تفسير سورة النّور

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة النور من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾. قال أبو بكر : لم يختلف السلف في أن حدَّ الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ [ النساء : ١٥ ] إلى قوله :﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾ [ النساء : ١٦ ]، فكان حَدُّ المرأة الحَبْسَ والأَذَى بالتعيير، وكان حدُّ الرجل التعيير، ثم نُسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائةَ جَلْدَةٍ ﴾، ونسخ عن المحصن بالرجم ؛ وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم :" خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الجَلْدُ والرَّجْمُ "، فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ [ النساء : ١٥ ] إلى قوله :﴿ أو يجعل الله لهن سبيلاً ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إيّانا على أن ما ذكره من ذلك هو السبيل المراد بالآية ؛ ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر، لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدماً لقوله صلى الله عليه وسلم بحديث عبادة أن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره، وإذا كان كذلك كان الأذَى والحبس منسوخَيْنِ عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنّة وهو الرجم.
واختلف أهل العلم في حَدِّ المحصن وغير المحصن في الزنا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد :" يُرجم المحصن ولا يُجلد ويُجلد غيرُ المحصن، وليس نَفْيُهُ بحدّ وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نَفْيَه للدعارة فَعَلَ كما يجوز حبسه حتى يُحْدِثَ توبة ".
وقال ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح :" لا يجتمع الجلد والرجم " مثل قول أصحابنا ؛ واختلفوا في النفي بعد الجلد، فقال ابن أبي ليلى :" يُنفى البكر بعد الجلد "، وقال مالك :" يُنفى الرجل ولا تُنفى المرأة ولا العبد، ومن نُفي حُبِسَ في الموضع الذي ينفى إليه "، وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي :" ينفى الزاني "، وقال الأوزاعي :" ولا تنفى المرأة " وقال الشافعي :" ينفى العبد نصف سنة ".
والدليل على أن نَفْيَ البِكْرِ الزاني ليس بحدّ أن قوله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ يوجب أن يكون هذا هو الحدّ المستحق بالزنا وأنه كمال الحدّ، فلو جعلنا النفي حدّاً معه لكان الجلد بعض الحدّ وفي ذلك إيجاب نسخ الآية، فثبت أن النفي إنما هو تَعْزِيرٌ وليس بحَدٍّ.
ومن جهة أخرى أن الزيادة في النصّ غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ، وأيضاً لو كان النفي حدّاً مع الجلد لكان من النبيّ صلى الله عليه وسلم عند تلاوته تَوْقِيفٌ للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حَدِّه، ولو كان كذلك لكان وُرُودُهُ في وزن ورود نقل الآية، فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحدّ.
وقد رُوي عن عمر أنه غرَّبَ ربيعه بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهِرَقْلَ، فقال عمر :" لا أغرِّبُ بعدها أحداً " ولم يَسْتَثْنِ الزنا. ورُوي عن عليّ أنه قال في البِكْرَيْنِ إذا زنيا :" يجلدان ولا ينفيان وإنّ نَفْيَهما من الفتنة ". وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر :" أن أمَةً له زنت، فجلدها ولم يَنْفِها ".
وقال إبراهيم النخعي :" كفى بالنفي فتنةً ". فلو كان النفيُ ثابتاً مع الجلد على أنهما حَدُّ الزاني لما خَفِيَ على كبراء الصحابة، ويدلّ على ذلك ما روى أبو هريرة وشبل وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأَمَةِ :" إذا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، فإنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوها، ثمَّ إِنْ زَنَتْ فاجْلِدُوهَا، ثمَّ بِيعُوهَا ولو بِضَفِيرٍ ".
وقد حَوَى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا، أحدهما : أنه لو كان النفي ثابتاً لذكره مع الجلد، والثاني : أن الله تعالى قال :﴿ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، فإن كان جَلْدُ الأَمَةِ نِصْفَ حَدِّ الحرة وأخبر صلى الله عليه وسلم في حدّها بالجلد دون النفي دلَّ ذلك على أن حَدَّ الحرة هو الجلد ولا نفي فيه.
فإن قيل : إنما أراد بذلك التأديث دون الحد، وقد رُوي عن ابن عباس أن الأَمَةَ إذا زنت قبل أن تُحْصِنَ أنه لا حدَّ عليها لقوله تعالى :﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ [ النساء : ٢٥ ]. قيل له : قد رَوَى سعيد المَقْبُريُّ عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها " قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة أو الرابعة :" ثُمَّ لْيَبِعْهَا ولو بِضَفِيرٍ "، وقوله صلى الله عليه وسلم :" بِعْهَا وَلو بضَفِير " يدلّ على أنها لا تُنفى ؛ لأنه لو وجب نَفْيُها لما جاز بيعها، إذ لا يمكن المشتري تسلمها لأن حكمها أن تنفى.
فإن قيل : في حديث شعبة عن قتادة عن الحسن عن حِطّان بن عبدالله عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً : البِكْرُ بالبِكْرِ والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، البِكْرُ يُجْلَدُ ويُنْفَى والثَّيِّبُ يُجْلَدُ ويُرْجَمُ "، وروى الحسن عن قبيصة بن ذؤيب عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ؛ وحديث الزُّهْري عن عبيدالله بن عبدالله عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن ابني كان عَسِيفاً على هذا فزَنَى بامرأته فافتديته منه بوليدةٍ ومائة شاةٍ، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم، فاقْضِ بيننا بكتاب الله تعالى ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بكِتَابِ الله ! أَمَّا الغَنَمُ والوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَأَمّا ابْنُكَ فإِنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ " ثم قال لرجل من أَسْلَمَ :" اغْدُ يا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا ". قيل له : غير جائز أن نزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد لأنه يوجب النسخ، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ، فالواجب إذا كان هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حدّ مع الجلد، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت نَفْيَ البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى رَدْعَهُم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشقِّ روايا الخمر وكسر الأواني لأنه أَبْلَغُ في الزجر وأَحْرَى بقطع العادة. وأيضاً فإن حديث عبادة واردٌ لا محالة قبل آية الجلد ؛ وذلك لأنه قال :" خُذُوا عَنّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً " فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولاً قبل ذلك ولما كان الحكم مأخوذاً عنه بل عن الآية، فثبت بذلك أن آية الجلد إنما نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي، فوجب أن يكون ناسخاً لما في حديث عبادة من النفي إن كان النفي حَدّاً.
ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحدٍّ أن الحدود معلومة المقادير والنهايات ولذلك سميت حدوداً لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، فلما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للنفي مكاناً معلوماً ولا مقداراً من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحدّ وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام، كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولاً إلى رأي الإمام، ولو كان ذلك حدّاً لذكر النبي صلى الله عليه وسلم مسافة الموضع الذي يُنْفَى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي.
وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متّفقون على أن المحصن يُرجم ولا يُجلد، والدليل على صحة ذلك حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العَسِيفِ وأن أبا الزاني قال : سألت رجلاً من أهل العلم فقالوا على امرأة هذا الرجم ؛ فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم بل عليها الرجم والجلد، وقال لأُنَيْس :" اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " ولم يذكر جلداً، ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم. وقد وردت قصة ماعز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جَلْدٌ، ولو كان الجلد حدّاً مع الرجم لجلده النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو جلده لنُقِلَ كما نُقل الرجم، إذ ليس أحدهما بأوْلى بالنقل من الآخر. وكذلك في قصة الغامدية حين أقرَّتْ بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت ولم يذكر جلداً، ولو كانت جُلدت لنُقل. وفي حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال : قال عمر :" قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، وقد قرأنا : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده "، فأخبر أن الذي فرضه الله هو الرجم وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم، ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره.
واحتجّ من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدّمناه وقوله :" الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ الجَلْدُ والرَّجْمُ "، وبما رَوَى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر :" أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم أخبر أنه قد أحصن فأمر به فرجم "، وبما رُوي :" أن عليّاً جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
فأما حديث عبادة فإنّا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حَدِّ الزانيين الحبس والأذى ناسخاً له لا واسطة بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم :" خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهنَّ سَبِيلاً "، ثم كان رَجْمُ ماعز والغامدية وقوله :" واغْدُ يا أُنَيْسُ على امْرَأَةِ هذا فإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا " بعد حديث عبادة، فلو كان ما ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتاً لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوجوه. وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض الحدِّ لأنه لم يعلم بإحصانه، ثم لما ثبت إحصانه رجمه ؛ وكذلك قول أصحابنا. ويحتمل حديث عليّ رضي الله عنه في جَلْدِهِ شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا الوجه.
واختلف الفقهاء في الذِّميَّيْنِ هل يُحَدَّان إذا زنيا ؟ فقال أصحابنا والشافعي :" يُحَدَّانَ " إلاّ أنهما لا يُرْجمان عندنا وعند الشافعي يُرجمان إذا كانا محصنَيْنِ، وقد بينا ذلك فيما سلف ؛ وقال مالك :" لا يحد الذميان إذا زنيا ". قال أبو بكر : وظاهر قوله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ والزَّاني فاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ يوجب الحدَّ على الذميين، ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن ا

باب تزويج الزانية


قال الله تعالى :﴿ الزّاني لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلك عَلَى المُؤْمِنِينَ ﴾. قال أبو بكر : روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدنية، وكان بمكة بَغِيٌّ يقال لها عناق وكانت صديقة له، وكان وعد رجلاً أن يحمله من أسرى مكة، وإن عناقاً رأته فقالت له : أقم الليلة عندي ! قال : يا عناق قد حرم الله الزنا ! فقالت : يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم ! فلما قدمتُ المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أتزوّج عناق ؟ فلم يردّ عليّ حتى نزلت هذه الآية :﴿ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تَنْكَحْهَا ! ". فبين عمرو بن شعيب في هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زَانٍ أو مشرك، وأن تزوُّجَ المسلم المشركة زِناً إذْ كانت لا تحل له.
وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها، فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى :﴿ الزّاني لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ : قد نسختها الآية التي بعدها :﴿ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ قال : كان يقال هي من أيامَى المسلمين ؛ فأخبر سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة. قال أبو عبيد : وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله :﴿ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ قال :" كان رجال يريدون الزنا بنساء زوانٍ بغايا مُعْلِنَاتٍ كنّ كذلك في الجاهلية، فقيل لهم هذا حرام، فأرادوا نكاحهن " ؛ فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساءٍ مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا. ورُوي عن عبدالله بن عمر في قوله :﴿ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ " أنه نزل في رجل تزوج امرأة بَغِيَّةً على أن تنفق عليه "، فأخبر عبدالله بن عمر أن النهي خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخلّيها والزنا. وروى حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" يعني بالنكاح جماعها ". وروى ابن شبرمة عن عكرمة :﴿ الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ قال :" لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله ". وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس :" بغايا كنَّ في الجاهلية يجعلن على أبوابهن راياتٍ كرايات البياطرة يأتيهنّ ناسٌ، يُعرفن بذلك ". وروى مغيرة عن إبراهيم النخعي :﴿ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ :" يعني به الجماع حين يزني "، وعن عروة بن الزبير مثله.
قال أبو بكر : فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن المرأة كالرجل في ذلك، فإذا كان الرجل زانياً فالمرأة مثله إذا طاوعته، وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها ؛ فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في الزنا، ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحدّ وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما جرى مجرى ذلك. ورُوي فيه قول آخر، وهو ما رَوَى عاصم الأحول عن الحسن في هذه الآية قال :" المحدود لا يتزوج إلا محدودة ".
واختلف السلف في تزويج الزانية، فرُوي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين :" أن من زَنَى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها ". ورُوي عن علي وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود :" أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا ". وعن علي :" إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته، وكذلك هي إذا زنت ".
قال أبو بكر : فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية، وفقهاءُ الأمصار متّفقون على جواز النكاح وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما، ولا يخلو قوله تعالى :﴿ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ من أحد وجهين : إما أن يكون خبراً وذلك حقيقته أو نهياً وتحريماً ؛ ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد، وممتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنّا وجدنا زانياً يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني، فعلمنا أنه لم يَرِدْ مورد الخبر، فثبت أنه أراد الحكم والنهي. فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء أو العقد، وحقيقةُ النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بينّاه في مواضع، فوجب أن يكون محمولاً عليه على ما رُوي عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع، ولا يُصرف إلى العقد إلا بدلالة ؛ لأنه مجاز ولأنه إذا ثبت أنه قد أُريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه. وأيضاً فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجباً للفرقة، إذ كانا جميعاً موصوفين بأنهما زانيان ؛ لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية، فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زَنَى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما في حال الزوجية يوجب الفرقة، ولا نعلم أحداً يقول ذلك ؛ وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمرأة الزانية أن تتزوج مشركاً، ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرَّمٌ منسوخ، فدلّ ذلك على أحد معنيين : إما أن يكون المراد الجماع على ما رُوي عن ابن عباس ومن تابعه، أو أن يكون حكم الآية منسوخاً على ما رُوي عن سعيد بن المسيب.
ومن الناس من يحتجّ في أن الزنا لا يبطل النكاح بما رَوَى هارون بن رئاب عن عبيدالله بن عبيد ويرويه عبدالكريم الجزري عن أبي الزبير، وكلاهما يرسله أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن امرأتي لا تمنع يد لامس، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاستمتاع منها، فيحمل ذلك على أنه لا تمنع أحداً ممن يريدها على الزنا. وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل، قالوا : لو صحّ هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق، قالوا : وهذا أوْلى ؛ لأنه حقيقة اللفظ، وحمله على الوطء كناية ومجاز، وحمله على ما ذكرنا أوْلى وأشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال عليّ وعبدالله : إذ جاءكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنّوا به الذي هو أَهْدَى والذي هو أَهْنَا والذي هو أتْقَى.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ أو لمستم النساء ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فجعل الجماع لمساً. قيل له : إن الرجل لم يقلْ للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنها لا تمنع لامساً، وإنما قال يَدَ لامس، ولم يقل فرج لامس ؛ وقال الله تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم ﴾ [ الأنعام : ٧ ]، ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد ؛ وقال جرير الخطفي يعاتب قوماً :
* أَلَسْتُمْ لِئَاماً إِذْ تَرُومُونَ جَارَهُمْ * ولَوْلا هُمُو لم تَمْنَعُوا كَفَّ لامِسِ *
ومعلوم أنه لم يُرِدْ به الوطء وإنما أراد أنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضَّيْمَ ومنع أموالكم هؤلاء القوم، فكيف ترومون جارهم بالظلم !.
ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهيٌّ عنه ما دامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح ؛ لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] يعني العفائف منهن ؛ ولأنها إذا كانت كذلك لا يُؤْمَنُ أن تأتي بولد من الزنا فتُلْحِقه به وتورثه ماله، وإنما يحمل قول من رخّص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا. ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما، فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاعُ الفرقة بقذفه إيّاها لاعترافه بما يوجب الفرقة، ألا ترى أنه لو أقرّ أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول.
فإن قيل : لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللّعان دلَّ ذلك على أن الزنا يوجب التحريم، لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان. قيل له : لو كان كما ذكرتَ لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان، فلما لم تقع بالقذف دلّ على فساد ما ذكرت.
فإن قيل : إنما وقعت الفرقة باللعان لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا، فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل الزنا. قيل له : وهذا غلط أيضاً ؛ لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها، إذ ليست إحدى الشهادتين بأوْلى من الأخرى ؛ ولو كان الزوج محكوماً له بقبول شهادته علهيا بالزنا لوجب أن تحُدَّ حَدَّ الزنا، فلما لم تحدَّ بذلك دل على أنه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج ؛ والله أعلم بالصواب.

