا.
ولما عاب الخوارج على عمر بن عبد العزيز قوله بالرجم لأنه ليس في كتاب الله ألزمهم بأن أعداد ركعات الصّلاة ومقادير الزكوات ليسا في كتاب الله، فقالوا له ثبت أعدادهما ومقاديرهما بفعله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بعده، فقال لهم والرّجم أيضا ثبت بفعله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين بعده، فألقمهم الحجر وأخرس ألسنتهم، لأن فعل الرّسول وكلامه مفسر للقرآن وواجب العمل بهما. وما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حسبما رواه البخاري خشيت أن يطول زمان حتى يقول قائل لا نجد الرّجم في كتاب الله عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرّجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، فمن باب الكشف لمعارضة الخوارج وغيرهم فيه، وهذا غير كثير على الفاروق الذي طفحت الكتب بفضائله، وقد ألمعنا إلى بعضها في الآية ٤٤ من سورة الاسراء في ج ١ فظهر من هذا أن الرّجم ثبت بالسنة الصّحيحة واجماع الصّحابة والأمة الاسلامية من بعدهم لا بالقرآن، وليس هذا من باب النّسخ، لأن الآية لها محمل على غير المحصنين، ومن قال أن الرّجم ثبت بالآية المنسوخ تلاوتها وهي (الشيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما) لا يصح لعدم القطع بقرآنيتها وتلاوتها، فضلا عن أنها على غير نمق كلام الله الذي لا يشبهه كلام خلقه من كلّ وجه. وإن ما جاء في الحديث الذي رواه أبو ذر من أن سيدنا عمر تلا هذه الآية على المنبر وقال لولا أن يقال إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف، وأن أحدا لم يرد عليه فطريقة ظنية لا يعتمد عليها، لأن عمر لا يخشى مقالة أحد في الحق في زمن حضرة الرّسول وزمن صاحبه أبي بكر، فكيف يخشى وهو أمير المؤمنين الذي لا يرد له أمر، فلو ثبتت قرآنيتها عنده لكتبها لا سيما وهو في زمن لم يجمع فيه القرآن أو لم يدون في المصاحف ولقال في المصحف نفسه، لأنه إذ ذاك وهو صاحب الأمر والنّهي ومعدن العلم بعد صاحبيه، الذي قال فيه ابن مسعود وهو أمين الأمة عند موته
108
لقد مات تسعة أعشار العلم. ومما يدل على عدم صحة هذا أن ليس هناك مصحف ليكتبها على هامشه، لأن المصاحف دونت زمن عثمان رضي الله عنه، أما سكوت من سمع خطبته المزعومة من الأصحاب على فرض وقوعها لا يعد حجة لأن الإجماع السكوتي مختلف في حجيّته، بل الأرجح عدم حجيّته، ومن هذا القبيل الطّلاق الثلاث بلفظ واحد، إذ نسب إلى سيدنا عمر إيقاعه بتّا، وإنه أمر بذلك لكف تهاون النّاس بالطلاق، وإن الأصحاب لم يردّوا عليه فلم يعتد بسكوتهم لما ذكرنا، ولهذا اختلفت آراء المحدثين في ذلك، فمنهم من أبرم إيقاعه ثلاثا، ومنهم من عده واحدا، وعلى التسليم جدلا بحجية الإجماع السّكوتي لا يقطع بأن المجتهدين من الأصحاب كانوا حضورا لأن حضور عوامهم لا يكفي، ولهذا قال علي كرم الله وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ تلاوته، وهو أعلم من غيره بكتاب الله وسنة رسوله، ولا يقال جمع بين الجلد والرّجم لأنه جلدها بصفتها غير محصنة، فلما تبين له إحصانها رجمها، وإن رأيه الصّائب عليه السّلام أن جلد غير المحصن حكم زائد ثبت بالسنة هو الرّأي المعمول به الموافق لكتاب الله وسنة رسوله، وبذلك قال أهل الظّاهر وهو رواية عن احمد واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلم الثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة، وفي رواية غيره ويرجم بالحجارة. ومن هذا الذي يقدم على معارضة أولى النّاس بحدود الله بعد رسوله؟ هذا وإن أوهى الأقوال قول من قال إن الآية المنسوخة نسخت هذه القاضية بالجلد وهي غير موجودة ومطعون في وجودها أي نزولها، فالعجب كلّ العجب من جرأة البعض على كلام الله تعالى ورغبتهم بالنسخ حتى توصلوا إلى هذا الحد الذي لا يقوله من عنده لمعة من ورع أو ذرة من تقوى أو لمحة من إيمان، وقد أشرنا غير مرة إلى أن لا قرآن إلا ما هو بين الدّفتين لم يسقط منه حرف واحد أبدا، فهذا الحكم الأوّل من الآيات البينات، والحكم الثاني بينه
بقوله «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» لأنها دونه وشر منه «وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ» لأنه دونها وشر منها أيضا، ولهذا قال تعالى «وَحُرِّمَ ذلِكَ» أي نكاح الزانية
109
التي لم تتب والمشرك الباقي على شركه «عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (٣) التدنيس بمثلهن لأن طهارتهم ومروءتهم تأبى ذلك، ولما أراد بعض فقراء المهاجرين ومن لا مال له ولا عشيرة أن يتزوج ببغايا المدينة لينفقن عليهم من مالهن استأذنوا رسول الله فنزلت هذه بالمنع، لأن الزانيات رجس ونجس، والمؤمن طاهر نظيف، فلا يليق بكرامته أن يلوثها بالعاهرات ويدنس مروءته بهن، أما باب الجواز فيكون فيما فيه بأس وما لا بأس فيه، وعليه فإن العاهرة إذا تابت جاز نكاحها كما لو أسلمت المشركة، والزاني والمشرك كذلك، لعموم قوله تعالى في الآية الآتية وهي (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) إلخ وقدمت الزانية على الزاني في الآية الأولى لأنها لو لم تطمع الرجل نظرا أو كلاما أو ملامسة أو غمزا أو إشارة أو تبسما أو غيره ولم ترخص له وتمكنه من نفسها لم تقع الجريمة من الرّجل، وأخرت في الثانية لأنها مسوقة لذكر النّكاح، والرّجل أصل فيه لأنه الخاطب، ومنه يبدأ الطّلب، ومن قال أن المراد بالنكاح هنا الوطء لأن غير الزاني يتقذر الزانية ولا يشتهيها، وهو صحيح إلا أن المعنى يكون حينئذ الزاني لا يزني إلّا بزانية، والزانية لا تزني إلّا بزان وهو خلاف المراد لأن هذه الآية على حد قوله تعالى (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) الآية الآتية عدد ٢٦، والمراد بها هنا تزهيد النّاس في نكاح البغايا لأن الزنى عديل الشّرك في القبح، والإيمان قرين العفاف في الحسن، وقد سئل صلّى الله عليه وسلم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها، فقال أوله سفاح وآخره نكاح، فالعفيف يتباعد عن دنسهنّ، والشّريف يتنزه عن حقيرهن قال:
إذا وقع الذباب على طعام كففت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية، ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان فلأن يتزوجها غير زان فمن باب أولى قال تعالى «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ» بالزنى «ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» على فعل الزنى بهن عيانا «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» كما تقدم في حد الزنى في الآية الثانية المارة. هذا إذا كان الرامي حرا، أما إذا كان عبدا فأربعون جلدة، وإن كان المرمي غير محصن فعلى
110
الرامي أي القاذف التعذير فقط، وهو يختلف باختلاف الأشخاص، وإن قذفها بغير الزنى كقوله يا فاسقة يا سارقة يا خبيثة فيكفي فيه شاهدان، وفيه التعذير أيضا، والتعذير إذا كان بالجلد فلا يبلغ أقل الحد أي الأربعين بل دونها ولو بضربة واحدة.
وشروط إحصان القذف الحربة والإسلام والعقل والبلوغ والعفة عن الزنى. والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ» أي القاذفين بعد إقدامهم على القذف «شَهادَةً أَبَداً» مدة حياتهم لورودها على التأييد لثبوت فسقهم بقوله تعالى «وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (٤) الخارجون عن طاعة الله تعالى.
تدل هذه الآية على أن القذف من الكبائر، وقد عده صلّى الله عليه وسلم من الموبقات السّبع في الحديث الذي رواه الشّيخان وأبو داود والنّسائي بلفظ: اجتنبوا السّبع الموبقات الشرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرم الله إلّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.
قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أنفسهم وثبت لديكم صلاحهم «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٥) بعباده الرّاجعين إليه بغفران ذنوبهم السّابقة وإزالة اسم الفسق عنهم وقبول شهادتهم. ويفهم من هذه الآية أن التوبة وحدها لا تكفي من القاذف حتى يقرنها بعمل صالح، وهو كذلك. وقيل لا تقبل شهادتهم ولو تابوا، وإن الاستثناء يرجع إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) والأول أولى، لأن الاستثناء راجع إلى رد الشّهادة كما قاله عمر وابن عباس وغيرهم من كبار الصحابة، ومن هنا أخذت قاعدة الاسقاط من الحقوق المدنية على مرتكبي الجنايات، وقاعدة رجوع هذه الحقوق إليهم باستحصالهم على قرار من الحكومة، وهذا الحكم الثالث من الآيات البينات، والحكم الرّابع بينه بقوله «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ» على صحة قولهم «إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ» على رميهم «أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» (٦) في رميه زوجته «وَالْخامِسَةُ» يزيد فيها جملة «أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» (٧) فيما رماها به، وبهذا ينجو من إيقاع حد القذف عليه، والحكم الخامس هو «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ» الحد الذي ترتب عليها بشهادات زوجها المخمسة المقرونة
111
باللعن «أَنْ تَشْهَدَ» هي أيضا على نفسها «أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» (٨) فيما رماها به «وَالْخامِسَةَ» تزيد فيها ما أشار الله إليه بقوله «أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ» زوجها «مِنَ الصَّادِقِينَ» (٩) فيما رماها به من الزنى لا في شهاداته المخمسة، وهو كذلك يقرن اللعن في الشّهادة الخامسة فقط، وجعل الغضب في جانبها بمقابل اللّعن الذي بجانبه لأنهن يستعملنه كثيرا، فربما جر أن عليه لكثرة جريه على لسانهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن ليكون رادعا لهن.
