تفسير سورة الإسراء

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم.
تفسير سورة بني إسرائيل.
وهي مكية إلا خمس آيات، سنذكرها في مواضعها.
وروي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : سورة بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، من تِلاَدِي، وهن مِن العِتاق الأُوَل.

قَوْله تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ سُبْحَانَ: تَنْزِيه الله من كل سوء، وَحَقِيقَته تَعْظِيم الله بِوَصْف الْمُبَالغَة، وَوَصفه بِالْبَرَاءَةِ من كل نقص.
وَكلمَة سُبْحَانَ؛ كلمة ممتنعة لَا يحوز أَن يُوصف بهَا غير الله؛ لِأَن الْمُبَالغَة فِي التَّعْظِيم لَا تلِيق لغير الله، وَلَا تَنْصَرِف حسب مَا ينْصَرف كثير من المصادر؛ لِأَنَّهُ لما لم يستقم الْوَصْف بِهِ لغير الله، وَلم تتصرف جهاته لزم أَيْضا منهاجا وَاحِدًا فِي الصّرْف.
وَأما التَّسْبِيح فِي الْقُرْآن على وُجُوه: قد ورد بِمَعْنى الصَّلَاة، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فلولا أَنه كَانَ من المسبحين﴾ أَي: من الْمُصَلِّين.
وَورد بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿قَالَ أوسطهم ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون﴾ أَي: تستثنون.
وَورد بِمَعْنى التَّنْزِيه. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ﴾، وَورد فِي الْخَبَر بِمَعْنى النُّور، وَهُوَ فِي الْخَبَر الَّذِي قَالَ: " لأحرقت سبحات وَجهه مَا أدْركهُ بَصَره " أَي: نور وَجهه، وَقد ورد فِي الْخَبَر عَن النَّبِي " أَنه فسر سُبْحَانَ الله
212
﴿بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ بتنزيه الله من كل سوء ".
وَقَوله: ﴿أسرى بِعَبْدِهِ﴾ يُقَال: أسرى بِهِ إِذا سيره لَيْلًا، وَكَذَا سرى بِهِ. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَيْلَة ذَات ندى سريت وَلم يلتني عَن سراها لَيْت)
وَقَوله: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ أَي: بِمُحَمد، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله اتَّخَذَنِي عبدا قبل أَن يتخذني رَسُولا ".
وَقَوله: ﴿لَيْلًا﴾ ذكر لَيْلًا؛ لينبه أَنه كَانَ فِي طَائِفَة مِنْهُ.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أسرى بِعَبْدِهِ من اللَّيْل ". وَقَوله: ﴿من الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ اخْتلفُوا فِي الْموضع الَّذِي أسرِي مِنْهُ برَسُول الله؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه من الْمَسْجِد الْحَرَام، وَعَلِيهِ يدل ظَاهر الْآيَة.
وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: أَن النَّبِي قَالَ: " كنت نَائِما فِي الْحجر، فَأَتَانِي جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وحركني حَرَكَة لَطِيفَة، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قُم وافدا إِلَى رَبك ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أسرى بِهِ من بَيت أم هَانِيء بنت أبي طَالب، وَهَذَا فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس.
213
﴿إِلَى الْمَسْجِد الأقصا الَّذِي باركنا حوله لنريه من آيَاتنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير (١) ﴾
وَاخْتلف القَوْل فِي الْوَقْت الَّذِي أسرى بِهِ؛ قَالَ مقَاتل: كَانَ قبل الْهِجْرَة بِسنة، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ فِي رَجَب، وَيُقَال: فِي رَمَضَان. وَقَالَ بَعضهم أسرى بِهِ وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَخمسين سنة وَتِسْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعشْرين يَوْمًا، وَالله أعلم.
وَقَوله ﴿إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى﴾ يَعْنِي: إِلَى مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، وَسَماهُ الْأَقْصَى لبعده من الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَقَوله: ﴿الَّذِي باركنا حوله﴾ يَعْنِي: بِالْمَاءِ وَالشَّجر، وَقيل: باركنا حوله؛ لِأَنَّهُ (مَوَاضِع) الْأَنْبِيَاء ومهبط الْمَلَائِكَة.
قَوْله: ﴿لنريه من آيَاتنَا﴾ أَي: من عجائب قدرتنا، وَقد رأى هُنَاكَ الْأَنْبِيَاء، وَرَأى آثَارهم.
وَقَوله: ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ - ذكر السَّمِيع هَا هُنَا لينبه على أَنه الْمُجيب لدعائه، وَذكر الْبَصِير لينبه على أَنه كَانَ الْحَافِظ لَهُ فِي ظلمَة اللَّيْل.
