تفسير سورة الإسراء

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

القرآن على الوجه الذي يريده ربّه وهو أعلم الناس به فكيف بنا نحن؟ اللهم وفقنا لهداك وأرشدنا لفهم كلامك ووفق أمة نبيك أن يتعلموا ما به ليفهموه.
ولنا رسالة في علم التجويد تكفي من يطلع عليها لمعرفته صغيرة الحجم كثيرة العلم، واسمها (أحسن البيان في تجويد القرآن) فعليكم أيها الناس بما يصلح معادكم قبل أن تهلكوا و «كُلُّ شَيْءٍ» من مكونات الله تعالى «هالِكٌ» لأن مصيره إلى الزوال والاندراس «إِلَّا وَجْهَهُ» ذاته المقدسة، وحاشاه وهو الدائم الباقي الذي لا يحول ولا يزول «لَهُ الْحُكْمُ» فصل القضاء بين خلقه مختص به وحده، وهو الحاكم العدل في الدنيا والآخرة «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ٨٨ أيها الناس، فيقضي بينكم قضاء مبرما لا مغيّر ولا مبدل له، وهناك في تلك الدار الباقية يجزى الخلق حسما يفصل بينهم.
لأهل الخير جنات ونعمى وللكفار إدراك النكال
هذا والله أعلم، وأستغفر الله العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة الاسراء عدد ٥٠- ١٧
نزلت في مكة بعد سورة القصص، عدا الآيات ٢٦ و ٣٢ و ٣٣ ومن ٧٤ إلى ٨٠ فإنهنّ نزلن بالمدينة، وهي مئة وإحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ومشتقاته ذكرناها أول سبّح اسم ربك المارة.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال تعالى: «سُبْحانَ» ابتدأت هذه السورة بهذا اللفظ وهو علم على التسبيح تقول سبحت تسبيحا، فالتسبيح مصدر وسبحان علم عليه، ولذلك تسمى سورة سبحان كما تسمى سوره بني إسرائيل والإسراء، ومعناه تنزيه الله تعالى عن كل ما هو من شأن البشر وأحواله، ومعناه لغة التباعد، وعليه يكون المعنى بعد الله ونزاهته القصوى عن كل ما لا ينبغي، لأنه تعالت عظمته ليس كمثله شيء «الَّذِي أَسْرى» وسرى بمعنى واحد، يقال
407
أسرى به وسرى به، ولا يقال صرى وأسرى إلا إذا كان المسير ليلا «بِعَبْدِهِ» محمد صلّى الله عليه وسلم، وأضافه لنفسه اضافة تشريف وتبجيل وتعظيم، لأنه صلّى الله عليه وسلم بلغ في هذا الإسراء أعلى الدرجات، ودنا من أرفع المراتب، وعلى ما لم يعلو عليه أحد روي أنه أوحي اليه بم شرفتك يا محمد، قال بنسبتي إليك يا رب بالعبودية، فأنزل الله هذه الآية العظيمة «لَيْلًا» والفائدة من ذكر كلمة ليلا مع أنه يغني عنه لفظ أسرى فضلا عن معلوميّته بمقتضى اللفظ، هو تقليل مدة الإسراء الذي يدل عليه تنكير كلمة ليلا مع عظم ما وقع فيها من المعجزات الآتية الذكر وغيرها، وإنما خص الليل لمزيد الاحتفال به صلّى الله عليه وسلم لأنه وقت الخلوة والاختصاص ومجالة الملوك، ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو جليل عنده، وهو أصل النهار والاهتداء به للقصد أبلغ، ولأن المسافر قد يقطع بالليل مالا يقطعه بالنهار ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل مالا تطوى بالنهار: وجاء في المثل (عند الصباح يحمد القوم السري) وقد أسرى به ذهابا وإيابا ببعض الليل مسافة شهرين في الأرض «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» مكة المكرمة «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» البيت المقدس، وسمي أقصى إذ لم يكن إذ ذاك وراءه مسجد، أما الآن والحمد لله فصار وراءه وبينهما مساجد كثيرة، وأمامه ويمينه وشماله إلى أقصى الجهات المعمورة، وفي أعظم البلاد الأجنبية التي تبعد عن مكة أشهرا، فلم تبق قارة إلا وفيها مساجد للمسلمين «الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» من جميع أطرافه بركة دينية معنوية، وهي جعله مهبط الوحي وكفات الأنبياء ومقرهم وقبلتهم وبركة دنيوية حسية بالأنهار والأشجار، وهو القبلة الأولى واليه محشر الخلائق، وقد أسرينا بمحمد هذا الإسراء البديع وشرفناه بهذا التشريف الذي لم يكن لأحد من قبله «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» البديعة وعجائب قدرتنا المنيعة، ونشرفه بمقامنا العظيم، ونسرّه بكلامنا الجليل، ونمتّعه بأشياء كثيرة، ونتجلى عليه بذاتنا الكريمة، واعلم أن لفظ كريم أفضل من غيره من الصفات الممدوحة التي يوصف بها، إذ اختاره لذاته المقدسة دون غيره، وهو أعلم بما يوصف به نفسه وما هو أليق بذاته المقدسة، ولذلك وصفه بها، قال تعالى: (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)
408
الآية ٣ من سورة العلق، وقال تعالى: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية ٦ من سورة الانفطار، ولا تجد وصفا في القرآن للقرآن أو الملائكة أو للجنان أو لمطلق كتاب أو للثواب أو للرسل أو للعرش إلا بلفظ كريم، ولم يصفه الأنبياء إلا بهذا الوصف، مثل قولهم (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الآية ٤٠ من سورة النمل المارة، وقال (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) كررها مرتين في سورة الرحمن ج ٣. وأعلم أنه لا يقال إن إبراهيم أفضل من محمد عليهما الصلاة والسلام لقوله تعالى في حقّه:
(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ٧٥ من سورة الأنعام في ج ٢، لأن هذا الملكوت الذي رآه إبراهيم من بعض الآيات التي أراها الله إلى محمد وآيات الله لا تحصى، وأفضاله لا تستقصى، وإن سيدنا محمدا هو أفضل الأنبياء والرسل والملائكة على الإطلاق، وقد أجمعت الأمة على تفضيله وعليه قولهم:
وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق
ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الزمخشري إذ يقول إن جبريل أفضل منه، وهذا من جملة خلافياته وانشقاقه على أهل السنة والجماعة التي رجع عنها أخيرا كما يفهم من قوله:
يا من يرى مدّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في لحمها وإلخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الأول
وما قاله بعض المغالين في حقه بأنه أراد بتوبته هذه عن الزمن الذي كان فيه قبل الاعتزال بعيد عن الحقيقة، ولفظ قوله هذا ومغزاه ينفيه، عفا الله عن الاثنين، «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ»
لكل شيء يسمع أقوال عبده عند تشرفه به، ويجيب دعاءه حينما يدعوه، وهو أكرم من أن يرد أحدا فضلا عن الأنبياء الكرام «الْبَصِيرُ» ١ بشأنه المسدد لأفعاله وأعماله وأقواله ورموزه وإشاراته، قال تعالى في هذه الآية أسرى وباركنا على طريق الغيبة ثم قال إنه هو على طريق التكلم التفاتا، وهذا من أبواب المعاني والبديع بالكلام، ومن طرق البلاغة والفصاحة، وفي كلمة سبحان المصدرة بها هذه الآية معنى التعجب، لأن عروج الشيء الكثيف إلى العلو وخرقه له مما يتعجب منه، وقدمنا البحث في جواز الخرق والالتئام على سبيل خرق العادة
409
في الآيتين ٣٨/ ٤٠ من سورة يس وفي الآيتين ١٨/ ٤٢ من سورة والنجم المارتين، وسنأتي على بيانه بعد بصورة أوضح وأكمل إن شاء الله.
مطلب وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج وكفر من أنكر الأول وتفسيق من أنكر الثاني:
هذا وإن التعجب بعروجه لقصد الحق لأمر عظيم بين المحب والمحبوب أعجب من نزوله لقصد الخلق بينه وبين أمته، وهذا كالفرق بين ولاية النبي ورسالته فإن الأولى بينه وبين مولاه والثانية بينه وبين الناس، وإنما قال تعالى بعبده ولم يقل بنبيه أو رسوله لئلا يتوهم فيه ما توهمه الناس في عيسى عليه السلام من أنه انسلخ من الأكوان وعرج بجسمه إلى الملأ الأعلى مناقضا للعادات البشرية وأطوارها، ولأن العبودية أفضل من النبوة لأنها انصراف من الخلق إلى الخالق، والنبوة انصراف من الخالق إلى الخلق، وشتان ما بينهما، ولأن كلمة عبد عبارة عن الروح والجسد، والبراق الذي ركب عليه في الإسراء من جنس الحيوانات يحمل الأجساد لا كما يقوله الغير من أنه عبارة عن البرق المعلوم الحاصل من احتكاك السحب بعضها ببعض، وهو الذي أقل حضرة الرسول من مكة إلى القدس بسرعته وأعاده لموضعه، وهذا أبلغ في القدرة لو كان لهذا القول أصل من نقل صحيح أو خبر قاطع وليس فليس، أو لو كان العروج بالروح فقط كما يزعمه البعض أو حال النوم كما يقوله الغير أو حال الفناء كما توهمه الآخر أو حال الانسلاخ كما يظنه بعض المتصوفة والحكماء، لأمكن ذلك، على أن الذهاب بالروح يقظة ليس كالانسلاخ الذي ذهب هذا الأخيران إليه، فإنه وإن كان خارقا للعادة إلا ان العرب لا تعرفه، فليس محلا للتعجب، ولم يقل به أحد من السلف كما فندناه في سورة يس المارة، وعلى تلك الأقوال الواهية لا حاجه لذكر البراق، لأن ما ذكر فيها لا يحتاج الى الحمل، ولا محل لأن يستبعده المستبعدون أو ينكره الجاحدون استكبارا على الله القادر الفعال لما يريد، لأن أهل الهيئة من جميع الملل يحصل لهم مثل ذلك، وكثير من الناس من يرى الله في المنام، ويوجد جماعة من أهل المعرفة يتوصلون الى الانسلاخ فلا فضل فيه حينئذ ولا فخر، ولا حاجة للإنكار والجدال وإنما القول الحق هو أنه صلّى الله عليه وسلم أسرى بروحه وجسده يقظة من مكة الى بيت المقدس، ومن
410
شك في هذا أو أنكره فهو كافر والعياذ بالله لإنكاره القرآن صراحة، هذا هو القول الفصل في الإسراء، أما المعراج فهو قول ثابت كما سنورد عليك من الشواهد القوية والحجج الساطعة والدلائل القاطعة ما نقنع بثبوته ووقوعه، ومن أنكره فقد خرق الإجماع، ومن انشق على اجماع أهل السنّة والجماعة فإنه يفسق شرعا ولا تقبل شهادته ويوشك ان يدخله الله تعالى في معنى الآية ١١٤ من سورة النساء من ج ٢، لأن مخالفة العلماء مخالفة للرسول ومخالفة الرسول مخالفة لله، هذا وقد اجمع المفسرون على أن المراد بعبده في هذه الآية محمد صلّى الله عليه وسلم كما أجمعت على هذا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يختلف عن ذلك أحد، كما أنهم لم يختلفوا في الإسراء لما فيه جحود صراحة القرآن ومن شك لا حظ له في الإسلام هذا ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وليعلم ان العبودية أفضل من العبادة لأن العبادة تنقضي بالدنيا والعبودية باقية في الدنيا والآخرة، وهي اشرف أوصاف العبد عند العارفين الكاملين، وبها يفتخر المحب عند محبوبه قال:
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
فقال الآخر:
بالله إن سألوك عني فقل لهم... عبدي وملك يميني وما أعتقته
وذكر العلماء أن الله تعالى لم يعبّر عن أحد بالعبد مضافا الى ضمير الغيبة المشار به الى الهوية إلا عن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وفيه من الإشارة وعلو الشارة ما فيه، ومن تأمل أدنى تأمل بين قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الآية من سورة والنجم المارة وبين قوله (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية ١٢٠ من المائدة من ج ٣ بان له الفرق بين مكانة روح الله ومكانة رحمة الله، ومن قابل بين قوله سبحان الذي أسرى الآية المارة وبين قوله (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الآية ١٤٢ من سورة الأعراف المارة، ظهر البعد بين مقام الحبيب وبين مقام الكليم، ومن وازن بين هذه الآية وآية (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) المارة من سورة الأنعام من ج ٢ عرف البون بين مقام ذلك الخليل ومقام هذا الحبيب الجليل.
411
مطلب قصة المعراج والإسراء والمعجزات الواقعة فيهما:
وخلاصة القصة بناء على ما جاء في الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة أنه صلّى الله عليه وسلم كان ليلة سبع وعشرين من شهر رجب سنة ٥١ من ميلاده الشريف، وبدء السنة العاشرة من البعثة الجليلة التي أولها شهر رمضان، لأن سنة الولادة أولها شهر ربيع الأول وكذلك سنة الهجرة أولها ربيع الأول، وقد اعتبروا المحرم أولها اعتبارا، كان نائما في بيت فاختة أم هانىء بنت أبي طالب بعد أن صلى الركعتين اللتين كان بتعبد فيهما قبل النوم، وما جاء أنه كان بالحجر والحطيم وبين زمزم والمقام أقوال لم نعتمد على صحتها ولم نجد ما يقويها، ويؤيد ما جرينا عليه ما روى عن أم هانىء أنها فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بيتها وامتنع النوم عنها مخافة عليه من قريش، وأخبرت بني المطلب، فتفرقوا في التماسه، ورحل العباس الى ذي طوى وهو يصيح يا محمد يا محمد، هذا وقد اظهر الله له في إسرائه ومعراجه سبعين معجزة، أولها أنه خرج عن سقف البيت سحر تلك الليلة، فنزل جبريل وميكائيل واسرافيل عليهم السلام، فأيقظه جبريل، فقال له صلّى الله عليه وسلم مالك يا أخى؟ قال قم إن ربك بعثني إليك وأمرني أن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا يكرم بها أحد بعدك، فتكلم ربك وتنظر إليه ويريك عجائب عظمته وبدائع قدرته ومنافع ملكوته، قال صلّى الله عليه وسلم فقمت وتوضأت وصليت ركعتين، قال ثم إن جبريل عليه السلام تقدم إليّ وشق صدري ما بين الرّقوتين الى أسفل بطني بإشارة منه ليس بآلة ما، ولم أجد ألما ما، ولا خرج مني دم ما، معجزة على طريق خرق العادة- واستخرج قلبه الشريف، وغسله بطست من ماء زمزم ثلاثا، ونزع ما كان فيه من أذى، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء إيمانا وحكمة فأفرغه فيه.
تنبيه: من المعلوم أن الإيمان والحكمة ليستا من الأجسام بل هي معان، والمعاني تمثل في الأجسام مجازا، ولذا قال فأفرغه، ويحتمل أنه عليه السلام جعل في الطست شيئا، يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتها، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما. قال ثم وضعت السكينة في قلبه الشريف، وهذه أيضا من الأمور المعنوية التي لا تحتاج إلى حيّز محسوس، ولا بد لهذه الأمور من عقيدة راسخة،
412
وإيمان كامل، وبصيرة طاهرة تعقلها وتصدق بها تصديقا لا مرية فيه. ومن لا يؤمن بمثل هذه الأمور المعنويات يخشى على إيمانه، لأنها قد تؤدي لإنكار ما هو أعظم والعياذ بالله خصوصا فيما نحن فيه، لإطباق العلماء على صحته وأكثر العارفين على حقيقته، فالحذر الحذر من أن تشك يا أخي في هذه اليقينيات إذ قد يتطرق الشك فيها إلى كثير من أمور الدين، فيسلب دين الشاك وتضمحل عقيدته في الإسلام والعياذ بالله تعالى من حيث لا يشعر، ولهذا يجب على المؤمن أن يسلم ويذعن لما جاء عن ربه ورسوله، ولا يقيسها على الأمور الحسية فيصير إبليس الثاني راجع مقايسته في الآية ١٢ من سورة الأعراف المارة. قال ثم أعاده إلى مكانه وأشار إلى صدره فالتأم كما كان، وهذه معجزة ثالثة له صلّى الله عليه وسلم. واعلم أن هذا الشق غير الذي وقع له في صغره عند ظئره حليمة، وفيها أخرج الملك من صدره الشريف علقة سوداء دموية، وقال له جبريل هذا حظ الشيطان منك.
وهي محل الغمز والوسوسة فلم يبق للخبيث حظ فيه، ولهذا كان صلّى الله عليه وسلم في صغره لم يمل إلى ما يميل إليه الأولاد من اللعب واللهو، وهكذا شأن الأنبياء في صغرهم كما مر في سورة مريم من شأن يحيى وعيسى، ثم أنه شق صدره ثانيا حينما شرفه الله بالنبوة وغسل قلبه الشريف وأعيد لمحله على النحو المار ذكره لتحمل أعباء النبوة التي لا يقواها مطلق قلب، وهذه المرة الثالثة لتصفيته للقاء ربه عزّ وجل وتخليصه من الأغيار ليتسنى له حفظ الأسرار الإلهية والكمالات الربانية التي ستلقى عليه. الرابعة أن جبريل عليه السلام جاءه بخاتم من نور فختم على قلبه وبين كتفيه بخاتم النبوة، وكان يراه الرائي بحسب مكانته عند الله وقدر محبته لرسوله واعتقاده به، فمنهم من يراه مثل زر الحجلة (الخيمة) التي يغطى فيها السرير ويدخل في العروة، ومنهم من يراه قطعة نور، ومنهم من يرى فيه عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومنهم من يرى غير ذلك، ولكل وجهه.
مطلب في البراق والأقوال الواردة في المعراج:
الخامسة هي أنه صلّى الله عليه وسلم جيء بالبراق مسرجا وملجا وهو له دابة بيضاء لها بريق يلمع دون البغل وفوق الحمار، خدّه خد إنسان وقوائمه قوائم بعير، وعرفه عرف
413
فرس، لا ذكر ولا أنثى، فهو حقيقة أخرى كالملائكة، فإنهم خارجون عن فحوى قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) الآية ٤٩ من سورة الذاريات في ج ٢ إذ لا عموم إلا وخص منه البعض، قال وكان سرجه من اللؤلؤ وركاباه من الزبرجد، ولجامه من الياقوت الأحمر يتلألأ النور من حليته، وقال ما رأيت دابة أحسن منها، وقال جبريل اركبه حتى تمضي إلى دعوة ربك، قال فأخذ بلجامها جبريل، وبركابها ميكائيل، ووضع يده على خلفها إسرافيل، فقصدت أن أركبها فجمحت، وأبت أن تذعن، فوضع جبريل يده على وركها وقال لها أما تستحين مما فعلت، فو الله ما ركبك أحد أكرم منه على ربه، فرشحت عرقا من الحياء، وقيل في هذا:
ما كدى الميمون وانحلت عزائمه وأنت أنت الذي باليمن لاجمه
وإنما شهد الأملاك ساجدة إلى علاك فانحلت عزائمه
قال ابن دحية ووافقه الإمام النووي إن البراق لم يركبه أحد قبل النبي محمد صلّى الله عليه وسلم وإن قول جبريل ما ركبك أحد إلخ لا ينافيه، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع وقالت يا جبريل لم أستصعب منه، ولكن أريد أن يضمن لي الشفاعة يوم القيامة لأني علمت أنه أكرم الخلق على ربه، فضمن لها ذلك، فركبها قال صلّى الله عليه وسلم: فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث ينتهي طرفه. واعلم أن الخلاف في المعراج والإسراء على ثلاثة أقوال: الأول أنه أسري بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السموات إلى أن رأى ربه بعين رأسه كما سيأتى تفصيله، وهذا ما عليه الجمهور من أهل السنة والجماعة. الثاني أنه أسري بروحه وجسده يقظة وعرج بروحه فقط، والقائلون بهذا ينكرون المعراج الحسيّ وسبق أن بينا آنفا أنهم يفسقون شرعا. الثالث أنه أسري به وعرج به مناما، وأصحاب هذا القول يكفرون كما مرّ بك، لأن مثل هذا يتيسر لكثير من الناس، ولا معنى حينئذ لاستعظامه وإنكاره، ولا حاجة لتصادم الآراء فيه والقول باستحالته، ولا لزوم لطلب الدليل عليه، لأن النائم قد يرى نفسه في الشرق والغرب والسماء ولا يستبعده أحد، وما قيل إن لفظ الرؤيا الواردة بالآية ٦٠ الآتية تختص بالنوم
414
ليس على إطلاقه، بل قد يكون في اليقظة، قال الراعي يصف صيدا:
وكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر قلبا كان جمّا بلابله
والحديث في هذا الشأن مروي عن معاوية، وقد كان كافرا حين الإسراء، وعن عائشة وكانت صغيرة وليست بزوجة له صلّى الله عليه وسلم، والحسن إنما رواه عنهما فلا عبرة به، وما أخذه بعضهم من رواية شريك بن غزال طعن فيها الحفاظ فلا قيمة لها.
هذا واعلم أن إعطاء البراق قوة المشي على تلك الصفة معجزة سادسة. والسابعة: قال بينا هو سائر على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة نارية كلما التفت رآه، فقال له جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامة اللاتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر من شرّ ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير، يا رحمن، فقالهن صلّى الله عليه وسلم، فانكب لفيه، وخرّ صريعا، وطفئت شعلته. الثابتة: وكشف له بطريق ضرب المثل فرأى قوما يزرعون ويحصدون في ساعة وكلما حصدوا عاد الزرع كما كان، فقال ما هذا يا أخي يا جبريل؟ فقال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمئة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه. التاسعة: بينما هو سائر إذ نادى مناد عن يمينه يا محمد انظرني اسألك، فلم يجبه، فقال ما هذا يا جبريل؟ فقال هذا داعي اليهود، أما أنك لو أجبته لتهوّدت أمتك. العاشرة: ثم ناداه مناد عن يساره، فلم يجبه أيضا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما لو أجبته لتنصّرت أمتك. الحادية عشرة: ثم رأى امرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة، جالسة على الطريق، فقالت انظرني يا محمد أسالك، فلم يلتقت إليها، فقال من هذه يا جبريل؟ فقال تلك الدنيا، أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. الثانية عشرة: ثم رأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت يا محمد انظرني فلم يلتفت إليها، فقال ما هذه يا جبريل؟ قال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر هذه العجوز، وفي عدم إجابته لهما دليل على أن حضرة الرسول غير مبال بها بالطبع، لأنه لم يلتفت
415
إليهما، ولم يردّ عليهما، وهكذا الأنبياء جبلوا على ترك الدنيا وحب الآخرة فطرة، قالوا إن الدنيا شابة من آدم إلى إبراهيم، وكهلة من إبراهيم إلى محمد، وعجوز من محمد إلى القيامة. الثالثة عشرة: إنه صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يجمع حزمة حطب لا يستطيع حملها، وهو يزيدها، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال مثل الرجل من أمتك تكون عنده الأمانة فيكتمها عن صاحبها ويريد أن يحمل نفسه وزرا فوق أوزاره، مما لا تقواه قواه، راجع بحث الأمانة في تفسير الآية ٨ من سورة المؤمنين في ج ٢ وفي الآية ١٥ من آل عمران والآية ٢٨٢ من البقرة وآخر سورة الأحزاب في ج ٣، وفي سورة الماعون المارة، قالوا اتق حروف الشوك أي الكلمات المبدوءة بالواو كالوكالة والوصاية والولاية والوزارة والوديعة، والكلمات المبدوءة بالشين كالشر والشره والشبع والشركة، والكلمات المبدوءة بالكاف كالكيد والكفر والكفالة، وكلام الفضول والكلب. الرابعة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما ترضخ رؤوسهم وكلما رضخت عادت كما كانت، فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال الذين تتشاقل رءوسهم عن الصلاة المفروضة، قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) الآية ٤ من سورة الماعون المارة، وإذا كان جزاء من يسهو عنها هكذا، فكيف بمن يتركها؟ وقد جاء عنه صلّى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة. ولهذا قال الإمام أحمد يقتل كفرا من يتركها عمدا. الخامسة عشر: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما على أقبالهم وأدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع (الشوك اليابس) والزقوم (ثمر شجر مرّ له زفرة لا يعرف في الدنيا وقد ذكرها الله في كتابه بقوله (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) الآية ١٤ من الصّافات في ج ٢، وفي الدنيا من نوعها (شجرة الحنظل) ورضف جهنم (أي حجارتها المحماة) فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم، ويحرمون من فضلهم فقراء الله راجع الآية ٧٦ فما بعدها من سورة التوبة في ج ٣. السادسة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما بين أيديهم لحم نيء ولحم نضج فيأكلون النيء الخبيث ويتركون النضج الطيب، فقال ما هؤلاء يا جبريل؟ قال هذا مثل الزوجين من أمتك عندهما
416
الحلال فيأتيان الحرام ويدعان الحلال وهم الزناة. راجع الآية ٣١ الآتية، وقال صلّى الله عليه وسلم من زنى زنى به ولو بحيطان داره. أي لا بدّ من القصاص منه
ولو اختفت محارمه في داره. فإنه ان لم يزن بهن خارجها يزنى بهنّ داخلها، فعلى المؤمن الشهم أن يحفظ عرضه بالكفّ عن أعراض الناس. السابعة عشرة رأى صلّى الله عليه وسلم خشبة في الطريق لا يمرّ بها توب ولا شيء إلا مزّقته، فقال ما هذه يا جبريل؟ قال هذه مثل أقوام من أمتك يقطعون الطريق وتلا الآية ٨٥ من سورة الأعراف المارة. الثامنة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم رجلا يسبح في نهر من دم يلتقم الحجارة، فقال من هذا؟ قال هذا مثل آكل الربا. راجع تفسير الآية ٢٧٥ من سورة البقرة فما بعدها، والآية ١٣٠ من آل عمران في ج ٣، وقال صلّى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. التاسعة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت، فقال من هؤلاء؟ قال هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، وقال تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) الآية ٢ من سورة الصفّ ج ٣. العشرون:
ورأى صلّى الله عليه وسلم قوما يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية، فقال من هؤلاء؟
قال هؤلاء مثل الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم، وقال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) راجع تفسيرها المار ذكره. الحادية والعشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم حجرا يخرج منه ثور عظيم يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال من هذا يا جبريل؟ قال هذا مثل الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم فلا يستطيع ردّها، وقد جاء في الخبر من كثر لغطه كثر سقطه، ومن كثر سقطه فالنار أولى به. وقال: وهل يكبّ الناس في النار على وجوهم إلا حصائد ألسنتهم. الثانية والعشرون، ورأى صلّى الله عليه وسلم واديا طيبا باردا وريحا مسكية شذية، وسمع صوتا رقيقا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت الجنة، تقول ربّ آتيني ما وعدتني، فقد كثر فيّ ما لا نظائر له ولا أشباه. اللهم اجعلنا من أهلها. الثالثة والعشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم واديا خبيثا وريحا منتنة، وسمع صوتا منكرا بذيا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت جهنم تقول
417
ربّ آتني ما وعدتني فقد كثر في ما لا تقواه العصاة، راجع الآيتين ١٠/ ٤١ فما بعدهما من سورة الواقعة المارة في الجنة وأهلها والنار وأهلها أعاذنا الله منها.
الرابعة والعشرون. ورأى صلّى الله عليه وسلم شخصا متنحيا عن الطريق والطريقة الإسلامية، يقول هلم يا محمد، فقال جبريل سرّ يا محمد، قال من هذا يا أخى؟ قال هذا عدوّ الله إبليس، أراد أن تميل إليه، وقد وقعت هذه المبادرة من شفقة جبريل عليه السّلام على حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ قال له سرّ قبل أن يسأله عنه، خلافا لعادته، لما يعلم من حاله عليه اللعنة. الخامسة والعشرون: ورأى محمد موسى عليهما الصلاة والسلام يصلّي في قبره عند الكئيب الأحمر، ويقول أكرمته وفضلته، ويرفع صوته، فقال من هذا يا جبريل؟ قال موسى بن عمران، قال ومن يعاتب؟ قال يعاتب ربّه فيك، قال ويرفع صوته على الحضرة الجلالية؟ قال قد عرف حدّته التي جبله عليها (العتاب مخاطبة فيها إدلال)، فنزل وصلى ركعتين عنده.
السادسة والعشرون: ورأى شجرة عندها شيخ وعياله، فقال من هذا؟ قال هذا أبوك إبراهيم عليه السلام، فسلّم عليه وردّ عليه السلام، فقال إبراهيم يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال ابنك محمد، فقال مرحبا بالنبي العربي ودعا له بالبركة (كان ابراهيم تحت تلك الشجرة) فنزل فصلى ركعتين وسار حتى أتى الوادي الذي فيه بيت المقدس. السابعة والعشرون: ورأى جهنم تنكشف عن مثل الزرابي أي الوسائد، قال كيف وجدتها يا رسول الله؟ قال مثل الحمة أي الفحمة.
الثامنة والعشرون: قال وبقي حتى انتهى إلى إيلياء من أرض الشام، أي مدينة القدس، فرأى جمعا غفيرا من الملائكة يستقبلونه صلّى الله عليه وسلم، فدخلها من الباب اليماني الذي فيه تمثال الشمس والقمر. التاسعة والعشرون: قال ولما انتهى إلى البيت المقدس كان على الباب حجر كبير فخرقه جبريل وربط به البراق، وهذه معجزة، لأن البراق لا يحتاج إلى الربط، ولأن الحجرة لا تخرق باليد، قال أبو سفيان لقيصر عند ما سأله عن النبي صلّى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري من أنه هل يكذب؟
قال لا ولكن زعم أنه ذهب من حرمنا إلى مسجدكم ورجع في ليلة واحدة! ولما قال له هل يغدر قال لا، ونحن عنه في مدة، ليفهمه في هذه بأنه لعله وقع منه
418
الغدر بعد غيابه عنه وليستعظم ما ذكره في الجملة الأولى فيتهم بالكذب، وكان بطريق عنده فقال أنا أعرف تلك الليلة التي جاء بها نبيّكم، كنت أغلق أبواب المسجد وقد استعصى على الباب الفلاني (الذي دخل منه حضرة الرسول بموكبه المار ذكره آنفا) فاستعنت بعمال فلم يقدروا قالوا إن البناء نزل عليه، فتركناه، فلما أصبحنا رأيت الحجر الذي في زاوية الباب مثقوبا وبه أثر ربط دابة، ولم أجد فيه ما يمنعه من الانغلاق، فعلمت أنه لأجل ما علمته قديما أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء، فقلت لأصحابي هذا ربط البراق بحجر الباب هو الذي منع من الانغلاق، أي بسبب وجود الحبل الذي لم نره لأنه من خوارق العادة، وإلا لرأينا البراق إن لم نر الحبل، وقد تركت هذه آية حسيئة ليطلع عليها، وإلا فإن جبريل لا يمنعه انغلاق الباب ولا غيره اه من روح البيان.
الثلاثون: ورأى صلّى الله عليه وسلم الحور العين باستقباله أيضا، فسلم عليهن فرددن عليه السلام، فقال من أنتن؟ قلن خيرات حسان قوم أبرار نقوا فلم يدنّسوا يدرّنوا، وأقاموا فلم يضعفوا، وخلدوا فلم يموتوا. ثم دخل المسجد ونزلت الملائكة الذين كانوا في استقباله إلى الأرض. الحادية والثلاثون: أحيا الله له آدم فمن دونه من الأنبياء من سمى ومن لم يسم (فى كتابه) فرآهم في صورة مثالية كهيئاتهم الجسدانية، إلا عيسى وإدريس والخضر والياس فإنه رآهم بأجسادهم الحقيقية الدنيوية، لأنهم من زمرة الأحياء، فسلموا عليه جميعهم وهنأوه بما أعطاه الله من الكرامة، وقالوا الحمد لله الذي جعلك خاتم الأنبياء فنعم النبي والأخ أنت، وأمتك خير الأمم. تنبيه: إن الخضر صاحب موسى عليه السلام لم تجمع الكلمة على نبوّته كعزير ولقمان وذي القرنين، ومجيئه هنا مع الأنبياء كون الكلمة مجمعة على حياته. الثانية والثلاثون: قال جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم تقدم فصل بإخوانك الأنبياء فصلى بهم ركعتين، وكان خلفه إبراهيم وعن يمينه إسماعيل، وعن يساره إسحق عليهم السلام، قيل كانوا سبعة صفوف ثلاثة من المرسلين وأربعة من الأنبياء، قال في منية المصلى إمامته صلّى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأرواح الأنبياء كانت في النافلة المطلقة التي تكون فيها الصلاة جماعة، كالتراويح وشبهها وهذا هو الحكم الشرعي: فقد جاء في مجمع البيان عن مقاتل أن قوله تعالى في الآية ٤٥
419
من الزخرف في ج ٢ (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) إلخ، نزلت في هذه الليلة كما سيأتي في تفسيرها إن شاء الله. الثالثة والثلاثون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم أخذني العطش فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، فأخذت اللبن بتوفيق الله فشربت منه، فقال جبريل أصبت الفطرة، أما انك لو شربت الخمر لغوت أمتك كلها، ولو شربت اللبن كله لما ضل أحد من أمتك بعدك، فقلت يا جبريل ردّ إناء اللبن علي حتى أشربه كله، فقال قضي الأمر وتلا عليه (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) الآية ٤٢ من الأنفال في ج ٣، وهذا من شدة حرصه صلّى الله عليه وسلم على صلاح أمته ولكن ما لم يرده الله لا يكون، وإلا كما وفقه للبن الذي مادته ملائمة للعلم والحكمة، لوفقه إلى شربه كله. الرابعة والثلاثون: ثم قال جبريل قم يا محمد، فقمت فإذا بسلّم من ذهب قوائمه من فضة مرصع باللؤلؤ والياقوت، يتلألأ نوره، وإذا أسفله على صخرة بيت المقدس ورأسه في السماء وهو المعراج الذي تبرج عليه أرواح الأنبياء وسائر بني آدم. ذكرنا في الآية ٨٥ من سورة الواقعة المارة أن المحتضر يشخص بصره إلى السماء فتخرج روحه وهو على هذه الحالة، وذلك لأنه يرى هذا المعراج الذي تصعد عليه روحه، فيعجب من حسنه فيتبعه بصره، حتى إن أكثر الأموات تبقى عيونهم مفتوحة وعليهم بسمة، لأن المؤمن تفتح لروحه أبواب السماء والكافر تردّ روحه إلى سجين، فيزداد حسرة وندامة وكآبة، فيزرق وجهه والعياذ بالله.
مطلب الورد الأحمر والأصفر والمواليد الثلاثة والحركة القسرية:
الخامسة والثلاثون: قال صلّى الله عليه وسلم لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت الأصفر (أي الزهر الأصفر) فلما رجعت قطر عرقي على الأرض فنبت الورد الأحمر، ألا من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر. رواه أنس مرفوعا قال أبو الفرج النهرواني هذا قليل من كثير مما أكرم الله نبيه، على أن هذا لا يستلزم عدم وجود ورد أصفر وأحمر قبل ذلك، إلا أن هذا من باب الكرامة لحضرته الزكية زيادة على ما كان، ولهذا جرت العادة أن من يشم وردا له رائحة طيبة يصلي على محمد صلّى الله عليه وسلم أخذا من هذا. ونظيره على ما قيل إن حواء عليها السلام لما هبطت إلى الأرض بكت فما وقع من قطرها في البحر صار لؤلؤا، وما وقع
420
في الأرض صار زهرا. وهذا أيضا لا يستلزم عدم وجود اللؤلؤ والزهر في البحر والبر قبل ذلك. ومنه أن إبراهيم عليه السلام ذرّى كفا من كافور الجنة فما وقع منه درة في الأرض إلا صارت سبخة، وكان الملح موجودا قبل ذلك أيضا، فلا تستكثر أيها القارئ شيئا على حضرة الرسول الذي أكرمه الله بأنواع الكرامات ولا تستعظم شيئا على خلق الأرض والسموات الذي منح الإنسان عقلا أوصله إلى أن يطير في الهواء، وأن يستخدم الأثير فيسمع به صوت الشرق الغرب والجنوب الشمال بلحظة، وإلى اختراع الأشعة التي تخترق القلوب من حجب الأجسام فيكشف ما فيها، والذرة التي نسمع فيها، وكذلك التلفزيون الذي يريك من تسمع صوته من تلك المسافات، ولا ندري ماذا يحدث بعد مما أشار الله تعالى إليه في الآية ٢٣ من سورة يونس في ج ٢، أبعد هذا الذي أعطاه إلى عباده مؤمنهم وكافرهم يستغرب أن يمنح من خلق الكون لأجله ما قرأته وسمعته؟ كلا ثم كلا. السادسة والثلاثون:
لما صعد السلم ومعه جبريل كان جسده تابعا لروحه، وإلا لتعذر عليه العروج.
واعلم أنّ لصورته صلّى الله عليه وسلم صورة ولمعناه معنى، وكل منهما خلاف ما تتصوره الأوهام، لأن السير الملكوتي لا يقاس على السير الملكي، لكن عالم الملكوت مشتمل على ما هو صورة ومعنى، والصورة هناك تابعة للمعنى كحال صاحب الإسراء، وهنا بحث:
اعلم وفقك الله هذاه وأرشدك لما به النجاة، إن المعدن والنبات والحيوان مركبات تسمى المواليد الثلاثة، آباؤها الأجرام الأثيرية التي هى الأفلاك بما فيها من الأجرام النيرة، وأمهاتها العنصريات الأربع التي هي الأرض والماء والهواء والنار، فالأرض ثقيل على الإطلاق والماء ثقيل بالاضافة للهواء والنار وهو محيط بأكثر الأرض. والهواء خفيف مضاف إلى الثقلين بطلب العلو، وهو محيط بكرة الأرض، والماء والنار خفيف على الإطلاق يحيط بكرة الهواء، وان النبي صلّى الله عليه وسلم جاوز هذه العناصر ليلة المعراج بالحركة القسرية، وهي غير منكرة عندنا وعند المحيلين لهذا الإسراء الجسماني، لأنا نأخذ الحجرة وطبعها النزول فنرمي بها في الهواء فتصعد خلافا لطبعها لأنه يقتضي الحركة عند المركز، فصعودها بالهواء عرض بالرمي وهو الحركة القسرية وبطبعها لأنها على طبيعة تقبل الحركة القسرية ولو لم يكن ذلك في طبعه لما انفعل لها ولا
421
قبلها وكذلك اختراقه عليه السلام الفلك الأثيري وهو نار بقوة جعلها الله فيه حال الصعود والهبوط، والجسم الإنساني مهيأ مستعد لقبول الاحتراق والمانع من الاحتراق أمور يسلمها الخصم وهي الحجب التي خلقها الله تعالى في جسم المسري به فلم يكن عنده استعداد الانفعال للحرق كبعض الأجسام المطلية بما يمنعها من الاحتراق بالنار، والأجساد غير القابلة له كالورق غير المنحرق وجلد السندل الذي يعيش بالنار، أو أمر آخر وهو أن الطريق الذي اخترقه ليس النار فيه إلا محمولة في جسم لطيف، ذلك الجسم هو المحرق بالنار فسلب عنه النار وحل على ضدها، كنار إبراهيم عليه السلام الثابتة بالنص الإلهي أنها صارت على إبراهيم بردا وسلاما، راجع الآية ٦٩ من سورة الأنبياء في ج ٢، ومثله نار التنور الذي ألقي فيه موسى الوارد في تفسير الآية ٨ من سورة القصص المارة، فإن من جعلها بردا وسلاما على خليله إبراهيم وكليمه موسى قادر على أن يجعلها على حبيبه محمد كذلك. هذا، وان استحالة البعد الشاسع مرفوعة عنه صلّى الله عليه وسلم، إذ ثبت علميا أن مسافة قطر الأرض كلها ألفان وخمسمائة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ، وان مسافة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل قطر جرم الأرض، وذلك أربعة عشر ألف فرسخ، وان طرف قطرها المتأخر يصل إلى موضع طرف المتقدم في ثلثي دقيقة، فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية، راجع الآية ٣٤ من سورة الأعراف المارة تعرف المستوية والمعوجة، فالذي يعطي هذه القوة العظيمة للشمس ويسير المراكب التي هي كالجبال في البحر والطائرات كالقلاع في الهواء وكذلك الصواريخ الجسيمة وينقل الصوت من وراء البحار مسافة آلاف من الأميال بقوة النار والكهرباء والبخار مما علمه البشر، أما يمنح تلك القوة حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم؟ بلى يعطيه ذلك وأكثر وأعظم، ولا يستعظم هذا على الله الذي قبضته الأرض والسموات مطويات بيمينه (راجع الآية ٦٧ من الأنبياء في ج ٢) ألا من لم يؤمن به الداخل في قوله تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) إلخ الآية ٣٩ من سورة يونس في ج ٢. هذا، وقد ذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق، وإذا كان كذلك وجب
422
أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر من الأعراض، لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية، فأينما حصلت الماهية حصل ذلك العرض، فلزم حصول تلك القابلية من إحراق وعدمه، فوجب أن يصحّ على كل منها ما يصح على الآخر، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها، فيعود الكلام فيه كما هو من لوازم الماهية، أي أينما وجد العرض وجدت القابلية، فإن سلم فيها وإلا دار الأمر وتسلسل، وذلك محال، فلا بد من القول بالصحة المذكورة، والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على خلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن المصطفى صلّى الله عليه وسلم أو في بدن ما يحمله أو فيهما معا، (وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) الآية ١٩ من سورة إبراهيم في ج ٢. السابعة والثلاثون: قال ثم عرج بي حتى انتهيت إلى بحر أخضر عظيم، أعظم ما يكون من البحار، فقلت ما هذا يا جبريل؟
قال هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلق به، ولا شيء تحته يقرّ عليه، ولا يدري قدر عمقه إلا الله تعالى، ولولا حيلولة هذا البحر لاحترق ما في الدنيا من حر الشمس. وهذا مما ينكره الفلكيون والطبيعيون ومن لا عقيدة له، ونحن نعترف به لأنا نعلم أن القادر على خلق الدود في الثلج والسندل في النار والسمك في الماء والطير في الهواء الذي علم البشر صنع الطائرات والراد والذرة والصواريخ وغيرها كالغواصات وشبهها قادر على ذلك وأكثر، فإن كان ما ورد فيه حقا عن حضرة الرسول وهو لا ينطق عن هوى فقد أصبنا الهدف وقدرنا الله حق قدره، وإلا فلا يضرنا أن نعتقد به لعلمنا بقدرة الله، بخلاف ما لو كذّبناه، وكان له حقيقة، فتكون ممن لم يقدر الله حق قدره. أنظر ما قاله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) الآية ٣٩ من سورة المؤمن في ج ٢، ونحن نخاف إن كذبنا أن يصيبنا وبال تكذيبنا ولهذا فإنا نصدق به لأن تصديق ما لا مضرة له في الدين أحسن من تكذيبه، فالتصديق له ما له والتكذيب فيه ما فيه. الثامنة والثلاثون: قال ثم انتهيت إلى السماء الدنيا واسمها رفيع، فأخذ جبريل بعضدي وضرب بابها وقال افتح.
اعلم أن جبريل لا يحتاج إلى فتح باب السماء لأنه لا يحجبه حاجب، وإنما استفتح
423
لأن معه محمدا الإنسان الكامل (وهذا مما يدلّ على أن العروج كان بالروح والجسد، إذ لو كان بالروح فقط لما استفتح بل لدخل جبريل على عادته، ودخلت معه الروح التي هي من أمر الله، وهذا كاف للرد على القائلين به (أما القول الثالث بأنه كان في الرؤيا فغير محتاج للردّ لأنه مردود طبعا)، قال له الحارس من أنت؟
قال جبريل، قال ومن معك؟ (إنما سأله لأن استفتاحه على غير عادته لأن الله أعطاه قوة الاختراق بحيث ينزل من السماء ويصعد إليها بأقل من لحظة) قال محمد، قال أوقد بعث إليه؟ قال نعم، قال الحمد لله، ففتح ودخلنا. قال صلّى الله عليه وسلم:
فلما نظر إليّ قال مرحبا بك يا محمد، ونعم المجيء مجيئك، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال ملك اسمه إسماعيل خازن سماء الدنيا، وهو ينتظر قدومك، فدنوت منه وسلمت عليه، فردّ علي السلام وهنأني وقال أبشر، فإن الخير كله فيك وفي أمتك، قال جبريل يا محمد إن هذا الملك لم يهبط إلا عند قبض ملك الموت روحك الشريفة، فرأيت وإذا جنوده قائمون صفوفا لهم زجيل بالتسبيح، يقولون سبوحا سبوحا لرب الملائكة والروح، قدّوسا قدّوسا لرب الأرباب، سبحان العظيم الأعظم، وكانت قراءتهم سورة الملك، فرأيت فيهم كهيئة عثمان بن عفان، فقلت بم بلغت هذا؟ قال بصلاة الليل. التاسعة والثلاثون: قال ثم انتهيت إلى آدم عليه السلام، فإذا هو كهيئته يوم خلقه الله على غاية من الحسن والجمال، وكان تسبيحه سبحان الجليل الأجل، سبحان الواسع الغني، سبحان الله العظيم وبحمده، وإذا تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول روح طيبة في جسد طيب، ويقول اجعلوها في عليّين، وتعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول روح خبيثة في جسد خبيث، ويقول اجعلوها في سجيّن، وذلك قبل أن تدخل السماء، لأن الله تعالى قال فيهم: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) الآية ٣٩ من الأعراف المارة، قال صلّى الله عليه وسلم فنفذت وسلمت عليه، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. الأربعون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر (شفاه) كمشافر الإبل، وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار (الحجارة المستطيلة) التي كل واحدة منها ملء الكف يقذفونها بأفواههم فتخرج من أدبارهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال أكلة أموال اليتامى راجع الآية ٩
424
من سورة النساء في ج ٣. الحادية والأربعون: قال ثم رأيت رجالا لهم بطون أمثال البيوت، فيها حيات يراها الرائي من خارجها بطريق آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار، لا يقدرون أن يتحولوا عنها من مكانهم ذلك، فتطأهم آل فرعون، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء أكلة الربا. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصة الاسراء قال انطلق بي جبريل إلى رجال كثير كل رجل بطنه مثل البيت الفخم، منضدين على سابلة آل فرعون، وساق الحديث، وتقدم آنفا أن الله تعالى مثل له أكلة الربا في الأرض بغير هذا الوصف كما مر في المعجزة الثانية عشرة، الثانية والأربعون: قال ثم رأيت اخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم نتن عليها أناس يأكلون، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال الذين يأكلون الحرام من أموال الناس ويتركون الحلال، وتنطبق هذه على الزناة الممثل لهم في الأرض بغير هذا الوصف كما مر في المعجزة السادسة عشرة، وإنما كرر التمثيل لهذين الجنسين لقبح فعلهم وفظاعته عند الله تعالى. الثالثة والأربعون: قال ثم رأيت نساء معلقات بأثديتهن فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهن، أي ليس من نطف أزواجهن. الرابعة والأربعون:
قال عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، قيل ومن معك؟
قال محمد، قيل أوقد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا، فإذا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، يشبه أحدهما صاحبه بثيابهما وشعرهما وحسنهما وقربهما من السن أيضا لأن يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر فقط، وقتل بعد بعثة عيسى، أي رسالته لانه نبىء في المهد ويحيى نبىء وأرسل وهو صغير، راجع الآيتين ١٢ و ٢٠ من سورة مريم المارة. ومعهما نفر من قومها، فرحتبا بي، ودعيا لي بخير. الخامسة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل من معك؟ قال محمد، لم ينسبه جبريل لخزان السموات ولا لغيرهم من الملائكة لأنهم يعرفونه من يوم حمله وولادته وبعثته (والمراد بقولهم أو بعث إليه أي للعروج إلى ربه لا البعثة إلى الخلق لانها معلومة عندهم أيضا وهم ينتظرون
425
عروجه لزيارة ربه والتشرف برؤيته التي خصّه بها دون غيره، وان الملائكة يتباشرون بها ليتمتّعوا برؤيته الشريفة لذلك يقولون) أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا يوسف عليه السلام، وقد أعطي سطر الحسن، ومعه نفر من قومه، فرحب بي ودعا لي بخير. السادسة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا، قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا: فإذا بإدريس عليه السلام، فرحب بي ودعا لي بخير، راجع الآية ٥٧ من سورة مريم المارة. السابعة والأربعون: ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا بهارون عليه السلام ولحيته إلى سرّته وحوله قوم من بني إسرائيل يقصّ عليهم ما وقع له ولأخيه موسى عليهما السلام مع القبط وبني إسرائيل في حالة الدنيا، فرحب بي ودعا لي بخير.
الثامنة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحّب بي، ودعا لي بخير، فلما جاوزته بكى فقيل ما يبكيك؟ قال أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي ومن سائر الأمم (وهذا منه إشفاق على أمته لا حسدا بأمة محمد، وقوله غلام على سبيل التعظيم ولا يجوز أن يتصوّر غير هذا المعنى في كلامه عليه السلام، لأن كمّل الخلق مطهرون من الحسد وغيره، فكيف بالأنبياء ولا سيما أولى العزم.)
التاسعة والأربعون: قال ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا، فإذا بإبراهيم عليه السلام، فسلمت عليه فردّ علي السلام، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح (هذا وان محمدا صلّى الله عليه وسلم قد أمر بالسلام على الأنبياء في الأرض والسماء، مع أنه أفضل منهم، لأنه عابر عليهم، فهو في حكم القائم وهم في حكم القعود، والقاعدة الشرعية أن يسلم القائم على القاعد، وفي هذا دلالة على استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن،
426
وإن كان الزائر أفضل من المزور، وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من العجب وغيره من أسباب الفتنة، والذين رآهم هم أرواح الأنبياء مشكلة بصورهم التي كانوا عليها في الدنيا عدا عيسى وإدريس والخضر والياس، وقد مر سبب ذلك في المعجزة الثلاثين المارة)، وإذا به رجل أشمط جالس بجهة باب الجنة، مسند ظهره إلى البيت المعمور (استدل من هذا جواز إسناد الظهر إلى الكعبة المشرفة واستقبال الناس بوجهه سواء فيها أو في غيرها من المساجد) ورأى الملائكة يطوفون فيه طواف الناس بالبيت الحرام، ورأى له بابين، فقال في نفسه لو أن قومي لم يكونوا حديثي عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين. ولهذا فإن عبد الله بن الزبير لما تغلب على الحجاز هدم الكعبة وبناها وجعل لها بابين تطبيقا لرغبة حضرة الرسول وهو في قبره، وتشبيها بالبيت المعمور الواقع فوق الكعبة، بحيث لو سقط منه حجر لسقط على الكعبة، ولكن الحجّاج عليه ما يستحق من الله هدمها وأعادها على ما كانت عليه بحجة، أن عمل ابن الزبير بدعة، وياء يخشى البدعة ويرتكب الموبقات) قال وان البيت المعمور من عقيق محاذ إلى الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من باب ويخرجون من الباب الآخر لا يعودون إليه أبدا.
الخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد، قال فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون، فصليت فيه ركعتين، وقال لي إبراهيم أقرئ أمتك منّي السلام وقل لهم يكثروا من به غراس الجنة طيّبة التربة عذبة الماء وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحادية والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم واستقبلتني جارية لعساء أي شفتيها تضرب إلى السواد وهو وصف مستملح فيهن فقلت لها أنت لمن قالت لزيد بن حارثه أي الذي تبناه صلّى الله عليه وسلم وزوجه بنت عمته ثم طلقها وتزوّجها هو فآثره الله بدلها في الجنة كما آثر حضرة الرسول في الدنيا على ماله ونفسه. الثانية والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم من النار والنصف الآخر من الثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفىء النار، وهم يقولون اللهم كما ألفت بين النار والثلج ألف
427
بين قلوب عبادك المؤمنين. الثالثة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى وهي شجرة فوق السماء السابعة، في أقصى الجنة تنتهي إليها الملائكة بأعمال أهل الأرض السعداء وإليها تنزل الأحكام الشرعية، والأنوار الرحمانية، وإذا ورقها كآذان الفيلة (أي في الشكل لا في السعة واللون) لأن الواحدة منها تظل الخلق وثمرها كالقلال (جمع قله وهي الحجرة الكبيرة) أو القربة التي تسع ثلاثا وثمانين حقّه، وقد أمّ تحتها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الملائكة، فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس في الأرض وإمام الملائكة في سدرة المنتهى في السماء، فظهر فضله على أهل السموات وأهل الأرض كلهم، قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت يخرج من أعلى السدرة أربعة أنهار: نهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل، ونهر يسمى نهر الرحمة، ورأيت نهر الكوثر أيضا يخرج من أصلها. الرابعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ أي قباب الدّر وإذا ترابها المسك، ورمانها كالدلاء، وطيرها كالبخت (أي الإبل ذات السنامين) فمشيت حتى انتهيت الى الكوثر، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، فشربت منه فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك وأبيض من الثلج، وإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مما أعده الله تعالى لأهل طاعته وقربه. الخامسة والخمسون:
قال صلّى الله عليه وسلم ثم نظرت إلى السدرة وقد غشيها ما غشيها من نور الحضرة الإلهية أي شيء عظيم أظلها فصار لها من الحسن غير تلك الحالة، فما أحد يستطيع أن ينعتها من حسنها ولا يصف ما فيها إلا الذي أبدعها، ورأيت جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عليه له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق ما بين المشرق والمغرب يتناثر من أجنحته الدر والياقوت كهيئته حين رآه في الأرض عدا الدر والياقوت الذي يتناثر منه في الجنة. راجع الآية ٢٣ من سورة التكوير المارة وقد تأخر عني فقلت له يا جبريل في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله فقال هذا حدّي لو تجاوزت لأحرقت بالنور وتلا (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الآية ١٦ من سورة الصافات في ج ٢، واعلم أن جبريل عليه السّلام تلا هذه الآية وقبلها تلا آية ٤٢ من الأنفال، قبل أن تنزلا على حضرة الرسول، لأنه نزل بالقرآن كله إلى بيت
428
العزّة كما أشرنا إليه في المقدمة، فهو يحفظه كله، ولذلك كان حضرة الرسول يتداول معه تلاوة القرآن ويقرأه عليه في كل سنة فلا يقال من أين علم جبريل هاتين الآيتين ولما تنزل بعد، أما آية الأعراف ٨٤ المارة في المعجزة السابعة عشرة فكانت نازلة مع سورتها، ثم أنه صلّى الله عليه وسلم لما سمع من جبريل ذلك تعطف عليه وقال يا أخي يا جبريل هل من حاجة إلى ربك؟ قال يا محمد سل الله أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه إلى الجنة. السادسة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم زج بي في النور فخرق بي سبعون حجابا ليس فيها حجاب يشبه حجابا وغلظ كل حجاب مسافة خمسمائة عام، وانقطع عن حسن كل ملك، فلحقني عن ذلك استيحاش، فنادى مناد بلغه أبي بكر قف فإن ربك يصلي أي يقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي.
السابعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم وجاءني نداء من العلي الأعلى أدن يا خير البرية، فأدناني ربي، فكنت كما قال، (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) الآية ٨ من سورة والنجم المارة. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال عرج بي من السماء الدنيا إلى السابعة على جناح الملائكة، ومن السماء السابعة إلى السدرة على جناح جبريل، ومن السدرة إلى العرش على الرفرف، وهكذا النزول على هذا الترتيب، والرّفرف بساط عظيم (نظير المحفّة عندنا) قال صلّى الله عليه وسلم وناداني جبريل من خلفي يا محمد إن الله يثني عليك، فاسمع وأطع، ولا يهولنّك كلامه أن تعيه فبدأ عليه الصلاة والسلام بالثناء بقوله التحيات لله والصلوات والطيبات لله، فقال تعالى السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وهو في مكانه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتابعه جميع الملائكة.
مطلب ما بدأ الله تعالى به حضرة الرسول وما قال له والعلوم التي منحه إياها:
الثامنة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده المقدسة بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد، فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلم خيّرني فيه، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي.
429
يستدل من هذا أن العلوم الشتى هي العلوم الثلاثة المذكورة، كما تدل عليه الفاء الفرعية وهي زائدة على علوم الأولين والآخرين، فالأول وهو الذي أمره بكته من باب الحقيقة الصّرفة، والثاني الذي خيره فيه من باب المعرفة، والثالث الذي أمره تبليغه للعامة والخاصة من باب الشريعة، قال أبو يزيد البسطامي رأيت ربّي في المنام فقلت كيف الطريق إليك، فقال أترك نفسك وتعال. وقال حمزة الفارسي قرأت القرآن على ربي في المنام، فلما قرأت: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) قال قل وأنت القاهر يا حمزة. التاسعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم سمعت كلام الحق كما سمعه موسى، أي من جميع جهاتي وبكل أجزائي بلا كيفية، ورأيته بعين رأسي بلا كيفية، هذا وإن جميع الأنبياء رأوا ربهم حال الانسلاخ الكلي بأعين بصيرتهم، وإن الرسول محمدا رآه بعين رأسه على الصحيح، وقدمنا في الآية ٤٠ من سورة بالنجم والآية ٢٣ من سورة القيامة والآية ١٤٣ من سورة الأعراف المارات ما يتعلق في بحث رؤية الله تعالى فراجعها، وهذه الرؤية الحقيقية جعلت له صلّى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم مرة واحدة ففضل فيها على المرسلين كافة، أما رؤيته حال الانسلاخ بعين بصيرته كغيره من الأنبياء فكثيرة جدا، أما غير الأنبياء من مؤمني البشر فيجوز أن يروه في المنام كأبي يزيد البسطامي وحمزة الفارسي وغيرهما من صالحي هذه الأمة المباركة، ولا ينافي ذلك الحكم الشرعي، بل يوافقه وعليه الإجماع.
قال صلّى الله عليه وسلم ثم فرض عليّ وعلى أمّتي خمسين صلاة في اليوم والليلة، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت موسى فقال لي ما فرض الله على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، قال إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، واني قد خبرت قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، قال عليه السلام فرجعت إلى ربي (أي من الفلك السادس الذي فيه موسى إلى المحل المشرف الذي خاطبه به ربه) فخررت ساجدا فقلت أبا رب خقف عن أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى وأخبرته، فقال إن أمتك لا تطيق ذلك إرجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال فلم أزل أرجع بين ربي وموسى وهو يحط عني خمسا خمسا حتى قال موسى بم أمرت؟ قلت بخمس صلوات كل يوم وليلة، قال إرجع فاسأله التخفيف، فقلت
430
قد راجعت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، فلما جاوزت نادى مناد أن قد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي، وقال من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال فجاوزته وهبطت راضيا بما فرض علي وتفضّل وتقدم. هذا الحديث القدسي بلفظه الكامل في الآية ٨٤ من سورة القصص المارة، وهذه الصلوات الخمس لها أجر الخمسين كما جاء في رواية أخرى، وبأخري الحسنة بعشر أمثالها. واعلم أنه يوجد أناس لا خلاق لهم من العلم والفهم ينكرون تردّد حضرة الرسول بين موسى وربه ويتذرعون بما لا قيمة له ولا مستند، مما يقولونه للعوام، إن محمدا أفضل من موسى ولا يمكن بل لا يجوز أن يكون المفضول واسطة للأفضل كي يقنعوهم بعدم صحة هذه الرواية، وهذا من التعصب بمكان، لأن هذا الحديث رواه البخاري عن الثقات العدول، ولا أصح من رواته ولا منه إلا كتاب الله، أما قاعدة الفاضل والمفضول والشبه به فليست على بابها وإطلاقها كما بيناه في الآية ١١٤ من سورة طه المارة، على أن جبريل هو الواسطة بين الله ورسوله، فهل نقول إنه أفضل من محمد، كلا، راجع الآية الأولى المارة وهؤلاء إنما يقولون ما يقولون ليتوصلوا به إلى الطعن في الإمام البخاري من أنه أدخل في صحيحه ما ليس بصحيح، ويقصدون الطعن في صحة المعراج بالروح والجسد كما أشرنا إليه آنفا في المعجزة الخامسة. الستون: قال صلّى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي سبعين مدينة تحت العرش كل مدينة مثل دنياكم هذه مملوءة من الملائكة يسبحون الله تعالى ويقدسونه ويقولون اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة، ورأيت مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل عليه السلام (إذ رافقه في النزول من المحل الذي تخلف عنه في الطلوع) ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده شيء والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة. الحادية والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت رضوان خازن الجنة، وقد فرح بي حين رآني ورحب بي وأدخلني الجنة وأراني عجائب ما فيها، ورأيت فيها درجات أصحابي والقصور والأنهار والعيون والأشجار مما أبدعه الواحد
431
القهار، وسمعت فيها صوتا يقول آمنا بربّ العالمين، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟
قال صوت سحرة موسى وأرواحهم حيث أكرمهم الله تعالى كرامة مضاعفة بسبب إيمانهم بموسى وإخزاء فرعون ونبذهم ما خوفهم به لقاء ما أعده الله لهم من النعيم المقيم.
الثانية والستون: قال صلّى الله عليه وسلم وسمعت صوتا آخر يقول لبيك لبيك، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الحجاج، وسمعت أناسا يقولون الله أكبر الله أكبر، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الغزاة، وسمعت أناسا يسبحون الله تعالى، فقلت من هم؟ قال أرواح الأنبياء، ورأيت قصور الصالحين (في أمور دينهم ودنياهم، أما الصالحون لعمارة الأرض فقط فصلاحهم لا يغنيهم عند الله شيئا ولا يدفع عنهم عذابه). الثالثة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم عرضت علي النار، قال عرضت لأنها في تخوم الأرض السفلى، إذ لا حاجب يمنع نفوذ بصره صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك لما أودع في كل جوارحه من قوة خارقة للعادة لا طلاعه على عظائم الأمور في إسرائه ومعراجه، وهذا من قبيل الاطلاع، كما ضرب الله الأمثال السابقة في إسرائه ما بين مكة والقدس، قال صلّى الله عليه وسلم وإذا مكتوب على بابها (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية ٤٣ من سورة الحجر في ج ٢، وأبصرت ملكا لم يضحك في وجهي، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا مالك خازن جهنم، وكأنه عرف المغزى من سؤاله، فقال هذا لم يضحك منذ خلقه الله، ولو ضحك لأحد لضحك إليك، فقال جبريل يا مالك هذا محمد فسلم عليه، قال فسلّم علي وهنأني بما صرت إليه من الكرامة. الرابعة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم إن الله تعالى أطلعني على ما فيها، فإذا فيها غضب الله وسخطه، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها وأريت فيها قوما يأكلون الجيف، فقلت من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أي يغتابونهم، وأريت فيها قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم، فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يحلقون بالله كذبا، وأريت جماعة من النساء علقن من شعورهن، فقلت من هن؟ قال اللاتي لا يستترن من غير محارمهن، ورأيت منهن جماعة لباسهن من القطران، فقلت من هن قال هؤلاء الذين ينحن على الأموات ويعددن صفاتهم. واعلم أن المنوح عليهم والمعدد صفاتهم ليس عليهم شيء إلا إذا أوصوا
432
بذلك فيكون عذابهم كعذابهم: الخامسة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم نزلنا من السماء الدنيا بالصورة التي صعدنا عليها، فرأيت أسفل منها هرجا ودخانا وأصواتا، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا الى العلامات ولا يتفكروا في ملكوت السموات، ولولا ذلك لرأوا العجائب مما سواه العظيم وأبدعه في هذا الكون، قال ونزلت على المعراج الى صخرة بيت المقدس التي ركبته منها (يدل هذا الذي أراه الله الى نبيه في الأرض والسماء وما بينهما من الجنة والنار على طريق ضرب المثل أن الجنة والنار مخلوقتان، خلافا لمن زعم عدم خلقهما ممن خالف الإجماع.) السادس والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم جيء لي بالبراق فركبته وتوجهت الى مكة في الصورة التي جئت فيها، حتى وصلت بيت أم هانىء الذي أسري بي منه، فنزلت وذهب جبريل ومن معه. وتمت هذه الرحلة المباركة على الوجه المار ذكره فقعدت حزينا، لأني اعرف أن الناس لا يصدقونني، ثم سألتني أم هانىء عن غيبتي، فقصصت عليها ذلك كلمه، فقالت يا ابن عم أنشدك الله لا تحدث بهذا قريشا فتكذبك، ومسكتني من ردائي لئلا أخرج من البيت، فانتزعته منها وخرجت حتى انتهيت إلى قريش بالحطيم، فقال أبو جهل هل من خبر؟ استهزاء، قلت نعم، قال ما هو؟
قلت أسري بي الليلة إلى البيت المقدس (فلم ينكر عليه مخافة أن لا يحدث بذلك) وقال لي أتحدث قومك بهذا إذا آتيتك بهم؟ وذلك لأنه استعظم ما سمعه منه وعرف أن أحدا لا يصدقه بذلك، قلت نعم، قال فسكت مخافة أن أجحده، قاتله الله كيف وهو الصادق المصدوق، فذهب عليه اللعنة الى مجمع الناس وصاح بأعلى صوته يا معشر كعب بن لؤي، فانقضت إليه المجالس من كل جهة، حتى اجتمعوا فجاء بهم إليّ، وقال حدثتهم بما حدثتني به، فقص عليهم إسراءه، فقال أبو جهل صف لنا الأنبياء الذين صليت بهم في بيت المقدس، فوصف صلّى الله عليه وسلم لهم الأنبياء واحدا واحدا، وهذه المعجزة السابعة والستون إذ جعل الله تعالى صورهم أمامه نصب عينه كما رآهم هناك حتى صار ينظر إليهم ويصفهم واحدا واحدا، لم يخطىء بواحد منهم، قال فضجوا إعجابا بما ذكر وإنكارا وحلفوا بلاتهم أن لا يصدقوه، وقالوا إنا نضرب آباط الإبل شهرين ذهابا وإيابا من مكة الى البيت المقدس، فكيف تقطع هذه ت (٢٨)
433
المسافة بجزء من الليل، وذلك لجهلهم بقدرة الله وكرامة هذا النبي عنده، وارتد أناس ممن كان آمن به لقلة إيمانه، لأن ما سمعوه منه لم تقبله عقولهم القاصرة، وهذا سبب خوف أم هانىء رضي الله عنها وإصرارها على حضرة الرسول أن لا يحدث قريشا يقصته، ولكنه صلّى الله عليه وسلم لا تأخذه بالحق لومة لائم. ثم أن قريشا أخبرت أبا بكر بذلك ليستعظمه ويعذر المرتدين فقال لهم إن كان قال هذا فلقد صدق (انظروا أيها الناس هذا الإيمان العظيم إذ صدقه على أخبار أعدائه قبل ان يسمع منه) قالوا أتصدقه يا أبا بكر على طريق الاستفهام الإنكاري استعظاما لما قاله لهم؟ قال أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه على خبر السماء في غدوة كل يوم وروحة، لأنه أمين الله، فسمي الصديق مبالغة من كثرة صدقه وتصديقه لحضرة الرسول، وشرف بهذا اللقب الجليل من ذلك اليوم، وهي منقبة وكرامة له ومعجزة لحبيبه صلّى الله عليه وسلم لأن هذه التسمية من قبل الله تعالى وهي المعجزة الثامنة والستون. ثم إن قريشا؟؟؟ على محمد صلّى الله عليه وسلم وطلبت منه دليلا آخر على إسرائه غير وصف الأنبياء، فقالوا صف لنا بيت المقدس، أرادوا بذلك أن يأثروا عليه كذبا إذا أخطأ في وصفه لأنهم يعلمون أنه لم يره قط، وفيهم من يعرفه لزيارته له، فشرع صلّى الله عليه وسلم يقصه لهم أولا بأول وهم يقولون صدقت صدقت حتى توقف في بقية أوصافه، فلحقته كربة لم ير مثلها في حياته، فأغاثه ربه وجلّى له بيت المقدس (وذلك بأن كشف له الحجاب فيما بينه وبينه حتى رآه وهو في مكانه، أو أن الله تعالى أعدمه هناك وأوجده أمامه في تلك اللحظة يؤيد هذا ما روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واحمد عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه وقال صلّى الله عليه وسلم ثم أعاده لمكانه كما أوضحناه في أمر عرش بلقيس في الآية ٣٩ من سورة النمل المارة فراجعها وراجع الآية ٨٥ من سورة ق المارة، بحيث لا يحس به أحد غيره ولا شيء على الله بمحال فسرّ صلّى الله عليه وسلم سرورا لم يره في حياته بسبب نظر الله إليه عند ضيقه هذا وصار ينظر إليه ويصفه لهم حتى جاء على جميعه، فقالوا أصبت ولكن يحتمل أنك حفظت أوصافه من الناس. التاسعة والستون ثم قالوا له ائتنا بآية ثالثة على ذلك
434
محسوسة غير قابلة للتأويل، فقال لهم اني مررت حين ذهابي بعير لبني فلان بوادي كذا في الروحاء (محل قريب من المدينة) ورأيتهم قد ضلوا بعيرا لهم فانتهيت الى رحالهم وإذا قدح فيه ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك (هذا وان شرب الماء بغير اذن مباح عندهم ولم يزل كذلك ولذلك شرب دون استيذان.
مطلب انكار قريش وامتحانهم للرسول وحبس الشمس:
فقالوا إن لنا عيرا آتية من بيت المقدس فاخبرنا عنها نصدقك فقال إني مررت بعيركم في التنعيم (محل قريب من مكة) فقالوا صفه لنا فوصفه لهم وبين عدد جمالهم وقال إنها تطلع عليكم مع طلوع الشمس أي في اليوم التالي يتقدمها جمل أورق (هو الأبيض المائل للسواد) عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أي (فيها بياض وسواد).
فهذه آيتان محسوستان لكم بدلا من الواحدة إن كنتم تؤمنون. قالوا له ننظر، فذهبوا حتى إذا أدبر الليل ابتدروا وتسابقوا الى الثنية يتراءون العير فلما قرب طلوع الشمس قال قائلهم هذه والله الشمس قد طلعت ولم تر العير فأين قول محمد صلّى الله عليه وسلم، فلم يقض قوله إلا وقد قال الآخر هذه والله العير قد أقبلت وقد صدق محمد صلّى الله عليه وسلم وها هي يتقدمها جمل أورق وعليه الغرارتان كما ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم. قيل في هذه الحادثة إن الشمس تأخرت عن زمن طلوعها مدة حتى أقبلت العير ورأوها ثم طلعت وهذه تمام السبعين معجزة في هذه المرحلة المباركة وهذا آخر ما اطلعنا عليه في هذه الحادثة الجليلة من المعجزات وقد تبلغ الى التسعين إذا عدت منفردة لأنا جمعنا ما رأى في الجنة وما رأى في النار باعتبار كل منها معجزة وهي معجزات كثيرة ومعجزاته صلّى الله عليه وسلم لا تعد ولا تحصى ولا يستبعدها إلا الأحمق الجاهل يقدر حضرة الرسول ومكانته صلّى الله عليه وسلم عند الله. واعلم أن الشمس حبست لسيدنا داود ولسليمان ويوشع وموسى ولا يقال إن حبسها مشكل لأنه يختلف فيه سير الأفلاك ويفسد فيه نظام جريانها لأن هذا من المعجزات وهي من الأمور الخارقة للعادة ولا مجال للقياس في خرق العادة وقد وقع له صلّى الله عليه وسلم رجوع الشمس بعد غروبها في خيبر فقد جاء عن اسماء بنت عميس قالت كان عليه الصلاة والسلام يوحى إليه ورأسه الشريف في حجر علي كرم الله وجهه ولم يسر عنه حتى غربت الشمس ولم يصل العصر علي فقال صلّى الله عليه وسلم أصليت العصر يا علي
435
قال لا فقال صلّى الله عليه وسلم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت حتى صلّى علي كرم الله وجهه العصر ثم غربت ثانيا، ووقع له هذا أيضا أيام حفر الخندق وهذا من أعلام النبوة فاعتقد أيها القارئ وافهم لك حكمة الباري واحفظ ما لنبيّه عنده من الكرامة وتيقن قبل أن تحيق الندامة راجع الآية ٣٣ من سورة ص وأول سورة القمر ففيها ما يشفي الغليل ويثلج الصدر هذا ولما تجلى لقريش ذلك كله تاب المرتدون ورجعوا إلى الإيمان وأصر المشركون على إنكارهم. وقالوا سحرنا محمد وتواطئوا على هذه الكلمة قاتلهم الله وأخزاهم وقد استغرقت رحلته عليه السلام أربع ساعات زمانية وهي وما رآه في رحلته هذه من المعجزات المارة الذكر قد خصّه الله بها إذ ليس بطوق البشر الحصول على جزء منها واعلم أرشدك الله ومكّن إيمانك ان الله تعالى جلت قدرته قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الزمن الطويل والمسافة البعيدة لمن يشاء وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. وبهذه المناسبة نذكر ما وقع لبعض الأفاضل في بغداد وكان يعظ الناس بعد العصر فجاءت سحابة فغطت الشمس فظنوا أنها غابت وأرادوا الانصراف فأشار إليهم ان لا ينصرفوا ثم انحرف لجهة العرب وقال:
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان له ولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله
فلم ينته إلا والشمس قد طلعت، فرمى عليه من الذهب ما أثقله حمله، وهي اتفاقية لا معجزة ولا كرامة.
مطلب في دوران الشمس والأرض والدّم وحكاية اتفاقية وان الاسراء اسراءان وغيره:
واعلم أن الفلكيين قالوا إن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى بتحوير الأرض عنه في أقل من ثانية، والثانية جزء من ستين جزءا من الدقيقة، والدقيقة جزء من ستين جزءا من الساعة والساعة خمس عشرة درجة فلكية، لأن كل درجة أربع دقائق، فإذا كانت هذه السرعة ممكنة في الجمادات فكيف لا تكون ممكنة في أشرف المخلوقات؟ على أن القلب يسير بصاحبه من
436
الشرق الى الغرب بل في جميع أنحاء العالم بلحظة واحدة بسبب لطافته ويدور الدم في الوجود كله ويرجع لمركزه بالدقيقة الواحدة ما يزيد على سبعين مرة والقوة الكهربائية تصل من الشرق إلى المغرب بلحظة، وإذا كان كذلك وهو كذلك أفلا يجوز أن يوجد الله تعالى تلك اللطافة والقوة بوجود المصطفى بقدرته البالغة؟ بلى، وهو على كل شيء قدير، وقدمنا آنفا في مبادئ هذه السورة ما يتعلق بهذا الإسراء وكونه يقظة، وفنّدنا ما يضاد هذه الأقوال بعد بيان المعجزة الخامسة أما ما جاء في حديث شريك من أن الاسراء وقع قبل الوحي رؤية فهو خطأ، وقد انتقد هذا الحديث الذي أخرجه البخاري جماعة من أهل العلم، وعلى فرض صحته يكون إسراءان واحد في المنام وقع له صلّى الله عليه وسلم توطئة وتيسرا لما تضعف عنه القوى البشرية من الأمور التي وقعت في الثاني، وإليه الاشارة بقوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ الآية ٦ الآتية من هذه السورة، وواحد في اليقظة بروحه وجسده وهو ما عليه الجمهور، قال في الكشف هذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأحاديث والأخبار، وقدمنا في الآية ١٨ من سورة الجنّ ما له علاقة في هذا البحث فراجعه، وقدمنا في الآية (٩) فما بعدها من سورة والنجم قول الزهري بأنه سنة خمس أي سنة نزولها وبينا أن هناك أقوالا بأكثر وأقل أعرضنا عنها لعدم التثبت من صحتها، وقد ذكرنا أيضا هناك الاشكال الذي حصل لنا بفرضية الصلاة، لأن الفقهاء أجمعوا على أنها فرضت سنة عشر ليلة الإسراء، وسورة النجم نزلت سنة خمس.
واعلم أن ما ذكره النووي في الروضة من أنه وقع في السنة الحادية عشرة أي بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر فيه تسامح، لأنه اعتبر مبدأ التاريخ من شهر الولادة في ١٢ ربيع الأول سنة ١ منها والبعثة وقعت سنة ٤١ من ولادته في ٢٧ رمضان والاسراء وقع في رجب سنة ٥١ قولا واحدا، فيكون على قول النووي عشر سنين وعشرة أشهر بتداخل السنتين المذكورتين وحساب طرفيهما، والحق أنه بعد البعثة بتسع سنين وعشرة أشهر لا عشرة أيام، لأن الكلمة مجمعة على أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة كما أن الكلمة مجمعة على أنها فرضت ليلة الإسراء، فيكون
437
إذا صح ما قاله الزهري ان الله تعالى أخبر عن الإسراء الأول الذي وقع عند نزول سورة النجم. بنزول سورة الاسراء هذه، كما أن الهجرة الشريفة وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة عند نزول سورة العنكبوت، وقد أخبر الله عنها في سورة التوبة التي هي آخر ما نزل في المدينة، وكما أن فتح مكة رآه حضرة الرسول عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وحققه الله فعلا سنة ثمان منها، وقضايا أخرى كثيرة كحادثة الندوة وغيرها، فعلى هذا يكون سبب عدم التحدث بها كون عبادته إذ ذاك كانت خفية لقلة المسلمين وضعفهم، أو من قبيل ما تأخر حكمه عن نزوله، راجع تفسير سورة الكوثر المارة وما ترشدك اليه فيما تأخر حكمه عن نزوله وبالعكس، هذا والله أعلم وقد ذكرت غير مرة أنه لم يحصل لي إشكال ولله الحمد حتى الآن إلا في قضية فرضية الصلاة هل هي عند نزول سورة والنجم أو هذه السورة، وهل الإسراء وقع هناك أو هنا، ولهذا لم آل جهدا يتقبّل أقوال العلماء فيها، والسؤال أيضا من العلماء الموجودين والله ولي التوفيق. أما الأقوال الواقعة في يوم الإسراء فهي كثيرة أيضا ولا طائل تحتها لذلك قد صرفت النظر عن سردها اكتفاء بالأقوال المجمعة على أنه يوم السابع والعشرين من شهر رجب سنة ٥١ لبلوغها حد التواتر ثم نزل جبريل عليه السلام على حضرة الرسول ليعلمه أوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها وأول صلاة صلاها بحضرة الرسول صلاة الظهر وأمه جبريل بها كلها يومين يوم بأول أوقات الصلاة ويوم بآخرها مستقبلا صخرة بيت المقدس وقال له الوقت ما بين هذين الوقتين والصلاة في هذه الأوقات وعلى هذه الصيغة والصفة كما هي عليه الآن إلا أنها كانت ركعتين ركعتين فاقرت في السفر وزيدت الرباعيات في الحضر. ثم اعلم أن الصلاة على هذه الصفة من خصائص هذه الأمة ونبيّها، وكانت مفروضة على الأنبياء وأممهم متفرقة، وأول من صلّى الصبح آدم عليه السلام حين أهبط الى الأرض، ورأى ظلمة الليل وابتلاج الفجر بعده، وأول من صلّى الظهر ابراهيم عليه السلام حين فدى الله له ابنه إسماعيل، وأول من صلّى العصر يونس عليه السلام حينما نجاه الله من ظلمات البحر، وأول من صلّى المغرب عيسى عليه السلام حين شرفه الله بالإنجيل وأعطاه
438
إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وأول من صلّى العشاء موسى عليه السلام حين خرج من مدين وضل الطريق فكان هداه فيه، راجع الآية ٣٠ من سورة القصص المارة.
مطلب تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكمة فيها:
لكن صلاتهم ليست على هيئة صلاتنا هذه وعدد ركعاتها، إذ كل منهم أداها على النحو الذي ألهمه الله إياه، والحكمة في كونها خمسا لا يعلمها على الحقيقة إلا الله، وقيل لأن الحواس خمس وتقع المعاصي فيما بينها ليلا ونهارا، وقد أشار صلّى الله عليه وسلم الى هذا المعنى بقوله أرأيتم لو كان على باب أحدكم نهر جار ليغتسل منه منه في اليوم والليلة خمس مرات، أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا يا رسول الله، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. وقد سئل ابن عباس هل تجد الصلوات الخمس بالقرآن، قال نعم إن أوقاتها مبينة في قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الآية ١٨ من سورة الروم من ج ٢، وكذلك من الآية ١٣٠ من سورة طه المارة، وكذلك في الآيتين ٧٧ و ٧٨ الآتيتين من هذه السورة، أما عدد ركعاتها فلم بشر إليه القرآن، وإنما ثبتت بفعل الرسول صلّى الله عليه وسلم وتعليمه وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل من نفسه بل بوحي من ربه القائل (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية ٧ من سورة الحشر في ج ٣ وقال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) الآية ٧٩ من سورة النساء من ج ٣ أيضا قال تعالى «وآتينا موسى الكتاب» جملة واحدة منسوخا على الواح بخلاف القرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فإنه أنزل بحوتا على قلبك بواسطة الملك وأوعينا كه بلغتك ووقّرناه في صدرك غير منسوخ على شىء لأنك أمي راجع بحث نزول القرآن في المقدمة «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» آل يعقوب الملقب بإسرائيل (أي صفوة الله من خلقه) ليهتدوا بهديه وقلنا لهم فيه «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» ٢ تتكلون عليه في أموركم يا «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» في السفينة وانجيناه من الغرق حين لم يكن له من يتوكل عليه غيرنا «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» ٣ لي يحمدني على طعامه وشرابه ولبسه واظلاله كثيرا ولهذا وصفه
439
بالشكر «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ» أعلمناهم في التوراة وقلنا لهم على لسان رسولهم وحيا «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ» التي بوأناكم إياها من الشام وبيت المقدس وأطرافهما بأنكم ستعملون فيها الشرور والمعاصي والعبث بالناس «مَرَّتَيْنِ» الأولى قتل شعيا وحبس أرميا عليهما السلام حين إنذراهم سخط الله تعالى إن لم يقلعوا ممّا هم عليه، والثانية قتل يحيى والتصدي لقتل عيسى عليهما السلام لما دعواهما إلى الله والدين الحق الذي عبثوا به وغيروا أحكامه، يقول الله تعالى وعزتي وجلالي لتفعلنّ ذلك «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» ٤ فتتكبرون على الناس وتظلمونهم وسنسلط عليكم من لا يرحمكم انتقاما لهم «فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما» أي العذاب الموقت المقدر لعقاب المرة الأولى لعدم ارتداعكم عن الإفساد واغتراركم بإمهال الله «بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا» مسخرين فيما نقضيه فيكم على أيديهم قالوا هو بختنصر الذي لم يعرف اسم أبيه، وكان عاملا على العراق لملك الأقاليم (لهراست ابن كى اجنود) وكان ذلك مشتغلا بقتال الترك فوجه بختنصر إلى بني إسرائيل وهذه الإضافة ليست للتشريف لأن الكافر ليس بأهل له ولكن من قبيل قوله تعالى:
(كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) الآية ١٢٩ من الأنعام في ج ٢، ولأنها جاءت باللام المفيدة للملك والكل مملوكون فلا محل للقول بأنها أي جملة (عبادا لنا) اضافة تشريفية البتة وعلى هذا ما ورد في الحديث القدسي (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه) أي أنه آلة للانتقام فيكون المراد من الآية والحديث بيان كون هؤلاء المسلطين مظاهر لأسمائه تعالى المذل المنتقم الجبار ثم وصف هؤلاء العباد بأنهم «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» في القتال أصحاب شوكة وبطش في الحرب لا يقاومون لشدة شكيمتهم وكثرة عددهم وعددهم الدال عليه التنوين «فَجاسُوا» أي يجوسون، وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه أي أنهم إذا جاءوكم لا يكتفون بقتل للقاتل منكم بل انهم يطوقون المنازل ويتحرون الفارين والمخبّئين لاستقصاء القتل والسلب والأسر، فلا يتركون أحدا من شرهم، ولهذا فإنهم يفتشون «خلال» بين وأواسط وأطراف «الدِّيارِ» الكائنة في بيت المقدس فيقتلون من عثروا عليه فيها من علمائهم وأحبارهم ووجهائهم غير مراعين حرمته ومن بجواره حتى إنهم ليخرّبون البيت نفسه ويحرفون
440
التوراة ويسلبون ويأسرون من عثروا عليه «وَكانَ» معروفا في أزلنا اجراء هذا العقاب الذي نوعدهم به في هذه القسوة الصارمة التي لا رحمة فيها ولا شفقة ولا مروءة «وعدا» منا أوحينا به إلى أنبيائهم، وأنذروهم به وخوفوهم غبّه ولم يمتثلوا ولهذا صار «مَفْعُولًا» ٥ واقعا البتة لكونه قضاء مبرما من لدنا لا مردّ له، وكان ذلك كله، وانتهكوا حرماتهم أيضا وسبوا سبعين ألفا منهم، فجعلوهم أرقاء لهم «ثُمَّ» بعد هذا الحادث العظيم الفظيع «رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ» الغلبة والدولة بأن جعلنا لكم السلطة «عَلَيْهِمْ» أي على الذين تسلطوا عليكم وفعلوا ما فعلوا بكم إذ قتل بختنصر واستنقذ المسبيّين من دولته ورجعنا لكم الملك والسطوة في بيت المقدس وحواليه ورجعنا حالتكم إلى أحسن مما كانت عليه قبلا، يدل على هذا قوله تعالى «وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ» زيادة على ما كان عندكم وقويناكم وباركنا فيكم حتى صرتم أكثر عددا وغناء مما كنتم عليه قبل القتل والسبي والنهب «وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» ٦ جيشا من عدوكم إذ ظهر لنا بعد إيقاع الذل فيكم والصغار عليكم وخلودكم إلى المسكنة وتمادي عدم الرحمة عليكم من عدوكم، أنكم تبتم ورجعتم إلى الطاعة والإيمان وتركتم الإفساد والعصيان وجزمتم على عدم العودة إلى الكفر بنعمنا وذلك كما قيل بعد مائة سنة كما سيأتي بالقصة بعد. واعلموا يا بني إسرائيل أنكم «إِنْ أَحْسَنْتُمْ» في هذه المرة فيما بينكم وبين الله وبين الناس وامتثلتم أوامر الله وأعرضتم عن نواهيه فيما بينكم وبين الله وخلقه من الآن فصاعدا عن إيمان صادق واخلاص وايقان وحسن نية، فتكونوا قد «أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» لأن فائدة الإحسان تعود عليكم ونفعه خاص بكم «وَإِنْ أَسَأْتُمْ» فيما بينكم وبين الله وبين خلقه، وانتهكتم حرماته ورجعتم على الإساءة الأولى واستمررتم عليها «فَلَها» فلأنفسكم تكون العاقبة السيئة خاصة، جزاء لإساءتكم المكررة ونقضكم عهد الله ورجوعكم إلى ما تبتم عنه، فعليكم من الآن أن تنتبهوا يا بني إسرائيل «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» أي عقابها المترتب على رجوعكم إلى المنكرات وعودكم إلى الإفساد في البلاد والعباد، بعد هذه النعمة التي مننّا بها عليكم، فاعلموا أن ما ينزل بكم أشد وأفظع وأكبر من العقاب الأول بدلالة قوله جل قوله وعزتي وجلالي
441
«لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ» بأن يوقعوا فيكم أفعالا عنيفة فظيعة تخزيكم خزيا يظهر أثر كآبته على وجوهكم بأكثر مما فعلوه بكم في المرة الأولى من الخزي والعار والهوان والذل والصغار «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ» عنوة فينتهكوا حرمته ويهدموه ويحرقوا ما فيه من الكتب والآثار ويقتلون من يحتمي به ومن في جواره من علماء وأحبار وربانيين وغيرهم «كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إذ فعلوا به وبكم ذلك ولم يرعوا له حرمة ولا لكم رحمة «وَلِيُتَبِّرُوا» يهلكوا ويمزقوا ويفتتوا «ما عَلَوْا» عليه من نفس ومال وبناء «تَتْبِيراً» ٧ لم تتصوره عقولكم والتتبير في اللغة التهديم، قال الشاعر:
وما الناس إلا عاملان فعامل يتبّر ما يبني وآخر رافع
أي أنهم يهدمون البناء والبنية من كل ما غلبوا عليه. قال سعيد بن جبير التتبير كلمة نبطية بمعنى الهلاك، أي يهلكون كل ما استولوا عليه أو وصلت إليه أيديهم دون رأفة، ولكن بني إسرائيل أنستهم نعم الله الشكر فعادوا إلى ما نهوا عنه فسلط الله عليهم الفرس والروم فقتلوهم شر قتله وسبوهم أشنع سبي ونهبوهم أفظع نهب.
مطلب واقعتا بني إسرائيل وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:
وخلاصة القصتين على ما ذكره الأخباريون من القصاص أن بني إسرائيل كانوا قبل داود عليه السلام، إذا ملك الله عليهم ملكا بعث معه نبيا يسدد أمره ويرشده، فلا يستبد بشيء دون مشورته، وكانوا تابعين لأحكام التوراة، إذ لم ينزل الله لهم كتابا بعدها إلى زمن عيسى عليه السلام، إذ أنزل عليه الإنجيل بتعديل بعض أحكامها فيما يختص بالمعاملات وفروع بعض العبادات أما ما يتعلق بأصول الدين الثلاثة الاعتراف بالإله الواحد والنبوة والرسالة والبعث والحساب، فمكلف بها جميع الخلق من نشأتهم إلى إبادتهم، لأنها لا تقبل التعديل ولا التأويل البتة، أما القاعدة الشرعية وهي تبدل الأحكام بتبدل الأزمان فهي خاصة بالمعاملات بين الناس فقط، أما ما يتعلق بالعبادات وفروعها فلا تبديل ولا تغير، على أنه قد يقع بعض تغير في فروع العبادات من حيث القلة والكثرة في العود والأوقات ونوع التوبة والعفو والقصاص ومقدار الزكاة ولزوم الحج والرخص والعزائم وشبهها كما سيأتي في الآية
442
٣٧ فما بعدها من سورة الشورى في ج ٢، قالوا لمّا صار الملك إلى رجل منهم يدعى صديقه بعث الله معه أشعيا عليه السلام نبيا وكان من جملة ما بشر به هذا النبي قومه (قوله أبشري أورشليم) يريد أرض سليمان لأن أور بمعنى أرض، وشليم بمعنى سليمان، إذ لا يوجد حرف السين بالعبراني، ولذلك يسمون موسى موشي وهي أراضي فلسطين المعروفة، الآن يأتيك راكب الحمار (يعني عيسى عليه السلام) ومن بعده صاحب البعير (يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم) قالوا وكانوا على أرغد عيش وأحسن حال ثم بعد زمان طويل كثرت فيهم الأحداث فغيروا وبدّلوا وطغوا وبغوا وكان ملكهم تمرض فجاءه النبي وقال له، إن سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة الف راية قد نزل بك وقد هابه جميع الناس خوفا منه، فقال يا نبي الله هل جاءك وحي من الله بشأني؟ فقال أوحى الله لي أن توصي وتستخلف من تشاء على ملكك، فإنك ميّت، فأقبل الملك على ربّه وصلى ودعا وتضرع وبكى بقلب مخلص قالوا فاستجاب الله دعائه وأوحى إلى نبيه بأنه أخر أجله خمس عشرة سنة، وان يجعل ماء التين على قرحته فيشفى، فأخبره النبي ففعل ما قاله له وشفي، ثم قال للنبي اسأل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع في عدونا، فأوحى الله إلى النبي أن يقول للملك إن الله تعالى بسبب إخلاصه كفاه شر عدوه، وانهم سيصبحون غدا كلهم موتى إلا سنجاريب وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فأخبر الملك بذلك وإذا بالصباح صوت الصارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فخرج الملك وبعد أن رأى فعل الله بعدوه أمر بإحضار سنجاريب والخمسة الباقين معه، فأحضروهم إلى قصره، فلما رآهم أذلاء أمامه خرّ لله ساجدا وبقي من الصبح إلى العصر، ثم رفع رأسه فإذا هم لا يزالون وقوفا فقال لسنجاريب كيف رأيت فعل ربنا بكم؟ فقال سنجاريب. أتانا خبره قبل أن نخرج إليكم ولم نطع المرشد، والقانا في الشقاء قلة عقولنا، فقال له الملك، إن الله تعالى لم يبقك وكتبتك إلا لتزدادوا شقاء في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما فعله ربنا فيكم، إذ أهلك جيوشكم كلها على غير علم منا ومنكم، فاذهبوا وأنذروا قومكم بذلك لئلا تحدثهم أنفسهم بغزونا ثانية، قالوا نفعل ثم
443
أمرهم وأذن لهم بالانصراف، فذهبوا ولما وصلوا بابل أخبروا قومهم بما وقع فيهم فجاء إليهم السحرة والكهان وقالوا قد أخبرناكم بربهم، فلم تقبلوا منا فكان ما كان ثم ان سنجاريب مات واستخلف بختنصر المار ذكره آنفا في الآية الخامسة، وما قيل أنه كان حفيد سنجاريب لم يتثبت من صحته، فقام بأمر قومه بعده، وقضى فيهم بقضائه، ثم بلغه أن مات ملك إسرائيل وأنهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا، ولم يصغوا إلى نبيهم ولم يسمعوا له قولا وأنهم لما شدّد عليهم بالوعظ والزجر والتهديد والتخويف عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فانفلقت له شجرة ودخل فيها فوضعوا المنشار على تلك الشجرة ونشروها حتى قطعوه في وسطها نصفين، وإن الملك كان استخلف عليهم ناشئة بن أحوص، ثم بعث الله لهم نبيّا ليسدّد أمرهم اسمه أرميا بن خليقائي من سبط هارون بن عمران.
مطلب الواقعة الأولى على بني إسرائيل:
ثم عظمت فيهم الأحداث وأكثروا الفساد فأوحى الله الى نبيهم أن يبلغهم سوء عاقبتهم ويذكرهم بأحوال الأمم السابقة المهلكة، وأسباب إهلاكهم وإنجاء المؤمنين منهم، وبين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وان ينذرهم بأن الله تعالى أقسم بعزته وجلاله أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه ويتوبوا الى الله ليقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، وليسلطن عليهم جبارا قاسيا يلبسه الهيبة وينزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، فأبلغهم ذلك نبيهم فلم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لقوله، فأوحى الله إلى نبيهم أرميا عليه السلام أبلغهم إني مهلكهم بيافث من أهل بابل، فقبضوا على نبيّهم وحبسوه بدل أن يسمعوا له ويطيعوه، فسلط الله عليهم بختنصر وأوقع في قلبه غزوهم، فخرج إليهم في ستمائة ألف راية من جنوده ووطئ بلادهم ودخل بيت المقدس، وقتل بني إسرائيل الذين هم فيه شر قتلة، وأدام القتل فيهم حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس وحرق ما فيه من كتب وأمر جنوده فملأوه ترابا، ثم أمرهم أن يجمعوا من بلاد القدس من بقي منهم، فجمعوهم وأحضروهم بين يديه فاختار منهم سبعين ألفا وقسمهم بين ملوكه، وخرج بهم والغنائم التي أخذها منهم وأثاث بيت المقدس، ثم فرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فرقة قتلهم وفرقة
444
سباهم وأسكن الثالثة بالشام، وتركهم وذهب لبلاده ظافرا، وهذه هي الواقعة الأولى التي حذر الله بني إسرائيل منها. قالوا ولما وصل بختنصر بمن معه بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقوم، رأى رؤيا عجيبة، وهي أنه رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وجنايا وعزاريا وميشائيل من ذراري أنبياء بني إسرائيل الذين هم في جملة السبايا، وسألهم تأويل رؤياه، فقالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، فقال لهم ما اذكرها لأني رأيت شيئا أنسانيها وكذلك نسيت الشيء الذي رأيته، فأنسانيها، ولم يبق شيء بفكري أبدا لا من الرؤيا ولا من الذي أنسانيها لشدة هول ما رأيت، ولئن لم تخبروني بتأويلها وبالذي أنسانيها لا نتزعن أكتافكم، فاستمهلوه وخرجوا من عنده فدعوا لله وتضرعوا إليه، فأوحى الله إليهم بها وبالذي أنساها له، فجاؤا إليه فقالوا له رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحلس وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد، قال صدقتم قالوا وبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستك ذلك، قال صدقتم فما تأويلها؟ قالوا إنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين من بعض ملكا، وبعضهم كان أشد ملكا، فالفخار أضعفه وفوقه النحاس أشد منه ثم الفضة أحسن منه وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل والحديد هو ملكك، فهذا أشد وأعز مما قبله لأنه آلة الحرب وقوام النصر يكون فيه، والصخرة التي رأيت أرسلها الله من السماء فدقته فنبيّ يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه شئت أم أبيت، قالوا فسكت وأذعن ولم ينبس بشيء لأنه كان حاضرا واقعة سنجاريب المارّة آنفا ووقر في قلبه أن الله تعالى يغتار لأنبيائه وقد صدقهم لأنهم أخبروه بشيء لا يعلمونه، وانهم علموه بإعلام الله إياهم، فتركهم ولم يكلمهم، قالوا ثم ان أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان الإسرائيليين، فإنا قد أنكرنا نساءنا منا منذ كانوا معنا حيث انصرفت وجوههن عنا إليهم، فاخرجهم من بين أظهرنا واقتلهم، فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من عنده فليفعل، أما أنا فلا أفعل بهم شيئا فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا الى الله عز وجل فوعدهم الله أن يحييهم، قالوا فقتلوهم إلا من كان عند
445
بختنصر، ثم لما أراد الله تعالى إهلاك بختنصر انبعث فقال لمن عنده من بني إسرائيل أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلتهم منكم، قالوا البيت لله ومن قتلت أهله كانوا من وزراء الأنبياء، فظلموا وتعدوا حدود الله فسلطك ربك وربهم رب السموات والأرض عليهم بذنوبهم فهلكوا، فلم يعجبه قولهم لأنهم لم يسندوا له شيئا من ذلك ولم يصفوه بصفة أو عزة، فدخل إبليس في أنفه فاستكبر وتجبر وظن أنه فعل ما فعل بقوته وسلطانه، فقال أخبروني كيف أطلع الى السماء فأقتل من فيها وأدخلها في ملكي لأني قد
فرغت من أهل الأرض (ومن هنا، قيل ملك الأرض أربعة كافران بختنصر ونمروذ، ومؤمنان سليمان وذو القرنين). قالوا لن تقدر على هذا، قال لتفعلن أو لاقتلنكم عن آخركم، فبكوا وتضرعوا الى الله تعالى قالوا فبعث الله عز وجل على بختنصر بعوضة دخلت في منخره حتى عضت أم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجا له رأسه أي يضرب على فم؟؟؟ دماغه، ولم يزل كذلك حتى مات، فشقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته بأن أهلكه بأضعف خلقه كما أهلك أخاه النمروذ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم الى الشام، فنموا وكثروا وتحولوا حتى صاروا على حالة أحسن مما كانوا عليها قبل، وزعموا أن الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا في بابل ولحقوا بهم إلا أنه لم يكن عندهم من الله عهد يرجعون إليه في أموره، لأن التوراة أحرقت وكذلك بقية الصحف مما كان في البيت، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع معهم الى الشام صار يبكي ليله ونهاره وخرج عن الناس، فجاءه رجل فقال له ما يبكيك، قال ابكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا لأنه لا يصلح ديننا ودنيانا غيره، قال أن يردهم الله عليك؟ قال نعم قال ارجع الى بيتك فصم وتطهر وطهر ثيابك وموعدك هذا المكان غدا، فرجع الى بيته وفعل ما أمره به ذلك الرجل، ثم عمد ورجع الى المكان الذي وعده به، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وهو ملك بعثه الله إليه فسقاه فتمثلث التوراة في صدره، فرجع الى قومه فأملى لهم التوراة من صدره وكان منهم من يعرفها فأحبوه حبا شديدا وعملوا بها وصار حالهم على أحسن ما يرام، وهو معنى قوله تعالى (ثُمَّ
446
رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)
الآية المارة، ثم قبض الله روح عزير عليه السلام فطال عليهم الأمر في الراحة والعبادة وانقلب أمرهم الى الفساد وصاروا كلما جاءهم نبي كذبوه وأحدثوا الأحداث العاطلة وطغوا وبغوا وعمدوا الى قتل الأنبياء الذين ينهونهم ويحذرونهم عاقبة أمرهم، وصاروا يقتلون الأنبياء بغير حق، وآخر أنبيائهم زكريا عليه السلام هرب منهم لما أرادوا قتله إلى شجرة هناك، فدخلها فنشروه نصفين فيها كما فعلوا بأشعيا، وتصدوا لقتل عيسى عليه السلام لتحق عليهم كلمة العذاب فوقاه الله منهم ورفعه الى السماء وألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه فقتلوه على ظنهم أنه هو عيسى ابن مريم كما سيأتي تفصيله في الآية ٥٤ فما بعدها من سورة آل عمران والآية ١٥٦ فما بعدها من سورة النساء من ج ٣ فاستحقوا عذاب الله وسخطه الذي وعدهم به للمرة الثانية:
مطلب الواقعة الثانية على بني إسرائيل:
فبعث الله عليهم ملك ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بملوكه وجيوشه حتى دخل الشام وظهر عليهم فأفناهم قتلا وأسرا ونهبا وأمر قائده أن يديم القتل فيهم في بيت المقدس حتى يسيل الدم في وسط المعسكر، وقال له اني حلفت بإلهي أن أفعل فيهم هكذا إن ظفرت بهم، فدخل القائد واسمه بيور زاذان المدينة، وصار يقتل فيهم فرأى في البقعة التي يقربون فيها القرابين أي يذبحون فيها الصدقات دما يغلي، فسألهم عنه فقالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك صار يغلي وانا منذ نمنمئة سنة لقرب القرابين فتقبل منا إلا هذا، فقال ما صدقتموني، فقالوا لو كان أولى زماننا لقبل ولكن انقطع عنا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل فلم يصدقهم. فذبح على ذلك الدم سبعمئة وسبعين روحا من رؤسائهم، فلم يهدأ الدم فذبح سبعمئة غلام منهم، فلم يهدأ أيضا فذبح سبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فلم يهدأ، فقال لهم ويلكم أصدقوني عن هذا الدم قبل أن أفنيكم فلا أترك منكم أحدا، فلما رأوا الجهد وشدة القتل وتصميمه على ما قال قالوا له هذا دم نبي كان ينهانا عن سخط الله ويأمرنا بالخير ويهددنا ما أوقعتموه فينا الآن فلم نصدقه وقتلناه واسمه يحيى بن زكريا، فقال الآن صدقتم لمثل هذا ينتقم الله منكم، فأمر بإغلاق المدينة وإخراج
447
من كان معه من الجيش وخرّ ساجدا لله تعالى، ثم رفع رأسه وخلا في نبي إسرائيل وقال يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ومن قتل منهم، فاهدا بإذن الله ربك قبل أن أهلكهم جميعا، فإني مكلف من قبل الملك خردوش بإدامة القتل حتى يسيل الدم إلى معسكره، قالوا فهدأ الدم بإذن الله تعالى ورفع بيور زاذان عنهم القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أن لا رب غيره، ثم التفت إلى بني إسرائيل وقال لهم إني لا أستطيع مخالفة الملك من لزوم إسالة الدم إلى معسكره، قالوا افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا وأمرهم بذبح البقر والحمير والأنعام فذبحوها وأجرى دمها حتى سال إلى المعسكر، ثم امر بالقتلى فطرحوا فوق تلك الحيوانات حتى إذا كشف الملك لا يظن أنه فعل ما فعل من الحيلة خلافا لأمره فيغضب عليه، فلما رأى خردوش الدم وصل إلى المعسكر بعث إليه أن إرفع عنهم القتل، ثم أخذ جنوده وغنائمه وعاد إلى ملكه، وكاد أن يفني بني إسرائيل عن بكرة أبيهم في هذه الواقعة لولا الحيلة التي فعلها القائد رحمه الله، وهذه الواقعة الأخيرة وهي أعظم من الأولى وقد انتقل الملك إلى الشام ونواحيها وإلى الأردن بسبب خراب القدس وضواحيها في هذه الواقعة وسلب الله منهم ما أنعم به عليهم من أموال وأولاد وملك، وشتتهم في البلاد فلم تقم لهم راية بعد ذلك، إذ تعقبهم طيطوس بن اسبانوش الرومي فخرب ما بقي من بلادهم، وطردهم عنها، ونزع منهم بقية الملك والرئاسة، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبقوا مشتنين في المدن والقرى وأينما حلوا حل بهم الصغار وفرضت عليهم الجزية، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعمره المسلمون بأمره في خلافته، ثم جدده على ما هو عليه الآن سليمان بن عبد الملك وابنه الوليد.