أخرج في الصّحيحين عن سهل بن سعد السّاعدي أن عويمر العجلاني جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال له أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقنلونه أم كيف يفعل؟
فقال صلّى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها، قال سهيل فتلاعنا وأنا مع النّاس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله أن مسكنها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره، فكانت تلك أي قضية الطلاق بعد التلاعن سنة للمتلاعنين. وفي رواية: ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم انظروا ان جاءت به اسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج السّاقين، ولا أحسب عويمرا إلا صدق عليها، وان جاءت به اسحم أحيمر كأنه دحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النّعت الذي نعت صلّى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، وكان بعد بنسب إلى أمه. هذا مختصر من حديث طويل، وروى البخاري عن ابن عباس أن هلال ابن أمية قذف امرأته خولة عند النّبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سمعاء، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النّبي صلّى الله عليه وسلم يقول البينة أو حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه هذه الآية، فأرسل إليهما فجاءا فقام هلال بن أمية فشهد والنّبي صلّى الله عليه وسلم يقول يعلم الله أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت الخامسة وقفها وقال إنها موجبة أي ان هذه الشهادة الخامسة المقرونة باللعن والغضب توجب وقوعه عليها إن كذبت، وإن غضب الله عظيم أجارنا الله منه، وذلك ليحملها على الصّدق قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت لا أفضح قومي
112
سائر اليوم فمضت، فقال صلّى الله عليه وسلم أنظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدليج السّاقين فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. وفي رواية غير البخاري أطول من هذا الحكم الشّرعي قذف الزوج زوجته كقذف الأجنبية بالشروط المارة الذكر، والحد أو الرّجم كذلك، إلا أن المخرج مختلف، ففي الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء يحدّ إذا لم يقرّ المقذوف، وفي الزوجة يسقط عنه بأحد الأمرين الشّهادة أو الاعتراف أو بالملاعنة، وصفتها أن يلقنه الإمام أو نائبه بان يقول أشهد بالله إني لمن الصّادقين فيما رميت به زوجتي هذه فلانة من الزنى بفلان، إذا كان يعرفه وإلّا لا حاجة لا سمه. وإذا أراد نفي الحمل أو الولد يقول زيادة على ذلك وان الحمل أو الولد ليس منى إنما من الزنى، وفي الخامسة يقول بعد لفظ الشّهادة عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين فيما رماها به، فإذا فرغ وقعت الفرقة بينهما وحرمت عليه على التأييد وسقط عنه الحدّ وانقضى عنه نسب الحمل أو الولد ووجب على المرأة حد الزنى، فإذا أرادت إسقاطه عن نفسها فتلقن أيضا بأن تقول أشهد بالله أنه من الكاذبين فيما رماني به من الزنى بفلان أو بمطلق رجل، وإن الحمل أو الولد من زوجي لا من غيره. وتزيد في الشّهادة الخامسة فتقول عليها غضب الله إن كان زوجها من الصّادقين فيما رماها به من الزنى، وكلّ من صح يمينه صح لعانه حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا، فإذا أكذب نفسه لزمه الحد ولحقه الولد، ويجوز له نكاحها هذا هو المختار الذي عليه الاعتماد وما جاء على خلاف هذا فهو مخالف لظاهر القرآن. قال تعالى «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» لفضحكم أيها النّاس حالا ولكنه ستّار يحب ستر عباده، ولهذا اشترط أربع عدول سدا للباب لئلا يقدم كلّ أحد على ذلك فتظهر مفاسد لا تحمد عقباها «وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من يتوب من عصيانه «حَكِيمٌ» (١٠) فيما فرضه من الحدود والأحكام على عباده، وهذا الحكم السّادس من الآيات البينات.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ» أي هذا البهت المختلق «شَرًّا لَكُمْ» عند الله يا آل محمد «بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»
113
عنده لا نزال سبع عشرة آية في البراءة منه وهذا الخطاب لحضرة الرّسول وزوجته عائشة وأبيها أبي بكر وصفوان المتهم بها ويدخل في هذه الآية كلّ من استاء من المؤمنين لأجله «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» من العصبة الّذين صبروا على هذه القرية «بقدر مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» عقابا «وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ» وهو رأس المنافقين بن سلول «لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» (١١) لأنه هو الذي أشاعه وخاض فيه ولم يتب حتى مات على نفاقه والعصبة والعصابة ما بين العشرة إلى الأربعين. قال تعالى «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ» الإفك المذكور والقول الزور «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» عفافا وإخلاصا لا أن يسارعوا إلى الشّر إذ كان عليهم أن يكتموه أو يكذبوه ويحسنوا الظّن بحسب الظّاهر على الأقل في تلك الطّاهرة الزكية ربة العفاف والصون النّقية، وكذلك فيمن عرفوا عفته وطهارته من أصحاب رسول الله المبرئين ولا يبادروا إلى التهمة بل يجب عليهم أن ينكروه ويجحدوه ويقولوا ما أشار الله إليه بقوله عز قوله «وَقالُوا» متبرئين منه ومتنزهين عنه «سبحانك هذا» الإفك المختلق في حق تلك الطّاهرة هو «إِفْكٌ مُبِينٌ» (١٢) ظاهر لا خفاء فيه ولولا هنا بمعنى هلا، وكذلك هي كلما وليت الفعل لا إذا وليت الاسم كقوله تعالى لولا أنتم فتكون على معناها الأصلي أي حرف امتناع لوجود. وقيل إن هذه الآية نزلت في خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، إذا قال لزوجته ماترين فيما يقال فقالت لو كنت بدل صفوان، كنت تظن ذلك؟ قال لا، قالت عائشة ولو كنت بدل عائشة ماخنت رسول الله لأنها خير مني، وصفوان خير منك، ولما استفاض هذا الخبر بكثرة ترداده من الأفاكين الآتي ذكرهم وتكريرهم إياه في كل مجلس دون جدوى بقصد انتشاره. استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك فقال عمر رضي الله عنه انا قاطع بكذب المنافقين، لأن الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك، لأنه يقع على النّجاسات وتتلطخ بها، فلما عصمك عن ذلك القذر من التعذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون ملطخة بمثل هذه الفاحشة؟
وقال عثمان رضي الله عنه إن الله ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يقع إنسان قدمه
114
على ذلك الظّل، فلما لم يكن أحدا من وضع القدم على ظلك، فكيف يمكن أحدا من تلويث عرض زوجتك؟ وقال علي كرم الله وجهه إن جبريل أخبرك ان على نعلك قذرا وأمرك بإخراج النّعل عن رجلك بسبب مالنصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراج زوجتك بتقدير أن تكون متلطخه بشيء من الفواحش؟
فاطمأن لقولهم وهو مطمئن من قبل، ولكن ليختبر ما عندهم. قال تعالى مكذبا لأهل الافك «لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ» أي بهتهم ذلك «بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ» ليعلم صدقهم الظّاهري «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» (١٣) تشير هذه الآية إلى توبيخ كلّ من سمع بالإفك ولم يجدّ في دفعه وفيها احتجاج على المفترين بما هو ظاهرا الشّرع من وجوب تكذيب القاذف بلا بينة، وترمي إلى التنكيل به إذا قذف مطلق امرأة، فكيف بالصدّيقة حرم رسول الله وخيرته من خلقه وأم المؤمنين «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها النّاس بامهالكم للتوبه وعدم تعجيل العقوبة بالدنيا «وَالْآخِرَةِ» بالمغفرة والعفو بحلمه وكرمه «لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ» من الإفك رجما بالغيب من غير علم ولا وثوق «عَذابٌ عَظِيمٌ» (١٤) لعظم ما خضتم فيه. واعلم أن لولا الأولى بمعنى هلا للتحضيض وهذه لا متناع الشّيء لوجود غيره والآتية كالأولى للتحضيض أيضا والرّابعة كهذه لا متناع الشّيء لوجود غيره، والخامسة أيضا مثلها واذكروا أيها الأفاكون «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» من بعضكم ليس إلا «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» إنه حق أو صدق إذ لم يرسخ في قلوبكم صحته، لأن الشّيء يقع أولا علمه بالقلب، ثم يترجم عنه اللّسان، وهذا الإفك ليس إلّا قولا يدور على الألسنة، كذلك فيده الله بأفواههم وعظم وقوعه وهدد وأوعد عليه بقوله «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً» أيها المختلقون فتذيعونه في نواديكم وتشيعونه بالطرقات وتتفوهون به في سموكم في بيوتكم وغيرها بقصد إفاضته لدى العامة كأنه ليس بشيء «وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» (١٥) وزره كبير حوبه خطير عذابه، لأنه طعن في حب حبيبه التي يعلم طهارتها من كذبكم «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ» على طريق التعجب والاستفهام «ما يَكُونُ لَنا أَنْ
115
نَتَكَلَّمَ بِهذا»
بمجرد السّماع من قوم أفاكين قد تفوهوا به فيما بينهم وأشاعوه تقصدا بل كان عليكم أن تقولوا بلسان واحد «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (١٦) وإنما أمروا أن يقولوا هذا بهتان مبين بالآية الأولى، وفي هذه هذا بهتان عظيم مبالغة في التبرّي مما خاضوا فيه، ثم نبههم الله أيضا إيقاظا لما يقع من نوعه في المستقبل بقوله «يَعِظُكُمُ اللَّهُ» وهذا أبلغ من قوله ينهاكم «أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً» لا قولا ولا إشارة ولا رمزا ولا تخطرا ولا استماعا مقصودا «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (١٧) بعفة الله تعالى، واعلموا أن الله لا يعفكم فيحذركم ويمنعكم معاتبا من الخوض بكل ما يؤثمكم ويؤدي إلى هلاكم «وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» لتهذيب أخلاقكم وتحسين آدابكم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بكذبكم وافترائكم وبراءة السّيدة عائشة التي اتهمتموها، ونزاهة صفوان الذي ألصقتم به هذه الفرية الكاذبة المختلقة، ولذلك أظهر براءتهما بوحيه كما هو مدون في كتابه الأزلي لعلمه أزلا في هذه الحادثة المزعومة كبقية الحوادث المتقدمات والحقيقة الراهنة «حَكِيمٌ» (١٨) فيما يقضي ثم أكد وعيده وتهديده في أصحاب الإفك ومن يصغي لأقوالهم أو يحبذها بقوله في الحكم السّابع «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا» عائشة وصفوان الطّاهرين الزاكيين، واللّفظ عام فيشمل كلّ مؤمن ومؤمنة «لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا» بالذم والشّتم والسّب والحد والسّقوط من العدالة، وقد أوقع صلّى الله عليه وسلم الحد في عبد الله بن أبي سلول وحسان ومسطح وحمنه، ثم ان صفوان قعد لحسان وضربه بالسيف فكف بصره «وَالْآخِرَةِ» العذاب الشّديد لمن يموت منهم مصرا على نفاقه وقذفه «وَاللَّهُ يَعْلَمُ» حقيقة كذبهم فيما فاهوا به «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (١٩) إن الله يعاقب على ذكر هذه الفاحشة محبة إشاعة السوءى، فعليكم معاقبة من يتفوه بها ظاهرا في الدّنيا، والله يعاقب على ما في القلوب من حب ذكر هذه الفاحشة إذا شاء في الآخرة أيضا «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» لعجل عقوبتكم ولم يمهلكم للتوبة لتستحقوا عذاب الآخرة كاملا «وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (٢٠) بعباده
ثم حذر تعالى عن اتباع ما يحوك في النّفس ويتردد في الصّدر من الوساوس القبيحة التي يدسها
116
الخناس في صدور النّاس عند الغفلة عن ذكر الله، فقال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» بإصغائكم إلى هذا البهتان، وهذا الخطاب عام أيضا للمؤمنين الموجودين عند نزول هذه الآية كافة وهو عام أيضا في كل من يأتي من المؤمنين إلى يوم القيامة «وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ» فيميل إليها «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» كالشيطان، ومن كان كذلك فمأواه جهنم إذا لم يتب «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ» أيها الخائضون في الإفك «ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» ولا قبلت توبته، بل بقي ملوثا بسوئها «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» من الذنوب بتوفيقه إلى التوبة وقبولها منه «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لأقوالكم خيرها وشرها سرها وجهرها «عَلِيمٌ» (٢١) بأحوالكم وما في صدوركم قبل إظهارها، ويعلم ما تستحقونه من الثواب والعقاب. ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه بان لا ينفق على مسطح لا شتراكه بالإفك أنزل الله جل شأنه الحكم الثامن والتاسع من الآيات البينات بقوله جل قوله «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ» من الاليّة وهو القسم أي لا يحلف، والمراد بالضمير على ما أجمع عليه المفسرون أبو بكر رضي الله عنه، ولا يمنع خصوصها فيه عمومها في غيره، لأن العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب «أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الّذين منهم مسطح المذكور ابن خالته، وهو مسكين مهاجر «وَلْيَعْفُوا» عمّا صدر منهم «وَلْيَصْفَحُوا» عما بدر منهم من السّوء «أَلا تُحِبُّونَ» أيها المؤمنون «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» بمقابل ما تغفرون بعضكم لبعض «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٢٢) لمن يجرؤ عليه وينسب له الشّريك والولد والصّاحبة وينكر وعده ويكذب رسله ويجحد كتابه إذا تاب وأناب، ألا فتخلقوا بأخلاق ربكم وليرحم بعضكم بعضا ابتغاء وجه الله وطلبا لمرضاته وطمعا في ثوابه. قال أكثر المفسرين إن المراد بهذه الآية أيضا ابو بكر رضي الله عنه والخطاب له خاصة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأها عليه فقال بلى والله أحب مغفرة الله، وارجع نفقة مسطح التي كنت أنفقها عليه ولا أنزعها عنه أبدا. وهذه الآية في فضل أبي بكر على غيره
117
بعد محمد صلّى الله عليه وسلم، لان الله تعالى ذكرها في معرض المدح وفي لفظ الجمع مما يدل على علو شأنه عند ربه، ويدخل في عمومها كلّ من حذا حذوه. ومن هنا أخذ الحكم الشّرعي وهو من حلف على يمين ورأى خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه بنص هذه الآية. وقد جاءت أحاديث الرّسول بمثلها كما قدمناه في الآية ٢٢٢ من البقرة المارة. والحكم العاشر هو قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ» عن الفاحشة العفيفات عن قربانها نقيات القلوب من كل سوء، الطاهرات من كلّ عيب، كعائشة رضي الله عنها «الْمُؤْمِناتِ» بكل ما جاء عن الله المصدقات لرسوله وكتابه بعد نزول هذه الآيات المبرئات للسيدة عائشة مما رميت به «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»
(٢٣) فيها أيضا، وهذا المعنى الكبير الغليظ خاص بمن يرمي السّيدة عائشة بعد إعلان نزاهتها من الله تعالى حقا وجمع الضّمير باعتبار ان رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين ويدل على التخصيص قوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» بما أشاروا فيها «وَأَرْجُلُهُمْ» على المشي بها لبعضهم المتفوه بالإفك جزاء «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (٢٤) من القبيح، لأنه رمي أي قذف يستوجب العقوبة سواء أكان بالكلام أم بالإشارة.
