تفسير سورة الفتح

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ»
- فجاءت سورة «الفتح» مفتتحة بقبول هذا الاستغفار، وشمول الرسول الكريم بهذا الغفران المطلق، الشامل لكل ما تقدم من ذنبه وما تأخر..
ومن جهة ثالثة- فإن محمدا- صلوات الله وسلامه عليه- الذي حملت السورة السابقة اسمه، يناسبه أعظم المناسبة أن يجىء فى أعقاب سورته سورة «الفتح» إذ كان هذا الفتح لمحمد عليه صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات (٣- ١) [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» الفتح: فى الأصل الحكم والقضاء بأمر من الأمور، ومنه قوله تعالى:
«رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ».. أي احكم، وقوله سبحانه: «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها» أي ما يقضى به الله..
والفتح، قد غلب استعماله فى النصر على العدو، والاستيلاء على بلاده، التي كانت من قبل مغلقة فى وجه من يريد دخولها من غير أهلها- ومنه قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ».
والمراد بالفتح هنا: التأييد، والنصر، والتمكين..
392
وقد نزلت هذه السورة الكريمة، بعد صلح الحديبية، الذي كان يرى كثير من المسلمين عند عقد هذا الصلح، أنه أشبه بالاستسلام.. فلقد كان النبىّ ﷺ قد دعا أصحابه إلى أن يهيئوا أنفسهم لأداء العمرة، وكان ذلك فى السنة السادسة من الهجرة.. فلما تمّ لهم ذلك، سار بهم النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى مكة، يسوقون الهدى أمامهم، ويحبسون سيوفهم فى أغمادها. فلما دنوا من مكة، كانت قريش قد استعدّت للحرب، إن دخل النبىّ والمسلمون عليهم مكة..
وقد بعث إليهم النبىّ أنه إنما جاء معتمرا لا محاربا.. ولكن القوم ركبوا رءوسهم، وأبوا إلّا أن تكون الحرب، إن دخل النبىّ والمسلمون مكة.. وقد كادت الحرب تقع، وخاصة حين جاءت إلى المسلمين شائعة بأن عثمان ابن عفان، رضى الله عنه، قد نالته قريش بسوء، وكان الرسول الكريم، قد بعث عثمان إلى قريش، يخبرهم بالأمر الذي جاء من أجله النبىّ والمسلمون..
ثم انتهى الأمر أخيرا إلى عقد صلح يقضى بأن يرجع النبىّ والمسلمون عامهم هذا، وأن يعودوا فى العام القابل، فتخلى لهم قريش مكة، فيدخلها النبىّ وأصحابه ثلاثة أيام يقضون فيها عمرتهم..
وقد كثرت مقولات المسلمين، رفضا لهذا الصلح قبل أن يتم، وتعقيبا عليه بعد أن تمّ.. حتى لقد خلا عمر بن الخطاب، بأبى بكر، رضى الله عنهما، وأسرّ إليه بما فى نفسه من هذا الصلح الذي يرى فيه غبنا على المسلمين، وحتى لقد جاء عمر إلى رسول الله ﷺ يقول له:
«يا رسول الله: ألسنا على الحق؟ أليس القوم على الباطل؟ قال رسول الله:
بلى! قال عمر: فلم نعطى الدنية فى ديننا؟
393
فقال- صلوات الله وسلامه عليه..: «أنا عبد الله ولن أخالف أمر ربى ولن يضيّعنى» ! فلما تم الصلح ظلت كثير من المشاعر المتضاربة تنخس فى صدور المسلمين، خاصة، وأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كان قد تحدث إليهم بأنهم سيدخلون مكة، وأنه رأى فى ذلك رؤيا، وفيها يقول الله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ».. ويقول الله سبحانه فى آخر سورة الفتح:
«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً».. فهذه الرؤيا التي رآها الرسول الكريم رؤيا صادقة، ولكنّ تأويلها لم يكن قد جاء زمنه بعد.. إن المسلمين سيدخلون مكة، آمنين محلّقين رءوسهم ومقصرين.. هذا هو مضمون الرؤيا، أما زمنها فلم تحدده الرؤيا، وقد عاد المؤمنون من صلح الحديبية، وهم على عهد مع قريش على دخول البيت الحرام فى العام القابل.. أما الفتح القريب الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» فهو فتح خيبر، التي فتحها النبي بعد منصرفه من الحديبية، وفى طريق عودته إلى المدينة..
وصلح الحديبية فى يومه الذي وقع فيه، وقبل أن تتكشف الأحداث التي أعقبته- هذا الصلح هو فى ذاته فتح مبين كما يقول سبحانه وتعالى تعقيبا عليه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً».
وأي فتح أعظم وأظهر من أن يعود النبىّ بالمسلمين إلى البلد الحرام، وأن يقيموا على مشارفها، فلا تجرؤ قريش على الخروج للقائهم، بل تنتظر حتى يدخلها عليهم النبىّ والمسلمون، وهم الذين أخرجوا النبىّ والمسلمين منها، وهم الذين تهدّدوا النبىّ والمسلمين، وجاءوا إلى المدينة بجيوشهم يريدون أن
394
يدخلوها على أهلها فى غزوتى «أحد، والأحزاب».. ؟
فأى فتح أعظم عند المسلمين من هذا الفتح، الذي أدلّ قريشا، وعرّاها من كل ما كان لها فى نفوس العرب من عزّة وسلطان؟.. لقد ذلت قريش، وأعطت يدها للنبىّ والمسلمين، ولم يكن هذا الصلح فى حقيقته إلا حفظا لبقية من هذه العرّة الضائعة، وسترا لهذا الكبر المتداعى!! لقد انقلبت موازين القوى فقوى المستضعفون، وضعف الأقوياء، وتحول المدافعون إلى مهاجمين..
وإنه لو وقف الأمر بالمسلمين عند هذا الحدّ لكان ذلك نصرا لهم، وفتحا..
ولكن لم يكن هذا الفتح إلا مقدمة لفتوحات كثيرة، منها فتح مكة، ودخول أهلها فى دين الله..
وفى هذا يقول الرسول الكريم، وقد بلغه أن لغطا بين أصحابه يدور حول هذه القضية، وأنهم لم يتحقق لهم ما وعدهم الرسول به من دخول مكة. يقول الرسول الكريم:
«بئس الكلام هذا!! بل هو أعظم الفتوح، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم فى الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا» وقوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً».. هو بيان لما ترتب على هذا الفتح من سوابغ النعمة، وفواضل الإحسان، التي يفيضها بالله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم..
إن هذا الفتح هو بداية الخاتمة لجهاد النبي.. صلوات الله وسلامه عليه، وهو القدم الأولى التي بضعها النبي على طريق النصر لدعوته، التي قام عليها
395
هذه السنين. والتي احتمل فى سبيلها ما احتمل من عنت قريش، وإخراجها له من بيته فى البلد الحرام، وما أصيب على يديها فى أحبابه وأصحابه الذين استشهدوا فى الحرب معها..
إنه وقد انكسرت شوكة قريش فى صلح الحديبية، فقد بات الأمر وشيكا بانتهاء هذا الصراع المحتدم، بين الدعوة الإسلامية، وبين المتربصين بها، وأنه بين يوم وليلة ستنحسر هذه السحابة السوداء من سماء الإسلام، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا..