مطلب قتل يحيى عليه السلام:
قالوا والسبب في قتل يحيى أن ملكهم في زمنه كان يكرمه ويجلس معه ويدنيه منه، وأن الملك هوي بنت أخيه التي أمها زوجته فسأل يحيى أن يتزوجها فنهاه عن نكاحها لأنها لا تحل له، فبلغ أمها ذلك فحقدت على يحيى وعمدت ذات يوم حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابها وزينتها وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وأمرتها
448
تسقيه، فإذا راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته، فإن أعطاها سألت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق، ففعلت فلما راودها قالت له لا أوافقك؟؟؟ تعطيني ما سألت، قال فما تسألين؟ قالت رأس يحيى وأن يؤتى به على طبق، قال سلي غير هذا، قالت لا أريد غيره، فلما أبت عليه وقد لهبت الشهوة في نفسه الخبيثة أجاب طلبها وأمر بذلك، فذهبت شرطنه فأمسكوا به وذبحوه وأتوا به في طست، فوضع بين يديه، فلما رآه تكلم الرأس فقال لا يحلّ لك زواجها، يصغ له لاستيلاء النفس البهيمية على جوارحه فواقعها، ولما أصبح رأى دمه يغلي محل ذبح القرابين، فأمر بإلقاء التراب عليه، وكلما وضع عليه التراب رقى الدم، زال يلقى عليه التراب وهو يغلي حتى سلط الله عليهم ملك بابل وفعل ما فعل.
جاء في الإنجيل ما يقارب هذا، وان الملك اسمه هيدوريا، إلا أنه جاء فيه أن أة ظعينة، راجع الاصحاح ١٤ من إنجيل متى، وكذلك بقية الأناجيل الثلاثة حنا ومرقس ولوقا تؤيد بأنها ظعينة، أما القرآن العظيم فلم يتعرض لهذا البحث.
تعالى «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ» بعد هذه المرة الثانية إن تبتم وأنبتم؟؟؟ سكتم بكتابكم وأوامر نبيكم، فيردّ عليكم الدولة ويمددكم بأموال وبنين كما فعل «وَإِنْ عُدْتُمْ» يا بني إسرائيل إلى المعاصي كأسلافكم «عُدْنا» إلى تجديد بكم بأكثر من ذي قبل، وقد عادوا قاتلهم الله بعد قتل يحيى والتصدي لقتل؟؟؟ عليهما السلام، فطغوا وبغوا، فسلط عليهم المؤمنين قوم محمد صلّى الله عليه وسلم واقتحموا هم وفتحوها عنوة وأرغموهم على الجلاء منها، وأذلّوهم وأجبروهم على أداء الجزية أن قتلوا منهم ما قتلوا، وشتتوا بالبلاد، وحرمهم الله نعمة الملك والنبوة، ؟؟؟ طع رجاءهم منها، وسيدوم الصغار عليهم إن شاء الله إلى خروج مسيحهم الدجال؟؟؟ كون على يدي جيش عيسى بن مريم عليه السلام. وان ما يتفوهون به من؟؟؟ ور ومساعدة الإنكليز لهم على تنفيذه لا يتيسر لهم إن شاء الله كما يريدون تعاون المسلمون ووحدوا كلمتهم، أما إذا تفرقوا فلا بد أن يسلطه الله عليهم؟؟؟ الجماعة رحمة والفرقة عذاب. ومهما تيقن اليهود تحقيق حلمهم فإنهم سيبقون؟؟؟ ذل من يساعدهم على انجاز ذلك الوعد لا أنجزه الله لهم، ومهما كان فإنه
449
لا يدوم وسيوقع الله بهم ما أوقعه بأسلافهم لأنهم عنصر شر ويأبى الله للشر أن يدوم، ومعول ظلم ويأبي كرم الله إقراره، راجع الآية ١٦٧ من سورة الأعراف المارة، «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ٨ سجنا يوم القيامة، وقد نطقت به العرب قال لبيد:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم جن على باب الحصير قيام
والمقامة الجماعة، قال:
وفيهم مقامات حسان وجوههم كأنّما النور منها ثمّ ينبثق
وغلب في البيت الأول معناه غلظ، والمراد أن عذابهم هذا بالقتل والي والذل والقهر والحقارة والصغار ما داموا على ما هم عليه في الدنيا وفي الآخرة، فإن موعدهم جهنم لا مخلص لهم منها أبدا، قال تعالى «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المنزل عليك يا سيد الرسل «يَهْدِي لِلَّتِي» الطريقة هِيَ «أَقْوَمُ» أعدل وأصوب من الطرق الأولى قبلها «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «أَنَّ لَهُمْ» عند الله في الآخرة «أَجْراً كَبِيراً» ٩ جزاء أعمالهم الكريمة، وهذا الأجر هو الجنة ونعيمها ولا أكبر منه أبدا «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» في حياتهم الدنيا وينكرون وجودها ويكذبون من أخبرهم بها «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» ١٠ في الآخرة هو جهنم التي لا آلم من عذابها،
قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» جنسه وأسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه، وحذفت واو يدع لفظا دون جازم لأنها تحذف في الوصل لاجتماع الساكنين وتحذف بالوقف وهي مرادة معنى حملا للوقوف على الوصل، أي أن بعض أفراد الإنسان حال غضبه يدعو على نفسه «بِالشَّرِّ» وقد يتعدى بدعائه على ماله وولده وقومه بالهلاك واللعن «دُعاءَهُ» مثل دعاءه «بِالْخَيْرِ» لنفسه وولده وماله وعشيرته عند الرضاء بطلب البقاء لهم وطول البركة فيهم، وهذا ناشىء من عدم تأنيه وتؤدته «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ١١ يتسرع بالأمر تسرع الغافل إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضره لا يتبصر بعاقبة أمره، والآية عامة في كل إنسان هذا ديدنه، وخصه بعض المفسرين بالكافر بأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل بطلب نزوله
450
سخرية، كدعائه بالخير إذا مسته الشدة حقيقة، على أن العذاب آتيه لا محالة استعجل به أم لا، سخر فيه أم لا، فإذا فاته عذاب الدنيا لحقه عذاب الآخرة، وقال ابن عباس نزلت في النضر بن الحارث إذ قال (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يقوله محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ٣٣ من الأنفال في ج ٣، وقال إنّ الله أجاب دعاءه وقيض له من ضرب عنقه وقتل صبرا، إلا أنه غير وجيه، لأن هذه الآية لم تنزل بعد، وهناك أقوال أنها بحق آدم عليه السلام، ولكن لا يوثق بصحتها، لذلك فإن ما جرينا عليه من الإطلاق أولى ليدخل فيها كل من هذا شأنه وأنسب بالمقام قال تعالى «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ» هذا شروع في بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالدلائل الآفاقية، لأن الله تعالى قال هنا (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) إلخ الآية المارة، وقال في حقه صلّى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآية ٥٣ من الشورى في ج ٢، أي الطريق الأمثل السوي.
فقد وصف الله كتابه ورسوله بأنهما يدعوان الناس لأن يهتدوا بالطريقة القيّمة المستقيمة إلى الدين القيم السويّ، ولا يراد بالتفضيل هذا اسم للتفضيل على معنى أنها أفضل من غيرها، إذ لا مشاركة بين ما يهدي إليه القرآن وبين ما يهدي إليه غيره، فالمراد بالأقوم القيم على حد قوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الآية ٣ من سورة البينة في ج ٣، (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الآية ٥ منها، وهو على حدّ قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الآية ٢٧ من سورة الروم في ج ٢، فهو بمعنى هين، إذ لا شيء على الله أهون من غيره في الخلق والصنع والإبداع، بل كلها عنده سواء، والمعنى أن قومك يا أكرم الرسل يأبون الملة الحسنى ويريدون التي ألوم وهي عبادة الأصنام التي يكثر لومهم عليها في الدنيا والآخرة، ويستعجلون بطلب نزول العذاب ويدعون على أنفسهم بالشر وهم تائهون في ذلك. هذا وقد جاء النهي صريحا في المنع من دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله، فقد أخرج ابو داود والبذار عن جابر قال قال رسول صلّى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم، لئلا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم. أما ما وقع من أن حضرة الرسول دعا على بعض أهله فهو للزجر، فعلى العاقل أن يتجنب
451
الدعاء بالشّر ولو كان حال غضبه لئلا بصادف ساعة الإجابة فيندم ولات حين ندم، وعدا عن هذا فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام انه قال: اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرض كما يرضى البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة. ولأن غضبة صلّى الله عليه وسلم ليس بخارج عن حكم الشرع لأنه لا يغضب إلا لله كما أن رضاء. لا يكون إلا لله، وهو مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» العظيمة الدالة على قدرتنا والناشئ عنها مصالح العباد التي لا تتم إلا بها، لأن القرآن كما أوصل الى الخلق نعم الدين فيوصل في هذا الكوكب إليهم ما يكمل به نعم الدنيا.
مطلب الشمس والقمر والفصول الأربعة والليل والنهار وساعاتهما:
والمراد بالمحو هو عدم جعل قوة القمر بالإضائة مثل الشمس «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ» التي هي الشمس «مُبْصِرَةً» مضيئة جدا يبصر فيها كل شيء، ولولا ذلك لما علم الليل من النهار ولا عرف الحساب ولتعطلت الأمور، فالنهار آية عظيمة دالة على قدرة الله مكملة نعم الدنيا، وقد أودع الله تعالى فيها ما أودع من منافع، راجع الآية ٣٧ من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه من الآيات قال ابن عباس جعل الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك، فمحا من نور القمر تسعة وستين فجعلها مع نور الشمس، وقال بعض المفسرين إن الإضافة بيانية فيكون المعنى فمحونا الآية التي هي الليل فجعلناها مطموسة مظلمة لا يبصر بها، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة تبصر فيها الأشياء إلا أن ظاهر الآية يؤيد الأول الذي جرينا عليه، لأنه الحقيقة ولا يعدل عنها بلا ضرورة هنا، لا سيما وقد ورد الأثر به، فقد أخرج عبد ابن حميد وغيره عن عكرمة ما قاله ابن عباس بزيادة فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزأ والقمر على جزء واحد، وهذه النسبة بالنظر لقوة الضياء ما بين الشمس والقمر، وإلا فالشمس من حيث الحجم أكثر بكثير من القمر كالبعد منه بالنسبة للأرض، ولا يعلم كنهها على ما هي عليه حقا إلا الله، لأن تقدير الفلكيين عبارة عن ظن وتخمين ليس إلا مهما بالغوا وقالوا، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كانت شمس بالليل وشمس بالنهار
452
فمحا الله شمس الليل فهو المحو الذي في القمر، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر عن سعيد البصري ان عبد الله بن سلام سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن السواد الذي في القمر فقال كان شمسين وقال قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) فالسواد الذي رأيت هو المحو هذا وأنت عليم انه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يدعى أن غيره أولى، ثم بين الله تعالى سببا ظاهريا بالنّسبة لما يدخل في عقول الذين لم يتطرقوا الى الأسباب الأخرى التي هي من العلم الذي علمه الله تعالى لرسوله ولم يأمره بتبليغه كما مر في المعجزة الثامنة والخمسين قال تعالى «لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» فيه من طلب المعاش وغيره، إذ لا يتسنى ذلك لكم في الليل بسبب ابتغائكم الراحة فيه «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» بسبب اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بانتظام بديع لا يتغير، فتعرفوا المواسم وأوقات الحج ومواقيت السحر والإفطار بالصوم ومواعيد حلول آجال ديونكم واجاراتكم، ومدد المعاهدات التي تضربونها بينكم، فالعدد للسنين والحساب للشهور والأيام والساعات، ولا بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار، على أن اختلاف القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل المدّ والجزر، ومثل أحوال البحرانات، وللفلاسفة في بحث محو القمر كلام طويل لا محل له هنا، وللأثريين فيه أقوال متخالفة، فمنهم من هو منهمك في وسائل الوصول إليه للوقوف محلى ما يتخيلونه فيه، ولعمري أن جل ما يقولونه مبني على الحدس والحدس خطأه أكثر من صوابه، لذلك لم نذكر شيئا مما قالوه فيه ومن أراد استيفاء البحث فيه فليراجع كتبهم، ومنهم من يتكهن فيه وبما فيه، ومنهم من اشتغل بنوره وكيفية اقتباسه من الشمس وبعده وقربه منها الى غير ذلك، هذا وقد عبّر الله تعالى عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء، لأن العبد لا تأثير له في تحصيل الرزق إلا بالطلب، والإعطاء منوط بالله تعالى بطريق التفضل لا بالوجوب وتأثير الطلب مثل تأثير الأسباب العادية لا تتوقف حقيقة الرزق عليه، وقد جاء في الخبر يطلبك أجلك. ولله در القائل:
453
لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعيبني تطلبه ولو قعدت؟؟؟ لا يعييني
وإنما قال تعالى لتعلموا بلام التعليل لما قبله من الليل والنهار، لأن الحساب نوعان شمسي وقمري، فما هو خاص بالأمور التعبدية كالحج والأهلية فهو قمريّ قال تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية ١٨٩ من البقرة في ج ٣ وما يتعلق بالأمور الدنيوية فيجوز بالقمري والشمسي، هذا واعلم أن العرب قديما قسموا النهار الى اثنتي عشرة ساعة وسموا الأولى الذّرور، والثانية البزوغ، والثالثة الضحى، والرابعة الغزالة، والخامسة الهاجرة، والسادسة الزوال، والسابعة الدلوك، والثامنة العصر، والتاسعة الأصيل، والعاشرة الغيور، الحادية عشرة الحدور، والثانية عشرة الغروب، ومنهم من سمى الأولى البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرّاد ثم الضحى ثم المنوع ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر فالطفل فالعشي فالغروب.
وقسمو الليل الى اثنتي عشرة ساعة أيضا فسموا الأولى الشاهد، والثانية الغسق، والثالثة القمة، والرابعة الفحمة، والخامسة الموهن، والسادسة القطع، والسابعة الجوشن، والثامنة الهتكة، والتاسعة التباشير، والعاشرة الفجر الأول، والحادي عشرة الفجر الثاني، والثانية عشرة الفجر المعترض، وقسمت الشهور الاثني عشر الى ثلاثين وتسعة وعشرين، وسمت كل ثلاثة أيام باسمه، فالأولى هلال، والثانية قمر، والثالثة بهر، والرابعة زهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس، والتاسعة دآدي، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار، وسموا الشهور المتعارف عندنا أسماؤها الآن لمعان متعارفة عندنا، فالمحرم كانوا يحرمون فيه القتال، وصفر كانوا يغيرون فيه على بلاد الصفرية، والربيعان كانوا يحصلون فيها ما أصابوه في صفر، والجماد إن كانت تسميتها زمن جمود الماء من شدة البرد، ورجب من الترجيب أي التعظيم، فإنهم لا يقاتلون فيه، وشعبان لتشعبهم فيه من كثرة الغارات بعضهم على بعض بعد ما كانت محرمة في رجب، ورمضان صادفت تسميته الحر الشديد أخذا من الرمضاء أي الحرارة القوية، وشوال كانوا يتعاهدون فيه إبلهم لأنه أول أشهر الحج أخذا من قولهم شالت الإبل بأذنابها تحضيرا للسفر،
454
وذو القعدة لقعودهم فيه عن القتال لأنه من الأشهر الحرم، وذو الحجة لوقوع الحج فيه، وكانوا يجرون حسابهم من عقود وغيرها بالأشهر العربية من رؤية هلال كذا الى رؤية هلال كذا، ولما كانت المواسم العربية لا تعين الشهور الأربعة لأنها تقع كلها بدوران السنين وكانوا بحاجة لمعرفة المواسم لزراعتهم اضطروا الى الاستعانة بالتقاويم الأجنبية القبطية والفارسية والسريانية والرومية التي مبناها على حركة الشمس، وصارت تبني حسابها عليها أيضا من جهة المواسم فقط، والحساب القبطي ينسب للملك دقلديانوس، والسرياني للاسكندر المقدوني، والرومي لأغسطس قيصر ملك الروم، وكذلك الفرس والسرياني فقد وضعهما لهما ملوكهما. هذا والله أعلم، راجع الآية ٢٧ من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه فيما يتعلق في هذا البحث ومجرى الشمس والقمر وأيام السنين وغيرها. ولما ذكر الله تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وأنهما دليلان من أدلة توحيده ونعمتان من نعمه على أهل الدنيا قال «وَكُلَّ شَيْءٍ» من أمور دينكم ودنياكم وما تحتاجونه في معاشكم ومعادكم «فَصَّلْناهُ» بيناه لكم «تَفْصِيلًا» ١٢ واضحا كافيا وشرحناه على لسان نبينا شرحا شافيا لا التباس فيه ولا شك ولا شبهة، إذ أظهرنا لكم كل ما تفتقرون إليه فلم نبق لكم حجة تحتجون بها، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية ٤٩ من سورة النحل ج ٢، وقال تعالى (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)
الآية ١١٣ من النساء في ج ٣، فتبين في هذا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى «وَكُلَّ إِنسانٍ» ذكر أو أنثى كبيرا أو صغيرا، لأن النكرة المضافة تكون بمثابة العموم، وجاءت من باب التغليب، وإلا فيقال إنسانة، قال:
إنسانة فتّانة... بدر الدجى منها خجل
«أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ» شؤمه وسعده الذي هو نتيجة عمله في دنياه من خير أو شر، وهو نصيبه وحظه الذي قسمناه له في الأزل مما يتشاءم أو ينفاءل فيه وطوقناه «فِي عُنُقِهِ» كالقلادة، وخصّ العنق لأنه مما يزين أو يشين، فإن كان عمله صالحا كان زينة له كالحلى، وإن كان طالحا كان مشينا كالغل، أعاذنا الله، ومعنى
455
اللزوم كناية عن عدم المفارقة له «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً» مثبتا فيه عمله في دنياه ليحاسب عليه يوم البعث «يَلْقاهُ مَنْشُوراً» ١٣ أمامه ليطلع عليه ويعلم أن ملائكة الله لم تظلمه بشيء ولم تنقص من عمله شيئا لأن هذا الكتاب قد سجله الحفظة الموكلون به وضبطوا فيه حركاته وسكناته، فإذا مات طوى وحفظ بمكان عند الله، فإذا بعث من قبره أخرج وعرض عليه في موقف الحساب ويقال له «اقْرَأْ كِتابَكَ» الذي دونّاه في حسناتك وسيئاتك، وانظر إلى عللها وأسبابها وأزمنتها وأمكنتها، وتأمل هل ظلمك الملك بكتابة ما لم تفعله أو بعدم كتابة ما فعلته من شر أو خير؟ ويعطي الله تعالى إذ ذاك كل أحد قوة القراءة ليشهد هو على نفسه، ولهذا المغزى يشير قوله تعالى «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» ١٤ وهذا غاية في العدل ونهاية في الإنصاف إذ اكتفى الله من عبده أن يكون هو محاسبا لنفسه فلم يبق في حاجة إلى استشهاد الشهود والطعن فيهم، وهذا مظهر قوله تعالى في الآية ٢٩ من سورة ق المارة (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ونظائرها إذ لا يؤاخذ الله أحدا إلا باعترافه الاختياري، لأنه أولا لا يستطيع أن ينطق بغير الواقع، ثانيا إذا سكت أو تعلثم نطقت جوارحه بما اقترفت، فيسأل عنها فلا يقدر أن أن ينكر شيئا وما بعد الاعتراف حجة. قال الحسن: لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. وقيل إن الكافر يقول يا رب إنك لست بظلام، فاجعلني أحاسب نفسي. وقيل إنه يقول يا رب لا أقبل علي شاهدا من غيري، فيقال له:
(اقرأ كتابك) إلخ. والباء في بنفسك للتأكيد ويجوز إسقاطها في غير القرآن
ورفع الاسم بعدها وعليه قوله:... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقوله:
ويخبرني عن غائب المرء هديه... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
والمراد بالنفس ذات الإنسان وشخصه، وما قيل إن المراد بالنفس جوارح الإنسان لا يتأتى هنا، لأنه على خلاف ظاهر الآية، قال تعالى «مَنِ اهْتَدى» في هذه الدنيا بهداية هذا القرآن وعمل بما فيه من الأحكام وآمن بمنزله والمنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع هداه لهالا يتخطاها إلى غيره «وَمَنْ ضَلَّ» هداه وخالف ما جاءه فيه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فيعود وبال ضلاله على نفسه خاصة
456
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وهذه الجملة كالتأكيد لما قبلها، أي لا تحمل نفس حاملة لوزرها وزر نفس أخرى غيرها، فلا يؤاخذ أحد بذنب الآخر قريبا كان أو بعيدا بل كل أحد مختص بذنبه، وهذه شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده وكانت شريعة من قبله جارية بمؤاخذة القريب بقريبه، راجع الآية ٦٨ من سورة والنجم المارة، وكانت هذه العادة في الجاهلية ثم نفاها الإسلام، ولكن أعراب البادية حتى الآن متمسكون فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله. وانهم كانوا في مبادئ الإسلام أشد كفرا ونفاقا راجع الآية ٩٦ من سورة التوبة في ج ٣، وهم الآن أشد عتوا وبغيا وطغيانا وعنادا، لأنهم حتى الآن لا يعرفون من الدين إلا اسمه ومن الشرع إلا رسمه. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة لما قال لقومه اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، إلا أن لفظ الآية عام فبقاؤها على عمومها أولى، فيدخل فيها هو وغيره ممن على شاكلته.
مطلب في أولاد المشركين وأهل الفترة:
وما قيل إنها نزلت في أطفال المشركين لا صحة له واستدل الجبائي بهذه الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهذه من المسائل الخلافية لتصادم الأحاديث والأخبار في ذلك قال بعض العلماء هم في النار تبعا لآبائهم، واستدل بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال في الجنة، وسألته عن ولدان المشركين اين هم؟ قال في النار، قلت يا رسول الله لم يدركوا لأعمال ولم تجر عليهم الأفلام، قال ربك أعلم بما كانوا عاملين (أي لو بلغوا الحلم) والذي نفسي بيده إن شئت أسمعنك تضاغيهم في النار. إلا أن هذا الخبر قد ضعّفه ابن عبد البر، فلا يحتج به. وأنت عليم بأن الحديث إذا طرقه الاحتمال يفقد صلاحيته للاستدلال، وإنما صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين، وتوقف بعضهم فيهم ومنهم أبو حنيفة، والقول الصحيح أنهم ناجون لقوله تعالى «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ» أحدا من خلقنا «حَتَّى نَبْعَثَ» له «رَسُولًا» ١٥ يرشده في الدنيا لإقامة الحجة عليه وقطعا للمعذرة، حتى إذا لم يهتدوا بهديه عذبهم الله بنوع من أنواع العذاب في
457
الدنيا وفي الآخرة بالعذاب الأليم في جهنم، أي أن الله تعالت رأفته يقول ما صحّ عنا وما وقع منا بل استحال على سنتنا المبيّنة على الحكم البالغة أن نعذّب أحدا من خلقنا بعذاب دنيوي أو أخروي على فعل شيء وتركه أصليا كان أو فرعيا قبل أن نرسل إليه من يحذره وينذره ويبشره، وعلى هذا لا يستقيم القول بتعذيب أولاد المشركين كأهل الفترة، يؤيد هذا ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه رأى إبراهيم عليه السلام في الجنّة وحوله أولاد الناس، قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين؟
قال وأولاد المشركين- رواه البخاري في صحيحه- والحديث الذي أخرجه الترمذي في النوادر رواه ابن عبد البر عن أنس قال سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة والآية هذه صرحت بأن لا تعذيب قبل التكليف، والذي هو دون البلوغ لا يتوجّه عليه التكليف. واعلم أنه لم يخالف أحد يكون أولاد المسلمين في الجنّة إلا من لا يعتدّ بقوله لقوله صلّى الله عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى في الجنة بفضله ورحمته إياهم.
أما من احتج بحديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه لما توفي صبي من الأنصار:
طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال لها صلّى الله عليه وسلم:
أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. فإن هذا القول المتضمن معنى النهي لها رضي الله عنها هو نهي عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع، وهذا مثل إنكاره على سعد بن أبي وقاص في قوله لحضرة الرسول بحقّ رجل حضر تقسيم الصدقة للفقراء من قبله صلّى الله عليه وسلم أعطه إني لأراه مؤمنا قال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، الحديث، ولا يبعد أنه صلّى الله عليه وسلم قال هذا الحديث قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ما ذكر من الأحاديث التي أثبتناها أعلاه، وقدمنا في الآية ٤٦ من القصص بان لا وجه لقول من فسر الرسول في هذه الآية بالعقل، لأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وما قيل إن المراد نفى المباشرة قبل البعثة لا مطلق التعذيب، مردود، لأن من شأن عظيم القدر للتعبير عن نفى التعذيب مطلقا، ولا يوجد ما يقيدها لا بنوع
458
التعذيب ولا بنفي العذاب عن أناس دون أناس، والقيد من شأن البشر تعالى الله وكلامه عن ذلك، وما قيل إن نفي التعذيب لا يستلزم نفي استحقاق العذاب لجواز سقوطه بالمغفرة مردود أيضا، لأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة، وانتفاؤه قبلها ظاهر، يدل على عدم الوجوب قبلها، فمن أدعى ان الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز عنه بالمغفرة فعليه البيان. هذا وما روى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته بالعقل لأن العقل حجة من حجج الله تعالى يجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، لا ينطبق على تفسير هذه الآية، لأن معرفة الله تعالى غير اخباره بنفي العذاب عمن لم يرسل لهم رسولا، وهي حقيقة واجبة بالعقل لأن ابراهيم عليه السلام لما قال لأبيه وقومه (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٧٣ من الأنعام في ج ٢ لم يقل عليه السلام أوحى إلي لأنه رأى عبادتهم غير معقولة عقلا، فضلا عن أنها منافية للشرائع، ولأن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدانيته وتنزيهه عن الولد والصاحبة قبل ورود الشرع إليه، وكذلك استدلاله بالنجوم على معرفة الله وجعلها حجة على قومه، راجع الآية ٧٥ فما بعدها من سورة الأنعام المذكورة، وهكذا فإن كل الرسل حاجّوا قومهم بحجج العقل، لكن لا يراد من هذا الاستدلال جعل معنى الرسول في الآية هو العقل، كلّا لأنه مخالف لاستعمال القرآن، (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) الآية ٥١ من المؤمن في ج ٢، ولم يقل لهم أولم تكونوا عقلاء، وحاصل الكلام أن تفسير الرسول في هذه الآية بمعنى العقل لا يرتضيه العقل، هذا وإن ما احتج به من يقول إن أهل الفترة غير ناجين، وان بعض ذراري المشركين والمؤمنين ناجون، وبعضهم هالكون هو ما أخرجه أحمد وابن راهوية وابن جردوية والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أربعة يحتجون يوم القيمة رجل أصمّ لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول يا رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان يخوفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني منك رسول، فيأخذ سبحانه مواثيقهم
459
ليطيعنّه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها. وأخرج قاسم بن اصبغ والبزار وابو بعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بأربعة: المولود والمعتوه ومن مات في العترة والشيخ الهرم الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم (لجزء منها) ابرزي، ويقول لهم إني كنت أبعث لعبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، فيقول لهم أدخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب أندخلها ومنها كنا نفرّ وأما من كتبت له السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيقول الرب تعالى قد عاينتموني فعصيتموني، فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار
واخرج الحكيم الترمذي من نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا، وبالهالك وبالفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوح عقلا، أي المجنون يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا يا ربي لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى فاذهبوا وادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا، فتخرج عليهم قوابص (جمع قبصات التي هي جمع قبصة وهو ما يتناول بأطراف الأصابع وهو كناية عن قليل من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله) فيرجعون سراعا ويقولون يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء، ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك، ويقولون كذلك، فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي والى علمي تصيرون، يا نار ضمّيهم، فنأخذهم النار وقدمنا في آخر سورة طه المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه قال في الإصابة أن هذه الأحاديث وإن وردت من عدة طرق فمعارضها أصحّ منها للأدلة السابقة وغيرها، على أن الحديث مهما كان لا يعارض القرآن وان كان متواترا فما بالك بأحاديث لم تبلغ درجة الصحة، قال تعالى «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً»
من القرى والمراد بالإهلاك أهلها من اطلاق المحل وارادة
460
الحال فيه، كما تقول سال الوادي أي سال الماء فيه، لأنه ثابت مكانه «أَمَرْنا مُتْرَفِيها»
بالعمل الصالح والطاعة لنرفع عنهم العذاب، لأن المنعمين والرؤساء إذا ركنوا وخضعوا لأوامر الله كان غيرهم أخضع له وأطوع واكثر إذعانا، لأن أكثرهم تبع لهم، وقرىء «أمرنا» بالتشديد أي جعلناهم الأمراء، وإذا كان الجبابرة والفساق أمراء الناس فبشرهم بالدمار إذ أريد بهم الشر، وإذا كان الصلاح والمتقون أمراءهم فبشرهم بالفلاح والنجاة والنجاح والفوز بالدنيا والآخرة «فَفَسَقُوا فِيها»
في أهالي القرية غير مكترثين بإرشاد الرسل وأصروا على عنادهم وخرجوا عن الطاعة «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ»
المبين في الآية ١٩- ٣٣ من سورة يونس والآية ١١١ من سورة هود والآية ٤٥ من سورة فصلت والآية ١٤ من سورة الشورى في ج ٢ والآية ١٢٩ من سورة طه المارة وجب على أهلها الوعيد بالعقاب والإهلاك إذ لم يفعلوا ما أمروا به ولم يصغوا الى قول الله ورسوله «فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
١١ بانزال العذاب المقدر على أهلها فأهلكناهم فيه وخربنا ديارهم، وهذا هو معنى التدمير لما فيه من محو الأثر للمحل والحال فيه، وقيل أن أمرنا بمعنى سعرنا واستدل على هذا المعنى بما أخرجه احمد وابن أبي شيبة في سنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة: خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة.
أي كثيره النتاج والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة، وإذا أريد سكة الحراثة فيراد بالمأبورة مصلحة والمهرة المأمورة كثيرة النسل، أي أن خير المال نتاج أو زرع، وعليه يكون المعنى كثرنا جبابرتها وملوكها وخصهم بالذكر مع توجه الأمر الى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال، لأن توجه الأمر إليهم آكد، ولأن غيرهم تبع لهم، ولأن الناس عبيد الدرهم والدينار والجاء والمنصب، على أن البلاء يعم قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية ٢٥ من سورة الأنفال في ج ٣، وجاء عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم
461
إذا كثر الخبث- رواه البخاري ومسلم-، كلمة ويل تقال لمن وقع في هلكة أو أشرف أن يقع فيها، والخبث الشر، قال تعالى «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ» الخالية قرونا كثيرة «مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» كقوم عاد وثمود وغيرهم ولم يقل من بعد آدم، لأن نوحا عليه السلام يعد أبا البشر الثاني ولم يبلغ قوم من العصيان والتكذيب قبله مثل ما بلغه قوم نوح، ولأنهم أول قوم استؤصلوا بالعذاب، وكان قبله يقع العذاب على أناس مجرمين دون غيرهم كي يعتبر الآخرون فيقلعون عما هم عليه ويرجعون إلى ربهم ولما لم ينجح بهم وصاروا لا ينكرون على غيرهم ما هم به متلبسون من معاصي الله عمم العذاب، ولهذا ذم الله تعالى بني إسرائيل بقوله جل قوله (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)
الآية ٨٢ من سورة المائدة في ج ٣. واعلم ان القرن أقله ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وأكثره مائة وعشرون سنة، فكل ثلاثة قرون عصر أي قرن باعتبار القرن عصرا والعصر مائة سنة فقط. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قال محمود بن القاسم مازلنا نعدّله حتى تمت له مائة سنة أيضا «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» وإن بالغوا في إخفائها وكتمها وأرخوا الستور حال فعلها «خَبِيراً» بها «بَصِيراً» ١٧ لأنه عالم بجميع ما يقع في ملكه من المعلومات راء المرئيات كافة، فكل ما يفعله العباد حال في علمه قبل أن يفعلوه وبعده، فعلمه بالقبلية والبعدية سواء، لا يتغير علمه في حال من الأحوال جل علمه، وهو القائل «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ» منكم أيها الناس وسميت الدنيا العاجلة لقلة زمنها فهي كالعربون الذي يأخذه البائع من المشترى «عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ» تعجيله له من نعيمها لا ما يشاء هو وذلك «لِمَنْ نُرِيدُ» نحن من طلابها لا لكل من أرادها كل فليس متمني يعطى ما يتمناه بل قد يعطي بعضهم كله وبعضهم بعضه، وقد يحرم البعض البتة فيخسرون الدنيا والآخرة ويجتمع عليهم فقدها، أجارنا الله من ذلك «ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ» لطالب الدنيا الحاضرة رغبة فيها والآخرة التي لم يردها مكان ما عجلنا له في الدنيا «جَهَنَّمَ يَصْلاها» يحرق فيها ويقامي حرها حال كونه «مَذْمُوماً» مهانا محقرا على اختياره لها ملوما عليه ممقوتا بسببه
462
«مَدْحُوراً» ١٨ مطرودا مبعدا من الرحمة خائبا مما كان يأمل من فضل الله ورحمته ورأفته. هذا، وما قيل أن هذه الآية نزلت في المنافق الذي يغزو مع المسلمين لأجل الغنيمة لا الثواب غير وجيه، لأن السورة مكية إلا بعض آيات ليست هذه منها، ولا يوجد في مكة منافقون ولا غزو ولا غزاة إذ ذاك، وقد جاءت بلفظ عام، والمخاطبون بها هم مشركو مكة، وظاهرها يحصر معناها في الكفرة، لأنها تدل على الخلود في النار، وان صرفها الى الفسقة أو المهاجرين لطلب الدنيا والمجاهدين للغنيمة، وهم مؤمنون لا يستقيم على أحوالنا معشر أهل السنة والجماعة لأنا لا نقول إن صاحب الكبيرة يخلد بالنار وإن عقيدتنا تأباه قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآيتين ٤٧ و ١١٥ من النساء في ج ٣، ولهذا فإن ما دون الشرك من المعاصي منوط بالمشيئة ولا تحديد على الله أما على أقوال المعتزلة ومن نحا
نحوهم فنعم، لذلك أدرج الزمخشري الشيخ محمود جار الله في كشافه قبل رجوعه عن الاعتزال الفاسق في هذه الآية «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ» وعمل لأجلها في دنياه توصلا لنعيمها «وَسَعى لَها سَعْيَها» اللائق بها المستحق لها بأن قام بما أمر الله وانتهى عما نهاه عنه «وَ» الحال أنه «هُوَ مُؤْمِنٌ» إيمانا صحيحا بنية خالصة، أما إذا كان كافرا أو عمله للرياء والسمعة والنفاق فلا ينتفع بإرادته إياها ولا بسعيه لها، لأن الله تعالى ذم المرائين بقوله جل قوله الذين يراؤن الآية ٦ من الماعون المارة وكذلك من يتعبد في الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها، فهؤلاء يكافئهم الله على أعمالهم الحسنة بالدنيا بإطالة أعمارهم وتوسيع رزقهم ومعافاتهم من الأمراض والأكدار حتى يلقوا الله تعالى وليس لهم حسنة يكافئون عليها بالآخرة، كما أن المؤمن قد يجازيه الله على أعماله السيئة بالمرض وضيق العيش ونقد الأولاد حق يلقى الله تعالى وليس عليه سيئة يعاقب عليها، قال بعض السلف الصالح من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب «فَأُولئِكَ» مريدوا الآخرة الساعون لها بالأعمال الصالحة حالة كونهم مؤمنين بالله ورسله وكتبه آتين بما أمروا به منتهين عما نهو عنه «كانَ سَعْيُهُمْ» في دار الدنيا «مَشْكُوراً» ١٩ في الآخرة مقبولا عند الله يثيبهم عليها بمنه وكرمه وفضله
463
وأصل السعي المشي السريع دون العدو وفوق الهرولة، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثره يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:
أن أجز علقمه بن سعد سبعة لا أجزه ببلاء يوم واحد
وهذه الآية جاءت بمقابلة الآية قبلها، فإن تلك في الكافر وهذه في المؤمن بدلالة قوله «كُلًّا» أي كل واحد من الفريقين فالتنوين للعوض «نُمِدُّ» نزيد مرة بعد أخرى وهذا معنى المد والمدد «هؤُلاءِ» الذين يريدون الدنيا من زخارفها «وَهَؤُلاءِ» الذين يريدون الآخرة من نعيمها «مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ» الواسع الذي لا يتناهى وهذا العطاء ليس على طريق الوجوب بل بمحض الفضل «وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ» دنيويا كان أو أخرويا «مَحْظُوراً» ٢٠ ممنوعا عمن يريده، بل هو فائض على من قدر له بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة، فيرزق المؤمن والكافر في هذه الدنيا ثم يعذب الكافر في الآخرة ويثيب المؤمن فيها بحسب أعمالهما،
قال تعالى مخاطبا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في هذه الدنيا بالرزق والجاه والعمل والشرف بحسب مراتب العطاء وتفاوت أهله «وَلَلْآخِرَةُ» الآتية «أَكْبَرُ دَرَجاتٍ» ٢١ في الفضل من درجات الدنيا وأعظم تفاوتا فيها «وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» ٢١ من الدنيا، والفرق بين تفضيل الدنيا وتفضيل الآخرة كالفرق بين دركات جهنم ودرجات الجنة، وكالفرق بين الدنيا والآخرة، فعلى الراغب في التعالي بالدنيا أن تشتد رغبته في تعالي الآخرة أيضا، لأنها ذات مقام أبدي والدنيا مزرعة الآخرة فلها يعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون، وقيل في المعنى:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن الزرع
هذا وقد جاء في بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله الجميع فما يغبط أحد أحدا. وقال الضحاك: الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه، والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا، لهذا لا يحسد أحد الآخر على ما هو فيه من ذلك العطاء الواسع. وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وأبو سفيان بن
464
حرب وأولئك المشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم، فقال ابو سفيان ما رأيت كاليوم قط (أي اهانة وحقارة)، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم (يعني للإسلام ورفض الكفر) فأسرعوا الإجابة وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من باب عمر الذي تنافسون عليه. قال في الكشاف هذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّه الله لهم في الجنة اكبر وأعظم. لقد أنفق والله سهيل وأخفق ابو سفيان وأنا أقول لقد صدق جار الله فيما قال واسأل الله ان يحقق قوله فيه المبين في الآية الأولى من هذه السورة قال تعالى مخاطبا لرسوله ايضا بما يريده من قومه «ولا تجعل» أيها الإنسان بكل حال من الأحوال «مع الله» الذي لا إله غيره «إلها آخر» مما تسول لك نفسك الخبيثة إلهيته ومما يوسوس لك الشيطان عدوك ربوبيته وهو ليس بشيء يستحق ان تسميه ربا وإلها لأن الإله هو القادر على كل شيء والرب هو الخالق لكل شيء ومربيه ومن دونه من الأوثان عاجزة عن كل شيء، والعاجز لا يصلح ان يكون إلها ولا يجدر أن يتخذ ربا، فإذا فعلت هذا وأطعت هواك فيه «فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً» محقرا موبخا مخزيا «مَخْذُولًا» غديم النضير والمعين من كل أحد ومن كل شيء فتجمع على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من ذوي العقول، إذ اتخذت محتاجا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومن لا يقدر على جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها كيف يرجى منه أن ينفع غيره ويدفع عنه، فجزاؤك أيها الجاعل إلها مع إله السموات والأرض لا يصلح قط للألوهية وإشراكه مع من له الكمال الذاتي الخالق الرازق المنعم. الذمّ في الدنيا والآخرة على عملك هذا الذموم والخذلان التام، إذ لا تجد من يتصرك من العذاب الذي يحل بك، ولا من يعينك على دفعه، ولا من يؤازرك على رفعه الا من هو كافر مثلك، قد زيّن له سوء عمله وهو عاجز عن اجتناب ماحل به مثلك، فتلاوم أنت وإياه على
465
ما فاتكم من العمل الصالح المؤدي لخلاصكم من الله، قال تعالى «وَقَضى رَبُّكَ» أمر وحكم وأراد «أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس أحدا ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» وحده وهذا الحصر يفيد وجوب العبادة له تعالى منفردا، وتحريم عبادة غيره مطلقا لأن العبادة غاية التعظيم المنعم بالنعم العظام على عابديه جلت ذاته المقدسة فلا تليق إلا لمن هو في غاية التعظيم ولما كانت عبادته هي المقصودة وما خلق الخلق إلا لأجلها قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من سورة الذاريات في ج ٢ قدمها على كل شيء.
مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك:
ولما كان حق الإحسان على العبد بعد طاعة الله تعالى لأبويه اللذين هما السبب الظاهري بوجوده اتبع الأمر بعبادته بالإحسان إليهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ما فوقه احسان إلا عبادة الملك الديان وحده، وذلك بأن تبرّوهما برّا لا مزيد عليه، وتتلطفوا بهما تلطفا لا نهاية له إلا الموت، فتخدمونهما وتقضوا حوائجهما وتعطفوا عليهما برغبة املا برضاء الله المترتب على رضائهما. واعلموا أيها الناس «إِمَّا» أصلها إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا للمعنى «يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ» هو منتهى الشيخوخة الذي قد تحوجهما إليك أيها الولد لما يلمّ بهما «أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» من حالة الضعف والعجز والهرم فيلتجئان عندك آخر عمرهما كما كنت ضعيفا مبدأ عمرك ملتجئا في حضانتهما، يحنيان عليك بشفقتهما، ويحملان الأذى من تحتك، فلا ينامان حتى تنام، ولا يأكلان حتى تأكل، ولا يستريحان حتى تستريح، ويتمنيان أن يصيبهما كل ما قدر عليك من أذى، وأن تكون معافى لا تصيبك شوكة عن طيب نفس ورغبه منهما، فإذا صارا إليك واحتاجا لعنايتك فيجب أن تقوم لهما بهذه الأمور الخمسة إذا أردت رضاء الله ونظره إليك، أولها «فَلا تَقُلْ لَهُما» إذا كلفاك بشيء مهما كان «أُفٍّ» وهذه الكلمة كناية عن عدم التضجر مما يقولانه لك لأنها كلمة تضجر وكراهية، وأصلها إذا سقط عليك تراب ونفخته عنك تقول أف، ثم توسعوا بها الى كل مكروه، أي ولا تتضجّر منهما أو من فعلهما أو قولهما أو مما يطلبانه منك ولو بمثل هذه الكلمة، بل عليك
466
أن تتلقى أمرهما برحابة صدر وطلاقة وجه ولين جانب وخفض كلام وتحسين قول لأن النهي عن هذه الكلمة يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قولا وفعلا وإشارة ورمزا قياسا جليسا، إذ يفهم ذلك بطريق الأولى، ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك فلان لا يملك النقير أو الفتيل أو القطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا ولا كثيرا. واعلم أنه لو يوجد فيما يخاطب به البشر كلمة يعرف أهل الدنيا على اختلاف لغاتهم أنها تدل على أقل من هذا المعنى لذكرها الله تعالى حفظا لحق الوالدين من أن يصل إليهما ما يكدرهما الثاني «وَلا تَنْهَرْهُما» تزجرهما بغلظة وشدة (وهذا معنى النهر) أي لا تزجرهما مما يتعاطيانه مما لا يعجبك أو تكره ما يريدانه منك وان كان ولا بدّ من ان تقول لهما لا تفعلا كذا مما يكون عدم فعله ضروريا فقل لهما ألا تتركان هذا ألا تعرضان عنه، لأنه كما إنك ممنوع من التضجر بالقتيل والكثير ممنوع أيضا من إظهار المخالفة لهما في القول والفعل والرد عليهما والتكذيب لهما والكذب عليهما، ولهذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا، وحاشا كلام الله منه الثالث «وَقُلْ لَهُما» عند المخاطبة أو التكليف بشيء ما أو التعدي عليك لغرض ما «قَوْلًا كَرِيماً» ٢٣ جميلا لاشراسة فيه ولا اكفهرار، بأن تقول يا أبتاه يا أماه مراعيا معهما حسن الأدب، لان مناداتهما باسمهما من الجفاء، وأن يصدر جوابك لهما عن لطف ومنة وعطف، وان تقف أمامهما وقفة المأمور بين يدي الآمر، ولا تقل هاء بل لبيكما وسعديكما، قال ابو الهداج لسعيد بن المسيب كل ما ذكره الله تعالى في القرآن من برّ الوالدين فقد عرفته إلا قوله تعالى (قَوْلًا كَرِيماً) فما هذا القول الكريم؟ فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ. أي يكون بغاية من الرقة والأدب ونهاية من الخضوع والتذلل، قال الراغب كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، الرابع «وَاخْفِضْ» أمر الله تعالى الولد بخفض الجانب لوالديه ليتسارع بالانقياد لما يريد انه منه دون تردد، أي تواضع واخشع وألن «لَهُما جَناحَ الذُّلِّ» بأن
467
تجعل نفسك ذليلة أمامهما زيادة في التأدب. واعلم ان خفض الجناح مأمور به لكل أحد قال تعالى لحضرة الرسول (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الآية ٨٩ من سورة الحجر في ج ٢، فكيف بالوالدين؟ وهذا اللين المطلوب منك لهما كائن «مِنَ الرَّحْمَةِ» عليهما أي لا يكون خفض جناحك لهما خوفا او رياء او مداهنة او غير ذلك، بل لكمال الرأفة بهما وخالص الشفقة عليهما كما كانا كذلك لك في صغرك حين كنت مفتقرا إليهما إذ آل افتقارهما إليك، ولا
تمنعهما شيئا أحبّاه.
واعلم أن احتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة، فيحتاج إلى أشد رحمة وأفرط رأفة ولله در الخفاجي إذ يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتني ما حال من يسأل من سائله
ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
الخامس «وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما» برحمتك الباقية والطف بهما بلطفك الأبدي، أي لا تكتف برحمتك لهما، لأنها فانية، هذا إذا كانا مسلمين، وإذا كانا كافرين فقل ربّ اهدهما ووفّقهما إلى دينك القويم، وسهل لهما أسباب الإيمان ويسر لهما طرق الإسلام لأجتمع بهما في دار كرامتك، لأن الاستغفار والرحمة للكافر منهيّ عنه، قال تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية ١١٣ من سورة التوبة في ج ٣، وقد رد الله عن خليله إبراهيم عليه السلام حين قيل إنه استغفر لوالديه بقوله جل قوله: (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية ١٤ بعدها، ولذلك قال له (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) في الآية ٢٦ من سورة مريم المارة، قال تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) تتمة الآية المارة من التوبة وقد بين تعالى السبب فيما أمر به الولد لوالديه وهو «كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» ٢٤ أي أدع لهما بالرحمة والرأفة والمغفرة جزاء تربيتهما لك وبمقابل رحمتهما بك حال صغرك، ولست بمقابل لهما مهما قمت به لهما، وشتان بين رحمتك لهما ورحمتهما لك إذا قايست بينهما وأنعمت النظر في ذلك، لأن رحمتك لهما عن رعبة ورحمتهما لك عن رغبة. الحكم الشرعي: الأمر هنا للوجوب أي يجب عليك شرعا أيها الولد ذكرا كنت أم أنثى أن تقوم بحوائج والديك بحسب قدرتك،
468
وأن تدعو لهما، وتتواضع لهما، وتلين جانبك لهما حينما يكلمانك أو تجاربهما، وأن لا تزجرها، وأن تخاطبهما باللطف وتحترمهما غاية الاحترام، هذا وقد بالغ جل شأنه في التوصية بهما إذ شفع الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده سبحانه، وجعل ذلك كله قضاء مبرما عليه، وحث حضرة الرسول على ذلك أيضا، فقد روى ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم ورجح الترمذي وقفه قال: رضاء الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد وكان المسلمون إذ ذاك بحاجة إليه، فقال أحيّ والداك قال نعم، قال ففيهما فجاهد.
فجعل صلّى الله عليه وسلم القيام بأمورهما خيرا له من الجهاد وأعظم أجرا عند ربه. وجاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال لو علم الله تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. ورأى ابن عمر رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال لا ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا. وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعنقه. وعنه عليه الصلاة والسلام إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين. قدّم في هذا الحديث العاق على قاطع الرحم لأن العقوق أعظم لاشتماله على قطع الرحم وعدم احترام الأبوين الذين وصّى الله ورسوله بهما ومخالفتهما مخالفتهما، ولا أعظم منها وزرا. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريره قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك؟
أي الأقرب فالأقرب منك. وروى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أي بسبب برّهما. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله
469
تعالى؟ قال الصلاة لوقتها، قلت ثم، قال برّ الوالدين، قلت ثم، قال الجهاد في سبيل الله. وعن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فضيّع ذلك الباب أو احفظه- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أبي أخذ مالي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول إذا جاء الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلم ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله، قال سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته وخالاته أو على نفسي؟ فقال صلّى الله عليه وسلم ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك، فقال الشيخ والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي، فقال قل وأنا أسمع فقلت:
غذوتك مولودا وصنتك يافعا تعلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل
قال فحينئذ أخذ النبي صلّى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال أنت ومالك لأبيك. ومنهم من أسند هذه الأبيات لأمية بن الصلت وهو جاهلي معروف، وهو خلاف الواقع لأنه لو كان له من صحة، ما نزل جبريل على النبي وقال له عن ربه ما قال، قاتل الله الأفاكين. هذا وقد قرن الله في هذه الآية توحيده بالإحسان إلى الوالدين وفي آية ١٥١ من الأنعام عدم الإشراك بالإحسان إليهما، وفي آية النساء ٣٥ في ج ٣
470
قرن عبادته بالإحسان إليهما، وقال في الآية ١٤ من سورة لقمان (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) الآية في ج ٢، فقد قرن شكره بشكرهما أيضا إيذانا بعظيم حقهما وإعلاما بأن من لم يحسن إليهما لم يعبد الله، ومن لم يشكرهما لم يشكر الله، فالسعيد من وفق لبرهما والشقي من عقهما. ولهذا البحث صلة في تفسير الآيتين الآنفتي الذكر فراجعهما. هذا والأم مقدمة في البرّ على الأب لزيادة حقها ولضعف جانبها، فهي مستوجبة للإحسان زيادة على الأب، فعلى العاقل الموفق أن يبذل جهده ووسعه ببرهما، ولتكن معاملة الإنسان لمثله باللطف وللضعيف بالإحسان، وللمريض بالعطف، وللفقير بالمعونة، وللجاهل بالتعليم، وللعالم بالأدب، وللعامل بالعمل، وللمخترع بالتشجيع، وهكذا لكل بما يناسبه. واعلم أنه لا يختص البر بالحياة فقط بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجه أن رجلا قال يا رسول الله هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما به؟ بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما، أي الدعاء والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما. وروى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه، قال فاعمل به. وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وانه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارّا. وأخرج عن الأوزاعي قال بلغني أن من عقّ والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستب لهما، كتب بارّا، ومن برّ والديه في حياتهما وقام بواجبهما كما ينبغي حتى ماتا مدينين وكان مقتدرا على أداء دينهما ولكنه استنكف ولم يستغفر لهما واستبّ لهما كان عاقا. وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برّا. وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار فقلت أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنّ أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه.
