تفسير سورة النّور

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مدنية، وآياتها أربع وستون آية. وهي تتضمن جوانب كثيرة ومختلفة من الأحكام والعبر والحِكَم وأدب السلوك. ويأتي في مقدمة ذلك كله تشريع الحد في حق الزاني والزانية. فقد شدد الإسلام نكيره البالغ على فاحشة الزنا لما في ذلك من تزييف للنسل وإفساد للأنساب، وتدمير للضمائر والقيمَ، وإشاعة للظنون والفوضى.
وتتضمن السورة الإخبار عن حديث الإفك وما فيه من إساءة مستقبحة ومشينة على الجناب الطاهر المصون لأم المؤمنين، بنت الصديق رضي الله عنهما.
وفي السورة تشريع العقوبة للقاذف الذي يطعن شرف المسلمين بمقالته الكريهة فيهم ؛ إذ يُشيع بينهم السوء وفحش القول بغير بينة. إلى غير ذلك من الأحكام والمعاني كالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم من الرجال. وكذلك أدب الدخول على المسلمين ووجوب الاستئذان بذلك. ثم الوعد الصادق من الله للمسلمين الصابرين المخلصين باستخلافهم في الأرض وتمكينهم فيها وجعل الغلبة والسلطان لهم.

بسم الله الرحمان الرحيم
قوله تعالى :﴿ سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ( ١ ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( ٢ ) ﴾ ( سورة ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ( أنزلناها ) صفة لسورة. وتقديره : هذه سورة منزلة١ أو هذه سورة أنزلناها. وفي ذلك ما لا يخفى من التنبيه على الاعتناء بهذه السورة لما فيها من أحكام في العفة والستر ودفع الفواحش عن المسلمين وصونهم في سمعتهم وشرفهم وكرامتهم ( وفرضناها ) أي فرضنا ما فيها من الأحكام عليكم وعلى الذين يأتون من بعدكم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٩١..
قوله :( الزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة ) بدأ بذكر الزانية قبل الزاني لإيجاب الحد إذا تحققت شروطه. أما البداية بذكر الزانية قبل الزاني ؛ فإنها تزجي بالسؤال عن سبب ذلك. ولعل الجواب عن ذلك أن فاحشة الزنا إنما تؤتى في الغالب من قبل المرأة. وذلك يعني أن المرأة أقدر من الرجل على صون نفسها بالاصطبار والاستعصام وطول الاحتمال دون السقوط في الزنا، فضلا عن خصلة الاحتجاز والأنفة اللذين فطرت عليهما المرأة، فإنها بطبعها تجنح للتماسك والاحتجاز والأنفة عن المراودة أو التحرش من قبل الرجال الذين يندفعون في الغالب صوب النساء لقضاء أوطارهم منهن. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن المرأة في الغالب لا تأتي بل إنها تؤتى. فالرجل يتقدم نحوها مبتغيا راغبا. والمرأة من جهتها تستقبل دون أن تبرح مكانها ولا تريم.
ولئن كانت المرأة قد فطرت على الاحتجاز والانثناء والأنفة ؛ فإن الرجل أضعف في احتباس نفسه دون التقدم والاندفاع جهة الجنس الآخر. لا جرم أن هذه خصلة من خصال الضعف المحسوبة على الرجال في مقابلة النساء.
وعلى هذا فإن المرأة من جهتها تمسك بصمام الأمان للحيلولة دون وقع الفاحشة. فإن هي استرخت أو أذنت للرجل الدنو منها أو مسها كان الرجل شديد الاندفاع في عجل لقضاء الشهوة المشبوبة. وحينئذ تقع الفاحشة ويتوجب العقاب الصارم. وهذه حقيقة مستفادة من قوله في تحذير النساء من اللين ورقة الخطاب أمام الرجال :( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) أي لا تخاطبن الرجال إلا في جد واستقامة بعيدا عن بواعث الريبة والفتنة والإغراء الذي يثيره لين القول ورقة الخطاب المتكلف.
وبذلك لا يُتصور وقوع الزنا بغير إذن من المرأة وقبولها. فإن هي استعصمت مجتنبة ظواهر الإغراء وتكلف الخطاب، فما يستطيع الرجل بعد ذلك أن يفعل شيئا إلا أن يجترئ في وقاحة شرسة فينقض انقضاض الكاسر المجنون.
حد الزنا
الزنا خسيسة من خسائس المجتمعات البشرية. وهو رذيلة من الرذائل التي تدنّس الفرد والجماعة بما تفضي إليه هذه الفاحشة المستقذرة النكراء من خلط المياه وتزييف النسل والأنساب وإشاعة الفوضى والظنون في المجتمع، وتبديد الثقة بين الأزواج والزوجات، وإضعاف التلاحم وعرى المودة بين الناس. والإكثار من نسبة الطلاق والأولاد غير الشرعيين ؛ من أجل ذلك ندد الإسلام تنديدا بهذه الفاحشة المستقبحة وأعدّ من أجلها العقاب الرادع سواء في ذلك الزاني المحصن أو غير المحصن.
على أن الزنا الموجب للحد يعني الوطء من البالغ العاقل في قُبُل أو دُبر ممن لا عصمة بينهما ولا شبهة وهو قول الجمهور. بخلاف الحنفية ؛ فإن الزنا الموجب للحد عندهم ما كان في القبل دون الدبر.
وثمة شروط لوجوب حد الزنا وهي :
الشرط الأول : التكليف ؛ فإنه لا يقام الحد على الصغير والمجنون والمعتوه، ولا على النائم أو المكره ؛ وذلك لما أخرجه أبو داود بسنده عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن رسول الله ( ص ) قال : " رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ".
الشرط الثاني : الاختيار. وذلك أن يكون كل من الزناة أو الزواني مختارا غير مكره. فأيما إكراه في وقوع الزنا يندرئ به الحد. وذلك في حق المرأة معلوم لا خلاف فيه. أما الرجل المكره على الزنا ففي حده خلاف ؛ فقد ذهبت الحنبلية والمالكية في الراجح من مذهبهم إلى حده. خلافا للشافعي وآخرين ؛ إذ قالوا بعدم وجوب الحد على الزاني المكره استنادا إلى عموم الخبر : " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
أما الحنفية : فإن الإكراه الذي يندرئ به الحد عندهم ما كان بفعل السلطان. أما الإكراه من غير السلطان فلا يمنع من وقوع الحد على الزاني المكره١.
الشرط الثالث : العلم بالتحريم ؛ فإنه يُعذر من جهل التحريم. كما لو كان الزاني حديث عهد بالإسلام، أو ناشئا ببادية بعيدة عن المسلمين. وتفصيل ذلك في مواضعه من كتب الفقه.
الشرط الرابع : انتفاء الشبهة ؛ فإن الشبهة في الزنا تدرأ منه الحد ؛ لأن الحدود مبنية على الدرء والإسقاط بالشبهات. وفي ذلك أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا ".
وروى الترمذي أيضا عن عائشة قالت : قال رسول الله ( ص ) : " ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم. فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ؛ فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ".
وضروب الشبهات في هذا الصدد كثيرة. كالوطء في نكاح مختلف في صحته. مثل النكاح بغير ولي، أو بغير شهود، أو في نكاح المتعة، أو نكاح الشغار. وكذلك نكاح الأخت في عدة أختها. ونكاح الخامسة في عدة الزوجة الرابعة المطلقة طلاقا بائنا. وتفصيل ذلك في مظانه.
الشرط الخامس : ثبوت الزنا في حضرة الحاكم ؛ لأن الحاكم منوط به وحده إيقاع الحد على الزاني. فإن ثبت الزنا أمام غير الحاكم ؛ لم يجب الحد، وينسحب ذلك على سائر الحدود والقصاص والتعزير.
ثبوت الزنا
يثبت الزنا بأحد شيئين :
أحدهما : الإقرار. وهو اعتراف الزاني أو الزانية بوقوع الزنا صراحة وفي وضوح لا لبس فيه ولا تردد. وصورة ذلك : أن يقر الزاني أو الزانية بوقوع الزنا أربعة أقارير، على أن يكون الإقرار طوعا من غيره إكراه. فأيما إكراه على الإقرار ينخرم معه الشرط فلا يجب الحد.
ثانيهما : البينة. وهي الشهادة من أربعة شهود عدول على حصول الزنا، على أن تتفق شهادات الشهود جميعا فيصفوا الزنا وصفا حقيقيا متطابقا. وأيما اختلاف بين شهادات الشهود ؛ فإنه يندرئ به الحد. وتفصيل ذلك في مظانه من كتب الفقه٢.
عدم ثبوت الزنا بالحمل
لا يثبت حد الزنا بالحمل، فلو أن امرأة غير مزوجة حملت لا يقام عليها حد ما لم تعترف بالزنا أو يثبت ذلك بالشهادة كما بيناه سابقا. وهو قول الجمهور من الفقهاء. ووجه ذلك : أن الحمل لا يتجاوز في الإثبات مستوى القرينة من القرائن. أو هو ليس غير احتمال من الاحتمالات التي لا تثبت بها الفاحشة. وذلك في ذاته شبهة يندرئ بها الحد.
حد المحصن وغير المحصن
المحصن من الحصن وهو الموضع المنيع المصون. ومنه الإحصان بمعنى الصون والحماية٣ والمحصن في الشرع معناه المتزوج. سمي بذلك لتحصنه بالزواج من الفتنة والوقوع في الفاحشة.
أما المحصن إذا زنا، سواء كان ذكرا أو أنثى، فقد وجب في حقه حد الرجم بالحجارة حتى الموت. وقد ثبت حد الرجم عن طريق السنة. بما لا يحتمل الشك.
ومن جملة ذلك ما أخرجه أبو داود وآخرون من أصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( ص ) : " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب ؛ جلد مئة ورمي بالحجارة. والبكر بالبكر ؛ جلد مائة ونفي سنة ". وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي ( ص ) قال لماعز بن مالك : " لعلك قبّلت أو غمزت أو نظرت " قال : لا. قال " أفنكتها ؟ " قال : نعم. قال : عند ذلك أمر برجمه، وكذلك أخرج أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : " رجم نبي الله ( ص ) رجلا من اليهود وامرأة زنيا " وغير ذلك من الأخبار في رجم المحصن كثير. وقال ابن المنذر في هذا الصدد : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت. وبذلك يثبت وجوب الرجم على الزاني المحصن.
على أن الرجم لا يجتمع مع الجلد. فإذا ثبت الزنا من المحصن وجب في حقه الرجم فقط. وهو قول أكثر أهل العلم وفيهم الحنفية والشافعية والمالكية، وكذا الحنبلية في إحدى الروايتين لهم. وقد روي ذلك عن عبد الله بن مسعود. وقال به النخعي والزهري والأوزاعي وأبو ثور. واحتجوا لذلك بأن النبي ( ص ) رجم كلا من ماعز والغامدية ولم يجلدهما.
وقيل : يجتمع الجلد والرجم. فإذا زنا المحصن وجب جلده ثم رجمه. وهو قول الحسن البصري وإسحاق وداود بن علي الظاهري. وهي الرواية الثانية للحنبلية.
واستدلوا لذلك بقوله تعالى :( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) فقالوا : هذا النص يفيد العموم لكن السنة جاءت بالرجم في حق الثيب، والجلد في حق البكر. ٤
حد غير المحصن
غير المحصن : وهو البكر إذا زنا ؛ فإنه يحد مائة جلدة ثم يغرب سنة خارج بلده. وسنعرض لمسألة التغريب إن شاء الله.
وقد ثبت حد الزنى للبكر بالكتاب الحكيم أي في هذه الآية ( الزانية والزاني فاجدلوا كل واحد منهما مائة جلدة ) وكذلك في السنة مما أخرجه أئمة الحديث عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( ص ) : " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب ؛ جلدة مائة والرجم ".
وروى البخاري وأحمد عن أبي هريرة أن النبي ( ص ) " قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام، وإقامة الحد عليه ".
وهل يجب التغريب، وهو النفي، مع الجلد في حق البكر إذ زنا ؟ ثمة قولان في ذلك : القول الأول : وجوب التغريب مدة سنة سواء كان ذلك قبل الجلد أو عقبه. وهو قول الجمهور من الشافعية والمالكية والحنبلية وأهل الظاهر. وقد روي ذلك عن الخلفاء الراشدين. وبه قال ابن مسعود وابن عمر. وهو مذهب عطاء وطاووس والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور. ودليل ذلك ما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت أن النبي ( ص ) قال : " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب ؛ جلدة مائة ورمي بالحجارة، و البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة ".
القول الثاني : عدم وجوب التغريب في حد البكر. وإنما حده الجلد فقط. وهو قول الحنفية. واستدلوا بقوله تعالى :( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) فقد أمر بالجلد ولم يذكر التغريب، فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله عز وجل والزيادة عليه نسخ، ولا ينسخ نص الكتاب بخبر الواحد٥.
إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالزنا وحده مما لا يتسع لذكره المجال أكثر مما ذكرنا. وتفصيل ذلك في مظانه من كتب الفقه.
قوله :( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) أي لا يمنعكم عن طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحد على الزناة والزواني، رحمة بهم أو شفقة عليهم. وذلك بترك الحد أو تخفيف الضرب كيلا يوجع ؛ بل تجب إقامة الحد بالضرب الوجيع في غير تبريح ولا مبالغة جزاء للزاني على ما اقترف، وردعا لغيره من الناس ممن تسوّل له نفسه الوقوع في الفحش.
قوله :( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) يعني أقيموا حدود الله كجلد الزاني والزانية إن كنتم مصدقين بالله واليوم الآخر. والمراد التحريض على إقامة الحد من غير تردد أو إبطاء.
قوله :( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) أي ليحضر حد الزانيين طائفة من المؤمنين. واختلفوا في المراد بالطائفة. فقد قيل : الواحد فما زاد طائفة. وقيل : الطائفة ثلاثة نفر فصاعدا. وقيل : أربعة نفر فصاعدا طائفة.
والمراد من حضور الطائفة : توبيخهما وتعنيفهما وزيادة التنكيل بهما، وافتضاح أمرهما ؛ فيكون ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما فضلا عما في ذلك من ازدجار للناس. فإن من شهد الحد يتعظ به ويشيع حديثه فيعتبر به غيره٦.
١ -المغني جـ ٨ ص ١٨٧ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٢٨٢ وحاشية الخرشي ومعه حاشية العدوي جـ٨ ص ٨٠..
٢ - حاشية الخرشي جـ٨ ص ٧٨ والأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٥ وبدائع الصنائع جـ٧ ص ٣٧ والكافي لابن قدامة جـ٣ ص ٢٠٤ وأسهل المدارك جـ٣ ص ١٦٧. والمدونة جـ ٤ ص٣٨٣..
٣ - تهذيب اللغة للأزهري جـ ٤ ص ٢٤٤، وأساس البلاغة للزمخشري جـ ١ ص ١٧٩ ولسان العرب جـ ١ ص ٦٥٥..
٤ - المغني جـ٨ ص ١٦٠ والمهذب جـ ٢ ص ٢٧٢ وبداية المجتهد جـ٢ ص ٤٣٥ وأحكام القرآن لابن العربي جـ١ ص ٣٥٩..
٥ - الكافي جـ ٣ ص ٢١٥ وبلغة السالك ومعها حاشية الدردير جـ٢ ص ٤٢٤ وحاشية الخرشي جـ٨ ص ٨٤ والأحكام السلطانية ص ٢٣..
٦ - تفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٦٢ وتفسير القرطبي جـ ١٢ ص ١٦٦ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣١٤..
قوله تعالى :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ( ٣ ) ﴾ قال المفسرون : قدم المهاجرون إلى المدينة وفيهم فقراء ليست لهم أموال، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين. فقالوا : لو أنا تزوجنا منهن فعشنا معهن إلى أن يغنينا الله تعالى عنهن. فاستأذنوا النبي ( ص ) في ذلك، فنزلت هذه الآية وحرم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك.
وقيل : نزلت الآية في نساء بغايا بمكة والمدينة وكن كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلا زان. فأراد ناس من المسلمين نكاحهن ليتخذوهن مأكلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونهى المؤمنين عن ذلك وحرمه عليهم.
وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة. قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه واعد رجلا من أسارى مكة بحمله. قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إلي عرفتني فقالت : مرثد ؟ فقلت : مرثد. فقالت : مرحبا وأهلا. هلم فبتْ عندنا الليلة. فقلت : يا عناق، إن الله حرم الزنا. فأتيت رسول الله ( ص ) فقلت : يا رسول الله. أنكحُ عناقا، فأمسك رسول الله ( ص ) فلم يرد شيئا حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية ) الآية١. وينكح هنا بمعنى يطأ. وهذا إخبار من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة أي لا تجيبه إلى بغيته وهو الجماع إلا زانية من الزواني لا تعبأ بفعل المعصية، أو مشركة من المشركات لا تجد الزنا حراما. وكذلك المرأة الزانية لا يطأها أو يجامعها إلا رجل زان عاص لله، أو مشرك لا يرى أن الزنا حرام. فالمراد بالنكاح ههنا الوطء أو الجماع. فلا يزني بالزانية أو الكافرة إلا من هو مثلها في الزنا أو الكفر. وجملة ذلك أن الزاني لا يزني إلا بزانية. وكذا الزانية لا تزني إلا بزان. وهو قول ابن عباس.
قوله :( وحرم ذلك على المؤمنين ) الإشارة عائدة إلى معصية الزنا ؛ فإنه حرام على المؤمنين. ويستفاد من ذلك تحريم الزواج من البغايا، أو تزويج العفائف من الرجال الفجار. وقد ذهب الإمام أحمد على أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ( الزانية ) مادامت موصوفة بالزنا حتى تستتاب، فإن تابت صح زواجها. وكذلك لا يصح تزويج الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب، فإن تاب جاز زواجه منها.
وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) فقد دخلت الزانية في أيامي المسلمين، وهو قول أكثر العلماء. وبذلك من زنا بامرأة فله أن يتزوجها، ولغيره كذلك أن يتزوجها. ويستفاد من كون الآية منسوخة أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد عقد الزواج بينهما. وإذا زنا الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته٢.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢١١، ٢١٢ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣١٦ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٦٣..
٢ - تفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٦٢ وتفسير القرطبي جـ ١٢ ص ١٦٨- ١٧١ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣١٧..
قوله تعالى :﴿ الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( ٤ ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( ٥ ) ﴾ هذه الآية في حكم القذف الذي يعتدي به النساء العفيفات بالإذاية من القول الفاحش مما فيه طعن لشرفهن ومس بسمعتهن. وذلك بالتهمة الظالمة المفترية التي لا يسعفها دليل ولا بينة.
وقوله :( يرمون ) أي يشتمون. و ( المحصنات ) يعني العفائف من النساء. والمراد : رميهن بضد العفاف وهو الزنا. من أجل ذلك أعد الله للمعتدين على سمعة النساء العفائف بقذفهن بفاحش الزنا- عقوبة الحد وهو الضرب ثمانين جلدة ثم رد شهادتهم وتفسيقهم.
قوله :( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) أوجب الله لإثبات الزنا خاصة دون غيره من الحقوق، أربعة شهداء. وتلك رحمة من الله بالعباد ؛ إذ يريد لهم الستر والصون والرعاية من كل أذى.
وتشريع الشهادة بأربعة شهود عدول يصون الفرد والجماعة من طمع المرتابين المتعجلين الذين يبادرون لابتغاء الهلكة للمقذوفين فضلا عن تشنيع سمعتهم وإثارة الريبة من حولهم. وبذلك فإن تشريع العقوبة للقاذف بحده ثمانين جلدة يكف عن الناس ألسنة السوء، ويدرأ عنهم بذاءة القول الفاحش صونا لسمعتهم وكرامتهم، وتنبيها للمرتابين الظانين بالناس سوءا أنهم محدودون بالضرب على ظهورهم إذا ما اندلقت من ألسنتهم مقالة الشتم والطعن في أعراض الأبرياء من غير حجة أو برهان.
حد القذف
القذف في الشرع، معناه الرمي بالزنا صراحة أو دلالة. كأن يقول لإنسان : يا زان. أو يا لوطي. ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة الدالة على القذف بالزنا. أو كان الرمي كناية. كقوله لإنسانة : يا قحبة أو يا فاجرة١.