باب حد القذف


قال الله عز وجل :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾. قال أبو بكر : الإحصان على ضربين، أحدهما : ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني، وهو أن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً قد تزوج امرأة نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما كذلك، والآخر : الإحصان الذي يوجب الحدَّ على قاذفه، وهو أن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً عفيفاً. ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى.
قال أبو بكر : قد خصّ الله تعالى المحصنات بالذكر، ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحدَّ وجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة. واتفق الفقهاء على أن قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ﴾ قد أُريد به الرمي بالزنا وإن كان في فحوى اللفظ دلالة عليه من غير نصّ، وذلك لأنه لما ذكر المحصنات وهن العفائف دلّ على أن المراد بالرمْي رميها بضدّ العفاف وهو الزنا. ووجه آخر من دلالة فحوى اللفظ، وهو قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾ يعني : على صحة ما رموه به ؛ ومعلوم أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا، فدل على أن قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ﴾ معناه : يرمونهن بالزنا. ويدل ذلك على معنى آخر، وهو أن القذف الذي يجب به الحدّ إنما هو القذف بصريح الزنا، وهو الذي إذا جاء بالشهود عليه حُدَّ المشهود عليه، ولولا ما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه لم يكن ذكر الرمي مخصوصاً بالزنا دون غيره من الأمور التي يقع الرمْيُ بها، إذْ قد يرميها بسرقة وشُرْبِ خمر وكُفْرٍ وسائر الأفعال المحظورة، ولم يكن اللفظ حينئذ مكتفياً بنفسه في إيجاب حكمه بل كان يكون مجملاً موقوف الحكم على البيان ؛ إلا أنه كيفما تصرفت الحال فقد حصل الاتفاق على أن الرمْيَ بالزنا مرادٌ، ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله : والذين يرمون المحصنات بالزنا ؛ إذْ حصول الإجماع على أن الزنا مراد بمنزلة ذكره في اللفظ، فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصوراً على القذف بالزنا دون غيره.
وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي :" لا حدَّ في التعريض بالقذف ". وقال مالك :" عليه فيه الحدّ ". ورَوَى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال :" كان عمر يضرب الحدَّ في التعريض ". وروى ابن وهب عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة :" أن رجلين اسْتَبَّا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أحدهما للآخر : والله ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية ! فاستشار في ذلك عمر الناس، فقال قائل : مدح أباه وأمه، وقال آخرون : قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، نرى أن يُجلد الحدَّ ؛ فجلده عمر الحدَّ ثمانين " ؛ ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا قُبل خلافهم، فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف. ثم لما ثبت أن المراد بقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ﴾ هو الرمْيُ بالزنا لم يَجُزْ لنا إيجابُ الحدّ على غيره، إذْ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض، وفي مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالةٌ على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنه قاله اجتهاداً ورأياً. وأيضاً فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني، وغير جائز إيجاب الحدّ بالاحتمال لوجهين، أحدهما : أن الأصل أن القائل برىءُ الظهر من الجَلْدِ فلا نجلده بالشكّ والمحتمل مشكوك فيه، ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلّق امرأته البتة استحلفه النبي صلى الله عليه وسلم بالله ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال ؟ ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق إنها لا تجعل طلاقاً إلا بدلالة. والوجه الآخر : ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ادْرَؤُوا الحُدُودَ بالشُّبُهَاتِ "، وأقلّ أحوال التعريض حين كان محتملاً للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه. وأيضاً قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبين التصريح فقال :﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرّاً ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] يعني نكاحاً، فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس ؛ فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف، والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما كان فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه.
واختلف الفقهاء في حَدِّ العبد في القذف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتّي والثوري والشافعي :" إذا قذف العبد حرّاً فعليه أربعون جَلْدَةً ". وقال الأوزاعي :" يُجلد ثمانين ". ورَوَى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليّاً قال :" يجلد العبد في الفِرْيَةِ أربعين ". وروى الثوريُّ عن ابن ذكوان عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال :" أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومَنْ بعدهم من الخلفاء فلم أرَهُمْ يضربون المملوك في القذف إلا أربعين ". قال أبو بكر : وهو مذهب ابن عباس وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء. وروى ليث بن أبي سليم عن القاسم بن عبدالرّحمن أن عبدالله بن مسعود قال في عبد قذف حُرّاً :" إنّه يجلد ثمانين ". وقال أبو الزناد :" جلد عمر بن عبدالعزيز عبداً في الفِرْيَةِ ثمانين ". ولم يختلفوا في أن حَدَّ العبد في الزنا خمسون على النصف من حَدِّ الحر لأجل الرقّ، وقال الله تعالى :﴿ فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ [ النساء : ٢٥ ] فنصَّ على حَدِّ الأَمَةِ وأنه نصف حدّ الحرة، واتفق الجميع على أن العبد بمنزلتها لوجود الرقّ فيه، كذلك يجب أن يكون حَدُّهُ في القذف على النصف من حَدِّ الحر لوجود الرقّ فيه.
واختلفوا في قاذف المجنون والصبيّ، فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي :" لا حدَّ على قاذف المجنون والصبيّ ". وقال مالك :" لا يحُدُّ قاذف الصبي وإن كان مثله يجامع إذا لم يبلغ، ويحد قاذف الصبية إذا كان مثلها تُجَامَعُ وإن لم تحصن، ويحد قاذف المجنون ". وقال الليث :" يحد قاذف المجنون ".
قال أبو بكر : المجنون والصبيّ والصبية لا يقع من واحد منهم زِناً ؛ لأن الوطء منهم لا يكون زناً، إذْ كان الزنا فعلاً مذموماً يستحق عليه العقاب وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم، فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون لوقوع العلم بكذب القاذف ولأنهم لا يلحقهم شَيْنٌ بذلك الفعل لو وقع منهم، فكذلك لا يَشِينُهم قذف القاذف لهم بذلك. ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه فيه، ألا ترى أن الوكالة غير مقبولة فيه ؟ وإذا كان كذلك لم تجب المطالبة لأحد وقت القذف، فلم يجب الحدّ لأن الحد إذا وجب فإنما يجب بالقذف لا غير.
فإن قيل : فللرجل أن يأخذ بحد أبيه إذا قُذف وهو ميت، فقد جاز أن يُطالب عن الغير بحدّ القذف. قيل له : إنما يطالب عن نفسه لما حصل به من القدح في نَسَبِهِ ولا يُطالب عن الأب. وأيضاً لما اتفقوا على أن قاذف الصبي لا يُحَدُّ كان كذلك قاذف الصبية لأنهما جميعاً من غير أهل التكليف ولا يصح وقوع الزنا منهما، فكذلك المجنون لهذه العلّة.
واختلفوا فيمن قذف جماعة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري والليث :" إذا قذفهم بقول واحد فعليه حَدٌّ واحد ". وقال ابن أبي ليلى :" إذا قال لهم يا زناة فعليه حَدُّ واحد، وإن قال لكل إنسان يا زاني فلكل إنسان حدّ "، وهو قول الشعبي. وقال عثمان البَتّي :" إذا قذف جماعةً فعليه لكل واحد حَدٌّ، وإن قال لرجل زنيتَ بفلانة فعليه حدّ واحد ؛ لأن عمر ضرب أبا بكرة وأصحابه حداً واحداً ولم يحدَّهُم للمرأة ". وقال الأوزاعي :" إذا قال يا زاني ابن زانٍ فعليه حدَّان، وإن قال لجماعة إنكم زناة فحدٌّ واحد ". وقال الحسن بن صالح :" إذا قال من كان داخل هذه الدار فهو زانٍ ضُرِبَ لمن كان داخلها إذا عرفوا ". وقال الشافعي فيما حكاه المُزَنيُّ عنه :" إذا قذف جماعةً بكلمة واحدة فكل واحد حَدٌّ، وإن قال لرجل واحد يا ابن الزانيين فعليه حدَّان "، وقال في أحكام القرآن :" إذا قذف امرأته برجل لاعن ولم يحدّ للرجل ".
قال أبو بكر : قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾، ومعلوم أن مراده جَلْدُ كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة، فكان تقدير الآية : ومن رمى محصناً فعليه ثمانون جلدة، وهذا يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يُجلد أكثر من ثمانين، ومن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حَدٍّ واحد فهو مخالف لحكم الآية. ويدلُّ عليه من جهة السنَّة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عديّ قال : أنبأنا هشام بن حسان قال : حدثني عكرمة عن ابن عباس : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ ! " فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة ؟ ! فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول :" البَيِّنَة وإلا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ ! " فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادقٌ وليُنْزِلَنَّ الله في أمري ما يبرىء ظهري من الحد ! فنزلت :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾، وذكر الحديث. وروى محمد بن كثير قال : حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس : أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته، فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :" ائْتِ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وإلاّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ ! " قال ذلك مراراً، فنزلت آية اللعان. قال أبو بكر : قد ثبت بهذا الخبر أن قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ﴾ الآية، كان حكماً عاماً في الزوجات كهو في الأجنبيات، لقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية :" ائْتِ بأَرْبَعة شُهَدَاءَ وإلا فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ " ولأن عموم الآية قد اقتضى ذلك، ثم لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حدّاً واحداً مع قذفه لامرأته ولشريك بن سحماء، إلى أن نزلت آية اللعان فأُقيم اللعانُ في الزوجات مقام الحَدِّ في الأجنبيات، ولم ينسخ موجب الخبر من وجوب الاقتصار على حدّ واحد إذا قذف جماعة، فثبت بذلك أنه لا يجب على قاذف الجماعة إلا حَدٌّ واحد. ويدل عليه من جهة النظر أن سائر ما يوجب الحد إذا وُجِدَ منه مراراً لا يوجب إلا حَدّاً واحداً، كمن زنى مراراً أو سرق مراراً أو شرب مراراً لم يُحَدَّ إلا حدّاً واحداً، فكان اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد مُوجِباً لسقوط بعضها والاقتصار على واحد منها والمعنى الجامع بينهما أنها حَدٌّ، وإن شئت قلت إنه مما يسقط بالشبهة.
فإن قيل : حَدُّ القذف حَقٌّ لآدميّ، فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم استيفاء