إذن، فقد أدّى النبي رسالته، وحقق ما ندبته السماء له، ودعته إليه..
وإذن فليتقبل النبىّ عطاء الله له، وليسعد بما سيلقى من جزاء كريم، على هذا الجهاد العظيم، الذي ظلّ قائما عليه نحو عشرين عاما، موصولا لبلها بنهارها..
فهذا الفتح، وإن كان من الله، فقد أضاف الله سبحانه وتعالى جزاء هذا الفتح إلى الرسول الكريم.. «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً».
فالفتح، فتح الله، وهو فتح للنبىّ، ومغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهداية له إلى صراط الله، ثم نصر عزيز، تختم به الانتصارات التي بدأت بصلح الحديبية..!
وقد وصف صلح الحديبية بأنه فتح مبين، على حين وصف فتح مكة الذي سيلى هذا الفتح، بأنه نصر عزيز.. وذلك لأن صلح الحديبية، لم يكن الفتح فيه من قوة غالبة قاهرة، إذ كان لا يزال فى قريش شىء من القوة،
396
والاستعداد للقاء النبىّ والمسلمين.. أما فتح مكة فقد كان تحت قوة قاهرة، وسلطان غالب، فلم يكن فى قريش من تحدّثه نفسه بلقاء النبىّ والمسلمين، والتصدي لهذا الجيش الغالب الذي دخل مكة على أهلها، وأعطاهم الأمان على حياتهم وأموالهم، إذا هم دخلوا فى دين الله، وقد دخل القوم فى دين الله صاغرين.. فهو نصر عزيز غالب، لا يلقاه القوم إلا فى ذلّة وانكسار.
إن صلح الحديبية يقدّم الحساب الختامى لجهاد النبىّ فى سبيل الدعوة، فيغفر له ربّه كلّ ما ألمّ بحمى النبوة، أو طاف بحرمها الطهور، من غبار هذا الاحتكاك المتصل بالحياة وأهلها.
إن هذا الغفران، هو عملية اغتسال بتلك الأنوار القدسية المنزلة على النبىّ من السماء، فلا يعلق بها بعد هذا شىء من غبار هذه الأرض.. وبهذا تتم نعمة النبوة، وتخلص للنبىّ، علوّية، قدسية، لم يمسسها سوء.
الآيات (٧- ٤) [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٤ الى ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
397
التفسير:
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً».
ومن هذا الفتح المبين، الذي فتحه الله للنبىّ الكريم، ومن هذا الخير العظيم المنزّل على النبىّ من ربّه بسبب هذا الفتح- من هذا وذاك، يأخذ المؤمنون نصيبهم، إذ كانوا قبسا من نور النبوّة، ومشاعل تنير الطريق للناس، من بين يدى كوكبها المتألق، ومن خلفه، فكان لهم نصيبهم من هذا الخير العظيم، وذلك النصر العزيز الذي ساقه الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ الكريم قائد هذه الحملة السماوية المباركة.
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» - هو بشرى إلى المؤمنين، فى مقابل البشرى التي حملها القرآن إلى النبي الكريم فى قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً».. أي إنا فتحنا لك فتحا مبينا، وأنزلنا السكينة فى قلوب المؤمنين..
وقوله تعالى للمؤمنين: «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» هو فى مقابل قوله تعالى للنبىّ: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ»..
ولكلّ من النبىّ والمؤمنين، مقامه، ومنزلته من ربّ العالمين، ومن سوابغ رحمته، وفواضل إحسانه..
فالنبىّ له هذا الفتح المبين، والمغفرة الشاملة للعامة، التي لا تبقى على شىء يطوف بحمى النبوّة من هنات وهفوات، فيسوّى حسابه على أن تكون له النبوّة خالصة بجلالها وصفائها، بعد هذه الرحلة الطويلة التي طوّفت بها فى
398
دنيا الناس، وخالطت فيها وجودهم، واحتكّت بخيرهم وشرّهم، وواجهت أخيارهم وأشرارهم..
أما المؤمنون، فإن لهم من هذا الفضل الإلهى ما يحفظ عليهم إيمانهم، ويزكّيه، وينقّيه، وينمّيه.. «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ».
والسكينة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على قلوب المؤمنين، هى ما وقع فى قلوبهم من رضا وطمأنينة وسكينة، بعد هذه الموجات التي تدافعت فى صدورهم، من وساوس الحيرة والبلبلة، ساعة صلح الحديبية.. فلقد اضطربت كثير من القلوب، وزاغت كثير من الأبصار، وقصرت كثير من الأفهام عن أن ترى ما وراء هذا الصلح من خير كثير، وفتح مبين، فوقعت فيما وقعت فيه من حيرة وبلبال.
وقد كانت هذه التجربة القاسية التي عاناها المؤمنون من أحداث الحديبية- باعثا يحرك فى قوة وعنف، ما فى كيانهم من مشاعر، وما فى عقولهم من مدارك، ليقابلوا بها هذه المتناقضات التي بدت لهم من ظاهر موقفهم الذي اتخذوه من النبىّ مع أحداث الحديبية، حتى إذا بلغ الأمر غايته من ضيق الصدور، وحرج النفوس، طلع عليهم من حيث لم يحتسبوا ولم يقدروا- ما وراء هذا الصلح من خير كثير، وفتح مبين، فكان لذلك من السلطان على العقول، والأثر فى النفوس، ما للقائه المكروب المضطرب فى محيط الصحراء، تطلع عليه من حيث لا يحتسب قافلة تنتشله من يد هذا الضياع المستبدّ به!! إنه بعث له من عالم الموتى، وحياة مجدّدة له بين الأحياء.. وإنها لحياة عزيزة غالية، تلك الحياة الجديدة التي لبسها، وإنه لواجد فيما يستقبل من حياة طعما جديدا لتلك الحياة، وحرصا شديدا على ألا ينفق شيئا منها فى غير النافع المفيد..
399
كذلك تماما كان شأن المؤمنين أثناء صلح الحديبية، ثم بعد هذا الصلح، وما لقيهم على طريقهم من فتح مبين، ونصر عزيز.. فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم.. وهكذا يربى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، ويصنع لهم من الأحداث والمواقف ما يثبت به خطوهم على طريق الإيمان، فلا تنال من إيمانهم الأحداث، ولا تتسرب إلى مشاعرهم الوساوس..
وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» هو تعقيب على هذا الخبر الذي تضمن هذا الخير الكثير والعطاء الجزيل، الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على النبي، ومن معه من المؤمنين.. فهذا العطاء وذلك الإحسان، هو من مالك الملك، ومن بيده ملكوت السموات والأرض.. وهو سبحانه إذ يخبر بهذا الخبر، وبعد به، فإنما هو خبر صادق، وعدة محققة، لأنها ممن له جنود السموات والأرض، كلها مسخرة له، عاملة بمشيئته.. مشيئة العليم الحكيم.. العليم الذي يقضى بعلم، الحكيم، الذي يمضى كل أمر بتقدير وحكمة..
قوله تعالى:
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً»..
هو تعليل لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ..».