وَأما الْكَلَام فِي الْإِسْرَاء فَاخْتلف القَوْل على أَنه أسرِي بجسمه وروحه أم بِرُوحِهِ؟ فالأكثرون على أَنه أسرِي بجسمه وروحه جَمِيعًا. وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: مَا فقد جسم رَسُول الله وَإِنَّمَا أسرِي بِرُوحِهِ؟
وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار الصَّحِيحَة على مَا يُوَافق القَوْل الأول، وأتمها حَدِيث أنس عَن مَالك بن صعصعة، عَن النَّبِي، وَفِيه: أَنه أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ مِنْهُ إِلَى السَّمَاء، واستفتح جِبْرِيل السَّمَاء الدُّنْيَا، فَقيل لَهُ: وَمن مَعَك؟ فَقَالَ: مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام.
فَقَالُوا: أوبعث؟ قَالَ: نعم.
214
قَالُوا: مرْحَبًا بِهِ، فَنعم الْمَجِيء جَاءَ، وَهَكَذَا فِي كل سَمَاء، وَذكر فِيهِ: أَنه رأى فِي السَّمَاء الدُّنْيَا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - وَفِي السَّمَاء الثَّانِيَة ابْني الْخَالَة عِيسَى وَيحيى، وَفِي السَّمَاء الثَّالِثَة يُوسُف، وَفِي السَّمَاء الرَّابِعَة إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي السَّمَاء الْخَامِسَة هَارُون، وَفِي السَّمَاء السَّادِسَة مُوسَى، وَفِي السَّمَاء السَّابِعَة إِبْرَاهِيم، وَفِيه أَنه قَالَ: " رفعت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى، فَإِذا أوراقها كآذان الفيلة، وَإِذا نبقها كقلال هجر، وَرَأَيْت أَرْبَعَة أَنهَار يخرج من أَصْلهَا نهران باطنان ونهران ظاهران؛ فَأَما الباطنان فِي الْجنَّة، وَأما الظاهران: فالنيل والفرات وَذكر فِيهِ أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِ خمسين صَلَاة.. الْقِصَّة بِطُولِهَا إِلَى أَن ردَّتْ إِلَى الْخمس.
وَقد روى شبها بِهَذِهِ الْقِصَّة جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عَبَّاس، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَغَيرهم.
وروى معمر عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ بِالْبُرَاقِ مسرجا مُلجمًا، فَأَرَادَ الرَّسُول أَن يركبهَا فاستعصت عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيل: وَالله مَا ركبك أحد أكْرم على الله مِنْهُ فَارْفض بِهِ عرقا ". ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أتيت بِدَابَّة دون البغلة وَفَوق الْحمار، خطوها عِنْد مُنْتَهى بصرها ". وَثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت مُوسَى لَيْلَة أسرِي بِي، كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، وَرَأَيْت عِيسَى ربعَة أَحْمَر، كَأَنَّهُ خرج من ديماس، وَرَأَيْت
215
﴿وآتينا مُوسَى الْكتاب﴾ إِبْرَاهِيم وصاحبكم أشبه النَّاس بِهِ ".
وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه قَالَ: " أتيت بإناءين فِي أَحدهمَا لبن، وَفِي الآخر خمر، فَأخذت اللَّبن وشربته، فَقَالَ جِبْرِيل: أصبت الْفطْرَة، أما إِنَّك لَو أخذت الْخمر غوت أمتك ".
وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما أصبح تحدث النَّاس بمسراه، [ففتن] كثير من النَّاس، وارتد جمَاعَة مِمَّن آمن بِهِ وَصدق، وَجَاء الْمُشْركُونَ إِلَى أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالُوا لَهُ: أَلا ترى إِلَى صَاحبك يحدث أَنه أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَرجع من ليلته، وَنحن نضرب أكباد الْإِبِل شهرا حَتَّى نصل إِلَيْهِ! فَقَالَ أَبُو بكر: إِن كَانَ قَالَ ذَلِك فقد صدق، فَقَالُوا لَهُ: أَتصدق بِمثل هَذَا؟ قَالَ: نعم، وَأكْثر مِنْهُ، فَأَنا أصدقه أَنه يَأْتِيهِ خبر السَّمَاء فِي غدْوَة أَو رَوْحَة.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كنت قَائِما فِي الْحجر، فَرفع لي بَيت الْمُقَدّس (فَجعلت أنعته) لَهُم " وَهَذَا حِين سَأَلُوهُ عَن وَصفه.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُشْركين سَأَلُوهُ عَن ركب لَهُم فِي الطَّرِيق فَقَالَ: قد بلغ مَوضِع كَذَا، ويقدمه جمل أَوْرَق، قَالُوا: وَمَتى يصل؟ قَالَ: مَعَ طُلُوع الشَّمْس، فَخرج بَعضهم يرتقبون العير، وَبَعْضهمْ يرتقبون طُلُوع الشَّمْس، فَقَالَ أُولَئِكَ: هَذَا العير قد أقبل، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذِه الشَّمْس قد طلعت.