471
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال أتدري لم أتيتك؟ قال قلت لا، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاه وودّ فأحببت أن أصل ذلك. وجاء في الخبر احفظ ودّ أبيك. وإذا عرفت هذا فاعلم أن العقوق من الكبائر لأن حضرة الرسول عده منها، والعقوق هو أن يؤذي والديه أو أحدهما بما لو فعله مع غيره كان محرّما من جملة الصغائر، أما إذا طالب الولد والديه بدين لا يكون عقوقا لأنه لو فعله مع غيرهما لا يكون حراما، أما طلب حبسه لأجل الدين فمن العقوق، كما أنه لو طلب حبس المعسر فإنه لا يجوز ومجرّد الشكوى منهما لا تعد عقوقا لأن إقامة الدعوى على الغير بحق جائزة، وقد شكا بعض ولد الصحابة آباءهم إلى رسول الله ولم ينهه، وهو الذي لا يقر على باطل، أما بنهرهما وزجرهما فمن الكبائر لثبوت النهي عنه نصا كما مر عليك، ومخالفة أمر الوالد فيما إذا فعله لحق بالولد ضرر أو يغلب على ظنه لحوق الضرر لا يعدّ عقوقا ولا مخالفة بل
عليه الطاعة والامتثال فيما عدا ذلك. ومن الكبائر أن يسافر الولد ويترك أبويه أو أحدهما بلا نفقه مع قدرته وحاجتهما، أما السفر إلى حج الفرض وطلب العلم فلا يحق للوالدين المنع إذا تأمنت نفقتهما من مالهما أو ماله، وإن مخالفتهما في هذين لا يعدّ عقوقا ولا يكون فعله كبيرة، أما إذا لم يؤمن نفقتهما مدة ذهابه وإيابه فلا يجوز له الذهاب مطلقا، لأن حقهما أقدم من غيره، وإن فعل كان عاقا ومخالفا ومرتكبا الكبائر، وإذا خالفهما فيما لا دخل لهما فيه ولا ضرر فيه عليهما ولا عليه فلا شيء عليه البتة، إلا أن عدم المخالفة أولى لئلا يحقدا عليه، وإذا فعل فعلا يسبّب ضررا إليهما فيحرم عليه ذلك، لأن إضرار هما والتسبب لإضرارهما حرام ولو كلف الوالد ابنه طلاق زوجته التي يحبّها فلم يمتثل فلا إثم عليه، لأن هذا من خصائصه ولا ضرر يلحقهما منه رأسا ولا تسببا، وإذا كان يقدر أن يصبر عن زوجته فطلقها امتثالا لأمر والديه أو أحدهما فهي فضيلة له يثاب عليها، كما يأثم الوالدان إذا تسببا لطلاقها بلا سبب شرعي، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى
472
أبا الدرداء فقال إن أبي لم يزل بي حتى زوّجني امرأة وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال ما أنا بالذي آمرك أن تعقّ والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سمعته يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع. وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال صلّى الله عليه وسلم طلقها. هذا إذا طلب طلاقها لمطلق كراهتها، وأما إذا كان لأمر يتعلق بالغيرة أو بالدين أو بالآداب فلا بد من الامتثال.
أما أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه بحيث لو عرضت على ذوي العقول لعدوها عبثا أو متساهلا فيها، فلو خالفهما فيها فلا إثم عليه، وينبغي للولد أن لا يتضجر من هكذا أوامر فلو تضجر أو قطب وجهه لقاءهما أو لم يقم لهما حينما يأتيانه بحضور الناس كان عقوقا لهما مؤاخذ عليه، لأنه أكثر من الأف التي نهاه الله عنه، ولا يقال إن الوالدين إنما طلبا بزواجهما تحصيل اللذة لأنفسهما لا لقصد الولد، لأنه إنما لزم منها وجود الولد ودخوله في عالم الآفات والمخالفات، فلا فضل لهما عليه ولا منّة، كما أن أحد المسمّين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول له أنت أدخلتني في عالم الكون والفساد وعرضتني للموت والفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد ما نكتب على قبرك فقال اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي عليّ... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي... سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة... ترمي بهم في الموبقات الآجل
وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقر فإيجادنا علينا بلاء وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة أم والدك؟ فقال الأستاذ أعظم منّة
473
لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد. فانظر هداك الله إلى هؤلاء وأمثالهم الذين ينظرون إلى ظواهر الأمور ويتركون بواطنها والثمرة المطلوبة منها دون تروّ بالمراد الحقيقي الذي من أجله يكون الشيء وهم حكماء تأخذ الناس عنهم ويضربون بأقوالهم الأمثال، وإذا أجلت النظر فيما ذكروه وأنعمت الفكر فيما سطروه في هذا لوجدته طيشا، فلو أنهم قالوا إن الزواج يحفظ النفس من الوقوع في الزنى المنهي عنه شرعا وإن الزواج بقصد ردع النفس عن تعدي حدود الله، وأن الولد جاء بالعرض ولا كل زواج يأتي بالولد، وكم من ولد شرف آباءه في الدنيا والأخرى ونفعهم فيها: لكان أولى وأجدر بمقالهم، وان الذين يتزوجون للذة فقط لبسوا من المتدينين المتمسكين بالدين، بل من الذين يتبعون أهواءهم، وشهواتهم، وهؤلاء غير مقصودين ولا معدودين من الرجال الذين هم رجال بالمعنى الوارد في الآية ٣٧ من سورة النور في ج ٣، فإذا كانوا يحطون أنفسهم إلى درجة أهل الأهواء فلا بدع أن يقولوا ما قالوا، وإلا فيكون قولهم هذا من اللغو الذي يجب أن يمرّ فيه العاقل مر الكرام، راجع الآية ٧١ من سورة الفرقان المارة. واعلم هداك الله إذا قلنا هب أنه أول الأمر كان المطلوب منه لذة الوقاع كما يتقولون أليس الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، إذ لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأفكار دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى، لأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي، فلو شاء لما كان الولد. على أن السنّة في الزواج لأهل السنة أولا طلب الولد لتكثير النسل، ثانيا كسر جماح الشهوة، ثالثا تحصين النفس عن التعدي لحدود الله من الزنى ودواعيه، لا للذة فقط، لأن من يقتصر في أمر الزواج على اللذة فقط فليس بكامل، وهذه الأسباب الثلاثة عبارة عن طلب الشيء للمنفعة، ولا ينكرها عاقل متبصر. هذا وإن إنكار حق الوالدين إنكارا لأجلّ الأمور (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) الآية ٤٠ من سورة
474
النور في ج ٣، قال تعالى «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ» من بر الوالدين والاهتمام بما يجب لهما من التوقير والاحترام وغيره، ومن العقوق والتقصير وسوء الأدب وغيره في حقهما «إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ» حقيقة مريدين البر بهما وإصلاح شأنهما أو تكونوا طالحين قاصدين العقوق بهما ومخالفتهما وإهمالهما، أما إذا فرط منكم حال حالة الغضب أو الغفلة مما لا يخلو البشر منه وقد أدى إلى أذاهما معنى ومادة، ثم رجعتم إلى الله فتبتم واستغفرتم الله مما وقع منكم واسترضيتم والديكم بشتى الوسائل «فَإِنَّهُ» الإله الحليم التواب «كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» ٢٥ فيدخلكم في واسع رحمته ويعفو عنكم، لأنه يحب عبده المنيب الأواب. واعلم رعاك الله أن في هذه الآية العظيمة وعدا بالخير من الله لمن أضمر البر والإحسان لوالديه، ووعيدا لمن أضمر لهما الكراهية والاستثقال، وما قاله ابن جبير إن معنى هذه الآية هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بها قول مقيد لهذه الآية المطلقة وإن بقاءها على إطلاقها أولى لتشمل كل تائب مما وقع منه في حق والديه قليلا كان أو كثيرا، بادرة أو مقصودة، على أن الجاني على أحد أبويه التائب من جنايته توبة خالصة يدخل فيها، لأن معنى الأواب على ما قاله سعيد بن المسيب الذي يذنب ثم يتوب، وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس الأواب الرّجاع إلى الله فيما يحزنه وينوبه، فلم يقيده في البادرة. وقيل إنه من صلّى بعد المغرب والعشاء يعدّ من الأوابين، وهذه الصلاة تسمى صلاة الأوابين، فقد روى ابن ماجه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال من صلّى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة. وروى ابن نضر أن من صلّى ست ركعات بعد المغرب قيل أن يتكلم غفر له ذنوب خمسين سنة أي من
الصغائر. كما جاء في شرح هذا الحديث في كتاب مصباح الظلام للشيخ محمد بن عبد الله الجرداني، وورد فيه أيضا من صلّى ركعتين بعد المغرب وقرأ فيهما بالمعوّذتين لم يرمد وقد جربته فوجدته، وجاء في الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة رتب عليها أجر كبير لفاعلها أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا خشية التطويل، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به في الآية ٣٠ من سورة ص المارة فراجعها تجد ما يقرّ العين من ذوي العقيدة والإيمان.
475
مطلب في التصدق والتبذير والإسراف والرد بالأحسن:
قال تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من نفقة وزيادة عطف، قدّم الله تعالى حق الوالدين لأنهما الأصل، ثم عقبهما بالفروع المحارم، لأن الإنفاق عليهم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب صلة وصدقة وتسمية هذا الإتيان من قبل الله حقا يشعر بإلزام القريب الموسر الإنفاق على قربيه المعسر العاجز على طريق الوجوب، وهذا الحكم الشرعي في ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٢٩ من سورة الروم في ج ٢ نظير هذه الآية، وهذه الآية بالنسبة لما قبلها فيها من أنواع البديع ومحسنات الكلام التعميم بعد التخصيص، لأن الوالدين يدخلان في القربى لغة ولم يتناولهما عرفا، ولذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف لو أوصى لذوي قرابته لا يدخل أبواه، وجاء في المعراج من قال لأبيه قربي فقد عقّه. واعلم أن هذا الحق لا ينحصر في النفقة بل يشمل حسن المعاشرة والرحمة والتوقير، لأن اللفظ عام والآية معطوفة على ما قبلها الشاملة لسائر الحقوق المانعة بجميع أنواع العقوق، وما قيل إن هذه الآية خاصة بحضرة الرسول وأن الله أمره بها ليؤتى أقاربه، أو أنها لما نزلت دعا فاطمة رضي الله عنها فأعطاها فدكا مناف لعموم الآية، لأن فدكا في المدينة وهذه الآية مكية، فضلا عن أنه لا قرينة فيها على التخصيص البتة، ومما يؤيد عدم الإختصاص هو أن فدكا لم تكن إذ ذاك تحت تصرف المصطفى صلّى الله عليه وسلم وكانت طلبتها إرثا بعد وفاته. أما ما قاله الحسن بأن هذه الآية مدنية فيصحّ على قوله ما قيل في سبب نزولها، وحينئذ يراد بالحق هنا الزكاة المفروضة، إلا أن سياق الآية يدل على أنها مكيّة كورتها على قول الجمهور والله أعلم، «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب وهو عاجز، أما الفقير فالذي لا يكفيه كسبه، وقيل بالعكس راجع الآية ٧٨ من سورة الكهف في ج ٢، «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله ولو كان غنيا في بلده، أي أعط أيها الغني مما أعطاك الله هذين الصنفين أيضا بعد أبويك وقرابتك مما زاد على حاجتك من مالك بقدر ما يسد حاجتهما «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ٢٦ بمالك وتسرف فيه، بأن تعطيه من لا يستحقه
476
أو تصرفه في غير مصارفه الشرعية أو تتجاوز الحد اللازم في الإعطاء والصرف ولو على خاصّتك ونفسك، فإن ذلك من التبذير المنهي عنه «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ» أموالهم المفرقين لها في غير حلها ومحلها «كانُوا» في تبذيرهم هذا «إِخْوانَ الشَّياطِينِ» أعوانهم ورفقاءهم في كفران النعمة مماثلين لهم في صفات السوء من إعطاء المال لمن لا يستحقه، أو صرفه في غير حله، أو إعطائه بقصد الصيت والسمعة والرياء «وَكانَ الشَّيْطانُ» ولم يزل، لأن كان تأتي للدّوام والاستمرار إلى أجل معلوم كما هنا وإلى ما لا نهاية له كقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الآية ١٥٦ من سورة النساء في ج ٣ وأمثالها كثير، وتأتي للزمن الحاضر فقط مثل كان زيد غنيا، «لِرَبِّهِ كَفُوراً» ٢٧ هو وإخوانه من الإنس يبالغون في كفران النعمة لأنهم يصرفون ما أنعم الله به عليهم من القوى والأموال إلى غير ما خلقت لها وللمعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس عن طريق الهدى، وحملهم على الكفر بالله تعالى وجحود نعمه الفائضة عليهم وتبذيرها في غير محلها، وهذا التخصيص بمقابل الشكر الذي هو صرف النعم إلى ما خلقت إليه، وما قيل إن هذا الكفر المذكور بهذه الآية جاء على ما يقابل الإيمان ليس بشيء لمخالفته المقام وسياق الآيات.
وإنما الله سمى الإنفاق لهذين الصنفين حقا لأن أهل مكة قبل الإسلام كانوا افترضوا على أنفسهم إنفاق شيء من أموالهم لنشر الصيت، وكان التصدق مفروضا على الأمم السابقة وكان أهل مكة ينفقون هذا القسم للسمعة والملاهي والطرق التي لا خير فيها، فأمر الله رسوله في هذه الآية بإنفاق هذا الحق لأهله الذين ذكرهم، وهذا قبل نزول آية الزكاة المفروضة، أما بعد نزولها فيكون منها وعلى القدر الذي سنه حضرة الرسول كما سيأتي في الآية ٢٢١ من سورة البقرة والآية ٥٩ من سورة التوبة في ج ٣ وغيرها من السور المدنية. واعلم أن التبذير هو كل إنفاق بغير محله كما علمت مما مرّ عليك، وأصله في اللغة التفريق مأخوذ من إلقاء البذر في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وشرعا إنفاق المال في غير حقّه مما هو تجاوز في موقع الحق وجهل بكيفيته، أما الإسراف فهو التجاوز في الكمية وجهل بمقدار الحق، وكلاهما مذموم، قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. وقد أنفق بعض
477
المحققيين نفقة في خير فاكثر، فقال له صاحبه لا خير في السّرف، فأجابه كثر الله أحبابه: لا سرف في الخير، وهذا صحيح إذا كان في أهله وعن غنّى ويحسن نية.
قال تعالى «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ» أيها الغني القريب «عَنْهُمُ» عن أقاربك الفقراء المحتاجين العاجزين والمساكين المعدمين والفقراء وأبناء السبيل المقطوعين لضيق ذات يدك أو لأمر أخطرك فأوجب إغضاءك عنهم حياء وكان ذلك منك «ابْتِغاءَ» طلب ورجاء «رَحْمَةٍ» رزق «مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها» تتوقعها وتترقب حصولها ومجيئها لتعطيهم منها «فَقُلْ لَهُمْ» عند ما تريد انصرافهم أو ردهم «قَوْلًا» جميلا لا تأنيب فيه عليهم ولا كسر لخواطرهم «مَيْسُوراً» ٢٨ لينا وعدهم وعدا تطيب به خواطرهم كأن تقول لهم إن لنا مالا سيحضر أو دينا سنقبضه قريبا ونخصكم به، وادع لهم بما فيه اليسر لك ولهم، وتقدم معنى أمّا بالآية ٢٣ المارة، وأنث الضمير في ترجوها باعتبار اللفظ لأنه سمّى الرزق رحمة وهو يعود إليها ووضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء مسبّب عنه فوقع السبب الذي هو الابتغاء موضع المسبب الذي هو الفقد. هذا وما قيل إن هذه الآية نزلت بمهجع وبلال وصهيب وسالم وخبّاب الذين كانوا يسألون حضرة الرسول أحيانا ما يحتاجونه وأنه لا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول، أو أنها نزلت في أناس من مزينة جاءوا يستحملون حضرة الرسول فقال لهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية ٩٤ من التوبة في ج ٣، إذ ظنوا أن ذلك من غضب رسول الله، لا وجه لهما ولا حقيقة، لأن هذه السورة مكية وتلك الحادثتين وقعتا في المدينة، وإنما هذه الآية عامّة في كل أحد ولا يخصصها ما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت، لأن هذه الحالة شأن كل عاقل منصف، فكيف لا تكون بأكمل الناس عقلا وإنصافا، فهي شاملة لحضرة الرسول وأمته الخيرية على الإطلاق كالآيات التي قبلها. جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه كان لا يري أن يقال للسائل إذا لم يعطه شيئا رزقك الله تعالى أو نحوه، لأن ذلك مما يثقل على السائل ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، وهذا القول ردّ لقول من فسر القول الميسور بأن يقال للسائل رزقك
478
الله وأعطاك الله، وهو قول مفترى بعيد لصون اسم الله تعالى ممن لا يبتهج بسماعه، ولذلك فسّرنا القول الميسور بالدعاء للفقير باليسر فقط والكلام اللين، وعليه فالأولى أن يقال للسائل ممن لا يريد أن يعطيه ائت بوقت آخر تحاشيا لذكر اسم الله عند من لا يحب سماعه في هذا الباب، فإذا جاء ولم يكن عنده شيء فليقل لم يتيسر لي ما أعطيكم. هذا وقد استدل بعض المفسرين أن في قوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) دليل على النهي عن الإعراض فيكون المعنى إن أردت الإعراض عنهم ولم ترغب أن تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) بأن تعدهم بالعطاء والانتظار لوقت آخر يتيسر لك الإعطاء فيه ولا تقطع أمله فيك وتلطف به بكلام ليّن ووجه منطلق وخفض جانب، وقدمنا في سورة الضحى ما يتعلق بهذا البحث فراجعه، قال تعالى «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ» أيها الغني الموسع عليك «مَغْلُولَةً» هذا تمثيل لمنع البخل والشح كما قاله بعض المفسرين، لأن البخل يكون في مال الرجل البخيل، والشحّ يكون في مال غيره فهو أقبح من البخل، وهو مبالغة في ذم عدم الإعطاء، وقوله تعالى (إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسك يدك عن الإعطاء فتجعلها كالمربوطه في عنقك «وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» تمثيل للإسراف في العطية أي لا تعطه جميع ما عندك «فَتَقْعُدَ» إن فعلت ذلك «مَلُوماً» على الإسراف من نفسك لندمك على فقد ذات يدك بسبب طيشك، وعند الناس تلام أيضا على تضييع كل ما في يدك من المال، لأنهم لا يحمدونك على فعلك هذا، ولا يحبذونه لك، وهو عند الله مذموم أيضا، لأنه لا يحبّ المسرفين، راجع الآية ٢٠ من الأعراف المارة ولا يرضى لعباده ما لا يحبه «مَحْسُوراً» ٢٩ متحسرا على ما فرط منك مغموما على لوم نفسك ولوم الناس لك وبقائك صفر اليدين مخالفا لأمر الله تعالى الموجب الأمر بالاقتصاد في النفقة، راجع الآية ٦٦ من سورة الفرقان المارة، لأن هذين النّهيين يوجبان على الرجل أن يسلك سبيلا وسطا بين الإفراط والتفريط، وهذا هو الجود الممدوح والاقتصاد المطلوب وخير الأمور أوساطها، قال ابن الوردي:
بين تبذير وقتر رتبة وكلا هذين إن زاد قتل
وأخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما عال
479
من اقتصد، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، وتقول العامة من دبّر ما جاع، ومن رقع ما عري، وصبرك على نفسك خير من صبر الناس عليك. وروى أنس مرفوعا التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين. وقيل حسن التدبير مع العفاف خير من الغنى مع الإسراف، وقيل أن قوله تعالى (ملوما) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) الآية المارة، وقيل البخيل ملوم حيثما كان، وقوله تعالى (محسورا) راجع إلى قوله تعالى (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية، وهذا وجيه كي يكون قوله تعالى (فتقعد) بيانا لقبح الأمرين، لأنه منصوب بجواب النهيين، تدبر. وهذه الآية عامة مطلقه يدخل في عمومها حضرة الرسول وغيره من الأمة كافة، وما ورد عن جابر قال بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل صلّى الله عليه وسلم داره ونزع (الدرع) قميصه وأعطاه وقعد عريانا، وأذن بلال، وانتظروا فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة، فنزلت هذه الآية لا يصح جعله سببا لنزول هذه الآية، لأنها مكية بالاتفاق والحادثة مدنية بدليل تأذين بلال رضي الله عنه، لأن مكة لا أذان فيها ولا جماعة إذ ذاك، وقد تتبع هذا الخبر وليّ الدين العراقي فلم يجده في شيء من كتب الحديث بلفظه هذا، وعلى فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لما علمت، وقد أخرج بن مردويه عن ابن مسعود قال جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إن أمي تسألك كذا وكذا، فقال ما عندنا اليوم شيء، قال فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن النهال بن عمرو نحوه، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزّ من العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا نأتي النبي فنسأله، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله هذه الآية. وهذا أيضا لا يصح لأنه حينما كان بمكة لا يأتيه شيء من العراق ولا من غيره، ولم يؤمر بالقتال والغزو وأخذ
480
الغنائم وغيرها إلا بالمدينة، وكذلك لا يصح سببا للنزول ما قيل إنه عليه السلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيبنة بن حصن الفزاري مثله، فجاء عباس ابن مرداس وقال:
أتجعل نهبي ونهب البعيد... بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما... ومن يخفض اليوم لا يرفع
فقال صلّى الله عليه وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه، أعطه مائة من الإبل. وكانوا جميعهم من المؤلفة قلوبهم لأن النهب والفيء لم يكن في مكة، لهذا فإن ما اعتمد عليه بعض المفسرين من هذه الأخبار في كونها سببا للنزول غير صحيح، وان الآية مطلقة كما ذكرنا عامة شاملة.
مطلب بسط الرزق وقبضه ووأد البنات وما يتعلق فيه:
قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ» يوسعه ويكثره «لِمَنْ يَشاءُ» من عباده مؤمنا كان أو كافرا لا لكرامته ولا لمحبته «وَيَقْدِرُ» يضيق ويقلل ويقتر على من يشاء لا لهوانه ولا لبغضه ولا لبخل من الجواد عليه، تعالى الله عن ذلك بل لمصالح يقتضيها هو يعلمها وحكم تتعلق بها مشيئته، لأن مقاليد الرزق بيده جل جلاله، وهذه الآية كالعلة لقوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) كأنه قيل إن أعرضت عنهم لفقد ما تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ولا تهتم لذلك فإن عدم التوسعة عليك ليس لهوان منك عليه، وإن ما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق المال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحة وحكمة، وعليه فتكون الآية (وَلا تَجْعَلْ) إلخ كالإعتراض بين هذه الآية والتي قبلها وكالتأكيد لمعنى ما تقتضيه حكمة الله عز وجل «إِنَّهُ كانَ» قديما ولم يزل ولن يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بمصالحهم السرية الخفية «بَصِيراً» بحوائجهم العلنية الظاهرة التي منها بسط الرزق وقبضه، لأنهما أمران مختصان به، وما على العبد إلّا أن يقتصد في الإنفاق والإعطاء فيفعل ما عليه ويترك ما على الله بطريق التفضل إلى الله.
قال تعالى «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» مخافة الفقر والفاقة، قال الشاعر:
481
وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهّبا
وهذا النهي بحسب ظاهر الآية عن قتل الذكور والإناث، لأن لفظ الولد يتناولهما، لكن الشائع أن الجاهليين كانوا يئدون البنات فقط مخافة النهب والسبي أو مخافة أن يأخذن غير كفؤ وذلك جار عندهم، ومنهم من يئد مخافة العجز عن الإنفاق، فنهى الله في هذه الآية من كانت هذه عادتهم عن ذلك، وعليه فيكون المراد بالأولاد البنات، وبالقتل الوأد خشية العار والقتل مخافة الفقر والله أعلم.
وأصل الخشية خوف يشوبه تعظيم ويكون عن علم بما يخشى منه، «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» هذا ضمان من الله تعالى لرزقهم وتعليل للنهي عن قتلهن، أما النهب والسبي فهو أمر قسري وكل ما يقسر عليه لا عار فيه، كما أن ما يكره عليه لا يتم؟؟؟ فيه، أما الكفاءة فهي في الإسلام متقاربة ولو فرض عدم توفرها، فإنه لا يستوجب القتل وقد أجاز الشرع للولي طلب فسخ النكاح فيها كما أجاز له الإقرار عليها، وإذا كان الله تعالى تعهد بالرزق فلا ينبغي أن يخشى من الفقر لإطعام العاجزات عن طلب الرزق، وسيأتي في الآية ١٥٠ من سورة الأنعام في ج ٢ في نظير هذه الآية تقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين عكس ما في هذه الآية وذلك التقديم للإشعار بأصالتهم في افاضة الرزق، وعارض هذه النكتة في آية الأنعام تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين، لأن الباعث على القتل فيها الإملاق الناجز، ولذلك قيل من إملاق، وهنا الإملاق المتوقع، ولذلك قيل فيها خشية إملاق، فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه ونرزقكم أنتم أيضا رزقا إلى رزقكم «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً» لذلك السبب المزعوم المبتني على قلة يقينكم بالرازق وترهمكم ذلك «كَبِيراً ٣١» إثمه عظيما تخطره، والإثم والخطأ بمعنى واحد، ومن قرأ خطا بفتح الخاء والطاء أراد أنه لغة في الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء مثل مثل مثل وحذر وحذر، لأنه من خطأ يخطىء، وعليه يكون المعنى أن قتلهم غير صواب، والمقام لا يناسبه، لأن غير الصواب لا يوصف بالكبر عادة، وإنما وصف الله تعالى قتلهم بالكبر لأن السبب الذي توخوه منهي عنه ولا أساس له في الشرع، فكان قتلهم بناء على ذلك السبب الواهي أعظم عند الله من
482
قتلهم عفوا، لأن فيه عدم الاعتماد على الله تعالى في أن يرزقهم وإطاعة للشيطان فيما يلقيه في قلوبهم من خوف الفقر، قال تعالى (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية ١٢٩ من البقرة في ج ٣، وقال تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) الآية ٢٥ من سورة النساء في ج ٣، فانظروا أيها الناس أيهما تختارون، اتباع الله المتكفل بأرزاقكم، أم الشيطان الذي يخوفكم الفقر، وإنما كان قتلهن أعظم وزرا من القتل العفو لأن القتل يقع عادة بين الناس لعداوة أو انتقام، أو حالة المقابلة بالغزو وغيره، وليس فيه عدم الاعتماد على الله، تأمل قول الفائل:
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى» نهى الله تعالى عن قربانه فضلا عن إتيانه مبالغة في التجنّب عنه والتباعد عن التعرض لأسبابه من الإشارة واللمس والغمز والقرص والقبلة والعضّ حتى النظرة الثانية إذا كانت الأولى غير مقصودة، لأن النظر هو أول مبادثه، ولذلك نهى الله تعالى المؤمنين والمؤمنات عنه كما سيأتي في الآيتين ٣١ و ٣٢ من سورة النور في ج ٣، «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً» قبيحة فظيعة زائدة عن حد الشرع لما فيها من التعدي الشنيع على الغير وتضييع النسب، ومن لا نسب له ميت حكما «وَساءَ سَبِيلًا» ٣٢ ذلك السبيل لأن الالتقاء بطريقة الزنى يسبب انقطاع النسل وهو سبب خراب العالم لأن المجتمع الإنساني لا يقوم إلا بالنكاح المسبب عنه كثرة النسل قال صلّى الله عليه وسلم تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم. ولهذه الحكمة أبيح تعدد الزوجات لأن في الكثرة عز ومنعة وقوة وسيطرة على أعداء الله وفي عدمه القلة الناشئ عنها الذلة والضعف والمسكنة للإعداء، قال صلّى الله عليه وسلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كاظلة، فإذا تاب ونزع رجع إليه. وفي رواية الشيخين لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. أي متوغل الإيمان في قلبه إذ يمنعه عنه، أما من كان يدعي الإيمان أو الإسلام دون التقيد بأحكامهما فلا يمنعانه من ارتكاب جميع المحرمات لأنهما صوريّان، والله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، وقال صلّى الله عليه وسلم إياكم والزنى فإن فيه ست خصال، ثلاث
483
في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا فنقصان الرزق ونقصان العمر والبغض في قلوب الناس، وأما الثلاث التي في الآخرة فغضب الرب وشدة الحساب ودخول النار، ولهذا نهى عن قربانه فضلا عن مباشرته والعياذ بالله، ولما جاء في الخبر، العين تزني بالنظر واليد تزني باللمس والرجل تزني بالمشي والقلب يشتهي الوقاع والفرج يصدق أو يكذب، أي يصدق هذه الجوارح إذا باشر بالزنى فعلا ويكذبها إذا ردع نفسه فلم يباشره، ولا يخفى أن الزنى من الكبائر، وقدمنا في الآية ٣١ والآية ٧٢ من سورة الأعراف والآية ٦٨ من سورة الفرقان المارتين ما يتعلق بالزنى واللواطة والسحاق وما يتفرع عنها، فراجعها. واعلم أن الزنى على مراتب أعلاها اي أعظمها وزرا بالمحارم لما جاء في صحيح الحاكم أنه صلّى الله عليه وسلم قال من وقع على ذات محرم فاقتلوه والمحرمات معلومات بالنص راجع الآية ٢١ فما بعدها من سورة النساء في ج ٣، ثم بحليلة الجار، ثم بالأجنبية، ثم في مكان حرام كمكة والمدينة والقدس، ثم في زمن معظم كرمضان وعشر ذي الحجة والمحرم وليالي الولادة والإسراء والمعراج والبراءة والقدر والعيدين، ثم بالأجنبية على سبيل القهر لاوليائها، والإكراه لها، ثم بالأجنبية التي لا والي لها على الرضاء منها أو غير رضاء، ثم بالمسبلة، وزنى الثيب الأيّم أقبح من البكر والأعزب، بدليل اختلاف الحدّ، وزنى الشيخ أفظع من زنى الشاب لكمال عقل الأول، وزنى الحر والعالم أفظع من زنى القن والجاهل للسبب نفسه، وهو الكمال فيهما دونها، والزنى أكبر جرما من اللواطة وان كانت اللواطة فحش منه لما فيه من اختلاط الأنساب ولأن الشهوة داعية إليه، ولهذا البحث صلة في نفس الآية ٣٥ الآية.
مطلب في القتل والولي الذي له حق القصاص ومراتب الزنى واللواطة:
قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد «إِلَّا بِالْحَقِّ» استثناء مفرغ أي لا تقتلوها أبدا لسبب من الأسباب إلا بسبب واحد هو الحق، وذلك بأسباب ثلاثة أن يكفر بالله بعد الإيمان أو يزني بعد الإحصان أو يقتل نفسا عمدا، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله واني رسول إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس
484
والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة. وما ذهب إليه الأمام مالك والشافعي رحمهما الله من قتل تارك الصلاة كسلا وما قاله الإمام احمد من أن من تركها جاحدا فرضيتها فإنه يقتل فلا قول فيه، أما في غير الجحد فلا، ولا يجوز الإفتاء فيه فقد جاء بالحديث لأن يخطىء الإمام بالعفو أحبّ إلي من أن يخطىء في العقوبة.
لأنه لا يجوز قتل رجل يقول ربي الله إلا بأمر صريح من الشارع لا شك فيه ولا معارض له، لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال، وأما ابو حنيفة رحمه الله فإنه يختار حبس التارك لها كسلا وتهاونا حتى يصليها، أما جحدا فإنه يقتل إجماعا بلا خلاف، وما قاله بعض المحققين من قتل اللوطي فلم تجمع عليه الأمة ولم يرد به نص قاطع من آية قرآنية أو حديث متواتر، وما قيل ان الحصر منقوض بجواز قتل الصائل فيقتل منقوض، لأن قتل الصائل قصد منه الدفع لا القتل، والمراد بالقتل هنا ما يكون مقصودا بنفسه، فإذا أفضى الدفع الى القتل فيكون أيضا بحق، لأنه لو لم يقتله لقتله، والدفاع عن النفس والمال والعرض مشروع، فقد ورد قاتل دون مالك، قاتل دون عرضك، قاتل دون نفسك، فيكون قتالا بحق إذا أدى الحال إليه ولم يقدر على حفظ ماله ونفسه وعرضه من القتل إلا بالقتل، ولهذا فإن القانون المدني عد القتل دفاعا عن النفس معفوا من العقوبة استنباطا من تلك الأدلة، وهكذا كل قانون يقبله العقل السليم مأخوذ من الشرائع السماوية «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» منكم أيها الناس دون اقتراف ذنب ولا سبب من هذه الأسباب الثلاثة، والصائل متعد غير مظلوم فلا يدخل في هذه الآية.
قال العلماء إن من عليه القصاص يقتص منه ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك، وهذا المظلوم الذي قتل عمدا بغير حق يوجب قتله أو يبيحه «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» قويا بأن جعلنا له حق التسلط على قتل القاتل والاستيلاء عليه وإجباره بالقصاص منه أو أخذ الدية بالعفو عنه إن شاء الولي، ولا تتعين الدية إلا بعد العفو، فيجوز أخذها حينئذ كما في قتل الخطأ، لأن القتل العمد لا دية فيه بل القصاص والكفّارة، والمقتول خطأ مقتول ظلما أيضا، إذ لم يقترف جناية تستوجب قتله، إلا أنه لا إثم على قاتله لقوله صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي ثلاث: الخطأ والنسيان
485
وما استكرهوا عليه. وشرعت الكفارة في قتل الخطأ لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه، ومن قال إن المرأة لها دخل في طلب القصاص فقد فسّر الولي بالوارث، والصحيح أن لا دخل لها في ذلك، لأن القرآن جاء بلفظ الولي وهو لفظ مذكّر لا تدخل فيه المرأة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآيتين ٩٢ و ٩٣ من سورة النساء في ج ٣ إن شاء الله «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» فيتجاوز الحد الشرعي بأن يمثل في القاتل أو يقتل اثنين بدل واحد أو يقتل غير القاتل، راجع تفسير الآية ١٥ المارة في هذا البحث، إذ كان الناس قبل شريعة إبراهيم عليه السلام يؤاخذون القريب بقريبه كما هو الحال الآن في أعراب البادية، إذ يقتلون من عثروا عليه من أقارب القاتل، وقد لا يكتفون بقتل واحد إذا كان المقتول وجيها ويتحرون الوجيه والشريف من أبناء عشيرة القاتل الأبرياء فيقتلونهم وهم غافلون، وهذا غاية في الظلم والتعسف ولا حول ولا قوة إلا بالله «إِنَّهُ كانَ» ولي المقتول «مَنْصُوراً» ٣٣ على القاتل لاستيفاء حقه منه قصاصا، وقد أمر ولي الأمر بنصرته ومعاونته على استيفاء حقه، وهذه أول آية نزلت في القتل وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، وهذه الآية والتي قبلها ٣٢ و ٣٣ مدنيتان على قول الحسن والجمهور على أنها مكيتان وسياقهما يؤيد مكيتهما.
مطلب المحافظة على أموال اليتيم والوفاء بالعهود:
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» الذي مات أبوه، أما الذي ماتت أمه فهو عجي، والذي مات أبواه فهو لطيم، وفي النهي عن قربانه المبالغة في النهي عن أخذه كما لا يخفى على بصير، ثم استثنى جل شأنه من عموم أخذ مال اليتيم حالات بينها بقوله عز قوله «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» لنفس اليتيم من الخصال التي تعود عليه بالنفع والحظ من طرق تنميتها وحفظها والإنفاق عليه منها بلا تقتير ولا إسراف، وبغير هذه الجهات الثلاث وما يقاربها فقد حرم الله قربان ماله، فكيف بأخذه وأكله، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) الآية ١٠ من سورة النساء في ج ٣، ولا استثناء في الأكل وإنما هو في القربان فقط لما فيه من النفع لليتيم كما علمت،
486
ويجب على وليه أو وصيه المحافظة عليه وعلى ماله بكل إخلاص وصدق «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» ليستكمل قواه ويصير أهلا للتصرف بماله، بأن يبلغ رشيدا ويجرّب في الأخذ والعطاء والبيع والشراء إن كان من أهله، ولا يكون ذلك إلا بعد بلوغه إحدى وعشرين سنة من عمره على أصح الأقوال، لأن أقل الأشد ثمانية عشرة سنة، وأكثره ثلاثون راجع الآية ١٤ من سورة القصص المارة، فإذا لم يبلغ رشيدا فلا يسلم إليه ماله ولا يمكن من التصرف به ولا من قربانه بغير الصور الثلاث، لأنه مقيد ببلوغه وكماله، أما إذا بلغ رشيدا وجرّب جاز للولي والوصي أن يسلمه ماله وملكه، راجع الآية ٥ من سورة النساء في ج ٣، ويسن مراقبته من قبلهما وإرشاده لما به سداده، وإذ ذاك يسقط الوجوب عنهما ويخرج عن كونه يتيما راجع الآية ٩ من النساء أيضا في ج ٣. وليعلم أن أكل مال اليتيم من الكبائر بدليل الوعيد فيه المار ذكره أعلاه قليلا كان المأكول أو كثيرا فلا يتقيد بمقدار نصاب السرقة المستوجبة للقطع، لأن الآيات والأحاديث الواردة في النهي عنه جاءت مطلقة عامة لم تقيد بقليل أو كثير ولم تخصص أيضا، ولا يجوز قيدها وتخصيصها إلا بدليل سمعي، ولا يوجد، لذلك فإن مرتكب أكل مال اليتيم مهما كان قليلا يستحق العذاب والوعيد المترتب عليه، اللهم إلا التافه الذي يتسامح فيه عادة كشربة ماء وحبّة فاكهة ملقاة في الأرض أو ذوق الطعام لمعرفة نضجه وطعمه، وقد توصل في هذا الزمان والعياذ بالله بعض القضاء المكلفين بحفظه إلى أكله بوسيلة حفظه وتنميته، عاملهم الله بعدله وأذاق الخائن منهم جزاء أكله، ولله در القائل في أمثالهم:
قضاة زماننا أضحوا لصوصا عموما في البرايا لا خصوصا
أباحوا أكل أموال اليتامى كأنهمو رأوا فيها نصوصا
فدعنا يا أخي من أناس باعوا دينهم بيعا رخيصا
قال تعالى «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ» الذي عاهدتم الله عليه أزلا يوم أخذه عليكم في عالم الذّر من التزام أوامره واجتناب نواهيه، وما عاهدتم عليه الناس من أقوال وأفعال، وكل ما التزمتم به أنفسكم للغير وكلفكم به الله في هذه الدنيا، والوفاء
487
بالعهد هو القيام به والعمل بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه، لأنه الغدر بعينه «إِنَّ الْعَهْدَ» وضع جل شأنه الظاهر موضع المضمر لكمال الاعتناء، وإلا لقال «إنه» لأن الضمير يعود على العهد المذكور قبله «كانَ مَسْؤُلًا» ٣٤ عنه في الدنيا ومكلف بالقيام به ومؤاخذ عليه في الدنيا والآخرة، وتقدم كيفية أخذ العهد من قبل الله في الآية ١٧٢ من سورة الأعراف المارة. واعلم أن الإخلال بالعهد من الكبائر، فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه عدّ من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهدة، وصرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين إن العهد هنا هو التكليفات الشرعية، والوفاء به حفظ ما يقتضيه القيام بموجبه. ويقال وفي بالتخفيف والتشديد وأو في بالمزيد وكلها بمعنى واحد، إلا أن التشديد في الثاني يدل على التكثير والمبالغة والمزيد أي الأخير فيه زيادة حرف وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى. واعلم أن العهود باعتبار المعهود والمعاهد بكسر الهاء وفتحها ثلاثة أنواع: الأول بين الله وعباده، والثاني بين العبد ونفسه، والثالث بين الناس بعضهم لبعض. وكل واحد باعتبار الموجب له جهتان جهة أوجبها العقل وهو ما ذكر الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما يبدهية العقل أو بأدنى نظر واستدلال عليه، يؤيده قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية ١٧٢ من الأعراف المارة، وجهة أوجبها الشرع وهو ما دلّنا عليه كتاب الله تعالى أو سنة نبيه، فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أقسام:
فالأول واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقرب، مثل أن يقول علي أن أصوم كذا وكذا إن عافاني الله من مرضي هذا أو أتصدق بكذا، الثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك مباح فإن له أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه متى أراد، الثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ولا يفعل المحلوف عليه، الرابع واجب ترك الوفاء به مثل أن يقول على أن أقتل فلانا أو أغتصب ماله ونحوه، فعليه أن يعرض عن حلفه ويكفّر عن يمينه فيحصل
488
من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا. وأعلم أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى على الوفاء بما عاهد وعاقد عليه لا أنه لا قدرة له أصلا، ينقض ما عاهد وما عاقد ويقول هكذا مراد الله أو ما أراد الله أن أوفي بذلك كما تقول الجبرية، ولا أن يقول أن لي قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعرية، ولا يقول إن لي قدرة مؤثرة وإن لم يأذن الله تعالى كما يقوله المعتزلة، وإن لي اختيارا أعطيته بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له، فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه، بمعنى أنه لا بد من أن يكون له فعل فيه، لأن استعداده الأزلي غير المجعول قد طلبه من الجواد الكريم المطلق الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك مثل دلالة الأثر على المؤثر والغاية على ذي الغاية، قال تعالى: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الآية ٣٤ من سورة النحل في ج ٢ ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
هذا، وقد قال ابن المنير إن أهل السنة والجماعة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، وبذلك يميز بين الاختياري والقسري، وتقوم حجة الله على عباده، ولهذا يعاقب العبد على فعله ويؤجر لأنه إذا فعل الشرّ كالشرب والزنى مثلا فإنه فعلهما عن اختيار ورغبة لا عن إكراه. وكراهية، ولأنه حينما فعلهما كان عالما بأنه يعذب عليهما لأن ذلك لا يعرف إلا بعد وقوع الشيء وإلا لما استحق العذاب ولا السؤال، فلا حجة للعبد بقوله مقدر علي وإنه لو شاء الله لمنعني من فعله، اقتداء بمن سبقه من الكفرة الذين يتقولون بذلك راجع الآية ١٤٠ من سورة الأنعام والآية ٣٥ من سورة النحل في ج ٢ اه. من روح المعاني للآلوسي، وليعلم أن الأمة الإسلامية خير من يراعي العهود ويحافظ عليها ويفي بالوعود ويقوم بها، وكان حضرة الرسول الأعظم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته في ذلك، ولهذا رأيت أن أذكر نوعا من معاهدات الصلح التي عقدها عليه الصلاة والسلام على أثر انتهاء حروبه مع أهل الكتاب وغيرهم
489
حبا في بقاء النوع الإنساني وصيانة لحياته دون احتياج إلى استخدام السلاح وإرهاق الأرواح وجنوحا للسلم وحقنا للدم، راجع الآيتين ١٠- ١١ من سورة الحجرات والآية ١٣٨ من سورة النساء والآية ٦٢ من سورة الأنفال في ج ٣. وهذا نص كتاب الصلح في معاهدة تبوك:
مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا منّة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل ايلية سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله تعالى ومحمد النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وانه لطيّبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. وهذا نص الكتاب الثاني:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب محمد لأهل أزرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد رسول الله وأن عليهم مائة دينار في كل رجب واقية طيبة والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين. وهناك معاهدات أخرى سنأتي بها عند ذكر ما يناسبها من الآيات المارة الذكر في القسم المدني إن شاء الله وخاصة عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية الأولى من سورة المائدة، وعند قوله تعالى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الآية ١٩ وما بعدها من سورة الرعد والآية ٢ من سورة الصف في ج ٣ والآية ٩١ من سورة النحل في ج ٢ وغيرها مما جاء فيها وجوب المحافظة على العهود والتهديد والوعيد على نقضها، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. فالوفاء بالعهد من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة والخصال المجيدة، ومن الأمثال:
الوعد وجه والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والوفاء مطرها. وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، وقد ذم الله القض في الآيات ٩٠ فما بعدها من سورة النحل المنوه بها آنفا، وليعلم أن النقض من الغدر والبغي وقال صلّى الله عليه وسلم أعجل الأشياء
490
عقوبة البغي. وقال المكر والخديعة والخيانة في النار. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاث من كن فيه كن عليه وورد: ثلاث رواجع أي ترجع على المبتدئ بهن البغي والنكث والمكر قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الآية ٢٤ من سورة يونس في ج ٢، وقال تعالى (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية ١٠ من سورة الفتح ج ٣، وقال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية ٤١ من سورة فاطر المارة، هذا وكم أوقع الغدر في المهالك من غادر وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر وطوقه غدره طوق خزي فهو على فكه غير قادر، وأوقعه في مظنة خسف وورطة حتف، فماله من قوة ولا ناصر. ويشهد لهذا قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري التي سيأتي ذكرها في الآية ١٠٥ فما بعدها من سورة التوبة في ج ٣، فلا خزي أفظع من ترك الوفاء بالميثاق، ولا سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق، ولا عار أفضح من نقض العهد والميثاق وجاء في المثل لم يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم. وأكثر الشعراء في ذمّه فقال بعضهم:
غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد
وهو أصناف بحسب النتائج، فمنه الخلف بما يعد من الصغائر كالوعد بإعطاء شيء ثم النكول عنه، وبالمجيء إلى مكان ثم الخلف به، ومنه ما يكون من الكبائر كالإخلال بمعاهدات الصلح والهدنة الموقتة والمبايعة للإمام، ومن الكبائر الخروج على الإمام بعد المبايعة له أيضا بغير وجه شرعي يخالف نص المبايعة، قال تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ» أتموه وأعطوه وافيا لا تنقصوه «إِذا كِلْتُمْ» للمشتري أيها الباعة «وَزِنُوا» إذا وزنتم لغيركم ولأنفسكم من غيركم «بِالْقِسْطاسِ» القبان ومثله الميزان «الْمُسْتَقِيمِ» العدل السوي كان الموزون ذهبا أو حطبا، وقد اكتفى جل شأنه باستقامة الوزن عن الأمر بإيفائه، لأن الوزن عند استقامة ما يوزن به لا يتصور الجور فيه غالبا، بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف فيه مع استقامة الكيل، لهذا ذكر الاكتفاء بإيفائه عن الأمر بتعديله.
491
مطلب الكيل والميزان والذراع... وما يتعلق بهما:
وقد جاء في الآية ٨٤ من سورة الأعراف المارة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ)
وفي الآية ٨٤ من سورة هود (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية في ج ٢، لأن الإيفاء لا يتصور بدون تعديل المكيال، وقدمنا في سورة الشعراء المارة في الآية ١٨٢ بأن كلمة القسطاس من التي قيل فيها إنها غير عربية في الأصل، وذكرنا هناك بأنها وغيرها في الأصل عربية واستعملها الأجانب لأن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذكرنا أيضا بأنه لو فرض جدلا ومحالا بأنها في الأصل ليست بعربية فقد عربت ونطق بها العرب قبل نزول القرآن، فوجدوها فيه على هذا لا يقدح بعربيتها في القرآن أيضا لأنها بعد التعريب والسماع في فصيح كلام العرب استعمالها صارت عربية، فلا حاجة لإنكار عربيتها أو ادّعاء التغليب، أو أن المراد عربي الأسلوب، أو أنها من نوارد اللغات كما يقال في بعض الشعر إنه من نوارد الخاطر إذا وافق قول من قبله. هذا، وقد تبدل سينه صادا كما تبدل صاد الصراط سينا وكذلك المستقيم وشبهه من الألفاظ، لأن السين تخلف الصاد وبالعكس في بعض المواضع راجع تفسير الآية ٥ من سورة الفاتحة المارة، «ذلِكَ» الإيفاء والاستقامة في الكيل والوزن «خَيْرٌ» لكم أيها الناس في الدنيا لأنه يسبب الرغبة في معاملتكم يجلب لكم النفاء الجميل «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ٣٥ في الآخرة، وأجمل عاقبة لما يترتب عليه من الثواب، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما، كما في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية ٨ من آل عمران في ج ٣، أو فعلا كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الآية ٥٣ من سورة الأعراف المارة وقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأويل وليعلم أن نقص الكيل والوزن من الكبائر على ما يقتضيه الوعيد الشديد الوارد في الآيات والأحاديث، ولا فرق بين القليل والكثير، فالتفاوت لا شك قليل والعذاب عظيم كبير، ألا فلينتبه الغافلون وليتأملوا قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الآتية آخر الجزء الثاني، ومن يرد السلامة ويحذر يوم الندامة فليوف الكيل وليرجح الميزان ليكون آمنا من مظنة السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهنا لا تسامح في التّافه، ولا عبرة لمن قال إن غصب ما دون ربع
492
الدينار لا يكون كبيرة، ويقيس عليه التطفيف، لأن هذا من مقاييس إبليس التي مرت لك في الآية ١٢ من الأعراف، ولا محل لها هنا، لأن الآية أوجبت الوفاء بالكيل والميزان، والله تعالى يقول (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية ٨٣ من هود في ج ٢، فكل نقص مهما كان تافها يعد مخالفة لكلام الله، ومخالفة كبيرة عظيمة لا يختلف فيها اثنان، على أن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره، لأنه يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعيين التنفير منه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا بما قالوه في شرب القطرة من الخمر إنه كبيرة وإن لم يوجد فيها مفسدة وهو السكر وزوال العقل واللغو والتأثيم لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع وجر السلعة حالة الذرع، ويوشك أن لا يكاد في هذا الزمن كيال أو وزان أو ذراع يسلم من نقص إلا من عصمه الله تعالى، أجارنا الله من النقص المادي والمعنوي بمنه وكرمه، قال تعالى «وَلا تَقْفُ» لا تتبع أيها الإنسان «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» من أحوال الناس وقرىء (ولا تقفوا) بإشباع الضمة حتى ولد منها واوا، ومعنى قفا اتبع قفاه، ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه، يقال قاف أثره يقوفه إذا قصّه واتبعه، أي لا تتبع ما لا علم لك له من أقوال الناس وأفعالهم، فتقول رأيت كذا من فلان وسمعت كذا من الآخر، وإياك أن ترمي أحدا بالظن وتغتابه في قفاه.
مطلب آداب الله الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات:
هذا نهي الله تعالى لكم أيها الناس من أن تحكموا بما لم تحققوا، فكيف بمن يقول رأيت وسمعت وهو لم ير ولم يسمع، فذلك البهت، وذلك الافتراء، وذلك الاختلاق، راجع الآية ١١٠ من النساء والآيتين ٦ و ١٢ من سورة الحجرات، والآية ٥٨ من الأحزاب في ج ٣، والآية ٣٦ من سورة يونس ج ٢، إذ يتدرج تحت هذا أمور كثيرة اقتصر المفسرون على بعضها، فمنهم من قال المراد فيها نهى المشركين عن القول بالإلهيات والنبوات تقليدا لأسلافهم واتباعا لليهود، وقال محمد ابن الحنفية رضي الله عنه: النهي عن شهادة الزور، وقيل المراد النهي عن القذف ورمي المحصنات الآتي ذكره في الآية ٣ فما بعدها من سورة النور في ج ٣، قال الكميت:
493
ولا أرمي البريّ بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وقيل المراد النهي عن الكذب، وقال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، والقول ما قاله الإمام بأن المراد العموم، لأن اللفظ عام فيتناول الكل ولا معنى للقيد والتقيد، روى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ ابن أنس: من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال. وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إياكم والظنّ لأن الظن أكذب الحديث.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة، قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره. وفي رواية ولو بحضوره. قلت ولو كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. هذا وما جاء بأن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام، قال أبو عمر الهيثمي لا أصل له، وقال نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنى إلا أن له ما يبين معناه، وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى، إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر له صاحبه.
فعلم من هذا أن أشدّية المغيبة من الزنى ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنية المستوفية لجميع شروطها من الندم والإقلاع، والعزم على عدم العودة إذا وقعت قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وظهور دابة الأرض، مقبولة مكفرة لإثم الزاني بخلاف الغيبة فإن التوبة منها وإن وجدت فيها تلك الشروط
494
جميعها لا تقبل ولا يكفر وزرها بدون أن يستحل من المغتاب ويستعفيه عما وقع منه، وهذا قد لا يتيسر، فلهذا كانت الغيبة أشد من الزنى من هذه الحيثية لا مطلقا، وعلم من هذا أن الزاني لا يحتاج إلى الاستحلال من أولياء المزني بها إذا كان برضاها، ومنها أيضا إن كان كرها لما يترتب عليه من المفاسد التي قد تؤدي إلى قتل الزاني والمزني بها أو لهما معا، دفعا لما يلحقهم من العار ويولد فتنا وغيظا وحقدا لا تكاد تتلافى، لأن الزوج والقريب يقدم على القتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقيق، أجارنا الله من ذلك كله، وليعلم أن ثمرات الزنى قبيحة في الدنيا، يورث الفقر ويذهب بهاء المؤمن ويقصر العمر ويؤخذ بمثله من ذربة الزاني، راجع ما قدمناه في الآية ٣٢ المارة وحديث من زنى زني به، أي من غير حاجة إلى ترصد محارمه والزنى بهن خارجا عن داره، بل قد يكون في وسط داره وعلى فراشه والعياذ بالله، حفظنا الله وعصمنا بحرمة نبيه وآله. وقد اتفق أن بعض الملوك لما سمع هذا الحديث أراد تجربته وكانت له بنت في غاية الحسن والجمال، فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها، فطافت بها الأسواق، فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها، فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمدّ أحد نظره إليها، رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها وذهب، فأدخلتها وأخبرت الملك بذلك، فخر ساجدا لله تعالى وقال الحمد لله ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة، وقد قوصصت بها، فنسأل الله أن يعصمنا وذرارينا من الفواحش والموبقات كلها ما ظهر منها وما بطن.