فهذه السكينة التي أنزلها الله فى قلوب المؤمنين، هى التي أمسكت بهم على طريق الإيمان، وأمدتهم بعزائم قادرة على ملاقاة الشدائد والمحن التي ابتلوا بها من
400
الكافرين حتى استطاع المسلمون أخيرا أن يهزموا الشرك، وأن يدكّوا حصونه..
وفى هذا الصراع الذي احتدم بين المؤمنين والمشركين والمنافقين، كان الابتلاء، الذي أخذ به كل فريق مكانه، من الإيمان بالله، أو الكفر به، حيث يجزى كل فريق الجزاء الذي يستحقه من الثواب أو العقاب..
فالمؤمنون والمؤمنات، يدخلهم الله جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها، متجاوزا لهم عن سيئاتهم، التي لو حوسبوا عليها، فلربما حجزتهم عن الجنة، أو عوّقت مسيرتهم إليها..
وفى تقدم إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة على تكفير السيئات، وذلك على خلاف الظاهر، الذي يقضى بأن يكون تكفير السيئات أولا، ثم دخول الجنة، ثانيا، إذ لا دخول للجنة إلا بعد تكفير السيئات- فى هذا إشارة إلى أن دخول الجنّة أمر مقضىّ به لكل مؤمن ومؤمنة، سواء كان ذلك من غير عذاب، أو بعد أن يستوفى العصاة من المؤمنين عذابهم، فهم جميعا موعدون بالجنة، وحسب المؤمن- أيّا كان- أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، كما يقول سبحانه: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ»
..
هذه هى القضية.. أما تكفير السيئات، فهو إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى ختام الآية: «وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً».. أي كان دخول الجنة، والقرب من الله، والنعيم برضوانه- «فَوْزاً عَظِيماً».. أما تكفير السيئات والتجاوز عنها بالعفو والمغفرة، فذلك إلى حكمة الله، وإلى مشيئته فى عباده، إن شاء غفر، وإن شاء حاسب وعاقب.
أما المنافقون، والمنافقات، والمشركون والمشركات، الذين لم يكن نفاقهم وشركهم إلا عن سوء ظن بالله، وأنه سبحانه لا يقوم على هذا الوجود، حسب تقديرهم، ولا يعلم ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور- فهذا الظن الباطل، هو
401
الذي أفسد عليهم صلتهم بالله، فلم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا، فكان أن ساء مصيرهم، ووخمت عاقبتهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٢٣: فصلت) وقدم المنافقون والمنافقات على المشركين والمشركات، فى مقام الإساءة والبلاء- لأن النفاق، أغلظ إثما، وأشنع جرما من الشرك، لأن الشرك وجه واحد من وجوه الشر، أما النفاق فهو وجوه كثيرة من الشر، يعيش بها المنافق، ويلبسها وجها وجها، ويتبدّلها حالا بعد حال..
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو بيان لسلطان الله المتمكن فى هذا الوجود، وأنه سبحانه، بيده الأمر كله، يجزى المحسن إحسانا، ويضاعف له، ويجزى المسيء سوءا، ولا يظلمه:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (٣١: النجم).
الآيات (١٤- ٨) [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٨ الى ١٤]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
402
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً».
هو استئناف لتقرير خبر آخر عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وما له عند ربه- سبحانه وتعالى- من العطايا الجليلة، والمواهب العظيمة..
فقد فتح الله سبحانه وتعالى عليه هذا الفتح المبين، ووعده بهذا النصر العزيز، وأتمّ عليه نعمته بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك كله واقع من وراء إحسان سبق، وفضل تقدم من الله سبحانه وتعالى، وهو اصطفاؤه سبحانه عبده محمدا للنبوة، والرسالة، والتي استحق بقيامه بحق الرسالة، وحمل أعبائها، أن يعطى هذا العطاء الجزيل، وأن يفتح له هذا الفتح المبين..
فاصطفاء النبي الكريم للرسالة، منحة خالصة من الله سبحانه وتعالى، وإحسان مبتدأ، ليس لسعى النبي دخل فيه، ولا لجهاده ولا اجتهاده سبيل إليه.
فذلك أمر لا يناله أحد بعمل، ومطلب لا يبلغه إنسان باجتهاد.. إنه رحمة من رحمة الله، وفضل من فضله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
أما ما فتح الله به للنبىّ، وما مكّن له من نصر، وما غفر له من ذنب-
403
فهو- وإن كان من فضل الله ورحمته- فإن للنبى سببا متصلا به، بما كان منه من جهاد وبلاء، فى القيام بأمر ربه، والوفاء بأداء الأمانة التي حملها..
وقدم المسبّب على السبب، أي قدّم الفتح، والنصر، ومغفرة الذنب، على اصطفاء الرسول للرسالة، وعلى الجهاد الذي جاهده من أجل الوفاء بها- وذلك للإشارة إلى أن هذه الأسباب هى مجرد أمور ظاهرية، وأن ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فى خلقه لا يتوقف على سبب، وأن ما قضى به سبحانه للنبىّ الكريم، من فتح ونصر ومغفرة لما تأخر من ذنبه وما تأخر، هو فضل خالص من فضل الله، وإحسان مطلق من إحسانه إلى رسوله الكريم، وأن الرسالة نعمة أخرى، وأن حمل أعبائها، هو شكر لتلك النعمة العظيمة، التي أقامت النبي مقام الإمام للناس جميعا..
قوله تعالى:
«لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»..
عزّروه: أي نصروه، وعزّزوه، وأيدوه..
واللام فى قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا» لام التعليل..
وقد قرىء بضمير الغيبة: ليؤمنوا، ويعزّروه، ويوقروه، ويسبحوه..
واختلف فى مرجع ضمير النصب فى الأفعال.. والرأى على أنها جميعا عائدة إلى الله سبحانه وتعالى.. فالتعزير، والتوقير، والتسبيح، كلها عائدة إلى الله سبحانه على هذا الرأى..
على أننا نخالف هذا الرأى، ونرى- والله أعلم- أن الضمائر، بعضها
404
عائد إلى الله سبحانه وتعالى، وبعضها عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فالتعزير، للرسول، وهو فى الوقت نفسه تعزير لله، ونصر لرسول الله، وتأييد لدينه.. ولكن إضافة هذا التعزير للرسول تكريم له، لأنه القائم على دين الله، وحامل راية الجهاد فى سبيل الله.. ويشهد لهذا قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»..
(١٥٧: الأعراف) فالضمائر هنا كلها عائدة إلى الرسول الكريم من غير شك، والقرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا..
وأما التوقير فهو لله، وللرسول.. وأما التسبيح بكرة وأصيلا، فهو خالص لله وحده..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً»..
المفسرون على رأى واحد، بأن المراد بالمبايعة فى الآية الكريمة، هو بيعة الشجرة، وتسمى بيعة الرضوان، وهى التي تشير إليها الآية الكريمة بعد هذا، حسب هذا الرأى.. والآية هى قوله تعالى:
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً»..