مطلب في كفر من يقذف السّيدة عائشة بعد بيان هذه الأحكام العشرة المبينة بالآيات في أول السّورة إلى هنا وقصة الإفك:
ومما يدل على تخصيص هذه الآيات بالسيدة عائشة لأن رميها بما بهت عليها كفر ورمي سائر النّساء من غير أمهات المؤمنين لا يعد كفرا، وإن رميها رضي الله عنها بعد نزول هذه الآيات كفر بلا خلاق، لأنه جحد لكلام الله، أما قبل نزولها فلا يعد كفرا بل يستحق الحد الشّرعي المار ذكره أول السّورة، ولأن رميها بعد النّزول يعد استباحة بقصد الطّعن بحضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، مثل الخبيث عبد الله بن سلول الممعن في عداوة حضرة الرّسول، إذ كان مصرا على رمي السّيدة عائشة قبل نزول الآيات وبعدها، قاتله الله ولهذا لم يوفقه الله للتوبة ولا للإيمان ومات على نفاقه وإصراره، أما حسان ومسطح وحمنه فإنهم لم يستبيحوا ذلك ولم
118
يقصدوا الطّعن بحضرة الرّسول، ولهذا وفقوا للتوبة والقبول، والأعمال بالنيات قال تعالى «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ» وينالهم جزاؤهم بالعدل «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» (٢٥) إذ ترتفع الشّكوك في ذلك اليوم، ويحصل العلم الضّروري لكل أحد بما أخبرت به الرّسل، هذا وإن الله تعالى لم يغلظ في القرآن شيئا من المعاصي تغليظه في رمي السّيدة عائشة، وفأوجز وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وما ذلك إلّا لعلو منزلة بعلها صلّى الله عليه وسلم، والتنبيه بفضلها وكرامة أبيها، وقد برأها في هذه الآيات العظام. ثم بين تعالى استحالة وقوع هذه القرية على السّيدة عائشة على الظّنون والأفكار، وتنويها بطهارتها وطيب عنصرها بقوله عز قوله «الْخَبِيثاتُ» من النّساء «لِلْخَبِيثِينَ» من الرجال «وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» لأن المجانسة من دواعي الانضمام والطّيور تقع على أشباهها «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» ولما كان حضرة الرّسول أطيب الطّيبين وأطهر الطّاهرين اختار له السّيدة عائشة من أطيب الطيبات وأزكى الزاكيات، وقد أظهر أن ما نسب إليها اختلاق باطل وزور محض وإفك مفترى وخرافة تافهة، ولذلك برأها الله تعالى بآيات بينات تنويها بعلو شأن بعلها وأبيها ونفسها مع انه جل ذكره برأ السّيد يوسف عليه السّلام بشاهد من أهل زليخا وبرأ موسى عليه السّلام باعتراف الباغية وبرأ مريم عليها السّلام بانطاق ابنها فكانت براءة عائشة أعظم للأسباب المارة «أُولئِكَ» إشارة إلى السّيدة عائشة وصفوان فقط والجمع يطلق على الاثنين فصاعدا كما نوهنا به في الآية ٤٥ من سورة النمل ج ١ والآية ٧٨ من سورة الأنبياء ج ٢ وسيأتي نحوه في الآية ١٩ من سورة الحج «مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ» الأفاكون الخبثاء وأولئك «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (٢٦) في الآخرة، وهذا الحكم الحادي عشر وهو آخر ما نزل في السّيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، وهي تلك الدّرة المصونة التي قبض حضرة فالرسول في حجرها، ودفن في بيتها، وكان ينزل الوحي في فراشها دون سائر نسائه، ولم يتزوج بكرا غيرها، وقد نوه حضرة الرّسول بفضلها، وأنزل الله الآيات بطهارتها وطيبها، فهل بعد هذا من فضل وكرامة
119
واعلم أن تفسير (لا يَأْتَلِ) بصدر الآية ٢٢ المارة كان جريا على ما قاله بعض المفسرين وهو لا يستقيم إلّا إذا قدر (لا) على فعل (يُؤْتُوا) المفيد للمنع من الحلف على الإعطاء، والمراد بالآية- والله أعلم- المنع من الحلف على ترك الإعطاء كما هو المفهوم من الآية، فيكون قد وضع النّفي مكان الإيجاب، ويجعل المنهي عنه مأمورا به وهو غير مراد، والأحسن الأولى بل الأصح الأعدل أن يؤوّل فعل (لا يَأْتَلِ) بفعل لا يقصر بالإحسان إذ يجوز لغة أن تقول افتعلت مكان فعلت لا العكس راجع الآية ٢٢ من سورة البقرة في بحث حذف (لا) ولبحثها صلة في الآية ٩٣ من سورة المائدة الآتية. وخلاصة قصة الإفك على ما ورد في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة بن المصطلق في هذه السّنة السّابعة من الهجرة وكانت عادته إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها أخذها معه، ولذلك فإنه استصحب السّيدة عائشة رضي الله عنها فيها لخروج سهمها، وذلك بعد نزول آية الحجاب، ولما قفل من غزوتة ودنا من المدينة قالت عائشة عند ما آذن أي أعلم بالرحيل مشيت حتى جاوزت الجيش فقضيت حاجتي ورجعت، التمست صدري فإذا العقد مقطوع، فرجعت ألتمسه، فحبسني ابتغاؤه، واحتمل الرّهط هودجي ورحلوه على بعيري يحسبون أني فيه، وساروا فوجدت عقدي ورجعت فعدت إلى منزلي
الذي كنت فيه وقعدت لظني أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فغلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السّهي قد عرّس (أي نزل آخر اللّيل) وراء الجيش فادّلج (بالتشديد بالدال وهو السّير آخر اللّيل والدّلجة بضم الدّال وفتحه السير أول اللّيل وبالتخفيف السّير كلّ اللّيل أو آخره راجع الآية ٤٦ من سورة الرحمن المارة) فأصبح عند منزلي، فعرفني لأنه كان يراني قبل نزول الحجاب فاستيقظت على استرجاعه (أي قوله حين رآها متأثرا من نسيانهم إياها إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فخمّرت وجهي بجلبابي، فأناخ راحلته ووطئ على يدها، فركبتها وانطلقت بي الرّاحلة حتى أتينا الجيش، وو الله لم يكلمني، ولا سمعت منه غير استرجاعه، فهلك من هلك في شأني، ولما قدمنا المدينة اشتكيت (أي مرضت) والنّاس يفيضون بالإفك فيّ من حيث لا أشعر، وقد رابني أني لا أرى اللّطف
120
الذي كنت أراه من النّبي صلّى الله عليه وسلم، فلمّا نقهت (أي شفيت) خرجت وأم مسطح ليلا إلى المتبرز «محل قضاء الحاجة» قبل اتخاذ الكنف، فعثرت في مرطها، فقالت تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا شهد بدرا، فقالت أولم تسمعي ما قال؟
قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا، واستأذنت رسول الله أن آتي أبوي، فأذن لي، فقلت لأمي ماذا يتحدث النّاس؟ فقالت هوني على نفسك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر الا أكثرن عليها، قلت سبحان الله ويتحدث النّاس فيه، فبكيت اللّيل كله، ثم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا عليا وأسامة يستشيرهما، فقال أسامة لا نعلم والله إلّا خيرا، وقال علي غير مقالته الأولى لما رأى الرّسول قد أجهده الأمر، ولم ينزل عليه وحي من الله بذلك (لم يضيق الله عليك يا رسول الله والنّساء غيرها كثير واسأل جاريتها) فاستدعاها، وقال لها أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت لا والذي بعثك بالحق، ثم استدعى زينب بنت جحش وكانت تساميني من أزواجه فسألها فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلّا خيرا، فعصمها الله بالدرع (وهذه المقالة من علي كرم الله وجهه لما بلغت عائشه رضي الله عنها، أغاظتها وصارت منذ ذلك اليوم لم تسم عليا باسمه بل تقول جاء النّبي ورجل وذهب ورجل) قالت ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرفأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى ظنّا أن البكاء فالق كبدي، فدخل رسول الله وجلس عندي وكان لم يجلس من يوم قيل ما قيل، فقال يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن ألمت بذنب فتوبي إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فقلص (أي انقطع) دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله، فقال والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت والله ما أدري ما أقول، فقلت لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به النّاس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فئمن قلت إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني بريئة منه لتصدقني فو الله ما أجد لي ولكم مثلا
121
إلا أبا يوسف إذ قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي وظننت بأن الرّسول سيرى رؤيا ببراءتي لا أن ينزل الله فيّ قرآنا، لأني أحقر من أن يتكلم الله فيّ قالت والله مارام رسول الله مجلسه ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل الله هذه الآيات، فقال أبشري يا عائشة أما الله فقد براك، فقالت أمي قومي إلى رسول الله (أي لتقدم لحضرته الشّكر اللائق بمقامه تجاه بشارته لها) فقلت والله لا أقوم ولا أحمد إلّا الله الذي أنزل براءتي، وقالت أن الرّجل الذي قيل له ما قيل يعني صفوان بقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف (أي ستر) أنثى قط، ثم قتل في سبيل الله. ومن قوة دينها رضي الله عنها أنها كانت تكره أن يسب حسان بحضرتها مع أنه من أهل الإفك ولقوله رحمه الله في ذلك:
هجرت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذلك جزاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم فداء
(وفي رواية وقاد)
أتشتمه ولست له بكفء فشر كما لخيركما الجزاء (الفداء)
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدّلاء
وقد اعتذر عما وقع منه في حديث الإفك الذي نقله الملعون ابن سلول، وقال رضي الله عنه فيها:
حصان ماتزنّ (تتهم) بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
أي جائعة لا تغتاب أحدا أبدا.
حليلة خير النّاس دنيا ومنصبا نبيّ الهدى ذي المكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤى بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها «١» وطهرها من كلّ سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعموا فلا رفعت سوطي إلي الأنامل
وكيف وودي ماحيبت ونعرتي لآل رسول الله زين المحافل
(١) خيمها: طبيعتها وسجيتها، والخيمة معروفة.
122
له رتب عال على النّاس كلهم تقاصرت عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول امرئ لي ما حل
(يقال محل به إذا سعى به إلى السّلطان فهو ماحل) ولاط بمعنى أصاب وأمر واقتضي وابتغي، والمراد به هنا الأوّل، أي ليس بصائب.
مطلب آداب الدّخول على الدّور وطوق الباب والدّخول بلا أذى والوقوف أمام باب الدّار وحومة النّظر إلى من فيها:
هذا إنهاء قصة الإفك ذكر الله شيئا من تأديبه إلى خلقه للمناسبة فقال أولا «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا» تستأذنوا، وأصل الاستئناس الاستعلام والاستكشاف، أي حتى تعلموا أيؤذن لكم أم لا، وطريقة الاستئذان بالدخول لدار الغير تكون بما هو متعارف بالبلدة من الألفاظ كالكلام والتسبيح والتكبير والتحميد والتصفيق والتنحنح وطرق الباب «وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» بعد الاستئذان «ذلِكُمْ» الاستئذان قبل الدّخول والتسليم بعده «خَيْرٌ لَكُمْ» من أن تتهجموا البيوت بغتة على حين غرة من أهلها، ولا تدروا ما يصادفكم من القبول أو الرّد إذا دخلتم حال غفلة أهلها، فانتبهوا لهذا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (٢٧) هذه الآداب فتنقيّدون بها وتعلمونها غيركم «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً» يأذن لكم كأن يكون فيها امرأة شابة لأنها لا تأذن عادة بالدخول للبيت الذي هي فيه إذا كانت وحدها أو تكون خالية من أهلها «فَلا تَدْخُلُوها» لما في الدّخول من الرّيبة والتهمة في المرأة أو مظنة السّرقة أو الاطلاع على ما في البيت، ولهذا فاحذروا من الدّخول «حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» من قبل من يملك الاستئذان والأذن من الخدم وأصحاب الدّار لا غيرهم، ولو فرض أن الشّابة الموجودة وحدها أذنت له فلا يجوز له الدّخول عليها خشية الفتنة أو تقول النّاس فيما لا يرضى، وكذلك لا يدخل بمطلق اذن العبد والجارية والصّغير حتى يستأذنا من أسيادهما وأهله لأنهم لا يملكون حق الأمر بالدخول، والصّغير والصّغيرة لا يعقلان ولا يعرفان المحاذير الناشئة عنه، وعلى هذا فليس لأحد الدخول إلّا إذا تحقق صدور الإذن من أهل
123
القول في البيت، فلعله إذا دخل على اذن من لا يملك الإذن يلاقي ما لا يحب أو ما يكره من أهل البيت من وجود معذرة أو أمر ما، ولهذا قال تعالى «وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا» حالا ولا تقفوا ولا تتفجروا أو تغتاظوا أو تغتضبوا. واعلموا أن رجوعكم بسبب تلك الأعذار وبمطلق عذر يصدر عن أهل البيت «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» وأطهر وأصلح لما فيه من البعد عن مواقع التهم وعن منع أهل البيت من أشغالهم، وقد تكون معذرتهم لا تمكنهم من قبولكم لأن للناس أحوالا يكرهون اطلاع الغير عليها أو تأخير إنجازها أو تهيثهم للقبول «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (٢٨) لا يخفى عليه شيء من أمر الدّاخل والمدخول عليه وصدقهما ونيتهما، ولما نزلت هذه الآية قالوا كيف بالبيوت بين مكة والشّام والمدينة ليس فيها مساكن، يريدون الخانات المعدة لنزول المسافرين وكانت تعمر من قبل أهل الخير ويوضع فيها الماء وتترك ماوى للغادين والبادين دون أجر ما بخلاف ما عليه الحالة الآن اللهم إلّا ما بقي من الخانات الموقوفة لهذه الغاية وما أحدثته وجددته الدّولة العثمانية على طريق الحاج من آثار من تقدمها من الحكومات التي كانت تعمل محلات هكذا لتسهيل أمر الحجاج والتيسير عليهم تأمينا لراحتهم، فأنزل الله ثابتا فيما هو غير مسكون فقال جل قوله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ» بغير استئذان إذا تحققتم أن ليس فيها أحد لأن الأذن شرع على البيوت لوجود المخدرات فيها أو وجود أناس في حالة لا يجوز أن يطلع عليهم أحد معها، فإذا لم توجد هذه المحاذير فلا حاجة للاستئذان إذ قد يأتي الرّجل إلى أهل بيت لا يحبون دخوله عليهم مطلقا أو لا يريدون الزائر نفسه أو لوجود أحد يكرهه أو لا يحب أن يجلس معه أحد، فإذا أتقنت هذه الأعذار وغيرها مما يصح أن يكون عذرا جاز لكم الدّخول، ولا سيما إذا كان «فِيها مَتاعٌ لَكُمْ» وضعتموه قبلا أو وضعه أحد لكم كما هي العادة الآن أيضا، حيث يتركون في المنازل الواقعة على الطّرق وبالخاصة التي يرجعون إليها بعد قفولهم، حتى أن بعض النّاس في بلادنا يضعون بعض أثقالهم عند قبور الصّالحين وفي قببهم لاعتقادهم أن أحدا لا يجرؤ على أخذها، وهو كذلك لأن العقيدة فيهم والحمد لله
124
سائدة، ففي هذه المواقع لا حاجة للاستئذان إذ لا يوجد فيها أحد غالبا، وإذا كان فيها قيما أو خادما فإنهم قد يودعون عنده بعض أشيائهم عند ظهورهم إلى المراعي ونزولهم للقرى وهكذا المساكن التي يأوون إليها بقصد اتقاء الحر والبرد أو الاستراحة والنّوم، فلا حاجة أيضا للاستئذان وهكذا كلّ محل يتحقق لكم أن لا أحد فيه جاز الدّخول إليه لمطلق منفعه، أما عبثا فلا، لصريح الآية
وتقييدها بالمتاع، إذ قد يجد العابث مالا يحب، وقال صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما يريبك «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من أموركم وأعمالكم «وَما تَكْتُمُونَ» (٢٩) من أسراركم ونياتكم. هذا هو الحكم الشّرعي في ذلك ولها آداب أخر منها أن لا يقف أمام الباب لئلا يطلع على من في الدّار بل على يمينه أو شماله أي الجهة التي لا يفتح إليها لئلا ينظر لمن يأذن له ولا ينظر من شقوقه فيطلع على من هو داخل الدّار، وإذا كان الباب مفتوحا فليرده ثم يطرقه، بتؤدة وسكون لا بشدة وغضب لما فيه من قلة أدب المستأذن وعدم احترام صاحب البيت وإيقاع الرّيب في قلبه، ولا يصح يا فلان، وإذا قيل له من أنت؟ فليقل فلان بن فلان أو يذكر شهرته إن كان معروفا بها ليعلم صاحب الدّار هويته، حتى إذا لم يحب دخوله أو عنده من لا يحبه اعتذر، أما إذا كان مجيئه مع الرسول فلا حاجة للاستئذان لأن الرّسول هو الآذن وإنما ذهب ليأتي به بإذن المرسل، وإذا كان في البيت محارمه ليستأذنهم أيضا لعلهم في حالة لا يحبون اطلاعه عليها، وإذا وقع بصره على صاحب الدّار يسلم عليه أولا ثم يستأذن بالدخول، ولا يستعجل بل ينتظر قليلا لعلهم يصلحون شأنهم ومحلهم لأجله أو أنفسهم من تبديل لباس لا يليق بهم لقاؤه به أو يزيلوا ما يكرهون أو ما يكرهه هو النّظر إليه وغير ذلك. ويجوز الدخول بلا استئذان إذا رأى حريقا أو طفلا على شفا حفرة أو رأس جدار أو أعمى عليهما أو سمع استغاثة داخلها أو علم وجود منكر فيها وكان يقدر على إزالته لإطفائه وتخليصه ومنعه، أو رأى عقربا او غيرها قريبا من نائم او غافل او صغير او مجنون، ففي هذه الأحوال له أن يدخل وان يستعين بغيره لدرأ هذه الأشياء، أخرج ابو داوود عن عبد الله بن يسرة قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا
125
أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن او الأيسر ويقول السّلام عليكم. وذلك إن الدّور لم يكن عليها يومئذ ستور فإذا كان لها وراء الباب مانع من الاطلاع على داخلها وما وراءها فيجوز ان يقف أمامه لعدم المحذور، وأخرج ابو داود عن ابي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإن ذلك إذن له. وأخرج مالك في الوطأ عن عطاء بن يسار ان رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال استأذن على أمي قال نعم، فقال إني معها في البيت، فقال صلّى الله عليه وسلم استأذن عليها، فقال الرّجل إني خادمها، فقال صلّى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب ان تراها عريانة؟ قال لا، قال فاستأذن عليها وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال اطلع رجل من حجر باب النّبي صلّى الله عليه وسلم ومع رسول الله مدري يرجل، وفي رواية يحك به رأسه، فقال صلّى الله عليه وسلم لو علمت انك تنظر لصقت به فيك، إنما جعل الإذن من أجل البصر، والمدري المشط والقرن وهنا يراد به الثاني لمناسبة الحال والله اعلم. ورويا عن ابي هريرة ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم ان يفقؤا عينه قال تعالى في الأدب الثالث «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ» عما لا يحل النّظر إليه قصدا روى مسلم عن جرير قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نظرة النّجأة قال اصرف بصرك، وأخرج ابو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي يا علي لا تتبع النّظرة النّظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى مسلم عن ابي سعيد الخدري ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يقضي الرّجل إلى الرّجل في ثوب واحد، ولا تقضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد أي لما في ذلك من الملامسة والنّظر إلى المنهي عنهما وفي ذكر الرّجل والمرأة إشارة إلى أن ذلك معفو في الأولاد والبنات الّذين هم دون البلوغ بل التمييز كما سيأتي في آخر هذه الآية «يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» عما لا
يحل من الزنى واللّواطة والاستحلاب والسّحاق وابدائها للنظر إليها «ذلِكَ» غض البصر عن المحرمات وحفظ الفروج عن الزنى ودواعيه «أَزْكى لَهُمْ»
126
من دنس الإثم «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» (٣٠) في اجالة النّظر وحركات الحواس والجوارح، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم ونياتكم.