شروط حد القذف
هذه شروط خمسة لوجوب الحد على القاذف وهي :
الشرط الأول : أن يكون القاذف مكلفا. وهو كونه عاقلا بالغا غير مكره. فلا يقام الحد على القاذف المجنون أو الصبي أو المكره على القذف. وذلك للخبر : " رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم " وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
الشرط الثاني : أن يكون المقذوف محصنا. وذلك للآية هنا :( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) وبذلك لا يجلد من قذف غير المحصنات أو المحصنين. والمحصنة أو المحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ العفيف. وعلى هذا فإن المحصنين. والمحصنة أو المحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ العفيف. وعلى هذا فإن صفات المقذوف خمسة وهي : العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة. فلا يجب الجلد على قاذف المجنون أو الصبي أو العبد أو الكافر أو غير المتعفف وذلك لضعف شعورهم بالمعرّة. وغير المتعفف يراد به المتهتك المريب الذي يرد مواطن الفحش والخنا.
والجمهور من أهل العلم، على أنه لا حد على قاذف الكافر لانعدام غيرته على عرضه أو ضعف إحساسه بالعار إذ قذف. وقيل : يحد قاذف المرأة الكتابية المزوجة من مسلم أو كان لها ولد مسلم.
أما لفظ المحصنات فهو على أربع معان هي : العفائف، ثم ذوات الأزواج، ثم الحرائر، ثم المسلمات. لقوله تعالى :( فإذا أحصن ) أي أسلمن.
الشرط الثالث : أن لا يكون القاذف والدا للمقذوف. ويندرج في الولد، الأصل أو من علاه. فلو قذف والد ولده أو حفيده فإنه لا يحد. ووجه ذلك : أن عقوبة القذف تجب لحق آدمي. فلا تجب للولد على والده كالقصاص. أما إذا قذف الولد أباه أو أمه فقد وجب عليه الحد وهو قول الجمهور من الفقهاء٢.
الشرط الرابع : القذف بالزنا. وهو نوعان بيناهما سابقا. وجملة ذلك : أنه صريح وكناية. فالصريح : هو القول الظاهر الذي لا يحتمل غير مفهوم الزنا، كقوله : يا زاني أو أنت زنيت. أو فرجك زنا ؛ فذلك قذف صريح يجب به الحد على القاذف. وأما الكناية : فهي التكلم بكلام يحتمل القذف بالزنا وغيره. كقوله لها : يا فاجرة. أو يا خبيثة أو يا قحبة. أو قال لرجل : يا مخنث أو يا فاجر ونحو ذلك من الكلام الذي يحتمل أكثر من معنى. ومثل هذا القذف المحتمل لا يجب به الحد. وهو قول الحنيفية، والحنبلية في الراجح من مذهبهم. وثمة قول في المذهب بوجوب الحد. وكذلك الشافعية لا يجب الحد عندهم في قذف الكناية أو التعريض في القول إلا إذا نوى القاذف ذلك. وبذلك لا يجب الحد في قذف الكناية لاستتار النية ؛ فإن محلها القلب. أما المالكية فإنهم يوجبون الحد في القذف الصريح والكناية. حتى لو عرّض القاذف تعريضا بالمقذوف وجب عليه الحد٣.
الشرط الخامس : عدم إثبات القذف بأربعة شهداء. فإذا لم يكن مع القاذف غير نفسه أو كان معه غيره ولم تكتمل بهم عدة الأربعة من الشهود العدول لم تقبل شهادتهم بل كانوا جميعا قذفة ليجب في حقهم الحد٤.
وللمستزيد من أحكام القذف أكثر مما بيناه هنا أن يراجع ذلك في مظانه من كتب الفقه.
قوله :( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) الجلد، معناه الضرب٥ والمخاطب، الإمام، أو ولي الأمر الذي يسوس المسلمين بشرع الله فهو منوط به تنفيذ الحدود. وثمانين، منصوب على المصدر. وجلدة، منصوب على التمييز٦.
واختلفوا في حد القذف، هل هو حق من حقوق الله كحد الزنا ؟ فهو من حقوق الله عند الإمام أبي حنيفة وأتباعه. وعند المالكية والشافعية أنه حق من حقوق المقذوف. وهو الراجح ؛ لأنه يتوقف على مطالبة المقذوف، ويصح له الرجوع عنه. وهو لا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف. وهو قول الجمهور.
قوله :( ولا تقبلوا لهم شهداء أبدا ) معطوف على وجوب جلدهم ؛ أي عاقبوهم بالجلد وعدم قبول شهادتهم، فقد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة. وذلك مدة حياتهم. وهو تأويل قوله :( أبدا ).
قوله :( وأولئك هم الفاسقون ) أي الخارجون عن طاعة الله بكذبهم وافترائهم على المقذوفين بالباطل.
١ - الأحكام السلطانية ص ٢٩ والروض المربع بشرح زاد المستنقع للشيخ منصور البهوتي جـ ٢ ص ٣٨٦..
٢ - تحفة الفقهاء للسمرقندي جـ٣ ص ٢٥ ومغني المحتاج جـ٤ ص ١٥٥ والمبسوط جـ ٩ ص ١١٨ وأحكام القرآن للشافعي جـ١ ص ٣٠٧-٣١١ والكافي جـ٣ ص ٢١٧ وأسهل المدارك جـ٣ ص ١٧٣..
٣ - الكافي جـ ٣ ص ٢٠ والبدائع جـ ٧ ص ٤٢ وأسهل المدارك جـ ٣ ص ١٧٣ وحاشية الخرشي جـ٨ ص ٨٧. والمغني جـ٨ ص ٢١٧ والمبسوط جـ٩ ص ١١٥..
٤ - المبسوط جـ٩ ص ١١٥ والمهذب جـ٢ ص ٢٧٢ والمغني جـ ٨ ص ٢١٧ والهداية جـ٢ ص ١١٢..
٥ - مختار الصحاح ص ١٠٧..
٦ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٩٢..
قوله :﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ ذلك استثناء للتائبين من بعد القذف. فإن هم ندموا على فعلهم واستغفروا ربهم وأنابوا إليه، وتركوا العود إلى مثل ما فعلوه من القذف فإن الله يستر عليهم ما فعلوه من ذنب.
على أن الاستثناء غير عامل في جلد القاذف بالإجماع. فإذا طلب المقذوف حقه في الحد من القاذف أجابه الحاكم لا محالة.
أما عمل الاستثناء في رد الشهادة من القاذف فهو مختلف فيه. فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن الشهادة من القاذف لا تقبل. فهي بذلك مردودة وإن تاب وإنما يزول فسقه فقط. وهو قول الحنفية وآخرين. وقال أكثر أهل العلم إن الاستثناء عامل في رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وزال فسقه. والأصل في هذه المسألة اختلافهم في الاستثناء إذا جاء عقيب جمل معطوفة هل يعود إلى جميعها أم إلى الجملة الأخيرة فقط١.
ثمة أقوال ثلاثة للعلماء في ذلك :
القول الأول : إن الاستثناء يعود إلى جميع الجمل المتعاقبة بالواو. وهو قول الشافعية والمالكية والحنبلية وأهل الظاهر. وقال به أبو الحسن البصري من المعتزلة. فقد ذهب هؤلاء جميعا إلى أن الاستثناء المتصل بجمل من الكلام معطوف بعضها على بعض يجب رجوعه إلى جميع الجمل. فالآية هنا، قد وقع الاستثناء فيها بعد ثلاث جمل. وهي : الأمر بالجلد. ثم النهي عن قبول الشهادة. ثم الإخبار بفسقهم. والاستثناء عائد إلى الجميع. وبذلك يرتفع رد الشهادة كما يرتفع التفسيق. ولا يرتفع الجلد فإنه حد.
وقد ورد التنصيص على وجوبه في الأخبار الصحيحة. واحتج هؤلاء بعدة أدلة منها، القياس على الشرط ؛ فإن الشرط إذا تعقب جملا ؛ فإنه يعود على الكل فكذا الاستثناء. وقالوا أيضا : الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة وبذلك يؤثر الاستثناء في الجميع.
القول الثاني : إن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط. وهو قول الحنفية وقال به الرازي. وبذلك فإن الاستثناء يختص بالجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو. واحتجوا بأن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة مستيقن. أما رجوعه إلى ما قبلها من الجمل فهو محتمل مشكوك فيه فلا يثبت بالشك والاحتمال.
القول الثالث : التوقف. وهو مذهب الأشعري واختاره الآمدي والغزالي والباقلاني. فقد توقفوا لعدم العلم بمدلوله لغة٢.
١ - أحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣٢٤، ١٣٢٥ وفتح القدير جـ ٣ ص ٩٥٨ وتفسير القرطبي جـ ١٢ ص ١٨٠..
٢ - المنخول للغزالي ص ١٦٠ والإحكام للآمدي جـ٢ ص ١٣٣ والمحصول للرازي جـ١ ص ٤١٥ وإرشاد الفحول للشوكاني ص ١٥١ والمعتمد جـ١ ص ٢٤٥ لأبي الحسين البصري، وإحكام الفصول للباجي ص ١٨٩..
قوله تعالى :﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ويدرأوا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( ٨ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ( ٩ ) ﴾.
ورد في سبب نزول هذه الآية عدة روايات نقتضب منها ما رواه البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( ص ) بشريك بن سحماء. فقال النبي ( ص ) : " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي ( ص ) يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه ( والذين يرمون أزواجهم ) فقرأ حتى بلغ ( إن كان من الصادقين ) فانصرف النبي ( ص ) فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد والنبي ( ص ) يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت. فلما كان في الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة. قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع. ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت. فقال النبي ( ص ) : " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء " فجاءت به كذلك. فقال النبي ( ص ) : " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ".
على أن هذه الآية فيها فرج ومخرج للأزواج الذين يرون في أهلهم السوء بأعينهم فيتعسر عليهم أن يأتوا بأربعة شهداء، فلهم أن يلاعنوهن وذلك من الملاعنة أو اللعان، وصورته ما بيناه في سبب نزول الآية، وهي قوله :( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ) أنفسهم، مرفوع على البدل من ( شهداء ) فشهادة مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، وتقديره : فعليهم شهادة أحدهم. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فالحكم شهادة أحدكم أربع شهادات١.
وبيان الملاعنة أو اللعان أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، كأن يقول لها : زنيت أو يا زانية. أو قال لها : هذا الولد ليس مني. وجملة ذلك : أن يتهمها بالزنا أو ينفي حملا أو ولدا منها دون أن تكون له على ذلك بينة. فله بذلك أن يلاعنها كما أمره الله جل وعلا. وذلك أن يحضر وإياها إلى الحاكم فيدعي عليها ما رماها به فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. أي يقول : أشهد بالله أنه لصادق فيما رماها به من الزنا. وذلك في مقابلة أربعة شهداء يشهدون على صدقه
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٢..
﴿ والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ﴾ فإن قال هذه الخامسة فقد بانت منه زوجته بنفس هذا اللعان وحرمت عليه أبدا، ويؤدي لها حقها من المهر. وهذه الصيغة من اللعان توجب عليها حد الزنا إلا أن تدرأ عن نفسها العذاب وهو الحد بالرجم. وذلك أن تلاعن، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا
﴿ والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ﴾ فقد خصه هو باللعن، وخصها هي بالغضب ؛ لأن نكرها كان أشد، بسبب ما تحمله في بطنها من طريق السفاح فتدخل على زوجها من ليس من مائه ثم ينسب إليه افتراء وبهتانا، ويضطلع الزوج بالإنفاق عليه من غير حق ثم يرث أحدهما الآخر بالباطل. ويضاف إلى ذلك ما يستكن في طبيعة الأنثى من أنفة تمكنها من رفض الزنا، والاستعلاء على إغواء الزناة وتحرشهم.
وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان البتة ولا يتوارثان ولا يحل له أن يراجعها أبدا. وهو قول المالكية. وقال به الليث وزفر والأوزاعي. وعند الحنفية : لا تقع الفرقة بينهما بعد فراغهما من اللعان إلا بتفريق الحاكم بينهما. وعند الشافعية : إذا أكمل الزوج شهاداته الأربع وتم التعانه ؛ فقد زال الفراش بينها وبينه، سواء وقع منها الالتعان أو لم يقع. فإنما التعانها لدرء الحد عنها فقط.
على أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا. فإن أكذب الزوج نفسه ؛ فقد وجب في حقه الحد ولحق به الولد ولم ترجع إليه زوجته أبدا. وهو قول الجمهور.
وإذا قلنا بوقوع الفرقة بسبب اللعان وهو قول الجمهور، فقد اختلفوا في صفة هذه الفرقة ؛ فقد قيل : إنها فسخ، وهو قول المالكية والشافعية وذلك لتأييد التحريم باللعان، فأشبه ذات المحرم. وقيل : إنها طلاق بائن. وهو قول الحنفية قياسا على فرقة العنين١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٦٥ وما بعدها، وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ١٩٢ وما بعدها، وبداية المجتهد جـ٢ ص ١٠٣-١٠٥..
قوله :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾ لم يذكر جواب لولا، إيجازا واختصارا لدلالة الكلام عليه. وتقديره : لولا فضل الله عليكم ورحمته لعاجلكم بالعقوبة أو يفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة١.
والمعنى : لولا فضل الله ورحمته بعباده لنالهم من رمي زوجاتهم عقاب شديد، وحرج بالغ لكن الله شرع لهم اللعان فرجا ومخرجا ودفعا للحرج ( وأن الله تواب حكيم ) الله شديد التوب ؛ فهو يقبل التوبة عن عباده التائبين إليه، الراجعين عن معاصيهم. وهو سبحانه حكيم فيما شرعه لهم من اللعان.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٤..
قوله تعالى :﴿ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) ﴾.
هذه الآية وما بعدها من الآيات التسع نزلت كلها في شأن أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) وذلك لما رماها الأفاكون الكذابون بالفرية والبهتان. رماها المنافقون الماكرون الذين يتدسسون كعادتهم، خلف كل أمة من كل زمان. إنهم يستخفون من أنظار الناس ليجيدوا في الظلام صنعة الخيانة والغدر والكيد للمسلمين ودينهم.
ذلك هو ديدن المنافقين الأنذال وهم يتلصصون مثل خفافيش الظلام ليجدوا من بين المسلمين فرجة ينفذون منها ليثيروا في أوساط المسلمين القلاقل والظنون والخلخلة والأوهام والفوضى، وهم خلف الصفوف راقدون مستخفون يتسمعون- نتيجة لكيدهم وعذرهم- ما سوف يحيق بالمسلمين من الأرزاء والبلايا.
وذلكم رسول الله ( ص )، نبراس البشرية في الهدى والتقى والصلاح، وحامل لواء الهداية والفضيلة والنور للعالمين، وشفيع الخلائق في يوم الزحام، يوم الفزع الأكبر- لم ينج ( ص ) من قالة الكذب والباطل، يندلق من أفواه المنافقين الرعاديد وهم يفترون على زوجته الطاهرة المصون. الزوجة الكريمة المبرأة الفضلى، إحدى خير نساء العالمين، بكمال دينها وتقواها، ورجاحة عقلها المميز الكبير، وطهر محتدها الأصيل المفضال في كنف الأبوة الصديقة، والنبوة الميمونة.
لقد افترى الظالمون والمنافقون والأغرار على أم المؤمنين بفاحش القول مما يثير في المؤمنين المتقين بالغ الغيرة والغضب، وشديد الابتئاس والاشمئزاز كلما فطنوا القصة أو تلوها. وما يزيدهم مثل هذا الإفك والباطل إلا ثقة برسول الله ( ص )، ويقينا بحقيقة الإسلام وصدق رسالته، وأنه الدين الحق الذي جيء به من عند الله ليكون رحمة للناس. ومن أجل ذلك كرهه المبطلون الأشرار من الكافرين والملحدين والمنافقين.
قوله :( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) ( عصبة ) مرفوع على أنه خبر ( إن ) ١ والعصبة من الرجال نحو العشرة. وقيل : من العشرة إلى الأربعين. والعصابة بالكسر : الجماعة من الناس٢ والإفك : معناه الكذب. والأفاك، الكذاب٣ والمراد بالإفك هنا : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وهو القلب ؛ أي الحديث المقلوب ؛ فقد افترى الأفاكون على السيدة عائشة كذبا وقلبا للحقيقة. والمعروف من حال السيدة عائشة، هذه المرأة الزكية المصون، خلاف ما زعموه واصطنعوه من الباطل ؛ فهي زوجة الرسول ( ص )، وهو معصوم من كل سوء أو خطيئة أو دنس. والمراد بالعصبة، الجماعة من القاذفين المبطلين وكانوا من المنافقين وأتباعهم. وكان طليعة هؤلاء في النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول. فقد كان رأسا من رؤوس النفاق في زمن النبوة وقد ركب رأسه وتولى كبره وهو يعيث بين الناس تشويشا وتوهيما وإشاعة للفتنة والريبة.
قوله :( لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) الضمير في ( تحسبوه ) عائد على من ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله ( ص ) وأبي بكر وعائشة وصفوان ابن المعطل ( رضي الله عنهم ) والمراد بكون ذلك خيرا لا شرا أنهم اكتسبوا بما أصابهم ثوابا عظيما وذكرا حميدا إلى يوم الدين ؛ فقد أصابهم بلاء كبير ومحنة ظاهرة مما لمزهم به المنافقون من بهتان وفحش الكلام. فأنزل الله في شأنهم هذه القصة وفيها عدة آيات، كل واحدة منها مستقلة بما فيه تعظيم لشأن رسول الله ( ص ) وتكريم له ولزوجه أم المؤمنين رضوان الله عليها وتنزيهه لها مما رماها به المنافقون وأتباعهم من الدنس. إلى غير ذلك من تهويل لمن تكلم في هذه القصة أو سمع بها فلم يألم ولم يغضب ولم تثره فيه ثائرة الحماسة والغيرة على أهل بيت رسول الله ( ص ) وزوجته الفاضلة الطهور. ثم صفوان بن المعطل الصحابي التقي الجليل الذي نالته ألسنة المتقولين بالسوء. وقد كان صفوان صاحب ساقة رسول الله ( ص ) في غزواته لشجاعته. وكان من خيار الصحابة ( رضي الله عنه ) وقد قتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر. وخلاصة القصة في أمر صفوان أنه لما خرج رسول الله ( ص ) بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة قافلا، آذن ليلة بالرحيل فقامت عائشة حين أذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها فلمست صدرها فإذا عقد من خرز قد انقطع فرجعت تلتمسه فحبسها ابتغاؤه، فوجدته ثم انصرفت فلم تجد أحدا. فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تُفتقد فيرجع إليه فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون. وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة. فنزل عن ناقته وتنحّى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش في نحر الظهيرة. فوقع أهل الإفك فيما افتروه من باطل وبهتان. وكان أشدهم في ذلك وأنكاهم عبد الله بن أبي ابن سلول، كبير المنافقين في المدينة. فهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال فريته الظالمة : والله ما نجت منه ولا نجا منها. وكان من قالة السوء في قصة عائشة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
فيا ويح هؤلاء أنى لهم أن يتقوّلوا على أقدس بيت في العالمين بالسوء من فُحش القول الأثيم، وقد علموا رسولهم الأكرم عصمته وصونه في كرامته المثلى وشرفه المبجل الأجل. وليت شعري هل أظلت السماء كريما رفيعا بالغا في طهر السيرة وشرف البيت والحمى مثل رسول الله محمد ( ص ).
قوله :( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) لكل واحد من هؤلاء المفترين على عائشة من الجزاء بقدر ما خاض فيه أو اجترم.
قوله :( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) ( كبره ) بكسر الكاف، ومعناه معظم الإثم والإفك. والمراد بذلك موضع خلاف. فقد قيل : إنه حسان بن ثابت ولعل العذاب العظيم الذي توعده الله به ذهاب بصره. وقيل : المراد عبد الله بن أبي سلول ؛ فهو الذي ابتدأ الإفك، وكان يجمع القائلين بهذه الفرية في بيته ويحدثهم بمقالة الإفك. فقد أوعده الله جزاء إفكه عذابا عظيما وهي النار.