والرأى عندى- والله أعلم- أن المبايعة هنا عامة، تدخل فيها البيعة على الإسلام، كما تدخل فيها بيعة الرضوان على القتال، وكلّ بيعة بين النبي والمؤمنين.. فقد كان الذين يستجيبون لرسول الله، ويدخلون فى دين الله،
405
- كانوا يبايعون النبىّ، على الإيمان يا لله ورسوله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجهاد فى سبيله، كما بايع الأنصار النبي- صلى الله عليه وسلم- بيعتى العقبة الأولى، والثانية، على هذا الإيمان، وعلى أن يمنعوا رسول الله ﷺ مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم..
والذي رجّح عندنا هذا الرأى، أمور منها:
أولا: أن بيعة الرضوان كانت لأمر عارض، وهو قتال المشركين، إذا ثبت أنهم اعتدوا على «عثمان» مبعوث رسول الله إليهم.. فلما ظهر أن المشركين لم ينالوا عثمان بأذى، بل إنهم عرضوا عليه أن يطوف بالبيت إن أراد، ولكنه أبى أن يطوف إلا أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما ظهر هذا، انحلّ عقد هذه البيعة، وبقي المبايعون على عقدهم الأول الذي دخلوا به فى الإسلام.. فلم يقع فى هذه البيعة نكث، لأن المسلمين لم يدخلوا فى حرب مع المشركين تحت حكم هذه البيعة، ومن ثمّ لم يكن متّجه لهذا التهديد الذي جاء فى قوله تعالى: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» وإنما متجهه هو إلى عموم النكث، وفى جميع المواقف والأحوال..
وثانيا: أن بيعة الرضوان، قد ذكرت ذكرا خاصا فى قوله تعالى:
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» وفى الآية الكريمة أن الله سبحانه قد رضى عن جميع المؤمنين الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة، وأن الله سبحانه، قد علم ما فى قلوبهم من إذعان لدعوة رسول الله، وولاء وتسليم له، مع ما كانوا يجدون فى صدورهم من حرج، فى التوفيق بين ما جاءوا له، وهو دخول المسجد الحرام، وبين هذا الصلح الذي
406
تمّ بينهم وبين قريش، ولهذا أنزل الله السكينة عليهم، وجزاهم جزاء طيبا، بهذا الفتح القريب، وهو فتح خيبر..
فالمؤمنون الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة، دخلوا جميعا فى هذا الحكم، وهو رضا الله عنهم، وإنزال السكينة على قلوبهم.. وهذا يقطع بأن أحدا منهم لم ينكث أبدا..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» - إشارة إلى أن مبايعة المؤمنين لرسول الله، ليست لحساب الرسول، ولا لشأن من شئونه الخاصة، وإنما هى بيعة خالصة لله، وللجهاد فى سبيل الله، وما الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلّا قائم بأمر الله، قائد للمجاهدين فى سبيله..
وقوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» - هو توكيد لهذه الحقيقة، وهى أن البيعة لله، وأن الذين أعطوا أيديهم مبايعين لرسول الله، إنما أعطوا أيديهم لله، ويد الرسول التي صافحت هذه الأيدى المبايعة، هى- من غير تشبيه- نيابة عن يد الله..
وهذا كله من قبيل التمثيل، كما فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ».. فالأمر فى ظاهره ليس بيعا ولا شراء، ولكنه فى واقعه بيع ربيح..
قوله تعالى:
«سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»..
407
هو إخبار من الله سبحانه وتعالى للنبىّ الكريم، بما سيلقاه به الذين تخلفوا من الأعراب عن دعوة الرسول لهم، فى السير معه إلى مكة، لزيارة البيت الحرام، وليكثر بهم أعداد المسلمين، ليكون فى ذلك ما يرهب قريشا، فلا تعترض سبيل النبىّ والمسلمين لزيارة بيت الله.. ولقد تقاعس هؤلاء الأعراب الذين كانوا يعيشون قريبا من المدينة، وتعللوا بأعذار شتى، وفى تقديرهم أن الذين يصحبون النبىّ فى هذا المسير، لن يسلموا من القتل، ولن يرجعوا إلى أهليهم أبدا، وإنه لهو الهلاك المحقق لهذه الجماعة التي استجابت للرسول، وسارت معه.. إذ كيف يعقل- وهذا تقديرهم- أن يواجه النبىّ والمسلمون قريشا بهذا العدد من المسلمين، الذين لا يتجاوز عددهم ألفا، وأن يدخلوا عليهم ديارهم، ويطئوا بلدهم، وقد كانت قريش فى الأمس القريب، فى موقعة أحد، تهدد المسلمين، وتكاد تدخل عليهم المدينة، وتستولى على ديارهم؟
فلما سار النبىّ الكريم مسيرته بأصحابه الذين استجابوا له، وتم صلح الحديبية بينه وبين قريش، وأخذ النبىّ بأصحابه طريقه إلى المدينة، وفتح الله له «خيبر» من غير قتال، - لما كان هذا أخذ هؤلاء المخلّفون من الأعراب يدبرون أمرهم، ويعدّون المقولات التي يلقون بها النبىّ، والمعاذير التي يعتذرون بها إليه، عند رجوعه إلى المدينة..
ومن تلك المقولات ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم فى قوله تعالى:
«شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا»..
وقد فضح الله سبحانه وتعالى كذب هذا القول، وردّه على قائليه، فقال سبحانه:
«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» أي أنه ليست الأموال والأهلون هى التي شغلت هؤلاء الأعراب عن الاستجابة لدعوة رسول الله، ولكن
408
الذي أمسك بهم عن تلبية هذه الدعوة، هو ما وقع فى نفوسهم من شبح الخطر الذي يترصد كلّ من يسير هذه المسيرة، ويدخل على قريش ديارها..
وقوله تعالى: «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟» - هو رد على هؤلاء المخلّفين، وعلى سوء ظنهم بالله سبحانه وتعالى، وجهلهم بما له جل شأنه من سلطان مطلق فى هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وأن أحدا لا يملك معه ضرّا أو نفعا..
وقوله تعالى: «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»، هو تقرير لتلك الحقيقة التي خفيت على هؤلاء المخلفين، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون، علم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، فى الأرض ولا فى السماء..
قوله تعالى:
«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً».
هذا هو ما انطوت عليه صدور المخلفين من أوهام وظنون، تسلطت عليهم، فأخذوا هذا الموقف الخاسر، الذي عزلهم عن مواقع الخير، وحرمهم ما ناله المؤمنون الذين ساروا فى مسيرة رسول الله، من رضا الله عنهم، ومن هذا الخير الذي امتلأت به أيديهم من غنائم خيبر..
والبور: الهلاك.. والقوم البور، هم الهالكون، الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، وذلك هو الخسران المبين..
قوله تعالى:
«وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً».
409
هو بيان للجهة التي جاء منها هذا الهلاك والبوار لأولئك المخلّفين، وهو أنهم لم يكونوا مؤمنين بالله ورسوله، إذ لو كانوا مؤمنين حقّا لما كان منهم هذا التخلف عن دعوة الرسول لهم.. إذ الإيمان- فى حقيقته- ولاء مطلق، ومتابعة يلا تردد، ولا مراجعة..
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً»..
هو إلفات إلى الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالى، وهو الإيمان القائم على اليقين بأن الله سبحانه، له ملك السموات والأرض، وأنه وحده سبحانه، يملك الضر والنفع، فمن آمن بالله على هذا المفهوم واستيقنه، فإنه- فى سبيل الاحتفاظ بهذا الإيمان، والدفاع عنه- يتحدّى الناس جميعا، لا يخاف سلطانا، ولا يرهب قوة..
وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» - هو دعوة إلى الذين ساء ظنهم بالله، أن يقيموا إيمانهم بالله على هذا المفهوم، فإن هم فعلوا، غفر الله سبحانه وتعالى لهم ما كان من تقصير فى حق الله، وسوء ظنّ به.
الآيات (١٧- ١٥) [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٥ الى ١٧]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
410
التفسير:
قوله تعالى:
«سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا».
هو إخبار من الله سبحانه وتعالى، لما سيكون من هؤلاء المخلّفين، بعد أن يلتقوا بالنبي، وقد رجع من مسيرته منتصرا غانما، من حيث قدّروا الهزيمة، والهلاك.. إنهم سيعرضون على النبي أن يقبلهم فى المجاهدين إذا هو سار مسيرة كتلك المسيرة، التي يكون منها الغنم والظفر.. وهذا ما يكشف عما فى قلوبهم من إيمان زائف.. فهم إنما يكونون فى المؤمنين المجاهدين، إذا كان من وراء هذا الإيمان والجهاد، سلامة ومغنم.. والإيمان- فى حقيقته- هو بذل، وتضحية، غير منظور فيه إلى تحصيل كسب، أو ظفر بمغنم..
وقوله تعالى: «إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» -
411
بيان للغاية التي يتغيّاها هؤلاء المخلفون من الأعراب، من هذا العرض الذي يعرضونه على النبي بالسير معه إلى الجهاد، وأنهم إنما يسيرون حيث تكون هناك مغانم يملئون أيديهم منها..
وقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ».. كلام الله: هو حكمه وقضاؤه، وهو أن تكون المغانم من حظّ المجاهدين، لا أولئك الذين يتصيدون الفرص لتقع إلى أيديهم الغنائم من غير قتال.. وهؤلاء المخلفون لا يخرجون مع المجاهدين إلا إذا كان الخروج إلى مغانم من غير قتال، وهذا من شأنه- لو حدث ولن يحدث- أن يبدل حكم الله الذي جعل الغنائم المجاهدين..
وفى هذا النظم الذي جاء عليه الخبر، تيئيس للمخلفين أن يكون لهم فى هذه المغانم نصيب، لأن أخذهم شيئا منها، فيه تبديل لكلمات الله، وإنه لا مبدّل لكلمات الله..
وقوله تعالى: «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» هو تعقيب على قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» وتصريح بالحكم الذي تضمنه، فإن من مضمون قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» أنهم لن يخرجوا مع المؤمنين، لأن فى خروجهم تبديلا لكلمات الله، ولا مبدل لكلمات الله..
وقوله تعالى: «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ».. الإشارة هنا هى إلى الحكم الذي جاء فى قوله تعالى: «لَنْ تَتَّبِعُونا».. أي مثل هذا الحكم الذي قضينا به عليكم، وهو ألا تتبعونا، كان قضاء الله فيكم وحكمه عليكم من قبل هذا الحكم الصريح الذي واجهناكم به، أيها المخلفون، فقد قال الله
412
من قبل فيكم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» - ومضمون هذا أنكم لن تخرجوا معنا..
هذا، وقد اضطربت آراء المفسرين فى هذا، وكثرت مقولاتهم، ولم نر فيما رأينا من آراء ومقولات، ما نطمئن إليه.. فكان هذا رأينا الذي نرجو أن يكون صوابا.. والله أعلم..
قوله تعالى: «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» - هو من مقولات المخلفين التي يمكن أن يقولوها، ردّا على قول النبي والمؤمنين لهم:
«لن تتبعونا» - وهو ردّ أحمق جهول، فيه مغالطة فاضحة.. إذ كيف يحسدهم المؤمنون، وقد دعوا من قبل إلى الجهاد، فأبوا وتخلفوا؟
وكيف وطريق الجهاد مفتوح على مصراعيه للمجاهدين حقّا، الذين يريدون بجهادهم وجه الله، وإعلاء دين الله؟.
وقوله تعالى: «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أي أن هؤلاء الأعراب المخلفين، إنما هم على عمى وجهل، ولو أنهم كانوا على شىء من العلم بدين الله، وبحقائق هذا الدين، لما وقفوا هذا الموقف من الجهاد، ثم لما كان منهم هذا الاعتراض فى طريق المجاهدين بهذا المنطق الجهول.. أما مالهم من فقه قليل، فهو ما كان من أمر الدنيا وشئونها، ومع هذا فهو قشور من الفقه، لا يصل إلى شىء من لباب المعرفة، وهذا مثل قوله تعالى: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (٧: الروم).
قوله تعالى:
«قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
413
تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً».
هذه دعوة إلى هؤلاء المخلفين، تقطع عليهم مقولتهم للمؤمنين: «بل تحسدوننا».. وهم فى هذه الدعوة مدعوون إلى قتال قوم أولى بأس شديد، وأنهم مطالبون كذلك فى هذا القتال أن يقفوا موقف المجاهدين حقّا، وهو ألا يتحولوا عن القتال إلّا إذا استسلم لهم العدوّ، ودخل فى دين الله..
وقد اختلف المفسّرون فى هؤلاء القوم ذوى البأس الشديد، الذين سيدعى هؤلاء المخلفون إلى قتالهم، حين يندب المؤمنون إلى قتالهم..
ويذهب كثير من المفسرين، إلى أن هؤلاء القوم هم فارس، والروم..
وهذا غير صحيح من وجهين:
أولهما: أن قتال فارس والروم لا يكون فيه قتالهم إلى أن يدخلوا فى الإسلام، بل إنه يكتفى منهم بقبول الجزية فى حال هزيمتهم، وإبائهم أن يدخلوا فى الإسلام، وإنما حكم القتل أو الإسلام هو فى حقّ العرب وحدهم، لأنهم هم الذين تقوم عليهم الحجة كاملة، بتلك المعجزة التي فى كتاب الله المعجز، الذي جاء بلسانهم..
والوجه الآخر، هو أن هؤلاء المخاطبين المخلفين، ينبغى أن تكون دعوتهم إلى قتال هؤلاء القوم بعد زمن قليل من وقت نزول هذه الآية..
حتى لا يذهب الموت بكثير منهم، إذ طال الزمن بهم، وقتال الفرس والروم جاء بعد نزول هذه الآيات، بنحو عشر سنين..
والذي يصحّ عندنا من هذه المقولات، هو القول بأن القوم ذوى البأس الشديد، هم بنو حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، الذين ارتدوا عن الإسلام،
414
بعد وفاة النبي، صلوات الله وسلامه عليه، وكان ذلك بعد أربع سنين من نزول هذه الآية..
وبنو حنيفة، قد ارتدّوا عن الإسلام، بعد وفاة الرسول، فندب أبو بكر- رضى الله عنه- المسلمين إلى جهادهم، وقد حاربوا جيوش المسلمين حربا قاسية، حتى لقد استشهد من المسلمين أعداد كثيرة، كان من بينهم سبعون شهيدا من القرّاء وحدهم، كما يقول ذلك أصحاب المغازي..