مطلب فيمن يجوز نظره ومن لا وستر الوجه وغيره وما هي الزينة التي لا يجوز النّظر إليها والنّكاح:
هذا ويجوز النّظر إلى وجوه المحارم وشعورهن واثديتهن واعضائهن وأقدامهن وكذلك الجواري المعروضات للبيع وإلى وجه الأجنبية وكفيها إذا أراد خطبتها، او كان شاهدا او حاكما يقضي عليها، أو إذا كانت محترفة، فلمن يشتري منها او يبيعها جواز النّظر إلى وجهها لمعرفتها فيما إذا كان وجب الرّدّ بالعيب والإشهاد على العقد او على نقد الثمن وغيره من متعلقات العقود.
قال تعالى «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» عما لا يحل من الزنى والسّحاق وإبدائه للنظر له كما تقدم في الأدب الثالث «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» الخفية التي لم يبح كشفها للاجانب «إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ» المؤمنات بدليل الإضافة ولم يذكر في هذه الآية العم والحال مع أنهما من المحارم في جواز النّظر أيضا وهو قول الحسن البصري وقال لأن الآية لم يذكر فيها الرّضاع وهو كالنسب وجاء في آية الأحزاب ٥٤ لا جناح عليهن في آبائهن ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم، وقد ذكروا هنا إذ قد يذكر البعض لينبه به على الجملة، قال الشّعبي إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهم العم والخال عند أولادهما، ومعناه ان القرابات تشارك الأم والأب في المحرمية إلّا العم والخال وأبناءهما فإذا رآها العم والخال فلربما يصفانهما لا بينهما فيقربان تصورهما إليهما بالوصف من نظرهما إليهما وهو ليس بحرام، إلا أنه من الدلالات المبغية على وجوب الاحتياط عليهن في التستر وهي من المروءة والغيرة، أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال صلّى الله عليه وسلم احتجبا منه، فقلنا يا رسول
127
الله أليس بأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصران وذلك لأن النّظر كما هو محرم على الرّجال محرم على النّساء. وأخرجه ابو داود أيضا وقدم غض البصر على حفظ الفرج، لأن النّظر بريد الزنى ورائد الفجور وبذر الهوى طموح العين، وفيه قيل:
كل الحوادث مبداها من النّظر ومعظم النّار من مستصغر الشّرر
والمرء مادام ذا عين يقلّبها في أعين العين موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها فعل السّهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ماضر خاطره لا مرحبا بسرور جاء في الضّرر
والمراد بالزينة هنا الأساور والخلاخل في الأيدي والأرجل والخضاب فيها والقرط في الأذنين والخواتم في الأصابع والقلائد في الأعناق والصّوافن في الشّعر والشّعر نفسه سواء المسترسل وغيره، ومن هذا بدوا الأعضاء بسبب تضييق اللباس وما يضعنه على الثدايا والأرداف بقصد تصغيرهما وتكبيرهما وكلّ ما يطلق عليه اسم الزينة. واعلم أنه كما لا يجوز إبداء شيء من ذلك لا يجوز النّظر إليه ممن لا يحل له وقد يجوز إبداء شيء من ذلك للحاجة كأن كانت تمتهن أو للضرور كالشهادة والحكم والحاكم والطّبيب المسلم، لأن إبداء الوجه بشيء من ذلك يستلزم إبداء الكحل في العينين، وإظهار الكفين يستوجب إظهار الخواتم والخضاب في ظاهرهما وباطنهما، ولا يعني هذا جواز نظر الأجنبي الى هذا الظّاهر دون حاجة كلا بل لا يجوز النّظر مطلقا لما فيه من الفتنة ولما يجر وراءه من العواقب السّيئة فكم نظرة أحرقت قلب ناظرها في الدّنيا وجسمه في النّار بالآخرة باتباع نفسه هواها، وإذا كان إبداء الزينة منهن عنه فإن إبداء الوجه الذي كله زينة خلقة وحلية يكون منهى عنه من باب أولى فيثبت بهذا وبما قدمناه في الآية ٥٩ من سورة الأحزاب أن ستر الوجه واجب، والنّظر إليه غير جائز، والسّفور حرام بالكتاب والسّنة واجماع الأمة تدبر، ولا تلفت الى أقوال الزائغين عن السّداد من أهل العتو والفساد بلا حجة ولا برهان اتباعا لما تسوله أنفسهم الخبيثة وما يوسوس له إليهم قرناؤهم من الجن والإنس والشّياطين وأهل البغي والعناد أولئك
128
الّذين غضب الله عليهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، والمراد بالجيوب في الآية هو شق الثوب مما يلي الصّدر وكانوا يتوسعون بذلك لإخراج الثدي لإرضاع الولد حتى تبدو صدورهن منها وكن يسدلن الخمر سدلا وهي الملافع وراءهن، فأمرهن الله في هذه الآية أن يسدلن بعضها على صدورهن كي تكون كالمقانع يغطين النّحر والعنق والصّدر والأذان وما فيهما من الأقراط وما على صدورهن من الحلي وعلى أكتافهن من الشّعر حتى لا يبقى إلّا تدويرة الوجه فيسدلن عليه شيئا من طرفه الآخر لأن الوجه والكفين وإن كانا ليسا من العورة في الصّلاة ففي خارجها عورة يحرم النّظر إليها خشية الافتتان. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت يرحم الله نساء المهاجرين الأوّل، لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ) إلخ الآية، شققن مروطهن فاختمرن بها.
والمرط كساء من صوف أو خز او كنان «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» من الجواري، فكل هؤلاء يجوز النّظر لهم إلى محارمهم عدا ما بين السّرّة والرّكبة، أما المملوكون المذكورون فلهم النّظر للزينة الظّاهرة فقط سواء كانوا فحولا أو خصيين أو عنينين، قال سعيد بن المسيب لا تغرنكم سورة النّور فإنها في الإماء دون الذكور، وظاهر القرآن يؤيد ذلك، لأن الآية مسبوقة لما قبلها أي معطوفة على نسائهن، والمراد بهن الأحرار فناسب عطف النّساء المملوكات عليهن. وقال بعضهم إذا كان العبد عفيفا جاز له الدّخول على سيدته والنّظر إليها إلّا ما بين السّرّة والرّكبة مستدلين بأن السّيدة عائشة رضي الله عنها أباحت لعبدها النّظر إليها، ويروى ذلك عن أم سلمة أيضا، وروى أنس أن الرّسول أتى فاطمة بعبد وقال إنه ليس عليك بأس إنما هو غلامك، إلا أن هذه الرّوايات لم تثبت صحتها ثبوتا يركن إليه ويمكن جعلها حجة للاستدلال، وعلى فرض صحتها فأين العفة المطلوبة بالعبد الآن، وأين عبيدنا وخدمنا من عبيدهم وخدمهم، ونساؤنا من فاطمة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهن، على أن قوله صلّى الله عليه وسلم للسيدة فاطمة لا بأس عليك إنه غلامك على فرض صحته يصرف إلى نظر الوجه واليدين إذ لا يمكن حجبهما عن الخادم الأمين لضرورة الأخذ والعطاء، أما نساء الرّسول صلّى الله عليه وسلم فلا قياس عليهن، لأنهن أمهات المؤمنين أجمع ولا يمنع النّاس من النّظر إلى أمهاتهم، ومع هذا كن
129
يحتجبن. إن هؤلاء المارين كلهم بمثابة قسم واحد ممن يباح النّظر إليهم من الأقارب ثم بين القسم الثاني من الأجانب بقوله عز قوله «أَوِ التَّابِعِينَ» الّذين يتبعون الناس لأجل تناول فضلات طعام وخلقان ملابسهم من الشّيوخ الطّاعنين في السنّ الّذين قنت شهواتهم والمسوحين الّذين قطعت مذاكيرهم أو خصائهم، والبله الّذين لا يعرفون أمر النّساء والمعتوهين والمجانين وأشباههم المرادين في قوله تعالى «غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» الّذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن ولا تحثهم أنفسهم بفاحشة ما، ولا يصفون للأجانب ما يرون منهن، فهؤلاء لا بأس بان ينظروا من النّساء ما ينظر منهن محارمهن، أما المجبوب الذي قطع ذكره فقط والمخصى والمخنّث الذي لا ينتشر ذكره فهم من أولي الإربة أي الحاجة بالنساء، فلا يجوز تمكينهم من النّظر إلى النّساء لأنهم يشتهون ويعرفون أمور النّساء ويصفونهم للأجانب ولبعضهم، ثم بين الأجانب الآخرين الّذين هم من القسم الثاني الّذين يجوز لهم النّظر بقوله جل قوله «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» أي لم يقدروا على الوطء لعدم الشّهوة ويدخل فيهم كلّ من لم يبلغ سن المراهقة والتمييز وهو الأولى لأن المراهقين قد يعرفون شيئا من ذلك فينبغي التحاشي عن اطلاعهم على الأجانب وعدم التساهل بشأنهم، والشّر أوله نظرة والنّار أولها شرارة، والحرب أولها كلام، ألا فليحذرن اللائي يذهبن إلى الحمام من ذلك، «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ» معطوفة على ولا يبدين لأنهن إذا ضربن الأرجل حال مشيهن بأرجلهن «لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» وهو ظهور الخلخال وصوته إذ في باطنه حصى ليصوت عند ضرب الرجل بالأرض فتتنبه الرّجال للنظر إليهن فيكن كأنّهن قد عرضن أنفسهن بذلك «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً» رجالا ونساء أحرارا وعبيدا «أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ» مما صدر منكم من ذلك، ولا تعودوا اليه أبدا، وان ما وقع منكم من ذلك قبل صدور هذه الآية فهو عفو، أما بعدها فلا، إذ جاءكم النّهي من ربكم، فاتعظوا أو لا تفعلوا منه شيئا، واعملوا بما أمرتم به «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٣١) فتفوزون بخير الدّنيا والآخرة، وانما وصى الله عباده بالتوبة
130
لأنهم لا يخلون من خطأ وإن حرصوا كلّ الحرص، وقد وعدهم بالفلاح ترغيبا لملازمتهم التوبة وأحوج النّاس إليها من يرى نفسه أن ليس له حاجة بها، لأنه غافل لاه والغافل أكثر النّاس وقوعا بالخطا. وبعد أن ذكر الله تعالى هذه الآداب الثلاثة المحتوية على آداب ثلاثة شرع يبين احكاما أخر غير الأحد عشر الأولى فقال جل قوله «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى» الغير متزوجين رجالا أو نساء «مِنْكُمْ» أيها الأحرار «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ» عبيدكم المذكورين «وَإِمائِكُمْ» عبداتكم الصّالحات «إِنْ يَكُونُوا» هؤلاء الأيامى «فُقَراءَ» لا مال لهم فاعطوهم على فقرهم وزوجوهم «يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» الوافر العميم، واحذروا أن يمنعكم الفقر من التزويج والزواج، فإن الله وعد عليهما الغنى
«وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (٣٢) ؟؟ بهم قادر على سد حاجتهم بل على إغنائهم من فضله وكرمه وإعطائهم أكثر منكم، الا لا يمتنع الرّجل أن يزوج ابنته من الفقير لأن الله قد يغنيه بمقتضى هذه الآية، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى الله عليه وسلم يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي قطع لمادة الشّهوة، لأن الوجاء رض الخصيتين وهو نوع من الخصاء. والباءة النّكاح. وأخرج أبو داود والنّسائي عن معقل بن يسار قال قال صلّى الله عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وروى مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الدّنيا متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة. وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) أي مع المرأة الصّالحة كما أشرنا بهذا في الآية ٩٨ من ج ٢ هذا وإن الله تعالى كما وعد على الزواج الغنى وعد على الطّلاق الغني أيضا، راجع الآية ١٣٠ من سورة النساء المارة الحكم الشّرعي يسن على التأكيد لمن تتوق نفسه الجماع أن يتزوج، وإذا خاف من عدم الوقوع بالحرام وجب عليه إذا كان قادرا على المهر والنّفقة بنسبة أمثاله، وإلّا فعليه إدامة الصّيام كسرا لشهوته، ومن لا تتوق نفسه ذلك وهو في أمن من الوقوع في الحرام فهو بالخيار قال تعالى «وَسَيِّداً وَحَصُوراً» يمدح سيدنا يحيى عليه السّلام لأنه لا يأتي النّساء ولا يرغب فيهن مع قدرته على الزواج
131
وتغلبه على نفسه، وهو عليه السّلام مخصوص بذلك من عموم الأنبياء قال تعالى (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) أي اللاتي لا يتزوجن كما سيأتي بحثهن في الآية ٩١ من هذه السّورة ويفهم من حمد سيدنا يحيى وعدم ندب القواعد للزواج جواز عدمه للقادر عليه الحافظ لنفسه، إلا أن الزواج أفضل لما فيه من التكاثر الذي ندب إليه حضرة المصطفى بحديثه الآنف الذكر، يؤيده الخبر الوارد لا رهبانية في الإسلام.