هكذا كانت الملوك وسننهم في رعاياهم، وملوك الآن على ما نحن فيه لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تكونوا يولى عليكم، هذه عاقبة الزنى في الدنيا، أما عاقبته في الآخرة فالدخول في جهنم والعذاب الأليم فيها، أجارنا الله من ذلك. واحتج في هذه الآية ثقات القياس، لأنّ قفو للظن ولا حكم به، لأن قوله تعالى (وَلا تَقْفُ) عام دخله التخصيص وهو النهي عن العمل بالظن، وأجيب بأن الأمة أجمعت على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة، منها الصلاة على الميت الذي لم يعرف ودفنه في مقابر المسلمين، وتوريت المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو
495
مظنون فيه، ومنها التوجه إلى القبلة في الصلاة مبني على الظن وعلى اجتهادات وامارات لا تفيد إلا الظن، ومنها أكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم والذابح لها مظنون، ومنها الشهادة فإنها ظنية أي الشهادة الفعلية وهي القتل في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى لأنها مبنية على النيّة وهي مظنونة، لا الشهادة القولية على الديون وغيرها فإنها لا تكون على الظن إلا في مواضع فإنها تجوز على السماع كالوقف والموت وغيرهما كما هو مدون في كتب الفقه، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات فمبناهما على الظن. ومن نظر ولو بمؤخر عينه رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء والآمال في حاصلات الزروع وغيرها، كلها مظنونة ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فالنهي عن اتباع ما ليس يعلم قطعي مخصوص بالعقائد، وبأن الظن قد يسمى علما، قال تعالى (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) الآية ١١ من سورة الممتحنة في ج ٣، وهذا العلم بإيمانهن إنما هو على إقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن إذ لا تعلم سرائرهن في ذلك وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا، على أنه متى حصل ظن على أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن واقع في طريق الحكم، وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. واعلم رحمك الله أنه لا شك أن القياس من الحجج المعمول بها شرعا بعد كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، وهو لغة التقدير واصطلاحا تقدير الفرع المراد إلحاقه بالأصل في الحكم والعلة نقلا وعقلا لقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الآية ١١ من سورة الحشر، وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الآية ١٣ من آل عمران في ج ٣ والاعتبار رد الشيء إلى نظيره. ولحديث معاذ رضي الله عنه حينما قال له صلّى الله عليه وسلم بم تقضي؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي، فقال صلّى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي به رسوله. هذا نقلا، وأما عقلا فلأن الاعتبار وهو التأمل واجب عند عدم النص فيما أصاب من قبلنا
496
من المثلات بأسباب نقلت عنهم، فنكل عنها احترازا عن مثله من الجزاء، ولا غرو أن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في المعلول كما بيناه في المطلب الرابع من المقدمة فراجعه، ومن أراد التفصيل فعليه بكتب الأصول، هذا وإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية مضبوطة، وإن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن، تأمل قوله تعالى «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» ٣٦ أي أن هذه القوى الثلاث المشار إليها في هذه الآية الكريمة كسائر الجوارح الأخر من كل إنسان مستجمع لها يسأل يوم القيامة عما اقترفتها، فالبصر يسأل عما أبصره، والسمع عما سمع، والقلب ماذا وعى ووقر فيه، وهكذا اليد والرجل والفم، أو أن الله تعالى يسأل هذه الجوارح نفسها عن صاحبها هل استعملها فيما خلقت له بأن استعمل النظر في كتاب الله وآلائه ومكنوناته، والسمع في سماع القرآن والذكر والكلم الطيب، والفؤاد هل وقر فيه النصح للمسلمين وحبهم والحميّة لهم، أم لا بأن استعملها على العكس فصرف نظره للمحارم، وسمعه للغيبة وقول السوء، وقلبه للحقد والغل والحسد للناس، واليد للبطش بغير حق،
والرجل للمشي إلى ما لا يرضي الله وما أشبه ذلك. هذا وقد أشار الله تعالى إلى هذه الجوارح بإشارة العقلاء على القول بأنها مختصة بهم تنزيلا لها منزلتهم، لأنها مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال بعضهم إنها غالبة في العقلاء، وجاءت لغيرهم من حيث أنهم اسم جمع (لذا) أي لفظ أولئك اسم جمع لذا وهو أي ذا يعم القبيلين من يعقل ومن لا يعقل ومن ذلك قول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
مطلب ما يجب أن تبادر به الناس والوصايا العشر وغيرها:
قال تعالى «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فخرا وكبرا وخيلاء وتبطرا تتعاظم عليهم، وتتكابر في مشيتك على الناس وأنت منهم «إِنَّكَ» أيها الإنسان المتصف في هذه المشية المكروهة «لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ» بمشيتك هذه الممقوتة، فتتصور أنك تثقبها بشدة وطأتك كلا «وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» ٣٧ بتشامخك ومدّ عنقك وقامتك مهما تطاولت، فأنت أنت بل تتصاغر في أعين قومك،
497
وهذا تهكم في كل مختال شديد الفرح بنفسه كثير المرح على غيره، إذ يمشي مرة على أعقابه وأخرى على رءوس أصابعه، وتارة يتمايل، وطورا يتبختر بقصد تعالي نفسه الواطية، فمالك وهذا أيها الإنسان، تواضع لأنك دون ذلك وكن كما قال أبو الحسن علي بن خروف:
تنزه عن الدنيا وكن متواضعا عفيفا ولا تسحب ذيولا من الكبر
إذا كنت في الدنيا حليف تكبر فإنك في الأخرى أقل من الذر
واعلم أن قوتك مهما كانت فلن تقابل قوة الأرض ولا جثتك عظم الجبال، ومن هو أضعف من هذين الجمادين لا يليق به أن يتكبر، كان صلّى الله عليه وسلم إذا مشى يتكفأ تكفؤا أي تمايل إلى قدام كأنما ينحط من صيب، أي ينحدر من مكان عال فيحصر نظره قدامه، ومن هنا جعل السادة الصوفية العارفون النظر عند المشي إلى القدم شرطا من شروطهم حتى لا يرى شيئا من أحوال الناس، ومن أحوالهم بارك الله فيهم قولهم إذا دخلت فادخل أعمى وإذا خرجت فاخرج أخرس، وهذا هو الحكم الشرعي في المشي. ومن السنّة أن يمشي بجانب الطريق ويتجنب التضييق على المارة، ويغض بصره عن عورات الناس، ويعرض عنهم، ويوسع لهم ما استطاع، ويزيل الأذى عن الطريق من كل ما يوجب العثار والزلق، ويسلم على الناس ويقابلهم ببشاشة الوجه، والأحسن أن لا يجاوز نظره محل قدمه، وينذر الغافل والأعمى والصغير عن الوقوع في حفرة وشبهها، ويحذرهم من المرور تحت جدار مائل، ومن حية وعقرب وكلب كلب أو عقور أو جمل هائم أو رجل صائل أو سقف هائر، وبالجملة من كل ما يترقب الأذى منه أو يتوقع الضرر منه مادة ومعنى. وهذا كلثه من حق المسلم على المسلم والمعاهد والذمّي في حكم المسلم من هذه الجهات لقوله صلّى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. قال تعالى «كُلُّ ذلِكَ» من- ولا تجعل إلى آخر هذه الآية- «كانَ سَيِّئُهُ» المنهي عنه من ذلك، وهو أربع عشرة خصلة، والمأمور به وهو إحدى عشرة خصلة، ثلاث مستترة وثمانية ظاهرة، فيكون المجموع المشار إليها بقوله ذلك خمس وعشرين خصلة، فتدبرها لأنا أوضحناها لك فتح الله علينا وعليك، فإذا علمتها فافعل المأمورات ما استطعت،
498
واجتنب المنهيات كلها، لأن اجتناب المنهيات أحسن عند الله من فعل المأمورات، ولهذا جاءته القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع، راجع الحديث المار في الآية ٣٩، واعلم أنه كما أن المأمور به منها محبوب فالسيىء «عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» ٣٨ مبغوضا، فعليك أن تتّقي كل ما يكرهه الله، وتفعل ما يحبه.
واعلم أن لا مجال لما تمسك به بعضهم في هذه الآية من أن القبائح لا تتعلق بها إرادة الله تعالى، لان المراد بالمكروه هنا ما يقابل المرضيّ كما ذكرنا، لا ما يقابل المراد، لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى، وإلّا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة كما يزعمه بعض المعتزلة، ووصف ذلك بمطلق الكراهة، مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عنها، ولهذا كان المكروه عند المتقين الكاملين مثل الحرام في لزوم الاحتراز عنه، ومن لم يعرفه تعدّى إلى دائرة الإباحة، فتدبر وتحفظ وتأدب تنج وتسلم وتربح «ذلِكَ» المقدّم تفصيله لك أيها المتدبر المتفكّر العارف «مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ» من بعض ما أنزله «رَبُّكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْحِكْمَةِ» التي هي أسّ علم الشرائع ومعرفة ذات الخالق والاحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد إلى آخر الدوران «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» افتراء عليه إياك إياك، احذر من هذا أيها العاقل كل الحذر، فهو أكبر أنواع الكفر، ولهذا صدّرت الآيات الثماني عشرة بمثل ما ختمت للعلم بأن التوحيد مبدأ الأمر وآخره، ورأس كل حكمة ومنتهاها، وملاك كل أمر وعمدته، وقد رتّب عليه أولا ما هو غاية الشرك في الدنيا، إذ ختم تلك الآية بقوله (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) ورتّب آخرا على هذه الآية ما هو نتيجته في العقبى، وختمها بقوله «فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً» من نفسك وغيرك «مَدْحُوراً» ٣٩ مبعدا من رحمة الله لأنه كفر ما وراءه كفر، والفرق بين المذموم والملوم هو أن الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر مذموم، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا وما الذي حملك عليه، وما استفدت منه إلا ضرر نفسك، ويعلم من هذا أن الندم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول من لم يعنه أحد وقد فوض
499
أمره لنفسه إذ لا ناصر له، والمدحور المطرود المهان المستخف به، قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الثماني عشرة آية في التوراة عشر آيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل (يعني سورة الإسراء هذه) ثم تلا ولا تجعل مع الله إلى آخر هذه الآية، أي أن غالب أحكام التوراة داخلة في هذه الآيات، أما الوصايا العشر التي هي في التوراة فهي من جملة هذه الآيات وداخلة فيها وهي مبينة تماما في الآيات ١٥٢ و ١٥٣ و ١٥٤ في سورة الأنعام في ج ٢ كما سنبينها في محلها إن شاء الله. واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أولا عصيان بني إسرائيل وإفسادهم وتخريب بيت المقدس وتدميره وإياهم، وختمها كما سيأتي في استفزاز فرعون لهم وإرادته إهلاكهم، ونوه بالآيات التسع التي أظهرها لهم على يد موسى عليه السلام، وأنه دمّر فرعون وقومه وأورث ملكه وأرضه إلى موسى وقومه، وأن بني إسرائيل بعد ذلك كله استفزوا محمدا صلّى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة وأرادوا إخراجه منها، وحينما كان في مكة أرادوا استفزاز قريش عليه، وقالوا لهم سلوه عن الروح وأهل الكهف وعن ذي القرنين كما سيأتي تفصيله في الآية ٨ من سورة الكهف، وهذا من بعض تعنتات اليهود. وجاء ذكرهم في هذه السورة تعريضا بهم بأنهم إذا لم يؤمنوا بمحمد سينالهم ما نال فرعون، لأنهم أرادوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم ما أراد فرعون بموسى وأصحابه، وجاء هذا البحث هنا استطرادا بسبب ذكر التوراة وما فيها راجع الآية ١٦٦ من الأعراف المارة. قال تعالى «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» اختصكم «بِالْبَنِينَ» واختارهم لكم «وَاتَّخَذَ» هو لنفسه جلت نفسه «مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً» مع أنهنّ أدنى حالا من الذكور «إِنَّكُمْ» أيها الكفرة المختارون لأنفسكم الأحسن «لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» ٤٠ في حق المتّصف بالكمال المنزه عن اتخاذ الولد، وتجرءون على هذا ولا تخشون عظمته بأن ينزل بكم أعظم العذاب. نزلت هذه الآية بالمشركين القائلين إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك، وإنما وصف الله قولهم هذا بالعظيم لأنه لا أعظم منه، إذ جعلوه جل جلاله من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد، وهو ليس كمثله
500
شيء، فهو الواحد القهار الباقي بذاته
، وهذا القول لا يجترىء عليه ذو عقل بل هو خرق لقضايا العقول، وإثم كبير لا يقادر قدره،
قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا» كررنا وبيّنا، والتصريف أصله صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ولكنه استعمل في التّبيين والتكرير على طريق الكناية، لأن من يحاول بيان الشيء يصرف كلامه من نوع إلى آخر لكمال الإيضاح «فِي هذَا الْقُرْآنِ» العظيم من العبر والحكم والأخبار والقصص والأمثال والحجج والآيات والبراهين، «لِيَذَّكَّرُوا» به قومك يا أكمل الرسل فيتعظوا بزواجره ويخبتوا لأوامره لأن هذا التكرار يقتضي الإذعان والركون إلى ما فيه، ولكنهم تمادوا في كفرهم «وَما يَزِيدُهُمْ» ذلك التبيين «إِلَّا نُفُوراً» ٤١ من حقك الذي جئتهم به، وصدودا عن الإيمان الذي تأمرهم به، وجحودا للكتاب الذي أنزل إليهم، وتباعدا عنك وإعراضا، وما ذلك منهم إلا تعكيس في الحق وتماد في الباطل، وقرىء (ليذكروا) بالتخفيف هنا كما قرىء في مثلها في سورة الفرقان المارة الآية ٥٧ من الذكر بمعنى التذكر ضدّ النسيان والغفلة، كما قرىء صرفنا بالتخفيف أيضا وهو مثل صرفنا بالتشديد، إلّا أنه لا يدل على التكثير «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المشركين في إظهار بطلان ما تفوّهوا به «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ» بالتاء خطابا لهم وبالياء على الغيبة وكلا القراءتين جائزة هنا لأنه إذا أمر أحد تبليغ الكلام المأمور به لغيره فالمبلغ له في حال تكلم الأمر غائب، ويصير مخاطبا عند التبليغ، فإذا لوحظ الأول كان حقه الغيبة، وإذا لوحظ الثاني كان حقه الخطاب «إِذاً» إذ لو كان مع الله آلهة أخرى تعالى الله عن ذلك «لَابْتَغَوْا» لطلبوا «إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» ٤٢ طريقا لمغالبته وقهره ليزيلوا ملكه كما تفعل ملوك الأرض بعضها ببعض، ولكن ليس معه آلهة قطعا، كيف وهو رب العرش العظيم الإله الجليل الذي لا رب غيره، راجع الآية ٣٣ من سورة الرحمن في ج ٣. وهذه الآية تشير إلى برهان التمانع المذكور في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية ٢١ من سورة الأنبياء في ج ٢ كما سيأتي تفصيله فيها إن شاء الله. وقال مجاهد وقتادة إن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه والتقرب لحضرته بالطاعة لعلمهم بعلوّه سبحانه عليهم وعظمته ورفعته،
501
وهذا كقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية ٥٧ الآتية وهو إشارة إلى قياس اقتراني تقديره لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى، وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. هذا، وعلى التفسير الأول المشار به إلى برهان التمانع تكون لو امتناعية وعلى الثاني شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية، والوجه الأول أولى في التفسير وأنسب بالمقام.
مطلب تسبيح الأشياء وبعض معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم:
قال تعالى منزها نفسه المنزهة بنفسه «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ» من نسبة آلهة معه أو أولاد وصاحبة وعلا «عُلُوًّا كَبِيراً» ٤٣ لا غاية وراءه، وذكر العلو بعد وصفه سبحانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة، وهذا مبالغة في البراءة والبعد عمّا وصفوه به لأنه تعالى في قصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي، كيف لا وهو الذي «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» من الإنس والجن والملائكة والطير والوحش والحيتان والنّبات والجماد بدليل قوله «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» ولا من ذرّة يطلق عليها اسم الشيء ويمتد عليها ظل الوجود فيهن إلا يسبح بحمده منهم بلسان قاله، ومنهم بلسان حاله، لأن كل شيء يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث، كما يدل الأثر على مؤثره «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ» أيها الناس وأنتم منهكون في الغي والضلال «تَسْبِيحَهُمْ» لأنكم لا يفهم بعضكم لغات بعض فكيف تفهمون لغات ما هو من غير جنسكم «إِنَّهُ» جلت عظمته «كانَ» ولم يزل بعدم معاجلتكم بالعقوبة عما يصدر منكم من القبائح «حَلِيماً» لا يستفزّه الغضب فيمهل خلقه رحمة بهم ورأفة عليهم «غَفُوراً» ٤٤ كثير المغفرة لعباده الرّاجين عفوه الراجعين إليه، ولولا هاتان الصفتان لأنزل بكم العذاب حالا واستأصلكم به.
وليعلم أن عدم فقه تسبيح الحيوانات وغيرها ناشىء من عدم صقل القلوب من رين الذنوب، وقصور النظر فيما يدل على علام الغيوب، وإلا فقد وردت أحاديث وأخبار لا تقبل التأويل بتسبيح الحصى في كفه صلّى الله عليه وسلم، روى مسلم عن جابر بن
502
سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن بمكة حجرا كان يسلّم علي ليالي بعثت، وإني لأعرفه الآن. وروى البخاري عن ابن عمر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه فحنّ الجذع فمسح عليه بيده. وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطعام ثريد فقال إن هذا الطعام يسبّح فقالوا يا رسول الله وتفقه تسبيحه؟ قال نعم، ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل، فأدناها، فقال نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبّح، فقال أدنها من آخر، فأدناها منه فقال يا رسول الله هذا الطعام يسبّح، ثم ردّها، فقال رجل يا رسول الله لو أمرّت على القوم جميعا، فقال لا لأنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب، ردّها، فردّها. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا أصحاب محمد نعدّ الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس معنا ماء فقال اطلبوا ممن معه فضل ماء، فأني بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه. قال عبد الله كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب.
وهذا ليس من خصائصه صلّى الله عليه وسلم لأن جل الأنبياء تكلم لهم الحجر، ونبع لهم الماء، وتكلمت لهم الحيوانات والموتى، ووقفت لهم الشمس وكثر لهم القليل من الطعام والشراب، وقلل لهم الكثير من الأعداء، ومن وقف على معجزاتهم وكان موقنا آمن وصدق بهم وبما يقع لأولياء الله من الكرامات الشبيهة بالمعجزات ومن لا فلا، لأنه ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وعلى قلبه رينا وصدأ حتى لا يسمع ولا يبصر ولا يعي، فلا يؤمن. أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء. وأخرج أحمد عن معاذ ابن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله تعالى منه. وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع
503
وقال نقيقها تسبيح. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: ظنّ داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه، وان ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه، فقال يا داود افهم إلى ما تصوّت به الضفدع، فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها أحد، فقال له الملك كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال نعم، قال ماذا قالت؟ قال قالت سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب، قال داود لا والذي جعلني نبيه إني لم أمدحه بهذا. وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوشب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدّثت نفسك أنك سبحت الله في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني من سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل تسبح الله تعالى وتقدسه.
وأخرج الخطيب عن أبي حمزة قال كنا عند علي بن الحسين رضي الله عنهما، فمرّ بنا عصافير يصحن، فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا لا، قال أما اني ما أقول إنا نعلم الغيب، ولكن سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يقول سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها، وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بغراب وافر الجناحين، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما صيد صيد ولا عضدت ولا قطعت وشيجة إلّا بقلة التسبيح عضاة وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صيد من صيد ولا وشج من وشيج إلا بتضييعه التسبيح (الوشيج شجر الرماح وعرق كل شجرة، والعضاة الشجر العظيم أو الخمط أو كل ذات شوك أو ما عظم وطال من الأشجار، وعضده بمعنى قطعه، والعضد والعضيد الطريقه من النخل جمعه عضدان كغرابان) وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تضاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى، والثانية سبحانه وتعالى، والثالثة
504
سبحانه وبحمده، والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به، والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير، والسادسة سبحان الملك القدوس، والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزّة ووقارا، وأمثال هذا كثير لا يحصى عدا ولا يستقصى حدا، وكلها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قاليّ بلسان العقلاء، حالىّ بلسان غيرهم، وهو جائز شرعا لأنه من قبيل خرق العادة، حتى أن العارفين قالوا إن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات المعلومة عندهم يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت أي خفيت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة، ووقع التفاضل بين الخلائق بالمزاج، والكل يسبّح الله تعالى كما نطقت به هذه الآية، ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبّحه. هذا وقد جاء في الحديث أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس. والشهادة لا تكون إلا بالنطق وهو مختلف كل بحسبه كما علمت، وإن الشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل، ونحن زدا مع الإيمان بالأخبار الكشف، إلى آخر ما قاله. ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في دعائه للحمى يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تقدري في الفم وانتقلي إلى من يزعّم أن مع الله آلهة أخرى، فإني أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وجاء عن السجاد رضي الله عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر بأن له شعورا، واستفاض عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى النيل كتابا يخاطبه فيه حينما كتب له عمرو بن العاص بأن أهل مصر جرت عادتهم أن يطرحوا في النيل بنتا يزينونها كالعروس في كل سنة كي يفيض، وأنه أوقف هذه العادة لورود الجواب منه فكتب له أن يمنعهم من هذه العادة السيئة وأرسل ورقة مكتوب فيها، أيها النيل إن كنت تفيض بأمر الله فافعل، وإلا فلا حاجة لنا فيك أو فيما معناه هذا وانه منذ طرحها فيه فاض وخلص أهل مصر من تلك العادة القبيحة ببركة كتاب عمر، وأنه ضرب الأرض بالدرة
505
حين تزلزلت وقال لها إني أعدل عليك، فسكنت، وأن نارا كانت تخرج من ضواحي المدينة فأرسل إليها فلم تخرج، وأن الريح أوصل كلامه إلى القادسية حتى سمعه عامله، وهو قوله على المنبر (يا ساربة الجبل) فلما سمع عرف أنه كلام عمر، فصعد الجبل فرأى العدو من ورائه «فوقفه الله تعالى عليه بما يدل على أن الله تعالى سخّر له العناصر الأربعة، فكيف برسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٨٠ من النساء في ج ٣، وقدمنا بعض ما يتعلق فيه في الآية ١٥ من سورة النمل المارة، وذكرنا أن ما من معجزة لنبي إلّا ومثلها لحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد جمع عامة فضائلهم، فلا تستكثر أيها القاري على حضرته فهم تسبيح الجماد وغيره، فهو عظيم عند ربه فرق كل البشر وأحسنه:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خمير؟؟؟ خلق الله كلهم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم وأحكم بما شئت فيه مدحا فيه واحتكم
قال تعالى «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ»
الناطق بالتسبيح والتنزيه وصرت من غاية استغراقك بمعانيه غائبا عن محافظة نفسك «جَعَلْنا» بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية «بَيْنَكَ» يا حبيبي «وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» من قومك المشركين منكري البعث المتقدم ذكرهم «حِجاباً مَسْتُوراً» ٤٥ غير مرئي نسترك به بسائق تكفلنا بحفظك وحماينك، وكمل المؤمنين بفهم رموز هذا القرآن، أما أعداؤك الكفرة فإنا تحجبهم عن فهمه والانتفاع فيه، ونمنعهم أن يدركوا ما أنت عليه من الدرجة الرفيعة وجلالة القدر عندنا، لذلك اجترءوا عليك فقالوا ساحر وكاهن ومتعلم وناقل، وإنما اعتدوا على منصبك العظيم بذلك لجهلهم بمقامك الكريم، وحسدا لما أوتيته من الفضل عليهم، قال سعيد بن جبير لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى الله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره، فقالت لأبي بكر أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني، فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، ولم يقل لها ها هو معي أو غير ذلك، وهو جواب على خلاف السؤال مثله في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ٨٩ من البقرة ومثله كثير في ج ٣. فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ
506
رأسه، فقال أبو بكر لرسول الله ما رأتك، قال لم يزل ملك بيني وبينها. راجع سورة المسد المارة تجد ما هو أوضح من هذا، واحتج أصحابنا في هذه الآية على أنه يجوز أن تكون الحاسّة سليمة ويكون المرئي حاضرا لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق فيها مانعا يمنع من الرؤية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان حاضرا وحاسة هذه المرأة سليمة ولكنها لم تره، وقد أخبر الله تعالى أن عدم الرؤية للحجاب المستور الذي جعله بينه وبينها، ولا معنى للحجاب المستور إلا الذي يخلقه الله في عيون الرائي ما يمنعه من الرؤية وهو حاضر، وإذا كان الله تعالى جعل الحجاب الذي هو حائل غير مرئي، فكيف بالمحجوب؟ على أن كثيرا من الأشياء موجودة حسا غير مرثية كحركة الظلّ وفلكة المغزل، والمروحة عند شدة حركتها، راجع الآية ٩٥ من سورة الفرقان المارة، ولكن هذا غير ذلك «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً» أغطية كثيرة جمع كنان بمعنى الغشاء «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يقفوا على كنه معانية ويعرفوا حقيقة مبانيه أي أنا منعناهم عن فهمه «وَ» جعلنا «فِي آذانِهِمْ وَقْراً» ثقلا وصمما عظيما مانعا من سماعه سماعا يليق به لسابق علمنا أنهم لن ينتفعوا به وبمن أنزله، وذلك لأنهم لا يلقون له بالا ولا يتدبرون المراد منه، وهذه التمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون المنزل عليه وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن وإيذان بأن ما تضمّنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور، بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوى يعتري المشاعر فيبطلها، وتنبيه على أن حالتهم هذه أقبح من حالتهم السابقة، ولهذا جعل الله هذا المانع في عين حمالة الحطب لئلا يجعل أذاها لحضرة الرسول تنفيذا لوعده له بالحفظ من أذى قومه «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ» بأن قلت لا إله إلا الله ولم تقرنه بذكر آلهتهم التي يزعمونها، وكلمة وحده اسم موضوع موضع المصدر أي إذا أقررت ربك بالذكر «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» ٤٦ من سماع ذكر انفراد الإله الواحد وهربوا هروبا كراهية ذلك وما قيل ان الضمير في (ولّوا) يعود إلى الشياطين لا يصحّ، لعدم سبق ذكر لها بل يعود للمشركين السابق ذكرهم، فجعله يعود إلى غيرهم مخالف لسياق الكلام، وما جاء عن ابن عباس من الخبر في هذا لا يصح ونظير هذه الآية
507
الآية ٤٦ من سورة الزّمر في ج ٢، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ» يا حبيبنا «بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ» من اللغو والاستخفاف والهزؤ بك وبكتابك والتكذيب لك وله «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» وهذا تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع منهم يتعلق به علم الله «وَإِذْ هُمْ نَجْوى» يتسارون بينهم بأن ما يسمعونه منك سحر وكهانة وأساطير الأولين، وانك ساحر وكاهن أو مجنون أو تعلمته من الغير أو اختلفته من نفسك ثم يتجاهرون به فيقول بعضهم لبعض ما ذكره الله يقول «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ» أقيم المضمر مقام المظهر عنا مع وصفهم بالظلم للدلالة على أن تناجيهم هذا باب عظيم
من أبوابه «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ٤٧ يا سادة قريش أي إذا كنتم تريدون الاتباع فرضا ما تتبعون إلا رجلا سحر فجنّ وكانوا يعتقدون أن ذلك بتأثير السحر وهو معروف عندهم، لأن الشرائع السابقة جاءت به، وقد عرفوه من أهل الكتاب ووجوده حق عند اهل السنّة والجماعة، وانهم يريدون بأنه صلّى الله عليه وسلم سحر فصار مطبوبا مخدوعا يأكل ويشرب مثلكم، ويريد أن يتفضل عليكم بما يتلوه من ذلك السحر من غير أن يمتاز عليكم بشيء. روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان حين يريد إبلاغ قومه ما أنزل عليه من كلام ربه يقوم عن يمينه رجلان من بني عبد الدار، وعن يساره رجلان منهم، فيصفّقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لئلا يفهم الناس ما يقول، قاتلهم الله، ومن هنا اقتدي بعض نواب الأمة حينما يسمعون خطيبا من معارضيهم فيما لا يرومونه تراهم يصيحون ويضربون بأيديهم على الرحلات ويصفقون ويصفرون أيضا، فلا حول ولا قوة إلا بالله تشابهت قلوبهم، وفي هذه الآية مما يدل على التهديد والوعيد ما لا يخفى، قال تعالى «انْظُرْ» يا أكمل الرسل «كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» مما وصموك به من السحر وغيره وما شبهوا ما تتلوه عليهم من وحينا بأساطير الأولين وغيرها مع علمهم أنك وكتابك على خلاف ذلك، «فَضَلُّوا» في هذا التمثيل والتشبيه والوصف عن منهاج المحاجة، والطريق الأقوم والحقيقة الناصعة لميلهم إلى الضلال والاعوجاج «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ٤٨ إلى الحق السوي والطريقة المستقيمة بل يتهافتون إلى أضدادها، ويسلكون السبل المهلكة، ويخبطون في أقاويلهم الأباطيل الظاهر كذبها لكل أحد، وفي هذه
508
الآية تسلية لحضرة الرسول عما يصمونه به، ووعيد بسوء العاقبة لزيغهم عن الرشاد «وَ» من عتوهم «قالُوا» لك أيضا يا محمد «أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً» بأن متنا وبلي لحمنا وتفتّت عظامنا فصارت ترابا أو غبارا لأن الرّفات كل شيء مبالغ في ذمّه «أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» كما تقول بعد تفرق أجزائنا «خَلْقاً جَدِيداً» ٤٩ مثل ما نحن عليه الآن، قالوا هذا على طريق الاستبعاد بالاستفهام الإنكاري وأرادوا به استحالة إحيائهم بعد موتهم، وفيه تعجيب بعد تعجبهم بذكر الإله الواحد مما يوقع اللوم على أتباعك لأنك بزعمهم كرجل منهم أخرجك السحر عن الطبيعة فصرت وحاشاك تهذو بأن الإله واحد وأن الموتى يحيون بعد البلاء ويحاسبون على ما فعلوه في دنياهم، لأن هذا بزعمهم لا يكون أبدا ولا يقرّه العقل لأن بين غضاضة الحي وطراوته المفضية للاتصال الموجب للحياة وبين يبوسة الرميم المفضية للتفرق الموجب لعدم الحياة تباينا وتنافيا لا يقبل التأليف، وهذا إنما يصدر منهم لأنهم ينظرون إلى الأمور الظاهرية ولا يتفكرون بقدرة الذي خلقهم من العدم وأوجد هذا الكون كله من لا شيء، راجع الآية ٧ من سورة سبأ في ج ٢، «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المنكرين قدرتنا المستبعدين إعادتهم بعد الموت «كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» ٥٠ وهذا ردّ منه سبحانه عليهم فقابل قولهم: كنا، يكونوا.
على طريق المشاكلة والمقابلة بالجنس، وهذا الأمر أمر استهانة بهم على حد قولة تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الآية ٨٠ من سورة يونس أي إن ما تلقونه ليس بشيء بالنسبة لقدرة الله التي وضعها في عصاه أو أمر تسخير على حد قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الآية ٦٦ من البقرة في ج ٣،
«أَوْ خَلْقاً» آخر وأكبر وأعظم وأشدّ من الحجارة والحديد من كل ما يتخيلونه قويا منيعا بعيدا بمراحل كثيرة عن قبول الحياة وائتوا بكل شيء «مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» ويستحيل عندكم قبوله للحياة وأبعد شيء عنها مما تعدونه عظيما فعله كبيرا قويا جرمه من كل محال لا تقبله عقولكم، فإن الله تعالى يحييكم لا محالة إذ لا يعجزه شيء لتساوي الأجسام في قبول الاعراض عنده، فكيف لا يحييكم إذا كنتم عظاما كانت قبل موضوعة بالحياة والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد كالحديد
509
وغيره، وقد فوّض الله تعالى لهم الشيء الذي يكونون منه مما يستعظمونه كالسماء والأرض والجبال أي مهما تصوروه بأنفسهم على طريق الفرض والتقدير فإن الله تعالى قادر على إعادة أرواحهم في أجسادهم التي ماتوا عليها مهما تفرقت وتفتت وتذرت بالهواء فإنه جامعها وباعثكم بعد الموت لا محالة، «فَسَيَقُولُونَ» لك يا سيد الرسل إذا كنا كما تقول «مَنْ يُعِيدُنا» على حالتنا هذه بعد ذلك مع ما بيننا وبين الإعادة من التفاوت والمباينة «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ» اخترعكم وخلقكم من العدم «أَوَّلَ مَرَّةٍ» على غير مثال سابق ومن أصل تراب ماشم رائحة الحياة فالذي قدر على ذلك قبلا فهو على جمع رميمكم وافاضة الحياة فيه واعادتكم على ما كنتم عليه أقدر: وفي هذه الجملة تحقيق للحق وإزاحة للباطل والاستبعاد وإرشاد إلى طريق الاستدلال لمن كان له عقل يعقل به، قال تعالى واصفا حالتهم عند سماع ذلك الكلام العظيم بأنهم سيبهتون ويتحيّرون الدال عليه «فَسَيُنْغِضُونَ» يحركون ويهزّون «إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ» إعجابا لقبولك هذا واستعظاما لصدوره منك مع ما يعلمون من عقلك وأناتك ونظرك لمصير كلامك، ونغض كنصر تحرك واضطرب وحرّك قال الفراء هو تحريك الرأس بارتفاع وانخفاض مما يتعجب منه ويستهزأ به استكبارا وإنكارا قال الشاعر:
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا
وقال الآخر:
أنغض نحوي رأسه واقنعا كأنه يطلب مني شيئا أطمعا
أي أنهم رفعوا رءوسهم وطأطئوها استهزاء «وَيَقُولُونَ» لك أولئك المتعجبون الساخرون المنكرون «مَتى هُوَ» هذا الوعيد الذي تذكره الذي فيه إعادة الأجسام والحساب والتهديد الذي تخوفنا به بالعقاب على ما نفعله في هذه الدنيا أقريب أم بعيد فإذا فاجؤوك بهذا الكلام يا سيد الأنام «قُلِ» لهم «عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» ٥١ ما تسألون عنه وتستبعدونه وتنكرونه لأنه محقق مجيئه، وإنما لم يعين لهم زمانه لأنه من المغيبات التي اختص بها نفسه جل جلاله، ولم يطلع عليها أحد،
510
وكلمة عسى هنا للترجي والتوقع ومسوقة إلى ما هو محقق الوقوع، وما قيل إنها للمقاربة ينافيه قوله تعالى بعدها (قريبا) لأنها لو كانت للمقاربة لما جيء بها بعدها لعدم الفائدة.
مطلب الخروج من القبور واستقلال المدد الثلاث:
قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» أيها الناس وهذا الظرف منصوب بفعل مضمر تقديره اذكروا يوم يناديكم بالنفخة الأخيرة إسرافيل عليه السلام ببوقه بأمر ربه من قبوركم «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» كما أجبتم حين دعاكم للنفخة الأولى للموت فمتم جميعكم بنفخته أي مات كل من حضرها عدا ما استثنى الله كما سيأتي في الآية ٦٧ من سورة الزمر في ج ٢ بصورة أوضح، فكما أنه لم يتخلف أحد منكم بالنفخة الأولى عن الموت لم يتخلف أحد منكم عن الحياة بالنفخة الثانية، وكما دعاكم من العدم في عالم الذر وأخذ عليكم العهد بالطاعة والانقياد للرسل، كذلك دعاكم للقيام من قبوركم. واعلموا أن قولكم حين اجابتكم لهذه الدعوة الأخيرة سبحانك اللهم وبحمدك جئناك تائبين منيبين لا ينفعكم، لأنه في غير محلّه وإلا لقالها كل كافر مثلكم راجع الآية ١٧ من النساء في ج ٣، «وَتَظُنُّونَ» بعد قيامكم من برزخكم ومجيئكم مهرولين وراء الداعي إلى المحشر «إِنْ لَبِثْتُمْ» ما مكثتم في الدنيا وفي البرزخ القبر وما بين النفختين «إِلَّا» لبثا «قَلِيلًا» ٥٢ زمانا طفيفا يقولون هذا استحقارا لتلك المدد الثلاث، لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر وبين النفختين ألوفا من السنين عدّ ذلك قليلا بنسبة مدة يوم القيامة، فضلا عن مدة الخلود في الآخرة التي لا نهاية لها، والمقصود من هذه الدعوة إحضار الخلائق للحساب والجزاء، لأن دعوة السيد. لعبده إما لاستخدامه أو التفحص عن أمره، والأول منتف في الآخرة إذ لا تكليف فيها فتعين الثاني، قال تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) الآية ٤٠ من سورة ق المارة، قيل إن جبريل عليه السلام يقف على صخرة بيت المقدس فينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنت، فتعود حالا. أخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال:
511
قال صلّى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم. وهذه الدعوة تكون بالأمر التكويني، وهو ما يوحيه إلى المعدوم، فهو نداء على الحقيقة لا على المجاز على ما قيل إنه يمتنع حمل هذا النداء على الحقيقة، لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد، والأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك النداء كناية عن البعث والانبعاث حقيقة لا مجازا، والمجوز لإرادتها ما ذكرنا من أن هذه الدعوة بالأمر التكويني. وقيل إن خطاب الكافرين انقطع عند قوله تعالى قريبا.
والخطاب بقوله تعالى (يوم يدعوكم) للمؤمنين أي فتجيبون أيها المؤمنون حامدين له سبحانه على إحسانه إليكم وتوفيقه إياكم للإيمان بالبعث، وهو وجيه لكن جعل الخطاب للعموم أولى وأنسب للمقام، إذ لا مخصص ولا دال على التقييد، وعلى كل إن شاء الله يجيب المؤمنون المنادي بما ذكر الله. أخرج الترمذي والطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية ٣٤ من سورة فاطر المارة، وفي رواية عن أنس مرفوعا: ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). راجع تفسير هذه الآية، ومما يدل على أن الخطاب للفريقين المؤمنين والكافرين كما جرينا عليه في تفسير هذه الآية ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن جبير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافرين يوم القيامة وإن لم ينفعهم كما نوهنا به آنفا، وهذا التفسير أولى بالنسبة لسياق الآية وسياق الكلام، هذا وإن قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبادِي» خاص بالمؤمنين بدليل الإضافة التشريفية الدالة على التخصيص، بخلاف الآية الأولى لمجيئها بلفظ عام، وعلى القول بأن هذا الخطاب الأخير يشمل الكافرين أيضا فيكون خطابهم بلفظ عبادي لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قول الحق، والأولى أولى لوجود الصارف وهو الإضافة له، وعليه يكون المعنى قل يا أكرم الرسل لأصحابك المؤمنين «يَقُولُوا»
512
عند محاورتهم مع المشركين الكلم والجمل والعبارة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» من البذاء في المخاطبات والفحش في المحاولات، ولا تخاشنوهم بالكلام ليظهر فضلكم عليهم ويمجدكم من يحضر مناظرتكم «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ» يفسد ويهيّج الشرّ بما يوقعه من الوسوسة والخنس «بَيْنَهُمْ» أي الفريقين ويريد أن يقول المؤمنون للكافرين القولة التي هي أشر، مما يؤدي إلى تأكيد العناد وتمادي الفتنة واشتداد العداء «إِنَّ الشَّيْطانَ» الذي دأبه إلقاء الفتن وديدنه إيقاع الفساد وعادته تحريك الشرّ «كانَ» قديما ولم يزل «لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» ٥٣ مظهرا العداوة، نزلت هذه الآية حين شكى المسلمون إيذاء الكافرين فأوحى الله إلى رسوله أن يأمر المؤمنين بعدم مكافأتهم على سفههم، وأن يقولوا لهم ما هو الخير. وقيل نزلت في عمر بن الخطاب حين أمر بالعفو عمن شتمه، وسياق اللفظ يأباه، والآية عامة في جميع المؤمنين بأن يفعلوا الخلّة الحسنة من قول أو عمل بعضهم مع بعض ومع غيرهم، ولا تأخذهم وساوس الشيطان ودسائسه فيما يقع بينهم، ممّا يؤدي إلى الخصومة، وأن يتذكروا عداوته القديمة فيرفضوا نزغاته. ومما يدل على كونها للعموم قوله تعالى «رَبُّكُمْ» أيها الناس «أَعْلَمُ بِكُمْ» وبما يؤول إليه أمركم مما أنتم صائرون إليه بحسب علمه الازلي «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» فيوفقكم للنجاة من الكفار وأذاهم كما وفقكم للإيمان «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» بتسليطهم عليكم، وعلى القول بأن الآية في الكفار يكون المعنى بأن يميتكم على الشرك، واعلم أن هذه الجمل الثلاث كالتفسير لقوله تعالى (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والجملتان قبلها (إن الشيطان. إن الشيطان) كالاعتراض بينهما، فكأنه قيل يا أيها المؤمنون قولوا للمشركين الذين يؤذونكم بالكلام هذه الجمل الثلاث، لان أمرهم معلق على المشيئة، ولا تصارحوهم فتقولوا لهم إنكم من أهل النار مثلا، فإنه مما يهبجهم على الشرّ، لأن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله، ولا يبعد أن يهديهم فيكونوا من أهل الجنة (وأو) هنا للإباحة كقولك جالس العلماء أو الحكماء لإمكان مجالستهما معا فإنها محتملة وجائزة، وقد تكون للتخيير فيما لا يمكن الاجتماع كقولك تزوج هندا أو أختها، ودخلت لسعة الأمرين عند الله تعالى. ثم التفت جل شأنه إلى رسوله فقال
513
«وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» ٥٤ لهم حافظا أحوالهم أو كفيلا بما يلزمهم، ولم نجعلك مسيطرا عليهم مأمورا بقسرهم، فما عليك الآن إلا الاشتغال بالدعوة إلى الحق فقط، فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى القول الثاني لا تشدد القول عليهم، ولا تغلظ لهم، ولا تجبرهم على الإيمان وتقسرهم لاتباعك وامتثال أوامرك، لأنا أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ومر أصحابك
بمجاملتهم، وتحمل أنت وأصحابك أذاهم، واتركوا المشاغبة معهم وأظهروا لهم اللين والرفق علّه يؤثر في قلوبهم، وذلك لأن أحكام الله تدريجية حتى إذا ظهر لنبيه إيمان من آمن وإصرار من أصر على كفره كما في سابق علمه أمره بقتاله، ولهذا فلا محل للقول لأن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن الله تعالى جعل للإرشاد والنصح أناسا وللسيف والقتل آخرين، قال تعالى «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما هم عليه من أحوال ظاهرة وباطنة؟؟؟ كلا لما يستأهله، فيختار للنبوة والولاية من تراه حكمته أهلا لها، وهذا ردّ على القائلين بعد أن يكون يتيم بن أبي طالب نبيا والعراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابا إليه، دون الأكابر من قريش والصناديد منهم فلا نقبل دعوته ولا نؤمن به، وذكر جل ذكره من في السموات، لإبطال قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) الآية ٢١ من الفرقان المارّة، وذكر من في الأرض رد لقولهم لولا أكابر قريش وصناديدهم معه «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ» بالفضائل النفسانية والمزايا المقدسة، وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع، فأعطينا إبراهيم الخلة وشرفنا موسى بالتكليم وداود بالفضل وسليمان بالملك وخصصنا كل نبي بخاصة لم نعطها غيره، فخلقنا عيسى من روحنا واتخذنا محمدا حبيبا «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» ٥٥ فضلناه به لا بالملك والسلطنة وفيه إيذان بأن نبينا خاتم النبيين وأمته خير الأمم إذ أن الزبور تضمن ذلك، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك بقولة (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية ١٠٦ من سورة الأنبياء، يعني محمد وأصحابه وأمته من بعدهم، وهذا من باب التلميح راجع هذه الآية في ج ٢ تجد أن ما جاء في الزبور موافق لما جاء في القرآن، وسنبحث ما يتعلق فيها هناك
514
إن شاء الله، والزبور كله حكم وأدعية وأمثال لا حكم فيه، وكان عليه السلام يرجع في أحكامه إلى التوراة، وهو كما قيل مائة وخمسون سورة، وسيدنا داود عليه السلام أول نبي جمع بين الملك والنبوة في بني إسرائيل كما تقدم في الآية ١٥ من سورة النمل المارة، ففضله الله تعالى بالتوراة والزبور والملك وما منحه في الآيات ١٠ فما بعدها من سورة سبأ في ج ٢، ولم تجمع لمن قبله ولم تكن لنبيّ بعده، وفي هذه الآية تكذيب لليهود والقائلين لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ونظير هذه الآية الآية ١٥٣ من سورة البقرة في ج ٣، هذا وكما هو ثابت ارتفاع بعض النبيين على بعض وعلو درجاتهم ومن تبعهم فمن يليهم ثابت أيضا اتضاع دركات الكافرين فمن دونهم من العصاة لانهما مظاهر صفتي اللطف والقهر هذا ولما أصاب أهل مكة القحط وأكلوا الجيف والكلاب جاءوا فاستغاثوا بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه «قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة «ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم آلهة «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد ليكشفوا ما حل بكم من الجدب وأتى لهم ذلك «فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ» لانهم عاجزون مثلكم عن كشف ضر أنفسهم فكيف يستطيعون إزالة ضركم كلا «وَلا» يستطيعون «تَحْوِيلًا» ٥٦ لحالكم من العسر إلى اليسر، ومن الشر إلى الخير، ومن المرض إلى الصحة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العذاب إلى النعيم، وهذه الآية المدنية قال تعالى «أُولئِكَ» إشارة إلى ما يسمونه آلهة ويرجونه لكشف ضرهم ويستعينون بهم لزيادة خيرهم «الَّذِينَ يَدْعُونَ» صيغة لإسم الإشارة الواقع مبتدأ من حيث الإعراب وخبره «يَبْتَغُونَ» بتلك الآلهة التي يعبدونها الكفرة «إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» يسألون ربهم ومالك أمرهم القربة بالطاعة والعبادة وهذا دليل قاطع على أن الذين يعبدون غير الله يعرفون بأن ما يعبدونهم محتاجون إلى الله وأن قدرتهم المزعومة مفاضة منه تعالى لانهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله وأن الله تعالى أقوى وأكمل منها مما يدل على بطلانها قال تعالى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) الآية ٣ من سورة الزمر وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية ٨٧ من الزخرف في ج ٢، ومثلها كثير في القرآن وهذا كاف على افحامهم وعجز
515
آلهتهم وعلى اعترافهم بأنها مخلوقة لله. واعلم أنه إذا صرف معنى الآية لكفار قريش فيراد
بالذين يزعمون من دونه الملائكة والأوثان فقط وإذا صرف معناها للعموم يدخل فيها عزير وعيسى والكواكب والنار والحيوان من كل ما عبد من دون الله ولهذا قالوا إن ضمير يدعو وضمير يبتغون عائدان للمشار إليهم وهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله كعيسى وعزير والملائكة ويدخل ضمنهم الشمس والقمر والنجوم والنار والحيوان والتماثيل وغيرها من كل ما يطلق عليه اسم الوثن وما اتخذوه تقربا للعبادة بأن كل أولئك ليست بأهل للعبادة مباشرة وتبعا وأن زعمهم ذلك فيها باطل وفي الآية تغليب العاقل على غيره لأن الجمع في يدعون ويبتغون من خصائص العقلاء لا الجمادات «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» أيهم هنا بدل من ويبتغون وهي موصولة بمعنى من أي أولئك المعبودون يطلبون من هو لحصرة ربه أقرب من غيره الوسيلة إلى الله فيتوسون به لقضاء مصالحهم أو أيّهم الذكر هو أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بطاعته، فكيف بالأبعد فهو بحاجة إلى ذلك من باب أولى. وأيّ مبتدأ مبني على الضم في محل رفع مضاف للضمير، والميم علامة الجمع، وأقرب خبر، والعائد محذوف تقديره هو، وبعضهم جعلها معربة وفيها معنى الاستفهام أي أيهم هو أقرب بالتقوى والصلاح والرضى وازدياد الخير. وأعلم أن يدعون تأتي بمعنى يعبدون كما مر في الآية ٤٩ من سورة مريم المارّة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٣٥ من المائدة وفي الآية ١٣ من سورة التوبة في ج ٣، وهناك بحث يتعلق بالسّادة الصوفية بشأن الرابطة التي يتخذونها في بدء أورادهم «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» تعالى وخيره وإحسانه وهذا عطف على يبتغون والرجاء بمعنى التوقع «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» كغيرهم من العباد بل أعظم وجلا منهم، لأن العبد كلما رسخ قدمه في العبادة وتقرب إلى المعبود ازداد خوفه بسبب ازدياد معرفته به، وقدم الرجاء على الخوف، لأن متعلقه أسبق من متعلقه.
مطلب الخوف والرّجاء وأنواع العبادة:
جاء في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي. لهذا فإن العلماء قالوا ينبغي للمؤمن أن يغلّب الخوف على الرجاء ما لم يحضره الموت، فإذا حضره غلّب الرّجاء على
516
الخوف، وفي الآية دليل على أن رجاء الرّحمة وخوف العذاب مما لا يخلّ بكمال العابد، وقد شاع عن بعض العابدين أنه قال لست أعبد الله تعالى رجاء جنّته ولا خوفا من ناره. والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل، وهو أن من قال هذا إظهارا للاستغناء عن فضل الله ورحمته فهو مخطئ كافر، ومن قاله اعتقادا بأن الله تعالى أهل للعبادة لذاته بحيث لو لم يكن هناك جنّة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كامل. والعبادات ثلاث عبادة للرياء والسمعة فهي مخادعة داخل أهلها في قوله تعالى (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ٩ من سورة البقرة ج ٣، وعبادة للخوف والرجاء فهي مسقطة للفرض وبالدرجة الثانية الوسطى، فإذا لم يقصد منها الاستغناء فهي داخلة في معنى الآية المفسرة وإلا فهي الوسطى في نار جهنم، وعبادة خلاصة لله تعالى بقصد الاستحقاق لذاته وصرف النظر عن الخوف والرجاء فهي العبادة الحقيقية الموصلة إلى الله عز وجل الموصوف أهلها بقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية ١٩٠ من آل عمران في ج ٣، وفي اتحاد أسلوب الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين الوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وحذرهم منه «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» ٥٧ يخافه كل أحد من ملك ومملوك ومن ملك وولي مقرب أو نبي مرسل، فضلا عن بقية الخلائق، وجدير بأن يحذره ويحترز منه كل أحد، وهذه الجملة تعليل لقوله تعالى ويخافون إلخ، وفي تخصيصها بالتعليل زيادة تحذير الكفرة من العذاب.