وهذا كله حديث عن مستقبل لم يجىء بعد، وإنما هى أحداث ومواقف سوف تقع تباعا، ابتداء من نزول هذه الآيات..
قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً».
رفع الحرج هنا عن هؤلاء الذين ذكرت الآية الكريمة صفاتهم، إنما هو فى مقام الجهاد فى سبيل الله.. فهؤلاء معفون من الجهاد، بحكم الأعذار التي معهم.. وقد رتّبوا ترتيبا تنازليا.. فالعمى عذر قاطع، لا شبهة فيه فى الحرب، والعرج عذر غير ظاهر، قد يكون معه عجز عن القتال أو قدرة عليه، وأمر ذلك موكول إلى تقدير ولىّ الأمر، وإلى ضمير صاحب الآفة ودينه..
أما المرض، فهو عذر يغلب عليه الخلفاء، وأمره متروك تقديره للمريض نفسه، وإلى ما يمليه عليه دينه..
415
الآيات (٢٦- ١٨) [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ٢٦]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
416
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً».
المؤمنون الذين رضى الله عنهم، وشملهم بهذا الرضوان العظيم، هم الذين كانوا مع النبىّ فى الحديبية، والذين بايعوه على قتال المشركين، حين جاءت أخبار من مكة تقول: إن المشركين قد نالوا عثمان رضى الله عنه، بسوء، وقد كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعثه إليهم، ليخبرهم بأن الرسول وأصحابه إنما جاءوا معتمرين زائرين للبيت الحرام، ولم يجيئوا لقتال..
وقوله تعالى: «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» أي أن الله سبحانه وتعالى، مع هذا الرضوان الذي شمل به المؤمنين من أهل الحديبية- قد فتح عليهم خيبر وملأ أيديهم من مغانمها، وبهذا رجعوا ومعهم حظ الدنيا والآخرة جميعا..
ووصف الفتح بأنه قريب، وذلك لقرب زمانه، إذ كان على أيام من صلح الحديبية، ثم لقرب تناوله، إذ لم يلق المسلمون من أهل خيبر بلاء كثيرا، بل سرعان ما استسلم يهود خيبر ليد النبىّ، ونزلوا على حكمه..
قوله تعالى:
«وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً»..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً».. أي وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها، فى قتالهم المشركين، والكافرين والمنافقين، ومنها غنائم هوازن فى موقعة حنين، ثم تلك المغانم الكثيرة فى حرب فارس والروم..
417
قوله تعالى:
«وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً»..
هذا وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم على طريق الجهاد، بأنه سبحانه، سيمكّن لهم من مغانم كثيرة يأخذونها، وأن هذا الذي أخذوه فى «خيبر» ليس إلا ثمرة معجّلة من ثمار جهادهم، وإلا باكورة من بواكير هذا الثمر..
وقوله تعالى: «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ».. المراد بالناس هنا هم من واجههم النبىّ والمسلمون فى مسيرته تلك، وهم أهل مكة، وأهل خيبر، فهؤلاء، وهؤلاء، لم يدخلوا مع المسلمين فى حرب، بل عافاهم الله من هذا البلاء، وأعطاهم ثمرته، فسلّمت لهم قريش بحق دخولهم مكة، والطواف بالبيت الحرام، واستسلم لهم يهود خيبر، وسلّموا لهم ما بين أيديهم من أموال، وزروع..
وقوله تعالى: «وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» معطوف على محذوف، يفهم من قوله تعالى: «فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي لتكون هذه الغنائم جزاء طيبا لكم، وليكون منها آية للمؤمنين، يرون فيها أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن الجهاد، وأنه سبحانه قادر على أن يفتح لهم البلاد ويخضع لهم العباد من غير قتال.. ولكنّ هذا يحرم المجاهدين فضل الجهاد، ولا يجعلهم فى مكان هم أولى به من غيرهم، من رضوان الله، ومن الغنائم التي ينالها المجاهدون..
وقوله تعالى: «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» معطوف على قوله تعالى:
«وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» أي وليكون لكم من هذه الآية، من هذه الآية، ما يملأ قلوبكم
418
إيمانا بالله، ويقينا بدينه، حيث ترون آثار لطف الله سبحانه، وشواهد قدرته..
قوله تعالى:
«وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً»..
الأخرى: هى مكة..
وقوله تعالى: «لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» صفة لمكة..
والمعنى، أنه إذا كان لكم فى مغانم خيبر، وفى غلبكم عليها- إذا كان لكم فى ذلك آية، فإن لكم فى أهل مكة آية أخرى، إذ كان المشركون فى صراع طويل معكم، وكانت الحرب بينكم وبينهم سجالا، وأنكم لم تقدروا أن تنالوا منهم الاستسلام لكم.. ثم هاأنتم هؤلاء ترون وقد جئتموهم لغير حرب، وفى عدد قليل، ومع هذا فقد ذلّوا بين أيديكم، وطلبوا عقد هدنة معكم، وليس ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بهم، وأخذ على أيديهم، وأوقع الرعب منكم فى قلوبهم..
قوله تعالى:
«وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً»..
أي أنكم أيها المؤمنون لا تقاتلون عدوكم بكثرتكم، ولكن تقاتلونهم بإيمانكم بالله، وتوكلكم عليه، وإخلاص نيتكم له، وهذا هو ضمان النصر لكم من ربكم..
419
ولو أن هؤلاء المشركين- وهم فى عددهم، وشوكتهم، وفى بلدهم وبين أهليهم- لو أن هؤلاء المشركين، قاتلوكم يوم الحديبية، لنصركم الله عليهم، ولولّوا الأدبار منهزمين، ثم لا يكون لهم ولىّ يقوم لهم، ولا ناصر يفزع لنصرهم..
وهذا حكم مطلق على ما سيكون بين المسلمين والمشركين، منذ نزول هذه الآية.. فإن أي لقاء سيلتقى فيه المسلمون بالمشركين، لن يكون للمشركين فيه إلا الهزيمة، التي لا يقيلهم منها ولىّ ولا نصير..
وقد تحقق هذا، فلم يكن بين المسلمين والمشركين بعد الحديبية حرب، وإنما كان من المشركين استسلام، وإسلام، فى يوم الفتح..
قوله تعالى:
«سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا»..
«سنة» منصوب بفعل محذوف، وتقديره، لقد سنّ الله سبحانه وتعالى بهؤلاء المشركين سنة الله التي قد خلت من قبل، وهى سنة الله فيما بين أولياء الله وأولياء الشيطان، بين أهل الحق، وأهل الباطل.. وسنة الله: هى حكمه، وقضاؤه..
وحكم الله وقضاؤه، هو نصرة الحق وخذلان الباطل، كما يقول سبحانه:
«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» - ويقول تعالى:
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ..» (٢١: المجادلة) قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً»..
420
يجمع المفسرون على أن ما تشير إليه الآية من كفّ أيدى المشركين عن المؤمنين، وكف أيدى المؤمنين عن المشركين- إنما هو عن صلح الحديبية..
ولكن قوله تعالى: «بِبَطْنِ مَكَّةَ» يردّ هذا القول.. فالمؤمنون لم يدخلوا مكة عام الحديبية، بل ولم يظفروا بالمشركين الظفر الذي يمكّن لهم منهم..