وتفيد هذه الآية ان أمر تزويج الأيامى منوط بأوليائهم، والعبيد والإماء إلى ساداتهم، بدليل مخاطبتهم بذلك بقوله جل قوله (وَأَنْكِحُوا) وعليه فلا يجوز زواجهم بغير إذنهم وهو كذلك، ويدل عليه قوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الآية ١٥ من النّساء المارة وهذه تؤكد تلك لشمولها الأحرار أيضا وبما أخرجه ابو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا نكاح إلّا بولي، ولهما عن عائشة عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن تشاحّوا فالسلطان ولي من لا ولي له. ولهذا قال الإمام مالك عليه الرّحمة إن كانت المرأة دنيّة يجوز لها تزويج نفسها، أي لأن أوليائها منها براء لدناءتها وإن كانت شريفة فلا.
مطلب ارجاء زواج الفقير لفناه. وجواز الكاتبة ندبا. وفي معنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً). ومعنى قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :
قال تعالى «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فيتزوجوا حينذاك وإلا فعليهم ملازمة التقوى والصّبر والصّيام ومداومة العمل والتكسّب، حتى إذا من الله عليهم تزوجوا «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ» بلا أجل أو الى أجل قليل أو كثير «مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والإماء «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» قدرة على الكسب وأمانة على الوفاء وديانة تحفظهم من النّكث والنّقض وتجربة ليطمئن لها المكاتب.
وعلى هذا إذا وثقتم بهم وكاتبتموهم فأعينوهم امتثالا لأمره تعالى المنوه به في قوله «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» أي من الزكاة، لأنهم من
132
الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية ٦٢ من سورة التوبة إعانة لهم على أداء بدل المكاتبة لكم، ومن الإعانة أن تحطوا عنهم منها ابتغاء وجه الله، وقد نزلت هذه الآية في صبيح غلام حويطب بن عبد العزّى حين سأل مولاه أي يكاتبه فأبى فلما نزلت كاتبه على مئة دينار، ثم وهب له منها عشرين فأداها له، وقتل في واقعة حنين في السّنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة، وقد أشار الله تعالى إليها بقوله جل قوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) الآية ٢٧ من سورة التوبة الآتية، وسيأتي ذكر القصة بحذافيرها هناك إن شاء الله. والحكم الشّرعي هو ان الأمر بالمكاتبة على طريق النّدب والاستحباب، لأن الأمر معلق على فعل الخير والصّارف له من الوجوب التقييد لأن الأمر لا يكون للوجوب إلّا إذا كان خالصا من القيد والتخصيص والتعليق، لهذا فإن الأحب للسيد ان يكاتب عبده طلبا لتحريره وابتغاء لوجه الله، لأن المكاتبة تقدمة للعتق الذي رتب عليه الأجر الكثير. روى أن سيرين أبا محمد العابد المشهور دفين الزبير من أعمال ولاية البصرة في العراق، سأل سيده أنس بن مالك ان يكاتبه، فأبى عليه، فراجع عمر رضي الله عنه فاستدعى أنا وأمره بمكاتبته، فلم يفعل، فضربه بالدرة وتلا عليه هذه الآية، إلا أن هذا لا يستدعي الوجوب لأن غاية ما فيه أن عمر توهم فيه الصّلاح وأحب ان يعتق فكان منه ما كان من الزهد والتقوى والمؤلفات، رحمه الله رحمة واسعة ورضي الله عن سيدنا عمر ما أحد نظره وأصوب فراسته. وكيفية المكاتبة ان يقول السيد لعبده كاتبتك على الف درهم تؤديها لي أقساطا كلّ شهر كذا او كلّ سنة فإذا أديتها كاملة فأنت حر فإذا أدى له تمام المبلغ عتق وصار حرا في كسبه وولده، والأولاد الّذين يحصلون له زمن هذه المكاتبة أحرارا ايضا تبعا له، أما الّذين قبل عقد المكاتبة فعبيد إلّا إذا نص على حريته في عقد المكاتبة، وإذا لم يؤد تمام المبلغ المكاتب عليه فسخ العقد وبقي وأولاده مملوكين على حالتهم الأولى وما كسبه من المال لسيده، لأن كسب العبد وما يملك من مال وولد لسيده أخرج ابو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال صلّى الله عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأخرج الترمذي والنسائي عن ابي هريرة ان رسول صلّى الله عليه وسلم
133
قال ثلاث حق عليّ الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والنّاسخ الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله هذا وإذا مات المكاتب قبل إيفاء بدل المكاتبة وقبل مضي مدتها ووجد عنده ما يكمل البدل أخذه سيده ومات حرا ويكون ولده من بعده أحرارا وإلّا فيموت على رقه ويبقى أولاده مملوكين بعده كما كانوا قبل والأحب ان يترك السّيد ما بقي عليه طلبا لمرضاة الله تعالى، فإذا وفقه الله وفعل مات المكاتب حرا وصار أولاده أحرارا بعده. أخرج مالك في الموطأ ان عبد الله بن عمر كاتب غلامه على خمسة وثلاثين الف درهم، فوضع في آخر كتابته خمسة آلاف وهكذا يستحب ان يضع عنه من آخر الأقساط لأن الوضع من أولها قد يحمله على الكل ويؤدي به إلى الأمل فيعجز عن الأداء ويبقى رقيقا وهو المتسبب، لأن عدم الوضع من الأول ينشط المكاتب على العمل ويحمله على الأداء ويزيد في عزمه وحزمه على خلاص نفسه ويحزم على أداء تمام المبلغ، إذ يحتم على نفسه انه مطلوب منه، فإذا ترك له القسط الأخير كان عونا له في امره وكان صدقة تصدق بها عليه فيطيب خاطره ويقدر فضل سيده فلا يدعه «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ» إنما قال فتياتكم لأنهن المتوقع منهن بخلاف العجائز والصّغار، والمراد بهن هنا العبدات، لما جاء في الخبر لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فناي وفتاتي، لأن الكل عبيد الله فلا يليق ان تنسب العبودية لنا ونحن العبيد. والبغاء الزنى في النّساء خاصة «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» عنه «لِتَبْتَغُوا» بإكراههن على الزنى «عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» من الاحتواء على كبهن الخبيث وأولادهن الحاصلين من الزنى ليكونوا عبيدا لهم تبعا لأمهاتهم «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ» على
ذلك فيفعلنه مكرهات بعد هذا النّهي فهو آثم، وهؤلاء إذا تبن بعد هذا عن تعاطي هذا الفعل القبيح «فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ» لهن ولهم ايضا إذا عدلوا عن إكراههن «رَحِيمٌ» (٣٣) بهم جميعا إذا تابوا وأتابوا وإلّا فيكون الإثم على المكره إذا تحققت شروط الإكراه، لأن آمر المطيعة المواتية للبغاء لا يسمى اكراها، ولا أمره أمر إكراه. وفي هذه الحالة يكون الإثم على الاثنين لا فترافهن الزنى ولرضاء السّيد فيه. واعلم ان في إيثار
134
لفظ (إن) على (إذا) إيذان بأنهن كن يفعلن ذلك برغبة ورضا منهن، وان المشتكيات منه نادرات شواذ. روى مسلم عن جابر قال عبد الله بن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية ان جاريتين له يقال لهما سكينة وأمية كان يكرهما على الزنى فشكناه لرسول الله فنزلت. وكان لهذا الخبيث ستّ جوارهاتان اللّغتان ما كانتا ترغبان بالزنى ومعاذه واروى وعمرة وفتيلة اللاتي كن يرغبن فيه. والآية عامة في كلّ من يفعل ذلك، وخصوص السّبب إذا كان اللّفظ عاما لا يقيده. ولا إشكال في قوله تعالى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لأن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية المارة، فخرج النّهي على صيغة السّبب نفسه وان لم يكن النّهي شرطا فيه لأن الشّرط في ارادة التحصن حيث لا يتصور الإكراه إلّا عند إرادته، فإن لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعا، إذ من المعلوم أنه لا يجوز إكراههن على الزنى أردن التحصن أم لا، وفي هذه الآية توبيخ الموالي لأنهن إذا رغبن بالتحصن فهم من باب أولى ان يرغبوا فيه وأحق ان يحبذوه. وليعلم أن هذا ليس لتخصيص النّهي بصورة ارادتهن التعفف عن الزنى وإخراج ما عداها من حكمه، كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن لخصوص الزنى او لخصوص الزمن او المكان او لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل للمحافظة على عاداتهم المستمرة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك وتقبيح حالهم وتشنيع قبائحهم، لأن من له أدنى مروءة لا يرضى بفجور من في حوزته من الإماء، فضلا عن أمرهن به وإكراههن عليه، لا سيما إذا كن يردن التعفف. هذا ويجوز ان تكون (ان) هنا بمعنى إذ على حد قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية ١٣٣ من آل عمران أي إذ كنتم وهنا ينتفي الشرط تأمل. أما من قال ان في الآية تقديما وتأخيرا ويريد بذلك ان يكون نظم القرآن العظيم هكذا (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) بعيد جدا، وان كان حسنا، لأن تلك آية على حدة لا علاقة لها في هذه الآية والله أعلم بنظم كتابه. ولم يثبت عن حضرة المنزل عليه ما يدل على ذلك ولم ينقلها أحد من خواص الصّحابة، لذلك لا يلتفت اليه وهناك قول
135
آخر بان هذا الشّرط في الآية هذه من معطل المفهوم على حد قوله (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) الآية ٦ من سورة الأعلى في ج ٢، أي فذكر وان لم تنفع لقوله تعالى (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ٥٧ من سورة الذاريات في ج ٢ أيضا لأن مفهوم الأولى إن لم تنفع لا تذكر والتذكير مطلوب لا يعدل عنه للتأكيد عليه في الآية الثانية وتأييده بالأحاديث الصّحيحة، فعلى هذا لو أبطلنا مفهوم تلك الآية المفسرة يكون المعنى جواز الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله، لأن المفهوم اقتضى ذلك وانتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع على عدم جواز الزنى بحال من الأحوال وعدم جواز الأمرين مطلقا، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة أو عدم طلب الكف عن الإكراه عند عدم الإرادة وإنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ، لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكرهن على البغاء والإكراه إنما هو الزام فعل مكروه، وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة، والأوّل أولى تدبر قال تعالى «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لحلالكم وحرامكم وطيبكم وخبيثكم «وَمَثَلًا» من أمثال «مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» لشبه حالكم بأحوالهم، لأن قصة عائشة رضي الله عنها عجيبة كقصة يوسف وموسى ومريم عليهم السلام لأنهم اتهموا وهم براء منزهون مما رموا به، راجع الآية ٢٦ المارة «وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» ٣٤ ربهم المنتفعين بمواعظه لأن تقديم ما فيه عظة لذوي
الألباب نافع لهم. وترمي ألفاظ لولا ولولا ويعظكم الى التنبيه والتحذير عن كل ما نهى الله عنه والترغيب والتحبيذ لكل ما أمر به لمن كان له قلب حي أو القى سمعه ليأخذ به ويقبله، ثم شرع جل شرعه في ضرب الأمثال العظيمة فقال «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» منورهما لمن فيهما «مَثَلُ نُورِهِ» العجيب الشّأن الغريب الإمكان في الإضاءة على أربعة أوجه: الأوّل نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها كنور الشّمس وأمثالها، لأنه يظهر الأشياء الخفية في الظّلمة ولا يراها نور البصر. الثاني نور البصر يظهر الأشياء للإبصار ويراها فهو أشرف من الأوّل الثالث نور العقل يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهل للبصائر وهو يدركها
136
ويراها. الرابع نور الحق وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت وهو يراها في الوجود في عالم النّاسوت واللاهوت كما كان يراها في العدم، لأنها كانت موجودة في علمه وان كانت معدومة في ذواتها، لأن علم الله تعالى لا يتغير، وكذلك رؤيته باظهارها في الوجود بل كان التغير راجعا الى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين فيتحقق قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بأنه مظهرها ومبديها وموجدها من العدم بكمال القدرة الأزلية ومنورهما بالكواكب في السّماء وبالأنبياء والعارفين والعلماء في الأرض، وهذا النّور الجليل العظيم بالنسبة لعقولنا وما يمكن ان نفهمه على طريق ضرب المثل، ذلك النّور في التمثيل والتقريب لعقول البشر «كَمِشْكاةٍ» كوّة طاقة في جدار حجرة لا منفذ لها باللغة الخشبية الموافقة للغة العربية راجع الآية ١٨٢ من سورة الشّعراء في ج ١، وقيل إن المشكاة ما يكون فيه الزيت والفتيلة من الأواني، والأوّل أولى وهو ما عليه الجمهور «فِيها مِصْباحٌ» سراج ضخم ثاقب نوره وماج تنتشر منه الأجزاء العظيمة «الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ» بضم الزاي وفتحها بتخليس أي قنديل من الزجاج الصّافي الأزهر، وإنما خص دون غيره لأنه أحكى للجواهر من غيره لما فيه من الصّفاء والشّفّافية كما خصّت الكوة الغير نافذة لأن المكان كلما ضاق أو تضايق كان أجمع للضوء والنّور «الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ» ينلألأ وفادا في صفاء الدّر وزهرته والكوكب يتضاعف نوره إذا درأ منقضا أي اندفع فكأنه يدرأ الظّلام بضوئه، ودرّ الكواكب عظامها مثل السّيارات الخمس، ولم يشبه بالشمس والقمر لأنهما يكسفان بخلاف الكواكب فإنها لا تكسف، والزجاجة مثلثة الزاي كالنخاع والقصاص والوشاح والزوان والجمام والصّوان وغيرها من المثلثات التي يجوز فيها الضّم والفتح والكسر، وذلك المصباح «يُوقَدُ» وقرىء توقد فعل ماض شدد القاف، وهذه القراءة جائزة لأن فيها التصحيف فقط، أي ابدال التاء بالياء فلا توجب زيادة في اللفظ ولا نقصا. واعلم أنه كما توقد النّار بالحطب توقد الأنوار بالأدهان «مِنْ» زيت «شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» بدل من شجرة وبركتها كثرة منافعها
137
وهي أول شجرة نبتت بالأرض بعد الطّوفان وتعمر أكثر من جميع الأشجار المثمرة ويسرج من زيتها ويدهن به ويؤتدم منه ويدخر ثمرها ولا يسقط ورقها.