انتهت الآية المدنية. قال تعالى «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ» من القرى والتنوين هنا يفيد التعميم، لأن إذ نافية بمعنى ما، ومن صلة مؤكدة لاستغراق النفي، فتفيد العموم أيضا «إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها» بإبادة أهلها وتخريبها بعدهم أو هدمها عليهم أو قلبها بهم أو بسبب آخر، ويكون هذا «قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ» عند النفخة الأولى قال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الآيات من سورة الحاقة في ج ٢ لأن القيامة لا تقوم إلا بعد إتلاف هذا الكون بما فيه «أَوْ مُعَذِّبُوها» أي أهلها بالقتل وأنواع البلاء «عَذاباً شَدِيداً» لا تقواه قوى أهلها ولا يقدرون على رفعه عنهم
517
«كانَ ذلِكَ» الإهلاك والتعذيب «فِي الْكِتابِ» الأزلي المدون فيه ما كان وما يكون من بدء الخليقة إلى يوم القيامة وما بعدها من أقوال أهل الجنة والنار وخلودهما «مَسْطُوراً» ٥٨ في اللوح المحفوظ مثبتا، وهو واقع لا محيد عنه لأحد إذ لا شيء في الكون إلا وهو مدون فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له ومكانه الواقع فيه، قال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٩ من الأنعام في ج ٢. أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له أكتب فقال ما أكتب؟ قال أكتب القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد. وقال عبد الله بن مسعود إذا ظهر الزنى والرّبى في قرية أذن الله تعالى في إهلاكها. قال مقاتل الهلاك للفرقة الصالحة والعذاب للطالحة. قال تعالى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ» التي اقترحها عليك قومك «إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» من قبلهم من الأمم السالفة التي اقترحت على أنبيائها مثل ما اقترحوه عليك قال ابن عباس سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا مكانها فأوحى الله إليه إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم، فقال صلّى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم، فأنزل الله هذه الآية «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ» التي اقترحوها على نبيهم صالح عليه السلام بأن يخرجها لهم من حجر معين راجع قصتها في الآية ٧٩ من سورة الأعراف المارة وهي آية عظيمة كانت أعينهم «مُبْصِرَةً» لها ظاهرة بينة «فَظَلَمُوا» أنفسهم «بِهَا» بقتلها وجحودها، وإنما خص ثمود بالذكر لأنهم عرب مثل قوم محمد صلّى الله عليه وسلم، ولأن الصادر من قريش والوارد منهم يرى آثار ديارهم خاوية خالية لقربها منها، وإنهم لم يؤمنوا بعد إظهارها على يد رسولهم فأهلكهم، إذ جرت عادة الله واقتضت حكمته أن كل قوم اقترحوا على رسولهم معجزة فأوتوها ولم يؤمنوا أهلكهم عن آخرهم، وفي هذه الآية الإيجاز بالحذف والإضمار، لأن المعنى وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، وقيل إن مبصرة وصف للناقة، وإنما وصفها بالإبصار لأنها خلقت من الصخرة معجزة لنبيهم دفعا لما
518
يتوهم بأنها من المصورات، لأن فن التصوير لم يبلغ أن يكون للمصور أعينا يبصر بها كسائر الحيوانات، لأن البشر عاجز عن ذلك، أما اللون والشكل والحركة حتى النطق المحدود الذي يولجوه بها فقط فإنهم توصلوا لعمل ذلك بواسطة الآلات المحدثة، ولكن الإبصار لم يتوصلوا إليه ولن يتوصلوا لمعرفة مادته إلى الآن، ولم يقفوا على تراكيبها، فبقيت القوة الباصرة بالأعين مخزونة بأمر الله لم يطلع عليها أحد البتة، وما ندري ما يقع بعد:
وما تدري إذا ما الليل ولىّ... بأي عجيبة يلد النهار
قال تعالى «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ» المقترحة ونظهرها للأمم «إِلَّا تَخْوِيفاً» ٥٩ من نزول العذاب عليهم، ولذلك لم نجب اقتراح قومك بإرسال الآيات التي اقترحوها لأنا نعلم أن مصير المقترحين الهلاك وهو خلاف ما تريده أنت. أخرج بن جوير عن قتادة قال إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون أو يذكرون فيرجعون عن غيهم.
مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة:
وليعلم أن آيات الله تعالى على ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وهنا فكرة العلماء وقسم معتاد كالبرق والرعد والخسوف والزلازل وفيها فكرة الجهلاء، وقسم خارق للعادة وهو نوعان نوع مقرون بالتحدّي وقد انقضى بانقضاء النبوة، وقسم غير مقرون به وهو الكرامة التي يظهرها الله تعالى على يد من شاء من عباده العارفين العاملين، وهناك فكرة الأولياء، والمعنى أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا بتأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، قال تعالى «إِذْ قُلْنا لَكَ» يا أكرم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» فلا يستطيع أحد الخروج عن مشيئته ولا يفعل شيئا دون إرادته وإن كل ما يقع في هذا الكون بقضائه وقدره، وإذ هنا منصوبة بفعل مقدّر أي اذكر يا محمد لقومك ما أوحيناه إليك من ذلك وأعلمناك أن الخلق كلهم في قبضتنا وإرادتهم من إرادتنا، فلا تبال بما تراه من كفرهم، وامض لأمرك وبلّغ ما أرسلت به ولا تخشهم، فالله حافظك ومانعك
519
منهم ومقويك وناصرك عليهم «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ» ليلة الإسراء والمعراج من عجائب الآيات وبدائع المعجزات «إِلَّا فِتْنَةً» اختبارا وامتحانا «لِلنَّاسِ» إذ ارتد بعض المؤمنين عند سماعها، وأجمع كفرة قريش على جحودها فكذبها أناس وتعجب آخرون، وصدق بها المؤمن الموقن وازداد المخلص إيمانا والكافر كفرا، فكانت فتنة للفريقين، واختلف المسلمون في المعراج أيضا على أقوال بسطناها آنفا في الآية الأولى من هذه السورة، وفي المعجزة الثالثة والثلاثين المارة وما بعدها، فراجعها إن شئت. أخرج الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن الرؤيا هي ما عاينه حضرة الرسول ليلة أسري به من العجائب الأرضية والسماوية رؤية عين، وهي على اللغة الفصحى، إذ تقول العرب رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وهذا هو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريح وغيرهم، وإنما عبر بالرؤيا دون الرؤية لمشاكلة تسميتهم لها رؤيا، أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة، فقد روي أن بعضهم قال له صلّى الله عليه وسلم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك يا رسول الله، أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب، ولوقوعها ليلا، أو لسرعتها، أي وما جعلنا الرؤيا التي أرينا كها عيانا مع كونها آية عظيمة وأيّة آية، وقد ذكرتها لقومك وأقمت البرهان على صحتها بما اختبرك به قومك عن عيرهم، كما ذكر في المعجزة الثامنة والستين فما بعدها المارة إلا فتنة افتتن بها الناس من تكذيب وتصديق وتهويل وإعجاب «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها شجرة الزقوم. وروي عنه أيضا أن المراد بها لعن طاعميها من الكفرة، ووصفها باللعن من المجاز في الإسناد، وفيه من المبالغة ما فيه. وقد يراد لعنها نفسها بالمعنى اللغوي وهو البعد، لأنها في أبعد مكان من جهنم، قال تعالى (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) بعد أن قال (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) الآيتين ٦٣ و ٦٤ من سورة الصافات في ج ٢، أي في أبعد مكان من رحمة الله تعالى، وقد لعنت إذ لعن آكلوها، وإلا فلا ذنب لها حتى تلعن، ولكن المصاحبة لها دخل:
ما ضرّ بالشمع إلا صحبة الفتل. ولهذا قيل الصاحب ساحب:
520
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وأخرج بن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برءوس الشياطين كما جاء في الآيتين ٦٤ و ٦٥ من الصافات أيضا، والشياطين ملعونون، والعرب تقول لكل طعام مكروه ملعون، والآية معطوفة على قوله تعالى الرؤيا، أي وما جعلنا هذه الشجرة إلا فتنة للناس أيضا، وإنما كانت فتنة لأن أبا جهل وغيره من متعنتي قريش قالوا إن محمدا يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يقول ينبت فيها الشجر على طريق السّخرية والاستهزاء، ويقول ابن أبي كبشة هي الزقوم، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ثم أمر جاريته فقال هيّا، فأحضرت له تمرا وزبدا، وقال لأصحابه تزقموا، وكذلك قال ابن الزبعرى الآتي ذكره في الآية ٩٧ من الأنبياء في ج ٢، وافتتن بهذه المقالة بعض الضعفاء وضلوا في ذلك ضلالا بعيدا، إذ كابروا في قضية أبتها عقولهم القاصرة، وما قدروا الله حق قدره، ألا يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها، والسندل يفرخ في النار ويعمل من وبره مناديل إذا توسخت ألقيت في النار فيذهب وسخها ولا تحترق، والدود يعيش في الثلج، والنار من الشجر الأخضر كما قدمنا توضيحه في الآية ٨٠ من سورة يس المارة، فالقادر على تلك الأشياء ألا يقدر على خلق شجرة في النار لا تحترق، وما هي إلا كالسمك في الماء والطير في الهواء راجع الآية ١٩ من سورة الملك في ج ٢، بلى وهو على كل شيء قدير. وجاء عن ابن عباس أنها الكثوث المذكورة في قوله تعالى (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) الآية ٢٤ من سورة ابراهيم في ج ٢ المشبّه بها كلمة الكفر، وقد لعنها في القرآن وخصّها بالخبث، وإن الامتنان بها على هذا هو أنهم قالوا عند سماع الآية ما بال الحشائش تذكر في القرآن، كما اعترضوا على ذكر البعوضة فيه، راجع الآية ٢٥ من سورة البقرة في ج ٣، والمعول في هذا على القول الأول بالنسبة للمروي عنه «وَنُخَوِّفُهُمْ» بتلك الآيات ونظائرها وجاء هذا الفعل بلفظ الاستقبال دلالة على الاستمرار التجددي وقرىء بالياء «فَما يَزِيدُهُمْ» تخويفنا هذا بالإهلاك في الدنيا والتعذيب بالنار في الآخرة «إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» ٦٠ عظيما بسائق تمردهم وعنادهم، فإنهم كلما جاءتهم
521
آية تجاوزوا الحد بالإنكار والتكذيب، ولذلك فإنا لو أرسلنا إليهم ما اقترحوه على يد رسولهم لفعلوا به ما فعله من قبلهم أمثاله بأمثاله ولفعلنا بهم أيضا ما فعلناه بأمثالهم من عذاب الاستئصال، ولكن سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العظمى إلى الطامّة الكبرى واعلم أن هذا الكلام مسوق لتسلية حضرة الرسول عما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخافتها للحكمة من نوع حزن وكآبة من طعن الكفرة، إذ كانوا يجابهونه بقولهم لو كنت نبيا أو رسولا حقا لأتيت بما نطلبه منك من المعجزات كالأنبياء قبلك، إذ جاءوا أقوامهم بما طلبوه منهم، ولكنك لست برسول، ولهذا لم تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وهذا أصح ما جاء في تفسير هذه الآية وسبب نزولها، وما قيل أن المراد بالإحاطة هنا الإهلاك على حد قوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الآية ٤٢ من سورة الكهف في ج ٢، وأنه هو الواقع يوم بدر، وأن التعبير بالماضي جاء على حد قوله تعالى (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية ٤٣ من سورة القمر المارة، وقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) الآية ١٣ من آل عمران ج ٣ وغيرهما من الآيات لتحقق الوقوع، وأن المراد بالرؤيا هو ما رواه صلّى الله عليه وسلم في المنام من مواقع مصارع القتلى من قريش، لما صح أنه صلّى الله عليه وسلم لمّا ورد ماء بدر كان يقول والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا هاهنا ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وإن قريشا سمعت بما أوحى الله إلى نبيهم بشأن بدر وما أري في منامه، فكانوا يضحكون ويسخرون، وهذا هو معنى الفتنة المرادة في هذه الآية، راجع الآية ٧٨ من الأنفال في ج ٣، وسمعت أيضا بما رواه مناما أنه سيدخل مكة وأنه أخبر أصحابه فتوجه إليها، وصده المشركون عام الحديبية حتى قال عمر:
يا أبا بكر أما أخبرنا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف فيه؟ فقال إنه لم يقل في هذه السنة، وقد صدق الله ودخلوها في القابلة، فكل هذا لا يكاد يصح شيء مه، لأن هذه كلها وقعت ورسول الله في المدينة، وهذه الآية مكيّة إجماعا وهو مخالف لظاهر الآية المفسرة لذلك فلا يعول عليه، وأن الاعتذار عن كون هذا مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بالإهلاك وبالرؤيا واقعا في مكة، وذكر الرؤيا
522
وتعين مصارع القوم واقعين في المدينة، لا وجه له أيضا إذ يلزم منه أن يكون الافتتان واقعا بالمدينة أيضا، وأن ازديادهم طغيانا متوقع عند نزول الآية لا واقع وهو خلاف الواقع وبعيد عن المعنى، ومباين لسياق الآية، ومناف لسياق التنزيل، وكذلك ما أخرجه ابن جرير عن سهيل بن سعد قال رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل الله هذه الآية المفسرة، وما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عباس عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحي الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه، وذلك قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) إلخ وما أخرجه ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك، فأنزل الله هذه الآية المفسرة وما أخرج عن ابن عمران أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أريت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، وأنزل الله تعالى ذلك أي الآية المفسرة والشجرة الملعونة (الحكم وولده) وقال بعض المفسرين هي بنو أمية، وما أخرج بن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن، وعليه يكون الكلام على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا مجازا عن تعبيرها، ويكون معنى الإحاطة في هذه الآية إحاطة أقداره تعالى بهم، ومعنى الفتنة جعل ذلك بلاء لهم، ولعنهم بما صدر منهم ومن خلفائهم من استباحة الدماء المعصومة والفروع المحصنة ومنع الحقوق وأخذ الأموال بغير حق وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام لأنهم فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وإن لعنهم هذا إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما تقول أهل السنة والجماعة، فقد قال سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية ١٣ من سورة الأحزاب في ج ٣، وقال عز وجل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
523
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)
الآيات ٢٢ فما بعدها من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أولياء إلا أنه لا يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يلعن واحد بخصوصه إذ صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بعينه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس بكافر، وأما ما جاء بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح. الذي احتج به السراج البلقيني على جواز لعن العاصي بعينه فقد قال ابنه الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقولوا لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها، على أنه استدل على ما يقوله بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ بحمار وسم بوجهه، فقال لعن الله تعالى من فعل هذا، لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معيّن على أنه لا مانع من تأويله أيضا بأن يراد فاعل الجنس ذلك الوسم، والمغضبة لزوجها على العموم، راجع ما بيناه في الآية ٤٢ من سورة القصص المارة، وعليه فلا دلالة صريحة لا تقبل التأويل في هذين الحديثين لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أو التأويل أفقده قوة
الاحتجاج في الاستدلال، وهذه قاعدة أصولية لا طعن فيها. نعم صح أنه صلّى الله عليه وسلم قال اللهم العن رعلا. وذكوان وعصيه عصوا الله ورسوله، وهذا فيه لعن أقوام بأعينهم، إلا أنه يجوز أنه صلّى الله عليه وسلم علم بإلهام الله إياه، موتهم على الكفر فلعنهم، وهذا جائز كما تقدم، وإذا كان كذلك فلا حجة فيه للسبب المذكور أيضا، ولأنه بأقوام لا لشخص بعينه، ولا يخفى أن تفسير الآية لا ينطبق على ما ذكر ولا يلاثم المعنى المسوقة له الآية، ولم يكن شيء من ذلك كله زمن نزولها، وان بين نزولها وبين هذه الحوادث سنين كثيرة أما الأحاديث الواردة المذكورة آنفا في بني أمية وبني الحكم فيحتمل أنها صحيحة لكن لا علاقة لها في الآية المفسرة المتعلقة بالإسراء خاصة، وتلك بحوادث أخرى ولا مانع من أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ما قاله فيهم رؤيا منامية أو بطريق الكشف، لكن غير هذه الرؤيا المقصودة هنا في هذه السورة، وكذلك لا يتجه قول من قال إن الشجرة الملعونة أبو جهل والفتنة وجوده بلاء على المسلمين، لأنه أيضا خلاف الظاهر
524
ولا يوجد ما يدلّ عليه، وكذلك قول من قال إن الشجرة مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على حضرة الرسول، فلما بعث كذبوه وجاء لعنهم في القرآن صريحا ظاهرا، وإن فتنتهم هي أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه السلام فلما بعث كفروا به قائلين إنه غير النبي المنتظر، فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم هذه عن الإيمان به السبب نفسه، ووجود لعنهم في القرآن وكونهم فتنة على الإسلام أمر واقع لا شك فيه ولا ريب، ولكن هذه الآيات لا تمسهم، ولا يخفى أن اليهود بالمدينة والآية نزلت بمكة قبل أن يكون لحضرة الرسول مساس بهم، هذا وقد نقلنا لك أيها القارئ كل ما نقله المفسرون بهذا الشأن ورددنا عليه لنكفيك مؤنة المطالعة وتقنع بما أثبتناه لك، والله من وراء القصد وله المنة والحمد.
قال تعالى «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» هذا تحقيق لقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية المارة وهو ظاهر في الملائكة الذين ادعى بعض العرب عبادتهم وتضمن لغيرهم وإشارة إلى عاقبة الذين عاندوا الحق جل وعلا واقترحوا الآيات وكذبوا الرسل، لأنهم داخلون في الذرية التي احتنكهم إبليس لعنه الله واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة، ألم تر إلى قولهم فيما حكى الله عنهم (قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية ٣٣ من الأنفال في ج ٣ ولم يقولوا أللهم اهدنا إليه لسابق شقائهم، ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قريشا كذبوا حضرة الرسول حسدا وتعاظما على ما خصّه الله به دونهم، وما منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام شيء من الأشياء إلا الحسد والتكابر عليه، والمعنى أذكر يا محمد لقومك إنما أمرنا الملائكة وقلنا لهم «اسْجُدُوا لِآدَمَ» تكريما وتحية له واحتراما، فسجدوا كلهم امتثالا لأمري دون تلعثم أو سؤال عن السبب بحق الانقياد والطاعة «إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد «قالَ» بعد أن وبخ على امتناعه «أَأَسْجُدُ» استفهام إنكاري وتعجب «لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ٦١ وقد خلقتني من النار وهي أفضل من الطين، فاستحق اللعن والطرد راجع قصته مفصلة في الآية ١٢ من الأعراف المارة، ثم قال «أَرَأَيْتَكَ» أيها الإله أخبرني من «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» وأمرتني بالسجود له أي شيء هو حتى أسجد له
525
فهو دوني وما هو بالشيء المستحق للسجود بالنسبة إلي لأنه شيء لا يتمالك وعزتك وجلالك وعلوك في مكانك الذي لا يتكيف «لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» ولم تمتني وجواب القسم قوله «لَأَحْتَنِكَنَّ» أستولين وأستأصلن «ذُرِّيَّتَهُ» مهما كانوا استئصال واستيلاء قويبن محكمين، لا أفلت وأترك «إِلَّا قَلِيلًا» ٦٢ منهم المخلصين والصادقين، ومعنى حنك واحتنك جعل الحبل في حنك الدابة الأسفل وقادها به كيفما شاء إلى ما أراد، وهو كناية عن إهلاكهم بإغوائه وطرقه الخبيثة، يقال احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها، واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعليه قوله:
فشكوا إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وأجلفت
وقد علم ذلك الملعون من قوة الوهم وتركيب الشهوة في بني آدم وهما سبب الميل عن الحق والركون إلى الباطل وقد برّ في قسمه الخبيث في بعض بني آدم قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية ٢٠ من سورة سبأ في ج ٢. هذا ومن قال إن وسوسته خلصت إلى آدم نفسه فقاس الفرع على الأصل لا يصح لأن هذا القول وقع منه قبل الوسوسة لآدم التي كان بسببها ما كان، ومن زعم أن هناك وسوستين فعليه البيان ولن يأتي به البتة «قالَ» استهجانا له وتبكيتا به وإهانة له «اذْهَبْ» لشأنك وامض لما تريد إذ ليس المراد من الذهاب هنا ضد المجيء بل تخليته وما سولت له نفسه الخبيثة احتقارا له كما تقول لمن خالفك في النصح افعل ما تشاء يدل على هذا قوله جل قوله «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» وانقاد لخداعك من ذرية آدم وضل عن الحق ومات على ذلك «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» أنت ومن أضللت بتغليب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية جَزاءً مَوْفُوراً» ٦٣ وافيا كاملا بغاية الشدة إذ تعقبه بالوعيد ولو كان المراد منه ضد المجيء لما عقب به ووفر كوعد بمعنى كمل والموفور الكامل وعليه قول أشعر الشعراء:
526
قال تعالى مهددا له «وَاسْتَفْزِزْ» استخفف واستزلل وحرك واستنفر «مَنِ اسْتَطَعْتَ» أن تستفزّه «مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ» دعائك إلى معصية ربك بما شئت من طرق الوسوسة كغناء ومزمار أو عود وربابة أو دفّ وبوق وغيرها من آلات اللهو واللعب بالباطل لتستميلهم إلى الكفر والمعاصي «وَأَجْلِبْ» صح «عَلَيْهِمْ» مأخوذ من الجلبة وهي الصياح والجمع يقال أجلب على العدو جمع عليه وأعان غيره عليه وتوعده بالشرّ اي استعمل بإضلالهم كل ما شئت «بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ» وسائر جنودك ركبانا ومشاة «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ» مما يصيبونه من حرام وينفقونه فيه «وَالْأَوْلادِ» ممن يأت منهم من الزنى الناشئ عن إغوائك وإضلالك وما تحبذه لهم من الأسماء المنهي عنها كعبد الحارث وعبد العزّى وعبد شمس، وتزيّن لهم قتل البنات خشية العار والفاقة وقتل غير القاتل وأخذ مال قريب الغاصب وما أشبه ذلك من أعمال الجاهلية التي وقعت بعد، إذ لا توجد إذاك جاهلية ولا غيرها.
قال مجاهد إن الرجل إذا لم يسمّ عند الجماع فالجانّ ينطوي على إحليله فيجامع معه، وذلك هي المشاركة، والأول أولى وأنسب بالمقام، وأحسن في التأويل وأوقع في المعنى «وَعِدْهُمْ» المواعيد الواهية والآمال الكاذبة من شفاعة الآلهة التي تسوّل لهم عبادتها وما تخيل لهم من أن الكرامة بالأنساب لا بتقوى الله وأن العاجل خير من الآجل، وأن لا جنة ولا نار، ولا نشر ولا حشر ولا حساب ولا عقاب، على حد قول أبي نواس:
خلياني والمعاص... واتركا ذكر القصاص
واسقياني الخمر صرفا... في أباريق الرصاص
إن صح عنه، وهذا لا يقوله إبليس لهم، لأنه ينفي عنهم وجود الجزاء لنفيه وجود الآخرة، وقد ختم أبو نواس البيتين بقوله:
وعلى الله وإن... أسرفت في الذنب خلاصي
بما يدل على حسن عقيدته المؤيد بقوله:
إذا كنت بالنيران أوعدت من عصى... فوعدك بالغفران ليس له خلف
إذا كنت ذا بطش شديد ونقمة... فمن جودك الإحسان والمنّ واللطف
527
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ركبنا خطايانا وسترك سبل؟؟؟ وهل لشيء أنت ساتره كشف
إذا نحن لم نهفوا وتعفو تكرما فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو
قال العلامة محمد بن عبد الله الجرداني من كتب هذه الأبيات على كفنه ودفن فيه أمن من حساب القبر وفتّانيه وما ذلك على الله بعزيز وهو موف بوعده «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ» من أباطيله ويسول لهم من أضاليله «إِلَّا غُرُوراً» ٦٤ بهم ليستوجبوا عقاب الله، هذا اعتراض لبيان مواعيده، والغرور تزيين الخطأ وإلباسه بالصواب، وعليه يكون المعنى إن الشيطان يزين لهم الباطل بصورة الحق إيهاما، فيظن المغرور به أنه صواب، يقال غر فلان فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصله من الغرو وهو الأثر الظاهر من الشيء، لأن الشيطان يدعو إلى أحد ثلاثة أمور إما قضاء شهوة خسيسة، وإمضاء غضب مفرط، أو غلو في طلب رياسة، ولا يدعو البتة إلى معرفة الله وخدمته، وهذه الأمور الثلاثة ليست في الحقيقة لذائذ بل دفع آلام، فمقترفوها والحيوانات سواء، وهي لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة قد يتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، قال تعالى «إِنَّ عِبادِي» المختصين بي المخلصين لي أضافهم لذاته الكريمة تعظيما لشأنهم «لَيْسَ لَكَ» يا إبليس «عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» أو قوة تمكنك من إغوائهم فلا تقدر بوجه من الوجوه أن تتسلط عليهم لأنهم خاصتي وأوليائي، ومن كنت وليه لا يتمكن أحد من الاستيلاء عليه، لأني وكيله «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» ٦٥ لمن يتوكل عليه ويستمد المعونة منه في الخلاص من كل ما ينوبه من شيطان أو إنسان أو حيوان أو حماد، أما الذين يستنكفون عن عبادتي أمثالك وينسون نعمي عليهم فشأنك وإياهم، وموعدكم جميعا النار التي هي بئس القرار. وهذا الخطاب بلفظ ربّك هناك إلى كرامة المخاطبين وإلى مطلق إنسان، لأن القلب لا يميل إلى كونه خطابا لإبليس وإن كان الخطاب السابق له.
هذا وليعلم السائل عن حكمة إنظار إبليس وتمكينه من الوسوسة من قبل الله تعالى وعدم منعه منها وعدم إنظاره مع قدرته على ذلك، هو أن الله تعالى فعل هذا تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقّوا مزيد الثواب، على أن وجود إبليس ليس
528
مانعا مما يريده الله جل مجده، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، والله خلق الخلق طبق علمه، وعلم بهم طبق ما هو عليه في أنفسهم، وانه كان عليه اللعنة جازما بأن الذي تكلم معه بذلك الكلام وهدّده بذلك التهديد هو إله العالم جل وعلا، إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته الخبيثة، فلم يبصر وعيد الله مانعا له، ولذا حين يأت يوم هلاكه، ولم يبق له شيء من أجله، يقال له اسجد اليوم لآدم لتنجو، لا يسجد أيضا، ويقول لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا! كما ورد الأثر بذلك، فيظهر عناده وعتوه وجرأته على مولاه، فيهلك كافرا كما كان كافرا، وليس حاله بأعجب من حال الكفار، إذ يتمنون العود إلى الدنيا ليؤمنوا بالله، وقد أخبر الله عنهم بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ١٩ من سورة الأنعام في ج ٢، فلا محل للقول بأن إبليس عليه اللعنة لم يكن عالما بأن الذي تكلم معه وهدده هو إله العالم، لأن السياق يأبي ذلك والخطاب شاهد عليه.
مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله:
وما قيل إن له أملا بالنّجاة قيل مسنده ما حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال:
كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الآية ١٥٦ من الأعراف المارة، وأنا شيء من الأشياء، فقال التستري، ويلك إن الله تعالى قيدها بقوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلخ تلك الآية، ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) إلخ الآية ١٥٧ منها أيضا، فقال له إبليس ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، فأسكت التستري لأمر لا نعلمه، ولم يقل له إنها عامة تقبل التخصيص كتسليطك على آدم وهو قادر على منعك منه، وكان ذلك قبل تشريفه بالنبوة إذ ما عموم إلا وخصص والمخصص بالاستثناء منها أنت يا ملعون، إذ نص الله تعالى على جزائك بآيات متعددة بلفظ اللعن الخاص بك والطرد من رحمته، والمبعد عنها لا تشمله هذه الرحمة. ومن هنا يضرب المثل لكل مؤمل أملا لا يدركه بالقول السائر (أمل إبليس بالجنة) ولهذا ولكونه مدونا في أزل الله بأنه يقع منه
529
ذلك وأن الله يلقنه طلب الإمهال ويمهله، وما كان في علم الله الأزلي لا يبدل ولا يغير، فقد أجاب طلبه وأمهله وأبقاه فتنة لبعض خلقه حتى يستكمل ما قدره الله له من غضب وعذاب، فيهلك كسائر الخلق. قال تعالى «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي» يسير ويسوق ويجزي «لَكُمُ الْفُلْكَ» السفينة والقارب يطلق على الواحد والجمع، إذ لا واحد له من لفظه مثل عالم ونساء ونسوة ورهط «فِي الْبَحْرِ» فيجعلها سائرة على ظهره بالريح الليّنة، والآن به وبالآلات المح؟؟؟ ثة، لأنها داخلة في قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الآية ٨ من النحل في ج ٢ وذلك «لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الريح في تجاراتكم والزيارة للبلاد التي يشق عليكم الوصول إليها بالبر تتميما لمنافعكم، وهذا تذكير ببعض نعم الله على عباده التي هي من دلائل توحيده، وتفسير الفضل بالحجج والنقد، وعلى رأي بعض المفسرين لا يناسب المقام لأن الفضل عام لكل ما فيه نفع، فدخولهما في عمومه أولى من التقييد بها لأنه جاء مطلقا، فإبقاؤه على إطلاقه أولى «إِنَّهُ» جل شأنه في الأزل «كانَ» ولا يزال «بِكُمْ» أيها الناس «رَحِيماً» ٦٦ إلى انقضاء آجالكم في الدنيا وفي الآخرة إلى إدخالكم الجنة، وإذ ذاك تبقون خالدين فيها تحت ظلّه، وحمدوا هذا الإله الذي هيأ لكم ما تحتاجونه، وسهل لكم ما يعسر عليكم، (وربكم) في هذه الآية صفة، لقوله تعالى قبلا (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية ٥١ المارة أو بدل منه وهو جائز وإن تباعد ما بينها، قال تعالى «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ» فأصابتكم شدة بعصف الرياح وتقاذف الأمواج وخفتم الغرق «ضَلَّ» ذهب عن خواطركم وغاب عن أوهامكم كل «مَنْ تَدْعُونَ» وتستعيثون به وترجون نفعه عنكم، ولم يبق في بالكم «إِلَّا إِيَّاهُ» جل وعلا فإنكم إذ ذاك تذكرونه وحده وتطلبون منه نجاتكم ممّا حل بكم لا من غيره، والحال أنكم في حال مرحكم وفي حالة السراء تدعون آلهتكم وحدها «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ» ذلك الإله العظيم وأجاب دعاءكم وخرجتم «إِلَى الْبَرِّ» وأمنتم من الغرق «أَعْرَضْتُمْ» عن دعائه وحده وملتم عن الإخلاص بعد الخلاص ونسيتم حالة الشدة التي استعنتم به منها ورجعتم إلى شرككم، ويقال إن معنى أعرضتم توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض بمقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرّمة:
530
عطاء فتى تمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
فكأنه أراد أعرضتم واستطلتم في الكفران، إلا أنه استغنى بذكر العرض عن الطول للزومه له، والتفسير الأول أولى بالمقام وأنسب للكلام «وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» ٦٧ لنعم الله تعالى مبالعا في جحودها، وهذا التعليل للإعراض وبيان لحكم الجنس، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة إذ أعرض الله عنهم، ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة اثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر الجوهر ولا العرض، فقال له هل ركبت في البحر؟ قال نعم، قال هل عصفت الريح وأنت فيه؟ قال نعم، قال فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟
قال نعم، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه؟ قال نعم، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص؟ قال نعم، قال ذلك هو الله عز وجل، فاستحسن ذلك منه وقنع، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه، فيكون المراد به هو الله لا غير، قال تعالى «أَفَأَمِنْتُمْ» أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ» الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض، فتغور بكم وتبتلعكم، لأن البر والبحر مسخران لله تعالى، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض، فيغيبكم في ثراها. فعلى العاقل أن يجعل مخافة الله دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها، راجع الآية ٨٢ من سورة القصص والآية ٨٤ من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات. قال الفراء (الحاصب) هو الريح التي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء. وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق:
531
وبمعنى السحاب الذي يرمي بها، وكلها أقوال متقاربة والأول أنسب وأولى باللفظ «ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» ٦٨ يصرف عنكم ذلك ويحفظكم منه إذ لا راد لأمره وهو الغالب القادر على كل شيء، قال تعالى «أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ» أي البحر «تارَةً أُخْرى» ظرف منصوب يجمع على تارات وتير قال:
يقوم تارات ويمشي أخرى
وقد تحذف منه الهاء كقوله:... بالويل تار والثبور تارا
أي مرة أخرى ومرة بعد مرة وأسند الإعادة إليه تعالى مع أنها باختيارهم.
ومما ينسب إليهم عادة كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك منه وإن كان مخلوقا له «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ» وأنتم في البحر «قاصِفاً» قاطعا ريحا شديدة تقلع بعزم قصفها وقوة قطعها ما تمر به من شجر ونحوه ولها صوت عال مزعج «مِنَ الرِّيحِ» المغرقة في البحر المهلكة في البر «فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ» نعمة الانجاء وإجابة الدعاء في المرة الأولى، لأن ديدنكم نسيان النعم وكفران المنعم، فلا تنظرون إلّا لما هو أمامكم «ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ» بذلك الإغراق والإهلاك «تَبِيعاً» ٦٩ يطالبنا بكم ولا متّبعا دركا لثاركم، وهذا على حد قوله تعالى (وَلا يَخافُ عُقْباها) الآية الأخيرة من سورة والشمس المارة وقرىء بنون العظمة في الأفعال الخمسة أي نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم قال تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» بالعقل واستواء الخلقة ليدبروا معاشهم ومعادهم، وشرفناهم على الحيوانات والحيتان والطيور بذلك وبتناول طعامهم وشرابهم بأيديهم، وميّزناهم بالنطق واعتدال القامة وحسن الصورة، وذللنا لهم الحيوان والجماد وسخرناهما لهم وسلطناهم على ما على وجه الأرض وما جىء فيها من معادن ومياه، وما في المياه من حيوان وأحجار كريمة ومعادن نافعة، وخصصناهم بالتدبر والتفكر والحظ والملاذ الدنيوية الحلال، وزينا الرجال باللحى والنساء بالشعر، وهذه الإضافة تقتضي العموم فتشمل البرّ والفاجر منهم، ولهذا استدل الإمام الشافعي رحمه الله على طهارة الآدمي وعدم تنجيسه بالموت، وطهارة المني لأنه منه، ويكون منه «وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ» على الدواب والأنعام وغيرها مما كان وسيكون
532
«وَالْبَحْرِ» على السفن والمراكب وغيرها مما كان وسيكون، وفي الهواء كذلك، وتحت الأرض والبحر أيضا من كل ما خلق الله وأطلع عليه البشر وما سيطلع عليه بعد ويسخرهم لعمله لأن عمل العبد من خلق الله، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩١ من الصافات في ج ٢، وليعلم أن ما يراه الناس من الأشياء العجيبة التي أحدثها البشر مما لا يتصوره العقل كله من خلق الله ولو شاء لما أطلعهم عليه وعلمهم صنعه «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» الحاصلة بصنعهم وبغير صنعهم من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمفروش وغيرها من كل ما علم البشر صنعه بتعليم الله إياه.
مطلب تفضيل الإنسان على ما خلق الله على الإطلاق:
قال تعالى «وَفَضَّلْناهُمْ» بهذا التكريم بظروف النعم وصنوف المستلذات وفنون المعمولات «عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا» أي كل خلقنا، لأن كثيرا هنا بمعنى كل على حد قوله تعالى (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) الآية ٢٣٣ من الشعراء المارة، قال الحسن أي كلهم كاذبون، «تَفْضِيلًا» ٧٠ عظيما كبيرا إذ عرفناه بواسطة العقل والفهم واكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فهذا هو معنى التفضيل، والاختصاص المتقدم هو معنى التكريم فلا يقال إن التفضيل والتكريم بمعنى واحد فهو تكرار، تنبه. وليعلم أن خواص البشر الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، ولذلك أجمع المفسرون على أن كثيرا هنا بمعنى الكل كما ذكرناه في تفسير الآية ٢٣٣ المذكورة آنفا من سورة الشعراء المارة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر على القول الراجح، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) الآية ٧ من سورة البينة في ج ٣، وجاء عن أبي هريرة قال: المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده وقال: قال صلّى الله عليه وسلم أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى، والذي نفسي بيده لمنزلة المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك واقرأوا إن شئتم (إِنَّ الَّذِينَ) إلخ الآية السابقة. ويراد بالمؤمن هنا الكامل الموصوف في هذه الآية وهم الأنبياء، وليعلم أيضا أن الملائكة مجبولون على الطاعة وقد وضع الله فيهم العقل ولم يركب فيهم الشهوة، والبهائم على العكس فهي مجبولة على الشهوة ولم يضع
533
فيها العقل، وقد ركب الله في بني آدم الشهوة ووضع فيهم العقل، فمن غلب عقله على شهوته فقد التحق بالملائكة وصار أكرم منهم، ومن غلبت شهوته على عقله التحق بالبهائم وصار أخس منهم وأشر، وقد خلق الله تعالى كل ما في الكون السفلي والعلوي لبني آدم، وخلق بني آدم لنفسه المقدسة ليعبدوه، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من سورة الذاريات في ج ٢ وجاء عن جابر يرفعه قال لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال تعالى لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان. هذا وقالت المعتزلة: إن البشر أفضل من جميع الخلق إلا الملائكة وقال الكلبي البشر أفضل من جميع الخلق عدا طائفة من الملائكة مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش وخازن الجنة والنار وشبههم، استدلالا بقوله تعالى (كَثِيرٍ) ولو كان التفضيل على الكل لما جاء لفظ (كثير) والأول الذي جرينا عليه هو ما عليه الجمهور، راجع الآية الأولى من هذه السورة، وقد ذكرنا أن كثيرا أتت في القرآن بمعنى الكل قولا واحدا فيها قال في الكشاف إن المراد بالأكثر في قوله تعالى (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الآية ٣٧ من سورة يونس في ج ٢ (الجميع) والقرآن يفسّر بعضه بعضا والآيتان المتقدمتان والحديثان كل منها يؤيد هذا، وعليه ابو حنيفة وكثير من الشافعية والأشعرية رضي الله عنهم، ولهذا مثبتا على أن الأكثر بمعنى الكلّ، وإن البشر أفضل من جميع الخلق، والمراد الجنس الصادق بالواحد والمتعدد
قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بنبيهم ومقدمهم فيقال يا أتباع فلان، ويا قوم فلان، وقيل بكتابهم لأن الإمام بمعنى الكتاب، فيقال يا أهل كتاب الخير، ويا أهل كتاب الشر، أو يا آل القرآن، يا آل التوراة يا آل الإنجيل، ويا أهل دين الإسلام، يا أهل دين اليهود، يا أهل دين النصارى، والأوّل أولى وأوفق، فيأتون أفواجا أفواجا ومعنى الإمام المتبع والمقتدى به عاقلا كان أو غيره في اللغة، وأما شرعا وعرفا فالإمام هو الخليفة ومن يصلي بالناس بأمره جمعة وجماعة، أخرج ابن مردويه عن
534
علي كرم الله وجهه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الآية يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنة نبيهم. وأخرج بن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال إمام هدى وإمام ضلالة، وأخرج ابن جرير عن طريق الصوفي عن ابن عباس أيضا قال بإمامهم بكتاب أعمالهم وأخرج بن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال هو نبيهم الذي بعث إليهم. وما قيل إن إمام جمع أم كخفاف جمع خفّ لأن الناس يدعون بأمهاتهم رعاية لحق عيسى عليه السلام، وشرفا للحسنين رضي الله عنهما، وشرا لأولاد الزنى لا وجه له ولا مزيّه، لان جمع أمّ أمهات ولم يسمع كونه جمع إمام والغلط المشهور خير من الصحيح المهجور، على أنه ليس بغلط بل بصحيح مشهور، ولأن عيسى عليه السلام من كرامته على ربه خلقه من غير أب، فهو آية في نفسه من آيات الله العظام، ووالد الحسنين خير من أمهما مهما كانت مفضلة على غيرها لان آل البيت كحلقة مقرغة وفضيحة أولاد الزنى حاصلة لا محالة سواء دعي باسم أمه أولا، لأن الله تعالى يحاسب الزاني والزانية، وفي ذلك تظهر الفضائح وتنشر القبائح، وإن ابن الزنى لا ذنب عليه لأنه لم يقترف شيئا، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ٣٨ من سورة والنجم المارة، ويوشك أن يثيبه الله تعالى على تحمله ألفاظ القذف من الناس وأقوال التحقير والاستهزاء ما لا يثيب به غيره، وقد يكون غالبا من أهل التحمل، وجبارا أيضا وواطيا بآن واحد، راجع الآية ٣٢ من سورة مريم المارة «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» في ذلك اليوم المهول «فَأُولئِكَ» إشارة إلى من باعتبار معناها «يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» فرحين مسرورين متلذذين بما فيه من الخيرات والحسنات والطاعات التي فعلوها بالدنيا، ويقرأون ما فيه ولو لم يكونوا قارئين قبلا، وكذلك الأعمى يقرأ كتابه بقوة يعطيه الله إياها، ويعيد له بصره حتى لا يبقى لأحد حجة يحتج بها، نفيا لدعوى الظلم «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» ٧١ أيها الناس كلكم، فلا ينقص من أجور أعمالكم المرتسمة في كتبكم بمقدار الخيط الرفيع الذي هو في باطن نواة التمر، كما لا يزاد على عقاب أحد بمثل ذلك، وإنما ضرب الله تعالى هذا المثل بالفتيل لما هو متعارف عند العرب إذ يضربون به المثل
535
لكل حقير، ولأنه لا أقل منه بنظر المخاطبين، ومثله النقير الذي في ظهرها والقطمير الغشاء الذي عليها بل يؤتونها مضاعفة إن كانت من أعمال الخير، ومثلها إن كانت من الشر، راجع الآية ١٦٠ من سورة الأنعام في ج ٣، أما الذين يؤتون كتبهم بشمالهم فتستولي عليهم الدهشة والذّلة من سوء ما يرونه فيها من كبائر المعاصي وغظائم المناهي، فيرتبكون حتى انهم تأخذهم الرجفة فلا يستطيعون قراءتها كما ينبغي لشدة ما يعتريهم من الخوف، لقبح ما هو مدون فيها. أخرج الفضيلي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل، وأول خط فيها (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)
الآية ١٤ المارة. وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة، قال أما عند ثلاث فلا، إلى أن قال وعند تطاير الكتب، والثاني والله أعلم عند النفخة الثانية، والثالث عند الفزع الأكبر في موقف الحساب. وجاء عن عائشة أيضا أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته، ويقرأ الناس حسناته، ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرأها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
قال تعالى «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ» الدنيا «أَعْمى» قلبه عن الاعتراف بقدرتنا والتصديق لأنبيائنا من المدعوين المذكورين «فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ» المعبر عنها بيوم ندعو في الآية المتقدمة فكذلك يكون «أَعْمى» بأشد من عمى الدنيا فلا يهتدي إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه نفعا «وَأَضَلُّ سَبِيلًا» من سبل الدنيا لأنه فيها قد يعرف بعض الطرق المؤدية لأهله مثلا، أما في الآخرة فلا يعرف شيئا البتة، لذلك لا يمكنه تدارك ما فاته فيها، أي أنه إذا اعترف إذ ذاك بالتوحيد وبالنبوة والكتب والبعث لا ينفعه، وإذا تاب لا تقبل توبته، وإلا لآمن الكل لأن الله تعالى حدد التوبة حدا وهو كونها في الدنيا وفي غير حالتي اليأس والبأس، وقبل طلوع الشمس من مغربها، والدابة من محلها، راجع الآية ٨٢ من سورة النمل المارة. وهذا الأعمى هو الذي يؤتى كتابه بشماله بدلالة ما سبق ولمقابلته به إذ لا يجوز أن يفسر الأعمى هنا بأعمى العين الباصرة لمخالفته لقوله تعالى (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
536
الآية ٢٢ من سورة ق المارة، لأن الله تعالى يعطي الأعمى قوة النظر يوم القيامة ويعيد الأجزاء الناقصة من الإنسان حتى القلفة، لأن الناس يحشرون كاملي الخلقة لا تزى فيهم أعمى ولا أعور ولا أقطع ولا أعرج ولا ولا، قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية ٥٠ من الأعراف المارة، راجع الآية ١٢٥ من سورة طه المارة لاستيفاء هذا البحث، وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من هذه السورة، قال تعالى «وَإِنْ كادُوا» قاربوا وأوشكوا «لَيَفْتِنُونَكَ» يخدعونك وإن هذه مخففة من الثقيلة واللام في ليفتنونك تسمى اللام الفارقة بين إن هذه وإن النافية، واسمها ضمير الشان، مقدر دائما، أي أن شأنهم المقاربة لإيقاعك في الفتنة وصرفك «عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد في هذا القرآن «لِتَفْتَرِيَ» تختلق وتتقول «عَلَيْنا غَيْرَهُ» من تلقاء نفسك أو مما اقترحوه عليك.
مطلب تهديد الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم:
«وَإِذاً» إذا اتبعت أهواءهم وهممت أن تفعل ما أرادوه منك «لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» ٧٣ لهم مصافيا مواليا ولا تبعوك فيما تأمرهم وتنهاهم مع أنهم أعدائي وصداقتهم تقتضي الانقطاع عن ولايتي، وقيل في المعنى:
مستقبلين شمال الشام تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وقال الشافعي رحمه الله: إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك، لأن من الوفاء للصديق عدم مصادقة عدوه. قال ابن عباس قدم وفد ثقيف بعد فتح مكة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا نبايعك على ثلاث خصال: لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها بل لنأخذ هداياها، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا خير في دين لا ركوع ولا سجود فيه، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم، وأما الطاغية (يعني اللات) فإني غير ممتعكم بها، قالوا يا رسول الله، إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل أمرني الله بذلك، فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم غضبا مما قالوا فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم سؤلهم لظنهم أنه راق له ذلك وفي رواية فقام النبي صلّى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه ما بالكم آذيتم رسول الله إنه
537
لا يدع الأصنام في أرض العرب، فما زالوا به حتى أنزل الله هذه الآية وقد ادخرها الله تعالى هي وما بعدها إلى حد (زهوقا) الآتية لهذه الحادثة وهي كالمعترضة بالنسبة لما قبلها وما بعدها شأن الآيات المتأخر نزولها عن سورها، فإنك تراها معترضة لا علاقة لها بما قبلها ولا صلة بما بعدها. هذا، وما قيل إن قريشا قالت لحضرة الرسول اجعل لنا آية رحمة بدل آية عذاب وآية عذاب بدل آية رحمة حتى نؤمن بك، أو أنهم قالوا لا تمس الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا، أو كلفوه أن يذكر آلهتهم ليسلموا ويتبعوه، أو أنهم قالوا له إن الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فاطردهم حتى نتبعك لأنا نستحي أن نكون وإياهم سواء في المجلس، وأن حضرة الرسول حدث نفسه بما لفظه (ما علي أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها كاره) وغيره من الترهات التي نقلها بعض المفسرين، دون ترو من صحتها لا يصح شيء من ذلك أبدا ولا يجوز أن ينسب لحضرة الرسول شيء منه أصلا، لأنه مما لا يقبل التأويل، وإن اختلاف الروايات تدل دلالة كافية على وضعه، وكون الآية مدنية تبرهن على كذبه وعزم النبي صلّى الله عليه وسلم وحرصه على ما أمره به ربه يحيل وقوعه، لأن تلك الأقوال الواهية على فرض صحتها جدلا فإنها كانت في مكة، ولم يكن يلتفت إليها حضرة الرسول مع ما كان عليه وأصحابه من الضعف لقلة المسلمين فيها، أما وقد حفظه الله من كيدهم وقواه وأيده وأعلى كلمته وأظهر دينه في المدينة وكسر شوكة أعدائه فلا يتصور صحة شيء منها البتة، قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ» على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا إياك من الميل لأقوالهم هذه «لَقَدْ كِدْتَ» قاربت في نفسك وأوشكت «تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ» بما قالوه وطلبوه لقوة خداعهم وشدة احتيالهم ونملقهم «شَيْئاً قَلِيلًا» ٧٤ يسيرا جدا قد يستدل به إلى ميلك القلبي لهم بسبب سكوتك وقيامك عنهم، دون أن تزجرهم وتظهر غضبك عليهم، وما كان ينبغي لك أن تتصور ذلك أو تردده في خلدك حتى يتخيلوا ميلك لإجابتهم ويطمعون في موافقتك لهم. هذا، واعلم أن ظاهر الآية تدل صراحة على أن حضرة الرسول لم يهم فعلا بإجابتهم، ولم يكد أيضا وهو لا شك معصوم عن العزم بما هو من ذلك القبيل وحديث النفس معفو عنه شرعا،
538
وإن كان محاسبا عليه والحساب غير العقاب والعتاب. قال تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية ٢٨٤ من البقرة في ج ٣، وقدمنا نبذة فيما يتعلق في هذا البحث في الآية ٨٦ من سورة القصص المارة وله صلة واسعة في آية البقرة المذكورة آنفا فراجعها. وقد استدل بهذه الآية على أن العصمة بتوفيق الله وعنايته، وركن بفتح الكاف مضارعها يركن بكسرها وتأتي بضم الكاف ومضارعها بفتحه كما في الآية، قال تعالى «إِذاً» لو قاربت الركون إليهم بأدنى شيء «لَأَذَقْناكَ» بسبب تلك الركنة القليلة «ضِعْفَ الْحَياةِ» في الدنيا عذابا مضاعفا «وَ» أذقناك «ضِعْفَ الْمَماتِ» في الآخرة عذابا مضاعفا أيضا، والمراد ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى، والحذف في فصيح اللغة جائز ومرغوب، وهذا يشمل عذاب القبر
والبعث وما بعده أيضا، وحاصل المعنى يقول الله تعالى لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لو أجبتهم إلى بعض طلبهم لضاعفت عليك عذاب الدنيا والآخرة، وذلك أن الأبرار لو فعلوا ما يستوجب عذابا ما يكون ضعف عذاب الأشرار وأكثر، لأنه لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا بدليل قوله تعالى «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» ٧٥ يدفع عنك عذابنا أو يرفعه، ففيها من التهديد والوعيد ما يتقيض له من يتقيض ولا يخفى أن الأنبياء لا نصير لهم إلا الذي قربهم وشرفهم بنبوته بادىء أمرهم، وإن ما يقع من نصرتهم من بعض خلقه بتسخيره لهم، فكيف يجدون نصيرا لهم من غيره؟ كلا لا نصير له غير ربه. روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وإن كادوا إلى هنا، قال صلّى الله عليه وسلم: أللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. فينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجئو على ركبتيه ويتدبر معناها ويستشعر خشية الله تعالى ويزداد تصلبا في دينه، ويقول ما قاله نبيه صلّى الله عليه وسلم تقربا إلى الله، لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا سأله بخلاف العبيد فإنه يكون أقرب ما يكون إليهم إذا لم يسألهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ازهد بما في أيدي الناس تحبك الناس. وقال العارف:
539
وفي هذه الآية إجلال عظيم لحضرة الرسول من قبل ربه عز وجل، وتنبيه على أن الأقرب من الله يكون أشد خطرا عنده كما يكون أشد خوفا منه.
قال تعالى: (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية ٢٨ من سورة فاطر المارة، فإذا كان الله تعالى أوعد حضرة حبيبه على ما خطر يباله ولم يفعله بضعف ما أوعد به العصاة من العذاب المدخر لهم، فكيف بنا أيها الناس؟ أللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فنسألك الهداية إلى سواء السبيل، والعصمة من خطرات نفوسنا ومن وساوس الشيطان ودسائسه ومن شرار خلقك بفضلك يا رحمن. قال تعالى «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ» يستخفونك ويزعجونك ويخرجونك «مِنَ الْأَرْضِ» التي ولدت فيها ونشأت عليها وبعثت إليهم فيها بسبب عداوتهم ومكرهم يريد أهل مكة حين ما كان صلّى الله عليه وسلم فيها بين أظهرهم قبل أن يهاجر عنهم. وهذه حادثه مكية يذكر الله تعالى بها نبيه في المدينة بعد ما فشا أمره وعلت كلمته في أرض مكة وما حولها وكان استفزازهم ذلك «لِيُخْرِجُوكَ» قسرا «مِنْها وَإِذاً» لو فعلوا ذلك وكان خروجك قهرا «لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ» أي بعدك وعليه قوله:
لا تسألن ابن آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وابن آدم حين يسأل يغضب
عفت الديار خلافهم فكأنها بسط الشواطب بينهن حصيرا
أي بعدهم، والشواطب اللائي يقدّون الأديم بعد ما يخلقنه «إِلَّا قَلِيلًا» ٧٦ لبثا يسيرا جدا، إذ جرت عادة الله تعالى أن كل أمة أخرجت نبيها جبرا فإنه يهلكها استئصالا، والمعنى أنهم لو أخرجوك كما أرادوا لأهلكوا عن بكرة أبيهم، وهم أرادوا هذا وعرفوا وصمموا عليه، ولكن الله لم يرده والله الغالب على أمره.