والذي نراه- والله أعلم- أن هذا إنما كان يوم الفتح، حيث دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- مكة، على رأس جيش من عشرة آلاف مقاتل، وأن قريشا قد فزعت لهذا، واستسلمت من غير قتال، طالبة الأمان من رسول الله، بعد أن مكن الله له من رقابهم، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه قولته الخالدة: «ما تظنون أنى فاعل بكم» ؟ - إنهم الآن بين يديه، وفى متناول سيوف المسلمين، وإن النبي قد ملكهم ملكا مطلقا، يتصرف فيهم كيف يشاء..
ولم يجد القوم جوابا يجيبون به على هذا التحدّى، الذي يستئير الحمية، ولكن لم يكن للقوم بعد مارأوا من جيش المسلمين- لم يكن عندهم بقية من حمية تستثار، فكان جوابهم للنبى، هذا الجواب الذليل المستسلم:
«أخ كريم! وابن أخ كريم!!»..
ألا لقد ذلّت جباه المتكبرين، ورغمت أنوف المتعالين!! وقد كان رد النبىّ الكريم، سمحا كريما، كما هو شأنه فى جميع أحواله..
فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أذهبوا فأنتم الطلقاء» !! لقد أطلقهم بتلك الكلمة الطيبة الكريمة من الأسر، وحفظ عليهم دماءهم التي كانت مهدرة! ولا يعترض على هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، بأن الآية تحدّث عن أمر
421
وقع فعلا، وذلك فى قوله تعالى: «كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ..» بلفظ الماضي..
والجواب على هذا من وجهين:
أولهما: أن الإخبار عن المستقبل بالفعل الماضي، إشارة إلى تحققه، وأنه إن لم يكن قد وقع، فهو واقع لا شك فيه..
وثانيهما: أنه قد تكون هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، ثم أخذت مكانها من السورة، لتكون إلى جانب أحداث الحديبية التي تلقّى فيها الرسول الكريم قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً».. فهذا الفتح يطوى فى كيانه فتح مكة، وإن كان فتحها لم يقع بعد..
قوله تعالى:
«هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً»..
هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ سبحانه المشركين بالخزي والخذلان، وسنّ بهم سنته- سبحانه- فى الذين خلوا من قبل.. ذلك لأنهم كفروا بالله ورسوله، وصدّوا النبي والمسلمين عن المسجد الحرام، ومنعوا الهدى أن يبلغ محلّه من البيت العتيق..
والخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، وللمؤمنين معه، الذين واجههم المشركون يوم الفتح..
وفى هذا إلفات للنبى وأصحابه إلى حالهم التي كانوا عليها يوم الحديبية وإلى حالهم اليوم من القوّة، والتمكن من قريش، وأن سيف الباطل الذي كانت
422
تضرب به قريش فى وجوه المسلمين، وتلجئهم إلى الفرار من ديارهم- هذا السيف قد تحطم على صخرة الحق، وخذل أهله فى الموقف الحاسم، فى ساعة العسرة..
لقد استدار الزمن، وأصبح الضعفاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله- أصبحوا أصحاب هذا البلد الذي أخرجوا منه، وصار إلى أيديهم أن يخرجوا أو يقتلوا أولئك الظالمين الضالين الذين أخرجوهم بالأمس من ديارهم..
هذا بعض ما وقع فى مشاعر كل من المسلمين والمشركين من تلك المواجهة التي كانت بينهما يوم الفتح، كلّ منهما يراجع مسيرة الأحداث التي جرت بينهما، حتى إذا انتهوا إلى يوم الفتح هذا وجدوا مفارقات بعيدة بين بدء الأحداث ونهايتها، حيث انقلبت الموازين، وتبدلت الأوضاع، وأصبح الذين كانوا لا يملكون شيئا، يملكون كل شىء، وصار الذين كانوا يملكون كل شىء لا يملكون شيئا.. و «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ»..
قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» هو معطوف على ضمير النصب فى قوله تعالى: «وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي وصدوكم وأنتم محرمون عن أن أن تطوفوا بالبيت الحرام، وصدوا الهدى وهو معكوف عن أن يبلغ محله..
والهدى، ما يهدى للبيت الحرام من بهيمة الأنعام..
والمعكوف: أي المحبوس على هذه الغاية، والموقوف عليها، فلا يتصرف فيه ببيع ولا بغيره..
قوله تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ»..
423
جواب لولا محذوف، دل عليه المقام، وهو مقام تهديد للمشركين، وتذكير لهم، بجناياتهم الشنيعة على الدعوة الإسلامية، وعلى المسلمين..
والتقدير: لولا هؤلاء الرجال المؤمنون والنساء المؤمنات الذين يعيشون مع هؤلاء المشركين ولم يعلنوا إيمانهم، وأنهم قد يؤخذون بما يؤخذ به المشركون لو وقعت الحرب بينهم وبين المسلمين- لولا هذا لسلطكم الله عليهم يوم الفتح، وهم تحت أيديكم، ولذهبت سيوفكم بكثير من تلك الرءوس التي كانت تكيد للإسلام وتسوق الأذى والضر إلى أهله..
وقوله تعالى: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» هو صفة للمؤمنين والمؤمنات، أي أن هؤلاء الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، كانوا يسرّون إيمانهم، ويمسكون به فى قلوبهم.. خوفا من أهلهم المشركين- فهم فى نظر المؤمنين مشركون، يؤخذون بما يؤخذ به المشركون، لأنهم لا يعلمون عن إيمانهم شيئا..
وقوله تعالى: «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ»..
المعرّة: المذمة، والعائبة التي تعيب الإنسان وتنقصه..
وفى إسناد المعرة إلى هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين يسرون إيمانهم، فى قوله تعالى: «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» - فى هذا إشارة إلى أن الذي يتوجه إلى المسلمين باللوم والعيب هم أولئك المؤمنون والمؤمنات أنفسهم، لأنهم هم الذين يعلمون أنهم مؤمنون، وأنهم قتلوا بيد إخوانهم المؤمنين، الذين خفى عليهم إيمانهم..
وقوله تعالى: «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» - هو تعليل لمفهوم المخالفة من جواب الشرط المحذوف، أي لولا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم- لولا هذا لسلطكم الله على المشركين، ولكنه سبحانه لم يسلطكم عليهم، ليدفع عنكم المعرّة، بما تصيبون
424
من المؤمنين والمؤمنات، وليدخل فى رحمته من يشاء.. فإن لله سبحانه فى هؤلاء المشركين من يريدهم لدينه، ويدخلهم فى رحمته، ولهذا مدّ لهم فى الأجل، ودفع عنهم أيدى المسلمين من أن تقضى عليهم، وذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا، وليدخل فى رحمته من يشاء من هؤلاء المشركين..
وقوله تعالى: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» أي لو انفصل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين أرادهم الله للإيمان- لو انفصل هؤلاء وهؤلاء عن كيان المشركين، الذين لن يؤمنوا بالله أبدا، لو انفصلوا عنهم لعذاب الله سبحانه الذين كفروا منهم عذابا أليما، بأن يسلطكم عليهم أو يرسل عليهم عذابا من عنده، ولكن الله سبحانه- حماية للمؤمنين والمؤمنات ودفعا لما يلحقهم من مكروه إذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين الذين يخالطونهم ويمتزجون بهم- لم ينزل عذابه فى الدنيا بهؤلاء المشركين الذين لن يؤمنوا أبدا، وأنظرهم إلى يوم الدين..