مطلب في الزيتون ونوره تقالى ومعنى ضرب المثل وما ينقل عن كعب الأحبار:
أخرج الترمذي عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة، والزيت من أصفى الأدهان إذا أتقن عمله «لا شَرْقِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند شروقها فقط «وَلا غَرْبِيَّةٍ» تصيبها الشّمس عند غروبها فقط ولا هي في غرب يضرها برده ولا في شرق يضرها حرّه ولا في مفيأ لا تصببها شمس البتة ولا في مفحاة لا يصببها ظل البتة لأنها إذا كانت شرقية بحتة أو غربية صرفة لا يكون ثمرها جيدا لأن الشّمس لها دخل عظيم في النّباتات وأثمارها أجمع بما أودعه الله فيها من قوة بل تصاحبها الشّمس طول النّهار تكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيخرج ثمرها من أحسن الأثمار من نوعها وحسن الزيت تابع لحسن الثمر بالدرجة الأولى فيكون والله أعلم المراد بها كونها شامية قدسية لأنهما وسط بين الحرارة والبرودة بالنسبة لبلادنا وأرضها لا شك مباركه طيبة، راجع الآية ٧٦ من سورة الأنبياء ج ٢، وزيتونها أجود من غيره لاعتدال الهواء والحرارة والبرودة فيهما غالبا «يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ» بذاته لشدة صفاته «وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ» قبل أن تشتعل ذبالة مصباحه أي فتيلته وإذا كان يضيء قبل مس النّار له فإنه يتضاعف عند مسها له ويزيد ضياؤه كأنه «نُورٌ عَلى نُورٍ» نور صفاء الزيت على نور صفاء المصباح في الزجاجة الدّرّية فيصير نورا متضاعفا من غير تحديد، وليس المراد أنه نور فوق نور ولا مجموع نورين بل نور غير متناه، وهذا هو النّور الذي شبه الحق جل جلاله نوره لخلقه بالنسبة لمداركهم ولما يرونه من أنواعه لا للواقع، لأنه ليس لمثل نوره نور كما ليس لمثله مثل، وكما أن ذاته لا تدرك ولا تكيّف فكذلك نوره جل جلاله، وذلك لأن مدارك العقول فيه عقال، وغاية السّعي لمعرفة كنهه كما هي ضلال.
واعلم أن أبا تمام لما مدح المأمون بقوله:
138
وقيل له إنك أنقصت الخليفة لتشبيهه بالسوقة وهو فوق ما وصفت وان أحدا منهم لا يدرك بعض مقامه ولا جزء رتبته ولا شيئا مما هو عليه من الرّفعة والعزة ارتجل لهم بيتين قال فيها:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا شرودا في النّدى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنّبراس
أي القنديل، ولهذا فلا يقال كيف يشبه الأدنى بالأعلى، لأن التشبيه نسبي بقدر ما يعلم المخاطب من الأشياء الحسية ليكون أوقع في النّفس، لأن التشبيه بشيء لا يعرفه المخاطب لا يكون له قيمة عنده ولا يتعجب منه. واعلم أن هؤلاء الّذين شبه الخليفة بهم لهم ذكر حسن شائع بين النّاس أكثر من بعض الملوك فالتشبيه بخصلة عند رجل قد لا تكون عند المشبه به مدح له وان كانت عند من هو دونه فالاعتراض على أبي تمام في غير محله. واعلم ان الله تعالى جلت قدرته وتعالت عظمته إنما أضاف النّور الى السّماوات والأرض الدّلالة على سعة اشراقه ونشو اضاءته فيها، فيستضيء به أهلهما لأن الضّياء منتشر من النّور، قال الامام السّهيلي في المعنى:
ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية ان يموجا
وقال تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) الآية ١٧ من البقرة المارة وقال جل قوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) الآية ٥ من سورة يونس ج ٢، لأن نور القمر لا ينتشر مثل ضوء الشّمس، لا سيما في طرفين، وهذا يدل على أن نور القمر مستفاد من الشّمس في مقابلة المضيء منها، لأن اختلاف تشكلات القمر بالبعد والقرب من الشّمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل بان نورها فائض عليه، وهذا من معجزات القرآن لأن في عهد نزوله لا يوجد من يعرف ذلك، ولهذا قالت الفلاسفة أيضا ما يكون للشمس من ذاته والنّور ما يفيض عليه من مقابلتها، وهذه الدّلالة ظنية، وهي أحد أقسام الخمس اليقينات التي أشرنا إليها في الآية ٤٣ من سورة النّساء المارة. هذا ومن قال ان هذا المثل ضربه الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم وقال المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح
139
ثبوّته فليس بشيء، وهو منقول عن كعب الأحبار وأضرابه، وانما لم يعتمد على نقل كعب هذا لأنه غالبا ينقل عن التوراة لكثرة تبحره فيها، فيظن من ليس له خبرة بالأحاديث والسّير أنه ينقل عن حضرة الرّسول، وهو رحمه الله لم يشاهد الرسول صلّى الله عليه وسلم لأن إسلامه كان زمن عمر رضي الله عنه، وكلّ ما قيل فيه من تشبيه كعب أو غيره فهو فوقه قال ابن رواحه:
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبيك عن خبره
وقال الأبوصيري:
لو ناسبت قدره آياته عظما أحيا اسمه حين يدعى دارس الرّمم
فما تطاول آمال المديح الى ما فيه من كرم الأخلاق والشّيم
أيمدح من أثنى الإله بنفسه عليه فكيف المدح من بعد ينشأ
إلى آخر ما قال في بردته وهمزيته اللّتين لم يمدح بأحسن منهما كما قيل. وما قيل بأنه مثل لعبده المؤمن وحواسه السّيارات السّبع أو أنه مثل للقرآن يخالفه ظاهره وان كان فيه ما ذكروه من المعاني، وان سبب عدولهم عن ظاهر القرآن زيادة في تنزيه الحق جل ذكره بان يكون لنوره مثل، وهو كذلك، إلا أن الله تعالى يضرب الأمثال بما يفهمه خلقه ويشاهدونه كي يستدلوا به عليه ليس الا، وضرب المثل لا يكون الا بالمحسوس، وإلّا فلا فائدة به، لأن الله تعالى خاطب عباده بما يعقلون، وأمر رسوله أن يكلمهم بما يفهمون، راجع الآية ٢٦ من البقرة المارة وما ترشدك اليه في معنى ضرب المثل «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ» الموصوف هداية خاصة موصلة الى المطلوب حتما «مَنْ يَشاءُ» من عباده بالهام منه فيوفقه لاصابة الحق بأقواله وأفعاله وإشارته وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ» تقريبا لا فهامهم وتسهيلا لسبل ادراكهم ليستأنسوا بالمحسوسات الى المعقولات، وبالمشاهدات الى الغائبات «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (٣٥) من ضرب الأمثال وما تدركه مخلوقاته وما لا، ويبين لكم ما يمكن أن تعلموه، وتلك المشكاة الموصوفة «فِي» جدار «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لها أَنْ تُرْفَعَ» وتعظم وتفخم، فلا يذكر فيها الغير وهي المساجد، لأنها أشرف بقاع الأرض غير ما ضم أجساد الأنبياء منها عليهم
140
الصلاة والسّلام، ومن احترامها أن يذكر الله فيها ولا يخاض فيها حتى في المباح لأن الكلام فيها ما عدا الذكر يحبط العمل «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» جل شأنه ويتلى فيها كتابه وتقام فيها الصّلوات والأذكار آناء اللّيل وأطراف النّهار «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها» أي يصلي، وأطلق التسبيح على الصّلاة لأنه جزؤها، ويطلق الجزء على الكل أحيانا راجع الآية ٢٠ من البقرة المارة، وهؤلاء الكرام يديمون هذا التسبيح «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (٣٦) أوائل النّهار وأواخره، وكذلك الليل، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) الآية ٦٢ من الفرقان في ج ١، وهؤلاء المديمون ذكره صباح مساء ابتغاء خيره «رِجالٌ» عظام وأي رجال كبار فخام، ورفع على أنه فاعل يسبح، ولذلك وصفهم بأنهم «لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ» لا عن «إِقامِ الصَّلاةِ» بوقتها وإيتاء الزكاة لمستحقها بزمنها «يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (٣٧) لذلك، فإنهم لا يؤخرون شيئا عن وقته كما أمروا به عدا ما هم عليه من الأعمال الصّالحة المذكورة لعلمهم بشدة هول يوم القيامة وتوغل معرفتهم بالله وخالص يقينهم بأنهم مهما عبدوه لم يؤدوه حقه ولا بعض حقه، وأن أعمالهم كلها لا تؤهلهم دخول الجنّة إذا لم يشملهم برحمته ولعلمهم أنه تعالى لا ينقيد بشيء ولا يسأل عما يفعل، وقد وفقوا للخوف والخشية منه بفضله «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا» على أحسن أعمالهم بأكثر مما يأملون «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» الذي لا حد له ولا مقدار بأكثر مما يتوقعونه منه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» (٣٨) لأن الحساب من شأن المخلوقين الّذين يخشون النّفاد، لا من صفات الخالق صاحب الجود الكامل والإحسان الواسع والفضل العميم الذي لا يدخل تحت حساب الحاسبين ولا نهاية له. هذا وان قوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ) إلخ ليس نهيا عن التجارة ولا يفيد معنى المنع منها ولا كراهيتها، بل تشير إلى النّهي عن التهافت بها والاشتغال فيها عن عبادته جلت عبادته. وما قيل أنها نزلت في أهل الصّفة لا يصح، لأنهم فقراء لا مال لهم حتى يؤمروا بالزكاة، ولأنهم تركوا الأشغال الدّنيوية كافة وانكبوا على عبادة
141
ربهم، وإنما نزلت في أهل الأسواق الّذين إذا سمعوا النّداء تركوا أشغالهم وبادروا إليها ليقتدي بهم من بعدهم ويا حسرتاه الآن تراهم لا هين باللعب والشّغل عن الصّلاة ولا يجيبون المنادي، فإنا لله وإنا إليه راجعون من أناس لا يخافون أن يدخلهم الله في قوله في المثل الثاني المخيف المزدوج «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ» التي عملوها في الدّنيا تكون يوم القيامة «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» جمع قاع وهي ما انبسط واستوى من الأرض «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» فيقصده ليشرب منه لشدة عطشه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» فيخيب ظنه ويظهر له وهمه وسبعتبين له خطأه «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» أي السّراب الذي توهمه ماء «فَوَفَّاهُ حِسابَهُ» على
ما كان منه في الدّنيا فعاقبه عليه وأحبط عمله الصّالح الذي كان يرجو ثوابه، إذ لم يبتغ فيه وجه الله «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» (٣٩) يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة رجل واحد بأسرع مما يتصوره المنصور كطرف العين وقل «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» عميق جدا «يَغْشاهُ» يغطي ذلك البحر «مَوْجٌ» عظيم وهو ما ارتفع من الماء بسبب الهواء «مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ» آخر تراكم عليه «مِنْ فَوْقِهِ» أي الموج الثاني «سَحابٌ» كثيف جدا فصارت كأنها «ظُلُماتٌ» أربعة ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السّحاب وظلمة الليل «بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» بحيث يكون الواقع فيها «إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها» من تراكم الظّلمات الأربع مع أنها أقرب شيء منه، فكيف يمكن أن يرى غيرها «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً» يهتدي به في الدّنيا «فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (٤٠) في الآخرة، وهذان المثلان ضربهما الله تعالى للكافر إذ شبّه عمله الحسن الذي كان يتوحّى ثوابه بالسراب والقبيح بالظلمات، فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يأمله، لأنه عمله للرياء والسّمعة، فكان حاله كالظمآن المحتاج إلى الماء إذا رأى سرابا تعلق قلبه به، فإذا ذهب إليه ولم يجد ماء اشتدت حسرته وعظم غمه وتناهى فجره ولم تكفه خشية تلك بل وجد عنده عذاب الله الذي لا يطاق وزاده غضبا مشاهدة قبائحه من ظلمة عقيدته وظلمة أقواله وظلمة أفعاله وظلمة نيته، إذ جسّمت له في ذلك اليوم العظيم ليتضاعف
142
عذابه فيه، أجارنا الله من ذلك.
ثم طفق يقص علينا جل قصصه من بعض بدائع مصنوعاته، فقال أولا يا أيها الإنسان «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كل بلسان حاله أو قاله «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أجنحتها في الهواء «كُلٌّ» من تلك المسبحات والمسبّحين يسبحونه بلغات مختلفات وأحوال متباينات لا يعلم بعضها البشر، وهو جل شأنه «قَدْ عَلِمَ» من كل «صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» وتعلم هي أيضا أنها تصلي وتسبح له «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» (٤١) من تسبيح وغيره قبل أن يفعلوه «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (٤٢) بعد الفناء فيحاسب ويكافى ويجازى كلا على قدر عمله.