باب اللّعان


قال الله عز وجل :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ﴾ إلى آخر القصة. قال أبو بكر : كان حَدُّ قاذف الأجنبيات والزوجات الجَلْد، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء :" ائْتِنِي بأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإِلاّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ "، وقال الأنصار : أيجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين ! فثبت بذلك أن حدّ قاذف الزوجات كان كحدِّ قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان :" ائْتِنِي بِصَاحِبَتِكَ فَقَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وفيها قُرْآناً " ولاعن بينهما. ورُوي نحو ذلك في حديث عبدالله بن مسعود في الرجل الذي قال : أرأيتم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ ! فدلت هذه الأخبار على أن حَدَّ قاذف الزوجة كان الجلد وأن الله تعالى نسخه باللعان، ومن أجل ذلك قال أصحابنا : إن الزوج إذا كان عبداً أو محدوداً في قذف فلم يجب اللعان بينهما أن عليه الحد، كما أنه إذا أكذب نفسه فسقط اللعان من قِبَلِهِ كان عليه الحد، وقالوا : لو كانت المرأة هي المحدودة في القذف أو كانت أَمَةً أو ذِمِّية أنه لا حدَّ على الزوج ؛ لأنه قد سقط اللعان من قِبَلِها فكان بمنزلة تصديقها الزوج بالقذف لما سقط اللعان من جهتها لم يجب على الزوج الحد.
واختلف الفقهاء فيمن يجب بينهما اللعان من الزوجين، فقال أصحابنا جميعاً أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد :" يسقط اللعان بأحد معنيين أيهما وجد لم يجب معه اللعان، وهو أن يكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبيّاً نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية أو قد وطئت وطأً حراماً في غير ملك، والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو كافراً أو عبداً، فأما إذا كان أحدهما أعمى أو فاسقاً فإنه يجب اللعان ". وقال ابن شبرمة :" يلاعن المسلم زوجته اليهودية إذا قذفها ". وقال ابن وهب عن مالك :" الأَمَةُ المسلمة والحرّةُ والنصرانية واليهودية تلاعن الحرَّ المسلم، وكذلك العبد يلاعن زوجته اليهودية ". وقال ابن القاسم عن مالك :" ليس بين المسلم والكافر لِعَانٌ إذا قذفها إلا أن يقول رأيتها تزني فتُلاعِنُ سواءٌ ظهر الحمل أو لم يظهر، لأنه يقول أخاف أن أموت فيلحق نسب ولدها بي، وإنما يلاعن المسلم الكافر في دَفْع الحمل ولا يلاعنها فيما سوى ذلك، وكذلك لا يلاعن زوجته الأمة إلا في نفي الحمل " قال :" والمحدود في القذف يلاعن، وإن كان الزوجان جميعاً كافرين فلا لعان بينهما، والمملوكان المسلمان بينهما لعانٌ إذا أراد أن ينفي الولد ". وقال الثوري والحسن بن صالح :" لا يجب اللعان إذا كان أحد الزوجين مملوكاً أو كافراً ويجب إذا كان محدوداً في قذف ". وقال الأوزاعي :" لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته ". وقال الليث في العبد إذا قذف امرأته الحرة وادَّعَى أنه رأى عليها رجلاً :" يلاعنها ؛ لأنه يحد لها إذا كان أجنبيّاً ؛ فإن كانت أَمَةً أو نصرانية لاعنها في نفي الولد إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها في الرؤية لأنه لا يحدّ لها، والمحدود في القذف يلاعن امرأته ". وقال الشافعي :" كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض ".
قال أبو بكر : فأما الوجه الأول من الوجهين اللذين يسقطان اللعان فإنما وجب ذلك به من قِبَلِ اللعان في الأزواج أُقيم مقام الحدّ في الأجنبيات، وقد كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية جميعاً الجلد بقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ ثم نُسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء :" ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإِلاّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ " وقول الرجل الذي قال : أرأيتم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت عن غيظ ! فأنزلت آية اللعان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية :" قَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وفي صَاحِبَتِكَ قُرْآناً فَائْتِنِي بِها " ؛ فلما كان اللعانُ في الأزواج قائماً مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على قاذف من لا يجب عليه الحدّ لو قذفها أجنبيّ. وأيضاً فقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم اللعان حدّاً ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني قال : حدثنا عبدالرحمن بن موسى قال : حدثنا روح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المرأة وزوجها فرق بينهما وقال :" إِنْ جَاءَتْ به أَرَحَّ القَدَمَيْنِ يُشْبِهُ فُلاناً فَهُوَ مِنْهُ " قال : فجاءت به يشبهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَوْلا ما مَضَى مِنَ الحَدِّ لَرَجَمْتُها "، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللعان حدٌّ، ولما كان حدّاً لم يجز إيجابه على الزوج إذا كانت المرأة مملوكة إذ كان حدّاً مثل حدّ الجلد، ولما كان حدّاً لم يجب على قاذف المملوك.
فإن قيل : لو كان حدّاً لما وجب على الزوج إذا قذف امرأته الحرة الجلدُ إذا أكذب نفسه بعد اللعان، إذْ غير جائز أن يجتمع حدَّان بقذف واحد، وفي إيجاب حدّ القذف عليه عند إكذابه نفسه دليل على أن اللعان ليس بحد. قيل له : قد سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم حدّاً، وغير جائز استعمال النظر في دفع الأثر، ومع ذلك فإنما يمتنع اجتماع الحدَّيْن عليه إذا كان جَلْداً فأما إذا كان أحدهما جلداً والآخر لعاناً فإنا لم نجد في الأصول خلافه ؛ وأيضاً فإن اللعان إنما هو حَدٌّ من طريق الحكم، فمتى أكذب نفسه وجُلِدَ الحَدَّ خرج اللعانُ من أن يكون حدّاً، إذْ كان ما يصير حدّاً من طريق الحكم فجائز أن يكون تارةً حدّاً وتارة ليس بحدّ، فكذلك كل ما تعلق بالشيء من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة على وصف وأخرى على وصف آخر. وإنما قلنا إن من شرط اللعان أن يكون الزوجان جميعاً من أهل الشهادة لقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله ﴾ إلى آخر القصة ؛ فلما سمَّى الله لعانهما شهادة ثم قال في المحدود في القذف :﴿ ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ وجب بمضمون الآيتين انتفاءُ اللعان عن المحدود في القذف، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في سائر من خرج من أن يكون من أهل الشهادة مثل العبد والكافر ونحوهما، ومن جهة أخرى أنه إذا ثبت أن المحدود في القذف لا يلاعن وجب مثله في سائر من ليس هو من أهل الشهادة، إذْ لم يفرق أحدٌ بينهما لأن كل من لا يوجب اللعان على المحدود لا يوجبه على من ذكرنا. ووجه آخر من دلالة الآية، وهو قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ ﴾، فلا يخلو المراد به من أن يكون الإيمان فحسب من غير اعتبار معنى الشهادة فيه أو أن يكون إيماناً ليعتبر فيها معنى الشهادة على ما تقوله، فلما قال تعالى :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ ﴾ علمنا أنه أراد أن يكون الملاعن من أهل الشهادة، إذْ غير جائز أن يكون المراد ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم، إذ كل أحد لا يحلف إلا عن نفسه ولا يجوز إحلاف الإنسان عن غيره، ولو كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم لاستحال وزالت فائدته، فثبت أن المراد أن يكون الشاهد في ذلك من أهل الشهادة وإن كان ذلك يميناً. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله ﴾، فلم يَخْلُ المرادُ من أن يكون الإتيان بلفظ الشهادة في هذه الأيمان أو الحلف من كل واحد منهما سواء كان بلفظ الشهادة أو بغيرها بعد أن يكون حلفاً، فلما كان قول القائل بجواز قبول اليمين منهما على أي وجه كانت كان مخالفاً للآية وللسنة لأن الله تعالى قال :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله ﴾ كما قال تعالى :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] وقال :﴿ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ﴾ [ النساء : ١٥ ] ولم يجز الاقتصار على الإخبار دون إيراده بلفظ الشهادة، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين دونها، ولما كان ذلك كذلك علمنا أن شرط هذه الأيمان أن يكون الحالف بها من أهل الشهادة ويلاعنان.
فإن قيل : الفاسق والأعمى ليسا من أهل الشهادة ويلاعنان. قيل له : الفاسق من أهل الشهادة من وجوه، أحدها : أن الفسق الموجب لردّ الشهادة قد يكون طريقه الاجتهاد في الردّ والقبول. والثاني : أنه غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق لا يجوز أن يحكم به الحاكم، فلما لم تبطل شهادته من طريق الحكم لم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة. والثالث : أن فسقه في حال لعانه غير متيقن، إذْ جائز أن يكون تائباً فيما بينه وبين الله تعالى فيكون عدلاً مرضيّاً عند الله، وليس هذه الشهادة يستحق بها على الغير فتردّ من أجل ما عُلم من ظهور فسقه بديّاً، فلم يمنع فسقه من قبول لعانه وإن كان من شرطه كونه من أهل الشهادة، وليس كذلك الكفر لأن الكافر لو اعتقد الإسلام لم يكن مسلماً إلا بإظهاره إذا أمكنه ذلك فكان حكم كفره باقياً مع اعتقاده لغيره ما لم يظهر الإسلام ؛ وأيضاً فإن العدالة إنما تعتبر في الشهادة التي يستحق بها على الغير فلا يحكم بها للتهمة، والفاسق إنما رُدَّت شهادته في الحقوق للتهمة، واللعان لا تبطله التهمة، فلم يجب اعتبار الفسق في سقوطه ؛ وأما الأعمى فإنه من أهل الشهادة كالبصير لا فرق بينهما، إلا أن شهادته غير مقبولة في الحقوق لأن بينه وبين المشهود عليه حائلاً، وليس شرط شهادة اللعان أن يقول :" رأيتها تزني " إذ لو قال :" هي زانية ولم أَرَ ذلك " لاعن، فلما لم يحتج إلى الإخبار عن معاينة المشهود به لم يبطل لعانه لأجل عماه. وقد رُوي في معنى مذهب أصحابنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار، منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن داود السراج قال : حدثنا الحكم بن موسى قال : حدثنا عتاب بن إبراهيم عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ مُلاعَنَةٌ : اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ المُسْلِمِ والحُرَّةُ تَحْتَ المَمْلُوكِ والمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الحُرِّ "، وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن حمويه بن سيار قال : حدثنا أبو سيار التستري قال : حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجاهد المصيصي قال : أخبرنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صد
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ نزلت في الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها، فأخبر الله أن ذلك كذب، والإفكُ هو الكذب، ونال النبيَّ وأبا بكر وجماعةً من المسلمين غَمٌّ شديد وأَذًى وحزنٌ، فصبروا على ذلك فكان ذلك خيراً لهم، ولم يكن صبرهم واغتمامهم بذلك شَرّاً لهم بل كان خيراً لهم لما نالوا به من الثواب ولما لحقهم أيضاً من السرور ببيان الله براءة عائشة وطهارتها ولما عرفوا من الحكم في القاذف.
وقوله تعالى :﴿ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ﴾ يعني والله أعلم : عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه.
وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ﴾، رُوي أنه عبدالله بن أبيّ ابن السَّلول وكان منافقاً، وكِبْرُهُ هو عِظَمُه وإن عظم ما كان فيه، لأنهم كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يُشِيعون ذلك ويظهرونه، وكان هو يقصد بذلك أذَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى أبي بكر والطعن عليهما.
قوله تعالى :﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾، هو أمر المؤمنين بأن يظنوا خيراً بمن كان ظاهره العدالة وبراءة الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظنّ ؛ وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا عن معاينة وإنما قذفوها تَظَنُّناً وحسباناً لما رأوها متخلّفة عن الجيش قد ركبت جمل صفوان بن المعطّل يقوده. وهذا يدلّ على أن الواجب لمن كان ظاهره العدالة أن يُظَنَّ به خيراً ولا يظن به شرّاً، وهو يوجب أن يكون أمور المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلاً فاعترفا بالتزويج : إنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما ؛ وزعم مالك بن أنس أنه يحدّهما إن لم يقيما بَيِّنَةً على النكاح. ومن ذلك أيضاً ما قال أصحابنا فيمن باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين : إنّا نخالف بينهما لأنّا قد أُمرنا بحسن الظن بالمؤمنين وحَمْلِ أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما، وكذلك إذا باعه سيفاً محلًّى فيه مائة درهم بمائتي درهم أنّا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف، فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقداً جائزاً ولا نحمله على الفساد وما لا يجوز. وهذا يدل أيضاً على صحة قول أبي حنيفة في أن المسلمين عُدُولٌ ما لم تظهر منهم ريبة ؛ لأنا إذا كنا مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين بما يسقط العدالة، فقد أُمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر حالهم، وذلك يوجب التزكية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب التوقف عنها أو ردَّها ؛ وقال تعالى :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ [ يونس : ٣٦ ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِيَّاكُمْ والظَّنَّ فإِنَّهُ أَكْذَبُ الحَدِيثِ ".
وقوله :﴿ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ﴾ فإنه يحتمل معنيين، أحدهما : أن يظن بعضهم ببعض خيراً، كقوله :﴿ فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ﴾ [ النور : ٦١ ] والمعنى : فليسلم بعضكم على بعض، وكقوله :﴿ لا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] يعني : لا يقتل بعضكم بعضاً. والثاني : أنه جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم مكروهٌ فكأنه قد جرى على جميعهم، كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو عبدالله أحمد بن دوست قال : حدثنا جعفر بن حميد قال : حدثنا الوليد بن أبي ثور قال : حدثنا عبدالملك بن عمير عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَثَلُ المُسْلِمِينَ في تَوَاصُلِهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ والَّذِي جَعَلَ الله بَيْنَهُمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذَا وَجِعَ بَعْضُهُ وَجِعَ كُلُّهُ بالسَّهَرِ والحُمَّى ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال : حدثنا محمد بن عبدالملك بن زنجويه قال : حدثنا عبدالله بن ناصح قال : حدثنا أبو مسلم عبدالله بن سعيد عن مالك بن مِغْوَلٍ عن أبي بردة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المُؤْمِنُونَ للمُؤْمِنِينَ كالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً ".
فإن قيل : لما قال تعالى :﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ دَلّ ذلك على أن على الناس إذا سمعوا مَنْ يقذف آخر أن يحكموا كذبه ورَدِّ شهادته إلى أن يأتي بالشهداء. قيل له : معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها وقَذَفَتِها ؛ لأنه قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك، وقاذفوها أيضاً لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنّاً منهم وحسباناً حين تخلّفَتْ، ولم يَدَّعِ أَحد أنهم أنه رأى ذلك، ومن أخبر عن ظَنِّ في مثله فعلينا إكذابُه والنكيرُ عليه. وأيضاً لما قال في نسق التلاوة :﴿ فإِذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾، فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة، علمنا أنه لم يرد بقوله :﴿ وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ إيجابَ الحكم بكذبهم بنفس القذف، وأن معناه : وقالوا هذا إفك مبين إذا سمعوه ولم يأت القاذف بالشهود. والشافعي يزعم أن شهود القذف إذا جاؤوا متفرقين قُبلت شهادتهم ؛ فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاثة، لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه ؛ وفي قبول شهادتهم إذا جاؤوا متفرقين ما يُلْزِمُه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف. ويدل على صحة قولنا من جهة السنّة ما رَوَى الحجّاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ علَى بَعْضٍ إِلاّ مَحْدُوداً في قَذْفٍ "، فأخبر صلى الله عليه وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحدَّ. ويدل عليه أيضاً حديث عبّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيُجْلَدُ هلالٌ وتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ في المُسْلِمِينَ " فأخبر أن بُطْلانَ شهادته معلَّقٌ بوقوع الجلد به، ودلّ بذلك أن القذف لم يبطل شهادته.
واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، فقل أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح :" لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب ". وقال مالك وعثمان البتّي والليث والشافعي :" تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب ". وقال الأوزاعي :" لا تقبل شهادة محدود في الإسلام ".
قال أبو بكر : روى الحجّاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبداً وأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾، ثم استثنى فقال :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا ﴾ فتاب عليهم من الفسق، وأما الشهادة فلا تجوز. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا حجاج ؛ وقد ورد عن ابن عباس أيضاً ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا ابن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ قال : ثم قال :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا ﴾ قال :" فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة ". قال أبو بكر : ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفاً لما رُوي عنه في الحديث الأوّل، بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب، والأول على أنه جُلد فلا تُقبل شهادته وإن تاب. ورُوي عن شُريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا :" لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله ". وقال إبراهيم :" رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبداً ". ورُوي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري :" أن شهادته تقبل إذا تاب ". ورُوي عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبي بكرة :" إن تبْتَ قُبلت شهادتك "، وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان : عن سعيد بن المسيب، ثم شكّ وقال : هو عمر بن قيس، أن عمر قال لأبي بكرة :" إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب " ؛ فشكّ سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس. ويقال إن عمر بن قيس مطعونٌ فيه، فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول. ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبي بكرة، وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف. وقد رُوي عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة بعد التوبة ؛ فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه، ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبي بكرة بعدما جلده، وجائز أن يكون قاله قبل الجلد.
قال أبو بكر : وما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسِمَة الفسق جميعاً فيرفعها، والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سِمَةِ الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلاّ بدلالة، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ﴾ [ الحجر : ٥٩ ]، فكانت المرأة مستثناةً من المُنَجَّيْنِ لأنها تَلِيهِمْ، ولو قال رجل لفلان :" عليَّ عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم " كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة، وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه. ويدل عليه أيضاً أن قوله :﴿ فإن لم تكونوا دخلتم بهن ﴾ [ النساء : ٢٣ ] في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء لأنه يليهنّ ؛ فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه. وأيضاً فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموماً، وجب أن يكون حكم العموم ثابتاً وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها.
فإن قيل : قال الله تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ﴾ [ المائدة : ٣٣ ] إلى قوله :﴿ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ﴾ [ المائدة : ٣٤ ]، فكان الاستثناء راجعاً إلى جميع المذكور لكونه معطوفاً بعضه على بعض، وقال تعالى :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] ثم قال :﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحَدَثِ، فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه. قيل له : قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة، وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى الجميع المذكور.
فإن قيل : إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالماً مشهوراً في اللغة، فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع ؟ قيل له : لو سلّمنا لك ما ادّعَيْتَ من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه أو إلى جميع المذكور، وإذا كان كذلك وك
قوله تعالى :﴿ لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فإِذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فأُولئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾. قد أبانت هذه الآية عن معنيين، أحدهما : أن الحد واجب على القاذف ما لم يأت بأربعة شهداء، والثاني : أنه لا يُقبل في إثبات الزنا أقَلُّ من أربعة شهداء. وقوله :﴿ فإِذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فأُولَئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾، قال أبو بكر : قد حوى ذلك معنيين، أحدهما : أنهم متى لم يقيموا أربعة من الشهداء فهم محكومون بكذبهم عند الله في إيجاب الحدّ عليهم، فيكون معناه : فأولئك في حكم الله هم الكاذبون ؛ فيقتضي ذلك الأمر بالحكم بكذبهم، فإن كان جائزاً أن يكونوا صادقين في المُغَيَّبِ عند الله، وذلك جائز سائغ، كما قد تعبدنا بأن نحكم لمن ظهر منه عمل الخيرات وتجنب السيئات بالعدالة وإن كان جائزاً أن يكون فاسقاً في المغيَّبِ عند الله تعالى. والوجه الثاني : أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها وفي قَذَفَتِها، فأخبر بقوله :﴿ فَأُولئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكَاذِبُونَ ﴾ بمغيَّبِ خبرهم وأنه كَذِبٌ في الحقيقة لم يرجعوا فيه إلى صحة، فمن جَوَّزَ صدق هؤلاء فهو رادٌّ لخبر الله.
قوله تعالى :﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بأَفْوَاهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾. قرىء :" تَلَقَّوْنَه " بالتشديد. قال مجاهد :" يرويه بعضهم عن بعض ليشيعه ". وعن عائشة :" تَلِقُونَهُ " من وَلْقِ الكذب، وهو الاستمرار عليه ؛ ومنه : وَلَقَ فلان في السير إذا استمر عليه. فذمّهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به، وذلك قوله :﴿ وَتَقُولُونَ بأَفْوَاهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾، وهو نحو قوله :﴿ ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] ؛ فأخبر أن ذلك وإن كان يقيناً في ظنهم وحُسْبَانهم فهو عظيم الإثم عنده ليرتدعوا عن مثله عند علمهم بموقع المأثم فيه، ثم قال :﴿ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ تعليماً لنا بما نقوله عند سماع مثله فيمن كان ظاهر حاله العدالة وبراءة الساحة.
قوله تعالى :﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ أي : تنزيهاً لك من أن نغضبك بسماع مثل هذا القول في تصديق قائله، وهو كذب وبهتان في ظاهر الحكم.
قوله تعالى :﴿ يَعِظُكُمُ الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ﴾ ؛ فإنه تعالى يَعِظُنا ويزجرنا بهذه الزواجر وعقاب الدنيا بالحدّ مع ما نستحق من عقاب الآخرة لئلا نعود إلى مثل هذا الفعل أبداً، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ بالله مصدقين لرسوله.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَة في الَّذِينَ آمَنُوا ﴾. أبان الله بهذه الآية وجوب حُسْنِ الاعتقاد في المؤمنين ومحبة الخير والصلاح لهم، فأخبر فيها بوعيد من أحب إظهار الفاحشة والقذف والقول القبيح للمؤمنين وجعل ذلك من الكبائر التي يستحق عليها العقاب، وذلك يدلّ على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كَفِّ الجوارح والقول عما يضرُّ بهم. وروى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" المُؤْمِنُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ويَدِهِ والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عَنْهُ "، وقال :" لَيْسَ بمُؤْمِنٍ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال : حدثنا سهل بن عثمان قال : حدثنا زياد بن عبدالله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ويَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله ويُحِبَّ أَنْ يَأْتِيَ إِلى النَّاسِ ما يُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا إبراهيم بن هشام قال : حدثنا هدبة قال : حدثنا همام قال : حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يُؤْمِنُ العَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنفْسِهِ مِنَ الخَيْرِ ".
قوله تعالى :﴿ وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى ﴾. رُوي عن ابن عباس وعائشة أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويتيمين كانا في حِجْرِهِ ينفق عليهما، أحدهما مِسْطَحُ بن أثاثة، وكانا ممن خاض في أمر عائشة، فلما نزلت براءتها حلف أبو بكر أن لا ينفعهما بنفع أبداً، فلما نزلت هذه الآية عاد له وقال : بلى والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي، والله لا أنزعها عنهما أبداً ! وكان مسطح ابن خالة أبي بكر مسكيناً ومهاجراً من مكة إلى المدينة من البدريين. وفي هذا دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خَيْرٌ ؛ ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ". ومن الناس من يقول إنه يَأْتِي الذي هو خير وذلك كفارته، وقد رُوي أيضاً في حديثٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويَحْتَجُّ من يقول ذلك بظاهر هذه الآية وأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة.
وليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة ؛ لأن الله قد بيَّن إيجابَ الكفارة في قوله :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ﴾ [ المائدة : ٨٩ ]، وقوله :﴿ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ [ المائدة : ٥٩ ]، وذلك عموم فيمن حَنَثَ فيما هو خير وفي غيره. وقال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها. ﴿ وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ﴾ [ ص : ٤٤ ]، وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه وأمره الله تعالى بضَرْبٍ لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يَحْنَثُ بلا كفارة. وأما ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْها فَلْيَأْتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وذَلِكَ كَفَّارَتُهُ ". فإن معناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب ؛ وذلك لأنه منهيٌّ عن أن يحلف على ترك طاعة الله، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف.
قوله تعالى :﴿ الخَبِيثَاتُ للخَبِيثِينَ والخَبِيثُونَ للخَبِيثَاتِ ﴾. رُوي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحّاك قالوا :" الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال ".
ورُوي عن ابن عباس أيضاً أنه قال :" الخبيثات من السّيئات للخبيثين من الرجال "، وهو قريب من الأول، وهو نحو قوله :﴿ قل كلّ يعمل على شاكلته ﴾ [ الإسراء : ٨٤ ]. وقيل : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، على نحو قوله :﴿ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ ﴾ وأن ذلك منسوخ بما ثبت في موضعه.