هذا، ولما لم يقع المقدّم وهو الخروج لم يقع الثاني وهو الهلاك، إذ خرج حضرة الرسول من مكة مهاجرا بعد أن أذن الله له بالهجرة، وهذا من جملة رحمات الله بقريش إرادة استبقائها. وإن ما جاء في قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) الآية ١١ من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣ لا يناقض معنى هذه الآية المفسرة، لأن غاية ما فيها الاخبار عن انتصار الله تعالى لأنبيائه السابقين من أممهم المعاندين. وقصارى ما دلت عليه الآية المفسرة هو قرب الاستفزاز منهم تسببا إلى إخراجه ولم يكن حاصلا ولا واقعا ومعنى أخرجتك في الآية المستشهد
540
بها عزمهم على اخراجك واجماع كلمتهم عليها، وهم كأنهم أخرجوك على زعمهم، ولكن الله تعالى أبى ذلك، فكان خروجك من بين أظهرهم خروجا لا إخراجا كما سيأتي تفصيله في حادثة الهجرة عند تفسير الآية ٢٧ من العنكبوت في ج ٢، وكيفية اجتماعهم في دار الندوة وماهية قرارهم المتخذ بهذا وصورة تنفيذه وتحقق قول ورقة بن نوفل رحمه الله حينما قص عليه مبادئ نزول الوحي فقال له: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك. وقوله صلّى الله عليه وسلم أو مخرجي هم كما أوضحناه في المقدمة في بحث نزول الوحي وإذ كانت هذه الآية المفسرة مدنية مستثناة من سورتها فيتجه فيها ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنيم قال إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث. وعلى هذا يكون المراد بالأرض أرض المدينة لا مكة والله أعلم. إذ انها صالحة للقولين قال تعالى «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا» أي أن إهلاك كل قوم أخرجوا رسولهم قسرا هو سنة مطّردة من الإلهية التي لا تنخرم، كما أنها من سننها المدونة في الأزل أن لا تعذب أمة ما دام نبيها فيها حتى إذا أراد إهلاكها أشار اليه ان يبتعد عنها. قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية ٣٤ من الأنفال في ج ٣ «وَلا تَجِدُ» أنت ولا غيرك ممن تقدمك أو تأخر عنك «لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» ٧٧ عن مجراها الطبيعي ولا يتمكن أحد على تغييرها، و؟؟؟ أسراء هذه العادة المتبعة التي لا يقدر أحد على تبديلها هو من كمال الحكمة، والمراد من نفي الوجدان هو نفي الوجود، ودليل نفي وجود من يغير عادة الله أظهر من الشمس في رابعة النهار، هذا ومن قال إن هاتين الآيتين مكيّتان تبعا لسورتهما قال في سبب نزولها اجتماع قريش في دار الندوة واتفاقهم على إخراجه من مكة، والحال أنهم اتفقوا على إخراجه من وجه البسيطة لأنهم أجمعوا أن يقتلوه ويشتركوا جميعا في قتله كما هو مبين في الحادثة المشار إليها أعلاه، وانه بعد خروجه من مكة بثمانية عشر شهرا وقعت حادثة بدر وهي دليل على عدم لبثهم فيها من بعده إلا قليلا، وهذا الزمن قليل نسبة وان
541
قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية المارة الذكر آنفا تؤيد ذلك، إلا أن هذا لا يستقيم، إذ جرت عادة الله التي لا تبدل بعذاب الاستئصال العام كما تشير اليه الآيتان المفسرتان، وإن واقعة بدر وقعت على قليل منهم ولم تكن عقب خروجه كما فعل الله بقوم صالح، إذ لم يتأخر عنهم العذاب إلا ثلاثة ايام، وكذلك الأمم قبله وبعده فلم يتأخر عذابهم ولم يقع على بعضهم، وسبب تعجل العذاب على أثر خروج النبي هو إذا وقع متأخرا يظن المعذبون أنه طارئ عادي ليس لإغضابهم أنبيائهم، تدبر، لهذا فان المرضي الذي لا غبار عليه ولا طعن فيه هو ما ذكرناه اولا من أن الآيتين مدنيتان، والسبب في نزولهما هو تذكير الله نبيه ما أراد به قومه وهو في مكة، وما ذكر عن اليهود الذين قالوا له إن كنت نبيا فاذهب إلى الشام، وذلك لأن جميع الأنبياء إما من أرض الشام او هاجروا إليها، ولهذا توجه لتبوك عند سماعه قولهم ذلك. قال قتادة إن هذه السورة مكيّة إلا ثماني آيات وهي من قوله (وإن كادوا) إلى (زهوقا) فهن مدنيات وان كان الخفاجي لا يرضى هذا فقد خولف بكثير من أمثاله، والله أعلم.
مطلب مأخذ الصلوات الخمس والجمع بينها:
قال تعالى «أَقِمِ الصَّلاةَ» التي فرضناها عليك وعلى أمتك ليلة الإسراء هذه «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» أي ميلانها إلى الزوال فتتناول هذه الجملة صلاتي الظهر والعصر، ويرجح هذا القول بأن كل صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلم وأمه بها جبريل عليه السلام هي صلاة الظهر حين علّمه كيفية الصلاة في يومين، كما أشرنا اليه آخر قصة المعراج المارة، وما قيل إن المراد غروبها ينافيه قوله تعالى «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» ظلمته لأن هذه الجملة تتناول أيضا المغرب والعشاء، فال النّضر بن شميل غسق الليل دخول أوله قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
ويطلق على ظلمة الليل قال زهير بن أبي سلمى:
542
وما استدل به بعضهم على أن الدلوك بمعنى غياب الشمس من قول ذي الرمة:
ظلّت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الاظلام والغسق
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالاملاك الدوالك
لا يكون نصا في معنى الغياب لأنه يكون بمعنى الميل والنجوم تميل بسيرها، لأن أصل مادة ذلك تدل على الانتقال وفي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها، وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها بحسب مانراه، وكذلك الدلك المعروف هو انتقال اليد من محل إلى آخر، وليعلم أن كل كلمة أولها دال ولام مع قطع النظر عن آخرها تدل على ذلك مثل دلج من الدلجة وهو سير الليل ومنه دلج الدلو إذا مشى بها من رأس البئر إلى المصب ودلج بالماء إذا مشى به مشيا ثقيلا ودلع إذا أخرج لسانه ودلف إذا مشى مشية المقيد ودلق إذا أخرج المائع من مقره ودله إذا ذهب عقله «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» صلاته لأنها لا تجوز بلا قراءة «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» ٧٨ من ملائكة الليل والنهار لأنه آخر الليل وأول النهار، ولهذا فضل بعضهم صلاة الغلس على صلاة الأسفار، وان الصلاة في وقتها أفضل، وهذه الآية الكريمة هي مأخذ الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على حضرة الرسول وأمته في هذه السورة في ليلة المعراج الشريف، ونظير هذه الآية الآية ١٣٠ من سورة طه المارة والآية ١٨ من سورة الروم في ج ٢ هذا ومما يؤيد فرضية الصلاة في نزول هذه الآية وكونها في السنة العاشرة، كما قال الزهري أنها في السنة الخامسة لا كما قدمنا البحث فيه في قصة المعراج المارة، وإن مما يقدح في قوله أن خديجة رضي الله عنها لم تصل الصلوات الخمس وأن أبا طالب لم يدرك الإسراء ولم يبلغه شيء عنه ولو كان حيا لرجع اليه قومه حين أنكروه على النبي صلّى الله عليه وسلم وأنّبوه ورموه بما رموه من أجله لأنه توفي في ١٥ شوال سنة ١٠ من البعثة التي أولها شهر رمضان وقد وقع الإسراء في ٢٧ رجب سنة ١٠ وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام كما ذكرناه قبل، تنبه. روى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية وليعلم
543
أن ليس المراد باقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين، أي دلوك الشمس وغسق الليل على وجه الاستمرار، بل إقامة كل صلاة في وقتها المعين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة، كما أن اعداد ركعات كل صلاة موكول إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، وقدمنا ما يتعلق بهذا البحث أيضا آخر قصة المعراج المارة أول هذه السورة، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على جواز جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وبقاء الصبح وحدها لانفصالها بالآية وذكرها وحدها بلا عذر، وهو خطأ إذ لا خبر صحيح بجواز ذلك، وإذا لم يضمّ إلى هذه الآية بشيء يفسرها من أقوال حضرة الرسول على صحة ما قاله ذلك البعض لا يصلح الأخذ به، لأن الاستدلال بظاهرها ومفردها على جواز الأربعة جميعها، لأنها عبارة عن جملة واحدة أولى من الاستدلال على جمع اثنتين اثنتين، ولا قائل بجمع الأربع البتة، وان حديث ابن عباس المثبت في صحيح مسلم من أنه صلّى الله عليه وسلم صلّى الظهر والعصر جمعا بالمدينة، وفي رواية أنه صلّى ثمانيا جمعا وسبعا جمعا من غير خوف ولا سفر هو صحيح لا غبار عليه، إلا أنه لم ينف المرض والمطر، لأن الجمع فيهما جائز تقديما وتأخيرا على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وتقديما فقط في الجديد بسبب المرض أو المطر ليس إلا، ولا يليق أن يؤول الحديث المذكور بخلاف هذا، وما جاء عنه أيضا في صحيح مسلم في رواية أخرى من غير خوف ولا مطر أي لا مطر كثير يمنع من المشي إلى الجامع بسهولة، يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال، فإذا كان المطر لم يبلغ ذلك فلا يمنع ولا يصح الجمع، ولم ينف هذا الحديث أيضا المرض تدبّر، بما يدل على أن جمعه ذلك الوارد في حديث مسلم كان بسبب المرض، إذ لا قائل بالجمع دون سبب أصلا. على أن الجمع لم يقل به ابو حنيفة مطلقا فيما عدا عرفات ومزدلفة لضيق الوقت
في ذلك الازدحام الذي يعرفه من شاهده ليس إلا، لعدم تثبته رضي الله عنه من صحة ما ورد فيه، وأن الجمع المروي عنه صلّى الله عليه وسلم حال العذر عبارة عن تأخير الأولى لآخر وقتها فصلاها فيه، ولما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت هذه الصورة صورة جمع، ويحمل عليه قول من رآه صلّى ثمانيا
544
أو سبعا، أو أنه جمع بين الوقتين، ولهذا قال الترمذي في آخر كتابه ليس في كتاب حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، أي أنه لم يبين فيه المرض ولا قلة المطر غير المانع من المشي بسهولة، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ولا يقال لمثل هذا الحكيم الترمذي إن قوله ناشىء من عدم تتبعه بل هو ناشىء من شدة تتبعه، ولذلك قال ابن الهمام إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى الله عليه وسلم قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى. مما يدل على أن حديث ابن عباس فيه مقال، وإن كان في صحيح مسلم، كما أن حديث شريك بن نمر الذي رواه عن أنس بن مالك في قضية الإسراء فيه مقال، حتى قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك الذي أشرنا إليه في الآية ١٨ من سورة والنجم المارة والآية ١٠ من سورة الجن أيضا، وفي مطلع هذه السورة في بحث الإسراء. وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين قد زاد شريك فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. هذا، وهو في مسلم والبخاري وعن أنس أيضا، فلا يبعد أن يكون ما رواه مسلم عن ابن عباس زيد فيه أيضا ما زيد. ومن قال إنه تأويل (قرآن الفجر) بصلاته خلاف ظاهر الآية ولا يجوز الصرف عن الظاهر إلا بدليل، فيقال له إن الدليل موجود وهو قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) وقرآن الفجر معطوف عليها ولم يشتهر أقم القراءة بل أقم الصلاة.
مطلب في التهجد والمقام المحمود وما نسب لإبراهيم وصلاة التراويح:
وما احتج به من ضمير (به) في قوله عز قوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ» يجوز رجوعه إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى، ويجوز رجوعه إلى الصلاة أيضا المعبر عنها بالقرآن، لأنها ركن من أركانها كما عبر عنها بالركوع والسجود، وعود الضمير من (به) إلى الصلاة أولى لأن التهجد هو الصلاة بعد النوم، ولا تسمى الصلاة تهجدا إلا إذا كانت بعد النوم وفي الليل ت (٣٥)
545
خاصة «نافِلَةً لَكَ» زائدة على سائر الصلوات. روي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاث هي عليّ فريضة وهي سنة لكم:
الوتر والسواك وقيام الليل. وروي عن الحجاج بن عمر والمازني أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» ٧٩ من قبل أهل السموات والأرض. واعلم أن عسى هنا وفي كل موضع من القرآن إذا كانت من الله تكون بمعنى الإيجاب التفضّلي، لأن معناها الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه منه كان عارا عليه، والله أكرم من أن يطمع أحدا بشيء ثم لا يعطيه إياه، والمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى العامة الذي اختصه الله تعالى به يحمده عليه الأولون والآخرون، وناهيك أن الله تعالى سماه محمودا.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم محمد فيشفع فيقضي الله بين الخلائق، فيمشي حتى يأخذ بخلقه باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم.
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لواني، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك، فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحا، فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول كما جاء في عبارة الترمذي إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله أي (ناضل ودافع) وهي من باب المعاريض لأن الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية ١٩ من سورة الصافات في ج ٢، ومعناها مريض القلب من تماديكم على الكفر وعدم التفاتكم إلى خالقكم، والثانية قوله
546
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية ٦٢ من سورة الأنبياء في ج ٢، وذلك على طريق الاستهزاء بهم والسخرية من عقيدتهم بالأوثان، والثالثة قوله للجبار حينما سأله عن زوجته سارة هذه أختي يريد أنها أخته في الخلقة والدين، وعلى هذا فلا شيء يعد منها كذبا صراحة. وقالوا في المعاريض مندوحة عن الكذب، ولكنه إذ كان من أهل العزم المطلوب منهم التصريح بما لا يحتمل التأويل فيعد مثل هذا منهم ذنبّا على حد (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ولكن ائتوا موسى، فيأتون موسى فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول إني عبدت من دون الله تعالى ولكن ائتوا محمدا، فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيفتحون لي ويقولون مرحبا، فأخرّ ساجدا لله، فيلهمني تعالى من الثناء والحمد والمجد، فيقال إرفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك، فهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) الآية. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله، من مات لا يشرك بالله شيئا. وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء أللهم ربّ هذه الدعوة النامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة. وتقدم في سورة والضحى ما يتعلق في هذا البحث فراجعه، وفي الآية ١٧ من سورة المزمل المارة تقدم ما يتعلق في قيام الليل بصورة مفصلة، وسنذكر هنا بعض الأحاديث الواردة فيه. روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا. ولفظ أبي داود في رواية مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال:
لأرمقنّ صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة، فتوسدت عتبته أو فسطاطه، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين كررها ثلاثا، ثم صلّى ركعتين، دون التي قبلها كررها ثلاثا أيضا، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. وروى
547
البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي. ورويا عنها أيضا قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين وبوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن بالإقامة. ومن هنا أخذ الشافعي رحمه الله الضجعة بين سنة الفجر وفرضه، وسماها بعضهم ضجعة القبر، أي أنها تذكره بها، ومن هنا أخذت أيضا صلاة التراويح في رمضان التي يسميها بعضهم سنة عمر رضي الله عنه وإنما هي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن عمر رضي الله عنه أخذها عنه إلا أنه صلاها جماعة في رمضان، وكان النبي يصليها وحده، لهذا سموها سنة عمر نور الله قبره كما نور مساجدنا بذلك. وأخرج أبو داود والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة النساء.
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة يكررها.
وروى البخاري ومسلم عن الأسود قال: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله من الليل؟ قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج. وأخرج النسائي عن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه. أي أنه كان لا يوقّت وقتا لنومه
548
وصلاته، وزاد في رواية غيره، كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا، ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا. فهذا حال رسول الله أيها الناس وهو على ما هو عليه من الرفعة والأمن من اليوم الآخر، فكيف أنتم هل أديتم بعض حقوق الله وهل قمتم ببعض واجباته أو واجبات خلقه أو أتيتم ما فرضه عليكم؟
كلا بل لا زلتم على ما أنتم عليه من الضعة غافلين عما يراد بكم في ذلك اليوم العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال تعالى «وَقُلْ رَبِّ» حذف منه ياء النداء أي يا محمد قل في دعائك إذا دعوتني يا رب «أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» في كل مكان أدخل فيه وكل زمان أصير إليه وكل أمر ألج فيه من أمور الدنيا والآخرة، وقرىء هنا وفيما بعد مدخل بفتح الميم إذ يجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما على الظرفية ويجوز أن يكونا مصدرين منصوبين بفعل من نوعهما «وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ» كذلك على العمومية في الجملتين، لأن جعلهما عامتين أوفق لظاهر الآية لفظا، وقد خصهما بعض المفسرين في القبر أو في مكة أو المدينة أو الجنة أو في تعاطي المأمورات واجتناب المنهيات وغير ذلك دون استناد لدليل يفيد التخصيص، مع أن سابق اللفظ ولا حقه مما تقدم عن هاتين الجملتين أو تأخر لا يختصان بمكان أو زمان دون زمان ومكان آخرين، والمعنى يا رب أدخلني إدخالا مرضيّا على طهارة وزكاة في كل أموري، وأخرجني إخراجا مرضيّا ملقى بالكرامة آمنّا من الملامة في جميع أحوالي، ويؤيد معنى العموم قوله جل قوله «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» ٨٠ على من خالفني ولم يؤازرني وارزقني حجة قوية على من يحاججني وبرهانا مؤزرا على من يخاصمني في أمرك، ودليلا قاطعا على من يجادلني في دينك. هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما أمر حضرة الرسول بالهجرة وطلب إخراجه من مكة آمنا من أذى قومه الذين كلفوه بالخروج، أو حينما خرج من الغار سالما قال وأدخلني المدينة آمنا أو وأدخلني مكة فاتحا أو غير ذلك، فقيل لا مستند له واحتمال المعنى لهذا لا يعني أنها نزلت فيه، وقد دعا صلّى الله عليه وسلم وأجاب الله دعاءه بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية ٦٧ من المائدة، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
الآية الأخيرة من سورة
549
المجادلة، ومثلها الآية ٦٥ من المائدة، وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية ٢٤ من سورة التوبة إلى غيرها من الآيات في ج ٣ كالآية ٨ من سورة الصف والآية ٥ من سورة النور وغيرها.
قال تعالى «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ» الصريح من قبل الله تعالى وهو هذا الدين الراسخ المستمد من كلام الله المنزل عليّ لآمركم بالإيمان به «وَزَهَقَ الْباطِلُ» اضمحل وانمحق، وهلك الباطل الذي تدينون به والشرك الذي تزعمونه، وبطلت عبادة الأوثان والشيطان وغيرها. يقال زمقت نفسه إذا خرجت من الأسف. روي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه، فيقول (جاءَ الْحَقُّ) الآية «إِنَّ الْباطِلَ» مهما كان أمره «كانَ زَهُوقاً» ٨١ زائلا سريع الزوال، ومهما صارت له دولة وصولة، فإنه لا يدوم، لأنه ظلم والكفر مع العدل قد يدوم، والظلم مع الإيمان لا يدوم. قال تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الآية ١١٧ من سورة هود في ج ٢، وهذا آخر الآيات المدنيات الثماني وفسرناها على كونها مدنيات وذكرنا ما يحتملها من التفسير على القول بأنها مكيات، وبينّا ما فيه.
مطلب الاستشفاء بالقرآن على نوعين وثالثهما العقيدة:
قال تعالى «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» من أمراض القلوب وبيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه، ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهات، ويهتدى به من الحيرة. وليعلم أن الأمراض التي يستشفى لها بالقرآن نوعان الأول الاعتقادات الفاسدة في الذات المقدسة والصفات المطهرة والنبوات المعظمة والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن العظيم مشتمل على دلائل المذهب الحق فيها كلها ومصرح على إبطال المذاهب الفاسدة منها، فلا جرم أن القرآن الكريم خير
550
شاف لما يحوك في القلوب ويتردد في الصدر من هذه الأمراض ولا طب لهذه الظنون الخبيثة إلا الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأقوال الفقهاء العارفين.
النوع الثاني الأخلاق المذمومة كالكذب والزنى والقمار والقتل والتعدي على الغير والربا وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والتجسس والغمز واللمز وتطفيف الكيل والوزن والذرع والغضب والحدة والحمق وغيرها مما شاكلها، فإن القرآن الجليل لا شك أعظم شاف منها وخير منفّر عنها وأحسن مرشد لاجتنابها والأخذ بأضدادها من الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والخصال المحمودة، كالوفاء والسماح والعفو ولين الجانب والتؤدة والصبر وخفض القول والعفاف والصفح والكظم وشبهها مما يضاهيها، فلا دواء لها أنفع من الأخذ بآيات القرآن وسنن المنزل عليه.
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني أشتكي صدري فقال عليه الصلام والسلام اقرأ القرآن يقول الله تعالى (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية ٥٧ من يونس في ج ٢. وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة ابن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال عليك بقراءة القرآن.
والأخبار في هذا كثيرة جدا وأقوال العارفين والعلماء العاملين تشير إلى ذلك أيضا، وقد جرّب هذا فنفع من كان له إيمان وعقيدة راسخة، أما من لم يعتقد به فهو عليه وبال، راجع الآية ٤٣ من سورة فصلت في ج ٢، أما الأمراض الجسمانية فهي نوعان أيضا: ظاهرة كالجروح والدماميل والكسور وما شابهها فهذه لا بدّ لها من التداوي بالعقاقير المجربة لمثلها والتضميد وغيره، وباطنة كمرض الأمعاء والرئة والمثانة والكلى والكبد والطحال وغيرها، فكذلك لا بد لها من النداوي عند الأطباء الحاذقين المجربين المؤمنين، ولا بأس من التداوي عند غيرهم من أهل الكتاب عند فقدهم لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الضرورة تقدر بقدرها لأن هذين النوعين مباينين للنوعين الأولين، أما الأمراض الأخرى كالفتور والخدر والفلج وضرب الرأس وبعض أنواع الجنون واعتراء الوهم والوسواس وما أشبه ذلك فيجوز أن يعرضها على الأطباء الحاذقين بها وعلى حملة كتاب الله العارفين الأمناء فإن قراءة القرآن والتعاويذ به تدفع وتنفع لأمراض كثيرة وتشفي من علل وافرة،
551
وهذا لا يمنع من التداوي لها بالعقاقير وما يصفه الأطباء، إذ قد يجوز بآن واحد أن يستعمل المريض الدواءين المادي والمعنوي الاعتقادي. ويؤمر المصاب بتعاطي الأسباب من الدواءين لأن الرسول حث على التداوي، فقال تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء. لا سيما الكسور والجروح والإمساك والانطلاق، وقد وصف صلّى الله عليه وسلم عسلا لمنطلق بطنه ولم يقل له اقرأ عليه القرآن مع أنه بتقدير الله شاف لكل شيء، وقد وقع من بعض الأنبياء والأولياء العارفين من ردّ العين بعد العمى وجبر اليد بعد الكسر وشفاء الأبرص والأكمه بل وإحياء الموتى على طريق خرق العادة وهو ممكن بإذن الله على يد من وفقه الله. والقاعدة أن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه وهذا منها، وما جاء من قوله صلّى الله عليه وسلم من لم يستشف بكتاب الله فلا شفاه الله. فليس على إطلاقه كما ذكرنا ومما يستشفى به من القرآن العظيم للدفع والرفع تلاوة الفاتحة لكثرة الأحاديث الواردة فيها وآية الكرسي لأنها أعظم آية في القرآن وآيات الشفاء الست وهي: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) الآية ١٤ من سورة التوبة (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية ٥٦ من سورة يونس (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الآية ٧٩ من سورة النحل في ج ٢ والآية المفسرة هذه (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية ٨٠ من الشعراء المارة و (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) الآية ٤٤ من سورة فصلت في ج ٢ فقد قال السبكي جرّبت كثيرا من المرضى بتلاوتها عليهم فنقعت بإذن الله. وقال القشيري إنه مرض له مريض قد أيس من حياته فرأى الله عز وجل في منامه فشكا له سبحانه ذلك، فقال له اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى. ومنها قصة الأبوصيري صاحب البردة المشهورة، ومنها المغفور له الشيخ أمين الجندي الحمصي المتوفى في شوال سنة ١٢٥٧ تغمده الله برحمته إذ كان مبتلى بداء عضال أعيا الأطباء فنظم قصيدته المشهورة واستغاث فيها إليه تعالى وتوسل بجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم فشفاه الله وكان مطلعها:
552
وكثير ممن ابتلي بداء أعجز الأطباء فيشفيه الله تعالى بالرقيا، والأطباء المنصفون يعترفون بأن من الأمراض ما يشفى بخاصة ما روحانية كما فصله الأندلسي في مفراداته وداود في الجلد الثاني من تذكرته ولا يعبا بمن ينكر ذلك، لأنه إنكار للمحسوس وجحد للظاهر. قال الراوي اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة، فقال لنا إلى أين؟
قلنا له إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك، فقال سبحان الله تستعينون على ولي الله بعدو الله اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له ضع يدك على موضع الوجع وقل (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ثم غاب عنا فلم نره، فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على الوجع وقال ذلك فعوفي في الوقت، فقال لهم إن ذلك الرجل هو الخضر عليه السلام، أما ما رواه أبو داود من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان. فعلى فرض صحة هذا الحديث فإن النشرة التي قال فيها حضرة الرسول ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية، وهي أنواع شتى منها ما يكون بالودع، ومنها ما يفعله أهل التعزيم من قراءة أشياء غير معلومة المعنى أو كتابتها أو سقيها مما لم يرد به شيء من السنة، لا مثل التي فعلها القشيري، لأنها عبارة عن آيات الله من كتابه المأمور بالاستشفاء به، قال مالك عليه الرحمة لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها، وكلمة لا بأس لا تختص بخلاف الأولى بل قد تكون للاستحباب والوجوب أيضا كما صرح به العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر، وقد وردت السنة بالرقيا من العين كما مر تفصيله في الآية ٥١ من سورة القلم المارة وكما سيأتي في الآية ٦٦ من سورة يوسف في ج ٢، وقال ابن المسيب يجوز تعليق المعوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع وعند الغائط، ورخص الباقر في المعوّذة تعلق على الصبيان مطلقا.
وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا كان أو صغيرا مطلقا. وعذا الذي توارثه الناس أبا عن جد من لدن حضرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا هم عليه دائبون وبه متمسكون في جميع الأمصار، ولم يعارض به إلا
553
كل متكبر جبار، ضعيف الإيمان قليل العقيدة بآيات الله التي هي فضل منه «وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» به وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب، وجدير بأن تكون كذلك لما فيها من شفاء الأمراض الباطنة والظاهرة المار تفصيلها وغيرها.
واعلم أنه كما يكون كتاب الله رحمة للمؤمنين فهو عذاب للكافرين بدليل قوله عز قوله «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ» أنفسهم بالكفر به وجحوده وتكذيب المنزل عليه «إِلَّا خَساراً» ٨٢ في الدنيا وضلالا مزدوجا يرى سوء عاقبته في الآخرة، قال قتادة لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاء الله الذي قضى، وتلا هذه الآية، ونظيرتاها في المعنى الآية ٤٥ من سورة فصلت في ج ٢ والآية ١٢ من الأحقاف أيضا، وفي هذه الآية تعجيب من أمر القرآن لكونه بآن واحد نور لقوم، ظلمة لآخرين، شفاء لأناس، هلاك لغيرهم، علم لأناس، جهل لآخرين، وقيل في المعني:
توسلت بالمختار أرجى الوسائل نبي لمثلي خير كاف وكافل
كماء المزن في الأصداف درا وفي ثغر الأفاعي صار سما
وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير آية فصلت المنوه بها أعلاه، وقدم الشفاء في هذه الآية على الرحمة لأن الشفاء يكون للتخلية، والرحمة تكون للتحلية، والتخلية مقدمة على التحلية لأنها أهم منها، قال تعالى «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ» من كمال فضلنا وعظيم جودنا وكثير عطائنا وفيض رحمتنا بأن وسعنا طرق خيرنا عليه، فأعطيناه رحمة كاملة ومالا كثيرا وجاها وسلطانا وأولادا وخدما وعقارات «أَعْرَضَ» عنا وغفل عن ذكرنا ولم يدعنا، وأظهر الاستغناء عنا كأن ما حصل عليه من ذلك من كسبه وتدبيره لا بتوفيقنا «وَنَأى» أعرض لفرط جهله وعتوه وعناده، فتراة طوى كشحه ولوى عنقه وأدبر موليا عنا، وهذا تأكيد للإعراض لأن المعرض عن الشيء يوليه ظهره ويصد بوجهه ويتباعد عنه «بِجانِبِهِ» مبالغة في عدم التقرب إلى الله تكبرا وتعاظما، وكان عليه أن يقوم بما أنعمنا به عليه من أداء الشكر الواجب عليه بمقابل فضلنا المترادف عليه، لكنه لم يفعل لانه مجبول على الكفران ومقطور على النسيان ومطبوع على النكران، وما ذكره بعض أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، وقرأ ابن
554
عامر برواية ابن ذكوان/ وناء/ في هذه الآية والآية ٥٧ من فصلت في ج ٢، وهذا من باب القلب ووضع العين محل اللام مثل رأى وراء وناء بمعنى نهض كما في قوله:
حتى إذا ما التأمت مفاصله... وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله وتفسير نهض هنا بأسرع لمناسبة المقام، أي أسرع بصرف جانبه أو بمعنى تثاقل عن أداء شكرنا كأنه مستغن في ذاته مستقل في أمره بحيث لا يخطر على باله احتياجه إلى ربه «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ» المرض والضيق والذل والإهانة والفقر والخذلان والرق والحرمان من المال والولد والخدم ونحو ذلك من أنواع الشدائد وأصناف النوازل «كانَ يَؤُساً» ٨٣ قنوطا آيسا من رحمة الله لقلة يقينه وضعف دينه، وذلك لأنه لم يحسن معاملته مع خالقه في الرخاء حتى يرجو فضله في الشدة. وقد جاء في الحديث تعرف إلى الله بالرخاء يعرفك في الشدة.
فلو عرف نعمة الله وأدى شكرها لما مسه ضره، ولدعاه فاستجاب دعاءه في كشفه، ولو رجع إليه مخلصا لقبله على ما كان منه، وقد جاء في الحديث القدسي رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى:
يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقيل في هذا المعنى:
أناس أعرضوا عنا... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا... فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا... وإن خانوا فما خنا
وإن كانوا قد استغنوا... فإنا عنهم أغنى
أما من تكاثفت ظلمات قلبه فقد حيل بينه وبين الرضاء، وحال عتوه وشقاؤه دون ما يطلبه ويتمناه، وهؤلاء قد ينطبق عليهم تفسير الآية الأخيرة من سورة سبأ في ج ٢ فراجعها، واعلموا أيها الناس أن الله تعالى هو الغني عنكم وأنتم الفقراء إليه، وان الله هو القوي عليكم وأنتم الضعفاء عنده، فاستكينوا إليه ووحدوه يرسل لكم خيره ويدفع عنكم شره، وإلا إذا كان شركم إليه صاعدا وخيره إليكم
555
نازلا ولم تقوموا بحقه فأبشروا بالدمار. وإن في إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الانعام إليه تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك، وهذا هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة واللطف الشامل وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم أللهم إن الخير بيدك والشر ليس إليك. وإن كل نعمة لا يشكرها العبد أو يستعملها في معصية المنعم فمصيرها الزوال في الدنيا والعذاب في الآخرة.
مطلب الكفران يزيل النعم وذات الإنسان تقتضي الطاعة فطرة:
قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية ٧ من سورة إبراهيم في ج ٢، وبعد أن ذكر سبحانه حال القرآن بالنسبة للمؤمن والكافر وبيّن حال الكافر في حالتي الإنعام وضده، ذكر ما يصلح جوابا لمن يقول لم كان كذلك بقوله جل قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهذا السائل أو قل أيها المسئول عن ذلك «كُلٌّ» من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي واليائس «يَعْمَلُ» عملا «عَلى» حسب «شاكِلَتِهِ» حالته وطريقته ومذهبه وطبيعته التي جبل عليها بل التي خلق إليها لما جاء في الحديث الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان مخلوقا للشر فمهما عمل من طرق الخير فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الشر ويموت عليه، لأن عمله الخير لم يكن خالصا لله تعالى مهما ادعى الإخلاص فيه، ومن كان مخلوقا للخير فمهما عمل من فنون الشر فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الخير ويموت عليه، لأن عمله الشر كان في غير رغبة منه ورضى وكان يعقبه الندم والندم استغفار والاستغفار توبة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) الآية ٢٥ من الشورى في ج ٢، حيث ختمها بقوله (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ونياتكم فيهما وما يؤول عملكم فيهما إليه، فعمل الإنسان يشاكل نفسه ويشابهها في الحسن والقبح ويناسب جوهره فيهما، فإذا كان شريفا صدرت عنه الأعمال الجميلة والأخلاق النبيلة والآداب الكاملة والأطوار الذكية والأحوال المرضية والأفكار الزكية، وإن كانت نجسة خبيثة نشأ عنه الأفعال الردية والأخلاق الفاسدة والعوائد السيئة والأمور القبيحة والأطوار الرذيلة، وهذه اللفظة مأخوذة من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير، يقال لست من شكلي
556
ولا على شاكلتي، أما بكسر الشين فمعناه الهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا منها يطلق على الآخر «فَرَبُّكُمْ» أيها الناس الذي برأكم وجعلكم هكذا متشابهين في الصور متخالفين في الطبائع والأعمال ورباكم على ما أنتم عليه وفق ما هو مدون في كتابه المحفوظ «أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى» أسد منكم وأوضح وأعدل «سَبِيلًا» ٨٤ وأحسن طريقا ومذهبا وأتباعا ومنهجا من غيره وأرضى عقلا وعملا عنده، قال تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الآية ٥٨ من الأعراف المارة، وقد جاء في الحديث الصحيح السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه، قالوا فما فائدة العمل يا رسول الله؟ قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
هذا، وقد فسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة وهي رواية عن ابن عباس، وفسرها بعضهم بالعادة لأن الطبيعة مقيدة وسلطانها على ربها ظاهر، وهذا السلطان ضابط له وقاهر، ولأن العادة محكمة ومن المشهور على ألسنة الجمهور العادات قاهرات، وفسرها بعضهم بالدين وهو دون التفسيرين الأولين وهما دون الأول، قال الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال وهو من فلاسفة الإسلام المتصدرين برأيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة. إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة، واقتضاؤها المعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجري المرض والخروج عن الحالة الطبيعية، فيكون ميلها للمعصية الكائنة على خلاف طبيعتها، مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين.
وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصّا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب، كما أن الصحة منها، ومن هذا المرأة الحامل زمن الوحام قد تأكل الطين وأشياء لا تؤكل عادة، وذلك بسبب ما يعتريها من انحراف المزاج في بداية حملها، وقد جاء في الحديث القدسي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
وجاء في الأثر كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. أي بواسطة الشياطين المخالطين له فعلا في الظاهر أو الموسوسين له معنى وخلسة
557
بما يعم شياطين الإنس والجن الذين أمرنا الله تعالى بأن نتعوذ منهم. قال تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلخ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) السورتين المارتين، وقال تعالى: (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الآية ١١٢ من سورة الأنعام في ج ٢، أو أنها كناية عن العوارض الغريبة، فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصوا الله تعالى، ولبقوا على فطرتهم، لكن مسهم الشيطان فأفسد عليهم فطرتهم الأصلية، فاقتفوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهيّ الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه:
ولولا المزعجات من الليالي لما ترك القطا طيب المنام
وإذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية، ومقتضى ذواتهم البهية، ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولهذا قيل الأنبياء أطباء، وهم أعرف بالداء والدواء. ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا بعروضها لهم ورخصة في لحوقها بهم لم يكونا يعرضان لهم ولا يلحقانهم، فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة بجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة، أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافيه لهم، فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمر آخر. وانظر إلى طبيعة الأرض التي تقتضى يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها، فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من آخر، والإنسان عند عروض فعل هذا المنافي ملتذّ متألم، سعيد شقي متلذذ، ولكن لذته ألمه، سعيد ولكن سعادته شقاؤه، وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا مخلص لكثير من الشبهات في هذا الفعل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي، وأن لكل شيء أصالة في
558
نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتيادات لا يقاضى عليه إلا هي، لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإنابة والتعذيب تابعان لذلك، فسبحان الحكيم المالك، فتثبّت أيها الرجل وكن رجلا حازما فقد زلت أقدام أعلام كثيرين كالاعلام في هذا المقام الذي لا ينجو منه إلا التائبون الجازمون بما هو كائن عند الله من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال، وإن ما هو مدون عنده أزلا للعبد لا بد وأن يدركه لا محالة، راغبا كان أو راهبا، راضيا أو ساخطا.
فنسأله تعالى أن ينور قلوبنا ويسدد أفهامنا ويثبت أقدامنا ويقنعنا بما كتب لنا ويرضينا بما قسمه لنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود من حديث صحيح: إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فتأمل هذا حق التأمل وانظر كيف يقسم حضرة الرسول في حديثه هذا الذي صدره بقوله فو الله الذي لا إله إلا هو، ثم ساقه. فتمسك به وتلقّه بالقبول وسل الله الثبات والرسوخ في الإيمان.
مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة، وبحث الروح:
واعلم أن رؤساء الاصحاب رضي الله عنهم تذاكروا فيما بينهم عن أي آية في القرآن أرجى للغفران، فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لم أر في القرآن أرجي من هذه الآية، أي التي نحن بصددها إذ لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر رضي الله عنه: لم أر أرجى من الآية التي فيها قوله جل قوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) الآية الثانية من سورة المؤمن في ج ٢، إذ قدم الغفران قبل قبول التوبة. وقال عثمان رضي الله عنه: لم أر أرجى من قوله تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية ٥٠ من سورة الحجر في ج ٢، لما فيها من إعلان المغفرة للجميع وطلب إعلانها. وقال علي كرم الله وجهه: لم أر أرجى من آية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا
559
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)
الآية ٥٤ من سورة الزمر ج ٢.
وقدمنا في سورة والضحى المارة عن جعفر الصادق أن أرجى آية في القرآن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) إلا أنه خصّها بأهل البيت فراجعها، والمراد هنا ما يعم الكل غير المشرك لورود النص فيه في الآيتين ٤٧/ ١١٦ من سورة النساء في ج ٣، وهناك اقوال سنأتي بها عند تفسير الآيات المشار بها أعلاه فراجعها، قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الذي هو مبدأ البدن الإنساني ومبدأ حياته وقوام دوامها وملاك بقائها، وإنما سألوه عن الروح لأن معرفتها من أدق الأمور التي لا يسع أحد إنكارها ولا يقدر أحد على معرفتها، لذلك فإن كل أحد يشرئب إلى التعرف عليها، توفر دواعي العقلاء إليها، وكلل الأذهان عنها، ووقوف الفكر ببابها، فمن وفقه الله علم أنها لا تعلم إلا بوحي من الله، والوحي خاص بالأنبياء، وقد ختم الله إرسالهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فيفوض أمر معرفتها إلى الله.
ويوقن ويسكت، ومن خذله الله تطرق إلى كل ما يتخيلة ليقف على صورتها ومادتها، فيرجع خاشئا، إذ لا طريق إلى ذلك. وقد زعم ابن القيم أن المسئول عنه في هذه الآية قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) الآية ٣٨ من سورة عم في ج ٢، وسيأتي في تفسيرها أن الروح هناك يطلق على القرآن وعلى اسم ملك خاص أو صنف من الملائكة أو جبريل عليه السلام، إذ لا يعلم الروح المسئول عنه في الآية المفسرة إلا الله لأنه من الغيب الذي علمه من خصائصه جل شأنه.
واعلم أن الروح كما يطلق على ما ذكر آنفا كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الشورى في ج ٢، وكما مر في الآية ١٩٢ من الشعراء، يطلق على الروح المركبة في الجسم المرادة في هذه الآية ليس إلّا والله أعلم. أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا لنسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح، فسألوه فنزلت هذه الآية.
وفي السير عن ابن عباس أيضا أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقال لهم سلوهم ما نسأل محمدا فإنهم أهل كتاب، عندهم من العلم ما ليس عندنا، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم، فقالوا اسألوه عن أصحاب
560
الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فجاءوا وسألوه، فبين لهم صلّى الله عليه وسلم القصتين الآتيتين في سورة الكهف في ج ٢ من الآية ٣ إلى ٢٦ ومن الآية ٨٢ إلى ٩٩، ولهذا نزلت هذه الآيات بمكة قبل سورتها، كما سيأتي فيها، وأبهم أمر الروح إذ لم ينزل عليه فيها شيء يبينها، وهي مبهمة في التوراة أيضا. واعلم أن ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه، فقالوا يا محمد ما الروح؟ فما زال يتوكأ على العسيب، فظننت أنه يوحى إليه، فلما نزل الوحي قال (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية، لا يصح سببا للنزول لأن الآية مكية ولم يستثنها أحد من العلماء، على أنه يصح أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجابهم بهذه الآية لأنها كانت نازلة عليه وهو في مكة، على أنه يتمثل ببعض الآيات المكية في المدنية عند مناسبة تتعلق بها، أما سبب نزولها فهو ما سمعته عن ابن عباس الحديث الأول، ومما يدل على صحة عدم النزول في حديث ابن مسعود الآنف الذكر قوله فيه: فظننت أنه يوحى إليه، أي عند ما سكت حضرة الرسول، على أن حالة الوحي لا تخفى على أحد، ويوشك أن سكوته كان لتدبر الآية وهيبة لكلام الله، ويؤكد هذا عدم قوله في هذا الحديث فنزلت، بل قال فلما نزل الوحي قال (ويسألونك) إلخ، مما يدل على أن كلمة فلما نزل الوحي من عند ابن مسعود رضي الله عنه، وعليه يكون المراد من قوله (فلما نزل الوحي) فلما تذكره وتدبره والكلام يحتمل هذا. وما قاله بعض المفسرين من أن هذه الآية نزلت مرتين ليجمع بين الحديثين فغير سديد، إذ لم يثبت أن شيئا من القرآن نزل مرتين، وقدمنا في مطلع تفسير سورة الفاتحة المارّة وفي أول سورة المدثر المارة أيضا عدم صحة نزول شيء من القرآن مرتين، وفيه بحث نفيس فراجعه.
«قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم «الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» لم يعط علمها أحدا من خلقه، لأنها مما استأثر الله بعلمه كالخمسة المذكورة آخر سورة لقمان في ج ٢، وإن معلومات الله التي اختص بها نفسه لا يحيط بها علم البشر، إذ ليس
561
لها نهاية، راجع الآية ٢٧ من سورة لقمان أيضا، وإذا كان الله تعالى لم يطلع رسوله على معنى الروح وهو حبيبه وصفيّه من خلقه، فما بال الناس يبحثون عنها والتعرف إليها؟ وغاية عقول العوالم فيها عضال، ونهاية سعي الفلاسفة فيها ضلال، روي عن أبي هريرة أنه قال: لقد مضى النبي صلّى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيتها بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه، والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك مخلوق مجاور له، فعليه أن يستدل به على أنه عن معرفة خالقه أعجز. ولما أيسوا من معرفة الرّوح اختلفوا في معناها، فقيل إنه جسم دقيق هوائي متشرب في كل جزء من الحيوان، وقيل هو عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم، وقيل هو الدم لأن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم، وقيل هي النفس لأن الإنسان يموت بانحباس نفسه، وقيل هي اعرض، وقيل هي جسم لطيف بمثابة الإنسان، وقيل هي معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بهذه الصفات جميعها، وإذا خرج منه ذهب عنه الكل فلا يوصف بشيء منها، وسبب هذا الاختلاف ناشيء عن عدم المعرفة بحقيقتها، لأن المحدود إذا كان لا يعرف كيف يحد وغير المحدود بما يميّزه، لا يمكن أن يعرف، وإذا كان كذلك فالأولى أن يوكل علم حد الروح إلى الله تعانى كما وكل هو جل شأنه علمها إليه، وهذا هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة «وَما أُوتِيتُمْ» أيها الناس «مِنَ الْعِلْمِ» بشيء من مكونات الله تعالى «إِلَّا» علما «قَلِيلًا» ٨٥ جدا لا يذكر في جنب معلوماته. واعلموا أن ما أوتيتم من العلم لا يمكن تعلقه باحتمال هذا الذي هو من خصائصه، وفي هذه الجملة معنى النهي عن السؤال عن الروح لعدم تعليمه إلى الرسول.
ومما يدلّ على أن هذه الآية مكّية لا مدنية، ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد إنا نعجب من قولك، ألم يبلغنا عنك أنك تقول:
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية أفتعنينا أم قومك؟ قال كلا عنيت. قالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء، وتتلو (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
562
خَيْراً كَثِيراً)
والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها، فقال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين من سورة لقمان أيضا. ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة. واعلم أن معنى كون الروح من أمر الله أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر، مبدعة من غير مادة، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له:
(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية ٢٥ من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة. وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (وتفسيره ما تقدم) تستفيدونه من طرق، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما. هذا، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، يدل عليه قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية ٢٩ من سورة الحجر في ج ٢، وقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) الآية ١٧٠ من سورة النساء في ج ٣، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية. ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنا النذير العريان) ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورة الرحمن) - وفي رواية على صورته- وقوله عليه السلام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات، قربا لا يعرف كيفيته، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق
563
الأجسام. واعلم أنه ليس بوسع الإنسان وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها ونوع تكوينها، فكيف يعلم حقيقة الروح المحببة للجسد بأمر الله المحركة له بالإرادة والاختيار التي إذا انفصل عنها مات وانقطعت شعوره وإدراكاته كلها؟
وكذلك لا يقدر أن يعرف كيفية تعلقها بالبدن ومفارقتها له حالة النوم، ثم لا بد لنا أن نبحث في حقيقة الإنسان والروح مما لخصه العلماء جزاهم الله عنا خيرا، ونأخذ أصح الأقوال في ذلك ونترك ما وقع من الأخذ والرّد فيها، وهذا البحث الأول في حقيقة الإنسان. اعلم وفقك الله أن الروح في الجسم الإنساني وغيره عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك، مختلف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والدهن بالزيتون والسمسم، والزبد في اللبن، والدهن في الجواز واللوز والبطم وما أشبهها، والهواء في البدن والنار في الفحم، وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء، لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق، مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا يقبل الفيض الإلهي لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة. ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان، إذ أن هذه السراية تفطن الإنسان بأن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها منها ليس إلا، وهذا غاية نهاية ما يمكن أن يتكلم فيه عن الروح، إذ الاطلاع على كنهها أمر خارج علمه عن طوق البشر، وليس له أن يبحث عنه، لأن البحث بأكثر من هذا عقيم، وعليه فإن الروح عبارة عن ذلك الجسم الموصوف أعلاه.
البحث الثاني في حدوث الروح وقدمه، واعلم هداك الله أن المسلمين أجمعوا على أن الروح حادثة حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم، والقول الصحيح أن حدوثها قبل حدوث البدن، لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. فإن هذا الحديث يشير إلى الإخبار بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، لأن معنى هذا الحديث الشريف أن ما تعارف منها عند خلقها الأول ائتلف عند خلق أجسادها، والعكس بالعكس. ومن قال إن الأرواح في برزخ منقطع العناصر، فإذا استعد جسد لشيء منها هبط اليه، وإنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة
564
كابن حزم، فلا دليل له على ذلك. وليس في قوله صراحة خلق الجسم قبل الروح، بل يفيد ظاهره أن الروح مخلوقة قبل، لقوله في برزخ. وإذا كان القول عاريا عن الدليل كهذا فلا محل للأخذ به، بل الأخذ بالقول الأول المعتمد على قول الرسول صلّى الله عليه وسلم. البحث الثالث، هل الروح والنفس شيء واحد أم لا؟ اعلم رعاك الله أن أكثر العلماء قالوا إن النفس والروح شيء واحد، لما جاء في الأخبار اطلاق أحدهما على الآخر، بدلالة ما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة أن المؤمن حينما ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يودّ لو خرجت نفسه، والله تعالى يحب لقاءه، وإن المؤمن لتصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا. فهذا يدل دلالة ظاهرة على أن الروح والنفس شيء واحد، وقال ابن حبيب هما شيئان فالروح هو النفس المترددة في الإنسان، والنفس أمر غير ذلك، لها يدان ورجلان، ورأس وعينان، وهي التي تلتذّ وتتألم، وتفرح وتحزن، وتتوفى في المنام، فتخرج وتسرح وترأى الرؤيا، ويبقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود إليه. واستدل بقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية ٤٣ من سورة الزمر في ج ٢، وسنأتي على ما يتعلق فيها عند تفسيرها في محلها إن شاء الله.
البحث الرابع: هل تموت الروح أم لا؟ اعلم علمك الله أن جماعة من العلماء الأعلام قالوا إنها لا تموت استنادا لما جاء في الأحاديث الصحيحة الدالة على نعيمها وعذابها بعد مفارقتها الجسد إلى أن يرجعها الله إليه عند البعث، لأن القول بموتها يلزم منه انقطاع النعيم والعذاب، وموت الروح المذكور في قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية ١٨٥ من البقرة في ج ٣، ومثلها في سورة الأنبياء الآية ٣٥ ج ٢ جار على القول بأن النفس هي الروح ويكون بمفارقتها الجسد، وعلى القول بأن النفس غير الروح كما علمت آنفا فلا دليل بالآية على موتها، وما جاء في تفسير قوله تعالى (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الآية ١١ من سورة المؤمن في ج ٢ بأن الموتة الأولى للبدن، والثانية للروح على رأي من فسر بذلك، غير مسلم.
وسيأتي لبحثه بيان في تفسيرها إن شاء الله فراجعه. البحث الخامس في تمايز الأرواح
565
بعد مفارقتها الأبدان: اعلم نور الله قلبك أن الشيخ ابراهيم الكوراني قال في بعض رسائله إن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها، وإلى هذا الإشارة بما جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود (إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر)، وبما أخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى الله عليه وسلم (إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير الجنة)، أي أنها تكون في أبدان مثالية على تلك الصور، ويؤيد هذا رواية ابن ماجه عن ابن مسعود (أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر)، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول (إن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة)، وما جاء في إنكار بعض المتكلمين لهذا بزعمهم أنه يصير متعلق روحين ببدن واحد وهو محال. ناشيء من عدم التأمّل والتثبّت، لأن ما قررناه لا يصيّر للطائر روحا غير روح الشهيد، بل هي نفسها، لأن الأبدان المثالية ليست كالأبدان المحسوسة من كل وجه بل من حيث الصورة فقط، على أنه لم يلزم من ظاهر الأحاديث محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه، تدبر.
السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان: اعلم بارك الله فيك ونفع بك ذويك أنه قد صح أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم كان آخر كلامه: اللهم الرفيق الأعلى.