مطلب تأليف المطو والبرد وكيفية حصول البرق والرّعد وكون مخلوقات الله كلها من مادة الماء:
وقال تعالى ثانيا «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» يسوقه حيث يريد «ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» لأن الرياح أول ما تثير السّحب تكون قطعا متفرقة «ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» بعضه فوق بعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» بصورة بديعة طلا ووائلا وخفيفا وسحّا «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ» المطر الذي نراه فوقنا «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» مما يتكاثف من الماء ويتجمّد في الهواء البارد ويبقى عائما بقدرة القادر الحكيم، ثم يتهاطل بانتظام عجيب إلى الأرض صغارا وكبارا وبين ذلك، واعلم أن لفظ من الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء نزوله من السّماء، ومن الثانية للتبعيض لأن ما ينزل هو بعض تلك المياه المتجمدة الشّبيهة بالجبال من حيث الكثرة، ومن الثالثة للتجنيس لأنها تفيد أن تلك الجبال من برد لا من جنس آخر «فَيُصِيبُ بِهِ» أي البرد (مَنْ يَشاءُ» من خلقه فينتفع به أناس ويهلك به آخرون إذا شاء من إنسان وحيوان وزرع وغيره «وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» فلا يقربه شيئا من ذلك ولو كان نازلا عليهم أو لا ينزله على أراضيهم البتة حسب مقدراته الأزلية «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ» الحاصل من تصادم السّحب المنكاثفة ببعضها لشدة ضوءه «يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» (٤٣) فيعميها «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» باختلافهما وطولهما
143
وقصرهما «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإزجاء والإزجاء والإنزال والاصابة والصّرف والتقلب «لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (٤٤) الحية المتفكرة يتعظون بها ويخافون منزلها ويتأثرون ويتدبرون بنعم الله ونقمه وبدائع مكوناته، لأن هذه الآية تشير إلى مسألة دقيقة وهي الألفة، لأن السّحاب لا يأتلف صدفة بل على قاعدة منتظمة فنية اطلع عليها علماء عصرنا من أهل الدّنيا فقالوا إن قطع السّحاب لا تأتلف إلّا بتغاير نوع الكهربائية التي تحملها كلّ قطعة منه، فالتي تحمل كهربائية سلبية ينسنى لها الائتلاف مع قطعة كهربائية ايجابية، لأن تماثل قواها يقضي بتدافعها وتشتتها كما يشاهد عند تفرقه وتلاشيه في أيّام الصّيف وغيره، سواء أكان ثقالا أو جهاما. وقالوا إن قسما من أو كسجين الهواء يتحد مع الهدروجين بواسطة الشّرارة الكهربائية الحاصلة من البرق فيتولد الماء، وهذا الاتحاد يسميه الكيمائيون بالألفة الكيميائية وهي سر من أسرار الغيب، وهؤلاء الّذين يولدون الكهرباء الّذين توصلوا بعقولهم وأفكارهم تدريجا إلى الإبداع في الاختراع بسبب هذه القوة لا يعلمون ما هي، فسبحان القادر الجاعل من المحسوسات ما هو غائب، ومن المشاهدات ما هو منكر، ومن البسيطات قوى عظيمة. قال تعالى ثالثا «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» من كل مادب على وجه الأرض البارزة والمغمورة بالماء ويخرج من هذا العموم الملائكة لأنهم خلقوا من النّور والجن لأنهم خلقوا من النّار، وكلّ من هذين النّوعين لم يشاهده البشر على صورته الحقيقية إلّا من اختصه الله بذلك أما آدم عليه السّلام فإنه خلق من الطّين، والطّين لا يخلو من ماء فيكون داخلا في هذه الآية، وهذا الماء المشار إليه نسبيّ بنسبة المخلوق منه، ففي الإنسان وبعض الحيوان نطفة، وفي غيرها ما يقابلها، ويطلق على الكل ماء، قال تعالى (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية ٣١ من الأنبياء ج ٢ فالمخلوق من نطفة لا تسمى ماء لا بد أن يكون متكونا من شيء آخر، وذلك الشّيء لا بد أن يكون أصله مركبا من الماء، فيكون الكل من الماء اجمالا، لأن فيه حياة كلّ نام، وان ما خلق من التراب المتحجر كالفأر، وما خلق من الزبل كالخنافس، وما خلق من الطّين كالديدان وما خلق من النّار كالسمندل، وما خلق من الثلج كاليخ أيضا داخل في هذه
144
الآية، لأن كلا منها فيه ماء، قال تعالى «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ» كالحيات والدّيدان والأسماك وغيرها «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطّير وغيرها مما لا نعرفه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» كالبهائم والوحوش وغيرها كثير. ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرّتيلات وأم أربع وأربعين وأم سبع وسبعين وغيرها لقلتها بالنسبة لذوات الأربع، ولأن اعتماد هذه الحشرات في المشي على أربع فقط وبقية الأرحل تبع لها «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ممن يعقل ومما لا يعقل وما يعلم وما لا يعلم مما رآه البشر ومما لم يره «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» من أنواع الخلق وأجناسه وأصنافه «قَدِيرٌ ٤٥» لا يعجزه
شيء يكوّنه بكلمة كن كما يريده. هذا وقد غلب في في هذه الآية اللّفظ اللائق بمن يعقل على مالا يعقل لشرفه، فجعله أصلا واتبع به ما لا يعقل لخسّنه، وهو أولى من العكس، وقدم من يمشي على بطنه لأنه أعجب ممن يمشي على رجلين وأربع. قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ» لكل شيء ليعتبر الخلق ويتعظوا بما وقع على الأقوام المخالفين من قبلهم ويرشدوا إلى طريق الهدى، ويعرضوا عن الضّلال «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٤٦) ويضل من يشاء عنه فيدعه يتخبط في غياهب الجهل طبق ما قدره وقضاه في الأزل ثم أراد أن يقص علينا شيئا من أحوال خلقه فبين جل بيانه أن النّاس بعد بيان هذه الآيات المبينات افترقت إلى ثلاث فرق، واحدة صدقت ظاهرا وكذبت باطنا وهم المنافقون المشار إليهم في قوله تعالى «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» بألسنتهم دون اعتقاد صحيح «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ» عن الطّاعة ويعرض عن الإيمان «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الاعتراف بهما «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (٤٧) راجع الآية ٨ فما بعدها من سورة البقرة المارة تقف على أحوال المنافقين لأن من يوافق قوله عقيدته ولسانه قلبه هو المؤمن المخلص حقا وصدقا «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» بشرع الله «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» (٤٨) عنه ومن هؤلاء المنافقين بشر المار ذكره وقصته في الآية ٦٥ من سورة النّساء فراجعها. أما من قال إن هذه
145
الآية نزلت فيه فقد ذهل، وإنما هذه الآية حكاية حال عنه وعن أمثاله وهي عامة في كلّ من هذا شأنه لورودها مورد العام، فيدخل فيها المذكور وغيره ممن هو على شاكلته «وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» (٤٩) لحكمه لم تكرر هذه الكلمة بالقرآن أي راضين بقضائه «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك أو ريبة أو شبهة في حكمه «أَمِ ارْتابُوا» بنبوّته فلم يصدقوه وجحدوا كتابه «أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ» يجوز عمدا «اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ» بالحكم فيظلمهم وهو ينهى عن الظّلم ورسوله، «بَلْ» لا شيء من ذلك وإنما «أُولئِكَ» المتوقعون شيئا منه مخالفا «هُمُ الظَّالِمُونَ» (٥٠) أنفسهم باعراضهم وتوهمهم
«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا» قوله وقبلناه «وَأَطَعْنا» أمره وامتثلناه «وَأُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم فيما يحكم الله ورسوله لهم وعليهم «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٥١) في الدنيا والآخرة «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» (٥٢) الناجحون عند الله في الدّارين. ثم ذكر حالة ثانية من أحوالهم فقال «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ»
يقال لمن بلغ في الحلف غايته وشدة تأكيده جهد أي بلغ أقصى ما يحلف به «لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ»
بالخروج من ديارهم وأموالهم «لَيَخْرُجُنَّ»
امتثالا لأمرك يا رسول الله «قُلْ»
لهم «لا تُقْسِمُوا»
كذبا فإن طاعتكم هذه المزيفة «طاعَةٌ»
قولية «مَعْرُوفَةٌ»
بلا فعل، لأنها ناشئة عن غير اعتقاد واخلاص، بل عن رباء وخداع، وقد أشار الله إليهم في الآية ١٦٦ من آل عمران بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وفي الآية ١١ من سورة الفتح الآتية (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وذلك لأن إيمانهم غير صحيح، وفي الآية ٤٧ من المائدة الآتية أيضا أخبر الله عنهم بقوله (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»
٥٣ وإنه يخبر رسوله به ليفضحكم «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» طاعة صادقة مخلصة بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عن تقديم هذه الطّاعة الحقيقة «فَإِنَّما» الله الذي أرسله إليكم يقول وهو أصدق القائلين «عَلَيْهِ»
146
أي الرّسول المأمورين بطاعته «ما حُمِّلَ» من تبليغ الرّسالة التي كلف بها وأمر باعلانها، وقد قام بذلك وخرج عن عهدة ما كلف به «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» أيها المؤمنون من الإجابة والامتثال حالة كونكم مخلصين بهما صادقين، وإلّا فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه «وَإِنْ تُطِيعُوهُ» فيما يأمركم وينهاكم «تَهْتَدُوا» إلى الحق وترشدوا إلى النّجاة «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (٥٤) وليس عليه أن يقسركم على نفعكم بالسيف لأن ذلك خاص بالمشركين وفرقة ثالثة صدقت ظاهرا وباطنا وهم المؤمنون المخلصون المذكورون في قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» فيجعل منهم ملوكا وأمراء وحكاما ويورثهم أراضي الكفار والحكم عليهم «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» عليها كداود وسليمان عليهما السّلام وكما استخلف بني إسرائيل وسلطهم على الجبارين بمصر والشّام وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم بعد أن كانوا أضعف النّاس وأهونهم إذ كانوا تقتل رجالهم وتستحيا نساؤهم للخدمة وغيرها كما أشار إليه في سور طه والشّعراء والنّمل والقصص والأعراف وغيرها في ج ١ ويونس وهود والمؤمن وغيرها في ج ٢ وفي سورة البقرة أيضا «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره فيسود الأرض إن شاء الله وتثبت دعائمه فيها، فيظهر حكمه على أهلها طوعا أو كرها «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ» الذي كانوا فيه الذي كانوا ولم يزالوا بشيء منه «أَمْناً» على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وقراهم بحيث يخافهم النّاس ولا يخافونهم، وإنما فعل ويفعل الله تعالى إن شاء لهم ذلك لأنهم «يَعْبُدُونَنِي» أنا الله وحدي علنا في كلّ مكان «لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» من الأوثان وقد أنجز الله تعالى لهم هذا الوعد والحمد لله شكرا على ما فعل وسيمضيه إن شاء الله إلى آخر الدّوران «وَمَنْ كَفَرَ» بعد انجاز ذلك الوعد الذي رأوه بأعينهم ولمسوه بأيديهم وذاقوا ثمرته «فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» ٥٥ الخارجون عن الطّاعة المتجاوزون الحدود التي حدها لهم كان صلّى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة من بدء البعثة إلى يوم الهجرة صابرين على أذى الكفار واضطهادهم، ولما حلّوا
147
المدينة كانوا في بداية أمرهم لا يفارقون سلاحهم وأمروا بقتال الكفرة وهم لا يزالون على خوفهم، فقال رجل منهم أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السّلاح عن عاتقنا، فأنزل الله هذه الآية.
مطلب في معجزات الرّسول، الإخبار بما يأتي، وعوائد الجاهلية الباقي أثرها وجواز الأكل عند الأقارب والأصدقاء، ووجوب ملازمة الرّسول صلّى الله عليه وسلم:
روى البخاري عن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع النّسل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها ولقد أنبئت عنها، قال فإن طالت بك الأيام فلترى التطعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلّا الله (قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعّار طيء الذي قد سعّروا البلاد) ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز؟ قال كسرى بن هرمز؟ ولئن طالت بك حياة لترين الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة فيطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلتين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى يا رب، فيقول ألم أعطك ما لا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلّا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلّا جهنم. قال عدي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اتقوا النّار ولو يشق تمرة، فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة. (قال عدي فرأيت الظّعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز) ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلّى الله عليه وسلم يخرج الرّجل ملء كفه من ذهب أو فضة إلخ. وفي هذا الحديث والآية دليل على صحة خلافة الخلفاء لأن الفتوحات كانت في أيامهم، ودلالة على أن هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وإنها من أوائل ما نزل بالمدينة. وقال بعض المفسرين إن هذه الآية مكية. وهي من جملة المغيبات التي أخبر الله بها رسوله كما أشرنا إليه في سورة القمر ج ١، والسّبب المذكور أعلاه في نزولها ينطبق عليها تماما، عدا كون القول الواقع بالمدينة إذ قد يوشك أنه بمكة والله أعلم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
148
الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»
(٥٦) أيها النّاس وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون الّذين قال الله فيهم «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ» وانا لا تقدر عليهم «فِي الْأَرْضِ» بلى قادرون عليهم، وهم في قبضتنا لا يستطيعون أن يفتلوا منا، وسنذلهم بالدنيا بالجلاء والأسر والقتل والسّبي وضرب الجزية «وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة «وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (٥٧) هي لأهلها. ولما انتهى من بيان الفرق الثلاث وحال كلّ واحدة ومصيرها طفق يأمرنا جل أمره بما إن تمسكنا به من الآداب الدّاخلية فيما يخص العائلة نفسها هذبت نفوسنا وحسنت أخلاقنا وكفينا سوء آداب خدمنا وتعلقاتنا، بقوله عز قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه إذا خلوتم بأزواجكم في الأوقات الثلاثة الآتية فنبهوا خدمكم وأولادكم إذا أرادوا الدّخول عليكم «لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من العبيد والخدم ذكورا كانوا أو إناثا «وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ» من أولادكم وبنانكم الّذين لم يحتلموا بعد ممن هم دون سن التمييز في اليوم واللّيلة «ثَلاثَ مَرَّاتٍ» بأوقات معينة أولها «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ» لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النّوم ووقت العود إلى الأهل «وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ» وهذا الوقت الثاني زمن القيلولة في الصّيف إذ تضعون ثيابكم التي لبستموها للقاء النّاس أو لأعمالكم إذ قد تبدو عورتكم أثناءها وقد تخللون باهلكم «وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» وهو الوقت الثالث لأنه زمن النّوم والتجرد له ومداعبة الأهل، فهذه «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» لأنكم تحتاجون فيها إلى ما ذكر، وكلّ منها عوره للمذكورين لأنه فضلا عن رؤية ما لا تحبون رؤيته منهم قد يتكلمون فيه بعضهم لبعض ولغيرهم وما عدا هذه الأوقات الثلاثة «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ» أي الخدم والعبيد والأولاد «جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» إذا دخلوا عليكم بغير استئذان لأنهم «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ» قد يدخلون ويخرجون بصورة دائمة لخدمتكم والتمتع برؤيتكم ولما تقتضيه خدمة البيت، ولهذا يطوف «بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» لحاجة المخالطة «كَذلِكَ» مثل هذا البيان الشّافعي المعلم للآداب العالية والأخلاق الفاضلة
149
والعادات السّامية «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» التي أنتم بحاجة شديدة لمعرفتها والتحلي بها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (٥٨) فيما يأمر وينهي بما ينفعكم ويضركم ويعلمكم محاسن الأخلاق ومعالي الآداب مع النّاس ومع أنفسكم. قالوا دخل على أسماء بنت مرشد غلامها في وقت
كرهت فيه دخوله، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، وكان صلّى الله عليه وسلم وجه مدلجا غلاما أنصاريا إلى عمر بن الخطاب وقت الظّهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك، وأخبر حضرة الرّسول فنزلت هذه الآية. فما روي عن ابن عباس أنه قال لم أر أحدا يعمل في هذه الآية في الخبر الذي رواه عن عكرمة وأخرجه أبو داود، وإلى قوله أن السّتور أغنت عن الاستئذان لا يفهم منه على فرض صحته ان هذه الآية منسوخة، وكذلك ما حكي عن سعيد بن المسيب بأنها منسوخة لا وجه له، وما هو وجه النّسخ يا ترى وبأي آية نسخت ولماذا نسخت؟
لا أدري روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت سألت الشّعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال لا والله، قلت إن النّاس لا يعملون بها قال الله المستعان.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية ان أناسا يقولون نسخت والله ما نسخت ولكنها ممّا تهاون به النّاس. ومن تهاونهم الآن عدم مبالاتهم بدخول الحمال والسّائل والعامل والقروي فضلا عن الخادم ولا حول ولا قوة إلّا بالله. قال تعالى مؤيدا ما تقدم في الآية السّابقة «وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا» في جميع الأوقات لأنهم خرجوا من سن الطّفولة والتمييز وصار حكمهم حكم الكبار «كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الأحرار الكبار، لأنهم صاروا مثلهم «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ» ليهذّبكم وينقيكم من كلّ ما ينتقد به «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بخلقه وبما يصلحهم ويحسن أمورهم «حَكِيمٌ» (٥٩) فيما شرعه لهم وبعد أن ذكر الله تعالى ما يتعلق بالآداب ذكر أحكاما تتعلق بالأحكام المارة، فقال جل قوله «وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ» اللاتي قعدن عن الحيض والحبل بكرهن وعجزهن وقطع أملهن من الزواج، وهن «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» بعد ما وصلن إليه من الحال «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ»
150
الظاهرة كالملاءة والجلباب الذي فوق الخمار أمام الرّجال، إذ لا مطمع فيهنّ على شرط أن يكنّ «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» ما حيث يجب عليهن ستر النّحر والسّاق والمقعد وما فيها من الحلي، راجع قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) في الآية ٣٥ المارة «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ» عن وضع تلك الثياب فيغطين أنواع الزينة ومواضعها كافة بأن يسترنها كلها فهو «خَيْرٌ لَهُنَّ» لئلا يرمين بسوء أو يغتبن بسبب ذلك لأن الشّيخ والعجوز إذا تزينا بما هو من شأن الشّاب والشّابة تلوكهما ألسنة النّاس كما قيل:
عجوز ترجّى أن تكون صبية وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر
وما غرني فيها إلّا خضاب كفوفها وكحل بعينيها وأثوابها العطر
نبيت بها قبل المحاق بليلة فكان محافا كله ذلك الشّهر
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يجري بينهن وبين الرّجال من القول «عَلِيمٌ» ٦٠ بما يقصدونه ويتوونه، وفي هذا نوع ترهيب، لأن من القواعد من فيها بقية جمال ولا تخلو من شهوة الرّجال، كما أنه يوجد من الرّجال، لذلك فالأجدر بها أن تستتر كالعادة، وأن لا تخالط الرّجال ولا تجالسهم، ويوجد فى هذه الأحوال بقية عند البدو وأعراب الأرياف وبعض الأمكنة في المدن، إذ أن مثل هؤلاء القواعد يجلسن مع الرّجال ويتعاطين القهوة ويتسامرن معهم ويتولين الضّيافة بأنفسهن، وإن أزواجهن وأوليائهن لا يرون بأسا بذلك، وهذه من بقايا عوائد الجاهلية الأولى.