باب الاستئذان


قال الله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ﴾. رُوي عن ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم وقتادة قالوا :" الاستئناس الاستئذان " فيكون معناه : حتى تستأنسوا بالإذن. ورَوَى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذا الحرف :" حتى تستأذنوا " وقال :" غلط الكاتب ". وروى القاسم بن نافع عن مجاهد :﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ قال :" هو التنحنح والتنخُّع ". وفي نسق التلاوة ما دلّ على أنه أراد الاستئذان، وهو قوله :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾. والاستيناس قد يكون للحديث كقوله تعالى :﴿ ولا مستأنسين لحديث ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ]، وكما رُوي عن عمر في حديثه الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفرد في مشربة له حين هجر نساءه، فاستأذنت عليه فقال الآذِنُ : قد سمع كلامك، ثم أذن له ؛ فذكر أشياء وفيه قال : فقلت : استأنسُ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال :" نعم ". وإنما أراد به الاستيناس للحديث، وذلك كان بعد الدخول. والاستيناس المذكور في قوله :﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ لا يجوز أن يكون المراد به الحديث ؛ لأنه لا يصل إلى الحديث إلا بعد الإذن، وإنما المراد الاستئذان للدخول، وإنما سُمّي الاستئذان استيناساً لأنهم إذا استأذنوا أو سلّموا أَنِسَ أهلُ البيوت بذلك، ولو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا وشقَّ عليهم. وأُمِرَ مع الاستئذان بالسلام إِذْ هو من سُنَّةِ المسلمين التي أُمروا بها، ولأن السلام أمان منه لهم وهو تحية أهل الجنة ومَجْلَبَةٌ للمودة ونافٍ للحقد والضغينة ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا يوسف بن يعقوب قال : حدثنا محمد بن أبي بكر قال : حدثنا صفوان بن عيسى قال : حدثنا الحارث بن عبدالرّحمن بن أبي رئاب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لمَّا خَلَقَ الله آدَمَ فَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ الحَمْدُ لله، فَحَمِدَ الله بإِذْنِ الله، فقَالَ لَهُ رَبُّهُ : رَحِمَكَ رَبُّكَ ! آدَمُ اذْهَبْ إلى هَؤُلاءِ المَلائِكَةِ مَلإٍِ مِنْهُمْ جُلُوسٌ فَقُلْ السَّلامُ عَلَيْكُمْ ! فَقَالَ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله ؛ ثمَّ رَجِعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ : هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن إسحاق بن راطية قال : حدثنا إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا يحيى بن نصر بن حاجب قال : حدثنا هلال بن حماد عن زاذان عن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌّ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ ويُجِيبهُ إِذا دَعَاهُ ويَنْصَحُ له بالغَيْبِ ويُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ ويَعُودُهُ إِذا مَرِضَ ويَشْهَدُ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال : حدثنا أبو غسان النهدي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا الأعمش عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَحَابَّوْا، أَفَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ ". وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا محمد بن معلى قال : حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي يحيى القتّات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ يَخْرُجَ الغِلُّ مِنْ صُدُورِكُمْ فأَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ ".
في عدد الاستئذان وكيفيته
رَوَى دهيم بن قران عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن عثمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الاستِئْذَانُ ثَلاثٌ : فالأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، والثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، والثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ ". وروى يونس بن عبيد عن الوليد بن مسلم عن جندب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عبدة قال : أخبرنا سفيان عن يزيد بن خصيفة عن بُسْرِ بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال : كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فَزِعاً، فقلنا له : ما أفزعك ؟ قال : أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثاً فلم يُؤْذن لي فرجعت، فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ قلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِذا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " قال : لتأتِيَنَّ على هذا بالبينة ! قال : فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال : فقام أبو سعيد معه فشهد له. وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى :" إِنّي لم أَتّهِمْكَ ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدٌ "، وفي بعضها :" ولكني خَشِيتُ أَن يتقوَّلَ الناسُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال أبو بكر : إنما لم يقبل عمر خبره حتى استفاض عنده لأن أمر الاستئذان مما بالناس إليه حاجة عامة، فاستنكر أن تكون سُنَّةُ الاستئذان ثلاثاً مع عموم الحاجة إليها ثم لا ينقلها إلا الأفراد ؛ وهذا أصْلٌ في أن ما بالناس إليه حاجة عامة لا يُقبل فيه إلا خَبَرُ الاستفاضة.
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هارون بن عبدالله قال : حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد قال : وقف رجل على باب النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام مُسْتَقْبِلَ البابِ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" هَكَذَا عَنْكَ أو هكذا فإنّما جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبدالله بن صفوان أخبره عن كلدة : أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضَغَابيسَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بأعْلى مكة، فدخلتُ ولم أسلّم، فقال :" ارْجِعْ فَقُلِ السَّلامُ عَلَيْكُمْ " وذاك بعدما أسلم صفوان. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحْوَصِ عن منصور عن رِبْعِيّ قال : حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال : أَلِجُ ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه :" اخْرُجْ إِلى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ فقُلْ له : قُلِ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ " فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مؤمّل بن فضل الحرّاني في آخرين قالوا : حدثنا بقية قال : حدثنا محمد بن عبدالرّحمن عن عبدالله بن بسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَتَى بابَ قوم لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من رُكْنه الأيمن أو الأيسر فيقول :" السَّلامُ عَلَيْكُمْ " وذلك أن الدُّورَ لم تكن يومئذ عليها سُتُور.
قال أبو بكر : ظاهر قوله :﴿ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن، ولذلك قال مجاهد :" الاستيناس التنحنح والتنخّع " فكأنه إنما أراد أن يُعْلِمَهم بدخوله ؛ وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن، إلا أنه معلوم أنه قد أريد به الإذن في الدخول فحَذَفَهُ لعلم المخاطبين بالمراد. وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد عن حبيب وهشام عن محمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رَسُولُ الرَّجلِ إلى الرَّجُلِ إِذْنُهُ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا حسين بن معاذ قال : حدثنا عبدالأعلى قال : حدثنا سعيدٌ عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ ". فدل هذا الخبر على معنيين، أحدهما : أن الإذن محذوف من قوله :﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾ وهو مراد به، والثاني : أن الدعاء إذنٌ إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذان ثانٍ. وهو يدل أيضاً على أن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول أنه غير محتاج إلى الاستئذان.
فإن قيل : قد رَوَى أبو نعيم عن عمرو بن زر عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول : والله إني كنت لأعتمد بِكَبِدي على الأرض من الجوع، إني كنت لأشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرّ ولم يفعل، فمر بي عمر ففعلت مثل ذلك فمر ولم يفعل، فمرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني وعرف ما في نفسي ثم قال :" يا أبا هَرٍّ ! " قلت : لبيك يا رسول الله ! قال :" الْحَقْ ! " ومضى واتّبعته، فدخل واستأذنت فأذن لي، فدخلت فوجدت لبناً في قدح فقال :" مِنْ أَيْنَ هَذَا ؟ " قالوا : أهْدَى لك فلان أو فلانة، قال :" يا أبا هِرٍّ ! " قلت : لبيك يا رسول الله ! قال :" الحَق أَهْلَ الصُّفَّةِ فادْعُهُمْ لي " قال : وأهل الصفة أضياف أهل الإسلام لا يلوون على أهل ولا مال، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم لم يتناول منها شيئاً وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها ؛ فساءني ذلك فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة ؟ كنت أرجو أن أصيب من هذا شربة أتقوَّى بها ! فأبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاؤوا فأمرني فكنت أنا أعطيهم، فما عسى أن يبلغ مني هذا اللبن ؟ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا حتى استأذنوا، فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت فقال :" يا أبا هِرٍّ ! " قلت : لبيك يا رسول الله ! قال :" خُذْ فأَعْطِهِمْ ! " فأخذت القدح فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يَرْوَى ثم يردّ عليَّ القدح فأعطيه آخر فيشرب حتى يروى ثم يرد عليَّ القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رَوِيَ القومُ كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي فتبسّم وقال :" يا أبا هِرٍّ ! " قلت : لبيك يا رسول الله ! قال :" بَقِيتُ أَنا وأَنْتَ " قلت : صدقت يا رسول الله، قال :" فاقْعُدْ واشْرَبْ ! " فشربت، فما زال يقول اشْرَبْ فأشْرَبُ حتى قلت : والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً ! قال :" فأَرِنِي ! " فأعطيته القدح، فحمد الله وشرب الفضل. فقال : فقد استأذن أهل الصُّفَّةِ وقد جاؤوا مع الرسول ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مخالف لحديث أبي هريرة
قوله تعالى :﴿ فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ ؛ قد تضمن ذلك معنيين، أحدهما : أنه لا ندخل بيوت غيرنا إلا بإذنه، والثاني : أنه إذا أذن لنا جاز لنا الدخول، واقتضى ذلك جواز قبول الإذن ممن أذن صبيّاً كان أو امرأة أو عبداً أو ذميّاً، إذ لم تفرق الآية بين شيء من ذلك ؛ وهذا أصل في قبول أخبار المعاملات من هؤلاء وأنه لا تعتبر فيها العدالة ولا تُسْتَوْفَى فيها صفاتُ الشهادة، ولذلك قبلوا أخبار هؤلاء في الهدايا والوكالات ونحوها.

باب في الاستئذان على المحارم


روى شعبة عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد قال :" سأل رجل حذيفة : أأستأذن على أختي ؟ قال : إن لم تستأذن عليها رأيتَ ما يَسُوءُك ". ورُوي عن ابن عيينة عن عمرو عن عطاء قال :" سألت ابن عباس : أأستأذن على أختي ؟ قال : نعم، قال قلت : إنها معي في البيت وأنا أنفق عليها، قال : استأذن عليها ". وروى سفيان عن مخارق عن طارق قال :" قال رجل لابن مسعود : أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم ". وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : أأستأذن على أمّي ؟ قال :" نَعَمْ، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ ". وقال عمرو عن عطاء :" سألت ابن عباس : أأستأذن على أختي وأنا أنفق عليها ؟ قال : نعم أتحب أن تراها عريانة ؟ إن الله يقول :﴿ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ليَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾. فلم يؤمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث. ثم قال :﴿ وإذا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ ولم يفرق بين من كان منهم أجنبيّاً أو ذا رحم محرم، إلا أن أمر ذوي المحارم أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء.
وقوله تعالى :﴿ وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ بعد قوله :﴿ فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ يدل على أن للرجل أن يَنْهَى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه، لقوله تعالى :﴿ وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ ويمتنع أن يكون المراد بذلك حظر الدخول إلا بعد الإذن ؛ لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرَّحاً به في الآية، فواجب أن يكون لقوله :﴿ وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ﴾ فائدة مجددة، وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره فواجب عليه التنحّي عنه لئلا يتأذَّى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجهم وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يحبّ أن يطّلع عليه غيره.
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ﴾. قال محمد ابن الحنفية :" هي بيوت الخانات التي تكون في الطرق وبيوت الأسواق "، وعن الضحاك مثله. وقال الحسن وإبراهيم النخعي :" كانوا يأتون حوانيت السوق لا يستأذنون ". وقال مجاهد :" كانت بيوتاً يضعون فيها أمتعتهم فأُمِرُوا أن يدخلوها بغير إذن "، ورُوي عنه أيضاً أنه قال :" هي البيوت التي تنزلها السَّفْرُ ". ورُوي عن أبي عبيد المحاربي قال :" رأيت عليّاً رضي الله عنه أصابته السماء وهو في السوق، فاستظلَّ بخيمةِ فارسيٍّ فجعل الفارسي يدفعه عن خيمته وعلي يقول : إنما أَسْتَظِلُّ من المطر، فجعل الفارسي يدفعه، ثم أُخبر الفارسيُّ أنه عليّ فضرب بصدره ". وقال عكرمة :﴿ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾ " هي البيوت الخربة لكم فيها حاجة ". وقال ابن جريج عن عطاء :﴿ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ﴾ " الخلاء والبول ". وجائز أن يكون المراد جميع ذلك، إذ كان الاستئذان في البيوت المسكونة لئلا يهجم على ما لا يحبّ من العورة، ولأن العادة قد جرت في مثله بإطلاق الدخول، فصار المعتاد المتعارف كالمنطوق به. والدليل على أن معنى إطلاق ذلك لجريان العادة في الإذن أن أصحابها لو مَنَعُوا الناس من دخول هذه البيوت كان لهم ذلك ولم يكن لأحد أن يدخلها بغير إذن، ونظير ذلك فيما جرت العادة بإباحته وقام ذلك مقام الإذن فيه ما يطرحه الناس من النَّوَى وقمامات البيوت والخِرَقِ في الطرق أن لكل أحد أن يأخذ ذلك وينتفع به. وهو أيضاً يدلّ على صحة اعتبار أصحابنا هذا المعنى في سائر ما يكون في معناه مما قد جرت العادة به وتعارفوه أنه بمنزلة النطق، كنحو قولهم فيما يُلْحِقُونَهُ برأس المال من طعام الرقيق وكسوتهم وفي حمولة المتاع أنه يُلحقه برأس المال ويبيعه مرابحة، فيقول : قام عليَّ بكذا ؛ وما لم تَجْرِ العادة به لا يلحقه برأس المال، فقامت العادة في ذلك مقام النطق ؛ وفي نحوه قول محمد فيمن أسلم إلى خياط أو قَصّار ثوباً ليخيطه أو يقصره ولم يشرط له أجراً :" إن الأجر قد وجب له إذا كان قد نصب نفسه لذلك وقامت العادة في مثله مقام النطق في أنه فعله على وجه الإجارة ". وقد رَوَى سفيان عن عبدالله بن دينار قال :" كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق، فذكر ذلك لعكرمة فقال : ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق ؟ " وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظوراً، ولكنه احْتَاطَ لنفسه، وذلك مباحٌ لكل أحد.