وقد اختلفوا هل حد النبي ( ص ) أصحاب الإفك ؟ ثمة قولان في ذلك. أحدهما : أنه لم يحدّ أحدا من أصحاب الإفك. وثانيهما : أنه حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش. والمشهور أن الذي حُدّ، حسان ومسطح وحمنة. أما عبد الله فلم يحد ليلقى جزاءه في النار في مقابلة ما اجترم من الإفك. أما الذين حدهم فيكما يكون حدهم كفارة لهم عما اقترفوه من الإفك٤.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٤..
٢ - مختار الصحاح ص ٤٣٥ والمصباح المنير جـ٢ ص ٦٣..
٣ - القاموس المحيط جـ٣ ص ٣٠٢..
٤ - تفسير القرطبي جـ ١٢ ص ١٩٧- ٢٠٢ والكشاف جـ٣ ص ٥٣ وفتح القدير جـ٣ ص ١٢ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٦٨..
قوله تعالى :﴿ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ﴾ ذلك تأديب وعتاب من الله للمؤمنين حين أفاض الناس في قصة الإفك بما لا ينبغي أن يصدر عنهم وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وأيقنوا بعصمة نبيهم ( ص ) وما يقتضيه ذلك من طهر بيته المصون. ما كان ينبغي لهم- وهم المؤمنون المصدقون- أن يستمعوا مجرد استماع لمثل هذا الافتراء الظالم دون أن يفنّدوه ويدحضوه دحضا ويستنكروه أيما استنكار. فقال سبحانه :( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) أي هلا، حين سمعتم مقالة الإفك وفداحة الكذب والافتراء على أم المؤمنين – أن تقيسوا ذلك على أنفسكم، فإن كان ذلك لا يليق بكم ولا يصدر عنكم ولا يُتصور حصوله منكم فلا جرم أن يكون حصوله عن الحرم المصون أشد بعدا. وقد ذكر في ذلك أن أبا أيوب الأنصاري دخل يوما على امرأته فقالت له : يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل ؟ ! فقال : نعم ! وذلك الكذب ! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ؟ ! قالت : لا والله : قال : فعائشة والله أفضل منكِ. قالت أم أيوب : نعم.
ذلك الذي ينبغي أن يتجلى في خلق المسلمين وسلوكهم ليكونوا أبعد الناس عن طيش التفكير وثرثرة اللسان في خفة ورعونة. المسلمون الحقيقيون أجد أن لا تسخفهم فئة مندسّة من المارقين والمنافقين الماكرين فيرددوا مقالات فحشهم في حماقة وعجل. والأهم من ذلك كله أن يثق المسلم بشرف إخوانه وصدقهم وبراءتهم مما ينسب إليهم من بذاءات الكلام الخسيس. فما يسمع المسلم عن إخوانه كلمة الفحش أو السوء حتى يبادر في عجل لدفعها وتكذيبها والذبّ عن إخوانه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وكيف إذا كان المفترى عليه حمى رسول الله ( ص ) وبيته المشرّف الميمون، خير بيت حملته الأرض أو سمعت به الأمم والأجيال ؟ ! إنه لجدير بكل مسلم أن يُجهش في الغيرة والغضب إذا ما اجترأ خبيث أو مارق أو حاقد أو سفيه مسف على الإساءة إلى شرف رسول الله ( ص ) أو سمعته. كالذي نقرأه أو نسمعه من مقولات الكذب والافتراء والسوء تخطها أقلام الكذابين الأفاكين من خصوم الإسلام في الغرب والشرق، حيث الاستعماريون والصليبيون والصهيونيون والوثنيون وأتباعهم من الناعقين والعملاء في كل مكان. فأولئك جميعا يتمالأون على الإسلام تارة، وعلى نبي الإسلام تارة أخرى، وذلك بإثارة الشبهات والأباطيل مما ينشر الظن والريبة والقلق في نفوس المسلمين فيرتابون في رسول الله ( ص ) ثم ينثنون عن دينهم أو يزهدون فيه.
وما على المسلمين أمام هاتيك الحملات المشوبة على الإسلام ودينه إلا أن يحذروا ويتنبهوا ويبادروا في همة رفيعة وحماسة مشبوبة للتصدي والرد على هذه الأكاذيب المصطنعة لتفنيدها ودفعها وكشف زيفها وسخفها كيما يعلم الناس والغافلون أن الذين يفترون على الإسلام ونبيه ليسوا غير شراذم من مرضى النفوس والعقول. أولئك المضلون الموغلون في العماية وسقم التفكير.
قوله :( وقالوا هذا إفك مبين ) أي قال المؤمنون عند سماع الإفك : هذا كذب وإثم وبهتان.
قوله :( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) وهذا توبيخ وتقريع لأهل الإفك الذين افتروا كذبا على حمى رسول الله ( ص )، فهلا جاءوا ببينة وهي أربعة شهداء على ما زعموه وافتروه.
قوله :( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما زعموه فأولئك في حكم الله هم الكاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة على ما يدعيه وهو في علم الله صادق في قذفه لكنه في حكم الشرع المبني على الظاهر كاذب١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٣ ص ١٧٩ وتفسير الطبري جـ ١٧ ص٧٧- ٧٩ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٢٠٢، ٢٠٣..
قوله تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ﴾ لولا، أداة امتناع لوجود. أي لولا ما امتنّ الله به عليكم من الفضل والرحمة ؛ إذ حفظكم من العقوبة في الدنيا ومن العذاب في الآخرة لمسكم فيما خضتم فيه من قول الإفك عن أم المؤمنين ( عذاب عظيم ) أي عذاب الحد بالجلد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، لكن الله يستر على عباده المؤمنين عيوبهم وعثراتهم وما يقعون فيه. وهذا إنما ينطبق على المؤمنين الذين سيقوا فخاضوا مع الخائضين، كمسطح، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش وغيرهم ممن تعجّل من المؤمنين في الحديث المكذوب المفترى على عائشة ( رضي الله عنها ). أما المنافقون فلا ينالهم من الله فضل أو رحمة وهم ليسوا ممن يغفر الله لهم ؛ لأنهم من أهل النفاق لا الإيمان ؛ فهم لا متسع للإيمان في قلوبهم، بل إنهم فريق من البشر المخادع، يكن في قلبه الكفر ويظهر للناس أنه من المسلمين، كأمثال عبد الله بن أبي وأتباعه ونظرائه.
قوله :( إذ تلقونه بألسنتكم ) بتشديد القاف ؛ أي تأخذون الإفك الذي زعمته العصبة المؤتفكة فيرويه بعضكم عن بعض، يقول الواحد : سمعت هذا الكلام عن فلان.
وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ ( تلقونه ) بفتح التاء وكسر الليم وضم القاف من الولق والألق وهو الكذب.
قوله :( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) أي تقولون ما لا تعلمون. فأنتم تتحدثون بالإفك بألسنتكم دون أن تعلموا حقيقة ذلك ولا صحته ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) أي تحسبون ما تقولونه من الإفك أمرا يسيرا وسهلا وهو في الحقيقة عظيم الخطيئة والمأخذ. على أن خطيئة الإفك والتحدث بالبهتان فيما بينكم، أمر عظيم الذنب. فكيف إن كان الافتراء والائتفاك على بيت رسول الله ( ص ) وأهله. لا جرم أن يكون ذلك أشد فداحة ونكرا، وأعظم خطيئة ووزرا. وفي الصحيحين عن رسول الله ( ص ) : " وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض ".
قوله تعالى :﴿ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ﴾.
ذلك تأديب آخر من الله لعباده المؤمنين ؛ إذ يعاتبهم فيه مبينا لهم أنه ما كان ينبغي لكم أن تفيضوا فيما خضتم فيه من الإفك والبهتان. بل كان خليقا بكم أنه إذا ذكر مثل هذا الكلام القبيح المفحش أن لا تظنوا بالمؤمنين والمؤمنات إلا خيرا وبراءة وطهرا. فكيف إذا كان المفترى عليه أم المؤمنين ؟ ! لقد كان ينبغي أن تبادروا في غيره وهمة ومضاضة لتقولوا ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) أي تنزّه الله عن أن يقع مثل هذا من زوج رسوله الأمين ( ص ). وما هذا إلا محض بهتان. والبهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه وذلك أشد من الغيبة فهي، أن يقال في الإنسان ما فيه.
قوله :( يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا ) ينهاكم الله لئلا تعودوا لمثل ما وقعتم فيه من الإفك والبهتان في أمر أم المؤمنين مما ليس لكم به علم ( أبدا ) أي فيما يستقبل من الزمان ( إن كنتم مؤمنين ) إن كنتم تخشون الله وتتعظون بعظاته، وتتدبرون آياته ؛ فتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهى عنه.
قوله :( ويبين الله لكم الآيات ) أي يفصل الله لكم دلائله وحججه لتكون واضحة مستبينة ( والله عليم حليم ) الله يعلم أحوالكم وحقيقة أموركم وما يصدر عنكم من أفعال وأقوال مما قل منه أو كثر. وهو سبحانه محاسبكم ومجازيكم. وهو عز وعلا ( حكيم ) فيما شرعه لكم وقدره عليكم.
قوله :( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ) ( تشيع )، الشيوع والشيعوعة ؛ أي تذيع وتظهر. أشاع الخبر أي أذاعه١. و ( الفاحشة )، من الفحش وهو القول السيء. وكل شيء جاوز الحد فهو فاحش٢. ونزلت هذه الآية في قذف السيدة عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فوجب بذلك إجراؤها على ظاهرها في العموم ؛ فهي بذلك تطول كل من كان موصوفا بهذه الصفة من القذف والإرجاف وإشاعة الظنون والريب بين الناس. وعلى هذا، فمعنى الآية : إن الذين يحبون أن تفشوا الفاحشة وهي الزنا أو مقالة السوء لتذيع وتنتشر بين المسلمين ( لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) وذلك تهديد للقذفة الذين يثيرون الأراجيف ومقالات السوء والفحش بين الناس، بأن لهم العذاب في الدنيا بالحد، وفي الآخرة يصيرون إلى عذاب النار.
قوله :( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) الله يعلم كذب الأفاكين الذين يفترون الباطل على المؤمنين والمؤمنات، وأنتم أيها الناس لا تعلمون ما يخفى عليكم مما هو مستور في بطن الغيب. وإنما عليكم أن تردوا علم ذلك كله إلى الله ؛ فهو علام الغيوب.
وفي النهي عن تتبع عورات المسلمين والنبش عن أخبارهم وأستارهم، أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي ( ص ) قال : " لا تؤذوا عباد الله ولا تعيّروهم ولا تطلبوا عوراتهم ؛ فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته " ٣.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٣٥٣ ومختار الصحاح ص ٣٥٣..
٢ - المصباح المنير جـ١ ص ١١٧..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٧٥ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٣٤٤ وتفسير الجصاص جـ٥ ص ١٦٠- ١٦٣..
قوله تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ﴾.
لولا أن الله قد منّ عليكم بعفوه وغفرانه، وأسبغ عليكم من هاطل فضله ورحمته ما يتجاوز به عما وقعتم فيه من سوء القول وفحش الكلام، لعاجلكم بعقاب من عنده فهلكتم.
قوله :( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ) يحذّر الله عباده المؤمنين سلوك سبيل الشيطان أو السير في مسالكه وطرائقه. وهي كثيرة ومعوجة، قد بُنيت كلها على الشر والباطل والفتنة. ومن مسالك الشيطان وطرائقه : إشاعة الفاحشة والبهتان بين المسلمين ليضطربوا في حياتهم ويكونوا متجلجلين مبتئسين متخاصمين.
قوله :( ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ) الفحشاء، والفاحشة، ما أفرط قبحه. والمنكر، ما أنكره الشرع ؛ أي من تبع مسالك الشيطان ومشى في صراطه ودروبه وقع في الباطل والخسران وارتكب الفحشاء والمنكر ؛ لان الشيطان لا يني ولا يفتر دون إغواء البشر وإضلالهم وسوْقهم إلى مهاوي الويل والثبور.
قوله :( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ) لولا ما امتنّ الله به على عباده من الفضل والرحمة، ما تطهر منهم أحد من ذنوبه وعيوبه ومعاصيه الكثيرة، ولما نجا من سوء المصير. لكن الله برحمته ورأفته بالخلق ينجي فيهم من يشاء ممن يستحق الهداية والنجاة. وهذا معنى قوله :( ولكن الله يزكي من يشاء ).
قوله :( والله سميع عليم ) الله يسمع ما تقولونه بأفواهكم من خير أو شر فاحذروا التلبس بالبهتان وقول الفاحشة، وهو سبحانه يعلم كل أموركم وأحوالكم. وما يصدر عنكم من أقوال وأفعال لا يخفى على الله منها شيء.
قوله تعالى :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾ بينا سابقا أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة ( رضي الله عنه ) ومسطح بن أثاثة وذلك أنه كان ابن بنت خالته. وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف. وكان أبو بكر ( رضي الله عنه ) ينفق عليه لمسكنته وقرابته. فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا. فجاء مسطح فاعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم، والأول أصح وهو المشهور. على أن الجدير ذكره أن الآية تتناول الأمة كلها إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة، فيحلف ألا ينفع مؤمنا أبد الدهر ؛ لكونه آذاه بشيء من الإذاية أو الإساءة. وقد روي في الصحيح أنه لما نزل قوله جل وعلا :( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) إلى آخر العشر آيات قال أبو بكر- وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره- : والله لا أنفق عليه شيئا أبد بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وعلا ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ) إلى قوله :( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال لا أنزعها منه أبدا. وعلى هذا، من حلف على شيء لا يفعله فرأى أن فعله أولى من تركه أتاه وكفّر عن يمينه. أو كفر عن يمينه وأتاه. وقد مضى تفصيل ذلك في الأيمان.
قوله :( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ) لا يأتل ؛ أي لا يحلف. يقال : ألى يؤلي ؛ أي حلف يحلف. والإيلاء معناه الحلف. والأليّة بمعنى اليمين، وجمعها ألايا١ والمعنى : لا يحلف أصحاب التفصل والصدقة والإحسان ( والسعة ) أي الجدة والخير منكم، أن لا يصلوا قراباتهم من الفقراء والمهاجرين، وأن لا يعطوهم من مالهم. وقيل : يأتل بمعنى يقصر. والقول الأول، الصحيح وهو المشهور بدليل سبب نزول الآية. ومقتضى هذا : أن لا يحلفوا على أن الصحيح وهو المشهور بدليل سبب نزول الآية. ومقتضى هذا : أن لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المؤمنين الفقراء المستحقين للإحسان والعون بالرغم من إساءتهم لهم.
قوله :( وليعفوا وليصفحوا ) أي ليعفوا عن مساءاتهم التي اجترحوها بحقهم وليتركوا عقوبتهم على ذلك بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم قبل ذلك. بل ينبغي أن يعودوا إليهم بالإحسان والإفضال.
قوله :( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) ذلك تحضيض رباني كريم فيه من بالغ الترغيب في العفو والإحسان للمؤمنين الضعفاء ما فيه.
والمعنى : مثلما تحبون أن يغفر الله لكم الذنوب والآثام فاعفوا أنتم واصفحوا عن مساءات إخوانكم المؤمنين الضعفاء. فكما تحبون العفو والمغفرة من الله، اعفوا واصفحوا عن المسيئين. وعند ذلك قال الصديق : بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال : والله لا أنزعها منه أبدا. وذلك في مقابلة ما كان قال : والله لا أنفعه بنافعة أبدا. فذلكم هو الصديق، موصوف باسمه الصدّيق. وهو ما يدل على عظيم فضله وحسن سريرته وبالغ تقاة وإخلاصه لله رب العالمين. عليه وعلى ابنته أم المؤمنين رحمة من الله وضوان٢.
١ -- مختار الصحاح ص ٢٣..
٢ - تفسير القرطبي جـ ١٢ ص ٢٠٨ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٧٦ وفتح القدير جـ٣ ص ١٦..
قوله تعالى :﴿ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( ٢٣ ) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( ٢٤ ) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( ٢٥ ) ﴾.
والمراد بالمحصنات ههنا، العفيفات. وقد وقع الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال مثل حكم المحصنات من النساء في حد القذف. فيستوي في الحكم قذف المؤمن والمؤمنة.
وفي الآية وعيد من الله للقذفة الذين يرمون المؤمنات العفيفات ( الغافلات ) أي غافلات عن الفواحش وعما قذفن به، اللواتي لا يخطر ببالهن فعل الفاحشة البتة. وذلك لعفتهن وطهارة قلوبهن.
قوله :( لعنوا في الدنيا والآخرة ) أي سيموا من الله اللعن وهو الإبعاد من رحمته، وضربوا الحد، وهجرهم المؤمنون وانتفت فيهم صفة العدالة، فضلا عن تعذيبهم العذاب العظيم في الآخرة إن لم يتوبوا. فإن تابوا إلى الله واستغفروه وأنابوا إليه فإن الله قابل التوْب، رحيم بالمؤمنين.
أما المراد بهذه الآية فهو موضع خلاف. فقد قيل : رماة عائشة ( رضي الله عنها ) خاصة. وهو قول سعيد بن جبير. وقد أجمع العلماء على أن من رمى عائشة بالسوء من القول بعد الذي نزل بشأنها من القرآن فقد كفر ؛ لأنه معاند لصريح النص من الكتاب الحكيم. وقال ابن عباس : المراد رماة عائشة وسائر زوجات الرسول ( ص ) دون غيرهن من المؤمنين والمؤمنات.
وعلى هذا، من قذف واحدة من زوجات النبي ( ص ) فهو من أهل هذه الآية ؛ إذ تمسه اللعنة ويحيق به العذاب العظيم في الآخرة فوق ضربه الحد في الدنيا. وهو بذلك لا توبة له. أما من قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة.
وقيل : هذه من قذف واحدة من زوجات النبي ( ص ) فهو من أهل هذه الآية ؛ إذ تمسه اللعنة ويحيق به العذاب العظيم في الآخرة فوق ضربه الحد في الدنيا. وهو بذلك لا توبة له. أما من قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة.
وقيل : هذه تفيد العموم لتشمل كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين. وهو الراجح، لما تقرر في علم الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومما يعضد القول بالعموم ما أخرجه الصحيحان من حديث سليمان بن بلال أن رسول الله ( ص ) قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ".
قوله :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾ هذه الجملة مبينة لوقت حلول العذاب بالقذفة يوم القيامة. فالمعنى : ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم. وذلك يوم القيامة حين يجحد القذفة الآثمون ما اكتسبوه في الدنيا من الذنوب فتشهد عليهم جوارحهم وهي ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ؛ إذ ينطقها الله فتتحدث بما كانوا يجترمونه في حياتهم الدنيوية من المنكرات والمعاصي.
قوله :( يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ) دينهم أي جزاءهم. يعني يوفيهم الله يوم القيامة حسابهم وجزاءهم الحق الذي لا شك فيه ولا جور.
قوله :( ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) يعلم المجرمون يوم القيامة حين يرون العذاب أن الله هو الحق ؛ إذ تبين لهم ما كان الله يتوعدهم به في الدنيا من العذاب في الآخرة. فها هو العذاب الموعود قد رأوه وهم ينظرون١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٨ ص ٨٣، ٨٤ وفتح القدير جـ٣ ص ١٧..
قوله تعالى :﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ( ٢٦ ) ﴾ اختلف المفسرون في المراد بالطيبين والطيبات والخبيثين والخبيثات. فقد قيل : يعني الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء. والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. أي كل مختص بما هو له. فالخبيثات من النساء مختصات بالخبيثين من الرجال وهكذا. أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله ( ص ) إلا وهي طيبة، فهو عليه الصلاة والسلام أطيب الطيبين جميعا ولو كانت خبيثة ما صلحت له.
وقيل : بل المراد، الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول. وقد روي ذلك عن ابن عباس. وقال به أكثر المفسرين. ووجه ذلك : أن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس. والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس. فما نسبه المنافقون إلى عائشة من فاحش القول هم أولى به.
