تفسير سورة الفتح

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الفتح١
مقصودها مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرع من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد الذي يجمعه كله إظهار الدين على الدين كله، وهذا كله في غاية الظهور بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها في مواضع منها ﴿ لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق ﴾ الآية وانتهاؤها ﴿ ليظهر على الدين كله ﴾ ﴿ محمد رسول الله ﴾ إلى قوله ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ أي بالفتح الأعظم وما دونه من٢ الفتوحات ﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة- كما كان في أولها للرسول صلى الله عليه وسلم-[ و-٣ ] أجرا عظيما كذلك٤ ٥بسائر الفتوحات وما حوت من الغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء٦ { بسم الله ﴾ ٧الملك الأعظم٨ المحيط بكل شيء قدرة وعلما ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم المكلفين بنعمة الوعد والوعيد ﴿ الرحيم ﴾ الذي اختص أهل حزبه لإقامة دينه الحق فأظهرهم على سائر العبيد.
١ الثامنة والأربعون من سور القرآن الكريم، مدنية وعدد آيها ٢٩-راجع نثر المرجان ٩/٢١٤..
٢ سقط من ظ..
٣ زيد من مد..
٤ من مد، وفي الأصل و ظ: لذلك..
٥ سقط ما بين الرقمين من مد..
٦ سقط ما بين الرقمين من مد..
٧ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
٨ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..

لما كانت تلك سورة الجهاد وكانت هذه سورة محمد بشارة
273
للمجاهدين من أهل هذا الدين بالفوز والنصر والظفر على كل من كفر، وهذا كما سيأتي من إيلاء سورة النصر لسورة الكافرون، فأخبرت القتال عن الكافرين بإبطال الأعمال والتدمير وإهلاكهم بالتقال، وإفساد جميع الأحوال، وعن الذين آمنوا بما نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهداية وإصلاح البال، وختمها بالتحريض على مجاهدتهم بعد أن ضمن لمن نصره منهم النصر وتثبيت الأقدام، وهدد من أعرض باستبدال غيره به، وإن ذلك البدل لا يتولى عن العدو ولا ينكل عنه، فكان ذلك محتماً لسفول الكفر وعلو الإيمان، وذلك بعينه هو الفتح المبين، فافتتح هذه بقوله على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا بد منه وأنه مما ينبغي أن يؤكد لابتهاج النفوس الفاضلة به، وتكذيب من في قلبه مرض وهم أغلب الناس في ذلك الوقت. ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال ﴿فتحنا﴾ أي أوقعنا الفتح المناسب لعظمتنا لكل متعلق بإتقان الأسباب المنتجة له من غير شك، ولذلك عبر عنه بالماضي.
ولما كانت منفعة ذلك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن إعلاء كلمة الله يكون به فيعليه ويمتلىء الأرض من أمنه، فلا يعمل منهم أحد حسنة
274
إلا كان له مثل أجرها ويكونون على قصر زمنهم ثلثي أهل الجنة، فيكون ذلك شرفاً له - إلى غير ذلك الأسرار، التي يعيى دون أيسرها الكفار، قال: ﴿لك﴾ أي بصلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة التي نزلت هذه السورة في شأنه، يصحبان في الرجوع منه إلى المدينة المشرفة، قال الأزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فرأوا ما لا أعدل منه ولا أحسن، فاستولى الإسلام على قلوبهم وتمكن منهم فأسلم منهم في ثلاث سنين خلق كثير، وكذا كان من الفتح تقوية أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتصديق فيما أنزل عليه من سورة من غلبهم على أهل فارس في رواية من قال: إنه كان في زمن الحديبية، ثم زاده تأكيداً بقوله: ﴿فتحاً﴾ وزاد في إعظامه بقوله: ﴿مبيناً *﴾ أي لا لبس فيه على أحد، بل يعلم كل ذي عقل به أنك ظاهر على جميع أهل الأرض لأنك كنت وحدك، وكان عند أهل الكفر أنك في أيديهم، وأن أمرك لا يعدو فمك، فتبعك ناس ضعفاء فعذبوهم وكانوا معهم في أسوأ الأحوال، وتقرر ذلك في إذهانهم مدداً طوالاً ثلاث عشرة سنة، ثم انقذ الله أتباعك منهم بالهجرة إلى النجاشي رحمه الله تعالى أولاً، وإلى
275
المدينة الشريفة ثانياً، وهم مطمئنون بأنك أنت - وأنت رأسهم - لا ينتظم لهم بدونك أمر، ولا يحصل لكسرهم ما لم تكن معهم جبر، بأنك في قبضتهم لا خلاص لك أبداً منهم ولا انفكاك من بلدتهم، فاستخرجك الله من عندهم بعد أن حماك على خلاف القياس وأنت بينهم من أن يقتلوك، مع اجتهادهم في ذلك واستفراغهم قواهم في أذاك، ثم بذلوا جهدهم في منعك من الهجرة فما قدروا، ثم في ردك فما أطاقوا ولا فازوا ولا ظفروا.
بل غلبوا وقهروا، ثم أيدك بأنصار أبرار أخيار فكنتم على قلتكم كالليوث الكواسر والبحار الزواخر، ما ملتم على جهة إلا غمرتموها، وفزتم بالنصف من أربابها قتلتموها أو أسرتموها ولم تزالوا تزدادون وتقوون، وهم ينقصون ويضعفون، حتى أتيتموهم في بلادهم التي هم قاطعون بأنهم ملوكها، يتعذر على غيرهم غلبهم عليها بل سلوكها، فما دافعوكم عن دخول عليهم إلا بالراح، وسألوكم في وضع الحرب للدعة والإصلاح، فقد ظهرت أعلام الفتح أتم ظهور، وعلم أرباب القلوب أنه لا بد أن تكون في امتطائكم الذرى وسموكم إلى رتب المعالي
276
وأيّ أمور، وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه قال: «شهدنا الحديبية مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرفنا منها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقفاً على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ فقال عمر رضي الله عنه: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده».
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات - وقد يغمض بعضها - منها أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب﴾ الآية، وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ استدعى ذلك تشوف النفوس إلى حالة العاقبة فعرفوا ذلك في هذه السورة فقال تعالى ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ - الآيات، فعرف تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظيم صنعه له، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ - الآيات، والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
277
وحكم المخلفين من الأعراب، والحض على الجهاد، وبيان حال ذوي الأعذار، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين﴾ وأثابهم الفتح وأخذ المغانم وبشارتهم بفتح مكة ﴿لتدخلن المسجد الحرام﴾ إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمته عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة، ووجه آخر وهو أنه لما قال الله تعالى في آخر سورة القتال ﴿فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم﴾ كان هذا إجمالاً في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم، فتضمنت سورة محمد تفسير هذا الإجمال وبسطه، وهذا يستدعي من بسط الكلام ما لم تعتمده في هذا التعليق، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول، ووجه آخر مما يغمض وهو أن قوله تعالى ﴿وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ إشارة إلى من يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب، وقد أشار أيضاً إلى هذا قوله تعالى
﴿يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه﴾ [المائدة: ٥٤] وأشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» - وعقد السبابة بالإبهام، أشار عليه الصلاة والسلام
278
إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين، وإنما أشار عليه الصلاة والسلام بقوله «اليوم» إلى التقديم والتأخير، وفرغ هذا الأمر إلى أيام أبي جعفر المنصور، فغلبت الفرس والأكراد وأهل الصين وصين الصين - وهو ما يلي يأجوج ومأجوج - وكان فتحاً وعزاً وظهوراً لكلمة الإسلام، وغلب هؤلاء في الخطط والتدبير الإماري وسادوا غيرهم، ولهذا جعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجيئهم فتحاً فقال: «فتح اليوم» ولو أراد غير هذا لم يعبر بفتح، ألا ترى قول عمر لحذيفة رضي الله عنهما في حديث الفتن حين قال له «إن بينك وبينها باباً مغلقاً» فقال عمر: أيفتح ذلك الباب أم يكسر؟ فقال: بل يكسر. ففرق بين الفتح والكسر، وإنما أشار إلى قتل عمر رضي الله عنه، ولذا قال عليه الصلاة والسلام «فتح» وقال: «من ردم يأجوج ومأجوج» وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم، لأن الفرس ومن أتى معهم هم أهل الجهات التي تلي الردم، فعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم﴾ إشارة إلى غلبة من ذكرنا وانتشارهم في الولايات والخطط الدينية والمناصب العلمية. ولما كان هذا قبل أن يوضح أمره يوهم نقصاً وخطأ، بين أنه تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام، فقال تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ الآيات، ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في تلخيض التلخيض علماء المالكية مشيراً إلى تفاوت درجاتهم ثم قال: وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان: العجم أنساباً وبلداناً، والعرب عقائد وإيماناً، الذين ينجز فيهم وعد الصادق المصدوق، وملكهم الله مقاليد التحقيق حين أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها، وأقبلت على الدنيا واستوثقت منها، «قال أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله! من هؤلاء الذين قال الله {وإن تتولوا
279
يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} فأشار عليه الصلاة والسلام إلى سلمان وقال: لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء»
- انتهى.
ولما أخبر سبحانه بالفتح عقب سورة ﴿الذين كفروا﴾ بشارة بظهور أهل هذا الدين وإدبار الكافرين - كما سيأتي في إيلاء سورة النصر بسورة الكافرين، لذلك علل الفتح بالمغفرة وما بعدها رمزاً إلى وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بروحي هو وأبي وأمي - وإيماء إلى أن المراد من إخراجه إلى دار الفناء إنما هو إظهار الدين
280
القيم وإزهاق الباطل لتعلو درجته وتعظم رفعته، فعند حصول الفتح ثم المراد كما كانت سورة النصر الوالية للكافرين رامزة إلى ذلك كما هو مشهور ومذكور ومسطور، فالفتح الذي هو أحد العلامات الثلاث المذكورة كما في سورة النصر على جميع المناوين، الذي هو السبب الأعظم في ظهور دينه على الدين كله الذي هو العلامة العظمى على اقتراب أجله - نفسي فداؤه وإنسان عيني من كل سوء وقاؤه - فقال تعالى: ﴿ليغفر لك الله﴾ مشيراً بالانتقال من أسلوب العظمة بالنون إلى أسلوب الغيبة المشير إلى غاية الكبرياء بالإسناد إلى الاسم الأعظم إلى أن هذه المغفرة بحسب إحاطة هذا الاسم الجامع لجميع الأسماء الحسنى: ﴿ما تقدم من ذنبك﴾ أي الذي تقدم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو مما ينتقل به من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه، فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً، وكذا قوله: ﴿وما تأخر﴾ قال الرازي: المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات «حسنات الأبرار سيئات المقربين» انتهى. ويجوز أن يكون المراد: لتشاهد المغفرة بالنقلة إلينا بعد علم اليقين بعين اليقين وحق اليقين، فالمعنى أن الله يتوفاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقب الفتح ودخول جميع العرب الذين
281
يفتتحون جميع البلاد ويهدي الله بهم سائر العباد في دينه، ويأس الشيطان من أن يعبد في جزيرتهم إلا بالمحقرات لوجود المقصود من امتلاء الأكوان بحسناته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعموم ما دل عليه اسمه المذكور في هاتين السورتين من حمده تعالى بكماله في ذاته وصفاته ببلوغ أتباعه إلى حد لا يحصرون فيه بعد، ولا يقف لهم مخلوق على حد.
ولما كان تمام النعمة يتحقق بشيئين: إظهار الدين والتقلة إلى مرافقة النبيين، قال تعالى مخبراً بالشيئين: ﴿ويتم نعمته عليك﴾ بنقلك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح، الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل، ويدحضون شبه الشيطان، ويدمغون كل كفران، وينشرون رايات الإيمان في جميع البلدان، بعد إذلال أهل العدوان، ومحو كل طغيان.