باب ما يجب من غض البصر عن المحرمات


قال الله تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾. قال أبو بكر : معقول من ظاهره أنه أمْرٌ بغضّ البصر عما حرم علينا النظر إليه، فحذف ذكر ذلك اكتفاء بعلم المخاطبين بالمراد ؛ وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن أبي الطفيل عن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عَليّ إِنَّ لَكَ كَنْزاً في الجَنَّةِ وإنّكَ ذُو وَفْرٍ مِنْها فلا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فإنّ لَكَ الأُولى ولَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةَ ". وروى الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ابْنَ آدَمَ لَكَ أوّلُ نَظْرَةٍ وإِيَّاكَ والثَّانِيَةَ ". وروى أبو زرعة عن جرير :" أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري ". قال أبو بكر : إنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله :" لَكَ النَّظْرَةُ الأُولى " إذا لم تكن عن قصد، فأما إذا كانت عن قصد فهي والثانية سواء، وهو على ما سأل عنه جرير من نظرة الفجاءة، وهو مثل قوله :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ].
قوله :﴿ وَقُلْ للمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ هو على معنى ما نُهي الرجل عنه من النظر إلى ما حرّم عليه النظر إليه.
وقوله تعالى :﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ وقوله :﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ فإنه رُوي عن أبي العالية أنه قال : كل آية في القرآن :" يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن " من الزنا، إلا التي في النور :﴿ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ ﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ أن لا ينظر إليها أحد. قال أبو بكر : هذا تخصيص بلا دلالة، والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حِفْظُها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر، وكذلك سائر الآي المذكورة في غير هذا الموضع في حفظ الفروج هي على جميع ذلك ما لم تقم الدلالة على أن المراد بعض ذلك دون بعض ؛ وعسى أن يكون أبو العالية ذهب في إيجاب التخصيص في النظر لما تقدم من الأمر بغضّ البصر، وما ذكره لا يوجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يكون مأموراً بغَضِّ البصر وحفظ الفروج من النظر ومن الزنا وغيره من الأمور المحظورة ؛ وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فلا محالة أن اللمس والوَطْءَ مرادان بالآية إذْ هما أغلظ من النظر، فلو نَصَّ الله على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء واللمس كما أن قوله :﴿ فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] قد اقتضى حَظْرَ ما فوق ذلك من السبِّ والضرب.
قوله تعالى :﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾. رُوي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء في قوله :﴿ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ قال :" ما كان في الوجه والكفّ، الخضاب والكحل "، وعن ابن عمر مثله، وكذلك عن أنس. ورُوي عن ابن عباس أيضاً :" أنها الكفُّ والوجه والخاتم ". وقالت عائشة :" الزينة الظاهرة : القُلْبُ والفَتَخَة ". وقال أبو عبيدة :" الفتخة، الخاتم ". وقال الحسن :" وجهها وما ظهر من ثيابها ". وقال سعيد بن المسيب :" وجهها مما ظهر منها ". ورَوَى أبو الأحوص عن عبدالله قال :" الزينة زينتان : زينة باطنة لا يراها إلا الزوج الإكليل والسوار والخاتم، وأما الظاهرة فالثياب ". وقال إبراهيم :" الزينة الظاهرة الثياب ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ إنما أراد به الأجنبيين دون الزوج وذوي المحارم ؛ لأنه قد بيّن في نسق التلاوة حكْمَ ذوي المحارم في ذلك. وقال أصحابنا : المراد الوجه والكفّان لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف، فإذْ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكفِّ فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين. ويدلّ على أنّ الوجه والكفَّيْن من المرأة ليسا بعورة أيضاً أنها تصلِّي مكشوفة الوجه واليدين، فلو كانا عورةً لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة ؛ وإذا كان كذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة، فإن كان يشتهيها إذا نظر إليها جاز أن ينظر لعُذْرٍ مثل أن يريد تزويجها أو الشهادة عليها أو حاكم يريد أن يسمع إقرارها. ويدل على أنه لا يجوز له النظر إلى الوجه لشهوة قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ :" لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فإِنَّ لَكَ الأُولَى ولَيْسَ لَكَ الآخِرَة "، وسأل جرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فقال :" اصْرِفْ بَصَرَكَ " ولم يفرق بين الوجه وغيره، فدلّ على أنه أراد النظرة بشهوة ؛ وإنما قال :" لك الأولى " لأنها ضرورة :" وليس لك الآخرة " لأنها اختيار. وإنما أباحوا النظر إلى الوجه والكفين وإن خاف أن يشتهي لما ذكرنا من الأعذار للآثار الواردة في ذلك، منها : ما رَوَى أبو هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ في أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئاً " يعني الصِّغَرَ. وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ فَقَدِرَ على أنْ يَرَى مِنْها ما يُعْجِبُهُ ويَدْعُوهُ إِلَيْهَا فَلْيَفْعَلْ ". وروى موسى بن عبدالله بن يزيد عن أبي حميد وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمُ المَرْأَةَ فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْها إِذا كَانَ إِنّما يَنْظُرُ إِليها للخِطْبَةِ ". وروَى سليمان بن أبي حثمة عن محمد بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى عاصم الأحول عن بكير بن عبدالله عن المغيرة بن شعبة قال : خَطَبْنا امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" نَظَرْتَ إِلَيْها ؟ " فقلت : لا، فقال :" انْظُرْ فإنّه لأَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ". فهذا كله يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفّها بشهوة إذا أراد أن يتزوجها، ويدل عليه أيضاً قوله :﴿ لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ﴾ [ الأحزاب : ٥٢ ]، ولا يعجبه حسنهنّ إلا بعد رؤية وجوههن. ويدل على أن النظر إلى وجهها بشهوة محظورٌ قولُه صلى الله عليه وسلم :" العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ واليَدَانِ تَزْنِيَانِ والرِّجْلاَنِ تَزْنِيَانِ ويُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الفَرْجُ أو يُكَذِّبُهُ ". وقول ابن مسعود في أن ما ظهر منها هو الثياب لا معنى له ؛ لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة، ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحليِّ والقُلْب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها ؟ فعلمنا أن المراد موضع الزينة كما قال في نسق التلاوة بعد هذا :﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾، والمراد موضع الزينة، فتأويلها على الثياب لا معنى له إذْ كان ما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها.
قوله تعالى :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾. روت صفية بنت شيبة عن عائشة أنها قالت :" نِعْمَ النساءُ نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين وأن يسألن عنه ؛ لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز مناطقهن فشققنه فاختمرن به ". قال أبو بكر : قد قيل إنه أراد جيب الدروع ؛ لأن النساء كن يلبسن الدروع ولها جَيْبٌ مثل جيب الدّراعة فتكون المرأة مكشوفة الصدر والنحر إذا لبستها، فأمرهن الله بستر ذلك الموضع بقوله :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾، وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونَحْرَها عورةٌ لا يجوز للأجنبيّ النظر إليهما منها.
قوله تعالى :﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاّ لبُعُولَتِهِنَّ ﴾ الآية. قال أبو بكر : ظاهره يقتضي إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذُكر معه من الآباء وغيرهم، ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد والذراع لأن فيها السوارَ والقُلْبَ، والعَضُدُ وهو موضع الدُّمْلُج، والنحرُ والصدرُ موضع القلادة، والساقُ موضع الخلخال، فاقتضى ذلك إباحة النظر للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة ؛ لأنه خصَّ في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوي المحارم النظر إلى الزينة الباطنة. ورُوي عن ابن مسعود والزبير :" القرط والقلادة والسوار والخلخال ". ورَوَى سفيان عن منصور عن إبراهيم ﴿ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾ قال :" ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس ". قال أبو بكر : لا معنى لتخصيص الأذن والرأس بذلك، إذ لم يخصص الله شيئاً من مواضع الزينة دون شيء، وقد سوَّى في ذلك بين الزوج وبين من ذكر معه، فاقتضى عمومه إباحة النظر إلى مواضع الزينة لهؤلاء المذكورين كما اقتضى إباحتها للزوج. ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوي المحارم الذين يحرم عليهم نكاحهن تحريماً مؤبداً دلَّ ذلك على أن من كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم، مثل زوج الابنة وأم المرأة والمحرمات من الرضاع ونحوهن. ورُوي عن سعيد بن جبير أنه سئل عن الرجل ينظر إلى شعر أجنبية، فكرهه وقال : ليس في الآية. قال أبو بكر : إنه وإن لم يكن في الآية فهو في معنى ما ذُكر فيها من الوجه الذي ذكرنا، وهذا الذي ذكر من تحريم النظر في هذه الآية إلا ما خصّ منه إنما هو مقصور على الحرائر دون الإماء ؛ وذلك لأن الإماء لسائر الأجنبيين بمنزلة الحرائر لذوي محارمهن فيما يحلّ النظر إليه، فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأَمَةِ وذراعِها وساقِها وصَدْرِها وثَدْيها كما يجوز لذوي المحرم النظر إلى ذات محرمه ؛ لأنه لا خلاف أن للأجنبيّ النظر إلى شعر الأَمةِ. ورُوي أن عمر كان يضرب الإماء ويقول :" اكشفن رؤوسكن ولا تتشبهن بالحرائر "، فدل على أنهن بمنزلة ذوات المحارم. ولا خلاف أيضاً أنه يجوز للأَمَةِ أن تسافر بغير محرم، فكان سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر حين جاز لهم السفر بهن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم :" لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً فَوْقَ ثَلاثٍ إِلاّ مَعَ ذي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ " فلما جاز للأمة أن تسافر بغير محرم علمنا أنها بمنزلة الحرة لذوي محرمها فيما يستباح النظر إليه منها. وقوله :" لا يحل لامْرَأة تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أن تسافر سَفَراً فَوْقَ ثلاثٍ إِلاّ مَعَ ذي مَحْرَمٍ أو زَوْجٍ " دالٌّ على اختصاص ذي المحرم باستباحة النظر منها إلى كل ما لا يحل للأجنبي، وهو ما وصفنا بديّاً. ورَوَى منذر الثوري أن محمد ابن الحنفية كان يمشط أمه، وروى أبو البختري أن الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط، وعن ابن الزبير مثله في ذات محرم منه. ورُوي عن إبراهيم : أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمّهِ وأخته وخالته وعمته، وكره الساقين. قال أبو بكر : لا فرق بينهما في مقتضي الآية. ورَوَى هشام عن الحسن في المرأة تضع خمارها عند أخيها قال :" والله ما لها ذلك ". وروى سفيان عن ليث عن طاوس : أنه كره أن ينظر إلى شعر ابنته وأخته. وروى جرير عن مغيرة عن الشعبي : أنه كره أن يسدّد الرجل النظر إلى شعر ابنته وأخته. قال أبو بكر : وهذا عندنا محمول على الحال التي يُخَافُ فيها أن تُشْتَهَى ؛ لأنه لو حمل على الحال التي يأمن فيها الشهوة لكان خلاف الآية والسنّة ولكان ذو مَحْرَمِها والأجنبيون سواء. والآية أيضاً مخصوصة في نظر الرجال دون النساء ؛ لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من الرجل وهو السُّرَّة فما فوقها وما تحت الركبة، والمحظور عليهن من بعضهن لبعض ما تحت السرَّة إلى الركبة.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ نِسَائِهِنَّ ﴾. رُوي أنه أراد نساء المؤمنات.
قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾، تأوله ابن عباس وأم سلمة وعائشة أن للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته، قالت عائشة : وإلى شعر غير مولاته ؛ رُوي أنها كانت تمتشط والعبد ينظر إليها. وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب :" إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته "، وهو مذهب أصحابنا، إلا أن يكون ذا محرم، وتأولوا قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ على الإماء لأ