وهكذا أكرم الله المؤمنين، فلم يفجعهم فى أهليهم من المشركين، ولم يرهم ما يسوءهم فيهم، وهكذا يصنع الله لأوليائه..
قوله تعالى:
«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»..
الحمية الغيرة، والأنفة، وهى التي تحتمى بها الحرمات.. وهى محمودة إذا كانت فى جانب الحق، والعدل والإحسان، ومذمومة إذا كانت فى جانب الهوى والسّفه، والضلال..
425
وحمية الجاهلية، حمية استعلاء، وتطاول بغير حق، لا يضبطها عقل، ولا تسوسها حكمة..
أي أنه على حين امتلأت قلوب المشركين الذين كفروا من حمية الجاهلية، وغذّوها بهذه المشاعر الكاذبة الفاسدة، بما كان لهم من قوة ظاهرة على المسلمين- فإن الله سبحانه وتعالى حين منح المسلمين القوة، ومكن لهم من هؤلاء الكافرين، حرس هذه القوة من أن تكون أداة بغى وعدوان، فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، ونزع ما فى قلوبهم من حفيظة على المشركين وألزمهم كلمة التقوى، وهى الكلمة التي عفا الرسول صلوات الله وسلامه عليه بها عن المشركين، حين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» - فهذه الكلمة التي لا يقولها فى هذا المقام إلا رسول الله، وهو أحق بها وأهلها من دون الناس جميعا، والمؤمنون هم على هذا المورد الطيب الذي ورده الرسول، فهم بهديه مهتدون، وعلى سنته قائمون..
الآيات (٢٩- ٢٧) [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
426
التفسير:
قوله تعالى:
«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً»
..
هو ردّ من الله سبحانه وتعالى على ما وقع فى نفوس بعض المسلمين من مشاعر القلق، والضيق، والاتهام، لما فاتهم من دخول المسجد الحرام يوم الحديبية، وقد جاءوا إليه وهم على يقين بأنهم داخلوه، تصديقا للرؤيا التي رآها النبىّ وأخبرهم بها..
فقوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» تصديق لرؤيا الرسول الكريم، وأنها رؤيا من الله، وأنها الصدق المطلق، والواقع المحقق، وإن كان تأويلها لم يجىء بعد..
وقوله تعالى: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» - هو جواب لقسم محذوف، وهذا القسم هو لتأكيد هذا الخبر الذي يخبر الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، وأنهم داخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، لا تعترضهم قريش، ولا يقع منها ما يسوؤهم، وأنهم سيقضون عمرتهم، ويحلّقون ويقصرون، إيذانا بالحلّ من العمرة وإحرامها..
427
والتحليق، هو أن يحلق بعضهم لبعض شعورهم.
والتقصير، هو قصّ الشعر.. ولو بضع شعرات منه.
وقوله تعالى: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» - أي أن الله سبحانه وتعالى لم يقدّر للنبى والمسلمين دخول المسجد الحرام هذا العام، لأمر أراده، وحكمة لا يعلمها إلا هو، فصرف المسلمين عن دخول مكة هذا العام، وجعل بين صرفهم عنها، ودخولهم إياها الذي وعدوا به- جعل بين هذا الوقت وذلك، فتحا قريبا، هو فتح خيبر..
فكان للمسلمين من ذلك فتحان: فتح قريب، هو فتح خيبر، وفتح يأتى بعده، هو فتح مكة..
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» أي الذي جعل من دون ذلك فتحا قريبا، هو الله سبحانه، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليكون على يديه تبليغ هذا الدين، الذي سيجعله الله فوق كلّ دين.. وهذا وعد من الله سبحانه، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد الذي لن يخلف أبدا..
قوله تعالى:
«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً».
428
بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الفتح».
وبهذا الفتح الذي وعد الله المؤمنين تقوم دولة المسلمين، ويأخذ مجتمعهم مكانه فى الحياة، ويرى الناس وجه الإسلام فى هذا المجتمع.
والصفة التي تغلب على هذا المجتمع، ويعرف بها فى الناس، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار، الذين يحادّون الله ورسوله، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على دين الله، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين.
هذا حالهم مع أعداء الله.. أما هم فيما بينهم فهم رحماء، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة، تجمعهم أخوة بارّة فى الله، وفى دين الله..
هذا ما تنطوى عليه صدورهم، وتفيض به مشاعرهم، نحو أعداء الله، وأوليائه..
أما ما يراه الناس من ظاهر أمرهم، فهو اجتماعهم فى الصلاة، وتولية وجوههم جميعا لله.. يركعون معا، ويسجدون معا.. يريدون بذلك مرضاة الله، ويبتغون فضله وإحسانه..
فإذا لم يرهم الرائي فى مقام الصلاة، رأى منهم أثر هذه الصلاة، وما يترك السجود على جباههم من آثار، هى سمة المسلم المصلّى، وهى الشارة التي تشير إليه، وإلى الدين الذي يدين به..
وهذا يعنى أن الصلاة هى شعار المسلم، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام، ومن هنا كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان بالله.. وفى الحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة»..
وفى الحديث أيضا: «العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر»..
يريد تركها عامدا منكرا.
429
وقوله تعالى: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أي هذه الصفة هى صفة المسلمين التي وصفهم الله بها فى التوراة..
والإشارة: إما أن تكون إلى جميع هذه الأوصاف، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»..
وقوله تعالى: «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً»..
الشطء: أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض، وشاطىء الشيء، حافته.. أي ومثل المؤمنين الذين مثّلهم الله سبحانه وتعالى به، فى الإنجيل، هو الزرع، يبدأ بذرة هامدة فى الثرى، فإذا أصابها الماء، اهتز كيانها، ودبّ دبيب الحياة فيها، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها- أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور، وأن تلتمس لها طريقا إليه، من بين هذا الظلام المطبق عليها، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة، وإذ شىء أخضر صغير، لا يكاد يرى، يطل على الحياة فى استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله، ثم ثالث ورابع..
وهذا هو الشط، وجمعه شطآن..
وشيئا فشيئا تنمو هذه الشطآن، وتعلو، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه، وأوراق تكسو هذا الساق، وفروع وأغصان، وأزهار وثمار، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة!.
وهكذا المسلمون، بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع فغرسها فى الأرض، وساق إليها الماء،
430
وتعهدها بالرعاية والري، طالت، وانداحت، وأزهرت، وأثمرت، وملأت وجه الأرض المغبرّة، حسنا، وجمالا، وخيرا..
وشبه المسلمون بالزرع لأنهم كثير، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل..
وقوله تعالى: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» - هو إشارة إلى هذا الزرع الطيب، الذي يملأ العين سرورا ورضا، وهو فى الوقت نفسه يملأ قلوب الكافرين حسرة وحسدا..
وقوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من الله، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا المؤمنون على إطلاقهم.. وهذا هو السر فى قوله تعالى: «مِنْهُمْ» الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك..
«هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ»
431
Icon