ولما كانت هدايتهم من هدايته، أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجانبه الشريف سروراً له فقال: ﴿ويهديك﴾ أي بهداية جميع قومك ﴿صراطاً مستقيماً *﴾ أي واضحاً جليلاً جلياً موصلاً إلى
282
المراد من كتاب لا عوج فيه بوجه، هداية تقتضي لزومه والثبات عليه ﴿وينصرك الله﴾ بنصرهم على ملوك الأمم وجلائهم لسائر الغمم، نصراً يليق إسناده إلى اسمه المحيط بسائر العظم ﴿نصراً عزيزاً﴾ أي يغلب المنصور به كل من ناواه ولا يغلبه شيء مع دوامه فلا ذل بعده لأن الأمة التي تنصف به لا يظهر عليها أحد، والدين الذي قضاه لأجله لا ينسخه شيء.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر المؤمنين برؤياه أنه يطوف بالكعبة الشريفة، وعز على العمرة عام الحديبية، وخرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج معه خلاصة أصحابه ألف وخمسمائة، فكانوا مؤقنين أنهم يعتمرون في وجههم ذلك، وقر ذلك في صدورهم وأشربته قلوبهم، فصار نزعه منها أشق شيء يكون، قصدهم المشركون بعد أن بركت ناقته وصالحهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يرجع عنهم في ذلك العام ويعتمر في مثل ذلك الوقت من القابل، وكان ذلك - بل أدنى منه - مزلزلاً للاعتقاد مطرقاً للشيطان الوسوسة في الدين، وقد كان مثله في الإسراء ولم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بما يوهم في أمره فارتد ناس كثير بسببه، قال تعالى دالاً على النصر بتثبيت المؤمنين في هذا المحل الضنك إظهاراً لتمام قدرته ولطيف حكمته:
283
﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي أنزل﴾ في يوم الحديبية ﴿السكينة﴾ أي الثبات على الدين ﴿في قلوب المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب من صد الكفار ورجوع الصحابة رضي الله تعالى عنهم دون مقصودهم، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن ماج الناس وزلزلوا حتى عمر رضي الله عنه - مع أنه الفاروق ومع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد - فما الظن بغيره في فلق نفسه وتزلزل قلبه، وكان للصديق رضي الله عنه من القدم الثابت والأصل الراسخ ما علم به رضي الله عنه أنه لا يسابق، ثم ثبتهم الله أجمعين، قال الرازي: والسكينة الثقة بوعد الله، والصبر على حكم الله، بل السكينة ههنا معين بجمع فوزاً وقوة وروحاً، يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين، وأثر هذه السكينة الوقار والخشوع وظهور الحزم في الأمور - انتهى. وكل من رسخ في الإيمان، له في هذه الآية نصيب جناه دان.
ولما أخبر بما لا يقدر عليه غيره، علله بقوله: ﴿ليزدادوا﴾ أي بتصديق الرسول حين قال لهم: إنهم لا بد أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت العتيق، وحلهم الله به من الشبهة بتذكرهم أنه لم يقل لهم: إنهم
284
يدخلون العام ﴿إيماناً﴾ بهذا التصديق بالغيب من أن صلحهم للكفار ورجوعهم من غير بلوغ قصدهم هو عين الفتح لترتب الصلح عليه وترتب فشو الإسلام على الصلح كما كشف عنه الوجود بعد ذلك ليقيسوا عليه غيره من الأوامر ﴿مع إيمانهم﴾ الثابت من قبل هذه الواقعة، قال القشيري رحمه الله: بطلوع أقمار اليقين على نجوم علم اليقين، ثم بطلوع شمس حق اليقين على بدر عين اليقين.
ولما كان ربما ظن شقي من أخذ الأمور بالتدريج شيئاً في القدرة قال: ﴿ولله﴾ أي الذي أنزل السكينة عليهم ليكون نصرهم في هذه العمرة بالقوة ثم يكون عن قريب بالفعل والحال أنه له وحده ﴿جنود السماوات والأرض﴾ أي جميعها، ومنها السكينة، يدبرهم بلطيف صنعه وعجيب تدبيره، فلو شاء لنصر المؤمنين الآن بالفعل، ودمر على أعدائهم بجنود من جنوده أو بغير سبب، لكنه فعل ذلك ليكون النصر بكم، فيعلوا أمركم ويعظم أجركم، ويظهر الصادق في نصره من الكاذب، فإن الدار دار البلاء، وبناء المسببات على الأسباب على وجه الأغلب فيه الحكمة، لا القهر وظهور الكلمة، فاسمه الباطن هو الظاهر في هذه الدار، فلذلك ترى المسببات مستورات بأسبابها، فلا يعلم الحقائق إلا البصراء ألا ترى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت عليه هذه السورة فتلاها
285
عليه قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: أي رسول الله وفتح هو؟ قال بعضهم: لقد صدونا عن البيت وصدوا هدينا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، أما رضيتم أن تطرقوهم في بلادهم فيدفعوكم عنها بالراح ويسألوكم التضير ويرغبون إلكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون»، فقال المسلمون: صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح. والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه لأنت أعلم بالله وأمره منا. وأنزل الله تأكيدا لأمر الرؤيا لمن أشكل عليهم حالها ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام﴾ الآية، فهذه الأشياء كلها كما ترى راجعة إلى الخفاء بالتعجب في أستار الأسباب، فلا يبصرها إلا أرباب التدقيق في النظر في حكمة الله سبحانه.
ولما كان مبنى ما مضى كله على القدرة بأمور خفية يظهر منها
286
من الضعف غير ما كشف عنه الزمان من القوة، وكان تمام القدرة متوقفاً على شمول العلم، قال تعالى: ﴿وكان الله﴾ أي الملك الأعظم أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ بالذوات والمعاني ﴿حكيماً *﴾ في إتقان ما يصنع، فرده لهم عن هذه العمرة بعد أن دبر أمر الصلح ليأمن الناس فيداخل بعضهم بعضاً لما علم من أنه لا يسمع القرآن أحد له عقل مستقيم ويرى ما عليه أهله من شدة الاستمساك به والبغض لما كانوا فيه من متابعة الآباء إلا بادر إلى المتابعة ودخل في الدين برغبة، وأدخل سبحانه خزاعة في صلح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبني بكر وهم أعداؤهم في صلح قريش ليبغوا عليهم فتعينهم قريش الصلح بعد أن كثرت جنود الله وعز ناصر الدين، فيفتح الله بهم مكة المشرفة، فتنشر أعلام الدين، وتخفق ألوية النصر المبين، ويدخل الناس في الدين أفواجاً، فيظهر دين الإسلام على جميع الأديان.
287
ولما دل على الفتح بالنصر وما معه، وعلل الدين بالسكينة، علل علة الدليل وهي ﴿ليزدادوا إيماناً﴾ وعلل ما دل عليه ملك الجنود من تدبيرهم وتدبير الأكوان بهم بقوله تعالى زيادة في السكينة: ﴿ليدخل﴾ أي بما أوقع في السكينة ﴿المؤمنين والمؤمنات﴾ الذين جبلهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد
287
المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أول الأمر فأهلكوهم أو دمر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية ﴿جنات﴾ أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك ﴿تجري﴾ ودل وقرب وبعض بقوله: ﴿من تحتها الأنهار﴾ فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك، لأن الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها. ولما كان الماء لا يطيب إلا بالقرار تعالى: ﴿خالدين فيها﴾ أي لا إلى آخر.
ولما كان السامع لهذا ربما ظن أن فعله ذلك باستحقاق، قال إشارة إلى أنه لا سبب إلا رحمته: ﴿ويكفر﴾ أي يستر ستراً بليغاً شاملاً ﴿عنهم سيئاتهم﴾ التي ليس من الحكمة دخول الجنة دار القدس قبل تكفيرها، بسبب ما كانوا متلبسين به منها من الكفر وغيره، فكان ذلك التكفير سبباً لدخولهم الجنة ﴿وكان ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإدخال والتكفير المهيىء له، وقدم الظرف تعظيماً لها فقال تعالى: ﴿عند الله﴾ أي الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام ﴿فوزاً عظيماً *﴾
288
يملأ جميع الجهات.
ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدو وكان العدو المكاتم أشد من العدو المجاهر المراغم قال تعالى: ﴿ويعذب المنافقين﴾ أي يزيل كل ما لهم من العذوبة ﴿والمنافقات﴾ بما غاظهم من ازدياد الإيمان ﴿والمشركين والمشركات﴾ بصدهم الذي كان سبباً للمقام الدحض الذي كان سبباً لإنزال السكينة الذي كان سبباً لقوة أهل الإسلام بما تأثر عنه من كثرة الداخلين فيه، الذي كان سبباً لتدمير أهل الكفران، ثم بعد ذلك عذاب النيران.
ولما أخبر بعذابهم، أتبعه وصفهم بما سبب لهم ذلك فقال تعالى: ﴿الظانين بالله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ظن السوء﴾ من أنه لا يفي بوعده في أنه ينصره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه المؤمنين أو أنه لا يبعثهم. أو أنه لا يعذبهم لمخالفة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومشاققة أتباعه. ولما أخبر سبحانه وتعالى بعذابهم فسره بقوله: ﴿عليهم﴾ أي في الدنيا والآخرة بما يخزيهم الله به من كثرة جنوده وغيظهم منهم وقهرهم بهم ﴿دائرة السوء﴾ التي دبروها وقدروها للمسلمين لا خلاص لهم منها، فهم مخذولون في كل موطن خذلاناً ظاهراً يدركه
289
كل أحد، وباطناً يدركه من أراد الله تعالى من أرباب البصائر كما اتفق في هذه العمرة، والسوء - بالفتح والضم: ما يسوء كالكره إلا أنه غلب في أن يضاف إلى ما يراد ذمه، والمضموم جار مجرى الشر الذي هو ضد الخير - قاله في الكشاف.
ولما كان من دار عليه السوء قد لا يكون مغضوباً عيه، قال: ﴿وغضب الله﴾ أي الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه ﴿عليهم﴾، وهو عبارة عن أنه يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به. ولما كان الغضب قد لا يوجب الإهانة والإبعاد قال: ﴿ولعنهم﴾ أي طردهم طرداً سفلوا به أسفل سافلين، فبعدوا به عن كل خير.
ولما قرر ما لهم في الدارين، وكان قد يظن أنه يخص الدنيا فلا يوجب عذاب الآخرة، أتبعه بما يخصها فقال: ﴿وأعد﴾ أي هيأ الآن ﴿لهم جهنم﴾ تلقاهم بالعبوسة والغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب بالحر والبرد والإحراق، وغير ذلك من أنواع المشاق. ولما كان التقدير: فساءت معداً، عطف عليه قوله: ﴿وساءت مصيراً *﴾.
ولما كان هذا معلماً بأن الكفار - مع ما يشاهد منهم من الكثرة الظاهرة والقوة المتضافرة المتوافرة - لا اعتبار لهم لأن البلاء
290
محيط بهم في الدارين، وكان ذلك أمراً يوجب تشعب الفكر في المؤثر فيهم ذلك، عطف على ما تقديره إعلاماً بأن التدبير على هذا الوجه لحكم ومصالح يكل عنها الوصف، ودفعاً لما قد يتوهمه من لم يرسخ إيمانه مما يجب التنزيه عنه: فلله القوة جميعاً يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير سبب ترونه: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعظم ﴿جنود السماوات والأرض﴾ فهو يسلط ما يشاء منها على من يشاء.