باب الترغيب في النكاح


قال الله عز وجل :﴿ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ الآية. قال أبو بكر : ظاهره يقتضي الإيجاب، إلا أنه قد قامت الدلالة من إجماع السلف وفقهاء الأمصار على أنه لم يُرِدْ بها الإيجاب وإنما هو استحباب، ولو كان ذلك واجباً لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم ومن السلف مستفيضاً شائعاً لعموم الحاجة إليه، فلما وجدنا عَصْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وسائر الأعصار بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء فلم يُنْكَرْ واتُّرِكَ تزويجهم ثبت أنه لم يرد الإيجاب. ويدل على أنه لم يُرِدِ الإيجابَ أن الأيِّم الثَّيِّبَ لو أَبت التزويج لم يكن للوليّ إجبارها عليه ولا تزويجها بغير أمرها. وأيضاً مما يدل على أنه على الندب اتفاقُ الجميع على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته، وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه مندوب في الجميع ؛ ولكن دلالة الآية واضحة في وقوع العقد الموقوف إذْ لم يخصص بذلك الأولياء دون غيرهم وكل أحد من الناس مندوب إلى تزويج الأيامى المحتاجين إلى النكاح، فإن تقدم من المعقود عليهم أمْرٌ فهو نافذ، وكذلك إن كانوا ممن يجوز عقدهم عليهم مثل المجنون والصغير فهو نافذ أيضاً وإن لم يكن لهم ولاية ولا أمر فعقدهم موقوف على إجازة من يملك ذلك العقد، فقد اقتضت الآية جواز النكاح على إجازة من يملكها.
فإن قيل : هذا يدل على أن عقد النكاح إنما يليه الأولياءُ دون النساء وأن عقودهن على أنفسهن غير جائزة. قيل له : ليس كذلك ؛ لأن الآية لم تخصَّ الأولياء بهذا الأمر دون غيرهم، وعمومُه يقتضي ترغيب سائر الناس في العقد على الأيامى، ألا ترى أن اسم الأيَامَى ينتظم الرجالَ والنساءَ ؟ وهو في الرجال لم يُرَدْ به الأولياء دون غيرهم، كذلك في النساء.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة في الترغيب في النكاح، منها ما رواه ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثَةٌ حَقٌّ على الله عَوْنُهُمْ : المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله والمُكَاتَبُ الَّذي يُرِيدُ الأَدَاءَ والنَّاكِحُ الَّذي يُرِيدُ العَفَافَ ". ورَوَى إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ فإنّه له وِجاءٌ ". وقال :" إذا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضُونَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ". وعن شداد بن أوس أنه قال لأهله : زوّجوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى الله أعزب. وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا خلاد عن سفيان عن عبدالرّحمن بن زياد عن عبدالله بن يزيد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدُّنْيَا مَتَاعٌ وخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عبيد بن سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتي ومِنْ سُنَّتي النِّكَاحُ ". قال إبراهيم بن ميسرة : ولا أقول لك إلا ما قال عمر لأبي الزوائد : ما يمنعك من النكاح إلا عجزٌ أو فجور.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ عمومه يقتضي تزويج الأب ابنته البكر الكبيرة، ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج البنت الكبيرة بغير رضاها لكان جائزاً له تزويجها بغير رضاها لعموم الآية. قيل له : معلومٌ أن قوله :﴿ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ لا يختصّ بالنساء دون الرجال ؛ لأن الرجل يقال له أيِّمٌ والمرأة يقال لها أيّمة، وهو اسم للمرأة التي لا زوج لها والرجل الذي لا امرأة له، قال الشاعر :
* فإِنْ تَنْكحي أَنْكَحْ وإِنْ تَتَأَيَّمي * وإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُ أَتَأَيَّمِ *
وقال آخر :
* ذَرِيني عَلَى أَيِّمٍ مِنْكُمْ وَنَاكِحٍ *
وقال عمر بن الخطاب :" ما رأيت مثل من يجلس أيماً بعد هذه الآية :﴿ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ التمسوا الغنا في البَاهِ ". فلما كان هذا الاسم شاملاً للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء أيضاً، وأيضاً فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئمار البكر بقوله :" البِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِهَا وإِذْنُهَا صمَاتُها "، وذلك أمْرٌ وإن كان في صورة الخبر، وذلك على الوجوب فلا يجوز تزويجها إلا بإذنها. وأيضاً فإن حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تُنْكَحُ اليَتِيمَةُ إِلاّ بِإِذْنِهَا فإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا وإِنْ أَبَتْ فلا جَوَازَ عَلَيْهَا "، وإنما أراد به البكر لأن البكر هي التي يكون سكوتها رضاً. وحديث ابن عباس في فتاة بِكْرٍ زوجها أبوها بغير أمرها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أَجِيزي ما صَنَعَ أَبُوكِ " ؛ وقد بينا هذه المسألة فيما سلف.
قوله تعالى :﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإِمَائِكُمْ ﴾ فيه دلالة على أن للمولى أن يزوج عبده وأَمَتَهُ بغير رضاهما ؛ وأيضاً لا خلاف أنه غير جائز للعبد والأمة أن يتزوجا بغير إذن. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أَيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فهُوَ عَاهِرٌ " فثبت أن العبد والأَمَةَ لا يملكان ذلك، فوجب أن يملك المولى منهما ذلك كسائر العقود التي لا يملكانها ويملكها المولى عليهما.
وقوله تعالى :﴿ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ﴾ خبر، ومخبر الله تعالى لا محالة على ما يخبر به، فلا يخلو ذلك من أحد وجهين : إما أن يكون خاصّاً في بعض المذكورين دون بعض، إذ قد وجدنا من يتزوج ولا يستغني بالمال ؛ وإما أن يكون المراد الغِنَى بالعفاف. فإن كان المراد خاصّاً فهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون، أو يكون عامّاً فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البُضْعِ والاستغناء به عن تعدّيه إلى المحظور، فلا دلالة فيه إذاً على أن العبد يملك ؛ وقد بيّنا مسألة ملك العبد في سورة النحل.

باب المكاتَبَةِ


قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾. رُوي عن عطاء قال :" ما أُراه إلا واجباً "، وهو قول عمرو بن دينار. ورُوي عن عمر :" أنه أمر أَنَساً بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبَى فرفع عليه الدِّرَّةَ وضربه وقال : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وحلف عليه ليكاتبنّه ". وقال الضحاك :" إن كان للمملوك مالٌ فعزيمةٌ على مولاه أن يكاتبه ". وروى الحجاج عن عطاء قال :" إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم "، وكذلك قول الشعبي.
قال أبو بكر : هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ "، وما رُوي عن عمر في قصة سيرين يدلّ على ذلك أيضاً ؛ لأنها لو كانت واجبة لحكم بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضاً يمتنع من شيء واجب عليه.
فإن قيل : لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه. قيل : لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية، فكان يأمرهم بما لهم فيه الحظُّ في الدين وإن لم يكن واجباً على وجه التأديب والمصلحة. ويدل على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظنّ المولى أن فيهم خيراً، فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه.
وقوله :﴿ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ رَوَى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ " إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً ولا تَدَعُوهُمْ كَلاًّ على النَّاسِ ". وذكر ابن جريج عن عطاء :﴿ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ قال :" ما نراه إلا المال " ثم تلا قوله تعالى :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ] قال :" الخير المال فيما نرى "، قال : وبلغني عن ابن عباس : يعني بالخير المال. وروى ابن سيرين عن عبيدة :﴿ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ قال :" إذا صلَّى ". وعن إبراهيم :" وفاءً وصدقاً ". وقال مجاهد :" مالاً ". وقال الحسن :" صلاحاً في الدين ".
قال أبو بكر : الأظهر أنه أراد الصلاح، فينتظم ذلك الوفاءَ والصدقَ وأداءَ الأمانة ؛ لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في الدين، ولو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيراً ؛ لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال ؛ وأيضاً فإن العبد لا مال له، فلا يجوز أن يتأول عليه. وما رُوي عن عبيدة " إذا صلى " فلا معنى له ؛ لأنه جائز مكاتبة اليهوديّ والنصراني بالآية وإن لم تكن لهم صلاة.
وقوله تعالى :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ ؛ اختلف أهل العلم في المكاتَبِ هل يستحق على مولاه أن يضع عنه شيئاً من كتابته ؟ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري :" إن وضع عنه شيئاً فهو حسن مندوب إليه وإن لم يفعل لم يُجبر عليه ". وقال الشافعي :" هو على الوجوب ". ورُوي عن ابن سيرين في قوله :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ قال :" كان يعجبهم أن يَدَعُوا له طائفة من مكاتبته ". قال أبو بكر : ظاهر قوله :" كان يعجبهم " أنه أراد به الصحابة، وكذلك قول إبراهيم :" كانوا يكرهون "، وكان يقولون : الظاهر من قول التابعي إذا قال ذلك أنه أراد به الصحابة ؛ فقول ابن سيرين يدل على أن ذلك كان عند الصحابة على الندْبِ لا على الإيجاب ؛ لأنه لا يجوز أن يقال في الإيجاب :" كان يعجبهم ". وروى يونس عن الحسن وإبراهيم :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ قال :" حَثَّ عليه مولاه وغيره ". وروى مسلم بن أبي مريم عن غلام عثمان بن عفان قال :" كاتبني عثمان ولم يحط عني شيئاً ".
قال أبو بكر : ويحتمل أن يريد بقوله :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ ما ذكره في آية الصدقات من قوله :﴿ وفي الرقاب ﴾ [ التوبة : ٦٠ ]. وقد رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علِّمني عملاً يدخلني الجنة ! قال :" أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وفُكَّ الرَّقَبَةَ " قال : أليسا واحداً ؟ قال :" عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ في ثَمَنِهَا "، وهذا يدل على أن قوله :﴿ وفي الرقاب ﴾ [ التوبة : ٦٠ ] قد اقتضى إعطاء المكاتب، فاحتمل أن يكون قوله :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ دَفْعَ الصَّدَقَاتِ الواجبات، وأفاد بذلك جواز دفع الصدقة إلى المكاتَبِ وإن كان مولاه غنيّاً. ويدل عليه أنه أُمر بإعطائه من مال الله، وما أُطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب، وهذا يدل على أنه أراد مالاً هو ملك لمن أمر بإيتائه وأن سبيله الصدقة وذلك الصدقات الواجبة في الأموال، ويدل عليه قوله :﴿ مِنْ مَالِ الله الَّذي آتَاكُمْ ﴾ وهو الذي قد صحَّ ملكه للمالك وأُمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح. وعلى قول من يوجب حَطَّ بعض الكتابة ينبغي أن يسقط بعد عقد الكتابة، وذلك خلاف موجب الآية من وجوه، أحدها : أنه إذا سقط لم يحصل مالاً لله قد آتاه المولى، والثاني : أن ما آتاه فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه، وما سقط عقيب العقد لا يمكنه التصرف فيه ولم يحصل له عليه بل لا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه. وأيضاً لو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه متعلقاً بالعقد فيكون العقد هو الموجب له وهو المسقط، وذلك مستحيل لأنه إذا كان العقد يوجبه وهو بعينه مسقط استحال وجوبه لتنافي الإيجاب والإسقاط.
فإن قيل : ليس يمتنع ذلك في الأصول ؛ لأن الرجل إذا زوج أَمَتَهُ من عبده يجب عليه المهر بالعقد ثم يسقط في الثاني. قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه ليس الموجب له هو المسقط له، إذ كان الذي يوجبه هو العقد والذي يسقطه هو حصول ملكه للمولى في الثاني فالموجب له غير المسقط، وكذلك من اشترى أباه فعتق عليه فالموجب للملك هو الشّرَى والموجب للعتاق حصول الملك مع النسب ولم يكن الموجب له هو المسقط. وقد حُكي عن الشافعي أن الكتابة ليست بواجبة وأن يضع عنه بعد الكتابة واجبٌ أقل ما يقع عليه اسم شيء، ولو مات المولى قبل أن يضع عنه وضع الحاكم عنه أقل ما يقع عليه اسم شيء. قال أبو بكر : فلو كان الحطُّ واجباً لما احتاج أن يضع عنه بل يسقط القدر المستحق، كمن له على إنسان دَيْن ثم صار للمدين عليه مثله أنه يصير قصاصاً، ولو كان كذلك لحصلت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحطِّ مجهول، فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلاّ شيءٌ وذلك غير جائز. وجملة ذلك أن الإيتاء لو كان فرضاً لسقط ؛ ثم لا يخلو من أن يكون ذلك القدر معلوماً أو مجهولاً، فإن كان معلوماً فالواجب أن تكون الكتابة بما بقي فيعتق إذا أَدَّى ثلاثة آلاف درهم والكتابة أربعة آلاف درهم ؛ وذلك فاسد من وجهين، أحدهما : أنه لا يصح الإشهاد على الكتابة بأربعة آلاف درهم، ومع ذلك فلا معنى لذكر شيء لا يثبت. وأيضاً فإنه يعتق بأقلّ مما شرط، وهذا فاسد لأن أداء جميعها مشروط، فلا يعتق بأداء بعضها. وأيضاً فإن الشافعي قال :" المكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم " فالواجب إذاً أن لا يسقط شيء، ولو كان الإيتاءُ مستحقّاً لسقط، وإن كان الإيتاء مجهولاً فالواجب أن يسقط ذلك القدر فتبقى الكتابة على مال مجهول.
فإن قيل : روى عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن أنه كاتب غلاماً له فترك له ربع مكاتبته وقال : إن عليّاً كان يأمرنا بذلك ويقول : هو قول الله :﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ ﴾. ورُوي عن مجاهد أنه قال :" تعطيه ربعاً من جميع مكاتبته تعجله من مالك ". قيل له : هذا يدل على أنهم لم يَرَوْا ذلك واجباً وأنه على وجه الندب ؛ لأنه لو كان واجباً عندهم لسقط بعد عقد الكتابة هذا القدر، إذ كان المكاتب مستحقّاً له ولم يكن المولى يحتاج إلى أن يعطيه شيئاً.
فإن قيل : قد يجوز أن يجب عليه مال الكتابة مؤجلاً ويستحق هو على المولى أن يعطيه من ماله مقدار الربع فلا يصير قصاصاً بل يستحق على المولى تعجيله فيكون مال الكتابة إلى أَجَلِهِ، كمن له على رجل دين مؤجَّلٌ فيصير للمدين على الطالب دَيْنٌ حَالٌّ فلا يصير قصاصاً له. قيل له : إن الله تعالى لم يفرّق بين الكتابة الحالَّةِ والمؤجلة، وكذلك من رُوي عنه من السلف الحطُّ لم يفرّقوا بين الحالّة والمؤجلة، ولم يفرق أيضاً بين أن يحل مال الكتابة المؤجل وبين أن لا يحل فيما ذكروا من الحطّ والإيتاء ؛ فعلمنا أنه لم يرد به الإيجاب إذ لم يجعله قصاصاً إذا كانت حالَّةً أو كانت مؤجلة فحلّت، وأوجب الإيتاءَ في الحالين، والإيتاءُ هو الإعطاء، وما يصير قصاصاً لا يطلق فيه الإعطاء.
ومما يدل من جهة السنّة على ما وصفنا ما رَوَى يونس والليث عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : جاءتني بَرِيرَةُ فقالت : يا عائشة إني قد كاتبتُ أهلي على تسع أَوَاقٍ في كل عام أوقية، فأعينيني ! ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبّوا أن أعطيهم ذلك جميعاً ويكون ولاؤك لي فعلتُ. فأبوا وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا ؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" لا يَمْنَعْكِ مِنْها ابْتَاعي وأَعْتِقِي فإنّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ "، وذكر الحديث. وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحوه ؛ فلما لم تكن قضت من كتابتها شيئاً وأرادت عائشة أن تؤدّيَ عنها كتابتها كلها وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليها ولم يقل إنها يستحق أن يحطّ عنها بعض كتابتها أو أن يعطيها المولى شيئاً من ماله، ثبت أن الحطَّ من الكتابة على الندْب لا على الإيجاب ؛ لأنه لو كان واجباً لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولقال لها ولم تدفعي إليهم ما لا يجب لهم عليها. ويدل عليه أيضاً ما رَوَى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة : أن جويرية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على كتابتي، فقال :" فَهَلْ لَكِ في خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ " فقالت : وما هو يا رسول الله ؟ فقال :" أَقضِي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وأَتَزَوَّجُكِ " قالت : نعم ؛ قال :" قَدْ فَعَلْتُ ". ففي هذا الحديث أنه بذل لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها، ولو كان الحطُّ واجباً لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأداء عنها باقي كتابتها. وقد رُوي عن عمر وعثمان والزبير ومن قدَّمْنا قولهم من السلف أنهم لم يكونوا يَرَوْنَ الحطَّ واجباً، ولا يُروى عن نظرائهم خلافه ؛ وما رُوي عن عليّ فيه فقد بينا أنه يدل على أنه رآه ندباً لا إيجاباً. ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن ا
قوله تعالى :﴿ الله نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ﴾. رُوي عن ابن عباس في إحدى الروايتين وعن أنس :" هادي أهل السموات والأرض "، وعن ابن عباس أيضاً وأبي العالية والحسن :" مُنَوّر السموات والأرض بنجومها وشمسها وقمرها ".
وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾، قال أبيّ بن كعب والضحاك :" الضمير عائد على المؤمن في قوله :﴿ نُورِهِ ﴾ بمعنى : مثل النور الذي في قلبه بهداية الله تعالى ". وقال ابن عباس :" عائد على اسم الله، بمعنى : مثل نور الله الذي هدى به المؤمن " ؛ وعن ابن عباس أيضاً :" مثل نوره وهو طاعته ". وقال ابن عباس وابن جريج :" المشكاة الكُوَّة التي لا منفذ لها "، وقيل إن المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو مثل الكوة. وعن أبيّ بن كعب قال :" هو مَثَلُ ضربه الله تعالى لقلب المؤمن، فالمشكاة صدره والمصباح القرآن والزجاجة قلبه " قال :" فهو بين أربع خِلاَلٍ إِنْ أُعْطي شكر وإن ابْتُلي صبر وإن حَكَم عدل وإن قال صدق ". وقال :﴿ نُورٌ عَلى نُورٍ ﴾، " فهو ينقلب على خمسة أنوار : فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة ". وقيل :﴿ نُورٌ عَلى نُورٍ ﴾ أي نور الهدى إلى توحيده على نور الهدى بالقرآن الذي أتى به من عنده. وقال زيد بن أسلم ﴿ نُورٌ على نُورٍ ﴾ " يضيء بعضه بعضاً ".
قوله تعالى :﴿ في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا ﴾ الآية. قيل إن معناه أن المصابيح المقدَّم ذِكْرُها في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ. وقيل :" تُوقَدُ في بيوت أذن الله أن ترفع ". وقال ابن عباس :" هذه البيوت هي المساجد "، وكذلك قال الحسن ومجاهد. وقال مجاهد :" أن ترفع معناه ترفع بالبناء، كما قال :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ﴾ [ البقرة : ١٢٧ ] "، وقال :" أن ترفع أن تعظم بذكره لأنها مواضع الصلوات والذكر ". وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال :" إنها لفي كتاب الله وما يَغُوص عليها إلا غوَّاصٌ " ثم قرأ :﴿ في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ ﴾.
قال أبو بكر : يجوز أن يكون المراد الأمرين جميعاً مِنْ رَفْعِها بالبناء ومن تعظيمها جميعاً ؛ لأنها مبنية لذكر الله والصلاة، وهذا يدلّ على أنه يجب تنزيهها من القعود فيها لأمور الدنيا مثل البيع والشراء وعمل الصناعات ولَغْوِ الحديث الذي لا فائدة فيه والسفه وما جرى مجرى ذلك. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ ومَجَانِينَكُمْ ورَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وبَيْعَكُمْ وشِرَاكُمْ وإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وجَمِّرُوهَا في جُمَعِكُمْ وضَعُوا على أَبْوَابِهَا المَطَاهِرَ ".
وقوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾، قال ابن عباس والضحاك :" يصلَّى له فيها بالغداة والعشيّ ". وقال ابن عباس :" كل تسبيح في القرآن صلاة ".
قوله تعالى :﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله ﴾. رُوي عن الحسن في هذه الآية :" والله لقد كانوا يتبايعون في الأسواق، فإذا حضر حقّ من حقوق الله بدأوا بحق الله حتى يقضوه ثم عادوا إلى تجارتهم ". وعن عطاء قال :" شهود الصلاة المكتوبة ". وقال مجاهد :﴿ عَنْ ذِكْرِ الله ﴾ قال :" عن مواقيت الصلاة ". ورأى ابن مسعود أقواماً يتّجِرُون، فلما حضرت الصلاة قاموا إليها، قال :" هذا من الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله ﴾ ".
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾، فإن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات، فجميع ما خلقه الله منزّه له من جهة الدلالة عليه، والعقلاء المطيعون ينزهونه من جهة الاعتقاد والوصف له بما يليق به وتنزيهه عما لا يجوز عليه.
وقوله تعالى :﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ ﴾ يعني : صلاة من يصلّي منهم فالله يعلمها. وقال مجاهد :" الصلاة للإنسان والتسبيح لكل شيء ".
قوله تعالى :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ﴾. قيل : إن " مِنْ " الأولى لابتداء الغاية ؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض ؛ لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس إذ كان جنس تلك الجبال جنس البرد.
قوله تعالى :﴿ وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ﴾ قيل : إن أصل الخلق من ماء، ثم قُلب إلى النار فخُلق منه الجنّ، ثم إلى الريح فخلقت الملائكة منها، ثم إلى الطين فخلق آدم منه، وذكر الذي يمشي على رجلين والذي يمشي على أربع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين، فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع.