وقال تعالى (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) الآية ١٨ من سورة المطففين في ج ٢، فعلى هذا يكون مستقر أرواح الأنبياء في عليين، وقد أخرج الإمام مالك رحمه الله عن كعب بن مالك مرفوعا إنما نسمة المؤمن (أي ذريته بدليل الأحاديث الصحيحة السابقة، لأن الأحاديث كالقرآن من حيث أنها يفسر بعضها بعضا) طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده، وخرجه النسائي من طريق مالك، وخرجه بن ماجه، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء المار ذكرهم في حديث مسلم عن ابن مسعود، ومستقر أرواح الكفار في سجّين، قال تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) الآية ٧ من المطففين أيضا. وما قاله ابن حزم من أن أرواح الموتى أقبية قبورهم
566
مستدلا بقوله صلّى الله عليه وسلم وهو ما رواء عنه عمر رضي الله عنه: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى. وبأنه صلّى الله عليه وسلم حين زار الموتى قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين، إلخ لا يتجه، لأن الأرواح حينما كانت لها اتصال بأجسادها لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، وبهذا الاتصال تردّ السلام وتعرف المسلم عليها ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، راجع الآية ٤٦ من سورة الزمر في ج ٢، على أنه لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودتها إليه في أسرع من البصر، وان حديث البراء بن عازب في صفة روح المؤمن الذي يقول فيه (فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين، ويقول الرّب ردّوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. راجع تفسير الآية ٥٤ من سورة طه المارة. فهو ليس نص في جعل روحه في فناء قبره، وما فيه من الإشارة لا تعارض الأحاديث الكثيرة الصريحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى منها خلقناكم إلخ الآية هو باعتبار الأبدان لا الأرواح، ولا شكّ أيضا أن أحوال الأرواح مختلفة، قال النسفي في بحر الكلام إن الأرواح على خمسة أقام الأول أرواح الأنبياء عليهم السلام تأكل وتشرب وتتنعّم في الجنة نهارا وتأوى ليلا إلى قناديل تحت العرش، الثاني أرواح الشهداء تكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي أيضا إلى قناديل كأرواح الأنبياء، الثالث أرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة فقط، الرابع أرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، الخامس أرواح الكفار في سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة، وهي متصلة بأجسادها تعذّب وتتألم، أجارنا الله وحمانا. قال الإمام الفخر إني أعجب كل العجب ممن يقرأ هذه الآيات ويروي هذه الأحاديث ثم يقول توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح، وفي قوله هذا رحمه الله ردّ على حديث أبي هريرة المتقدم ذكره آنفا بعد تفسير (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولهذا البحث صلة في الآية ٤٢ من سورة الزمر في ج ٢
567
هذا وقد علم مما تقدم أن أرواح الأنبياء والشهداء ممتازة على أرواح سائر البشر، وهو كذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال إن أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ولقوله تعالى (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الآية الاخيرة من سورة الفجر في ج ٢، وهذا الخطاب متوجّه إلى هذه الروح الزكية وقت الموت لكونها راضية مرضية بما يدل على أن هذا الخطاب لجسد حي حياة لانعرفها، وهذه الحياة مختص بها الأنبياء والشهداء لقوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) الآية ١٧٩ فما بعدها من آل عمران ج ٣ وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية لتتميم هذا البحث إن شاء الله.
مطلب في حفظ القرآن ثم رفعه بالوقت الذي قدره له الله.
قال تعالى «وَلَئِنْ شِئْنا» يا سيد الرسل «لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» فنمحوه من قلبك ومما كتب عليه من قبل كتبة الوحي فلا نبقي له أثرا أبدا «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ» بالقرآن الموحي إليك الذي هو شفاء ورحمة لأهل الأرض المصدقين به والذي ثبتناك به من أن تفتتن بأقوال قومك ولا يمكنك أن تحضر «عَلَيْنا وَكِيلًا» ٨٦ يستطيع استرداده منا وإعادته إليك ولا تقدر أن تجد من يتوكل لك علينا بذلك من متعهد أو ملزم البتة «إِلَّا» أن يتفضّل عليك ربّك فيرحمك «رَحْمَةً» عظيمة خاصة بك نازلة عليك «مِنْ رَبِّكَ» تتمكن بها من إبقائه وعدم نزعه من الصدور ومحوه من السطور وهذه منّة عظيمة جليلة منّ الله بها عليك، وجعل ما أوحاه إليك محفوظا، وتعهد لك بحفظه بقوله جل قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية ٩ من سورة الحجر في ج ٢، وتعهد لك أيضا بعدم إدخال زيادة عليه وحذف شيء منه بقوله عزّ قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الآية ٤٢ من سورة فصلت في ج ٢، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل، له دويّ حول العرش كدويّ النحل، فيقول الرّب مالك؟ فيقول يا رب أتلى فلا يعمل بي. وقال عبد الله بن مسعود اقرأوا القرآن
568
قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع. قيل هذه المصاحف ترفع فكيف بما في الصدور؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون مما في المصاحف شيئا، ثم يفيضون في الشعر. يعارض هذا ما جاء في الحديث الآخر إن الله تعالى لا ينزع العلم انتزاعا من صدور الرجال، وإنما يفقد بموت العلماء، وهو أصوب، لأن الله أكرم من أن يمنّ على عبده بنعمة أنعمها عليه ثم ينزعها منه، لهذا فإن حمل الحديثين المارين على هذا أولى وأوفق. أللهم إلا أن يقال العلم غير القرآن فإنه يرفع رفعا على ما جاء في الحديثين، والعلم يكون رفعه بموت العلماء، وهو الأظهر والله أعلم، «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل الذي من جملته إبقاء القرآن راسخا في صدرك ثابتا في الصحف باقيا يتلى إلى الوقت الذي قدره لرفعه، وقد تفضل عليك به وبما سيبيته بعد وما لم يعلم فضلا «كَبِيراً» ٨٧، من ربّك الذي أنعم عليك به وجعلك خاتم أنبيائه وسيد ولد آدم، وأعلى كلمتك على جميع خلقه، وأيدك بنصره، وقواك بملائكته، وأعطاك الشفاعة الكبرى، وخصّك بالمقام المحمود والحوض المشهود، ونعما كثيرة تفضل بها عليك في الدنيا والآخرة. أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدرس الإسلام كما يدرس وشيء الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فتحن نقولها. ولا يبعد أن يكون هذا بموت العلماء والقراء وعدم معرفة الباقين القراءة، وكذلك تأويل ما يأتي بعد إذ ليس إزاء هذه الصراحة إلا التسليم واعتقادنا بأن الله لا يسلب نعمة من عبده بعد أن تفضّل بها عليه إلا إذا كان هذا العبد داخلا في قوله تعالى:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ٥٢ من سورة الأنفال ج ٣، وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ١٤ من سورة الرعد في ج ٣، وعليه يكون الجزاء من جنس العمل، لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ونسيهم، فجعلهم متروكين لا يؤبه بهم. وأخرج ابن
569
مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه، فيسرى عليه ليلا لا يترك في قلب ولا رق منه حرف إلا ذهب به، فقيل يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال يسرى على كتاب الله فيرتفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة ولا من الإنجيل والزبور، فينزع من قلوب الرجال، فيصبحون في الضلال لا يدرون ما هم فيه. والسرى المشي آخر الليل، ومعنى يسرّى أي يرسل الله تعالى في آخر الليل ما به يرفع القرآن من صدور الناس، بدليل قوله فيصبحون في الضلال إلخ الحديث. هذا، وقدمنا في المقدمة بحثا يتعلق بحفظ القرآن وتهديد من ينساه فراجعه فلعل فيه إيماء إلى هذا. ولما قال النضر وأضرابه من مشركي مكة عند سماعهم تلاوة القرآن من سيدهم سيد ولد عدنان لو نشاء لقلنا مثل ما يقول محمد يعنون به القرآن، وقد أخبر الله نبيه بذلك بقوله جل قوله: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية ٣١ من الأنفال في ج ٣، وهذه آية مكية مستثناة من سورتها المدنية أكذبهم الله تعالى بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الأفاكين المتهورين «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ» المنزل عليك من لدنّا «لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» أبدا ولا يقدرون على ذلك البتة «وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» ٨٨ معاونا ومؤازرا في إرادة الإتيان بمثله، لأنه لا يشبه كلام الخلق وهو في أعلى طبقات البلاغة معجزا في نظمه معجزا في تأليفه، فضلا عن إعجازه بالإخبار عن الغيوب مما كون الله تعالى وأظهره للناس، ومما لم يظهره بعد. ولهذا البحث صلة في الآية ٧٨ من سورة يونس والآية ١٣ من سورة هود في ج ٢ والآية ٢٤ من سورة البقرة في ج ٣. وجملة لا يأتون جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة له، وسادّ مسدّ جزاء الشرط، ولو لاها لكان لا يأتون جزاء الشرط، وان كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا جاز الرفع في الجواب، كما في قول زهير:
570
وقيل لا يأتون جواب قسم محذوف ولولا اللام الموطئة للقسم لجاز أن يكون جوابا للشرط كما في البيت. على أن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده. قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وكرّرنا فيه من العبر والوعد والوعيد والأحكام والقصص والأخبار والمعاني البديعة والأمور الغريبة والقضايا الغيبية، وجعلناه معجزة دائمة لا تنقطع إلا عند قرب خراب هذا الكون ليؤمنوا به «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» ٨٩ به وإباء عن قبوله ونفورا منه، وهذا أبلغ من إبائهم في عدم الإيمان به لاحتماله هذا المعنى وزيادة أنهم لم يرضوا بخصلة ما سوى الكفر به «وَقالُوا» عند ظهور عجزهم عن الإتيان بمثله، متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه ومما هو محال عقلا «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ» في هذا القرآن ولا في غيره من الآيات «حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» ٩٠ عينا غزيرة من الماء نستقي منها كلنا وأنعامنا ودوابنا ونزرع عليها، وعلى أن تكون عين هذا الماء من أراضيهم المقيمين بها لأنها قليلة الماء
«أَوْ تَكُونَ لَكَ» إذا لم تأتنا بذلك الماء «جَنَّةٌ» مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها» ٩١ كثيرا بين تلك الجنة هائلا، وهذا على وجه الخصوص له كالتي بعدها خلافا للطلب الأول، لأنه على وجه العموم إلا أن الاقتراح الأول لهم والثاني له، ولكن وجود أو يبعد هذا المراد «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ» ونسبت إلى ربك بما تلوته عنه وهو (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) الآية ١٩ من سورة سبأ في ج ٢، وهذا يدل على أن هذه الآية نزلت قبل سورتها، بأن تصبها «عَلَيْنا كِسَفاً» قطعا متفرقة عظيمة «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» يقابلونا فنراهم عيانا بأم أعيننا ويشهدون لك بصدق دعوتك، إذ ادعيت أنهم واسطة بينك وبين ربك الذي ادعيت رسالته «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» مزين مرصّع بالذهب والفضة والأحجار الكريمة «أَوْ» تأتي لنا بآية ملجئة لنا على الإيمان قاسرة لا نستطيع ردّها، وهي بأن «تَرْقى فِي السَّماءِ» على مرأى منا «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ» بأن تصعد إليها فقط، لأنا لا نصدّق ذلك ولا نعترف
571
لك به ولو رأيناك عيانا تصعد إليها لانه قد يكون صوريا بما تخيله علينا وتسحرنا به فتزيغ أعيننا عن أن نرى الحقيقة في ذلك، بل نبقى منكرين جاحدين رقيّك «حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا» من السماء معك «كِتاباً نَقْرَؤُهُ» بلغتنا، ونرى فيه ما يدلّ على نبوتك، وإذا لم يكن كذلك فلا نؤمن لك أيضا بمجرد كتاب تأتينا به، لأنك قد تموّه علينا بما ليس بشيء وتسميه كتابا، واعلم أن السماء كل ما علاك فأظلك ويطلق على كل مرتفع، قال الشاعر:
وإن أتاه قليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
وهم لا يريدون هذا وإنما يريدون السماء الحقيقية التي ذكرها لهم في سورة ق المارة في الآية ٦ وهي قوله تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) والتي أخبرهم بأنه عرج إليها ووصف لهم ما فيها كما مر أوائل هذه السورة، فيما أكرم الخلق «قُلْ» لهؤلاء الحمقى «سُبْحانَ رَبِّي» أنزهه عما لا يليق بقدسيته عن هذه المقترحات المستحيلات واستغفره عن طلب شيء منها، لأنه إذا كان على سبيل الفرض طلب تفجير الأرض بالأنهار أو تخصيص الجنة أو البيت المزخرف أو اجراء الأنهار بينها ممكنا فلا يمكن طلب إسقاط السماء قطعا متفرقة ولا مجتمعة، ولا الإتيان بالخالق، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا الإتيان بالملائكة الآن، وإن كان هذا قد يقع يوم القيامة حقا لا مرية فيه بأمر الله تعالى وقدرته فقط كما جاء في الآيات المارة في سورة الفجر وفي غيرها من السور المارة والآتية، أما أنا فإني إنسان مثلكم عاجز عما يعجز عنه مثلي وما تظنون بي «هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً» أفعل ما يفعله البشر وأعجز عما يعجز عنه وإنما خصّني ربي بأن أكون «رَسُولًا» ٩٣ إليكم أبلغكم آياته فآمركم بالخير وأنها كم عن الشر، وجعلني من بينكم تعرفون حسبي ونسبي، كما خصّ الله الأنبياء قبلي واختارهم من أقوامهم، وإن ما اقترحتموه خارج عن طوق البشر والرسل منهم الإتيان به من عند أنفسهم، إلا ما شاء الله أن يظهره على يدي من المعجزات كأمثال الرسل السابقين، وإن إتيان المعجزات بيد الله تعالى إن شاء أوقعها على أيدي رسله، وإن شاء منعها. وسبب نزول هذه الآيات أن مشركي قريش استدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
572
وقالوا له إذا كنت تريد أن نؤمن بك ونصدقك ونجيب دعوتك فأتنا بكذا إلخ، اقتراحاتهم المذكورة المنطوية على العناد والمنفطرة عن العتوّ، وكان منهم من اقترح ما مر ذكره في الآيات ٧ و ٨ و ٢٠ و ٢١ من سورة الفرقان المارة، فلما رأى أباطيل أقوالهم هذه تركهم وقام، فتبعه عبد الله ابن أمية المتصدر لهذه المفترحات فنزلت هذه الآيات فيه وفي قومه. وإنما نسب القول إليهم جميعا لأنهم أصغوا لمقترحاته هذه ورضوا بها وكلفوا النبي بالإجابة عنها، ولهذا جاء الكلام بلفظ الجمع.
وخرج هذا سعيد بن منصور عن ابن جبير، وكان ذلك الخبيث عبد الله بن أمية كرر هذا الكلام على حضرة الرسول، وقال له إن قومك عرضوا عليك ما عرضوه من الاقتراحات فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله ربك فلم تقبل، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فو الله لا نؤمن بك أبدا ولو فعلت ما طلبناه منك ولا نصدقك أبدا، ثم انصرف. وقد أسف صلّى الله عليه وسلم لما رأى من مباعدتهم عن الإيمان بعد نزول هذه الآيات وإعراضهم عنها. هذا وما قيل إن الله تعالى أنزل على هؤلاء المقترحين الآيتين ٣٢/ ٣٣ من الرعد في ج ٣ وهما: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الآية فغير وجيه لأن سورة الرعد مدنية ولم يستثنى منها هاتان الآيتان ولا غيرهما، وما نحن فيه من الوقائع في مكة، وسنأتي على ما يتعلق فيها في محلها إن شاء الله في القسم المدني، قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ» الذين حكيت أباطيلهم آنفا من «أَنْ يُؤْمِنُوا» بربهم ويصدقوا رسوله «إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى» على يديه أن يهتدوا بهديه ويسترشدوا برشده ويتوصلوا إلى معرفة توحيده ويؤمنوا به «إِلَّا أَنْ قالُوا» جهلا منهم وعنادا بمن أرسل إليهم على طريق السخرية والاستهزاء «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» ٩٤ إلينا مثلنا ألّا يبعث ملكا من الملائكة يدعونا إليه لنطيعه ونؤمن به، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الباغين «لَوْ كانَ» على سبيل الفرض والتقدير «فِي الْأَرْضِ» التي أنتم عليها «مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ» فيها مثلكم «مُطْمَئِنِّينَ» آمنين متوطنين كآحاد الناس ليس لهم أجنحة
573
يطيرون بها إلى السماء فيسمعون ما يقع فيها ويعلمون ما يجب عليهم، وقد مست الحاجة لإرسال من يرشدهم «لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» ٩٥ مثلهم من جنسهم ليميلوا إليه، لأن الجنس لا يميل إلا لجنسه وأنتم بشر فأرسلنا إليكم بشرا من جنسكم، لأن البشر أيضا لا يميل إلا لجنسه، فلا يميل إلى الملك، والملك لا يميل إلى البشر ولا يأتلف معه لذلك لم نرسل ملكا، وهذا لا ينافي بعثته صلّى الله عليه وسلم إلى الجن، لأنه متى صح فيه صلّى الله عليه وسلم المناسبة الصحيحة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم، كيف وهو صلّى الله عليه وسلم نسخة الله الجامعة وآيته الكبرى الساطعة، فضلا عن أن الجنّ تشكلوا اليه عليه الصلاة والسلام بهيئة البشر كما تشكل له رئيس الملائكة السيد جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وبصورة اعرابي، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه حينما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وامارات الساعة، فعلى هذا لو أنزل الله تعالى لهم ملكا وتشكل بهيئة البشر فلا يجد شيئا، لأنهم يرونه بشرا مثلهم ويقولون ما قالوا ولو جاءهم بصورته الحقيقية لما أطاقوا مقابلته، بل لصعقوا أو ماتوا لأن حضرة الرسول مع ما هو عليه من الكمال والتأييد من الله لم يطق مقابلة جبريل بصورته كما مر في الآية ١٨ من سورة والنجم المارة وفي الآية ٢٣ من سورة التكوير أيضا ومما يؤيد إرساله صلّى الله عليه وسلم إلى الجن قوله تعالى (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الآية الأولى من سورة الفرقان المارة وما سوى الله تعالى كله عالم وخبر مسلم، أرسلت إلى الخلق كافة والجن من الخلق راجع الآية الأولى من سورة الجن المارة فما بعدها، أما محبة الملائكة له صلّى الله عليه وسلم مع انه من غير جنسهم فإنما هي بإلقاء الله تعالى في قلوبهم واعلامهم بأنه صلّى الله عليه وسلم وسيلة لهم فيما يسألونه منه جل جلاله، ولما جاء في الحديث إذا أحب الله عبدا نادى جبريل فقال له إني أحب فلانا فأحبوه، فينادي جبريل في الملائكة إن الله يحب فلانا فأحبوه ويلقي له القبول في الأرض، فيا أكرم الرسل إن لم يصدق هؤلاء المعاندين الجاحدين رسالتك فأعرض عنهم الآن و «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» على أنه أرسلني إليكم وخصني من بينكم برسالته، وقد اختارني من الأزل
574
لذلك وهو شهيد على أني قمت بما أمرني به حسبما أمرني، وعلى أن أبلغكم ما أرسلني به إليكم، وهو شهيد أيضا على أنكم كذبتموني
فهو الحكم العدل «بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على ذلك كله «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بظواهر المرسل والمرسل إليهم «بَصِيراً» ٩٧ يبواطنهم وخوافي أمورهم، وانه يجازي كلا على عمله.
قال تعالى تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم واعلاما بأن ما كان مطابقا لإرادته أزلا سيكون في الواقع لا محالة، وهو «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» بهدايته على يد من شاء من خلقه «وَمَنْ يُضْلِلْ» منهم فهو الضال مهما أراد الناس هدايته فلن يقدروا لهذا يقول الله تعالى «فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ» ينصرونهم علينا أو يقودونهم إلى الهدى «مِنْ دُونِهِ» أي الهادي الحقيقي بل يبقى ضالا على ضلاله حتى يموت.
مطلب الحشر على الوجوه وبقاء عجب الذنب:
«وَنَحْشُرُهُمْ» أي هؤلاء الظالمين «يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ» منكوسين حالة كونهم «عُمْياً» لا يبصرون «وَبُكْماً» لا يتكلمون «وَصُمًّا» لا يسمعون كما كانت حالتهم في الدنيا، أي كما أن لم ينتفعوا بحواسهم هذه في الدنيا لما فيه خيرهم لم ينتفعوا فيها في الآخرة أيضا راجع الآية ٢٤ من سورة الفرقان المارة، وهؤلاء الذين هذا وصفهم «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» يصيرون إليها بعد الموقف حالة كونها مسعرة «كُلَّما خَبَتْ» هدأ لهيبها وولى سعيرها وخمدت شعلتها «زِدْناهُمْ سَعِيراً» ٩٨ وقودا ليزداد بلاؤهم فيها «ذلِكَ» حشرهم على الصورة المارة فاقدي منافع جوارحهم حالة ازدياد إيقاد النار لزيادة عذابهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا» برسلنا وكفروا أيضا «بِآياتِنا» القرآنية والآفاقيّة الدالة على صحة الاعادة بعد الموت وعلى صدق الرسالة بذلك «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» ٩٩ تقدم تفسيرها في الآية ٤٩ المارة أي مستأنفين الحياة مرة ثانية كما كنا، وما قيل إن المعنى يخلق الله غيرهم يعبدونه ويعترفون بربوبيته على حد قوله تعالى: (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) الآية الأخيرة من سورة محمد ج ٤، وقوله تعالى (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية ١٧ من سورة فاطر المارة، لا يتجه هنا لأنه لا يلائم السياق كما لا يخفي على ذوي الأذواق، وآية فاطر
575
هذه مكررة في الآية ١٩ من سورة إبراهيم والآية ١٣٢ من سورة الأنعام في ج ٢ لفظا ومعنى والآية ١٣٢ من سورة النساء في ج ٣، فرد الله تعالى عليهم بقوله «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» وهما أكبر وأعظم من خلقهم كما سيأتي بيانه في الآية ٥٧ من سورة المؤمن في ج ٢ «قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» من الإنس الذين هم أضعف من ذلك «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا» لا يتجاوزونه محققا «لا رَيْبَ فِيهِ» ولا ينبغي أن يشك فيه «فَأَبَى الظَّالِمُونَ» المتوغلون في الظلم «إِلَّا كُفُوراً» ١٠٠ وجحودا بتلك الآيات الواضحات وهؤلاء هم الذين سألوا الاقتراحات المار ذكرها ومن حذا حذوهم داخل معهم، ولا تعد هذه الآية مكررة بسبب اختلاف اللفظ عن الآية الأولى ٨٩ وقدمنا في الآية ١٣٧ من سورة طه ما يتعلق بحشر الأعمى فراجعه. هذا، وقد أخرج الشيخان عن أنس قال: قيل يا رسول الله كيف يحشر الله الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف مشاة على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك أو سحبا عليها قال تعالى (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) الآية ٤٨ من سورة القمر المارة، ويشهد لهذا ما أخرجه أحمد والنسائي عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية ونحشرهم إلخ، فقال حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أنواع: نوع طاعمين كاسين راكبين، ونوع يمشون ويسعون، ونوع تسحبهم الملائكة على وجوههم. وما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم. وليعلم أن هذه الآية في حال أهل النار بعد دخولهم فيها، وكذلك الأحاديث ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى: (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الآية ٥٥ من النساء في ج ٣، لأن تبديلها يكون بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها، لأنها إذا أحرقت وبقيت لا يحسون بألم العذاب والله تعالى يقول (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فوافقت هذه الآية قوله تعالى هنا (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) الآية المارة في المعنى
576
واعلم أن الله تعالى يعدم هذه الذرات بالكلية ثم يعيدها نفسها كما كانت. ولا يرد هنا بأن إعادة المعدوم محال، لأن المعيد لها الذي خلقها من العدم أولا فليس محالا عليه أن يعيد ما خلق إلى حالته الأولى. وما جاء في حديث الصحيحين: ليس في الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، منه خلق الخلق يوم القيامة. وفي رواية مسلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب. وصحح المزني أنه يفنى لقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الآية ٢٦ من سورة الرحمن في ج ٣، وعجب الذنب شيء على الأرض وعليه يكون تأويل الحديث أن كل الإنسان يبلى
بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت والخلق منه والتركيب يمكن بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه، وبذلك قال ابن قتيبة. قال تعالى «قُلْ» يا محمد لقومك وغيرهم «لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي» من المطر والرزق والنعم الكثيرة من خزائنه الغير متناهية إذ لا يعلمها غيره.
واعلم أن إن أنتم هنا مرفوع بفعل يفسره الفعل بعده لأن لولا تدخل على الأسماء أي لو تملكون أنتم إلخ وهي حروف امتناع لا متناع بخلاف لولا فهي حرف امتناع لوجود، وعلى هذا قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، أي لو لطمتني غير ذات سوار، وقول المتلمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي جعلت لهم فوق العرانين حيسما
وقول أبي جهل حين قتل ببدر: لو غير أكار قتلني هذا. فمن جعل أنتم مبتدأ فقد أخطأ لأنه فاعل كما علمت. قال تعالى «إِذاً» أي لو ملكتم خزائن رحمة الله «لَأَمْسَكْتُمْ» على الناس أرزاقهم شحا بها عليهم فلم تعطوا أحدا منها شيئا «خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» مخافة النفاد والخلاص لشدة حرصكم مهما كان مالكم كثيرا «وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» ١٠١ شحيحا جدا يبخل على نفسه ويبخل على غيره أيضا من باب أولى. هذا، ولا يقال إن بعض الإنسان جواد فكيف جاء في هذه الآية التعميم وقد قال في حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
577
له راحة لو أن معشار جودها على البر كان البر أندى من البحر
وكان أكثر آل البيت كريما وليسوا بأهل دنيا، ويصدق عليهم قول الشافعي رحمه الله:
وهم ينفقون المال في أول الغنى ويستأنفون الصبر في آخر الفقر
إذا نزل الحي الغريب تقارعوا عليه فلم يدر المقل من المثري
لأن المقصود الأكثر من جنس الإنسان بخيل. وليعلم أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم غير داخل في هذه الآية المخاطب بها بلفظ الجمع، لأن الله تعالى يقول لحضرته قل لهم ذلك، أما غيره فإن الأصل في الإنسان الشح، لأنه خلق حينما خلق محتاجا لكل شيء فيمسك ما تصل إليه يده لنفسه ولأن بعض الكرم يكون منه السمعة والرياء ونشر الصيت، وقد يكون ابتغاء مرضات الله، وأهل هذا قليل وكل خير في القليل، وفي القليل بحث نفيس فإذا أردت أن تقف عليه فراجع الآية ٧٣ من سورة النمل المارة، ووجه مناسبة هذه الآية مع ما قبلها أن المشركين المشار إليهم أعلاء لما اقترحوا على حضرة الرسول طلب الينبوع والأنهار كان لتكثير أرزاقهم واتساع الدنيا عليهم من وجه وتعجيزا للرسول من وجه آخر، وهو المراد إذ أهمهم شأنه بعد أن رأوا آيات الإسراء والمعراج وشاع ذكره في الآفاق أكثر من ذي قبل، فبين الله تعالى في هذه الآية أنهم لو أعطوا ذلك وملكوا خزائن الأرض ومفاتح رحمة الله لبخلوا وشحوا ولم ينفعوا أحدا، وهذا غاية في التشنيع عليهم بالبخل، وأنه كما وصفهم بالآية الأولى بأنهم منكبون على الكفر، وصفهم في هذه أنهم أيضا متلبسون بالشح، وهما صفتان مذمومتان ضرر أولاهما قاصر عليهم، وضرر الأخرى متعد للغير. هذا، وبالجملة فإن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج من عهدة الواجب، فكان إنفاقه في الأصل بمقابل عوض أيضا، فكان بخلا حقيقة، والمراد بهذا الإنسان الجنس فيشمل جميع أفراده، وإذا أريد به المعهود بأن اعتبرت ال فيه للعهد يكون المراد به الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا.. الآية السابقة، والأولى جعله عاما ليدخل في مفهومه هؤلاء وغيرهم،
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكاه من التعنت والعناد تجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم شرع يسليه بما جرى لأخيه موسى عليه السلام مع فرعون اللعين وما صنع بفرعون وقومه
578
لعدم إيمانهم بنبيهم إعلاما لحضرته بأنه سيكون مصير من لم يؤمن من قومه به مثل مصيرهم، فقال تعالى جده «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» تقدم بيانها في الآية ١٧٢ من الأعراف مفصلة فارجعها. وهذه التسع وقعت في حق القبط قبل خروجهم من مصر أما الآيات الخاصة في بني إسرائيل، فقد وقعت بعد ذلك وهي كثيرة، قال ابن رشد سألت اليهود حضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التسع آيات المبينات الواردة في القرآن، فقال لهم: ١ ألا تشركوا بالله شيئا ٢ ولا تسرقوا ٣ ولا تزنوا ٤ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ٥ ولا تمشوا يبريء إلى السلطان ليقتله ٦ ولا تسحروا ٧ ولا تأكلوا الربى ٨ ولا تقذفوا المحصنة ٩ ولا تولوا الفرار يوم الزحف ١٠ وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت. فقاموا فقبلوا يديه ورجله وقالوا نشهد أنك نبي، قال فما يمنعكم أن تتبعوني؟
قالوا إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تفتلنا اليهود- قال الترمذي حديث حسن صحيح-. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن من معجزات موسى عليه السلام تسع عشرة معجزة منها ما هو خاص به، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص بني إسرائيل، أولها إزالة العقدة من لسانه حتى ذهبت عجمته وصار فصيحا، والثانية والثالثة والرابعة هي بياض اليد وإحياء النقباء والخسف بقارون ورفيقيه، والخامسة انقلاب العصا حية، والسادسة جعلها تلقف حبال السحرة وعصيهم مع كثرتها أي ما طلي فيها كما بيناه في الأعراف، والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، الثانية عشرة الإظلال بالغمام، والثالثة عشرة شق البحر، والرابعة عشرة إخراج الماء من الحجر بضربه له بعصائه، والخامسة عشرة رفع الجبل وإظلاله فوقهم، والسادسة عشرة إنزال المنّ والسلوى، والسابعة عشرة الجدب المعبّر عنه بالسنين، والثامنة عشرة نقص الثمرات، والتاسعة عشرة الطمس على الأموال. وكلها موضحة في سورة الأعراف والشعراء والقصص المارات وفي السور الآتية كيونس وهود وغيرها، وروي أن عمر ابن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى تسع آيات بينات فذكر في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس،
579
فقال عمر هكذا يجب أن يكون الفقيه، ثم قال يا غلام أخرج ذلك الجراب، فأخرجه ففضه فإذا فيه بيص مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة، أي أن هذه من بقايا ما طمس عليه من ثمرات بني إسرائيل وأموالهم.
واعلم أن تخصيص الذكر هنا بالتسع لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليها، لما جاء في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد. وقد اتفق المفسرون على سبع من هذه التسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفت آراؤهم في الاثنتين الأخيرتين وأكثر الأقوال على أنها الأخذ بالسنين ونقص الثمرات كما بيناه في الأعراف لأن العقدة والعصا من خصائص سيدنا موسى عليه السلام وليست لقومه، أما كونها تلقف ما يأفكون فهي لقومه، قال تعالى «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين في زمنك من أهل الكتابين الذين ستقدم عليهم في المدينة لتعرف كذبهم ويعرفوا صدقك، وليس المطلوب من سؤالهم استفادة العلم منهم عنها، بل لنقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره لهم، وعليه فيكون السؤال سؤال استشهاد لأنهم أولاد أولئك اليهود الذين ظهرت لهم تلك الآيات على يد نبيهم، وقد تناقلوها أبا عن جد فضلا عن ذكرها في التوراة التي هي بين أيديهم، ولهذا حسن النكني بهم عن أسلافهم «إِذْ جاءَهُمْ» موسى بها دليلا على صحة رسالته من ربه إليهم «فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ» لما ظهر عجزه تلقاء تلك المعجزات «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» ١٠٢ مفعولا بالسحر الذي استولى على جوارحك فصرت مطبوبا مختل العقل بطلبك قوما هم تحت سلطتي قديما، فكيف أرسل معك بني إسرائيل وأنت على ما أنت عليه. وقال بعض المفسرين معنى مسحورا ماهرا بالسحر معطى علمه ومعلّمه، وهذه العجائب التي بينتها هي ناشئة عن مهارتك فيه، وظاهر الآية يدل على الأول، لأن المقام مقام ذم، والتفسير الثاني مقامه مقام مدح يأباه المقام بدليل ما فتحت به الآية الآتية التي جاوبه بها موسى عليه السلام، وهي «قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ» يا فرعون مما رأيت «ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجعل تلك الآيات «بَصائِرَ» مرئيّات ظاهرات لا تخفى على أحد من شدة وضوحها تبصرك في صدقي، وتعلمك أني
580
لست كما تقول مخدوعا أو خادعا أو مخيلا إلي أو ساحرا ماهرا مما تتقول به قبلا، لا بل إني عالم حاذق بصحة ما أقول من الأمر والنهي لأني أتلقاه من ربي خالق السموات والأرض وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما، الذي أنزل تلك الآيات دلالة على صدقي وطلبا لإيمانكم، فما ظننت به كله كذب محض وبهت بحت..
والقراءة الفصحى علمت بفتح التاء لأن علم فرعون بأنها آيات نازلات من رب السماء او كد في الحجة، ولأن احتجاج موسى عليه السلام على فرعون بعلم فرعون او كد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه على قراءة الضم التي معناها أنه أخبر عن نفسه أنه عالم بها وأنه غير مسحور، ونسب هذا القول إلى سيدنا علي عليه السلام، وأنه قال والله ما علم عدو الله ولكن علم موسى وهو قول ضعيف لا يستند اليه، لأنه مروي عن كلثوم المرادي وهو مجهول، ولهذا لما بلغ ابن عباس نسبة هذا القول لسيدنا علي لم يرضه واحتج بقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) الآية ١٤ من سورة النحل المارة بما يدل على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه كما أن بلقيس وقومها علموا معجزات سيدنا سليمان عليه السلام «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» ١٠٢ هالكا مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر لانكارك ما عرفت صحته من آيات الله مكابرة وعنادا، وقد قارع الظن منه عليه السلام بالظن من فرعون بالآية السابقة، لأنه لما وصفه بكونه مسحورا أجابه بكونه مثبورا لأن تلك المعجزات مبصرة نيرة لا يرتاب فيها عاقل ولا يقول بها إلا أنها من عند الله وانه أظهرها ليؤمن بها، قال تعالى «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ» أي يخرج فرعون موسى وقومه ويطردهم «مِنَ الْأَرْضِ» أرض مصر أو يعدمهم من ظهر البسيطة لما رأى بقاءهم يهدد ملكه بالخراب وسلطنته بالزوال، ولما كان ثابت في علم أنه لو أمهل فرعون وقومه ما أمهلهم لم يؤمنوا ويبقوا مصرين على كفرهم لهذا أغراه الله تعالى باتباع موسى وقومه وأدخلهم جميعا البحر «فَأَغْرَقْناهُ» لهذه الحكمة «وَمَنْ مَعَهُ» من القبط الذين جنّدهم لاسترجاع موسى وقومه واسترقاقهم فأهلكهم في البحر «جَمِيعاً» ١٠٣ فلم يفلت منهم أحد، راجع كيفية إغراقهم في الآية ٤٠ من
581
القصص والآية ٦٣ من الشعراء والآية ٧٨ من طه المارات، قال تعالى «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ» بعد إهلاكهم وإرائة جثثعم؟؟؟ عائمة في البحر بما فيهم جثة فرعون «لِبَنِي إِسْرائِيلَ» بعد انجائهم من الغرق ومن فرعون وقومه «اسْكُنُوا الْأَرْضَ» أرض مصر والشام في حياتكم الدنيا «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» الحياة الثانية يوم القيامة «جِئْنا بِكُمْ» مؤمنكم وكافركم وبركم وفاجركم «لَفِيفاً» ١٠٤ مختلطين جميعا من هاهنا من محال وجودكم، واللفيف هو الجماعة من قبائل شتى وهو اسم جمع لا واحد من لفظه كالجميع أي من اخلاط شتى شريف ووضيع عالي ورديء مطيع وعاصي قوي وضعيف، قال تعالى في القرآن الذي قال فيه (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ إلخ) الآية ٨٨ المارة «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ» من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا دفعة واحدة كما أنزلنا التوراة والإنجيل والزبور «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» نجوما متفرقة على قلب محمد الشريف بواسطة الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام من سماء الدنيا محفوفا بالرصد من الملائكة محفوظا بهم من تخليط الشياطين، هذا، ولما كان القرآن نزل بلغة العرب وعادة العرب فيما يتكلمون بشيء يستطردون لغيره، فتذكره ثم تعود إلى ما كانت تتكلم به، وهكذا بعد أن ذكر الله تعالى القرآن واستطرد لذكر غيره وأنهاه، ذكر ما يتعلق به تعظيما له وإجلالا، أي انا لم نرد بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق الذي أخبركم به المنزل عليه رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلم وقد اشتملت هذه الآية على أربع فوائد، الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذي لا يثبت لأن ما جاء من الشرع لا يتطرق اليه النسخ والنقص والتحريف ولزيادة، فكان حقا في كل الوجوه الثانية ان الانزال في قوله (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) غير النزول الذي هو في قوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) فوجب أن يكون الخالق غير المخلوق على ما ذهب إليه بعض المتكلمين. الثالثة ان الباء في قوله وبالحق بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلامته أي أنزلناه مع الحق. الرابعة ان جملة (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) تفيد الحصر أي ان هذا القرآن ما نزل لقصد آخر سوى اظهار الحق فقط «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا مُبَشِّراً» بهذا القرآن الطائع بالجنة «وَنَذِيراً» ١٠٥ به
582
للعاصي في النار وما عليك من كفرهم شيء بعد أن تتقدم لهم بهذين الأمرين قال تعالى «وَقُرْآناً» نون للتعظيم والتفخيم وهو منصوب بفعل مقدر مثل «فَرَقْناهُ» فصّلناه
وبيّنا الحق من الباطل وأنما أنزلناه عليك «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» تؤدة وتثبت وترسل فتتلوه عليهم خلال اثنتين وعشرين سنة وشهور وأيام، راجع المقدمة في بحث نزول القرآن تعلم مدى نزول سورة المكية والمدنية، أي لا تقرأه عليهم بالسرعة والعجلة فورا بل تمهّل به لعله يوقر في قلوبهم، أولا بأول، هذا ومن قرأ فرّقناه بالتشديد فقد أضاع المعنى المراد منه أعلاه وما معناه على قراءة التشديد إلا أنه أنزل متفرقا، ومكث بضم الميم وسكون الكاف وقرىء بفتح الميم وضم الكاف قراءة شاذة والمعنى الذي ذكرناه تحتمله القراءتان تدبر «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» ١٠٦ عظيما بحسب الحوادث والوقائع والأسئلة وعفوا حسبما هو كائن في أزلنا على الوصف المذكور فيه، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتشديد الفعل يفيد التكثير، وذلك لأن تنزيله مفرقا مترادفا متقطعا ومتواليا فيه معنى التكثير، قال تعالى «قُلْ» يا أكرم الرسل للذين كفروا بهذا القرآن الجليل «آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا» اختاروا لأنفسكم أحد الأمرين، واعلموا أن في الإيمان به النعيم المقيم في الجنة الخالدة مع النبيين والصالحين، وفي الكفر به العذاب الأليم الدائم مع فرعون وهامان، وإن إيمانكم بالنسبة له ولمنزله والمنزل عليه وعدمه سواء، لأنه لا يزيده كمالا، وجحودكم لا يورثه نقصا. وفي الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على حد قوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية ٢٨ من سورة الكهف في ج ٢، وقوله جل قوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية ٤٠ من سورة فصلت في ج ٢.
مطلب آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها ولا يمنع شمولها غيرهم:
وقد خص بعض المفسرين هذه الآية بالمقترحين المار ذكرهم وهذا أيضا يقيدها فيهم دون نص بالتقييد أو التخصيص، وليس بشيء وما هؤلاء الذين يريدون حصر معاني القرآن بأناس مخصوصين، والله تعالى أنزله عاما لكل البشر ونزوله في أناس لا يقيد عمومه ولا يخصص إطلاقه بل يبقى على عمومه أبدا شاملا للكل، لذلك فسرناها كغيرها على أنها عامة مطلقة، يدخل فيها المقترحون وغيرهم وهو أولى كما ترى،
583
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ» من قبل نزول القرآن وهم قراء الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف الذين عرفوا حقيقة الوحي وامارات النبوة وماهية الحق والباطل والتمييز بينها «إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ» هذا القرآن وسمعوه «يَخِرُّونَ» يسقطون حالا «لِلْأَذْقانِ» على وجوههم لأن الأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، ويطلق على ما ينبت عليها من الشعر، وكذلك يطلق على الوجه من إطلاق الجزء وإرادة الكل فيرمون بأنفسهم على الأرض «سُجَّداً» ١٠٧ تعظيما لأمر الله تعالى وشكرا لأنعامه عليهم بإنزاله وبعثة الرسل لإرشادهم وذلك لأن خوف الله تعالى مستول على قلوبهم، لهذا عند ما يسمعون ذكره يطرحون أنفسهم على الأرض خضوعا لعظمته وخشوعا لهيبته. وإنما لم يقل يسجدون لشدة مسارعتهم حتى كأنهم يسقطون سقوطا على الأرض «وَيَقُولُونَ» في سجودهم هذا «سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا» الذي وعد به خلقه على لسان رسله في الكتب القديمة المؤيدة بهذا القرآن «لَمَفْعُولًا» ١٠٨ كائنا واقعا لا محالة، وأنهم يقولون هذا في حالة السجود وغيرها لتعلق قلوبهم بربهم، ومن جملة وعده في الكتب القديمة إرسال محمد صلّى الله عليه وسلم وإنزال هذا القرآن عليه، وقد اختلف المفسرون بالمراد في هذه الآية فمنهم من قال إن المراد بها ورقة بن نوفل على أن ورقة لم يحضر إنزال هذه السورة لأنه توفي قبلها بكثير، ومنهم من قال عبد الله بن سلام، وهذا لم يسلم بعد حتى الآن، ومنهم من قال إنهم جماعة من أهل الكتاب، لان الوعد ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم مدون في كتبهم وقد كانوا بانتظاره وإنجاز هذا الوعد، فلما رأوا محمدا وسمعوا كتابه عرفوه أنه هو، فخروا سجودا لله تعالى أن أراهم إياه، وهذان القولان لا يصحان أيضا، لان إسلام عبد الله وقع بالمدينة كما سيأتي في الآية ٢٧ من سورة النساء في ج ٣، ولان أهل الكتاب لم يخالطوا محمدا في مكة أبدا، هذا والمقصود من هذه الآية تقرير تحقير أولئك المقترحين والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه، وإنهم إذا لم يؤمنوا فقد آمن به من هو خير منهم، قال تعالى «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ» للرءوس ولم تتكرر هذه الكلمة في القرآن إلا في هذه السورة وفي الآية ٨ من سورة يس المارة، أي يرمون رءوسهم حالة
584
كونهم «يَبْكُونَ» من خشية الله تعالى خضوعا لجلاله «وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» ١٠٩ لربهم وانقيادا لحضرته الكريمة ولا تكرار في هذه الآية، لان الأولى لتعظيم أمر الله وشكره لانجاز وعده والثانية لما أثر فيهم من مواعظ القرآن العظيم مما يلين القلب ويرعب الجوارح ويرطب العين ويرعد الأعضاء ويرجف الفؤاد ويرققه، بدليل بكائهم عند سماعه فالسبب مختلف فيها ويدخل في معنى الخرور قوله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يترك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه. ولا يمكن من وضعها قبل ركبتيه إلا بهذه الصورة تأمل، وهؤلاء العلماء الممدوحون هم ما ذكرنا آنفا جماعة من مؤمني أهل الكتاب كانوا يتطلبون ويترقبون بعثة الرسول قيل منهم زيد بن عمرو بن نفيل وأبو ذر، وعد بعضهم سلمان الفارسي والنجاشي واتباعه من اليهود والنصارى، والقول الأحسن إنهم طائفة من أهل الكتابين كانوا قبل البعثة عند ما يسمعون وصف الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم يقع منهم ما يقع رضي الله عنهم، وجاءت هذه الآية على طريق ضرب المثل على جهة التقريع أي أن أهل التوراة والإنجيل عند سماع ما يتلى عليهم من كتبهم من وصف حضرة الرسول كانوا يبكون ويودون أنهم يدركونه ليؤمنوا به، وأنتم حينما تسمعون كلام الله الذي أنزله عليه لا يندى لكم جبين ولا تستفز جوارحكم، بل تهزأون به وتسخرون، وهو إنّما أرسل رحمة لكم، وأحسن الأقوال أولها وهو ما بين في الآية المفسرة، روي عن أبي هريرة أنه قال
: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم. - أخرجه الترمذي والنسائي وزاد في منخري مسلم أبدا- وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله. وأخرج أيضا عن النضر ابن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أن عبدا بكى في أمته لأنجى الله تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد، وما من عمل إلا وله وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار، فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة.
585
وينبغي أن تكون هذه الحالة في العلماء أكثر من غيرهم، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الأعلى التيمي أنه قال من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه. لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) الآيتين المارتين، وقال تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية ٣٨ من سورة فاطر المارة وقدمنا فيها ما يتعلق في هذا البحث ما به كفاية، ومن الفقه الأخذ بما قاله ابن عباس رضي الله عنهما:
إذا كثر الطعام فحذروني فإن القلب يفسده الطعام
إذا كثر المنام فنبّهوني فإن العمر ينقصه المنام
إذا كثر الكلام فسكتوني فإن الدين يهدمه الكلام
إذا كثر المشيب فحركوني فإن الشيب يتبعه الحمام
ولما سمع أبو جهل عليه اللعنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم يقول في دعائه يا الله يا رحمن، قال لقومه إن هذا ينهانا عن تعدد لآلهة وهو يدعو إلهين أنزل الله تعالى «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» أيها الناس فإنكم «أَيًّا ما تَدْعُوا» من أسماء الله تعالى فادعوه بها «فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» المشتملة على معاني التقديس كالخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية وقد مرّ بيانها في الآية ٨ من سورة طه المارة فراجعها. وما قيل إن اليهود قالوا لحضرة الرسول إنك تقل من ذكر الرحمن وقد ملئت التوراة من ذكره، فنزلت لا يصح، لأن الآية مكيّة بالاتفاق ولا يهود لهم صلة مع حضرة الرسول في مكة «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها» بحيث لا تسمع نفسك أو تسمع من هو خارج المسجد «وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ» الجهر الزائد والمخافتة الكلية «سَبِيلًا» ١١٠ حالا وسطا بحيث تسمع نفسك إذا كنت منفردا ومن بجوارك إذا كنت إماما. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلّى الله عليه وسلم مختفيا بمكة أي مخف عبادته فيها أو أنه كان وأصحابه إذ ذاك يخفون صلاتهم خوفا من تعدي الكفار عليهم، وكان إذا خلا بأصحابه رفع صوته، فإذا سمعه المشركون يسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال تبارك وتعالى لنبيه (ولا تجهر). هذا، ولهذا
586
البحث صلة في الآية ١٠٨ من سورة الأنعام في ج ٢ فراجعه، ورويا عن عائشة أنها نزلت في الدعاء، وأخرج الترمذي وابن قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك، فقال إني أسمعت من ناجيته فقال إرفع قليلا. وقال لعمر مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان فقال اخفض قليلا. فهذا على فرض صحته لا يصح أن يكون سببا للنزول لأن الآية صريحة في الصلاة، وعلى كل الجهر بالدعاء والصلاة زيادة على الحاجة وهي اسماع من وراءه إذا كان إماما مذموم والمخافتة بحيث لا يسمع نفسه مذمومة أيضا، والمستحب الوسط في ذلك. قال ابن مسعود من أسمع أذنيه لم يخافت والجهر بأن يسمع من هم وراءه في الصلاة، أو إمامه في الدعاء فقط، والعدل رعاية الوسط قال صلّى الله عليه وسلم خير الأمور أوساطها. وقال تعالى (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) راجع الآية ١٤٣ من سورة البقرة في ج ٣، والآية المارة ٢٩ من هذه السورة، والآية ٦٧ من الفرقان المارة. وما قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) الآية ١٥٤ من الأعراف المارة بعيد عن الصحة لأن الأعراف نزلت قبل الإسراء، والمقدم لا ينسح المؤخر قولا واحدا، لا خلاف ولا معارضة فيه، ورحم الله علماء الناسخ والمنسوخ ما اغلاهم وأحرصهم على القول به لمجرد بادرة.
فلا حول ولا قوة إلا بالله القائل «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» كما زعم بعض كفرة قريش وهم بنو مليح إذ يقولون إن الملائكة بنات الله، وكما زعم اليهود بأن عزيرا ابن الله، وكما افترى النصارى بأن المسيح ابن الله، وكلهم كاذبون أفاكون لأنه جل شأنه لم يتخذ ولدا «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» من الناس والملائكة والجن والأوثان، وهذا إبطال لقول كل من يزعم أن لله شريكا تعالى الله عن ذلك «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» فيحتاج إلى من ينصره ويتعزز به لأنه لم يذل قط تعالى عن ذلك ولم يوال أحدا من أجل المذلة من الغير أو المنفعة لنفسه المقدسة، فنزهه عن ذلك كله وعظمه «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» ١١١ يليق بذاته العلية وبرأه عن جميع سمات خلقه وأعمالهم وعما يقول الكافرون وأهل الكتابين من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك والمعين والولي،
587
ونزه تنزيها كثيرا. وهذه الآية تسمى آية العز كما جاء في الحديث الصحيح، وإن من داوم عليها كان عزيزا محترما، ولهذا كان صلّى الله عليه وسلم يعلمها لكل غلام أفصح من بني عبد المطلب، فعلى الموفق أن يداوم عليها ليل نهار ليوقع الله في قلوب خلقه مهابته واحترامه ويضاعف له الأجر بتلاوتها. أخرج مسلم عن سمرة بن جندب قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت. وعن ابن عباس قال: قال صلّى الله عليه وسلم أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء. عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده. وأخرج أبو يعلى وابن السّني عن أبي هريرة قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رثّ الهيئة فقال أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال السقم والضر قال صلّى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟
قال بلى، قال قل توكلت على الحي الذي لا يموت، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلخ الآية، فأتى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد مدة وقد حسنت حالته فقال مهيم أي مم أصابك هذا، فقال لم زل أقول الكلمات التي علمتني. وأخرج ابن ابي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية. وأخرج ابن أنس والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي الحمد لله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى، سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ ولا وراءه ملتجى، توكلت على الله ربي وربكم، (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية. ثم قال ما من مسلم يقرأوها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فنضره. هذا، ولا يوجد سورة محتومة بمثل ما ختمت به هذه السورة، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده بمعونة الله تعالى وتوفيقه.
588
تم الجزء الأول من هذا التفسير المبارك، وهو يحتوي على خمسين سورة من القرآن العظيم أولها اقرأ باسم ربك وآخرها الإسراء، بحسب ترتيب النزول، وقد نزلت متوالية متتابعة عدا الآيات المدنيات منها، وقد أثبتناها حسب نزولها كما وعدنا في المقدمة، وكان أول النزول في غار حراء في ١٧ أو ٢٧ رمضان السنة الأولى من البعثة الشريفة الحادية والأربعين من الولادة الكريمة، هو الخمس آيات الأولى من سورة العلق كما أوضحناه في المقدمة في بحث النزول وسورة بني إسرائيل التي هي آخر هذا الجزء نزلت في ٢٧ رجب السنة العاشرة من البعثة والحادية والخمسين من الولادة الشريفة، فيكون مجموع المدة التي نزلت فيها هذه السور عدا الآيات المدنيات المشار إليها في محالها ثماني سنين وعشرة أشهر إلا عشرة أيام على القول بأن مبدأ النزول كان في ١٧ رمضان، وعلى القول بأن المبدأ كان في ٢٧ رمضان تكون المدة ثماني سنين وعشرة أشهر تماما، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وقد وقع الفراغ منه يوم الاثنين من رجب الفرد سنة ١٣٥٦ الموافق ٦ أيلول سنة ١٩٣٧، ويليه الجزء الثاني أوله سورة يونس، وآخرة سورة المطففين، وبها ينتهي القسم المكي من هذا التفسير إن شاء الله، ويعين التاريخ وقع البدء في الجزء الثاني، وتتميما للفائدة ألحقنا بهذا ما اشتمل عليه من المطالب بيانا يسهل لمريد المطالعة ما يريده منه، والحمد لله على توفيقه والشكر له على الإرشاد إلى سلوك طريقه القويم الموصل إلى الصراط المستقيم، والهداية إلى ما به الاتصال بالعناية من الرب الكريم.
هذا وليعلم القارئ أن ضعفي في فن الكتابة قد أدى إلى سقوط حرف أو زيادته أو زيادة نقطة في بعض الحروف أو نقصها، ومن هذا القبيل تكبير النقطة أحيانا حتى يظن أنها نقطتان، أو بعدها عن موقعها بما يؤدي للاختلاط «١»، فأرجو ممن يطالع هذا إمعان النظر في ذلك كي لا يختلف عليه المعنى المراد. وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه وإلى ما به السداد في القول والعمل والنية، ومنّ علينا بألطافه القدسية، ونشر علينا رحمته وستره، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلّى الله وسلم على سيد محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين آمين آمين.
الفقير إليه عبد القادر ملا هويش آل غازي
(١) هذا قبل طبعه.
589
Icon