216
﴿وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا (٢) ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا (٣) وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض﴾
وَرُوِيَ أَنه قَالَ: " مَرَرْت بِإِنَاء مغطى وَهُوَ ملآن مَاء فَشَرِبت بعضه وَتركته " فَسئلَ الركب عَن ذَلِك فَأخْبرُوا بصورته.
217
قَوْله تَعَالَى: ﴿وآتينا مُوسَى الْكتاب﴾ الْآيَة يَعْنِي: أعطينا مُوسَى الْكتاب، وَهُوَ التَّوْرَاة.
وَقَوله: ﴿وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل﴾ أَي: يَهْتَدِي بِهِ بَنو إِسْرَائِيل. وَقَوله: ﴿أَلا تَتَّخِذُوا﴾ قرئَ بقراءتين: بِالتَّاءِ، وَالْيَاء، فَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فَمَعْنَاه: وآتينا مُوسَى الْكتاب آمرين أَلا تَتَّخِذُوا، وَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فَمَعْنَاه: وعهدنا إِلَيْهِم أَلا يتخذوا. قَوْله: ﴿من دوني وَكيلا﴾ أَي: شَرِيكا، وَقيل مَعْنَاهُ: أمرناهم أَن لَا يتوكلوا على غَيْرِي، وَلَا يتخذوا أَرْبَابًا دوني.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح﴾ مَعْنَاهُ: يَا ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح، وَقَرَأَ مُجَاهِد بِنصب الذَّال. وَعَن زيد بن ثَابت فِي بعض الرِّوَايَات: " ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح " بِكَسْر الذَّال. وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح﴾ لِأَن الْخلق الْآن من أَوْلَاد نوح على مَا بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿من حملنَا﴾ أَي: فِي السَّفِينَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا﴾ سمي نوحًا لِكَثْرَة نوحه على نَفسه، وَقيل: كَانَ اسْمه عبد الْغفار. ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.
وَأما شكره: فَروِيَ أَنه كَانَ إِذا أكل قَالَ: الْحَمد لله، وَإِذا شرب قَالَ: الْحَمد الله،
217
﴿مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا (٤) فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا أولي بَأْس﴾ وَإِذا لبس قَالَ: الْحَمد الله، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه إِذا دخل قَالَ: الْحَمد الله، وَإِذا خرج قَالَ: الْحَمد الله، وَكَذَا فِي الْقيام وَالْقعُود.
وَرُوِيَ أَنه لم يخط خطْوَة إِلَّا ذكر الله تَعَالَى، فَقَالَ: ﴿إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا﴾ أَي: كثير الشُّكْر.
218
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب﴾ الْآيَة. الْقَضَاء: فصل الْأَمر بِالْأَحْكَامِ، وَمعنى قضينا هَا هُنَا أَي: أَوْحَينَا، وَأَعْلَمنَا.
وَقيل مَعْنَاهُ: وقضينا على بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب.
وَقَوله: ﴿لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ﴾ أَي لتعصن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ. وَقَوله: ﴿ولتعلن﴾ أَي: لتتعظمن وتبغن وتتكبرن.
وَقَوله: ﴿علوا كَبِيرا﴾ أَي: كبرا عَظِيما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما﴾ يَعْنِي: أولى الْمَرَّتَيْنِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن فسادهم فِي الْمرة الأولى وَكَانَ بقتل إشعيا النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - وارتكابهم الْمعاصِي، ورفضهم مَا أمروا بِهِ. وَفِي بعض التفاسير: أَنهم عبدُوا الْأَوْثَان.