ولما كان ما ذكر من عذاب الأعداء وثواب الأولياء متوقفاً على تمام العلم ونهاية القدرة التي يكون بها الانتقام والسطوة قال تعالى: ﴿وكان الله﴾ الملك الذي لا أمر لأحد مع أزلاً وأبداً ﴿عزيزاً﴾ يغلب ولا يغلب ﴿حكيماً *﴾ يضع الشيء في أحكم مواضعه، فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه سبحانه وتعالى.
ولما تبين أنه ليس لغيره مدخل في إيجاد النصر، وكانت السورة من أولها حضرة مخاطبة وإقبال فلم يدع أمر إلى نداء بياء ولا غيرها. وكان كأنه قيل: فما فائدة الرسالة إلى الناس؟ أجيب بقوله تقريراً لما ختم به من صفتي العزة والحكمة. ﴿إنا﴾ بما لنا من العزة والحكمة ﴿أرسلناك﴾ أي بما لنا من العظمة التي هي معنى العزة
291
والحكمة إلى الخلق كافة ﴿شاهداً﴾ على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان، من كان بحضرتك فبنفسك ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك، مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة.
ولما كانت البشارة محبوبة إلى النفوس رغبهم فيما عنده من الخيرات وحببهم فيه بصوغ اسم الفاعل منها مبالغة فيه فقال تعالى: ﴿ومبشراً﴾ أي لمن أطاع بأنواع البشائر. ولما كانت لنذارة كريهة جداً، لا يقدم على إبلاغها إلا من كمل عرفانه بما فيها من المنافع الموجبة لتجشم مرارة الإقدام على الصدع بها، أتى بصيغة المبالغة فقال تعالى: ﴿ونذيراً *﴾.
292
ولما ذكر حال الرسالة، ذكر علتها فقال: ﴿لتؤمنوا﴾ أي الذين حكمنا بإيمانهم ممن أرسلناك إليهم - هذا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب، وعلى قراءة الباقين بالخطاب المعنى. أيها الرسول ومن قضينا بهداه من أمته، مجددين لذلك في كل لحظة مستمرين عليه، وكذا الأفعال بعده، وذلك أعظم لطفاً لما في الأنس بالخطاب من رجاء الاقتراب ﴿بالله﴾ أي الذي لا يسوغ لأحد من خلقه - والكل خلقه - التوجه إلى غيره لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام ﴿ورسوله﴾
292
الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وملكاً إلى جميع خلقه.
ولما كان الإيمان أمراً باطناً، فلا يقبل عند الله إلا بدليل، وكان الإيمان بالرسول إيماناً بمن أرسله، والإيمان بالمرسل إيماناً بالرسول، وحد الضمير فقال: ﴿ويعزروه﴾ أي يعينوه ويقووه وينصروه على كل من ناواه ويمنعوه عن كل من يكيده، مبالغين في ذلك باليد واللسان والسيف، وغير ذلك من الشأن فيؤثروه على أنفسهم وغيرها، تعظيماً له وتفخيماً - هذا حقيقة المادة، وما خالفه فهو إما من باب الإزالة كالعزور بمعنى الديوث، وإما من باب الأول كاللوم والضرب دون الحد، فإنه يوجب للملوم والمضروب وتجنب ما نقم عليه فيعظم، فهو من إطلاق الملزوم على اللازم، وهو من وادي ما قيل:
عداي لهم فضل عليّ ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاقتنيت المعاليا
ولما كان المعنى يحتمل الإزالة كما ذكر، خلص المراد بقوله: ﴿ويوقروه﴾ أي يجتهدوا في حسن اتباعه في تبجيله وإجلاله بأن يحملوا عنه جميع الأثقال، ليلزم السكينة باجتماع همه وكبر عزمه لزوال ما كان يشعب فكره من كل ما يهمه ﴿ويسبحوه﴾ أي ينزهوه عن
293
كل وصمة من إخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك، ويعتقدوا فيه الكمال المطلق، والأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى، لأن من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر، فيكون إما عائداً على المذكور وإما أن يكون جعل الاسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين، في الأمر فلما اتحد أمرها وحد الضمير إشارة إلى ذلك.
ولما كانت محبة الله ورسوله ترضى منها بدون النهاية قال كائناً عن ذلك: ﴿بكرة وأصيلاً *﴾ أي وعشياً إيصاناً لما بين النهار والليل بذلك.
ولما ذكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أرسله له، وختم الآية بأنه لا يرضى من ذكره وذكر رسوله إلا بالمداومة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمداوة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمحبة من الرسول والمرسل، أوضح المراد بتوحيد الضمير بقوله مرغباً في اتباعه ومرهباً لأتباعه عن أدنى فترة أو توان فيما دخلوا فيه من الإيمان
294
الذي هو علة الرسال، وما ذكره معه في جواب من يسأل: ما سبب توحيد الضمير والمذكور اثنان؟ مؤكداً لأجل ما غلب على الطباع البشرية من التقيد بالوهم والنكوص عما غاب ولا مرشد إليه سوى العقل: ﴿إن الذين﴾.
ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره، عبر به ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال: ﴿يبايعونك﴾ أي في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة التي مبناها على المخالفة التي تتقاضى الشدائد التي عمادها الثبات والصبر، وسميت «مبايعة» لأنهم بايعوا أنفسهم فيها من الله بالجنة وهذا معنى الإسلام، فكل من أسلم فقد باع نفسه سبحانه منه ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ [التوبة: ١١١]، الآية. ﴿إنما يبايعون الله﴾ أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له ﴿وما ينطق عن الهوى﴾ [النجم: ٣].
ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول، فقال مبيناً للأول: ﴿يد الله﴾ أي
295
المتردي بالكبرياء. ولما كان منزهاً. عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال: ﴿فوق أيديهم﴾ أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة والقوة والقهر والعزة، والتنزه عن كل شائبة نقص، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن الإدراك، ثم أعاد ذكره بالضمير إيذاناً بالغيب المحض، هذا هو المراد من تعظيم البيعة وإجلال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع العلم القطعي بتنزيه الله سبحانه عن كل شائبة نقص من حلول أو اتحاد كما هو واضح في مجاري عادات العرب ظاهر جداً في دأبهم في محاوراتهم، لا يشك فيه منهم عاقل عالم أو جاهل أصلاً، فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد على من تبعهم على ذلك من الرعاع الطغام الذي شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وجميع الأئمة الأعلام، وسائر أهل الإسلام: ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين، وناهيك به في ضلال مبين.
ولما كان كلام الله تعالى - وإن جرى مجرى الشرط والتهديد لا بد أن يقع منه شيء وإن قل، وكان من سر التعبير بالمضارع «يبايعونك» الإشارة إلى نكث الجد بن قيس أصل بيعته على الإسلام
296
فإنه اختبأ في الحديبية وقت البيعة في وقت من الأوقات، فلم يبايع، سبب عن ذلك وفصل ترغيباً وترهيباً، فقال معبراً بالماضي إيذاناً بأنه لا ينكث أحد من أهل هذه البيعة: ﴿فمن نكث﴾ أي نقض في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض ﴿فإنما ينكث﴾ وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً ﴿على نفسه﴾ لا على غيرها فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل به على نكثه عذاباً أليماً، ولا يضر ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً فإن الله ناصره لا محالة، وكذا كل منكوث به إذا أراد الله نصرته فإن يده سبحانه فوق كل يد.
ولما أتم الترهيب لأنه مقامه للحث على الوفاء الذي به قيام الدين على أبلغ وجه، أتبعه على عادته الترغيب إتماماً للحث فقال تعالى: ﴿ومن أوفى﴾ أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة ﴿بما عهد﴾ وقدم الظرف اهتماماً به فقال: ﴿عليه الله﴾ أي الملك المحيط بكل
297
شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فإنما وفاؤه لنفسه ﴿فسيؤتيه﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿أجراً عظيماً *﴾ لا يسع عقولكم شرح وصفه، ومن قرأ بالنون أظهر ما ستر في الجلالة من التعظيم، والآية من الاحتباك: ذكر أولاً أن النكث عليه دليلاً على أن الوفاء له ثانياً، وإيتاء الأجر ثانياً دليلاً على إحلال العقاب أولاً وسره أنه بين أن ما يرديه الناكث من الأذى لغيره إنما هو واقع به، لأن ذلك أعظم في الترهيب عن النكث لما جبل الإنسان عليه من النفرة عن ضر نفسه وبعده عنه، وذكر الأجر للموفي لأنه أعظم في الترغيب، وسبب بيعة الرضوان هذه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فهم من بروك ناقته في الحديبية الإشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنه لم يأذن في دخولهم البلد الحرام في هذه السفرة، فمشى مع إرادته سبحانه وتعالى لأنه ليس فيها مخالفة لما أمر به سبحانه إلى أن وقع الصلح الذي كان الفتح هو بعينه، وكان في غضون ذلك أن أرسل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى مكة المشرفة ليخبر قريشاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجئ لقتال وأنه لا يريد إلا الاعتمار، فأرجف مرجفون بأنه قد قتل، فعزم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مناجزتهم فبايع الصحابة
298
رضي الله عنهم على أن لا يفروا عنه، فبايع كل من كان معه إلا جد بن قيس، فإنه اختبأ تحت إبط بعيره فلم يبايع، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر «.
299
ولما ذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان، وأضافهم إلى حضرة الرحمن، تشوف السامع إلى الخبر عمن غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة، فاستؤنف الإخبار عما ينافقون به بقوله تعالى: ﴿سيقول﴾ أي بوعد لا خلف فيه، وأكد أمر نفاقهم تنبيهاً على جلدهم فيه ووقاصهم به ولطف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشدة رحمته ورفقه وشفقته فقال: ﴿لك﴾ أي لأنهم يعلمون أنك ألطف الخلق عشرة وأعظمهم شفقة على عباد لله، فهم يطمعون في قبولك من فساد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين، وغاب عنهم - لما عندهم من غلظ الأكباد أن الكذب بحضرتك في غاية القباحة لأنك أعظم الخلق وأفطنهم، مع ما يأتيك من الأنباء عن علام الغيوب، وحقر أمرهم بسلب العقل عنهم وجعلهم مفعولين لا فاعلين إشارة إلى أنهم طردوا عن هذا المقام، لأنهم أشرار لئام، فقال تعالى ﴿المخلفون﴾ أي الذين - خلفهم الله عنك ولم يرضهم
299
لصحبتك في هذه العمرة، فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان، لأنه لا فائدة فيه فلا يؤبه له ولا يعبأ به، وذلك إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الاعتمار ندب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لذلك، وندب من الأعراب الذين حول المدينة الشريفة من كان قد أقر بالإسلام، فلم يرد الله حضورهم لأن إسلامهم لم يكن خالصاً فلو حضروا لفسد بهم الحال، وإن حفظ الله بحوله وقوته من الفساد، أعقب ذلك فساداً آخر وهو أن يقال: إنه لم يكف عنهم الأعداء إلا الكثرة، فتخلفوا لما علم الله في تخلفهم من الحكم.
ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضراً معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقلب أخرجهم بقوله: ﴿من الأعراب﴾ أي أهل البادية كذباً وبهتاناً جرأة على الله ورسوله ﴿شغلتنا﴾ أي عن إجابتك في هذه العمرة ﴿أموالنا وأهلونا﴾ أي لأنا لو تركناها ضاعت، لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم: ﴿فاستغفر﴾ أي اطلب المغفرة ﴿لنا﴾ من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا.
ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له، رده تعالى بقوله منبهاً
300
على أن من صدق مع الله لم يشغله عن شاغل، ومن شغله عنه شيء كان شوماً عليه: ﴿يقولون﴾ وعبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا ديدن لهم لا ينفكون عنه. ولما صح بعد ذلك إيمان، لم يعبر بالأفواه دأبه، في المنافقين، بل قال: ﴿بألسنتهم﴾ أي في الشغل والاستغفار، وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله: ﴿ما ليس في قلوبهم﴾ لأنهم لم يكن شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار.
ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظناً منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل: قد علم كذبهم، فماذا يقال لهم؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عاقبته: ﴿فمن يملك لكم﴾ أيها المخادعون ﴿من الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له ﴿شيئاً﴾ يمنعكم منه ﴿إن أراد بكم﴾ أي خاصة ﴿ضراً﴾ أي نوعاً من أنواع الضرر عظيماً أو حقيراً، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما
301
فلا ينفعها حضوركم أو أهلككم أنتم ﴿أو أراد بكم نفعاً﴾ بحفظهما به مع غيبتكم فلا يضرها بعدكم عنها، ويحفظكم في أنفسكم، وقد علم من تصنيفه سبحانه حالهم إلى صنفين مع الإبهام أنه يكون لبعضهم الضر لأن منهم من ارتد في زمن الردة، ولبعضهم النفع لأنه ثبت على الإسلام.
ولما كان التقدير قطعاً: لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئاً من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه، فعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيراً مما تعملون، فيخفى عليه كذبكم، وليس الأمر كما ظننتم فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى: ﴿بل كان الله﴾ أي المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرة علماً ﴿بما تعملون﴾ أي الجهلة ﴿خبيراً *﴾ أي يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
ولما أضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عليه بأمر عام، وقدمه لأنه أعم نفعاً بما فيه من الشمول، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال: ﴿بل﴾ أي ليس تخلفكم لما أخبرتم به من الاشتغال بالأهل والأموال ﴿ظننتم﴾ وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة، ليس لكم نفوذ إلى البواطن، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال: ﴿أن لن ينقلب﴾ ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث
302
والمسير، قال مشيراً إلى أن من أرسل رسولاً إلى شيء وهو لا يقدر على نصره ليبلغ ذلك الشيء إلى الغاية التي أرادها منه كان عاجزاً عما يريد: ﴿الرسول﴾ وعظم التابعين فقال: ﴿والمؤمنون﴾ معبراً بما يحق لهم من الوصف المفهم للرسوخ وأفهم تأكيد ذلك عندهم بقوله تعالى: ﴿إلى أهليهم أبداً﴾ أي لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم: ما هم في قريش إلا أكلة رأس.
ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب، قال مشيراً بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في الحقيقة: ﴿وزين ذلك﴾ أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا ﴿في قلوبكم﴾ حتى أحببتموه.
ولما علم أن ذلك سوء، صرح به على وجه يعم غيره فقال: ﴿وظننتم﴾ أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه ﴿ظن السوء﴾ أي الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به. ولما انكشف جميع أمره كشف أثره فقال: ﴿وكنتم﴾ أي بالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة ﴿قوماً﴾
303
أي مع قوتكم على ما تحاولونه ﴿بوراً *﴾ أي في غاية الهلاك والكساد والفساد، وعدم الخير لأنكم جبلتم على ذلك الفساد، فلا انفكاك لهم عنه، وهذا كما مضى بالنظر إلى الجميع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير، وثبتوا فلم يرتدوا.
ولما كان التقدير: ذلك لأنكم لم تؤمنوا، فمن آمن منكم ومن غيركم وأخلص، أبحناه جنة وحريراً، عطف عليه قوله معمماً: ﴿ومن لم يؤمن﴾ منكم ومن غيركم ﴿بالله﴾ أي الذي لا موجود في الحقيقة سواه ﴿ورسوله﴾ أي الذي أرسله لإظهار دينه وهو الحقيق بالإضافة إليه، معبراً عنه بالاسم الأعظم، وللزيادة في تعظيمه وتحقير شانئه وتوهية كيد التفت إلى مقام التكلم بمظهر العظمة فقال: ﴿فإنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿أعتدنا﴾ له أو لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال معلقاً للحكم بالوصف إيذاناً بأن من لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر، وإن السعير لمن كان كفره راسخاً فقال تعالى: ﴿للكافرين﴾ أي الذين لا يجمعون الإيمان بالمرسل والرسول فيكونون بذلك كفاراً، ويستمرون على وصف الكفر لأنهم جبلوا عليه ﴿سعيراً *﴾ أي ناراً شديدة الإيقاد والتلهب، فهي عظيمة الحر توجب الجنون
304
وإيقاد الباطن بالجوع بحيث لا يشبع صاحبه والانتشار بكل شر، فإن التنكير هنا للتهويل والتعظيم، وهذه الآية مع ما أرشد السياق إلى عطفها عليه ممن يؤمن دالة - وإن كانت في سياق الشرط - على أن أكثرهم يخلص إيمانه بعد ذلك.
ولما انقضى حديث الجنود عامة ثم خاصة من المنتدبين والمخلصين وختم بعذاب الكافرين، وكان المتصرف في الجنود ربما كان بعض خواص الملك، فلا يكون تصرفه فيهم تاماً، وكان الملك قد لا يقدر على عذاب من أراد من جنوده، وكان إذا قدر قد لا يقدر على العذاب بكل ما يريده من السعير الموصوف وغيره لعدم عموم ملكه قال تعالى عاطفاً على آية الجنود: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعظم وحده ﴿ملك السماوات والأرض﴾ أي من الجنود وغيرها، يدبر ذلك كله كيف يشاء لا راد لحكمه ولا معقب.
ولما لم يكن في هؤلاء من عذب بما عذب الأمم الماضية من الريح وغيرها، لم يذكر ما بين الخافقين، وذكر نتيجة التفرد بالملك
305
بما يقتضيه الحال من الترغيب والترهيب: ﴿يغفر لمن يشاء﴾ أي لا اعتراض لأحد عليه بوجه ما ﴿ويعذب من يشاء﴾ أي لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافيه شيء، وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة، وعلم من هذا التقسيم المبهم أيضاً أن منهم من يرتد فيعذبه، ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك، لأنه لا يسأل عما يفعل وملكه تام، فتصرفه فيه عدل كيفما كان. ولما كان من يفعل الشيء في وقت قد لا يستمر على وصف القدرة عليه قال تعالى: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً، لم يتجدد له شيء لم يكن. ولما ابتدأ الآية بالمغفرة ترغيباً في التوبة، ختم بذلك لأن المقام له، وزاد الرحمة تشريفاً لنبي المرحمة بالترغيب والدلالة على أن رحمته غلبت غضبه فقال: ﴿غفوراً﴾ أي لذنوب المسيئين ﴿رحيماً *﴾ أي مكرماً بعد الستر بما لا تسعه العقول، وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام. ولما ذم المخلفين بما منه - أي من الذم - أنهم هالكون بعد أن قدم أنه لعنهم، وكان قد وعد
306
سبحانه أهل الحديبية فتح خيبر جبراً لهم بما منعهم من الاستيلاء على مكة المشرفة لما له في ذلك من الحكم البالغة الدقيقة، وختم بأنه نافذ الأمر، وكان ذلك مستلزماً لإحاطة العلم، دل على كلا الأمرين بقوله استئنافاً، جواباً لمن كأنه قال: هل يغفر للمخلفين حتى يكونوا كأنهم ما تخلفوا؟ :﴿سيقول﴾ أي بوعد لا خلف فيه.
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحيث لا مطمع لأحد فى أن يظفر منه بشيء من خلاف الأمر الله، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال: ﴿المخلفون﴾ أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم ﴿إذا انطلقتم﴾ بتمكين الله لكم ﴿إلى مغانم﴾.
ولما أفهم اللفظ الأخذ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال: ﴿لتأخذوها﴾ أي من خيبر ﴿ذرونا﴾ أي على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية ﴿نتبعكم﴾ ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم، علل تعالى قولهم بقوله: ﴿يريدون﴾ أي بذهابكم معكم ﴿أن يبدلوا كلام الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة
307
وعلماً في الإخبار بلعنهم وإبارتهم، وأن فتح خيبر مختص بأهل الحديبية، لا يشركهم فيه إلا من وافقهم في النية والهجرة، ليتوصلوا بذلك إلى تشكيك أهل الإسلام فيه، والمراد أن فعلهم فعل من يريد ذلك، ولا يبعد أن يكونوا صنفين: منهم من يريد ذلك، ومنهم من لم يرده ولكن فعل من يريده.
ولما كان السامع جديراً بأن يسأل عما يقال لهم، قال مخاطباً لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام: ﴿قل﴾ أي يا حبيب لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم، قولاً مؤكداً: ﴿لن تتبعونا﴾ وإن اجتهدتم في ذلك، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي، لأنه مع كونه آكد يكون علماً من أعلام النبوة، وهو أزجر وأدل على الاستهانة.
ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من لا يخالف أصلاً في مراده، بينه تعالى بقوله: ﴿كذلكم﴾ أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة ﴿قال الله﴾ أي الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا ﴿من قبل﴾ هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر «خيبر» المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية،
308
وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيّرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا، فطلبوا أن يخرجوا معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعوا فلم يحضرها غيرهم أحد، وذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فأقام إلى أثناء محرم سنة سبع، وخرج بأهل الحديبية إلى خيبر ففتحها الله عليه، وأخذ جميع أموالها من المنقولات والعقارات، وأتى إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بها بعد فتحها ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض من معهم من مهاجرة الحبشة، فأشركهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أهل الحديبية لأنهم لم يكونوا مخلفين بل كانوا متخلفين لعذر عدم الإدراك.
ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية، سبب عن قولهم له ذلك تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم: ﴿فسيقولون﴾ : ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله ﴿بل﴾ إنما ذلكم لأنكم ﴿تحسدوننا﴾ فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء. ولما كان التقدير: وليس الأمر كما زعموا، رتب عليه قوله: ﴿بل كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿لا يفقهون﴾ أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر ﴿إلا قليلاً *﴾ في أمر دنياهم، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.
309
ولما كان ذلك يوقع في نفس السامع السؤال عن هذا الطرد: هل يستمر؟ أجيب بأنهم سيمتحنون بأمر شاق يحدثه الله للتمييز بين الخلص وغيرهم، فقال مكرراً لوصفهم بالتخلف إعلاماً بأنهم في الحقيقة ما تخلفوا، بل منعوا طرداً لهم وإبعاداً معذباً لهم بما خلفهم عن اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه العمرة من الخوف من قتال قريش لشدة بأسهم كما أثاب المحبين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضد ما عزموا عليه من القتال إلى النصر أو الموت من كف أيديهم عنهم بما جعله الله سبباً للفتح الأعظم والتفرغ لفتح خيبر وأخذ غنائمها الكثيرة من غير كبير كلفة ﴿قل﴾ يا أعظم الخلف ﴿للمخلفين﴾ وزاد في ذمهم بنسبتهم إلى الجلافة فقال: ﴿من الأعراب﴾ أي أهل غلظ الأكباد، ويجوز أن يكون هذا القيد للاحتراز عن المخلفين من أهل المدينة فيكون إشارة إلى أن الأعراب ينقسمون عند هذا الدعاء إلى مطيع وعاص - كما أشار إليه تقسيمه سبحانه لهم - وأن المخلفين من أهل المدينة لمثل ما اعتل به الأعراب لا مطمع في صلاحهم: ﴿ستدعون﴾ بوعد لا خلف فيه بإخبار محيط العلم والقدرة دعوة محيطة ونفيراً عاماً لما أفهمه الإسناد إلى جميعهم من داع صحت إمامته
310
فوجبت طاعته، ودل على بعدهم من أرضهم بقوله تعالى: ﴿إلى قوم﴾.