وهي أولى بالبراءة والنزاهة والطهر. ويعضد هذا المعنى قوله عز من قائل :( أولئك مبرءون مما يقولون ) أي عائشة وصفوان بن المعطل الذي رميت به. وعلى هذا القول كان الجمع بأولئك والمراد ذانك. كقوله تعالى :( كان له إخوة ) والمراد أخوان. و ( مبرءون )، أي منزهون مما رموا به من الفاحشة١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٨ ص ٨٥، ٨٦ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٧٨..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ( ٢٧ ) فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ( ٢٨ ) ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٢٩ ) ﴾.
جاء في سبب نزول الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت قال : جاءت امرأة من الأنصار فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي. وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ؟ فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) : يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ؟ فأنزل الله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) ١.
ذلك بيان وجيز عن أدب السلوك الذي يتجلى في خلق المسلمين وهم يدخل بعضهم بيوت بعض. فما ينبغي لأحد أن يدخل بيتا غير بيته حتى يستأنس أي يستأذن. يقال : استأنس، أي ذهب توحشه. واستأنس، استأذن وتبصّر٢. وعلى هذا ينبغي أن يستأذن الداخل بيت غيره ثلاث مرات، فإن أذن له، وإلا رجع أو انصرف، وقد ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب. فلما جاء بعد ذلك، قال : ما أرجعك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " إن استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف " فقال عمر : لتأتيني على هذا بينة وإلا أوجعتك ضربا. فذهب إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر. فقالوا : لا يشهد لك إلا أصغرنا. فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك. فقال : ألهاني عنه الصفق٣ بالأسواق.
ذلك من أدب الإسلام الذي يناط بالمسلمين أن يتعلموه ويعملوا بموجبه فيما بينهم. والمسلمون في ذلك يتعاملون فيما بينهم بخلق الإسلام الرفيع. الخلق المبني على حسن السريرة وطهارة القلب وبراءته من الزيغ والمرض والسوء. فليس من سجايا المسلمين الختل والمخادعة والتلصص بالبصر. فإنه لا يمكر أحد بأخيه إلا كان في عداد المراوغين والمنافقين والخائنين. والمسلمون الحقيقيون مبرأون من مثالب الخداع والتحيّل واستراق الأبصار. وعلى هذا فما يدخل المسلم بيت غيره إلا عقب استئذان صريح وواضح لكي يتهيأ صاحب البيت فيصلح شأن نفسه لاستقبال المستأذن فلا يقع بصره على المحارم والعورات أو على ما لا ينبغي النظر إليه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) قال : " من اطّلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقئوا عينه " وقد اختلفوا في تأويل هذا الخبر. فقال بعض العلماء : ليس هذا على ظاهره ؛ فإن فقأ عينه لزمه الضمان، وهذا الخبر منسوخ. وقد قيل : خرج هذا الخبر على وجه الوعيد لا على وجه الحتم. والخبر إذا كان مخالفا للكتاب الحكيم لا يُعمل به. فما ينبغي العمل بظاهر هذا الخبر بل يجب تأويله على وجه لا يخالف كتاب الله، ونظير ذلك ما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدح النبي ( ص ) قال لبلال : " قم فاقطع لسانه " وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع على الحقيقة.
وقيل : المراد بالفقء ههنا على الحقيقة وليس المجاز. وعلى هذا لا ضمان ولا قصاص على الذي يفقأ من يطلع على عورة البيت ولم يستأذن. ويعضد هذا القول ما رواه الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حُجْر في باب رسول الله ( ص ) ومع رسول الله ( ص ) مدْرىً٤ يرجّل به رأسه. فقال له رسول لله ( ص ) : " لو أعلمُ أنك تنظر لطعنت به في عينك ؛ إنما جعل الله الإذن من أجل البصر " وكذلك روي عن أنس أن رسول الله ( ص ) قال : " لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة٥ ففقأت عينه ؛ ما كان عليك من جناح ".
قوله :( وتسلموا على أهلها ) والتسليم أن يقول : السلام عليكم. أأدخل ؟ ثلاث مرات. فإن أذن له، وإلا رجع. وذلك للخبر : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ".
وإنما خُص الاستئذان بثلاث ؛ لأن الغالب من الكلام إذا كُرر ثلاثا سُمع وفُهم. فإذا لم يأذن له صاحب البيت بعد ثلاث تبين أنه لا يريد الإذن له، لعذرٍ عنده لا يعلمه المستأذن. فينبغي له أن ينصرف.
ومن صور الاستئذان : الدق على الباب على أن يكون ذلك خفيفا مسموعا، في غير عنف ولا إزعاج. ومن صوره في عصرنا الراهن الضغط على جرس موصول بالباب، موصل للصوت داخل البيت.
أما المرء يأتي بيته وفيه أهله من زوجة ومحارم كالأم والبنت والأخت ونحو هؤلاء، فلا يجب أن يستأذن عليهم. لكنه إذا دخل فإنه يسلم على أهل بيته. وإن دخل بيته وليس فيه أحد قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقيل : إن الملائكة ترد عليه. وقيل : لا داعي للتسليم ؛ إذ لم يكن في البيت أحد.
قوله :( ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ) الإشارة عائدة إلى الأمر بالاستئناس والتسليم، فإن ذلك خير لكم من الدخول بغتة.
قوله :( لعلكم تذكرون ) أي لكي تتذكروا هذا الأمر من الله في أدب السلوك والاستئذان فتتمسكوا به وتطيعوه.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢١٩ وتفسير الطبري جـ١٨ ص ٨٨..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٢٠٥..
٣ - الصفق: الضرب باليد. صفقت له بالبيعة صفقا، إذا ضربت بيدي على يده. وكانوا إذا وجب البيع ضرب أحدهما يده على يد صاحبه. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٣٦٧..
٤ - المدرية: رماح كانت تركب فيها القرون المحددة مكان الأسنة. والمراد ههنا بالمدرى أو المدارة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط يسرّح به الشعر..
٥ - حذفه بحصاة أي رماها بها. انظر مختار الصحاح ص ١٢٧..
قوله :( فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ) إذا لم يكن في البيوت أحد يأذن لكم بالدخول فلا تدخلوها حتى يأتي من أهلها من يأذن لكم ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ) أي إن قال لكم أهل البيت ارجعوا فارجعوا، ولا ينبغي لكم بعد ذلك أن تلحوا عليهم في الاستئذان. بل إن رجوعكم خير من انتظاركم أو معاودتكم الاستئذان مرة أخرى.
قوله :( هو أزكى لكم ) أي أطهر لنفوسكم من التّشاح على الدخول، لما في ذلك من استعلاء على الدناءة والخسة، وترفع عن مواطن الريبة.
قوله :( والله بما تعملون عليم ) الله أعلم بما تخفيه قلوبكم من طوايا ومقاصد فاحذروا الاطلاع على سوءات الناس وتتبع عوراتهم واستراق البصر لما يجري داخل بيوتهم. وذلك توعد من الله للذين يتجسسون على الناس في بيوتهم فيدخلون عليهم في غفلة لينالوا منهم ما لا يحل لهم.
قوله :( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ) أي لا إثم عليكم ولا حرج في دخول بيوت لا ساكن فيها. واختلفوا في المراد بهذه البيوت. فقد قيل : المراد بذلك الفنادق في طرق السابلة. وقيل : حوانيت البياعين. وقيل : الحمامات. وقيل : دور العلم. وقيل : الأسواق يأتيها الناس من كل مكان للشراء والاتجار. وقيل : بيوت الخلاء يقضي فيها الحاقن حاجته. والصحيح دخول الجميع في مفهوم هذه الآية فتحمل على الكل ؛ فهي كلها مأذون بدخولها من جهة العرف. ولا حاجة للاستئذان بدخولها ؛ فهي مرافق عامة للناس مهيأة لدخولها من غير إذن.
قوله :( فيها متاع لكم ) المتاع في اللغة بمعنى السلعة. وهو أيضا المنفعة وما تمتعت به. وقد متع به أي انتفع١ والمراد به هنا كل وجوه الانتفاع.
قوله :( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) ذلك وعيد من الله للذين يدخلون الأماكن الخالية والمواضع المريبة من أهل الريبة والسوء. فإن الله عليم بحالهم سواء فيهم الظاهر والباطن. فهو سبحانه مجازيهم عما كسبته أيديهم من المحظورات والفواحش٢.
١ - مختار الصحاح ص ٦١٤..
٢ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ٢١٦- ٢٢٠ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٣٤٩- ١٣٥٢ وتفسير الطبري جـ١٨ ص ٨٨، ٨٩ وتفسير الرازي جـ ٢٣ ص ٢٠١. والكشاف جـ٣ ص ٥٩..
قوله تعالى :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ( ٣٠ ) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنين لعلكم تفلحون ( ٣١ ) ﴾.
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بأن يكفوا أبصارهم عما حُرم النظر إليه فلا ينظروا إلا إلى ما أبيح النظر إليه.
ومن الحقائق البديهية أن البصر لهو أعظم سبيل يفضي إلى تحريك النفس من الداخل. فما تفتأ النفس ساكنة راقدة هادئة غير مفتونة حتى تؤزها فتنة الجسد المنظور. وطريق ذلك وسببه البصر. فإنه ينقل بوساطة الأعصاب الموصولة بالداخل، حقيقة المنظر المؤثر لتفتتن به النفس وتميد. فلا جرم أن يكون الكف من البصر عن النظر إلى المحرمات سببا عظيما في انتفاء الفتنة أو التخفيف من شدتها وغلوائها.
ومن هنا يأتي تحريم النظر إلى النساء الأجنبيات لمجرد التلذذ والشهوة. وفي ذلك جاء في الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( ص ) : " إياكم والجلوس على الطرقات " قالوا : يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها. فقال رسول الله ( ص ) : " إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه " قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". فقد أمر بغض البصر من غير لزوم ولا حاجة تدعو للنظر إلا التلذذ والتشهي. فإن مثل هذا النظر مدعاة لتحريك الشهوة والافتتان من الداخل مع ما يصحب ذلك من تلهف القلب وشدة انشغاله، ومن اضطراب الأعصاب وبالغ احترارها، وفي هذه الغمرة من الفتنة تغيب عن النفس نعمة الراحة والسكون فتظل مفتتنة مشبوبة، فضلا عما يفضي إليه ذلك من الرغبة اللحاحة في قضاء الوطر الأخير وهو الزنا.
وفي الصحيح عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ؛ فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين الخطى. والنفس تمنى وتشتهي. والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
ولقد كان كثير من علماء السلف ينهون عن إدامة النظر إلى الأمرد لاحتمال الفتنة والغواية. فما ينبغي للمؤمن أن يديم النظر لوجه الأمرد دون حاجة، دفعا للشيطان أن ينفخ في عروق الناظر فيحرك فيه كوامن الغريزة المستنيمة.
على أنه من خصائص الإسلام المميزة حرصه على الوقاية قبل العلاج ؛ فإن الوقاية لهي الأهم ؛ لأنها تحول دون التلبس بالفواحش والمنكرات. وعلى هذا فإن الإسلام ؛ إذ يهيمن بعقيدته وتشريعه على أمة، يبادر في تبديد بواعث الفتنة والغواية والفساد من بين الناس. فما من سبب يفضي إلى المعصية أو الفاحشة إلا منعه الإسلام وحرمه تحريما قبل أن تقع المعصية أو الفاحشة نفسها. وفاحشة الزنا لا تقع بغتة إلا عقب أسباب ومقدمات وبواعث تؤول إلى الزنا نفسه. فكان من مسلمات المنطق حظر هذه الأسباب والمقدمات كيلا يقع الزنا نفسه. على أن الأسباب والمؤديات إلى الزنا كثيرة : أولها وأهونها وأيسرها النظر ؛ فهو السبب البسيط الأول الذي يطرق المشاعر والأعصاب لتأخذ الشهوة بعد ذلك في التحرك والاضطراب والتململ. ومن هنا جاء الأمر بغض البصر عن المحارم.
على أن النظر إلى النساء، إن كان لغرض لا فتنة فيه فهو جائز ووجوه ذلك كثير، منها : إذا أراد النكاح فله أن ينظر إلى وجه المرأة وكفيها. وذلك للخبر : " إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة " وقال المغيرة بن شعبة : خطبت امرأة فقال عليه السلام : " نظرت إليها ؟ " فقلت : لا. قال " فانظر فإنها أحرى أن يؤدم بينكما ".
ومنها : النظر إليها عند تحمل الشهادة. ولا ينظر حينئذ إلى غير الوجه لحصول المعرفة به.
ومنها : نظر الطبيب الأمين إليها من أجل المعالجة كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون.
ومنها : لو وقعت المرأة في غرق أو حرق ؛ فله أن ينظر إلى بدنها كي يخلصها.
قوله :( من أبصارهم ) من، لتبيين الجنس. والمقصود بها التبعيض وهو قول أكثر أهل العلم. وقيل : زائدة. وهو قول ضعيف١.
قوله :( ويحفظوا فروجهم ) وذلك بصونها من التهتك وسترها لئلا يراها من لا يحل له النظر إليها. والمراد حفظ الفروج عن سائر ما حرم الله، من الزنا والمس والنظر. أما الوطء فهو أغلظ في النهي والتحريم.
قوله :( ذلك أزكى لهم ) الإشارة عائدة إلى غض البصر وحفظ الفروج ؛ فإن ذلك أطهر للقلوب، وأبعد من التدنس بالآثام أو الوقوع في الريبة.
قوله :( إن الله خبير بما يصنعون ) ذلك تهديد من الله ووعيد للذين يقعون في المحظورات، المخالفين عن أمر الله، والمتلبسين فيما نهى عنه من النظر إلى الأجنبيات أو الاعتداء على أعراض المسلمين بمختلف الوجوه المحرمة. فإن الله عليم بذلك كله، خبير بما يصنعون الآثمون والعصاة.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٤..
قوله :( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) هذا تخصيص من الله للمؤمنات إشعارا بأهمية الإناث في دفع الفتنة أن تقع. فإن النساء إذا اجتهدن في صد أسباب الفتنة والفاحشة، وأبين للرجال أن يسترخوا أمامهن أو يصبوا إليهن أو يجنحوا نحوهن بغض أبصارهن عنهم وعدم خضوعهن بالقول كيلا يطمع الذي في قلبه مرض، وارتدين فوق ذلك جلباب الستر والاحتشام ؛ فلا جرم حينئذ أن يُسهمن أعظم إسهام في صد الفتنة وإيصاد منافذ الفاحشة ودفع بواعث الزنا.
وعلى هذا وجب على المؤمنات أن يغضضن أبصارهن عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن. وبذلك لا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجال بشهوة أو بغير شهوة ؛ كيلا يطمع فيها أولو الضعف والريبة. ويعضد ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله ( ص ) وميمونة. قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله ( ص ) : " احتجبا منه " فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " أوعمياوان أنتما ؟ ! أو لستما تبصرانه ؟ ! ".
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرها إلى الرجل الأجنبي بغير شهوة وذلك لما ثبت في الصحيح أن رسول الله ( ص ) جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملّت ورجعت.
والجمع بين الدليلين المتعارضين، القول بجواز النظر منهن للرجال من غير شهوة إذا أمنت الفتنة. فإذا لم يكن ثمة فتنة في نظرهن للرجال جاز ذلك. كاللواتي يحضرن مجالس العلم فينظرون إلى المعلم وهو يلقي عليهن دروسا في العلم ؛ فهن مادمن كثيرات ولا يقال أمامهن إلا الجد كالعلم والنصح والتحذير والنهي عن الباطل والمنكر ونحو ذلك فقد أمنت الفتنة ولا جناح عليهن حينئذ في ذلك.
أما إن كانت الفتنة ترخي بظلها المريب حين النظر، كما لو كانت تنظر إليه في خلوة ؛ فإن ذلك حرام، حتى وإن كانت تنظر إلى من يعلمها أو يرشدها إلى قواعد الأدب والسلوك.
قوله :( ويحفظن فروجهن ) أي يحفظنها عما لا يحل من لمس أو نظر أو زنا أو غير ذلك من أسباب الفاحشة.
قوله :( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) نهى عن إظهار الزينة للأجانب إلا ما ظهر منها. أما الزينة فهي قسمان : زينة خِلقية، وزينة مكتسبة. أما الخلقية، فالمراد بها وجه المرأة. فهو أصل الزينة وجمال الإنسان لما فيه من أسباب المنافع التي جيء بها في الوجه على أحسن هيئة وأحسن ترتيب وذلك كالسمع والبصر والشم والذوق.
وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة لتحسين خلقتها بالتصنع كالثياب والحلي والكحل والخضاب ونحو ذلك من وجوه الزينة للنساء.
قوله :( إلا ما ظهر منها ) استثنى الله من التحريم ما ظهر منها.
والمراد بما ظهر منها موضع خلاف. فقد قيل : الثياب. يعني أنها يظهر منها ثيابها خاصة. وقيل : المراد به الكحل والخاتم والخلخال والقرط والقلادة. وقيل : المراد بما ظهر منها، والوجه والكفان.
وهو قول الجمهور. وهذا هو المشهور. ويعضد القول بذلك ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي ( ص ) وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال : " يا أسماء إن المرأة ؛ إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.
قوله :( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) الخمر، المقانع جمع مقنعة. وواحد الخمر، الخمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها. ومنه اختمرت المرأة أي أسدلت الغطاء على رأسها فغطته.
والجيوب، جمع جيب، وهو الطوق، ومعناه النحر والصدر. فقد كان نساء الجاهلية يضربن ؛ أي يشددن خمرهن من خلف رؤوسهن فكانت تنكشف جيوبهن وهي نحورهن وقلائدهن. فأمر الله نساء المؤمنين أن يشددن مقانعهن على الجيوب ليغطين بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط بذلك من شعر وزينة كالحلي في الأذن والنحر. وقد روى البخاري عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله ( وليضربن بخرمهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها.
ويسأل بعض الناس عن الحكمة في تشريع اللباس الساتر للنساء. اللباس الشرعي الفضفاض الذي يغطي جسد المرأة كله بدءا. بمفرق الشعر في الرأس حتى نهاية الأخمصين من القدمين كيلا يظهر من جسدها غير الوجه والكفين. وفي نفس الوقت لم يؤمر الرجال بستر أجسادهم جميعها إلا ما بين السرة والركبة. وقد يتصور بعض الظانين بالله ظن السوء أن تشريع اللباس للناس في صفته المشروعة يتضمن حرجا لهن أو تضييقا عليهن فضلا عما في ذلك من تمييز للرجال ومحاباة لهم.
فليس الأمر كما يتصوره هؤلاء الظانون الخاطئون. إنه ليس من تمييز للرجال ولا محاباة لهم على حساب النساء البتة. بل إنما التفضيل بين الناس جميعا، أساسه التقوى دون غيره من الاعتبارات والمعايير. وعلى هذا فإن أتقى الناس وأخشاهم لله وأسرعهم لطاعته لهو الأفضل في ميزان الله سواء كان المفضل من الذكور أو الإناث ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).
وإنما الحكمة التي تكمن في تشريع اللباس لهن ما يعلمه الله من حقيقة البشر وحقيقة فطرتهم وطبائعهم المختلفة ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) الله يعلم ما بين الذكور والإناث من تفاوت في مدى الإثارة الجنسية ومدى الاستجابة للإغراء والفتنة. والله كذلك يعلم سرعة الهيجان في الغريزة لدى الرجال. فغريزتهم الحيوانية هذه لشد ما تشيط وتتهيج وتشب إذا ما استنفرتها ظواهر الإغراء في مفاتن النساء. فإنه في الوقت الذي تنفر فيه المرأة وتشمئز أو تتقزز من رؤية الرجال العراة، فإن الرجل على عكس ذلك تماما ؛ فإنه يتفجر فيه بركان الغريزة ويضطرب لرؤية النساء الكاسيات العاريات. وبذلك فإن الرجال ينفعلون ويتململون ويهيجون بقدر ما يجدونه من فتنة النساء وإغرائهن. ويتضح ذلك في الكشف عن أجسادهن ومواطن الزينة في أبدانهن بما تثور بسببه بواعث الغريزة عند الرجال. فبات من الضرورة حجب هذه المفاتن والمحاسن المغرية عن أنظار الرجال. فكان تشريع اللباس الساتر للنساء.