وَالْأَرْض الْمَذْكُورَة: أَرض الشَّام، وَأَرْض بَيت الْمُقَدّس. وَقَوله: ﴿بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا﴾ هَذَا الْبَعْث هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين﴾ فَيجوز أَن تكون بِمَعْنى التسليط، وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى التَّخْلِيَة بَينهم وَبَين الْقَوْم، [وَاخْتلفت] الْأَقَاوِيل فِي أَنهم من كَانُوا؟
قَالَ ابْن عَبَّاس: هم جالوت وَقَومه، وَقَالَ سعيد بَين الْمسيب: بخت نصر الْفَارِسِي،
218
﴿شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا (٥) ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أَكثر نفيرا (٦) إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن﴾ وَقَالَ غَيره: سنحاريب الْملك، وَقَالَ بَعضهم: العمالقة. وَأظْهر الْأَقَاوِيل أَنه بخت نصر، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: ملك الأَرْض أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ، وَكَافِرَانِ؛ أما المؤمنان: فسليمان، وَذُو القرنين - عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَأما الكافران: فنمروذ، وبخت نصر.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل: أخبرنَا بِهَذَا أَبُو على الشَّافِعِي بِمَكَّة قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس قَالَ: أَنا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الديبلي وَقَالَ: أَنا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي قَالَ: أَنا [سُفْيَان] بن عُيَيْنَة عَن دَاوُد بن شَابُور عَن مُجَاهِد.
وَقَوله: ﴿أولي بَأْس شَدِيد﴾ أَي: أولي قُوَّة شَدِيدَة.
وَقَوله: ﴿فجاسوا خلال الديار﴾ والجوس: طلب الشَّيْء بالاستقصاء.
قَالَ الزّجاج: طلبُوا خلال الديار هَل بَقِي أحد فَيقْتل؟ وخلال الديار وسط الديار.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا﴾ أَي: وَعدا لَا بُد مِنْهُ. قَالَ الشَّاعِر:
(فِي الجوس جسنا إِلَيْك اللَّيْل بالمطي... )
219
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم﴾ أَي: الدولة عَلَيْهِم، وَفِي الْقِصَّة: أَن هَذَا التخريب كَانَ بعد ملك سُلَيْمَان، وَأَن بخت نصر قتل الْمُقَاتلَة، وسبى الذُّرِّيَّة، وَخرب بَيت الْمُقَدّس، وَألقى الْجِيَف فِي مَسْجده، وَكَانَ من موت عُزَيْر النَّبِي مائَة سنة فِي هَذَا التخريب، وَمَا قصّ الله من أمره فِي سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ إِن الله تَعَالَى رد الدولة إِلَى بني إِسْرَائِيل حَتَّى عمروا مَا خرب.
وَفِي بعض الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى أرسل ملكا إِلَيْهِم حَتَّى رد العمارات، واستنقذ
219
﴿أسأتم فلهَا فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة ليسوؤوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة وليتبروا مَا علوا تتبيرا (٧) ﴾ الْأُسَارَى، وَعَاد الْبَلَد أفضل مِمَّا كَانَ. فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم﴾ وَفِي تَعْذِيب بخت نصر ومسخه قصَّة طَوِيلَة لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
وَقَوله: ﴿وأمددناكم بأموال وبنين﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿وجعلناكم أَكثر نفيرا﴾ أَي: أَكثر عددا.
قَالَ الشَّاعِر:
220
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم﴾ يَعْنِي: جلبتم النَّفْع إِلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿وَإِن أسأتم فلهَا﴾ أَي: فعلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة﴾ يَعْنِي: وعد الكرة الْآخِرَة. وَقَوله: ﴿ليسوءوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة﴾ قرئَ هَكَذَا، وَقُرِئَ: " ليسوء وُجُوهكُم " مَقْصُور، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " لنسوء وُجُوهكُم " بالنُّون، وَهُوَ اخْتِيَار الْكسَائي، وَفِي الشاذ: " لنسوء وُجُوهكُم " بِفَتْح اللَّام. أما قَوْله: ﴿ليسوء وُجُوهكُم﴾ بِالْيَاءِ يَعْنِي: أُولَئِكَ الْقَوْم يسوءوا وُجُوهكُم: وَقَوله: ﴿ليسوءوا وُجُوهكُم﴾ أَي: ليسوء الْوَعْد وُجُوهكُم.
وَقَوله: " لنسوء " بالنُّون ظَاهر الْمَعْنى، وَسُوء الْوَجْه بِإِدْخَال الْغم والحزن.