ولما أفهم التعبير بذلك أن لهم قوة وشدة على ما يحاولونه، أوضح المعنى بقوله: ﴿أولي بأس﴾ أي شدة في الحرب وشجاعة مع مكر ودهاء ﴿شديد﴾. ولما كان المعنى كأنه قيل: لماذا؟ قال تعالى: ﴿تقاتلونهم﴾ أي بأمر إمامكم ﴿أو يسلمون﴾ أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا: المقاتلة منكم أو الإسلام منهم، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير، وإن أسلموا لم يكن قتال، لأن الإمام لا غرض له إلا إعلاء كلمة الله، ولا يكون شيء غير هذين الأمرين من إبقاء بجزية أو مصالحة أو متاركة إلى مدة، ونحو ذلك، وهذا الداعي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والقوم بنو حنيفة وغيرهم من أهل الردة الذين كان الدعاء لهم أول خلافة الصديق رضي الله عنه، وأما قول من قال: إنهم ثقيف، فضعيف، لأن الدعاء لم يكن إليهم إنما كان المقصود بالذات فتح مكة، وكان أمر هوازن وثقيف وغيرهما تبعاً له في غزوته، لم يكن بينهم شيء، وأيضاً فإن ثقيف لما عسر أمرهم تركهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أسلموا بعد ذلك، وترك أيضاً فلاّل هوازن فلم يتبعهم ولم يؤمر باتباعهم، فظاهر الآية أنه إذا انتشب القتال لم يترك إلا أن حصل الإسلام، والقول بأنهم فارس والروم ضعيف أيضاً، فإن كلاًّ منهم
311
تقبل منه الجزية، وتأويله بأنه إسلام لغوي لا داع له مع إمكان الحقيقة، وقد كان ما أشار إليه التقسيم فإنهم لما دعوا إليهم انقسموا إلى مجيب وهم الأكثر، وقد آتاهم الله الأجر الحسن في الدنيا بالغنيمة والذكر الجميل وهو المرجو في الآخرة، ومرتد وهم قليل وقد أذاقهم الله العذاب الأليم في الدنيا بالقتل على أقبح حال، وهو يذيقهم في الآخرة أعظم النكال، وأما قتال غير العرب فأطاع فيه الكل ولم يحصل فيه ما أشير إليه من التقسيم، فتحقق بهذا أنهم أهل الردة - والله الموفق، ولذلك سبب عن دعوة الحق قوله مردداً القول في حالهم مبهماً له إشارة إلى أنهم عند الدعاء ينقسمون إلى مقبل ومتول: ﴿فإن تطيعوا﴾ أي توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك، وهو أبو بكر رضي الله عنه ﴿يؤتكم الله﴾ أي الذي له الإحاطة والقدرة على الإعطاء والمنع، لا راد لأمره ﴿أجراً حسناً﴾ دنيا وأخرى، جعل الله طاعة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر بالخصوص كطاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي طاعته طاعة الله، جزاء له على خصوصه في مزيد تسليمه لما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلح وثباته بما أجاب به عمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير أن يكون حاضراً له كما هو معلوم من السيرة.
312
ولما كانت مخالفة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يقوم مقامه لا تكون إلا من منازعة في الفطرة الأولى ومعالجة لها، عبر بالتفعل فقال: ﴿وإن تتولوا﴾ عن قبول دعوته عصياناً ﴿كما توليتم﴾ أي عالجتم أنفسكم وكلفتموها التولي بالتخلف عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿من قبل﴾ أي بعض الأزمان التي تقدمت على هذا الدعاء، وذلك في الحديبية ﴿يعذبكم﴾ أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ﴿عذاباً أليماً *﴾ لأجل تكرر ذلك منكم.
ولما توعد المتخلفين بتخلفهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم توعدهم في التقاعد عن هذا الإمام القائم بعده بالحق، وكان أهل الأعذار لا يتيسر لهم ما أريد بهذا الدعاء، وكان الدين مبنياً على الحنيفية السمحة، استأنف قوله تعالى مسكناً لما اشتثاره الوعيد من روعهم: ﴿ليس على الأعمى﴾ أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مع غيره من أئمة الدعاء ﴿حرج﴾ أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار من روع المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال: ﴿ولا على الأعرج﴾ وإن كان
313
نقصه أدنى من نقص العمى ﴿حرج﴾ وجعل كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم.
ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد، عم بقوله: ﴿ولا على المريض﴾ أي بأيّ مرض ﴿حرج﴾ فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية، وأطلب الحرج المنفي ليقبل التقدير بالتخلف ولا حاجة لأن حضورهم لا يخلو عن نفع في الجهاد، وذكر هكذا دون أسلوب الاستثناء إيذاناً بأنهم لم يدخلوا في الوعيد أصلاً حتى يخرجوا منه.
ولما بشر المطيعين لتلك الدعوة وتوعد القاعدين عنها وعذر المعذورين، وكانت إجابة المعذورين جائزة، بل أرفع من قعودهم، ولذلك لم ينف إجابتهم إنما نفى الحرج، قال معمماً عاطفاً على ما تقديره: فمن تخلف منهم فتخلفه مباح له: ﴿ومن يطع الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً ﴿ورسوله﴾ من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته ﴿يدخله﴾ أي الله الملك الأعظم جزاء له ﴿جنات تجري﴾ ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً ﴿ومن يتول﴾ أي كائناً من كان من المخاطبين الآن وغيرهم، عن
314
طاعة من الطاعات التي أمرا بها من أي طاعة كانت ﴿يعذبه﴾ أي على توليه في الدارين أو إحداهما ﴿عذاباً أليماً *﴾ وقراءة أهل المدينة والشام ﴿ندخله ونعذبه﴾ بالنون أظهر في إرادة العظمة لأجل تعظيم النعمة والنقمة.
315
ولما وعد المطيع وأوعد العاصي، وكانت النفوس إلى الوعد أشد التفاتاً، دل عليه بثواب عظيم منه أمر محسوس يعظم جذبه للنفوس القاصرة عن النفوذ في عالم الغيب، فقال مؤكداً لأن أعظم المراد به المذبذبون، مفتتحاً بقد لأن السياق موجب للتوقع لما جرى من السنة الإلهية أنها إذا شوقت إلى شيء دلت عليه بمشهود يقرب الغائب الموعود: ﴿لقد رضي الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال ﴿عن المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان، أي فعل معهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدر له من الثواب، وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة، فالآيات تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة.
ولما ذكر الرضى، ذكر وقته للدلالة على سببه فقال: ﴿إذ﴾ أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: ﴿يبايعونك﴾ في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت، فبعثت عثمان رضي الله عنه إليهم ليخبرهم بأنك لم تجىء
315
لقتال وإنما جئت للعمرة، فبلغك أنهم قتلوه فندبت إلى البيعة لمناجزتهم فبايعك كل من كان معك على أن لا يفروا لتناجز بهم القوم؛ وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله: ﴿تحت الشجرة﴾ واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان، وروى البغوى من طريق الثعلبي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم، سبب عنه قوله: ﴿فعلم﴾ أي لما له من الإحاطة ﴿ما في قلوبهم﴾ أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين، وسبب عن هذا العلم ترغيباً في مثل هذا المحدث عنهم قوله: ﴿فأنزل السكينة﴾ أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله، ودل على عظمها بحيث إنها تغلب الخوف وإن عظم بقوله: ﴿عليهم﴾ فأثر ذلك أنهم لم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، لا أثر الصلح بما يتراءى فيه من الضعف وغيره من مخايل النقص في قلوبهم في ذلك المقام الدحض
316
والمواطن الضنك إلا ريثما رأوا صدق عزيمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضى أمره في ذلك بما يفعل ويقول.
ولما ذكر منّه سبحانه وتعالى عليهم بما هو الأصل الذي لا يبنى إلا عليه، أتبعه آثاره فقال: ﴿وأثابهم﴾ أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء، مقبلاً عليهم، يملأ مواضع احتياجهم، هو أهل لأن يقصده الإنسان ويتردد في طلبه لما له من الإقبال والمكنة والشمول ﴿فتحاً﴾ بما أوقع سبحانه من الصلح المترتب على تعجيز قريش عن القتال ﴿قريباً *﴾ بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح المكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
ولما ذكر الفتح ذكر بعض ثمرته فقال: ﴿ومغانم﴾ فنبه بصيغة منتهى الجموع إلى أنها عظيمة، ثم صرح بذلك في قوله: ﴿كثيرة﴾ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما هو بالقوة دون الفعل، أزال ذلك بقوله تعالى ﴿يأخذونها﴾ وهي خيبر. ولما كان ذلك مستبعداً لكثرة الكفار وقلة المؤمنين، بين سببه فقال عاطفاً على ما تقديره: بعزة الله وحكمته: ﴿وكان الله﴾ أي الذي لا كفوء له ﴿عزيزاً﴾ أي يغلب ولا يغلب ﴿حكيماً *﴾ يتقن ما يريد فلا ينقض.
317
ولما قرب ذلك وتأكد وتحرر وتقرر، أقبل سبحانه وتعالى عليهم بالخطاب تأكيداً لمسامعهم فقال مزيلاً لكل احتمال يتردد في خواطر المخلفين: ﴿وعدكم الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿مغانم﴾ وحقق معناها بقوله: ﴿كثيرة تأخذونها﴾ أي فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر، ثم سبب عن هذا الوعد قوله: ﴿فعجل لكم﴾ أي منها ﴿هذه﴾ أي القضية التي أوقعها بينكم وبين قريش من وضع الحرب عشر سنين، ومن أنكم تأتون في العام المقبل في مثل هذا الشهر معتمرين فإنها سبب ذلك كله، عزاه أبو حيان لابن عباس رضي الله عنهما وهو في غاية الظهور، ويمكن أن يكون المعنى: التي فتحها عليكم من خيبر من سببها وأموالها المنقولات وغيرها ﴿وكف أيدي الناس﴾ أي من أهل خيبر وحلفائهم أسد وغطفان أن يعينوا أهل خيبر أو يغيروا على عيالاتكم بعد ما وهموا بذلك بعد ما كف أيدي قريش ومن دخل في عهدهم بالصلح ﴿عنكم﴾ على ما أنتم فيه من القلة والضعف.
ولما كان التقدير: رحمة لكم على طاعتكم لله ورسوله وجزاء لتقوى أيديكم، وتروا أسباب الفتح القريبة بما يدخل من الناس في دينكم عند المخاطبة بسبب الإيمان، عطف عليه قوله: ﴿ولتكون﴾ أي هذه
318
الأسباب من الفتح والإسلام ﴿آية﴾ أي علامة هي في غاية الوضوح ﴿للمؤمنين﴾ أي منكم على دخول المسجد الحرام آمنين في العمرة ثم في الفتح ومنكم ومن غيركم من الراسخين في الإيمان إلى يوم القيامة على جميع ما يخبر الله به على ما وقع التدريب عليه في هذا التدبير الذي دبره لكم من أنه لطيف يوصل إلى الأشياء العظيمة بأضداد أسبابها فيما يرى الناس فلا يرتاع مؤمن لكثرة المخالفين وقوة المنابذين أبداً، فإن سبب كون الله مع العبد هو الاتباع بالإحسان الذي عماده الرسوخ في الإيمان الذي علق الحكم به، فحيث ما وجد عليه وجد المعلق وهو النصر بأسباب جلية أو خفية ﴿ويهديكم﴾ في نحو هذا الأمر الذي دهمكم فأزعجكم بالثبات عند سماع الموعد والوعيد والثقة بمضمونه لأنه قادر حكيم، فهو لا يخلف الميعاد بأن يهديكم ﴿صراطاً مستقيماً﴾ أي طريقاً واسعاً واضحاً موصلاً إلى الكرامة من غير شك، وهذا من أعلام النبوة فإنه لم يزغ أحد من المخاطبين بهذه الآية وهم أهل الحديبية وكأنه والله أعلم لذلك لم يقل: ويهديهم - بالغيب على ما اقتضاه السياق لئلا يغم غيرهم ممن يظهر صدقه في الإيمان ثم يزيغ، ولذا أكثر تفاصيل هذه السورة من أعلام النبوة، فإنه وقع الإخبار به قبل وقوعه.