هذا ولما كان من النّاس من يتحرج الأكل عند بعضهم بعد نزول آية (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١٨٩) من البقرة المارة إذ توسعوا في معناها إلى هذا الحد، وكان المجاهدون إذا خرجوا للغزو يضعون مفاتيح بيوتهم عند العجزى والعرج والعمى والمرضى وعند أقاربهم ويأمرونهم بالأكل من بيوتهم وهم يمتنعون أيضا، وقيل كان العميان والعرج والمرضى يتزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأنهم يرونهم يتقذّرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وقد يقول الأعمى ربما أكل الأعرج أكثر مني، والمريض ربما جلس مكان اثنين، والأعرج والأقطع كذلك من أنهم يضيّقون بالجلوس على
151
غيرهم، وكان أمثال هؤلاء يأتون إلى الرّجل فلا يجد ما يكفيهم فيأخذهم لبيت أخيه أو بيت من سمى الله في الآية الآتية فيتأثمون من ذلك، فأنزل الله جل شأنه ثانيا «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أيها الأصحاء حرج «أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» بيوت أزواجكم وأولادكم، لأن بيوت الأزواج والأولاد بيوت الزوج والأب، إذ الزوجان نفس واحدة، فبيت الزوج بيت المرأة وبالعكس وبيت الولد بيت الوالد وبالعكس، لقوله صلّى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك. فيكون بيت الولد بيت الوالد، ولهذا لم يذكرهما الله «أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ» من وكلائكم والقيمين على مصارفكم وأموالكم وماشيتكم وضياعكم وعبيدكم وخدمكم وإماءكم، لأن العبد وما ملكت يداه لسيده «أَوْ صَدِيقِكُمْ» الذي يصدقكم وتصدقونه في المودة، لأن الأكل عند الصّديق والهدية له ومنه تزيد في المحبة، وتقوي عرى المودة، وتعظم الثقة، وقد كان السّلف الصالح يدخلون دور أصدقائهم فيأخذون منها ما يشاءون، وإذا جاءهم ضيف ولم يجدوا ما يقدمونه، دخلوا دور أصدقائهم وأخذوا منها ما يقرون به ضيفهم دون استئذان بالأخذ لا بالدخول لأن ذلك واجب عليهم، وهم أولى بأن يتحاشوا عنه ويتقيدوا بشروطه المارة في الآية ٣٩، وإذا كانوا غائبين وأخبرهم عبيدهم وأهلهم بما فعل صديقهم من هذا يسرّون به، وقد يعتقون عبيدهم لعدم معارضتهم فيما أخذه أصدقاؤهم من بيوتهم. أما الآن فقد غلب الشّح على النّاس، فلا يفعل شيء من هذا إلّا بإذن، وقد لا يحصل إلّا باستدانة أو قرض وقد لا يحصل أبدا. وقال ثالثا «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً» مع المرضى والعرج والعميان وغيرهم «أَوْ أَشْتاتاً» متفرقين إذا لم تسمح لكم أنفسكم بمؤاكلتهم، كان بنو ليث لا يأكلون وحدهم حتى يجدوا أضيافا، وربما قعد أحدهم ينتظر أضيافا والأكل أمامه حتى الصّباح ومن الصّباح حتى الرّواح ينتظرون أيضا حضور من يأكل معهم
152
وربما كانت معهم الإبل الجفل لا يشربون ألبانها حتى يأتي من يشاربهم، فإذا أمسى أحدهم ولم يجد أحدا اضطر فأكل وحده، وكان قوم من الأنصار كذلك، وكان الغنى لا يأكل عند الفقير تعففا [وهذا من سجايا العرب الّذين بعث إليهم محمد صلّى الله عليه وسلم ولا يزال النّاس يقولون إجلالا وإنما هم شم الأنوف وعندهم عوائد كريمة لا توجد عند غيرهم، ليت الأمة الآن منصفة ببعضها، أما ما كان منهم من نهب وسلب وقتل وحرمان النّساء والأولاد الصّغار من الإرث ووأد البنات وغير ذلك فمن عدم وجود المرشد وعدم وجود كتاب يرجعون إليه] فنزلت هذه الفقرة من تلك الآية. ثم ذكر جل ذكره ما يتعلق بالآداب أيضا فقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم تلك البيوت لتأكلوا فيها أو بسلم صاحب البيت على أهله الّذين هم فيه لأنهم أحق بالسلام من غيرهم وإذا لم يكن فيها أحد فليقل السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين «تَحِيَّةً» منصوب بيسلموا لأنها بمعنى السّلام مصدر من غير جنس الفعل على حد قعدت جلوسا وقمت وقوفا «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ» بيانا كافيا شافيا واضحا «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (٦١) فوائدها وتعلمون ما ترمي إليه من المعاني النّافعة الموجبة للألفة وغيرها فتزداد بينكم المحبة وقوة الإيمان بالله ورسوله، فتنمو المودة بينكم، ويأمن بعضكم بعضا على مساله وعرضه ونفسه ويربو اليقين بما أنتم عليه من الدّين القويم. قال
تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتخلقوا بما يتلقونه عنهما وتأدبوا بما يأمرونهما وتمسكوا بأخلاقهما «وَإِذا كانُوا مَعَهُ» أي الرّسول حال المذاكرة «عَلى أَمْرٍ جامِعٍ» يجمع له أهل الحل والعقد للمشاورة في أمور المسلمين والمداولة بمصالحهم وفيما يتعلق بأمر الحرب والغزو والصّلح أو مطلق تدبير فيما يخص دينهم ودنياهم «لَمْ يَذْهَبُوا» عنه ويتركوه وحده أبدا، وإذا طرأت لهم معذرة ماسة لا يذهبون «حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» لأن ذلك مما يهم المسلمين أجمع وما يتعلق بالعامة يرجح على الخاصة، فضلا عن أن المؤمن لا تطيب نفسه بمفارقة صاحبه لا سيما عند الحاجة، فلربما عنده رأي صائب يأخذ به المجتمع كله، فيعود نفعه للمسلمين
153
كافة. واعلم يا محمد «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ» للذهاب لشأن ألمّ بهم ولم يستبدوا فيتركوك ويذهبوا من تلقاء أنفسهم «أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» أما الّذين ينصرفون لحالهم دون أخذ رأيك ويتركونك في مداولات هكذا تستلزم أخذ رأي الجماعة فلم يكن إيمانهم صحيحا ولا مقبولا «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ» يا سيد الرّسل «لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» ممن يستغنى عن حضوره ورأيه. أما الّذين ترى لزوما لأخذ رأيه فلك ألا تأذن له، لأن ما أنت فيه أهم مما يذهب إليه «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ» إن رأيت لهم عذرا مقبولا في الاستئذان على جرأتهم لطلب الأذن في وقت عليهم ألا يطلبوه إذ ينبغي لهم بل يجب عليهم ألا يتخلوا عنك في مثل هذه الحالات، لأن الأهم يقدم المهم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لخطأهم ذلك الواقع قبل نزول هذه الآية «رَحِيمٌ ٦٢» بهم ولذلك يرشدهم لطرق التوبة عما سلف منهم، ولا يعجل عقوبتهم. وهذه الآية تنبه على أن الأجدر بهم البقاء مع حضرة الرّسول وعدم الاستئذان ولو كان لهم عذر، لأن فوات وقت الاجتماع به صلّى الله عليه وسلم لا يتلافى وأشغالهم يمكن تلافيها، بل الاستغناء عنها، وإن ترك ملازمة الرّسول وقت اللّزوم مخالف للآداب الواجب اتباعها معه اللازم مراعاتها أمامه. قال تعالى فيما يؤدب به عباده تجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم خامسا «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» لأنه فوقكم في كلّ شيء، فلا يقابل بجميعكم، وهو عند الله ليس كأحدكم، فإذا دعاكم إلى شيء، أو أمركم به فواجب عليكم امتثاله ولا يجوز لكم الإعراض عنه أبدا، ولا يليق بمن أجاب الدّعوة أن ينصرف دون استئذان، فكل ذلك حرام قطعا، فاحذروه أيها النّاس، ولا تتساءلوا في شيء من ذلك، لأنه يؤدي إلى اغبراره منكم، فيدعو عليكم وهو مجاب الدّعوة، تدل هذه الآية الكريمة على وجوب توقيره عليه الصّلاة والسّلام وتعظيمة وإجلاله، لأن الله تعالى وقره وعظمه وأجله، ومن تفخيمه عند ربه الذي أوجبه على خلقه ألّا يسموه باسمه، فلا يقولوا يا محمد يا أحمد بل يا رسول الله، يا حبيب الله، في حالتي القرب والبعد، لأن الله تعالى خاطبه بيا أيها النّبيّ يا أيها الرّسول، لذلك لا يليق بالأمة أن يسموه إلّا بما
154
يريد الله، ومن احترامه ألّا يرفعوا صوتهم بندائه، وإذا علم المنادي أن حضرة الرسول سمعه ولم يرد عليه فلينظر ولا يكرر النّداء فلعله شغل عنه بفكر أو بمخاطبة غيره أو كان في حالة تستدعي عدم الرّد كنزول الوحي أو حالة الوعظ وشبهها وسيأتي لهذا البحث صلة في سورة الحجرات الآتية إن شاء الله. وتشير أيضا إلى احترام المعلمين والمدرسين والأساتذة وسائر أهل الفضل، لأنهم يعلمون النّاس الخير وهذه الآيات من ٥٨ إلى هنا والآية ٢٩ إلى ٣٥ المارات في آداب القرآن التي يريد الله تعالى أن يتأدب عباده بها صونا لأخلاقهم من المفاسد المذمومة. ثم ذم الله المنافقين المخالفين لهذه الآداب بقوله «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ» واحدا بعد واحد فيتسللون «مِنْكُمْ لِواذاً» فيلوذ الواحد بالآخر ويستتر به لئلا يحس بانسحابه من المجتمع، وذلك أنهم قاتلهم الله كان يثقل عليهم المقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويملّون من استماع خطبه ومواعظه القيمة ومحاضراته النّافعة، لأن وغر النّفاق أوقر قلوبهم، ودين الحسد أصدا صدورهم، وضيّقها عن سماع الحق وقبوله وعن نصحه وإرشاده، فصارت قلوبهم ضيّقه حرجة مظلمة لا تستطيع الاكتساب من نوره الفائض على القلوب الطّاهرة، وأين للخفاش من مصاحبة النّور راجع الآية ١٢ من سورة المؤمن في ج ٢ وما ترشدك إليه مما يتعلق في هذا البحث. ثم هددهم الله تعالى وأوعدهم بقوله
«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» فيعرضون عنه ويصدون غيرهم من «أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ» بلاء ومحنة في الدّنيا لا يتخلّصون منه «أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٦٣» في الآخرة يلازمهم فيها لا يطيقونه. ثم نبّه عباده عما لا بد لهم من التفكر فيه فقال «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وأنتم أيها النّاس من جملة ما فيها فاحذروا مخالفة خالقهما الذي لا يعجزه شيء. واعلموا أن مخالفته موجبة لإيقاع الفتنة بينكم بالدنيا والعذاب بالآخرة وأنه جل علمه «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» من الإيمان الخالص والمشوب بالنفاق ويعلم منكم الطّيب والخبيث علما حقيقيا وهو من بعض معلوماته.
قد المفيدة للتقليل أحيانا كما هنا «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ» يعلمه الله بل يعلم اللحظة التي تفارقون بها هذه الدّنيا وتمتثلون بها أمام عظمته في الموقف العظيم،
155
Icon