باب لزوم الإجابة لمن دُعي إلى الحاكم


قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلى الله ورَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ وهذا يدل على أن من ادَّعَى على غيره حقّاً ودعاه إلى الحاكم فعليه إجابته والمصير معه إليه ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله ﴾ معناه : إلى حكم الله. ويدل على أن من أتى الحاكم فادَّعَى على غيره حقّاً أن على الحاكم أن يعديه ويحضره ويحول بينه وبين تصرفه وأشغاله. وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم الحربي قال : حدثنا عبدالله بن شبيب قال : حدثنا أبو بكر بن شيبة قال : حدثنا فليح قال : حدثني محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد وعبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، أن الأغرَّ الجهني قال : جئت أسْتَعْدِي رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل لي عليه شطر تمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :" اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ لَهُ حَقَّهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا رجاء الحافظ قال : حدثنا شاهين قال : حدثنا رَوْحُ بن عطاء عن أبيه عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ دُعِي إِلى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لا حَقَّ لَهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال : حدثنا عبدالرّحمن بن صالح قال : حدثنا يحيى عن أبي الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ دُعِيَ إلى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لا حَقَّ لَهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن بشر أخو خطاب قال : حدثنا محمد بن عباد قال : حدثنا حاتم عن عبدالله بن محمد بن سجل عن أبيه عن أبي حدرد قال : كان ليهوديّ عليَّ أربعة دراهم، فاستعدى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، فقال :" أَعْطِهِ حَقَّهُ ! " قلت : والذي بعثك بالحق نبيّنا ما أصبحتُ أقدر عليها !‍ قال :" أَعْطِهِ حَقَّهُ ! " فأعدتُ عليه، فقال :" أَعْطِهِ حَقَّهُ ! " فخرجت معه إلى السوق فكانت على رأسي عمامة وعليَّ بردة مُتَّزِرٌ بها، فاتّزرت بالعمامة وقلتُ : اشْتَرِ البرد‍ ! فاشتراه بأربعة دراهم. فهذه الأخبار مواطئة لما دلت عليه الآية.
قوله تعالى :﴿ إِنّما كَانَ قَوْلُ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله ورَسُولِهِ لِيَحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا ﴾ تأكيد لما تقدم ذكره من وجوب الإجابة إلى الحَكَم إذا دعوا إليه، وجعل ذلك من صفات المؤمنين، ودلّ على أن من دُعي إلى ذلك فعليه الإجابة بالقول بدياً بأن يقول سمعنا وأطعنا، ثم يصير معه إلى الحاكم.
قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُوا بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾. رُوي عن مجاهد قال :" هذه طاعة معروفة منكم بالقول لا بالاعتقاد، يخبر عن كذبهم فيما أقسموا عليه ". وقيل :" إن المعنى طاعة وقول معروف أَمْثَلُ من هذا القسم ".
قوله تعالى :﴿ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قصر ذلك على قوم بأعيانهم بقوله :﴿ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ ﴾، فوجد مخبره على ما أخبر به فيهم. وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعة أيضاً لأن الله استخلفهم في الأرض ومَكَّنَ لهم كما جاء الوعد، ولا يدخل فيهم معاوية لأنه لم يكن مؤمناً في ذلك الوقت.

باب استئذان المماليك والصبيان


قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ﴾ الآية. رَوَى ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر وسفيان عن أبي حصين عن أبي عبدالرّحمن :﴿ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ قالا :" هو في النساء خاصة والرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار ". قال أبو بكر : أنكر بعضهم هذا التأويل، قال : لأن النساء لا يطلق فيهنّ " الذين " إذا انفردن، وإنما يقال :" اللائي " كما قال تعالى :﴿ واللائي يئسن من المحيض ﴾ [ الطلاق : ٤ ].
قال أبو بكر : هذا يجوز إذا عبّر بلفظ المماليك، كما أن النساء إذا عُبّر عنهن بالأشخاص ؛ وكذلك جائز أن تُذكر الإناث إذا عبرت عنهن بلفظ المماليك دون النساء ودون الإماء ؛ لأن التذكير والتأنيث يتبعان اللفظ كما تقول :" ثلاث ملاحف " فإذا عبرت بالأُزُرِ ذكَّرْتَ فقلت :" ثلاثة أُزُر " فالظاهر أن المراد الذكور والإناث من المماليك وليس العبيد ؛ لأن العبيد مأمورون بالاستئذان في كل وقت ما يوجب الاقتصار بالأمر في العورات الثلاث على الإماء دونهم، إذ كانوا مأمورين في سائر الأوقات ؛ ففي هذه الأوقات الثلاثة أَوْلَى أن يكونوا مأمورين به. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن السرح والصبّاح بن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه قال : أخبرنا سفيان عن عبيدالله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : سمعته يقول :" لم يؤمر بها أكثر الناس آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن عليَّ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس كيف ترى هذه الآية التي أُمرنا فيها بما أُمرنا ولا يعمل بها أحد، قول الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ﴾ الآية، إلى قوله :﴿ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ؟ قال ابن عباس :" إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحبّ الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستر ولا حجاب فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد ".
قال أبو بكر : وفي بعض ألفاظ حديث ابن عباس هذا، وهو حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو :" فلما أتى الله بالخير واتخذوا الستور والحجاب رأى الناس أن ذلك قد كَفَاهم من الاستئذان الذي أُمروا به ". فأخبر ابن عباس أن الأَمْرَ بالاستئذان في هذه الآية كان متعلقاً بسببٍ، فلما زال السبب زال الحكم. وهذا يدل على أنه لم يَرَ الآية منسوخة، وأن مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم ؛ وقال الشعبي أيضاً إنها ليست بمنسوخة. وهذا نحو ما فرض الله تعالى من الميراث بالموالاة بقوله تعالى :﴿ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ﴾ [ النساء : ٣٣ ]، فكانوا يتوارثون بذلك، فلما أوجب التوارث بالنَّسَبِ جعل ذوي الأنساب أوْلَى من مَوْلَى الموالاة، ومتى فُقِدَ النسبُ عاد ميراث المعاقدة والولاء. وقال جابر بن زيد في قوله :﴿ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلْمَ مِنْكُمْ ﴾ :" أبناؤهم الذين عقلوا ولم يبلغوا الحلم من الغلمان والجواري يستأذنون على آبائهم قبل صلاة الفجر وحين يَقِيلُون ويخلون وبعد صلاة العشاء وهي العتمة فإذا بلغوا الحلم استأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم، إخوانهم إذا كانوا رجالاً ونساءً لا يدخلون على آبائهم إلا بإذن ساعة يدخلون أيّ ساعة كانت ". وروى ابن جريج عن مجاهد :﴿ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ قال :" عبيدكم " ﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ﴾ قال :" من أحراركم " ؛ ورُوي عن عطاء مثله. وأنكر بعضهم هذا التأويل ؛ لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يجمع إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين ! قال : فالأظهر أن يكون المراد العبيد الصغار والإماء وصغارنا الذين لم يبلغوا الحلم. وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ :" ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحُلُمَ مما ملكت أيمانكم ". وقال سعيد بن جبير والشعبي :" هذا مما تهاون به الناس وما نُسخت ". وقال أبو قلابة :" ليس بواجب وهو كقوله تعالى :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] ". وقال القاسم بن محمد :" يستأذن عند كل عورة، ثم هو طوَّافٌ بعدها " ؛ يعني أنه يستأذن عند أوقات الخلوة والتفضل في الثياب وطرحها وهو طوَّاف بعدها لأنها أوقات الستر، ولا يستطيع الخادم والغلام والصبيّ الامتناع من الدخول كما قال صلى الله عليه وسلم في الهرة :" إنها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطَّوَّافَاتِ " يعني أنه لا يُستطاع الامتناع منها. ورُوي أن رجلاً قال لعمر : أستأذن على أمي ؟ قال : نعم ؛ وكذلك قال ابن عباس وابن مسعود.

