ﰡ
والأظهر أنه فتح مكة بالغلبة والقهر ؛ لأن القضاء لا يتناوله الإطلاق، وإذا كان المراد فتح مكة فإنه يدل على أنه فتحها عُنْوَةً إذ كان الصلح لا يُطلق عليه اسم الفتح وإن كان قد يعبَّر مقيداً ؛ لأن من قال :" فتح بلد كذا " عُقِلَ به الغلبة والقهر دون الصلح.
ويدل عليه قوله في نسق التلاوة :﴿ وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ﴾ وفيه الدلالة على أن المراد فتح مكة وأنه دخلها عنوة.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إِذا جاء نصر الله والفتح ﴾ [ النصر : ١ ] لم يختلفوا أن المراد فتح مكة.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ﴾ وقوله تعالى. ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ﴾، وذكره ذلك في سياق القصة يدلّ على ذلك ؛ لأن المعنى : سكون النفس إلى الإيمان بالبصائر التي بها قاتلوا عن دين الله حتى فتحوا مكة.
فإن قيل : قد رَوَى قتادة أنهم هَوَازِنُ وثقيف يوم حُنَين. قيل له : لا يجوز أن يكون الداعي لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قال :﴿ فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً ﴾ [ التوبة : ٨٣ ]، ويدل على أن المراد بالدعاء لهم غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يَدْعُ هؤلاء القَوْمَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقوله تعالى :﴿ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني الصبر بصدق نياتهم ؛ وهذا يدلّ على أن التوفيق يصحب صدق النية، وهو مثل قوله :﴿ إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ﴾ [ النساء : ٣٥ ].
فإن كانت نزلت في فتح مكة فدلالتها ظاهرة على أنها فُتحت عنوة لقوله تعالى :﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾، ومصالحتُهم لا ظَفَرَ فيها للمسلمين، فاقتضى ذلك أن يكون فتحها عنوة.
وفي الآية دلالة على أن المحَلَّ هو الحرم، لأنه قال :﴿ وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ فلو كان محله غير الحرم لما كان معكوفاً عن بلوغه، فوجب أن يكون المحل في قوله :﴿ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] هو الحرم.
باب رمي المشركين مع العلم بأن فيهم أطفال المسلمين وأسراهم
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري :" لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين، ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين، وكذلك إن تَتَرَّسَ الكفارُ بأطفال المسلمين رُمي المشركون، وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دِيَة ولا كفارة " ؛ وقال الثوري :" فيه الكفارة ولا دية فيه ".
وقال مالك :" لا تُحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين، لقوله تعالى :﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾، إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين، ولو تَزَيَّلَ الكفار عن المسلمين لعذب الكفار ". وقال الأوزاعي :" إذا تَتَرَّسَ الكفار بأطفال المسلمين لم يُرْمَوْا، لقوله :﴿ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ﴾ الآية ".
قال :" ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين، ويُرمى الحصنُ بالمَنْجَنِيقِ وإن كان فيه أسارى مسلمون، فإن أصاب أحداً من المسلمين فهو خطأ، وإن جاؤوا يتترّسون بهم رُمي وقُصِدَ العدوُّ "، وهو قول الليث بن سعد. وقال الشافعي :" لا بأس بأن يُرْمَى الحصن وفيه أسارى أو أطفال، ومن أُصيب فلا شيء فيه، ولو تترّسوا ففيه قولان، أحدهما : يُرْمَوْن، والآخر : لا يُرْمَوْن إلا أن يكونوا ملتحمين، فيُضرب المشرك ويتوفّى المسلم جهده، فإن أصاب في هذه الحال مسلماً فإن علمه مسلماً فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلماً فالرقبة وحدها ".
قال أبو بكر : نقل أهل السِّيَرِ أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمّدهم بالقتل، فدلّ على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رَمْيَهم، إذْ كان القصد فيه المشركين دونهم. ورَوَى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن الصعب بن جثّامة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيُصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال :" هُمْ مِنْهُمْ ". وبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال :" أَغِرْ على أُبْنَى صَباحاً وَحَرِّقْ "، وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزو بهم، فإن أذّنوا للصلاة أمسكوا عنهم، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا ؛ وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون.
ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم، فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شنّ الغارة عليهم ورَمْيِهم بالنشّاب وغيره وإن خِيفَ عليه إصابة المسلم.
فإن قيل : إنما جاء ذلك لأن ذراريَّ المشركين منهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب بن جثامة. قيل له : لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم في ذراريّهم أنهم منهم في الكفر ؛ لأن الصِّغار لا يجوز أن يكونوا كفاراً في الحقيقة ولا يستحقّون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة. وأما احتجاج من يحتجّ بقوله :﴿ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ﴾ الآية، في مَنْع رَمْي الكفّار لأجل مَنْ فيهم من المسلمين، فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف ؛ وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كَفَّ المسلمين عنهم لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم ؛ وذلك إنما يدلّ على إباحة ترك رَمْيهم والإقدام عليهم، فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين ؛ لأنه جائز أن يبيح الكفّ عنهم لأجل المسلمين وجائز أيضاً إباحة الإقدام على وجه التخيير، فإذاً لا دلالة فيها على حظر الإقدام.
فإن قيل : في فحوى الآية ما يدل على الحظر، وهو قوله :﴿ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ فلولا الحظر ما أصابتهم معرَّةٌ مِنْ قتلهم بإصابتهم إياهم. قيل له : قد اختلف أهلُ التأويل في معنى المَعَرَّةِ ههنا، فرُوي عن ابن إسحاق أنه غُرْمُ الدية، وقال غيره : الكفارة، وقال غيرهما : الغمّ باتفاق قتل المسلم على يده ؛ لأن المؤمن يغتمّ لذلك وإن لم يقصده ؛ وقال آخرون : العيب. وحُكي عن بعضهم أنه قال :" المعرة الإثم "، وهذا بالط، لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منّا لقوله تعالى :﴿ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾، ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه، ولم يضع الله عليه دليلاً، قال الله تعالى :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ﴾ [ الأحزاب : ٥ ]، فعلمنا أنه لم يُرِدِ المأثم.
ويُحتمل أن يكون ذلك كان خاصّاً في أهل مكة لحرمة الحرم، ألا ترى أن المستحق للقتل إذا لجأ إليها لم يُقتل عندنا ؟ وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحَرَم لم يُقتل، وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه ؛ فمَنْعُ المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم.
ويحتمل أن يريد : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذا لم يقتلوا ؛ فمَنَعَنَا قَتْلَهُمْ لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين، وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم ؛ وقوله :﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا ﴾ على هذا التأويل، لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولَدُوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم، وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترّسوا بالمسلمين ؛ لأن القصد في الحالين رَمْي المشركين دونهم ومن أُصِيبَ منهم فلا دِيَةَ فيه ولا كفارة، كما أن من أُصيب برمي حصون الكفار من المسلمين الذين في الحصن لم تكن فيه دية ولا كفارة ؛ ولأنه قد أُبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة، فصاروا في الحكم بمنزلة من أُبيح قتله فلا يجب به شيء. وليست المعرَّةُ المذكورة دِيَةً ولا كفارة، إذْ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره، والأظهر منه ما يصيبه من الغمّ والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك.
وقول من تأوله على العيب محتمل أيضاً ؛ لأن الإنسان قد يُعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة.
وقوله تعالى :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾، رُوي عن ابن عباس قال :" لا إله إلا الله "، وعن قتادة مثله.
وقال مجاهد :" كلمة الإخلاص ". وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال :" بسم الله الرّحمن الرحيم ".
ورَوَى جابر وأبو هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلّقين ثلاثاً وللمقصرين مرَّةً "، وهذا أيضاً يدلّ على أنهما قربة ونسك عند الإحلال من الإحرام.