ولما سرهم سبحانه بما بشرهم به من كون القضية فتحاً
319
ومن غنائم خيبر، أتبع ذلك البشارة دالاً على أنها لا مطمع لهم في حوزه ولا علاجه لولا معونته فقال: ﴿وأخرى﴾ أي ووعدكم مغانم كثيرة غير هذه وهي - والله أعلم - مغانم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقرون فيها إلا من لا يمكنه في العادة أن يهزمهم ليحوي الغنائم، فكان ما في علمه تعالى لتحققه كالذي وقع وانقضى، قال تعالى: ﴿لم تقدروا﴾ أي بما علمتم من قراركم ﴿عليها﴾ ولما توقع السامع بعد علمه بعجزهم عنها الإخبار عن السبب الموصل إلى أخذها بما تقرر عند من صدق الوعد بها، قال مفتتحاً بحرف التوقع: ﴿قد أحاط الله﴾ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿بها﴾ فكانت بمنزلة ما أدير عليه سورة مانع من أن يغلب منها شيء عن حوزتكم أو يقدر غيركم أن يأخذ منها شيئاً، ولذلك وللتعميم ختم الآية بقوله: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً ﴿على كل شيء﴾ منها ومن غيرها ﴿قديراً *﴾ بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم.
320
ولما قدم سبحانه أنه كف أيدي الناس عنكم أجمعين، ذكر حكمهم لو وقع قتال، فقال مقرراً لقدرته عاطفاً على نحو: فلو أراد لمكنكم من الاعتمار، مؤكداً لأجل استبعاد من يستبعد ذلك من الأعراب وغيرهم:
320
﴿ولو قاتلكم﴾ أي في هذا الوجه ﴿الذين كفروا﴾ أي أوقعوا هذا الوصف من الناس عموماً الراسخ فيه ومن دونه، وهم أهل مكة ومن لاقهم، وكانوا قد اجتمعوا وجمعوا الأحابيش ومن أطاعهم وقدموا خالد بن الوليد طليعة لهم إلى كراع الغميم، ولم يكن أسلم بعد ﴿لولوا﴾ أي بغاية جهدهم ﴿الأدبار﴾ منهزمين.
ولما كان عدم نصرهم بعد التولية مستبعداً أيضاً لما لهم من كثرة الإمداد وقوة الحمية، قال معبراً بأداة البعد: ﴿ثم﴾ أي بعد طول الزمان وكثرة الأعوان ﴿لا يجدون﴾ في وقت من الأوقات ﴿ولياً﴾ أي يفعل معهم فعل القريب من الحياطة والشفقة والحراسة من عظيم ما يحصل من رعب تلك التولية ﴿ولا نصيراً *﴾.
ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم، وأن جندنا لهم الغالبون، قال تعالى: ﴿سنة الله﴾ أي سن المحيط بهذا الخلق في هذا الزمان وما بعده كما كان محيطاً بالخلق في قديم الدهر، ولذلك قال: ﴿التي قد خلت﴾ أي سنة مؤكدة لا تتغير، وأكد الجار لأجل أن القتال ما وقع الزمان الماضي إلا بعد نزول التوراة فقال: ﴿من قبل﴾ وأما قبل ذلك فإنما كان يحصل الهلاك بأمر من عند الله بغير أيدي المؤمنين ﴿ولن تجد﴾ أيها
321
السامع ﴿لسنة الله﴾ الذي لا يخلف قولاً لأنه محيط بجميع صفات الكمال ﴿تبديلاً *﴾ أي تغيراً من مغير ما، يغيرها بما يكون بدلها.
ولما تقرر أن الكفار مغلوبون وإن قاتلوا، وكان ذلك من خوارق العادات مع كثرتهم دائماً وقلة المؤمنين حتى يأتي أمر الله موقعاً للعلم القطعي بأنه ما دبره إلا الواحد القهار القادر المختار، عطف عليه عجباً آخر وهو عدم تغير أهل مكة في هذه العمرة للقتال بعد تعاهدهم وتعاقدهم عليه مع ما لهم من قوة العزائم وشدة الشكائم، فقال عاطفاً على ما تقديره: هو الذي سن هذه السنة العامة: ﴿وهو الذي كف﴾ أي وحده من غير معين له على ذلك ﴿أيديهم﴾ أي الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم، فإن الكل شرع واحد ﴿عنكم وأيديكم﴾ أيها المؤمنون ﴿عنهم﴾.
ولما كان الكفار لو بسطوا أيديهم مع ما حتمه الله وسنه من تولية الكفار دخلوا مكة قال: ﴿ببطن مكة﴾ أي كائناً كل منكم ومنهم في داخل مكة هم حالاً وأنت مآلاً، وعن القفال أنه قال: يجوز أن يراد به الحديبية لأنها من الحرم - انتهى.
وعبر بالميم دون الباء كما في آل عمران إشارة إلى أنه فعل هنا ما اقتضاه مدلول هذا الاسم من الجمع والنقض والتنقية، فسبب لهم أسباب الاجتماع والتنقية من الذنوب -
322
بما أشارت إليه آية العمرة حالاً وآيات الفتح مآلاً، ووفى بما يدل عليه اسمها من الأهل على خلاف القياس.
ولما كان هذا ليس مستغرقاً لجميع الزمان الآتي، بل لا بد أن يبسط أيدي المؤمنين بها يوم الفتح، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من بعد أن أظفركم﴾ أي أوجد فوزكم بكل ما طلبتم منهم وجعل لكم الطول والعز ﴿عليهم﴾ وذلك فيما رواه أصحاب. السير قالوا: ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له فقال له التغلب: ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعثت قريش أربعين رجلاً منهم أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً فأتى بهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكره بالحجارة والنبل، ثم ذكروا إرساله صلّى الله عليه وسلم
323
لعثمان رضي الله عنه إلى مكة ثم إرسال قريش لسهيل بن عمرو في الصلح، وروى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في أصلها فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا آل المهاجرين: قتل ابن زنيم، فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثاً في يدي، ثم قلت والذي كرم وجه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء عمي عامر رضي الله عنه برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه، فعفا عنهم فأنزل الله تعالى
324
﴿وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم﴾ الآية - انتهى. وروى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم، وفي رواية النسائي: قالوا: نأخذ محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأخذهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلماً فاستحياهم فأنزل الله عز وجل ﴿وهو الذي كف أيديهم عنكم﴾ الآية.
ولما كان هذا ونحوه من عنف أهل مكة وغلظتهم وصلابتهم وشدتهم ورفق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولينه لهم مما أحزن أغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال تعالى يسليهم: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بالجلال والإكرام ﴿بما يعملون﴾ أي الكفار - على قراءة أبي عمرو بالغيب، وأنتم - على قراءة الباقين بالخطاب في ذلك الوقت وفيما بعده كما كان قبله ﴿بصيراً *﴾ أي محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره فهو يجريه في هذه الدار التي ربط فيها المسببات بأسبابها على أوثق الأسباب في نصركم وغلبكم لهم وقسركم، وستعلمون ما دبره من دخولكم مكة المشرفة آمنين لا تخافون في عمرة القضاء صلحاً ثم في الفتح بجحفل جرار قد نيطت أظفار المنايا بأسنة رماحه، وعادت
325
كؤوس الحمام طوعاً لبيض صفاحه، فيؤمن أكثر أهل مكة وغيرهم ممن هو الآن جاهد عليكم، ويصيرون أحب الناس فيكم يقدمون أنفسهم في جهاد الكفار دونكم، فيفتح الله بكم البلاد، ويظهركم - وهو أعظم المحامين عنكم - على سائر العباد.
ولما كان ما مضى من وصفهم على وجه يشمل غيرهم من جميع الكفار، عينهم مبيناً لسبب كفهم عنهم مع استحقاقهم في ذلك الوقت للبوار والنكال والدمار فقال: ﴿هم﴾ أي أهل مكة ومن لافهم ﴿الذين كفروا﴾ أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم ﴿وصدوكم﴾ زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه ﴿عن المسجد الحرام﴾ أي مكة، ونفس المسجد الحرام، والكعبة، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة ﴿والهدي﴾ أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء، ومنه أربعون، وفي رواية: سبعون بدنة، كان أهداها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿معكوفاً﴾ أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله ﴿أن يبلغ محله﴾ أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وهو في العمرة المروة، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم، فالموضع الذي نحر فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه
326
المرة عند الإحصار ليس محله المطلق.
ولما كان التقدير: فلولا ما أشار إليه من ربط المسببات بأسبابها لسلطكم عليهم فغلبتموهم على المسجد وأتممتم عمرتكم على ما أردتم، ثم عطف عليه أمراً أخص منه فقال: ﴿ولولا رجال﴾ أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة ﴿مؤمنون﴾ أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية ﴿ونساء مؤمنات﴾ أي كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً ﴿لم تعلموهم﴾ أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب، ثم أبدل من «الرجال والنساء» قوله: ﴿أن تطؤهم﴾ أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب منه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«آخر وطأة وطئها الله بوج» يكون ذلك الأذى منكم لهم على ظن أنهم مشركون أذى الدائس لمدوس
327
وتضغطوهم وتأخذوهم أخذاً شديداً بقهر وغلبة تصيرون به لا تردون يد لامس ولا تقدرون على مدافعة ﴿فتصيبكم﴾ أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم ﴿منهم﴾ أي من جهتهم وبسببهم ﴿معرة﴾ أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص، وبعدم الإمعان في البحث، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له، ثم علق بالوطء المسبب عنه إصابة المعرة إتماماً للمعنى قوله: ﴿بغير علم﴾ أي بأنهم من المؤمنين.
ولما دل السياق على أن جواب «لولا» محذوف تقديره: لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم، ولكنه علم ذلك، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم عليهم بأمر سهل، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه ﴿ليدخل الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿في رحمته﴾ أي إكرامه وإنعامه ﴿من يشاء﴾ من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه، ولما كان ذلك، أنتج قوله تعالى: ﴿لو تزيلوا﴾ أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً عظيماً بحيث لا يختلط صنف
328
بغيره فيؤمن وطء المؤمنين له بغير علم ﴿لعذبنا﴾ أي بأيديكم بتسليطنا أبو بمجرد أيدنا من غير واسطة ﴿الذين كفروا﴾ أي أوقعوا ستر الإيمان.
ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض، صرح بما دل عليه السياق فقال: ﴿منهم﴾ أي الفريقين وهم الصادون ﴿عذاباً أليماً *﴾ أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار، ففيه اعتذار وتدريب على تأدب بعضهم مع بعض، وفي الإشارة إلى بيان سر من أسرار منع الله تعالى لهم من التسليط عليهم حث للعبد على أن لا يتهم الله في قضائه فربما عسر عليه أمراً يظهر له أن السعادة كانت فيه وفي باطنه سم قاتل، فيكون منع الله له منه رحمة في الباطن وإن كان نقمة في الظاهر، فألزم التسليم مع الاجتهاد في الخير والحرص عليه والندم على فواته وإياك والاعتراض، وفي الآية أيضاً أن الله تعالى قد يدفع عن الكافر لأجل المؤمن.