قوله :( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) الآية.
بعد أن نهى عن إظهار الزينة للرجال الأجانب استثنى من ذلك اثني عشر صنفا لا يحرم عليهم النظر إلى النساء وهم :
الصنف الأول : البعولة. لقوله تعالى :( إلا لبعولتهن ) والبعولة جمع ومفرده البعل، وهو الزوج١.
الصنف الثاني : الآباء. لقوله تعالى :( أو آبائهن ) ويشمل ذلك الآباء وإن علوا، من جهة الذكران والإناث. كآباء الآباء وآباء الأمهات.
الصنف الثالث : آباء البعولة. لقوله تعالى :( أو آباء بعولتهن ).
الصنف الرابع : الأبناء. لقوله تعالى :( أو أبنائهن ) الابن والأب أحق الأقارب من جهة المحرمية بالاطلاع على الزينة الباطنة. وذلك من أجل البغضية القائمة بين المرأة وكل من أبيها وابنها.
الصنف الخامس : أبناء البعولة. لقوله تعالى :( أو أبناء بعولتهن ) ويدخل في ذلك أولاد الأولاد وإن سفلوا من الذكران والإناث كبني البنين وبني البنات. وأبناء البعولة ينزلون منزلة الأبناء في المحرمية. فجاز لهم رؤية الزينة الباطنة. ويدخل في هؤلاء كذلك أولاد الأولاد، وإن سفلوا من الذكران والإناث.
الصنف السادس : الإخوة. لقوله تعالى :( أو إخوانهن ) سواء كان الإخوة من الأب أو من الأم أو منهما معا.
الصنف السابع : أبناء الإخوة وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو من إناث. لقوله تعالى :( أو بني إخوانهن ).
الصنف الثامن : أبناء الأخوات، وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات، وبني بنات الأخوات ؛ لقوله تعالى :( أو بني أخواتهن ) ويلحق بهؤلاء المحارم كل من العم والخال. فهم كسائر المحارم في جواز النظر وهو قول أكثر العلماء. أما الرضاع فحكمه كالنسب.
الصنف التاسع : النساء. لقوله تعالى :( أو نسائهن ) يعني المسلمات فيخرج بذلك نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم ؛ فإنه لا يحل لمسلمة أن تظهر شيئا من بدنها لامرأة مشركة. قال ابن عباس : لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها.
وقيل : المراد جميع النساء، سواء فيهن المسلمات والكوافر.
الصنف العاشر : العبيد والإماء سواء فيهم المسلمون وغير المسلمين، لقوله تعالى :( أو ما ملكت أيمانهن ) فهو يشمل الجميع.
الصنف الحادي عشر : التابعون الذين بغير إربة. وذلك لقوله تعالى :( أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال ) ( الإربة )، بالجر، على أنه صفة للتابعين. وبالنصب على أنه مستثنى أو حال٢ و ( الإربة )، بمعنى الحاجة٣ وغير الإربة من الرجال ؛ أي الرجال الضعفاء الذي يتبعونكم لينالوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم في النساء.
وفي المراد بهم عدة أقوال : منها : أنه الصغير الذي ليس له شهوة. ومنها : أنه العنّين الذي لا يرغب في النساء. ومنها : أنه الأبله المعتوه الذي لا يدري من أمر النساء شيئا.
ومنها : الهرم لعجز إربه أو حاجته للنساء. ومنها : أنه الأحمق الذي لا يشتهي النساء ولا يغار عليه الرجال. ومنها : أنه خادم القوم للمعاش.
الصنف الثاني عشر : الأطفال الصغار. لقوله تعالى :( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) الطفل اسم جنس. ويعني الجمع ؛ أي الأطفال. وذلك لنعته بالذين. ويسمى الطفل بهذا الاسم ما لم يراهق الحلم٤.
والمعنى : أو الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ولم يدروا ما هي لصغرهم وقيل : الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء لصغرهم، وعلى هذا فإن الصغير الذي لم يتنبه لصغره، على عورات النساء فلا عورة للنساء معه. أما إن تنبّه لصغره ولمراهقته لزم أن تستر عنه المرأة ما بين سرتها وركبتها. وفي ستر ما سوى ذلك قولان : أحدهما : عدم لزوم الستر لعدم جريان القلم عليه. وثانيهما : لزوم الستر ؛ لأن المرأة قد تشتهيه وقد يشتهيها هو.
هؤلاء المذكورون يشتركون في جواز رؤية الزينة الباطنة من النساء. أما مدى ما تجوز رؤيته لهم من المرأة، فهم في ذلك ثلاثة أقسام كما قال الحسن البصري.
القسم الأول : الزوج وله حرمة ليست لغيره من الناس ؛ إذ يحل له من امرأته كل شيء.
القسم الثاني : الابن والأب والأخ والجد وأبو الزوج وكل ذي محرم. والرضاع كالنسب، فهؤلاء يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك. أي إن كانت المرأة ذات محرم للرجل بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل.
القسم الثالث : التابعون غير أولي الإربة من الرجال. وكذا مملوك المرأة ؛ فإنه يحل للمرأة أن تقوم بين يدي هؤلاء في درع٥ وخمار صفيق بغير ملحفة٦. ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا. والستر في ذلك كله أفضل. ولا يحل للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب.
أقسام العورات
العورات أربعة أقسام نبينها في التفصيل التالي :
القسم الأول : عورة الرجل مع الرجل ؛ فإنه يجوز له أن ينظر إلى جميع بدن الرجل إلا عورته. وعورته ما بين السرة والركبة. والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة- رحمه الله- الركبة عورة. وقال الإمام مالك : الفخذ ليس
١ - مختار الصحاح ص ٥٨..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٩٥..
٣ - مختار الصحاح ص ١٣..
٤ - مختار الصحاح ص ٣٩٤ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٢١٠..
٥ - درع المرأة: قميصها. انظر مختار الصحاح ص ٢٠٣..
٦ - الملحفة: من اللحاف وهو ما يتلحف به. وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به. انظر مختار الصحاح ص ٥٩٣..
قوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ( ٣٢ ) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( ٣٣ ) ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ( ٣٤ ) ﴾.
يخاطب الله الأولياء. وقيل : الأزواج. والصحيح الأول. ويدل ذلك على أن المرأة لا تزوج نفسها بنفسها ؛ أي من دون ولي. وهو قول أكثر العلماء، خلافا للإمام أبي حنيفة ؛ إذ قال : إذا تزوجت الثيب أو البكر البالغ نفسها كفؤا بغير ولي ؛ جاز لها ذلك. والمراد بالأيامى : الذين لا أزواج لهم سواء كانوا من الرجال أو النساء. ومفرده أيم.
قوله :( وأنكحوا ) بصيغة الأمر، موضع خلاف بين العلماء في حكم النكاح من حيث وجوبه أو ندبه أو إباحته. فقد ذهبت المالكية إلى اختلاف حكمه باختلاف حال المرء نفسه من حيث خوفه الوقوع في العنت وهو الزنا. فإنه إذا لم يصبر وخشي الوقوع في العنت كان النكاح في حقه واجبا. وإذا لم يخش الوقوع في العنت فإن النكاح حينئذ يكون في حقه مباحا وهو قول الشافعية. وعند الحنفية والمالكية، مستحب.
وذهب طائفة من العلماء إلى وجوب الزواج على كل من قدر عليه سواء خشي العنت أو لم يخش. واحتجوا بظاهر الخبر مما روي في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي ( ص ) قال : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع ؛ فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجاء " والوجاء معناه رضّ عروق البيضتين حتى تنفضخ فيكون شبيها بالخصاء١.
وجاء في السنن أن رسول الله ( ص ) قال : " تزوجوا الولود وتناسلوا ؛ فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ".
قوله :( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) المراد بالصلاح، الإيمان. والمعنى : أنكحوا العبيد والإماء الصالحين بعضهم من بعض.
قوله :( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) ذلك ترغيب في التزويج، ووعد من الله بالغنى. أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل أو المرأة ؛ فإنه من يبتغ الرضى من الله والاعتصام من المعاصي بالزواج يسّره الله عليه ورزقه من فضله ؛ فقد أخرج ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ثلاثة كلهم حق على الله عونه : الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريده الأداء، والناكح يريد التعفف ".
قوله :( والله واسع عليم ) الله ذو سعة لا حدود لها، فلا تنفد نعمه. وهو عليم بما يصلح عليه الناس من غنى وفقر.
وما ينبغي للمسلمين أن يزهدوا في تزويج الفقير المؤمن إذا ما رغب في الزواج من ابنتهم. فإن المؤمنين الكرام أولي العقيدة والخلق والتقوى، خليق بهم أن يستقبلوه خير استقبال ثم يزوجوه دون تردد. أما أن يرغبوا عن إنكاح المؤمنين لفقرهم فتلك علامة الضلال والسقوط في براثن الجاهلية بأوضارها وحماقاتها واعتباراتها الفاسدة.
وكذلك المرأة المؤمنة الصالحة، يبادر المؤمنون بالتزويج منها ومن نظيرها ولا يصدنهم عنهن كونهن فقيرات. وإنما الصالحون والصالحات أحرى أن يزوجوا ويرغب المؤمنون في زواجهم وتزويجهم.
١ - مختار الصحاح ص ٧٠٩..
قوله :( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) هذا الخطاب من الله لمن يملك أمر نفسه وليس لمن زمامه بيد غيره. ويستعفف أي يطلب العفة. والله جل وعلا يأمر كل من تعذر عليه النكاح لعدم المال أن يتعفف عن الحرام وهو قوله :( لا يجدون نكاحا ) أي لا يجدون طولا يقدرون به أن يتزوجوا ( حتى يغنيهم الله من فضله ) أي بالقدرة على النكاح. أما من تاقت نفسه للزواج وهو يملك القدرة على ذلك فإنه يستحب له أن يتزوج إلا أن يخشى الوقوع في العنت وهو الزنا. فإن خشي ذلك صار الزواج في حقه واجبا. أما إذا لم يجد طولا، وهو القدرة المالية على الزواج فعليه حينئذ بالاستعفاف ويستعين على مصابرة نفسه بالصوم فهو له وجاء.
قوله :( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) الذين في موضع رفع مبتدأ. وخبره محذوف، وتقديره : فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب١ والذين ملكت أيمانكم يعني العبيد. فإن طلبوا منكم المكاتبة فإن المستحب أن تكاتبوهم. وقد نزلت الآية في غلام لحويطب بن عبد العزى واسمه صبح. طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى فأنزل الله الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل بحنين في الحرب٢.
والمقصود أن الله أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك منه الكتابة وعلم منه سيده خيرا. والمكاتبة معناها في الشرع أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجما ( مفرقا ) عليه فإذا أداه صار حرا.
واختلفوا في حكم الأمر بالمكاتبة. فقد قيل : الأمر للإرشاد والاستحباب لا للإيجاب والحتم. وقيل : للوجوب. فعلى السيد أن يكاتبه إن طلب منه المكاتبة.
قوله :( إن علمتم فيهم خيرا ) اختلفوا في المراد بالخير. فقد قيل : المراد به الأمانة. وقيل : الصدق. وقيل : الحرفة. وقيل : القدرة على الكسب كيلا يصبحوا عالة يتكففون الناس.
ومثل هذا التشريع لمسألة الرق والرقيق، كان واحدا من جملة الأحكام التي قررها الإسلام لتحرير العبيد وإنهاء هذا النظام برمته، ومن أساسه.
ولقد قرر الإسلام كثيرا من الأحكام في المسألة ليصير الناس كلهم أحرارا. وذلك بمختلف الأسباب والأساليب الشرعية المعروفة في هذا الدين. منها : إيجاب العتق والتحرير على سبيل التكفير عن بعض الخطايا والمخالفات الشرعية. ومنها : التحريض على العتق والترغيب فيه بشدة طلبا للأجر من الله وابتغاء لرضوانه. ومنها : سدّ المؤديات والأسباب التي تفضي إلى الاسترقاق كبيع الأحرار رغبة في المال. وكذلك الدين فإن عجز المدين استرقه الدائن. لكن ذلك بات في الإسلام محظورا، ومستهجنا. فما يباع الأحرار ولا ينقلبون إلى عبيد البتة.
وكذا الدين فإنه لا مساغ للدائن أن يشتري بدينه حرية المدين، فيسترقّه استرقاقا بسبب عجزه عن أداء دينه. وإنما يلزمه إمهاله حتى يتيسر له الأداء. وهو قوله تعالى :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ).
فلا مجال بعد ذلك لمغرض متربص دساس أن يغمز بالإسلام على أنه لم يحرم الرق. وقد علم كل ذي علم أن الأديان والشرائع والفلسفات والأعراف كافة والتي سبقت الإسلام قد قررت نظام الرقيق واستبقته على حاله ليظل مستمرا مطردا. لكن الإسلام وحده من بين الأديان والعقائد والقوانين جميعا، قد شرع تحرير العبيد بأسلوبه المتكامل الحكيم.
وذلك من ثلاثة أبواب. وهي : باب الترغيب والتحضيض، وباب الإلزام والإيجاب. وباب الصد وإغلاق الأسباب والمنافذ.
قوله :( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) يأمر الله أصحاب العبيد أن يعينوهم في مال الكتابة ليتمكنوا من عتق أنفسهم. وفي حقيقة المخاطبين في هذه الآية خلاف. وثمة أقوال ثلاثة في ذلك :
القول الأول : إنهم السادة وعليهم أن يحطوا عن المكاتبين شيئا من مال الكتابة. وقد قيل : يحطون عنهم ربع الكتابة. وقيل : ثلثها. وقيل : عشرها. ويجبر السيد على هذا الإيتاء، ويحكم به الحاكم على الورثة إذا مات السيد. وهو قول الشافعي ودليل ذلك مطلق الأمر في قوله :( وآتوهم ) وقيل : هذا الأمر على الندب وليس الوجوب وهو قول الإمام مالك.
القول الثاني : المخاطب في الآية سائر الناس فهم مكلفون بالتصدق على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم.
القول الثالث : الخطاب للولاة فهم مكلفون بإعطاء المكاتبين نصيبهم من مال الصدقة. وهو المراد بقوله تعالى في آية الصدقات :( وفي الرقاب ).
قوله :( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني طلبا للمال يأخذه منها. ولما جاء الإسلام نهى المؤمنين عن ذلك فإنه فاحشة وقذر وفسق. فضلا عن موات الهمة وخواء المروءة والضمير جريا وراء المال بأقذر الأساليب.
وذكر في سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن أبي ابن سلول، وهو رأس المنافقين، كان له إماء وكان يكرههن على البغاء، أي الزنا طلبا لخراجهن ورغبة في أولادهن وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مُسيكة وأخرى يقال لها أميمة. فكان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي ( ص ) فأنزل الله عز وجل ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ).
قوله :( إن أردن تحصنا ) أي أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن أن يكون السيد مكرها لها أو أن إكراهه لها متصور مادامت هي ممتنعة، وبذلك نهى الله عن هذا الإكراه. أما إذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يُطلب من السيد عدم إكراهها. أي إذا كانت راغبة في الزنا لم يتصور الإكراه.
قال ابن كثير في تأويل قوله :( إن أردن تحصنا ) : هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. لأن الغالب من عرف الجاهليين إكراه فتياتهم على الزنا طلبا للمال. فلا يعتبر مفهوم المخالفة هنا. وبذلك لا يصح التعلق بشيء من دليل الخطاب أو مفهوم المخالفة ليقال بجواز الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن٣.
قوله :( ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) أي من يقهرهن على الزنا طلبا للكسب فإن الله يغفر لهن. وإنما إثمهن على من أكرههن، وألجأهن لفعل الفاحشة.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٥..
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢١٩..
٣ - إرشاد الفحول ص ١٨٠ وحاشية التفتازاني جـ٢ ص ١٧٤ والإحكام للآمدي جـ ٢ ص ٢٢٣..
قوله :( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ) المراد بذلك القرآن، وما فيه من الآيات الواضحات، بما فيهن من الأخبار والأحكام والمعاني البليغة المستفيضة.
قوله :( ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ) المراد بالمثل الخبر أو القصة من قصص الأولين كقصة يوسف وقصة عائشة. أو ما حل بالأولين من المثلات، أي العقوبات لإعراضهم عن دين الله.
قوله :( وموعظة للمتقين ) أي جعل الله هذه الأخبار والقصص موعظة لمن خشي الله وخاف عقابه واجتنب نواهيه١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٨٧- ٢٨٩ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٣٦٦- ١٣٧٤ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٢٤٣- ٢٥٥..
قوله تعالى :﴿ الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ( ٣٥ ) ﴾.
النور في اللغة، بمعنى الضياء والإسفار١ قال الرازي : النور موضوع في اللغة لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما.
وإنما استعمل الكلمة ( نور ) على سبيل المجاز. فيقال : كلام الله نور، ومنه الكتاب المنير. وبذلك يقال لله تعالى : نور، على سبيل المدح والثناء على جلاله العظيم ؛ فهو موجد الأشياء، ومصدر النور لكل الأشياء. قال ابن عباس : نور السماوات والأرض، أي هادي السماوات والأرض. والله بنوره أضاءت السموات والأرض. وفي الحديث المروي في سيرة ابن إسحاق عن رسول الله ( ص ) أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
وفي الآية إخبار من الله عن نفسه بأنه نور. وذلك لعظيم جلاله، وكمال عدله وفضله وسمو أحكامه وتمام دينه، وما بثه في الحياة والأحياء والكائنات جميعا من خصال التكامل وروعة البنيان والانسجام والرحمة، من غير نشاز في ذلك ولا خلل ولا فوضى. فهو سبحانه بذلك كله نور السماوات والأرض.
قوله :( مثل نوره كمشكاة ) نور الله هداه في قلب المؤمن. وهو كمشكاة. وهي الكوّة في الحائط لا منفذ لها. ( فيها مصباح ) أي سراج ثاقب. وكونه في المشكاة أكثر إنارة وأجمع للضوء.
وقيل : المشكاة موضع الفتيلة من القنديل. وهذا أظهر ؛ لقوله بعد ذلك ( فيها مصباح ) وهو النور الذي في الذبالة.
قوله :( المصباح في زجاجة ) أي في قنديل من زجاج شفاف.
قوله :( لزجاجة كأنها كوكب دري ) أي هذا القنديل في صفائه وإسفاره وبريقه كأنه كوكب من در. وذلك لشدة إشراقه وإضاءته. وقد نُسب إلى الدر لفرط بياضه وسطوعه.
قوله :( يوقد من شجرة مباركة ) أي هذا المصباح المضيء الثاقب يُسرح من شجرة مباركة وهي الزيتونة، حيث زيتها النافع فهو غذاء ودواء ودهان ووقود.
قوله :( زيتونة ) بدل من شجرة ( لا شرقية ولا غربية ) الجملة صفة لزيتونة والمعنى : أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وذلك أجود زيتها. فهي بذلك ليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا خالصة للغرب فتسمى غربية بل هي شرقية وغربية.
قال ابن كثير في هذا الصدد : ليست في شرق بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربها فيقلّص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى آخره ؛ فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا.
قوله :( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) هذا وصف آخر للزيتونة، وهو أنها ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) أي ان هذا الزيت يكاد في صفائه المنير، وسطوعه المتلألئ يكون مضيئا دون أن تمسه نار.
قوله :( نور على نور ) ( نور ) خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي هو نور. والمعنى : هو نور على نور، والمراد نور الزيت المشرق المضيء، ونور النار الساطع الوهاج. فهما نوران مجتمعان تزداد بهما الإضاءة وينتشر الإشراق.
قوله :( يهدي الله لنوره من يشاء ) المراد بالنور هنا الحق الذي جعله الله للناس هاديا ومنيرا، وهو دينه الحق. فإن الله يوفق لإصابة هذا الدين من يشاء من عباده أولي الفطرة السليمة، والنظر السديد. أولئك صالحون أسوياء يتدبرون آيات الله وما فيها من البراهين والدلائل فيبادرون التصديق والثقة واليقين. ومن لم يتدبر آيات الله، وأعرض عن دينه، فهو سادر في العماية والتخبط ليظل دوام حياته خاسرا تائها متعثرا.