فصل


قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ﴾ يدل على بطلان قول من جعل حَدَّ البلوغ خَمْسَ عشرة سنة إذا لم يحتلم قبل ذلك ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلمِ. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة :" رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وعَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ". ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها. وأما حديث ابن عمر :" أنه عُرِضَ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ وله أربع عشرة سنة فلم يُجَزْ وعُرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه " فإنه مضطرب ؛ لأن الخندق كان في سنة خمس، وأُحد في سنة ثلاث، فكيف يكون بينهما سنة !‍ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلُّق لها بالبلوغ ؛ لأنه قد يُرَدُّ البالغ لضعفه ويجاز غير البالغ لقوته على القتال وطاقته لحمل السلاح، كما أجاز رافع بن خديج وردَّ سَمُرَةَ بن جندب، فلما قيل له إنه يصرعه أمرهما فتصارعا، فصرعه سمرة فأجازه ولم يسأله عن سنّه. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ابن عمر عن مبلغ سِنِّه في الأوّل ولا في الثاني، وإنما اعتبر حاله في قوته وضعفه ؛ فاعتبار السنّ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه في وقت وردَّه في وقت ساقطٌ.
وقد اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ، واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم، فقال أبو حنيفة :" لا يكون الغلام بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكلمها، وفي الجارية سبع عشرة سنة ". وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي في الغلام والجارية :" خمس عشرة سنة " وذهبوا فيه إلى حديث ابن عمر، وقد بيّنا أنه لا دلالة فيه على أنها حَدّ البلوغ ؛ ويدلّ عليه أنه لم يسأله عن الاحتلام ولا عن السنّ. ولما ثبت بما وصفنا أن الخمس عشرة ليست ببلوغ، وظاهر قوله :﴿ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ﴾ ينفي أيضاً أن تكون الخمس عشرة بلوغاً على الحدِّ الذي بيّنّا، صار طريقُ إثبات حد البلوغ بعد ذلك الاجتهاد ؛ لأنه حَدٌّ بين الصِّغَرِ والكِبَرِ اللذين قد عرفنا طريقهما وهو واسطة بينهما، فكان طريقه الاجتهاد. وليس يتوجّه على القائل بما وصفنا سؤال، كالمجتهد في تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لا توقيف في مقاديرها ومهور الأمثال ونحوها.
فإن قيل : فلا بدّ من أن يكون اعتباره لهذا المقدار دون غيره لضَرْبٍ من الترجيح على غيره يوجب تغليب ذلك في رأيه دون ما عداه من المقادير. قيل له : قد علمنا أن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة، وكلّ ما كان طريقه العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة، وقد بيّنّا أن الزيادة على المعتاد من الخمس عشرة جائزة كالنقصان عنه، فجعل أبو حنيفة الزيادة على المعتاد كالنقصان عنه وهي ثلاث سنين ؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل المعتاد من حيض النساء ستّاً أو سبعاً بقوله لحمنة بنت جحش :" تَحِيضِينَ فِي عِلمِ الله سِتّاً أَوْ سَبْعاً كما تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ " اقتضى ذلك أن يكون العادة ستّاً ونصفاً لأنه جعل السابع مشكوكاً فيه بقوله :" ستّاً أو سَبْعاً ". ثم قد ثبت عندنا أن النقصان عن المعتاد ثلاث ونصف ؛ لأن أقل الحيض عندنا ثلاث وأكثره عشرة، فكانت الزيادة على المعتاد بإزاء النقصان منه، وجب أن يكون كذلك اعتبار الزيادة على المعتاد فيما وصفنا. وقد حُكي عن أبي حنيفة تسع عشرة سنة للغلام ؛ وهو محمول على استكمال ثماني عشرة والدخول في التاسع عشرة.
واخْتُلف في الإثبات هل يكون بلوغاً، فلم يجعله أصحابنا بلوغاً، والشافعي يجعله بلوغاً، وظاهر قوله :﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ﴾ ينفي أن يكون الإثبات بلوغاً إذا لم يحتلم، كما نفي كون خمس عشرة بلوغاً. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" وَعَنِ الصّبيّ حَتّى يَحْتَلِمَ " وهذا خبر منقول من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن المجنون والنائم والصبي. واحتجّ من جعله بلوغاً بحديث عبدالملك بن عمير عن عطية القرظي :" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مَنْ أَنْبَتَ من بني قُرَيْظة واسْتَحْيَى من لم يُنْبِتْ، قال : فنظروا إليّ فلم أكن أنْبَتُّ فاستبقاني ". وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله، إذ كان عطية هذا مجهولاً لا يُعرف إلا من هذا الخبر، لا سيَّما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلاّ بالاحتلام ؛ ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ، ففي بعضها أنه أَمَرَ بقتل من جَرَتْ عليه المَوَاسي، وفي بعضها مَنِ اخْضَرَّ إزارُه ؛ ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه، ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو رجل كبير ؛ فجعل الإنبات وجَرْيَ المواسي عليه كنايةً عن بلوغ القدر الذي ذكرنا في السنّ وهي ثماني عشرة وأكثر. ورُوي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن أنبت. وهذا لا دلالة فيه على أنهما رأيا الإنبات بلوغاً ؛ لأن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ. وقد رُوي عن قوم من السلف شيءٌ في اعتبار طُولِ الإنسان لم يأخذ به أحدٌ من الفقهاء. ورَوَى محمد بن سيرين عن أنس قال :" أُتي أبو بكر بغلام قد سرق، فأمره فشُبِرَ فَنَقُصَ أَنْمُلَةً فخلَّى عنه ". ورَوَى قتادة عن خِلاسٍ عن عليّ قال :" إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وَقَعَتْ عليه الحدود ويُقتصُّ له ويُقتصُّ منه، وإذا استعانه رجل بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار فهو ضامِنٌ ". ورَوَى ابن جريج عن ابن أبي مليكة :" أن ابن الزبير أُتي بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سَرَقَ فقطعه، ثم حدَّث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق، فكتب إليه أن اشْبِرْهُ فشَبَرَهُ فنقص أ
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ ﴾ الآية يعني أن الأطفال إذا بلغوا الحلم فعليهم الاستئذان في سائر الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم وهم المذكورون في قوله تعالى :﴿ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ﴾ وفيه دلالة على أن الاحتلام بلوغ. وقوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ ولا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ يعني بعد هذه العورات الثلاث جائز للإماء والذين لم يبلغوا الحلم أن يدخلوا بغير استئذان إذ كانت الأوقات الثلاث هو حال التكشف والخلوة وما بعدها حال الستر والتأهب لدخول هؤلاء الذين يشق عليهم الاستئذان في كل وقت لكثرة دخولهم وخروجهم وهو معنى طوافون عليكم بعضكم على بعض.
قوله تعالى :﴿ وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ الآية. قال ابن مسعود ومجاهد :" والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً هنَّ اللاتي لا يُرِدْنَهُ، وثيابهن جلابيبهنّ ". وقال إبراهيم وابن جبير :" الرداء ". وقال الحسن :" الجلباب والمِنْطَقُ ". وعن جابر بن زيد :" يضعن الخمار والرداء ".
قال أبو بكر : لا خلاف في أن شعر العجوزة عَوْرَةٌ لا يجوز للأجنبي النظر إليه كشعر الشابة، وأنها إن صلّت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد صلاتها، فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي.
فإن قيل : إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خِمَارَها في الخُلْوةِ بحيث لا يراها أحد. قيل له : فإذاً لا معنى لتخصيص القواعد بذلك، إذ كان للشابة أن تفعل ذلك في خلوة، وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس، وأباح لها بذلك كَشْفَ وجهها ويدها لأنها لا تُشْتَهَى ؛ وقال تعالى :﴿ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ﴾، فأباح لها وضع الجلباب، وأخبر أن الاستعفاف بأن لا تضع ثيابها أيضاً بين يدي الرجال خير لها.
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ﴾ الآية. قال أبو بكر : قد اختلف السلف في تأويله وسبب نزوله، فحدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ قال :" لما نزلت :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ] قال المسلمون : إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وإن الطعام من أفضل أموالنا ولا يحلّ لأحد أن يأكل عند أحد ؛ فكفَّ الناس عن ذلك، فأنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ﴾ الآية ". فهذا أحد التأويلات. وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال :" كان رجال زَمْنَى وعميان وعرجان وأولو حاجة يستتبعهم رجال إلى بيوتهم فإن لم يجدوا لهم طعاماً ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن معهم، فكره المستتبعون ذلك، فنزلت :﴿ ولا جناح عليكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] الآية، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه من ذلك ". فهذا تأويل ثانٍ. وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن مهدي عن ابن المبارك عن معمر قال : قلت للزهري : ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذُكروا ههنا ؟ فقال : أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة :" أن المسلمين كانوا إذا غَزَوْا خلَّفوا زَمْنَاهُمْ في بيوتهم وسلّموا إليهم المفاتيح وقالوا : قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها، فكانوا يتحرَّجُون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غُيَّبٌ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ". فهذا تأويل ثالث. ورُوي فيه تأويل رابع، وهو ما رَوَى سفيان عن قيس بن مسلم عن مقسم قال :" كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض والأعرج لأنه لا ينال ما ينال الصحيح، فنزلت هذه الآية ". وقد أنكر بعض أهل العلم هذا التأويل ؛ لأنه لم يقل : ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى، وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذُكر معه في الأكل، فهذا في الأعمى إذا أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف، وإن كان تأويل مقسم محتملاً على بُعْدٍ في الكلام، وتأويل ابن عباس ظاهر لأن قوله تعالى :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ]، ولم يكن هذا تجارةً وامتنعوا من الأكل، فأنزل الله إباحة ذلك. وأما تأويل مجاهد فهو سائغ من وجهين، أحدهما : أنه قد كانت العادة عندهم بَذْلَ الطعام لأقربائهم ومن معهم، فكان جريان العادة به كالنطق به، فأباح الله للأعمى ومن ذُكر معه إذا اسْتَتْبَعُوا أن يأكلوا من بيوت من اتّبعوهم وبيوت آبائهم. والثاني : أن ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام، وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك الزمان لأمثالهم، فكان ذلك القدر مستحقّاً من مالهم لهؤلاء ؛ فلذلك أبيح لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن. وقال قتادة :" إن أكلتَ من بيت صديقك بغير إذنه فلا بأس، لقوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾. ورُوي أن أعرابيّاً دخل على الحسن، فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها، فبكى الحسن، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : ذكرت بما صنع هذا إخواناً لي مضوا ؛ يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون. وهذا أيضاً على ما كانت العادة قد جرت به منهم في مثله.
وقوله تعالى :﴿ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ﴾، يعني والله أعلم : من البيوت التي هم سكّانها وهم عيال غيرهم فيها، مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من بيته ؛ ونسبها إليهم لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل ؛ لأنه لا يجوز أن يكون المرادُ الإباحةَ للرجل أن يأكل من مال نفسه، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره ؛ وقال الله :﴿ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ ﴾ فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفَقْدِ التمانع في أمثاله، ولم يذكر الأكل في بيوت الأولاد لأن قوله تعالى :﴿ وَلا علَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ﴾ قد أفاده ؛ لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :" أَنْتَ وَمَالُكَ لأبيكَ " وقال :" إِنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ "، فاكتفى بذكر بيوت أنفسكم عن ذكر بيوت الأولاد، إذ كانت منسوبة إلى الآباء.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ ؛ رُوي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ﴾ قال :" هو الرجل يؤاكل الرجل بصنعته، يرخص له أن يأكل من ذلك الطعام والثمر ويشرب من ذلك اللبن ". وعن عكرمة في قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ﴾ قال :" إذا ملك المفتاح فهو جائز ولا بأس أن يَطْعَمَ الشيء اليسير ". ورَوَى سعيد عن قتادة في قوله :﴿ لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ولا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ﴾ قال :" كان الرجل لا يضيف أحداً ولا يأكل من بيت غيره تأثُّماً من ذلك، وكان أَول من رخَّص الله له في ذلك ثم رخص للناس عامة، فقال :﴿ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ﴾ مما عندك يا ابن آدم، أو صديقكم، ولو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالاً ". قال أبو بكر : وهذا أيضاً مبنيٌّ على ما جرت العادة بالإذن فيه فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكِسْرَةِ ونحوها من غير استئذانها إيّاه ؛ لأنه متعارف أنهم لا يُمْنَعُون من مثله، كالعبد المأذون والمكاتَبِ يَدْعُوان إلى طعامهما ويتصدقان باليسير مما في أيديهما فيجوز بغير إذن المولى.
وقوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾، رَوَى الأعمش عن نافع عن ابن عمر قال :" لقد رأيْتُني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ". ورَوَى عبدالله الرصافي عن محمد بن عليّ قال :" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه ". وروى إسحاق بن كثير قال : حدثنا الرصافي قال :" كنا عند أبي جعفر يوماً فقال : هل يدخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو كسبه فيأخذ ماله ؟ قلنا : لا، قال : ما أنتم بإخوان ".
قال أبو بكر : قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رَحِمٍ محرم أنه لا يُقطع، لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها من غير إذنهم فلا يكون مالُهُ مُحْرَزاً منهم.
فإن قيل : فينبغي أن لا يُقطع إذا سرق من صديقه ؛ لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه. قيل له : من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له.
وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله :﴿ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ﴾، وبقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاّ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ ". قال أبو بكر : ليس في ذلك ما يوجب نسخه ؛ لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها، وقوله :" لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ " في سائر الناس غيرهم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" لا يحلّ مالُ امرىءٍ مُسلمٍ إلا بطيبةٍ مِنْ نَفْسِه ".
وقوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. روى سعيد عن قتادة قال :" كان هذا الحيّ من كنانة بني خزيمة يرى أحدهم أنه محرَّمٌ عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إنّ الرجل ليَسُوقُ الذَّوْدَ الحُفَّلَ وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويُشَارِبُه، فأنزل الله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ ". وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا نأكل ولا نشبعُ، قال :" فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُّونَ ؟ " قالوا : نعم، قال :" فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ ". وقال ابن عباس :﴿ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ " المعنى : يأكل مع الفقير في بيته ". وقال أبو صالح :" كان إذا نزل بهم ضيفٌ تحرَّجوا أن يأكلوا إلا معه ". وقيل :" إن الرجل كان يخاف إِنْ أكل مع غيره أن يزيد أكْلُه على أكْلِ صاحبه، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام ". قال أبو بكر : هذا تأويل محتمل، وقد دلّ على هذا المعنى قوله :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ]، فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعاً، ونحوه قوله :﴿ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أذكى طعاماً فليأتكم برزق منه ﴾ [ الكهف : ١٩ ]، فكان الوَرقُ لهم جميعاً والطعام بينهم فاستجازوا أكله، فكذلك قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جِمِيعاً ﴾ يجوز أن يكون مراده أن يأكلوا جميعاً طعاماً بينهم، وهي المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً ﴾ ؛ روى مَعْمَرٌ عن الحسن :" فسَلِّموا على أنفسكم، يسلّم بعضكم على بعض، كقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] ". ورَوَى معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال :" هو المسجد إذا دَخَلْتَهُ فقل السلامُ عَلَيْنَا وعلى عباد الله الصالحين ". وقال نافع عن ابن عمر :" أنه كان إذا دخل بيتاً ليس فيه أحد قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا كان فيه أحد قال : السلام عليكم، وإذا دخل المسجد قال : بسم الله السلام على رسول الله ".
وقال الزهري :﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ " إذا دخلت بيتك فسلِّمْ على أهلك فهم أحَقّ من سلمتَ عليه، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يُؤمر بذلك حُدِّثْنا أن الملائكة تردُّ عليه ".
قال أبو بكر : لما كان اللفظُ محتَمِلاً لسائر الوجوه تأوّله السلف عليها وجب أن يكون الجميع مراداً بعموم اللفظ.
وقوله تعالى :﴿ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾، يعني أن السلام تحيةٌ من الله ؛ لأن الله أمر به، وهي مباركة طيبة لأنه دعاء بالسلامة فيبقى أثره ومنفعته. وفيه الدلالة على أن قوله :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ [ النساء : ٨٦ ] قد أُريد به السلام.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾ ؛ قال الحسن وسعيد بن جبير :" في الجهاد ". وقال عطاء :" في كل أمر جامع ". وقال مكحول :" في الجمعة والقتال ". وقال الزهري :" الجمعة "، وقال قتادة :" كل أمر هو طاعة لله ". قال أبو بكر : هو في جميع ذلك لعموم اللفظ. وقال سعيد عن قتادة :﴿ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ﴾ الآية، قال :" كان الله أنزل قبل ذلك في سورة براءة :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] فرخص له في هذه السورة :﴿ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ فنسخت هذه الآيةُ الّتي في سورة براءة ". وقد قيل : إنه لا معنى للاستئذان للمحدث في الجمعة لأنه لا وجه لمقامه ولا يجوز للإمام منعه، فلا معنى للاستئذان فيه ؛ وإنما هو فيما يحتاج الإمام فيه إلى معونتهم في القتال أو الرأي.
قوله تعالى :﴿ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ ؛ رُوي عن ابن عباس قال :" يعني احذروا إذا أسخطتموه دعاءه عليكم فإن دعاءه مجاب ليس كدعاء غيره ". وقال مجاهد وقتادة :" ادعوه بالخضوع والتعظيم نحو يا رسول الله يا نبي الله ولا تقولوا يا محمد كما يقول بعضكم لبعض ". قال أبو بكر : هو على الأمرين جميعاً لاحتمال اللفظ لهما.
وقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً ﴾، يعني به المنافقين الذين كانوا ينصرفون عن أمر جامع من غير استئذان يَلُوذُ بعضهم ببعض ويستتر به لئلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم منصرفاً.
قوله تعالى :﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، معناه : فليحذر الذين يخالفون أمره. ودخل عليه حرف الجر لجواز ذلك في اللغة، كقوله :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم ﴾ [ النساء : ١٥٥ ] معناه : فبنقضهم ميثاقهم. و " الهاء " في " أمره " يحتمل أن يكون ضميراً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون ضميراً لله تعالى ؛ والأظهر أنها لله لأنه يليه، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها ما تقدمها. وفيه دلالة على أن أوامر الله على الوجوب ؛ لأنه ألزم اللَّوْمَ والعِقَابَ لمخالفة الأمر، وذلك يكون على وجهين، أحدهما : أن لا يقبله فيخالفه بالردّ له، والثاني : أن لا يفعل المأمور به وإن كان مقرّاً بوجوبه عليه ومعتقداً للزومه ؛ فهو على الأمرين جميعاً ومن قَصَرَهُ على أحد الوجهين دون الآخر خَصَّه بغير دلالة. ومن الناس من يحتجّ به في أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب، وذلك لأنه جعل الضمير في " أمره " للنبي صلى الله عليه وسلم، وفِعْلُه يسمّى أمْره، كما قال تعالى :﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ [ هود : ٩٧ ] يعني أفعاله وأقواله. وهذا ليس كذلك عندنا ؛ لأن اسم الله تعالى فيه بعد اسم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً ﴾، وهو الذي تليه الكناية، فينبغي أن يكون راجعاً إليه دون غيره.
Icon