329
ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب، بين وقته، وفيه بيان لعلته، فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿جعل الذين كفروا﴾ أي ستروا ما تراءى من الحق في مرأى عقولهم ﴿في قلوبهم﴾ أي قلوب أنفسهم ﴿الحمية﴾ أي
329
المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار، ولما كان مثل هذه الحمية قد تكون موجبة للرحمة بأن تكون لله، قال مبيناً معظماً لجرمها، ﴿حمية الجاهلية﴾ التي مدارها مطلق المنع أي سواء كان بحق أو بباطل، فتمنع من الإذعان للحق، ومبناها التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع، ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء، ومن الإقرار بالبسملة، فأنتجت لهم هذه الحمية أن تكبروا عن كلمة التقوى وطاشوا وخفوا إلى الشرك الذي هو أبطل الباطل.
ولما كانت هذه الحمية مع الكثرة موجبة ولا بد ذل من تصوب إليه ولا سيما إن كان قليلاً، بين دلالة على أن الأمر تابع لمشيئته لا لجاري العادة أنه تأثر عنها ضد ما تقتضيه عادة، فقال مسبباً عن هذه الحمية: ﴿فأنزل الله﴾ أي الذي لا يغلبة شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم ﴿سكينته﴾ أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه، إنزالاً كائناً ﴿على رسوله﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عظمته من عظمته،
330
ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه ﴿وعلى المؤمنين﴾ رضي الله تعالى عنهم العريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي فهمه عن الله وخفي عن أكثرهم حتى فهمتموه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند نزول سورة محمد وحماهم عن همزات الشياطين، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع ﴿وألزمهم﴾ أي المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف، لا إلزام إهانة وتعنيف ﴿كلمة التقوى﴾ وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق، يقتضي التحقق بمدلولها من أنه لا فاعل إلا الله الثبات على كل ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوحيد والبسملة والرسالة مع تغيير الكتابة بكل منهما لأجل الكفار في ذلك المقام الدحض الذي لا يكاد يثبت فيه قدم، وأضافها إلى التقوى التي هي اتخاذ ساتر يقي حر النار فجعلها وصفاً لازماً لهم غير منفك عنهم لأنها سببها الحامل عليها، ويجمع الحامل على التقوى اعتقاد الوحدانية وهي لا إلا الله فإنها كلمة - كما قال الرازي - أولها نفي الشرك وآخرها تعلق بالإلهية، وهذا من أعلام النبوة، فإن أهل الحديبية الذين ألزموا هذه الكلمة ماتوا كلهم
331
على الإسلام ﴿وكانوا﴾ أي جبلة وطبعاً.
ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى: ﴿أحق بها﴾ أي كلمة التقوى من الكفار والأعرب وغيرهم من جميع الخلق، ولمثل هذا التعميم أطلق الأمر بحذف المفضل عليه. ولما كان الأحق بالشيء قد لا يكون أهله من أول الأمر قال تعالى: ﴿وأهلها﴾ أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها. ولما كان الحكم بذلك لا يكون إلا لعالم قال عاطفاً على ما تقديره: لما علم الله من صلاح قلوبهم وصفائها: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بالكائنات كلها علماً وقدرة ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليماً *﴾ أي محيط العلم الدقيق والجلي، والآية من الاحتباك: ذكر حمية الجاهلية أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، وكلمة التقوى ثانياً دليلاً على ضدها أولاً، وسره أنه ذكر مجمع الشر أولاً ترهيباً منه ومجمع الخير ثانياً ترغيباً فيه. ولما قرر سبحانه وتعالى علمه بالعواقب لإحاطة علمه ووجه أسباب كفه أيدي الفريقين وبين ما فيه من المصالح وما في التسليط من المفاسد من قتل من حكم بإيمانه من المشركين وإصابة
332
من لا يعلم من المؤمنين - وغير ذلك إلى ختم بإحاطة علمه المستلزم لشمول قدرته. أنتج ذلك قوله لمن توقع الإخبار عن الرؤيا التي أقلقهم أمرها وكاد بعضهم أن يزلزله ذكرها على سبيل التأكيد: ﴿لقد﴾.
ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران: أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، عبر بالصدق والحق فقال تعالى: ﴿صدق الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال ﴿رسوله﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الإخبار عما لا يكون أنه يكون، فكيف إذا كان المخبر رسوله ﴿الرؤيا﴾ التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون، متلبساً خبره ورؤيا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿بالحق﴾ لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً.
333
ولما أقسم لأجل التأكيد لمن كان يتزلزل، أجابه بقوله مؤكداً بما يفهم القسم أيضاً إشارة إلى عظم الزلزال: ﴿لتدخلن﴾ أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره ﴿المسجد﴾ أي الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلى بدخول الحرم ﴿الحرام﴾ أي الذي أجاره الله من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم.
ولما كان لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وإن وعد به، أشار إلى ذلك بقوله تأديباً لهم أن يقول منهم بعد ذلك: ألم يقل أننا ندخل البيت ونحو ذلك، ولغيرهم أن يقول: نحن ندخل: ﴿إن شاء الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال، حال كونكم ﴿آمنين﴾ لا تخشون إلا الله منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين ﴿محلقين رءوسكم﴾ ولعله أشار بصيغة التفعيل إلى أن فاعل الحق كثير، وكذا ﴿ومقصرين﴾ غير أن التقديم يفهم أن الأول أكثر.
ولما كان الدخول حال الأمن لا يستلزم الأمن بعده قال تعالى: ﴿لا تخافون﴾ أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر. ولما كان من المعلوم أن سبب هذا الإخبار إحاطة العلم، فكان التقدير، هذا أمر حق يوثق غاية
334
الوثوق لأنه إخبار عالم الغيب والشهادة، صدق سبحانه فيه، وما ردكم عنه هذه الكرة على هذا الوجه إلا لأمور دبرها وشؤون أحكمها وقدرها، قال عاطفاً على ﴿صدق﴾ مسبباً عنه أو معللاً: ﴿فعلم﴾ أي بسبب، أو لأنه علم من أسباب الفتح وموانعه وبنائه على الحكمة ﴿ما لم تعلموا﴾ أي أيها الأولياء ﴿فجعل﴾ أي بسب إحاطة علمه ﴿من دون﴾ أي أدنى رتبة من ﴿ذلك﴾ أي الدخول العظيم في هذا العام ﴿فتحاً قريباً *﴾ يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح، واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض، الموجب لإسلام بشر كثير تتقوون بهم، فتكون تلك الكثرة والقوة سبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال، فتقل القتلى رفقاً بأهل حرم الله تعالى إكراماً لهذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إغارة وإصابة من عنده من المسلمين المستضعفين من غير علم.
335
ولما أخبر بهذه الأمور الجليلة الدقيقة المبنية على إحاطة العلم، عللها سبحانه وبين الصدق فيها بقوله تعالى: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي أرسل رسوله﴾ أي الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
335
﴿بالهدى﴾ الكامل الذي يقتضي أن يستقيم به أكثر الناس، ولو أنه أخبر بشيء يكون فيه أدنى مقال لم يكن الإرسال بالهدى ﴿ودين الحق﴾ أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع ﴿ليظهره﴾ أي دينه ﴿على الدين كله﴾ دين أهل مكة والعرب عباد الأصنام، الذي يقتضي إظهاره عليه دخوله إليه آمناً، وإظهاره على من سواهم من أهل الأديان الباطلة بأيدي صحابته الأبرار والتابعين لهم بإحسان إظهاراً يتكامل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام مع الرفق بالخلق والرحمة لهم، فلا يقتل إلا من لا صلاح له أصلاً، وعلى قدر الجبروت يحصل القهر، فلأجل ذلك هو يدبر أمره بمثل هذه الأمور التي توجب نصره وتعلي قدره مع الرفق بقومه وجميل الصنع لأتباعه، فلا بد أن تروا من فتوح أكثر البلاد وقهر الملوك الشداد ما تعرفون به قدرة الله سبحانه وتعالى.
ولما كان في سياق إحاطة العلم، وكان التقدير: شهد ربه سبحانه بتصديقه في كل ما قاله بإظهار المعجزات على يده، بنى عليه قوله تعالى
336
﴿وكفى بالله﴾ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿شهيداً *﴾ أي ذا رؤية وخبرة بطية كل شيء ودخلته لما له الغنى في أمره، ولا شهيد في الحقيقة إلا هو سبحانه لأنه لا إحاطة وخبرة ورقبة إلا له سبحانه، وهو يشهد بكل ما أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الصورة خصوصاً وفي غيرها عموماً.
337
ولما ختم سبحانه بإحاطة العلم بالخفايا والظواهر في الإخبار بالرسالة، عينها في قوله جواباً لمن يقول: من الرسول المنوه باسمه: ﴿محمد رسول الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له، فهو الرسول الذي لا رسول يساويه لأنه رسول إلى جميع الخلق ممن أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدمه بالقوة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه، وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه، وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم، لا يكتب الرحمة التي وسعت كل شيء إلا لمن وقع العلم بالمحيط بإنه يؤمن به، فما عمل عامل عملاً صالحاً إلا كان له مثل أجره، تقدم ذلك العامل أو تأخر، كان من أهل السماء أو من أهل الأرض،
337
وهذا أمر لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، وأشار بذلك إلى هذا الاسم بخصوصه في سورة محمد إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الخاتم - بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج، وهي محيطة بما أشارة إليه صورته، وكررت في الاسم بعده غاية التأكيد، وهو ثلاث - كما أشار إليه اسمه: أحمد - إلى أنه مع كونه خاتماً فهو فاتح بما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كنت أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً» واختصت به سورة الصف ليعادل ذلك بتصريح المبشر به عليه الصلاة والسلام بالبعدية في قوله ﴿برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾ [الصف: ٦] وأشارت الميم أوله أيضاً إلى بعثه عند الأربعين، وما بقي من حروفه وهي حمد يفيد له كمال الحمد بالفعل في السنة الثانية والخمسين من عمره وهي الثانية عشرة من نبوته ببيعة الأنصار رضي الله عنهم، وقد أشارت هذه السورة إلى كلمة الإخلاص تلويحاً مما ذكرت من كلمة الرسالة تصريحاً وبطنت سطوة الإلهية وظهرت الرحمة المحمدية - كما أشارت القتال إلى الرسالة تلويحاً وصرحت بسطوة الإلهية بكلمة الإخلاص والناشئة عن
338
القتال تصريحاً، وقد تقدم في القتال نبذة من أسرار الكلمتين. ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى: ﴿والذين معه﴾ أي بمعية الصحبة من أصحابه وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان: ولما كان شرف القوم شرفاً لرئيسهم، مدحهم بما يشمله فقال تعالى: ﴿أشداء على الكفار﴾ فهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته، لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم ﴿رحماء بينهم﴾ كالوالد مع الولد، لأن الله تعالى أمرهم باللين للمؤمنين، ولا مؤمن في زمانهم إلا من كان من أهل دينهم، فهو يحبهم ويحبونه بشهادة آية المائدة.
ولما كان هذا بخلاف ما وصفت به الأمم الماضية من أنهم ما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم، فكان عجباً، بين الحامل عليه بقوله: ﴿تراهم﴾ أي أيها الناظر لهم ﴿ركعاً سجداً﴾ أي دائمي الخضوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملائكة على صفاتهم الحيوانية، فكانت الصلاة آمرة لهم بالخير مصفية عن كل نقص وضير.