قوله :( ويضرب الله الأمثال للناس ) أي يبين الله لكم الأشياء بما يضربه من الأشباه والنظائر لتتدبروا وتعوا.
قوله :( والله بكل شيء عليم ) الله عليم بالأشياء لا يخفى عليه علم شيء منها وهو سبحانه يعلم ما ينفع الناس وما يضرهم.
١ - مختار الصحاح ص ٦٨٤..
قوله تعالى :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ( ٣٦ ) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ( ٣٧ ) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ( ٣٨ ) ﴾.
قوله :( في بيوت أذن الله أن ترفع ) الجملة في موضع نصب، حال للمصباح والزجاجة والكوكب. والتقدير، أن هذه المذكورات توقد في بيوت، والمراد بها المساجد ؛ فقد أمر الله أن تبنى وتعظم وتطهر من الأدناس والأرجاس.
قوله :( ويذكر فيها اسمه ) وهذا يعم كل ضروب الذكر سواء في ذلك التسبيح والتهليل والتكبير والدعاء ووعظ الناس وتحريضهم على الطاعة والتزام شرع الله وأحكام دينه.
قوله :( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) ( الغدو )، أو النهار. ( والآصال )، جمع أصل وهو العشي.
و ( رجال )، فاعل يسبح. والمراد بالتسبيح الصلاة المفروضة. أي يؤدون الصلاة المفروضة في الصباح وهي صلاة الفجر. وصلاة الآصال وهي صلاة الظهر والعصر والعشاءين وهما المغرب والعشاء الآخرة. وقيل : المراد بالتسبيح : تعظيم الله وتنزيهه في ذاته وصفاته عما لا يليق.
قوله :( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) هذه الجملة في موضع رفع صفة لرجال ؛ أي هؤلاء المؤمنون الأتقياء الذين يسبحون الله بالغدو والآصال سوء كان ذلك بالصلوات المفروضة أو الذكر أو التنزيه عما لا يليق- لا تشغلهم التجارة والبيع وغير ذلك من المنافع الدنيوية عن الذكر والتسبيح. وخص التجارة بالذكر، لشديد تأثيرها في إلهاء الذهن والقلب وإشغالهما. فلا جرم أن تكون التجارة ملهاة دنيوية تستحوذ على القلب والتفكير، فيلهو بها المرء عن واجباته مما فرض عليه ربه كذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه فرائض عظيمة تستحق من المسلم عظيم اهتمامه وبالغ حرصه فيقوم بها خير قيام ؛ وإلا طغى عليه حب التجارة حيث المال والكراع واللهو والشهوات، وفي الآخرة هوان وخسران.
قوله :( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) ( يوما )، مفعول للفعل ( يخافون ) والجملة ( تتقلب فيه القلوب والأبصار ) في موضع نصب صفة لقوله :( يوما ) وذلك بيان لحال العباد يوم القيامة ؛ إذ تضطرب فيه القلوب من شدة الفزع وما يجدونه من البلايا. وكذلك تتقلب الأبصار، أي تشخص فلا تطرف. أو يصيرون عميانا١.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٧..
قوله :( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) أي يخافون الله فيسبحونه ويذكرونه ويفعلون ما يفعلون من الطاعات ليجزيهم الله على ذلك ثوابا مضاعفا ؛ إذ وعدهم بمضاعفة ذلك إلى عشرة أمثاله وأكثر ( ويزيدهم من فضله ) أي يزيدهم تفضلا فوق الجزاء الموعود المضاعف.
قوله :( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) الله يعطي عباده المستحقين من عطائه الجزيل. وعطاء الله ليس له نهاية.
قوله تعالى :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( ٣٩ ) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ( ٤٠ ) ﴾.
قوله :( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) ( كسراب )، جار ومجرور، في موضع رفع، خبر المبتدأ ( أعمالهم ) و ( بقيعة )، في موضع جر صفة لسراب وتقديره : كسراب كائن بقيعة. والمراد بأعمال الكافرين ههنا، والتي هي من أعمال الخير، كالصدقات وصلة الأرحام وعمارة البيت وسقاية الحاج. والسراب، ما يرى في الفلاة في ضوء الشمس وقت الظهر عند اشتداد الحر على هيئة الماء حتى إذا رآه الناظر ظنه ماء. ويسمى سرابا ؛ لأنه يسرب على وجه الأرض في الأفق ؛ أي يجري كالماء. والقيعة، بمعنى القاع، وهو المنبسط المستوي من الأرض الذي يستقر فيه الماء. ويجمع على قيعان وأقوع واقواع١.
وهذا مثل يضربه الله لأعمال الكافرين الذين يقدمون الأعمال الكثيرة الصالحة مما ينفع الناس. فقد شبه الله هذه الأعمال بالسراب اللامع الخادع الذي يجري كالماء في الأرض المستوية من أفق المفاوز كلما اشتد الحر.
قوله :( يحسبه الظمآن ماء ) جملة فعلية في موضع جر صفة لسراب أيضا٢. أي يحسب العطشانُ المتلهفُ للماء هذا السراب ماء لفرط ما يجده من عُطاش. وكذلك الكافر الخاسر الذي عمل في دنياه من الصالحات وهو على غير الإيمان الصحيح. والإيمان الحقيقي الأكمل إنما هو ما تبين في قرآن الله الحكيم وسنة رسوله ( ص ). ففيهما تتجلى حقيقة الإيمان السليم المتكامل بمعانيه المحددة الظاهرة، وأركانه المعلومة من غير ما نقصان ولا زيادة. فأيما نقصان أو زيادة في الإيمان وأركانه لا جرم أن يفضي ذلك إلى الكفر وحبوط الأعمال بالكلية. وهذه حال الكافرين والمنافقين من الناس الذين يقدمون الأعمال الصالحة ظانين أنها تنفعهم عند ربهم، أو تنجيهم من حسابه وعذابه. لكنهم واهمون مخذلون حين لا تنفعهم أعمالهم يوم القيامة. ومثلهم في ذلك كالعطشان يجد السراب أمامه ساربا متموجا فيظنه ماء.
قوله :( حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده ) ( شيئا )، منصوب على المصدر٣ ؛ أي حتى إذا جاء إلى ما قدمه من عمل لم يجد ما كان يرجوه. بل لم يجد منه شيئا ووجد الله له بالمرصاد ( فوفاه حسابه ) وفاه الله جزاء عمله ؛ إذ تعتله زبانية العذاب إلى جهنم حيث الحميم والغساق واللظى ( والله سريع الحساب ) ؛ لأنه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب. وقيل : لا يشغله حساب واحد عن حساب واحد غيره.
١ - المصباح المنير جـ ٢ ص ١٧٩..
٢ -البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٧..
٣ - نفس المصدر السابق..
قوله :( أو كظلمات في بحر لجي ) اللجي، الماء العميق الكثير. وهو منسوب إلى اللج واللّجة ؛ أي معظم الماء والجمع لجج١، والمراد به هنا معظم ماء البحر. وذلك مثل آخر ضربه الله لأعمال الكافرين التي يجعلها الله يوم القيامة هباء منثورا. فمثلها كمثل ظلمات في بحر زاخر مضطرب لا يُدرك مداه لعمقه واتساعه. ثم وصفه بقوله :( يغشاه موج من فوقه موج ) هذا البحر هادر متلاطم مائج ؛ فهو يعلوه موج، يتبع بعضه بعضا. ومن فوق الموج سحاب مرتفع كثيف. وذلك مشهد يكشف عن شدة الخوف تغشى القلوب الساربين وسط هذا البحر المخوف وهم تحيط بهم أهوال البحر بظلماته المتكاثفة المترادفة يعلو بعضها بعضا، وهو معنى قوله سبحانه :( ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ) وفاعل ( أخرج ) تقديره : الحاضر السارب في هذه الظلمات ؛ فإنه إذا أخرج يده فيها لم يرها إلا بعد جهد، أو لم يقارب رؤيتها مما يسترها من كثيف الظلام المترادف المركوم. وهذه هي الحقيقة التي يقدمها الكافرون على اختلاف مللهم ومشاربهم وأهوائهم. الكافرون الذين جحدوا نبوة محمد ( ص ) وكذبوا بما أنزل الله عليه من كتابه الحكيم، أو كذبوا بعضا منه أو بعضا من أركان الإيمان المعروفة، أو الذين ارتابت قلوبهم في حقيقة الإسلام فأنكروا شيئا من حقائقه ومعانيه القاطعة ؛ فإنه لا يجحد شيئا من عقيدة الإسلام أو أركانه أو أحكامه أو تعاليمه الثابتة إلا جاحد كفور أو ظالم مرتد. إن هؤلاء الكافرين جميعا لن يجعل الله يوم القيامة لأعمالهم وزنا أو قيمة أو اعتبارا. فما يقدمه هؤلاء المشركون المرتكسون في الكفر أو الردة ليس إلا الهباء المنثور الذي لا يغنيهم من عذاب الله شيئا.
قوله :( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) المراد بالنور، الهداية. فإنما الهداية بالإسلام. هذا الدين الرباني الكامل الذي جيء به هداية للعالمين ؛ إذ يدفع عنهم الأذى والشر وكل وجوه الفساد والباطل. ويقرر في حياتهم الخير والسعادة وكل وجوه الحق والتوفيق. فمن لم يهتد بالإسلام فلن يحظى بهداية أو سعادة وإنما يتيه في حياته ضالا تاعسا متعثرا، ويوم القيامة يرد إلى عذاب الله الشديد٢.
١ - مختار الصحاح ص ٥٩٢..
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٣٧- ٤٠ والكشاف جـ٣ ص ٦٧- ٧٠ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٥-٨ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٣٧٥- ١٣٧٨..
قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ( ٤١ ) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ( ٤٢ ) ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( ٤٣ ) يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ( ٤٤ ) ﴾ الخطاب من الله لرسوله ( ص ). والاستفهام للتقرير. والمعنى : قد علمت يا محمد بالحس والمشاهدة والنظر ( أن الله يسبح له من في السماوات والأرض ) أي ينزهونه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله. والمراد بمن في السماوات والأرض ؛ كل كائن سواء في ذلك العقلاء من الإنس والجن والملائكة، أو غير العقلاء كالكواكب والبحار والأشجار والجبال. أما العقلاء : فيخشى الله منهم المؤمنون الذين يعبدونه ويسبحونه. أما غير المؤمنين : فإنما يعبدون الله بصفاتهم وهيئاتهم الخِلْقية التي جُبلوا عليها. أي أن آثار الصنعة الإلهية في غير المؤمنين تنطق بأن الله حق، وأنه الخالق الموجد المتصف بصفات الكمال. وكذلك غير العقلاء من خلق الله كالطير والبهيمة، فإن ما يسمع من أصواتها وما يشاهد فيها من آثار الصنعة الإلهية من توالد وتكاثر وتذليل وغير ذلك من وجوه الحركة فيها، فإن ذلك كله تسبيح لله ؛ أي تنزيه له عن كل عيب أو نقيصة.
وأما الجمادات : فإنها على الدوام تسبح بحمده وذكره فلا تفتر ولا تكلّ، وهيئة تسبيحها وذكرها لا يعلمها غير الذي ذرأها وكوّنها. وفي ذلك من التوبيخ للكافرين الضالين ما لا يخفى ؛ فقد ضل هؤلاء الغافلون العصاة عن أمر الله وزاغوا عن منهجه الحق وصراطه المستقيم، وانفتلوا يعبدون الأوثان على اختلافها من الأحجار والتماثيل وغير ذلك من طواغيت الجن والإنس الذين أضلوهم وزينوا لهم الفساد والشر، وحملوهم على التلبس بالباطل حملا، مخلفين وراءهم منهج الله القائم على الحق والعدل والتوحيد.
قوله :( والطير صافات ) الطير، معطوف على الموصول ( من ) و ( صافات ) منصوب على الحال. أي يصففن أجنحتهن في الهواء طائرات محلقات، وقد خصهن الله بالذكر لما يتجلى فيهن من بديع الصنعة وعجيب الهيئة والمنظر المثير مما نجده في الطير وهو يجوب الفضاء خافقا بجناحيه في صورته الجميلة وطيرانه العجيب ورفيفه المذهل الخلاب مما يستوقف العقل أيما استيقاف كيما يتدبر ويتفكر وإنه لا يدّكر بعد ذلك من البشر إلا كل عتّل جاحد أثيم.
قوله :( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) الضمير في ( علم )، يعود إلى ما سبق ذكره من المسبحات ؛ أي كل واحد مما ذكر قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. والصلاة هنا بمعنى الدعاء. والمراد من الإخبار بأن كل واحد من المذكورات قد علم دعاء نفسه وتسبيحه : أن ذلك كله صادر عن علم الله الذي ألهمها ذلك وعلّمها إياه. وذلك دليل على عظيم شأن الله وبالغ قدرته.
قوله :( ولله ملك السماوات والأرض ) الله له ملكوت كل شيء ولا يندّ عن سلطانه وملكوته شيء ( وإلى الله المصير ) لله العاقبة والمرجع ؛ فكل شيء في السماوات والأرض صائر إلى الله لا محالة. والناس والأحياء مجموعون بين يديه يوم القيامة.
قوله :( ألم تر أن الله يزجي سحابا ) ( يزجي )، أي يسوق، من الإزجاء وهو السّوق. زجّى الشيء تزجية، دفعه برفق. وأزجى الإبل، ساقها١.
والمعنى : أن الله يسوق السحاب سوقا رفيقا ( ثم يؤلف بينه ) أي يضم بعضه إلى بعض بعد أن كان قزعا٢ أو أجزاء متفرقة.
قوله :( ثم يجعله ركاما ) الركام، المتراكم بعضه فوق بعض، ركم الشيء يركمه ركما أي جمعه وجعل بعضه على بعضه. وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع.
قوله :( فترى الودق يخرج من خلاله ) ( الودق ) معناه المطر٣ ؛ أي ترى المطر يخرج من فتوق السحاب المؤلف المركوم. وفتوقه يعني مخارج القطر فيه. وهذه من جملة الآيات الحكيمة التي تحكي أخبار الطبيعة، كظاهرة المطر ونحوه من ظواهر هذا الكون مما يقطع في الدلالة على أن هذا الكلام رباني معجز.
قوله :( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) وهذا دليل مضاف إلى أدلة كثيرة على عظمة الله الخالق. و ( السماء ) بمعنى العالي، من العلو. و ( من جبال ) يعني من قطع عظيمة تشبه الجبال في أحجامها العظام. و ( فيها )، في محل نصب على الحال. و ( من برد )، ( من ) للتبعيض، وهو مفعول ينزل. وقيل :( من ) زائدة. أي ينزل من السماء من جبال فيها برد٤ ( فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ) والمراد بضمير يُصيب، جلال الله عز وعلا ؛ فهو سبحانه يصيب بالبرد النازل من السماء من يشاء إصابته من العباد. وهو كذلك يصرف البرد عمن لا يريد إصابتهم به من الناس. وذلك من كمال صنع الله وعظيم تقديره ؛ إذ ينزل من السماء المطر والبرد على نحو مقدور وموزون. سواء في ذلك مقاديره المنزلة بأحجامها وكمياتها المعلومة، أو البقاع والأناسي الذين يصيبهم ما يتنزل من بركان السماء.
قوله :( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) السّنا، معناه الضوء ؛ أي يكاد ضوء البرق المكون في السحاب يخطف الأبصار من شدة بريقه وسطوعه، وفرط لمعانه وضوئه.
١ - مختار الصحاح ص ٢٦٩..
٢ - القزع: بفتحتين، قطع من السحاب رقيقة. الواحدة قزعة. انظر مختار الصحاح ص ٥٣٣..
٣ - مختار الصحاح ص ٧١٥..
٤ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٨..
قوله :( يقلب الله الليل والنهار ) بعد أن ذكر جملة من الظواهر والحقائق الكونية كتسبيح الأشياء كلها لله، وخلق الطير الخافقات بأجنحتها الرفافة في السماء، وحقيقة الملكوت لله الواحد القهار، وأنه ما من شيء إلا هو صائر على الله بعد الممات والفناء، وأن الله يدفع بقدرته السحاب لينزل من بين مخارجه المطر وما يتبع ذلك من برق ثاقب ساطع يخطف الأبصار- بعد ذلك كله يبين الله جملة من الدلائل الحسية المشهودة من ثنايا الطبيعة وأجزاء الحياة والكون مما يكشف عن قدرة الله المطلقة وعلمه البالغ، وأنه الواحد البارئ المقتدر الذي ليس له في ذاته وصفاته وعظيم أفعاله نظير، فقال سبحانه :( يقلب الله الليل والنهار ) وقد جاء في تأويل ذلك عدة أقوال. منها : أن الله جعل الليل والنهار متعاقبين. أي يعقب كل واحد منهما الآخر. ومنها، أنه يزيد في أحدهما وينقص من الآخر، كقوله :( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ).
قوله :( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) الإشارة عائدة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل والحقائق في الطبيعة والكون ؛ فإن ذلك كله لهو موعظة ودلالة لأولي العقول النيرة السليمة الذين يبصرون البينات الواضحات، والبراهين القاطعة المستفيضة ليبادروا التصديق والادّكار والطاعة١.
١ - تفسير الطبري جـ١٨ ص ١١٦- ١١٨ وفتح القدير جـ ٣ ص ٤٠- ٤٣ والكشاف جـ٣ ص ٧٠ -٧١..
قوله تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ( ٤٥ ) لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ٤٦ ) ﴾ المراد بالدابة كل ما دبّ على الأرض من الحيوان. دبّ يدبّ فهو داب والهاء للمبالغة. فكل ماش على الأرض دابة١.
والمراد بالماء، النطفة من المني، تنزيلا للغالب منزلة الكل ؛ لأن في الحيوانات ما يتولد من غير نطفة. ويخرج عن هذا العموم ملائكة الرحمان ؛ فهم مخلوقون من نور. وكذا الجان فقد خلقوا من نار. والمعنى : أن الله خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة. ثم فصل الله سبحانه أحوال كل دابة من هذه الدواب المخلوقة من النطفة ليبين أن منها ( من يمشي على بطنه ) وهي الهوام كالحيات والحيتان والديدان ونحو ذلك ( ومنهم من يمشي على رجلين ) وذلكم الإنسان يمشي قائما على رجليه. وكذا الطير ( ومنهم من يمشي على أربع ) وهي سائر الحيوانات العجماوات التي لا تعي ولا تنطق.
وثمة صنف من البهائم يمشي على أكثر من أربع لم يذكر في الآية لقلته، وذلك كالسرطان والعناكب.
قوله :( يخلق الله ما يشاء ) ما من شيء إلا هو مخلوق من مخلوقات الله ؛ فهو سبحانه قد خلق ما ذكره هنا وما لم يذكره من بقية الخلائق كالجمادات على اختلاف أجناسها وصورها ومنافعها.
قوله :( إن الله على كل شيء قدير ) لا يعز على الله أن يخلق شيئا ؛ فهو سبحانه القادر على خلق ما يشاء، ولا يتعذر عليه فعل ما يريد.
١ - مختار الصحاح ص ١٩٧..
قوله :( لقد أنزلنا آيات مبينات ) المراد بالآيات المبينات، آيات الكتاب الحكيم. هذه الآيات الواضحات التي تحكي لنا أخبار الأولين والآخرين، والتي تفيض من خلالها أنباء الدنيا والآخرة وما يسبق ذلك من فيض الدلائل والبراهين التي نبّه إليها القرآن وهو يلفت الأنظار والعقول للتفكر في ملكوت الله وما فيه من بديع الخلائق وعجيب الكائنات.
قوله :( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) صراط الله المستقيم هو دينه القويم، ومنهجه الحق المبين الذي جعله للناس تبصرة ونورا فيهدي إليه من عباده من يستحق الهداية.
قوله تعالى :﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( ٤٧ ) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ( ٤٨ ) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ( ٤٩ ) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ( ٥٠ ) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ( ٥١ ) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ( ٥٢ ) ﴾.
نزلت هذه الآية في بشر المنافق وخصمهه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله ( ص ) ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول : إن محمدا يحيف١ علينا٢ فالآية فيها إخبار من الله عن المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون في أنفسهم الجحود والكفر ؛ فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. يقولون :( آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ) أي صدقنا بالله وبرسوله وأطعنا الله ورسوله وهم في الحقيقة كاذبون ( ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ) أي يدْبر المنافقون بالامتناع عن قبول حكم رسول الله ( ص ) بعد الذي قالوه من ظاهر الإسلام وهم فيما تخفيه أنفسهم كاذبون. وهو قوله سبحانه :( وما أولئك بالمؤمنين ) والإشارة عائدة إلى الذين قالوا هذه المقالة يريدون أن يخادعوا بها النبي والذين آمنوا. وهذا إعلام من الله بأن جميع من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، كافرون. وأن الذين لا يرضون بحكم الله ورسوله ويستعيضون عن ذلك بحكم الكافرين ليسوا بمؤمنين. فما يؤمن حقا إلا من يرضى بشرع الله دون غيره من شرائع الكفر ؛ فإنه لا يتحاكم إلى شرائع الظالمين في شأن من شؤون حياته التربوية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك من قضايا الحياة ومشكلاتها إلا الذين ظلموا أنفسهم بزيغهم عن منهج الله الواضح المستقيم. وإذا كان منهج الله، وهو الإسلام، كفاء لكل قضايا البشرية ومشكلاتها على تعددها وكثرتها واختلافها، فما يجوز بعد ذلك البتة، الاحتكام إلى ما يخالف الإسلام من الشرائع والملل. وهذه حقيقة لا يغفل أو يتعاضى عنها إلا مغرور خاسر أو مفرط هالك.
١ - يحيف، من الحيف وهو الجور والظلم. انظر مختار الصحاح ص ١٦٥..
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢١..
قوله :﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ﴾ إذا طلبوا إلى اتباع ما أنزل الله على رسوله من حكم ليقضي به بينهم فيما اختصموا فيه أعرضوا عنه واستكبروا. وقد بينا أن الآية هذه نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر وقد رفض الاحتكام إلى رسول الله ( ص ) في خصومة له مع يهودي.
قوله :﴿ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ﴾ أي إن علم المنافقون أنه سيحكم لهم فإنهم يأتون إليه مبادرين منقادين.
وذلك هو ديدن المنافقين الذين في قلوبهم مرض والذين يعبدون الله على حرف من ضعاف الإيمان ؛ فإنهم لا يستجيبون للحق حبا في جلال الله أو طمعا في مغفرته ورضوانه ؛ بل إنهم طامعون في قضاء حوائجهم ومنافعهم. فحيثما كانت منافعهم ومصالحهم وحاجاتهم الخاصة بهم توجهوا مذعنين منقادين. وإن علموا أن الحكومة١ ليست لهم تولوا معرضين مستكبرين. وليس هذا شأن المؤمنين المتقين أولئك الذين يرتضون بحكم الله في المنشط والمكره، وينقادون لأوامره في كل الأحوال راضين طائعين مخبتين.
١ - الحكومة، بمعنى الحكم والقضاء. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ٩٩..
قوله :( أفي قلوبهم مرض ) الاستفهام للتوبيخ والتقريع. والمرض هنا بمعنى النفاق ؛ أي هل في قلوب هؤلاء المستنكفين المعرضين عن حكم الله نفاق ؟.
قوله :( أم ارتابوا ) أم أصابهم الشك فزال يقينهم برسول الله ( ص ) وبنبوته ( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) وذلك استفهام آخر يتضمن توبيخا شديدا لهؤلاء المستنكفين المنافقين ؛ أي هل يخشون أن يجور النبي ( ص ) أو يظلم في قضائه وحكمه ؟ فإنما يقضي النبي ( ص ) بين الناس بما أوحي إليه من ربه وذلكم العدل المطلق، والحق الأبلج المستبين.
قوله :( بل أولئك هم الظالمون ) ( بل ) إضراب عن تعلتهم الكاذبة بخوفهم أن يحيف الله عليهم ورسوله ؛ فإن الله لا يظلم أحدا مثقال ذرة. ولكنهم هم أهل ظلم لأنفسهم. فهم متلبسون بالشرك والضلالة والباطل، ضالعون في الخطيئة والمنكر واتباع الشهوات.
ويستفاد من هذه الآية وجوب إجابة الدعوى إلى الحاكم المؤمن ؛ لأن الله تعالى ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه فلم يجب- بأقبح الذم، ومن المعلوم في أصول الفقه أن حد الواجب ما ذم تاركه شرعا.
قال بن خويز منداد – من علماء المالكية- : واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه.
قوله :( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) ( قول )، خبر ( كان ) منصوب، واسمها مصدر ( أن يقولوا ). وهذا ذكر لحال المؤمنين الطائعين، بعد التنديد بالمنافقين المدبرين عن دين الله، المعرضين عن شرعه وحكمه في خصوماتهم. فالمؤمنون الصالحون المصدقون إذا دعوا إلى حكم الله وإلى حكم رسوله ليقضي بينهم وبين خصومهم في خصوماتهم إنما يبادرون بالقول : سمعنا ما قيل لنا، وأطعنا ما أمرنا به، وإن كان ذلك فيما يكرهونه أو يضرهم.
قوله :( وأولئك هم المفلحون ) ذلك إطراء لهؤلاء المؤمنين المصدقين المبادرين بالطاعة ؛ فإنهم الفائزون في هذه الدنيا بالخير والأمن والسعادة، الناجون في الآخرة من التعس وسوء المصير.
قوله :﴿ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ﴾ الذين يطيعون الله ورسوله فيما أمراهم به، وينتهون عما نهاهم عنه من المعاصي والمخالفات وكانوا يخشون الله في السر والعلن ويتقونه باجتناب زواجره ومناهيه ويتبعون شرعه وأحكامه ( فأولئك هم الفائزون ) الناجون الذين يظفرون بخير الدنيا والآخرة١.
١ - تفسير الطبري جـ ١٨ ص ١١٩- ١٢١ وفتح القدير جـ ٣ ص ٤٥ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣٧٨- ١٣٧٩..
قوله تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ( ٥٣ ) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( ٥٤ ) ﴾ يبين الله كيد المنافقين وكذبهم على الله ورسوله ؛ إذ يحلفون بالله جهد أيمانهم، و ( جهد ) منصوب على المصدر المؤكد لفعل محذوف. والتقدير : أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدا. فحذف الفعل وقدم المصدر. والمعنى : أقسموا أغلظ أيمانهم وأشدها، أو طاقة ما قدروا أن يحلفوا.
قوله :( لئن أمرتهم ليخرجن ) يحلف المنافقون كاذبين : لئن أمرتنا يا محمد بالخروج للجهاد لخرجنا جهادا في سبيل الله تاركين وراءنا ديارنا وأموالنا وأهلينا. والله يعلم أنهم منافقون كاذبون فيما قالوا أو حلفوا. فأمر الله نبيه أن يقول لهم :( لا تقسموا طاعة معروفة ) ( طاعة ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أمرنا طاعة معروفة. وقيل : مبتدأ وخبره محذوف وتقديره طاعة معروفة أمثل من غيرها١ يعني لا تقسموا، طاعتكم طاعة معروفة. أي تبينت طاعتكم فأنتم كاذبون منافقون.
قوله :( إن الله خبير بما تعملون ) الله عليم بحقيقة ما انتم عليه وبما تخفيه صدوركم من الكيد والنفاق. وهو سبحانه لا تخفى عليه خوافيكم وأسراركم وما يستكن في ضمائركم من الكراهية وسوء القصد. وهو سبحانه مجازيكم بكل ذلك.
١ -البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٩٨..
قوله :( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) أي قل لهؤلاء الذين يحلفون بالله جهد أيمانهم ولغيرهم من قومك أن أخلصوا الطاعة والأعمال لله واحذروا الكذب والنفاق وفساد القلوب والعصيان، وأطيعوا الرسول ( ص ) باتباع سنته والرضى بما يحكم فيه بينكم.
قوله :( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) يعني إن تُعرضوا عن منهج الله وتدبروا عما أنزل إليكم من الحق، وتأبوا الإذعان لحكم الله وشرعه ؛ فإنما على رسول الله ( ص ) بعد ذلك ما أمر بفعله من تبليغ الرسالة إليكم ( وعليكم ما حملتم ) أي عليكم أنتم فعل ما ألزمكم الله بفعله مما أوجبه عليكم من طاعة الله ورسوله.
قوله :( وإن تطيعوا تهتدوا ) يعني إن تطيعوا رسول الله ( ص ) فتأتمروا بأمره وتنتهوا عما نهاكم عنه، ترشدوا وتصيبوا الحق في أموركم ؛ فإن من أطاع رسول الله فقد أطاع الله سبحانه.
قوله :( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) أي ليس على محمد رسول الله إلا أن يؤدي رسالة التبليغ، وهي رسالة ربه إليكم. وما عليه بعد ذلك من شيء.
قوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ويبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( ٥٥ ) ﴾ روي في سبب نزول هذه الآية أن بعض أصحاب النبي ( ص ) شكا إليه ما هم فيه من العدو، وتضييقه عليهم، وشدة الخوف وما يلقون من الأذى، فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم فأنجزه الله وملكهم ما وعدهم وأظهرهم على عدوهم.
وروى أبو العالية قال : مكث النبي ( ص ) عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرا وجهرا ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، فمكث بها وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون. فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ ! فقال النبي ( ص ) : معناها : لا تعبرون ( لا تلبثون ) إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس بيده حديدة١.
وهذه الآية من الله قول صدق ووعد حق، وعد به رسوله ( ص ) بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ليكونوا أئمة الناس. فلا جرم أن تصلح بهم الدنيا ويستقيم الناس بشرعهم وملتهم ليعيشوا سالمين آمنين كراما في حياتهم الدنيا. وقد أنجز الله لرسوله الكريم ( ص ) ما وعده ؛ فإنه لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن. ولقد هاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس. وكذلك النجاشي ملك الحبشة. ولما مات ( ص ) وقام بالأمر بعده خليفتاه أبو بكر ثم عمر بن الخطاب اللذان جمعا شمل المسلمين من حول عقيدة الإسلام وبعثا جيوش المسلمين إلى فتح البلاد في فارس بقيادة أبطال صناديد من قادة المسلمين وعلى رأسهم أسد الله وأسد رسوله، خالد بن الوليد. وبعثا جيشا يقوده نفر من عظماء الإسلام الأشاوش وفي طليعتهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح. ففتحوا الديار والأمصار، وأشاعوا فيها رسالة الإسلام، وعمت البلاد الهداية والخير والبركة.
ثم تولى من بعدهما عثمان بن عفان، هذا الصحابي المفضال المبجّل، الذي قتل مظلوما في نفسه رحمه الله. ثم جاء من بعده علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله ( ص ) وصهره. هذا الصحابي النابغ الهصور، الذي تتجلى فيه خصائص فذة من العلم والنبوغ والبلاغة والورع والشجاعة والفطانة. هذا الصحابي الذي انبرى لنشر الإسلام في الآفاق حتى غلبه القدر المحتوم يوم أن تمالأ عليه الحاقدون الخائنون الذين كادوا له بليل فدفعوا إليه من يقتله غيلة وغدرا فخرّ شهيدا مكرّما، عليه من الله الرحمة والرضوان.
وفي فضل الأربعة هؤلاء أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سفينة مولى رسول الله ( ص ) أن رسول الله قال : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا ".
ومن الحق الذي لا مراء فيه أن خلافة الراشدين الأربعة كانت خير فترة من الزمان سجلها تاريخ الإنسانية ومرت بها الأجيال من البشر، بما تجلى فيها من بالغ العدل والتُّقى والرحمة، وكامل الفضل والطهر والاستقامة والأمان، فضلا عما تحقق في أشخاص ذلك الجيل الفريد من عجائب القيم والمثاليات المثيرة المذهلة. والحديث عن طهر الخلفاء الأربعة الراشدين وعن زهدهم وبالغ إخلاصهم وتجردهم من حظوظ الدنيا يطول. وكفى شاهدا على ذلك قول الرسول ( ص ) : " خير القرون قرني ".
أما الخلفاء والولاة من بعد الراشدين الأربعة فقد أبلوا عظيم البلاء في نشر الإسلام وترسيخ قواعده وأركانه وتثبيت حضارته وبنيانه الشامخ في أنحاء الدنيا، بالرغم مما قيل في حقهم من بعض القوادح المنسوبة إليهم.
فهم كغيرهم من البشر لا ينجون من الزلل أو القوادح أو الخطل ؛ لأنهم أناس من جنس البشر لا تصدهم عن الأخطاء والزلات عِصْمة. ومع ذلك فإن زلاتهم بالغة الهوان بالنظر إلى ما تثيره حول أشخاصهم وعن سيرتهم أقلام الحاقدين والمتربصين الذين يكرهون الإسلام. أولئك الأفاكون الخراصون الذين زيفوا التاريخ من حول الإسلام وأشاعوا عنه وعن رجاله من الحكام والولاة والخلفاء ما هم منه برآء. كالذي قيل افتراء وزورا عن الخليفة العظيم هارون الرشيد وغيره من ساسة المسلمين.
وكيفما يكن الأمر فإن هؤلاء الساسة الميامين قد نشروا الإسلام في الأرض وحملوا لواء الحق والعدل والعلم في ربوع العالمين، وأشاعوا بين العباد كل ظواهر الأمن والرخاء والاستقرار، وأحلوا شعوبهم وأممهم دار الكرامة والمجد والإحساس بالعزة والاستعلاء والثقة، فكانوا سادة الدنيا وكانوا أقوياء أشداء يهابهم الظالمون من حولهم، وترتعد من بأسهم وسلطانهم وعظيم شوكتهم فرائص المجرمين الماكرين الذين يكرهون الإسلام والمسلمين.
إن ما حُسب على الخلفاء من بني أمية والعباس والذين جاءوا من بعدهم، من الأخطاء والزلات، ما ينبغي إلا أن تنمحي من الذاكرة كليا كلما ذكرنا صنائع هؤلاء الولاة الأعاظم من الفتوحات وبناء الحضارات الهائلة التي تفيض بالعلم والاستقرار والبحبوحة والاستقرار والعزة والمهابة لأمة الإسلام.
على أن هذا الوعد من الله بالنصر والتمكين والتأييد إنما هو لجميع المسلمين في كل زمان ؛ لأن الآية عامة لأمة محمد ( ص )، غير مخصوصة ؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بالخبر الصحيح. ومن الأصل التمسك بالعموم ما لم يرد ما يخصصه.
وعلى هذا فإن وعد الله قائم لا يُخلف ؛ فقد وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض ليكونوا آمنين سالمين سعداء إذا ما آمنوا وعملوا الصالحات وقاموا بفعل الطاعات، وبمجانبة المعاصي، والتزموا دين الإسلام بكل أحكامه وشرائعه ونظمه وما يقتضيه ذلك من جمع الكلمة ووحدة القلوب ؛ ليكون المسلمون جميعا متعاونين متراحمين متوادين فيما بينهم. وحينئذ يجعل الله لهم العزة والمنعة والسلطان. وهو قوله :( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ( كما )، الكاف في محل نصب على المصدر ؛ أي استخلافا كما استخلف الذين. والمراد كل من استخلفهم الله في الأرض من الأمم السابقة وجعل لهم المنعة والعزة.
قوله :( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) المراد بدينهم هنا، الإسلام. وهو دين الحق الذي ارتضاه الله للبشرية لتهتدي بهديه، وليكون لها نورا ينير لها الطريق، ويبدد من أمامها الظلمات ؛ فلسوف يجعل الله الإسلام مكينا منيعا ظاهرا على كل الشرائع والملل.
قوله :( وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) أي يجعلهم الله آمنين مطمئنين بعد أن كانوا خائفين وجلين من أعداء الله المجرمين. كذلك كانت حال المسلمين قبل هجرتهم من مكة وبعدها بقليل. كانت تحيط بهم أسباب الخوف والذعر. وكان الأعداء الظالمون يحيطون بهم من كل جانب حتى منّ الله عليهم عقب ذلك بالنصر والأمن والتمكين في الأرض، فجعلهم آمنين سالمين لا يخشون أحدا إلا الله. بعد أن أذل الله المشركين والظالمين والمتربصين، وساقهم الهوان والخزي. وهو مصير المجرمين من أعداء الله والدين، أعداء المسلمين في كل زمان ومكان. لسوف يسومهم الله الوبال والمهانة والقهر جزاء أفاعليهم النكراء وجرائمهم البشعة في حق المسلمين. وذلك بعد أن يفيق المسلمون من غفلتهم وينهضوا من كبوتهم فيعاودوا الاستمساك بعقيدة الإسلام والالتفاف من حول هذا الدين الكريم ليجعل الله لهم النصر والمنعة والاستعلاء. وحينئذ تكون لهم الريادة والسيادة على العالمين فينطلقون في أرجاء الأرض مبشرين بدين الله الحق، حاملين ألوية الهداية والرحمة للبشرية.
قوله :( يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) ( يعبدونني )، جملة فعلية في محل نصب على الحال٢ ؛ أي يذعنون لي بالطاعة والخضوع ويستسلمون لما أمرتهم به، ولا يعبدون أحدا من دوني يتخذونهم شركاء كالأرباب المزيفة المصطنعة.
قوله :( ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) ( كفر ) هنا من الكفران وهو جحود النعمة ؛ أي من جحد ما أنعمه الله عليه فهو من العصاة الجاحدين لنعم الله. ومن عظائم نعم الله : تمكين المسلمين في الأرض ليكونوا أقوياء أولي مهابة وشوكة وسلطان.
والمسلمون باقون على حالهم من القوة والبأس وظهور الشوكة ماداموا معتصمين بحبل الله، ساربين في طريق الحق والعدل، سائرين على منهج الله. المنهج الكامل الشامل السديد وهو الإسلام. حتى إذا ضل المسلمون عن دينهم أو زاغوا عن منهج الله واستعاضوا عنه بشرائع الكفر والكافرين وانفتلوا عن صراط ربهم انفتالا أفضى بهم من الفسق والعصيان واتباع الأهواء والشهوات والملذات وركنوا إلى الدنيا بزينتها ومتاعها وزخرفها، حينئذ ينساهم الله ويدعهم وشأنهم، فما يصيرون بعد ذلك إلا إلى التخلخل والخور والانهيار لتتقطع أوصالهم، وتنتقض عرى الوحدة والأخوة فيهم، فيبيتون عرضة لتكالب المشركين والظالمين عليهم ؛ إذ ينقضون عليهم انقضاضا من كل جانب ليقتلوهم تقتيلا ويمزقوهم شر تمزيق وليقطعوهم شذر مذر، وليستبيحوا كل حرماتهم، فيجوسوا خلال ديارهم فلا يراعوا فيهم إلا ولا ذمة. كالذي حل بالمسلمين في كثير من بقاع الأرض مثل : الأندلس وفلسطين وكشمير وبلاد البوسنة وغير ذلك من بلاد المسلمين التي عاث فيها المجرمون الظالمون تقتيلا وتدميرا وتخريبا.
ومع كل هذه المآسي والويلات والعظائم المريعة التي نزلت بساحة المسلمين، فما زالت طائفة من المسلمين تعمل في جد ويقظة وحرص ؛ لإظهار شأن الإسلام وإعادة مجده وعزه وسلطانه، لا يصدها عن هذا المسعى بأس عدو ولا فتنة ظالم متربص. وهم ماضون لأمر الله في ثبات وعزم ويقين بالرغم من كل المؤامرات والمكائد التي يخطط لها الظالمون من الصليبيين والوثنيين والملحدين والاستعماريين والصهيونيين، حتى يحكم الله لأوليائه الثابتين الصابرين بالنصر والغلبة. وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله ( ص ) أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة " ٣.
١ - أحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣٨٠..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٩..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٠٢ وتفسير الرازي جـ ٢٤ ص ٢٦ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣٨٢- ١٣٨٣..
قوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ( ٥٦ ) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ( ٥٧ ) ﴾ يأمر الله المؤمنين بأداء الصلاة على وجهها الأتم ؛ فهي عماد الدين وأعظم عبادة يؤديها المسلمون وهم يتوجهون إلى ربهم طائعين منقادين متذللين لا يتوجهون إلى أحد سواه ولا يرومون التأييد والمنعة والثبات من غيره. وكذلك الزكاة فإنها فريضة جليلة كبرى أوجبها الله على المقتدرين من المسلمين حقا للمعوزين والمحاويج وغيرهم من مستحقي الزكاة.
ويدعو الله عباده المؤمنين أن يطيعوا رسولهم فيما أمرهم به وأن ينتهوا ويحذروا ما نهاهم عنه. فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله. وما ينطق رسول الله ( ص ) عن الهوى ( إن هو إلا وحي يوحى ).
قوله :( لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ) أي لا تظنن أن هؤلاء الكافرين الذين يحادون الله ورسوله ويكيدون للإسلام والمسلمين كيدا ( معجزين في الأرض ) أي لا يعجزون الله إن أراد أن يهلكهم ؛ بل إن الله قادر على إهلاكهم وإفنائهم ( ومأواهم النار ولبئس المصير ) مردهم إلى النار لتكون لهم شر منزل ومقام يأوون إليه فبئس العاقبة والمرجع.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ٥٨ ) وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ( ٥٩ ) والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ( ٦٠ ) ﴾.
روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : وجّه رسول الله ( ص ) غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وقت الظهيرة ليدعوه. فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عليها. فقال : يا رسول الله، وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل : نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلاما كبير فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله ( ص ) فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية١.
هذه الآية خاصة وما قبلها عامة. فما تقدم في أول السورة يتضمن استئذان الأجانب بعضهم على بعض. أما هذه الآية فهي في استئذان الأقارب بعضهم على بعض ؛ فقد أمر الله المؤمنين أن يستأذنهم من عندهم من المملوكين والخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم. فما ينبغي لهؤلاء أن يدخلوا على المؤمنين إلا بعد استئذانهم. وذلك في حالات ثلاث تقتضي عادة الناس التكشف فيها والتعري. وهي :
الحالة الأولى : قبل صلاة الغداة ؛ إذ الناس نيام في فُرشهم. والدخول عليهم من غير إذن منهم فيه مضايقة شديدة وحرج كبير. وفي ذلك يقول الله سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر ).
الحالة الثانية : وقت القيلولة ؛ إذ يضع الناس ثيابهم طلبا للراحة والنوم. والدخول عليهم في مثل هذه الحالة يفضي إلى كشف أستارهم والاطلاع على عوراتهم. وفي ذلك من الحرج ما لا يخفى. وفي ذلك يقول عز وعلا :( وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ).
الحالة الثالثة : وقت النوم، إذ يثوي المرء إلى فراشه طلبا للهجعة والدعة وربما أفضى الرجل إلى أهله وهو مطمئن بأن أحدا من الناس لا يراه وزوجه. ومن أجل ذلك لزم أن لا يهجم الخدم والصغار على أهل البيت من غير إذن.
قوله :( ثلاث عورات لكم ) ( ثلاث عورات )، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : هذه ثلاثة عورات ؛ أي ثلاث أوقات عورات٢.
قوله :( ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ) أي ليس عليكم ولا عليهم إثم ولا حرج في الدخول من غير استئذان بعد هذه العورات الثلاث. والهاء والنون في ( بعدهن ) عائدتان على الثلاث من قوله :( ثلاث عورات لكم ).
قوله :( طوافون عليكم بعضكم على بعض ) ( طوافون )، خبر لمبتدأ محذوف. وتقديره هم طوافون ؛ أي أنتم طوافون. و ( بعضكم )، مرفوع على أنه بدل من المضمر في ( طوافون ) والتقدير : يطوف بعضكم على بعض٣ والمعنى : أن هؤلاء الصغار والمماليك طوافون عليكم أيها الناس. بمعنى أنهم يدخلون ويخرجون عليكم في منازلكم في الغداة والعشي من غير إذن ( بعضكم على بعض ) أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم. أو يطوف بعضكم على بعض.
قوله :( كذلك يبين الله لكم الآيات ) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام مثل ذلك التبيين.
قوله :( والله عليم حكيم ) الله يعلم ما يصلح عليه العباد من الأحكام. وهو سبحانه حكيم في شرعه وفي تدبيره أمور العباد.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٢٢..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٩..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ٥٨ ) وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ( ٥٩ ) والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ( ٦٠ ) ﴾.
روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : وجّه رسول الله ( ص ) غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وقت الظهيرة ليدعوه. فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عليها. فقال : يا رسول الله، وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل : نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلاما كبير فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله ( ص ) فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية١.
هذه الآية خاصة وما قبلها عامة. فما تقدم في أول السورة يتضمن استئذان الأجانب بعضهم على بعض. أما هذه الآية فهي في استئذان الأقارب بعضهم على بعض ؛ فقد أمر الله المؤمنين أن يستأذنهم من عندهم من المملوكين والخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم. فما ينبغي لهؤلاء أن يدخلوا على المؤمنين إلا بعد استئذانهم. وذلك في حالات ثلاث تقتضي عادة الناس التكشف فيها والتعري. وهي :
الحالة الأولى : قبل صلاة الغداة ؛ إذ الناس نيام في فُرشهم. والدخول عليهم من غير إذن منهم فيه مضايقة شديدة وحرج كبير. وفي ذلك يقول الله سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر ).
الحالة الثانية : وقت القيلولة ؛ إذ يضع الناس ثيابهم طلبا للراحة والنوم. والدخول عليهم في مثل هذه الحالة يفضي إلى كشف أستارهم والاطلاع على عوراتهم. وفي ذلك من الحرج ما لا يخفى. وفي ذلك يقول عز وعلا :( وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ).
الحالة الثالثة : وقت النوم، إذ يثوي المرء إلى فراشه طلبا للهجعة والدعة وربما أفضى الرجل إلى أهله وهو مطمئن بأن أحدا من الناس لا يراه وزوجه. ومن أجل ذلك لزم أن لا يهجم الخدم والصغار على أهل البيت من غير إذن.
قوله :( ثلاث عورات لكم ) ( ثلاث عورات )، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : هذه ثلاثة عورات ؛ أي ثلاث أوقات عورات٢.
قوله :( ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ) أي ليس عليكم ولا عليهم إثم ولا حرج في الدخول من غير استئذان بعد هذه العورات الثلاث. والهاء والنون في ( بعدهن ) عائدتان على الثلاث من قوله :( ثلاث عورات لكم ).
قوله :( طوافون عليكم بعضكم على بعض ) ( طوافون )، خبر لمبتدأ محذوف. وتقديره هم طوافون ؛ أي أنتم طوافون. و ( بعضكم )، مرفوع على أنه بدل من المضمر في ( طوافون ) والتقدير : يطوف بعضكم على بعض٣ والمعنى : أن هؤلاء الصغار والمماليك طوافون عليكم أيها الناس. بمعنى أنهم يدخلون ويخرجون عليكم في منازلكم في الغداة والعشي من غير إذن ( بعضكم على بعض ) أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم. أو يطوف بعضكم على بعض.
قوله :( كذلك يبين الله لكم الآيات ) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام مثل ذلك التبيين.
قوله :( والله عليم حكيم ) الله يعلم ما يصلح عليه العباد من الأحكام. وهو سبحانه حكيم في شرعه وفي تدبيره أمور العباد.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٢٢..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٩٩..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠٠..

قوله :( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ) القواعد، جمع قاعد. وهي التي قعدت عن النكاح للكبر. أو التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها. وحذفت منها الهاء ؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر. والمعنى : أن النساء اللاتي يئسن من البعولة فلا يطمعن في الأزواج ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) أي ليس عليهن حرج ولا إثم في وضع جلابيبهن وهي القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء. لا إثم على المرأة الكبيرة التي لا تتشوّف للبعل أو النكاح أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عنها الجلباب عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء ؛ لأنها في مثل هذا السن تغيب من حولها الفتنة لزهدها في النكاح من أجل كبرها، ولانتفاء الرغبة فيها لدى الرجال.
قوله :( غير متبرجات بزينة ) ( غير )، منصوب على الحال. و ( متبرجات )، من التبرج وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال١ والمعنى : لا يبتغين بوضع الجلباب إظهار الزينة لينظر إليهن. وهذا كله في حق القواعد من النساء وهن في البيوت. أما إذا خرجن فلا يحل لهن وضع الجلابيب.
وفي كل الأحوال فإن الأفضل استعفافهن عن وضع الثياب وهي الجلابيب، والتزامهن من اللباس ما يلزم غير القواعد من كامل الثياب. فإن ذلك أكرم لهن وأفضل، وهو قوله :( وأن يستعففن خير لهن ) أي عدم وضعهن الجلابيب –وإن كان ذلك جائزا- خير لهن وأفضل ؛ لكونه أبعد من التهمة وأقطع لقالة السوء أن يتعرضوا لهن بقبيح القول أو الإشارة ( والله سميع عليم ) الله يسمع ما يجري من حديث وما تنطق به الألسن من قول مريب. وهو سبحانه عليم بمقاصد النساء من وضع الجلابيب. عليم بما تخفيه القلوب من أسرار.
على أنه من ظواهر التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصفها أو يكشف عما بداخله من جلدها أو شعرها، وذلكم حرام، بل إن ذلك من المحظورات التي شدد عليها الإسلام النكير. لما في ذلك من فتنة تغوي الرجال وتستهويهم للاسترخاء والسقوط. وفي ذلك روى الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخْت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " وقد جعلهن كاسيات ؛ لأن الثياب عليهن. ووصفن بالعاريات ؛ لأن الثوب إذ رقّ فإنه يصفهن ويبدي محاسنهن، وذلك حرام. وهو قول ابن العربي.
فكيف إذا خرجت النساء على الملأ من الأجانب والغرباء وهن حاسرات الثياب وقد بدت فيهن بعض أجسادهن للعيان، كالأذرع والسيقان والشعور وغير ذلك مما يحرم ظهوره البتة. أما قوله : " كأسنمة البخت " أسنمة، جمع سنام، والبخت، نوع من الإبل. والواحد بختي، ويجمع أيضا على البخاتي٢ ؛ فقد شبه رؤوس النساء الكاسيات العاريات بأسنمة الإبل لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. وهو ما نجده اليوم في كثير من النساء، ومنهن بعض المسلمات أو كثير منهن اللواتي غفلن عن أحكام دينهن ؛ إذا أذهلتهن الحضارة المادية الحديثة. الحضارة التي بنيت على الهوى والغريزة وعبادة الشهوات٣.
١ - مختار الصحاح ص ٤٦..
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٤٣..
٣ - أحاكم القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٣٨٤- ١٣٨٩ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٠٣، ٣٠٤، وتفسير القرطبي جـ ١٢ ص ٣٠٢- ٣١٠..
قوله تعالى :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض عرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ( ٦١ ) ﴾.
اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وفي السبب الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض. وثمة أقوال أربعة في ذلك :
القول الأول : على أن هذه الآية نزلت في الجهاد ؛ أي أن هؤلاء المذكورين وهم الأعمى، والمريض، لا إثم عليهم في ترك الجهاد ؛ لضعفهم وعجزهم عن الاضطلاع بهذه الفريضة الشاقة.
القول الثاني : إنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات. فربما سبقه إليه غيره فأكل منه. وكذلك يتحرجون من الأكل مع الأعرج ؛ لأنه لا يستطيع الجلوس فيُفتات عليه في الطعام ممن معه من الجلساء. وكذلك يتحرجون من الأكل مع المريض ؛ لأنه لا يأكل من الطعام مثل غيره من الأصحاء. فكرهوا أن يؤاكلوهم كيلا يظلموهم، فأنزل الله هذه الآية.
القول الثالث : كانوا يتحرجون من الأكل مع هؤلاء المرضى والزمنى تعززا وتقذرا، فأنزل الله هذه الآية.
القول الرابع : على أنها نزلت ترخيصا للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمى الله تعالى في هذه الآية. وذلك أن قوما من أصحاب رسول الله ( ص ) كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله تعالى في هذه الآية. وكان أهل الزمانة يتحرجون من أن يٌطعموا ذلك الطعام ؛ لأنه أطعمهم غير مالكيه. ويقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية١.
قوله :( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) ذكر هذا مع كونه معلوما ؛ ليعطف عليه ما بعده، وليساويه في الحكم. ولم يذكر بيوت الأبناء ؛ لدخولها في قوله :( من بيوتكم ) ؛ لأن بيت ابن الرجل بيته. وفي الخبر : " أنت ومالك لأبيك ".
قوله :( أو ما ملكتم مفاتحه ) كالخادم، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف. وروي عن السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول الله ( ص ) فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل ؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء، فأنزل الله ( أو ما ملكتم مفاتحه ).
قوله :( أو صديقكم ) الصديق، الذي يصدق صاحبه في المودة. والصديق يطلق على الواحد والجمع والمؤنث٢ والمعنى : أو بيوت أصدقائكم.
أي لا جناح عليكم في الأكل من بيوت أصدقائكم إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليه وأنهم لا يكرهون ذلك.
قوله :( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ). ( جميعا أو أشتاتا )، منصوبان على الحال من الواو في قوله :( تأكلوا ) ٣.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في حي من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده. فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح تحرجا من أن يأكل وحده فإذا أمسى ولم يجد أحد أكل. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا جميعا متحلقين أو أشتاتا متفرقين. فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده مع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأعظم بركة. وفي ذلك روى أبو داود وابن ماجه عن عمر عن رسول الله ( ص ) أنه قال : " كلوا جميعا ولا تفرقوا ؛ فإن البركة مع الجماعة " ٤.
قوله :( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) في المراد بالبيوت قولان : أحدهما : أنها المساجد. وهو قول النخعي والحسن ؛ أي سلموا على من فيها، أو ليسلم بعضكم على بعض ؛ فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول : السلام على رسول الله، وقيل : يقول : السلام عليكم، يريد بذلك الملائكة. ثم يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
القول الثاني : المراد بالبيوت، البيوت المسكونة. وهو قول ابن عباس وآخرين. ويدخل في ذلك، البيوت غير المسكونة. وهذا الراجح لعموم النص ولا دليل على التخصيص. وعلى هذا إذا دخل المرء المسجد قال : السلام على رسول الله. وإذا دخل على أهله سلم عليهم. وإذا دخل بيتا ليس فيه أحد قال : بسم الله الحمد لله، السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقد روى البزار عن أنس قال : أوصاني النبي ( ص ) بخمس خصال قال : " يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك. وإذا دخلت- يعني بيتك- فسلّم على أهلك يكثر خير بيتك. وصل الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقر الكبير ؛ تكن من رفقائي يوم القيامة ".
قوله :( تحية من عند الله مباركة طيبة ) ( تحية )، منصوب على المصدر ؛ لأن ( فسلموا ) معناه : فحيوا٥ يعني فحيوا تحية ( من عند الله ) أي أن الله حياكم بها. أو أن الله أمركم أن تفعلوها. ثم وصف هذه التحية ؛ بقوله :( مباركة ) أي كثيرة البركة والخير لما فيها من الدعاء وتحضيض المسلم على مودته لأخيه الذي بدأه بالسلام. ووضعها كذلك بقوله :( طيبة ) أي تستطيبها نفس السامع للتحية.
قوله :( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ) الكاف صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الأحكام لتفهموا معانيها وتتدبروها٦.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٣ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٠٥..
٢ - مختار الصحاح ص ٣٥٩..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٢٠٠..
٤ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٢٤..
٥ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٢٠١..
٦ - أحكام القرآن لابن العربي جـ ٣ ص ١٣٩٠-١٣٩٧ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٠٦ وتفسير الرازي جـ ٢٣ ص ٣٨. وتفسير ابليضاوي ص ٤٧٤..
قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شانهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ( ٦٢ ) ﴾.
هذا وصف لحقيقة المؤمنين حق الإيمان ؛ فهم الذين صدّقوا الله ورسوله ( ص ) كامل التصديق :( وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) الأمر الجامع يراد به ما يجتمعون له جميعا، كحرب حضرت فتشاوروا فيها، أو في أمر مخوف نزل بهم، أو نحو ذلك من الأمور الهامة، فإن المسلمين يجتمعون جميعا للتشاور فيما حل أو نزل، وليس لهم حينئذ أن ينصرفوا من عند رسول الله ( ص ) حتى يستأذنوه. فمن انصرف مستأذنا كان من المؤمنين. وذلك قوله :( إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ) وعلى هذا إذا حزب المسلمين خطب من الخطوب، اجتمع المسلمون من أهل البصيرة والنظر ليكونوا من حول إمام المسلمين وهو من جهته يشاورهم في الأمر أو فيما حل. وما ينبغي لأحد من المجتمعين في مثل هذا الظرف أن ينصرف حتى يستأذن الإمام. وما يستأذنه إلا المؤمنون الصادقون.
قوله :( فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ) فكان النبي ( ص ) بالخيار، إن شاء أذن لمن أراد الانصراف. وإن شاء لم يأذن له.
قوله :( واستغفر لهم إن الله غفور رحيم ) أي ادع الله لهم بالعفو والمغفرة والرحمة ؛ فإن الله غفّار لعباده المؤمنين الصادقين العابدين.
قوله تعالى :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( ٦٣ ) ﴾ ذكر عن ابن عباس في تأويل هذه الآية أنهم كانوا يقولون : يا محمد، يا أبا القاسم، يسمونه باسمه وهو ما لا يليق بمقامه الشريف، وقدره المعظم ( ص ). فنهاهم الله عن ذلك تعظيما لنبيه ( ص ) وتكريما، وأمرهم أن يقولوا يا نبي الله. يا رسول الله. على التعظيم له والتبجيل. وذلك من باب الأدب في مخاطبة رسول الله ( ص )، أو الكلام عنده أو معه.
وقيل : نهى المؤمنين أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم. فعليهم أن يتقوا دعاءه عليهم ؛ فإن دعاءه مستجاب. وهو ليس كدعائهم.
قوله :( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) التسلل يعني الخروج خفية. واللواذ والملاوذة، أن يلوذ هذا بذاك، وذاك بهذا ؛ أي يتسللون عن الجماعة على سبيل الاستخفاء واستتار بعضهم ببعض. وذلك في المنافقين ؛ فقد كانوا تثقل عليهم خطبة النبي ( ص ) يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان.
وقيل : يتسللون خفية من الصف في الجهاد.
قوله :( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) ( أمره )، معناه سبيله ومنهاجه وشرعه ؛ فقد حذر الله من مخالفة أمر رسوله بالخروج عن شريعته ومنهاجه. وقد توعّد المخالفين ( أن تصيبهم فتنة ) والفتنة يراد بها الكفر والانثناء عن سنة رسول الله ( ص ). وقيل : الزلازل والأهوال. وقيل : يبتليهم الله بسلطان جائر يُسلّط عليهم لفسقهم ومخالفتهم عن أمر الله وأمر رسوله ( أو يصيبهم عذاب أليم ) أي في الدنيا بالقتل أو الحد.
قوله تعالى :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ( ٦٤ ) ﴾ كل شيء في الوجود مملوك لله. فأيما خلق من المخاليق في هذا الكون، الله مالكه. وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، لا يندّ عن علمه وملكوته شيء ولا خبر.
قوله :( قد يعلم ما أنتم عليه ) ( قد )، للتحقيق كسابقتها في قوله :( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم ) أي ان الله عالم بحالكم مطلع على أخباركم وأستاركم لا يخفى عليه شيء من أسراركم ( ويوم يرجعون إليه ) معطوفة على الجملة الفعلية السابقة ( قد يعلم ما أنتم عليه ) والمعنى : أن الله يعلم أخباركم، ويعلم اليوم الذي ترجع فيه الخلائق إليه فيجازيهم بأعمالهم.
قوله :( والله بكل شيء عليم ) الله محيط علمه بالخلائق والكائنات، ويعلم أيان تقوم الساعة ومصائر العباد فيها. إنه عليم بحقائق الكون كله في الدنيا والآخرة١.
١ - تفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٣٠٧ وفتح القدير جـ ٣ ص ٥٨ وتفسير الرازي جـ ٢٣ ص ٤٠..
Icon