ولما كانت الصلاة مما يدخله الرياء، بين إخلاصهم بقوله: ﴿يبتغون﴾ أي يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم وتغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم ﴿فضلاً﴾ أي زيادة في الخير ﴿من الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال والجمال الذي أعطاهم ملكة الغلظة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرقة على أوليائه بما أعطاهم من
339
رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره، ولا محسن سواه. ولما ذكر عبادتهم وطلبهم الزيادة منها ومن غيرها من فضل الله الذي لا يوصل إلى عبادته إلا بمعونته، أتبعه المطلوب الأعلى فقال: ﴿ورضواناً﴾ أي رضاء منه عظيماً.
ولما ذكر كثرة عبادتهم إخلاصهم فيها اهتماماً به لأنه لا يقبل عملاً بدونه، دل على كثرتها بقوله: ﴿سيماهم﴾ أي علامتهم التي لا تفارقهم ﴿في وجوههم﴾ ثم بين العلامة بقوله: ﴿من أثر السجود﴾ فهي نور يوم القيامة - رواه الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا مع ما لهم من مثل ذلك في الدنيا من أثر الخشوع والهيبة بحيث إنه إذا رئي أحدهم أورث لرائيه ذكر الله، وإذا قرأ أورثت قراءته حزناً وخشوعاً وإخباتاً وخضوعاً، وإن كان رث الحال رديء الهيئة، ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من هيئة أثر سجود في جبهته، فإذا ذلك من سيما الخوارج، وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثفن: ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: رأى رجلاً بين عينيه مثل ثفنة العنز، فقال: لو لم يكن هذا لكان خيراً - يعني كان على جبهته أثر السجود، وإنما كرهها خوفاً من الرياء بها، وقد روى صاحب الفردوس
340
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود».
ولما أتم وصفهم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه أحد إلا من صفاه الله من جميع حظوظه وشهواته، أشار إلى علوه فقال: ﴿ذلك﴾ أي هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال ﴿مثلهم في التوراة﴾ فإنه قال فيها: أتانا ربنا من سببنا وشرق لنا من جبل ساعير، وظهر لنا من جبل فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره وهم يتبعون آثارك. فظهوره من فاران صريح في نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لم يأت منها - وهي جبال مكة باتفاقهم - بعد نزول التوراة بالنبوة غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وربوات الأطهار إشارة إلى كثرة أمته، وأنهم في الطهارة كالملائكة، وأيد ذلك جعلهم من أهل اليمين، ووصفهم بالتحبيب إلى الشعوب، فكل ذلك دال على ما وصفوا به منا من شهادة الوجود - هذا مع ما وجدته في التوراة بعد تبديلهم لما بدلوا منها وإخفائهم كما قال الله تعالى لكثير، وروى أصحاب فتوح البلاد في فتح بيت المقدس عن كعب الأحبار أن سبب إسلامه أن أباه كان أخبره أنه ذخر
341
عنه ورقتين جعلهما في كوة وطين عليهما، وأمره أن يعمل بهما بعد موته، قال: فلما مات فتحت عنهما فإذا فيهما: محمد رسول الله صلى الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجرة بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح، وإن أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شيء وعلى كل حال، ويذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناواه، يغسلون فروجهم بالماء، ويؤثرون على أواسطهم، وأناجيلهم في صدورهم، يأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها، تراحمهم بينهم تراحم بين الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، هم السابقون المقربون والشافعون والمشفع لهم.
وأصله في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفي الدارمي عن كعب هذا، ولأصحاب الفتوح عن سمرة بن حوشب عن كعب قال: قلت لعمر رضي الله عنه وهو بالشام عند انصرافه: يا أمير المؤمنين! إنه مكتوب في كتاب الله «إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء، أتباعه رهبان بالليل أسد بالنهار، متراحمون متباذلون» فقال عمر: ثكلتك أمك أحق ما تقول؟ قلت: أي والذي
342
أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما نقول! إنه لحق، فقال عمر: فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته التي وسعت كل شيء - هذا على أن المراد بالمثل الوصف، ويمكن أن يكون على حقيقته، ويكون الذي في التوراة ما ترجمته «هم على أعدائهم كقرن الحديد وفيما بينهم في النفع والتواصل كالماء والصعيد، ولربهم كخامة الزرع مع الريح والصديق النصيح، وفي الإقبال على الآخرة كالمسافر الشاحب والباكي الناحب» فعبر عنه في كتابنا بما ذكر.
ولما ذكر مثلهم في الكتاب الأول، أتبعه الكتاب الثاني الذي هو ناسخ ليعلم أنه قد أخذ على كل ناسخ لشريعته أن يصفهم لأمته ليتبعوهم إذا دعوهم فقال: ﴿ومثلهم في الإنجيل﴾ أي الذي نسخ الله به بعض أحكام التوراة ﴿كزرع﴾ أي مثل زرع ﴿أخرج شطأه﴾ أي فراخه وورقه وما خرج حول أصوله، فكان ذلك كله مثله.
ولما ذكر هذا الإخراج سبب عنه قوله ﴿فآزره﴾ أي فأحاط به الشطأ، فقواه وطهره من غير نبتة نبتت عنه فتضعفه وساواه وحاذاه وعاونه، ويظهر أن قراءة الهمزة بالمد على المفاعلة أبلغ من قراءة ابن عامر بالقصر، لأن الفعل إذا كان بين اثنين يتجاذبانه كان الاجتهاد
343
فيه أكثر، ثم سبب عن المؤازرة قوله: ﴿فاستغلظ﴾ أي فطلب المذكور من الزرع والشطأ الغلظ وأوجده فتسبب عن ذلك اعتداله ﴿فاستوى﴾ أي وجد فيه القيام العدل وجوداً عظيماً كأنه كان بغاية الاجتهاد والمعالجة ﴿على سوقه﴾ أي قصبه، جمع ساق، وهو ما قام عليه الشيء، حال كون هذا المذكور من الزرع والشطأ ﴿يعجب الزراع﴾ ويجوز كونه استنئافاً للتعجب منه والمبالغة في مدحه وإظهار السرور في أمره، وإذا أعجبهم وهم في غاية العناية بأمره والتفقد لحاله والملابسة له ومعرفة معانيه كان لغيرهم أشد إعجاباً، ومثل لأنهم يكونون قليلين ثم يكثرون مع البهجة في عين الناظر لما لهم من الرونق الذي منشؤه نور الإيمان وثبات الطمأنينة والإيقان وشدة الموافقة من بعضهم لبعض، ونفي المخالف لهم وإبعاده، وقد تقدم في هذا الكتاب في آخر المائدة أمثال ضربت في الإنجيل بالزرع أقربها إلى هذا مثل حبة الخردل فراجعه.
ولما أنهى سبحانه مثلهم، ذكر الثمرة في جعلهم كذلك فقال: ﴿ليغيظ﴾ معلقاً له بما يؤخذ من معنى الكلام وهو جعلهم
344
كذلك لأجل أن يغيظ ﴿بهم﴾ أي غيظاً شديداً بالغ القوة والإحكام ﴿الكفار﴾ وذلك أنهم لما كانوا أول الأمر قليلاً، كان الكفار طامعين في أن لا يتم لهم أمر، فكلما ازدادوا كثرة مع تمادي الزمان زاد غيظ الكفار منهم، فكيف إذا رأوا مع الزيادة والقوة منهم حسناً ونضارة ورونقاً وبهجة، فهو في الغيظ مما لو كانوا في أول الأمر كثيراً لأنه كان يكون دفعه ويقصر زمنه، فمن أبغض صحابياً خيف عليه الكفر لأنهم أول مراد بالآية، وغيرهم بالقصد الثاني وبالتبع، ومن أبغضهم كلهم كان كافراً، وإذا حملناه على غيرهم كان دليلاً على أن كل من خالف الإجماع كفر - قاله القشيري.
ولما ثم مثلهم وعلة جعلهم كذلك، بشرهم فقال في موضع وعدهم لتعليق الوعد بالوصف على عادة القرآن ترغيباً في التمسك به وترهيباً من مجانبته: ﴿وعد الله﴾ أي الملك الأعظلم ﴿الذين آمنوا﴾ ولما كان الكلام في الذين معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت المعية ظاهرة في الاتحاد في الدين لم تكن شاملة للمنافقين، فلم يكن الاهتمام بالتقييد بمنهم هنا
345
كالاهتمام به في سورة النور، فأخره وقدم العمل لأن العناية به هنا أكثر، لأنه من سيماهم المذكورة فقال: ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لدعواهم الكون معه في الدين ﴿الصالحات﴾ ولما كان قوله «معه» يعم كما مضى من بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان الخلل فيمن بعدهم كثيراً، قيد بقوله: ﴿منهم﴾ أي من الذين معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كانوا من أصل الزرع أو فراخه التي أخرجها وهم التابعون لهم بإحسان.
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عن بلوغ ما يحق له من العبادة، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿مغفرة﴾ أي لما يقع منهم من الهفوات أو الذنوب والسيئات ﴿وأجراً عظيماً *﴾ بعد ذلك الستر، وقد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلو نصرهم، وذلك أنه لما كانت هذه العمرة قد حصل لهم فيها كسر لرجوعهم قبل وصولهم إلى قصدهم من الدخول إلى مكة المشرفة والطواف بالبيت العتيق، ولم يكن ذلك بسبب خلل أتى من قبلهم كما كان في غزوة أحد على ما مضى من بيانه في آل عمران التي هي سورة التوحيد الذي كلمته
346
كلمة التقوى عند الآية الثانية لهذه، بشرهم سبحانه بما في هذه السورة من البشائر الظاهرة تصريحاً وبما في هذه الآية الخاتمة من جمعها لجميع حروف المعجم تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد من تمامه، واشتداد سلكه وانبرامه، واتساق شأنه وانتظامه، وخفوق ألويته وأعلامه، وافتتحها بميم «محمد» وهي مضمومة، وختمها بميم «عظيماً» المنصوبة إشارة بما للميم من الختام بمخرجها إلى أن تمام الأمر قد دنا جداً إبانه، وحضر زمانه، وبما في أولها من الضم إلى رفعة دائمة في حمد كثير، وبما في آخرها من النصب إلى تمام الفتح وانتشاره، وقربه واشتهاره، على وجه عظيم، وشرف في علو جسيم، وأومأ تدويرها إلى أنه أمر لا انتهاء له، بل كلما ختم ابتدأ، وقد ظهر من هذا وما في صريح الآية من القوة المعزة للمؤمنين المذلة للكافرين رد مقطعها على مطلعها بالفتح للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتسكين العظيم لأصحابه رضي الله عنهم، والرحمة والمغفرة والفوز العظيم لجميع أتباعه وأنصاره وأشياعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وجعلنا بمنه وكرمه منهم، وهذا آخر القسم الأول من القرآن، وهو المطول، وقد ختم - كما ترى - بسورتين هما في الحقيقة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحاصلهما الفتح له بالسيف
347
والنصر على من قاتله ظاهراً كما ختم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحال على من قصده بالضر باطناً - والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
348
سورة الحجرات
مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بالأدب معه في نفسه وفي أمته، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون دليلا على الباطن فيسمى إيمانا، كما أن الإيمان بالله يشترط فيه فعل الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون بينة على الباطن وحجة شاهدة له) الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) [العنكبوت: ٢] فحاصل مقصودها مراقبة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الأدب مغعه لأتها أول المفصل الذي هو ملخص
349
القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله، وابتدئ ثاني المفصل بحرف منن الحروف المقطعة كما ابتدئئ ثاني ما عداه بالحروف المقطعة، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما دلت عليه آيته) بسم الله (الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لم يرض عنه عملا) الرحمن (الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب) الرحيم (الذي خص أولي الألباب الإقبال على ما يوجب لهم جميل الثواب.
350
Icon