وَقَوله: ﴿وليتبروا مَا علو تتبيرا﴾ أَي: ليخربوا، ويدمروا مَا علوا عَلَيْهِ - أَي: مَا ظَهَرُوا - تخريبا.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَأكْرم بقحطان من معشر وحمير أكْرم بِقوم نفيرا)
(وَمَا النَّاس إِلَّا عاملان فعامل يتبر مَا يَبْنِي وَآخر رَافع)
وَفِي الْقِصَّة: أَن فسادهم الثَّانِي كَانَ بقتل يحيى بن زَكَرِيَّا - عَلَيْهِمَا السَّلَام -
220
﴿عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا (٨) إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم﴾ وَكَانَ سَبَب قَتله، أَن بغية من بَغَايَا بني إِسْرَائِيل طلبت من الْملك أَن يقْتله فَقتله، فَلَمَّا قَتله، وَوَقع دَمه على الأَرْض، جعل يغلي فَلَا يسكن بِشَيْء، وسلط الله عَلَيْهِم عدوهم.
فَقيل: إِن الْعَدو فِي الكرة الثَّانِيَة كَانَ بخت نصر، وَفِي الأولى جالوت. وَقيل: إِن الْعَدو فِي الْمرة الثَّانِيَة كَانَ ملكا من الرّوم، جَاءَ وَخرب بَيت الْمُقَدّس، وَقتل الْمُقَاتلَة، وسبى الذُّرِّيَّة.
فَروِيَ أَنه استصعب عَلَيْهِ فتح الْمَدِينَة، فَقَالَت عَجُوز: أَيهَا الْملك، أَتُرِيدُ أَن تفتح هَذِه الْمَدِينَة؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَت: قل اللَّهُمَّ إِنِّي أستفتحك هَذِه الْمَدِينَة بِدَم يحيى بن زَكَرِيَّا، فَقَالَ هَذَا القَوْل، فتساقطت حيطان الْمَدِينَة؛ فَدخل بِالسَّيْفِ يقتل، وَوصل إِلَى الْمَكَان الَّذِي يغلي فِيهِ دم يحيى. فَقَالَ: لأقتلن عَلَيْهِ النَّاس حَتَّى يسكن الدَّم؛ فَقتل عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ ألفا فَلم يسكن، فَقتل خمسين ألفا فَلم يسكن، فَقتل سِتِّينَ ألفا فَلم يسكن، فَقَالَ: وَالله لَا أَزَال أقتل عَلَيْهِ حَتَّى يسكن، فاستكمل سبعين ألفا فسكن، وَقيل: ثَمَانِينَ ألفا.
221
وَقَوله تَعَالَى: ﴿عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا﴾ قَالَ مُجَاهِد: عَسى من الله وَاجِب.
وَقَوله: ﴿أَن يَرْحَمكُمْ﴾ أَي: يرد الدولة إِلَيْكُم بعد زَوَالهَا. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى رد إِلَيْهِم الدولة، وَعمر بَيت الْمُقَدّس بعد مَا خرب، [و] عَاد ملكم على مَا كَانَ.
وَقَوله: ﴿وَإِن عدتم عدنا﴾ مَعْنَاهُ: وَإِن عدتم إِلَى الْمعْصِيَة عدنا إِلَى الانتقام. فَروِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: عَادوا إِلَى الْمعْصِيَة، فانتقم الله مِنْهُم بالعرب، فهم مقهورون مستذلون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: بِمُحَمد. وَالْقَوْلَان متقاربان فِي الْمَعْنى.
221
﴿ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات أَن لَهُم أجرا كَبِيرا (٩) وَأَن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة أَعْتَدْنَا لَهُم عذَابا أَلِيمًا (١٠) ويدع الْإِنْسَان بِالشَّرِّ دعاءه بِالْخَيرِ وَكَانَ﴾ وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا﴾ قَالَ مُجَاهِد: محبسا، وَقيل: حَصِيرا أَي: حاصرا، فعيل بِمَعْنى فَاعل، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
والحصر هُوَ الْحَبْس، والسجن يُسمى حَصِيرا فِي اللُّغَة.
222
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: للكلمة الَّتِي هِيَ أقوم، وأقوم أَي: أعدل، والكلمة هِيَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَه الزّجاج ﴿يهدي للَّتِي هِيَ أقوم﴾ أَي: للْحَال الَّتِي هِيَ أقوم، وَالْحَال الَّتِي هِيَ أقوم: تَوْحِيد الله، وَاتِّبَاع رسله، وطواعيته فِي أوامره.
وَقَوله: ﴿ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن يبشر الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات.
وَقَوله: ﴿أَن لَهُم أجرا كَبِيرا﴾ أَي: عَظِيما.
وَقَوله: ﴿وَأَن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة﴾ مَعْنَاهُ: ويبشر الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة أَنا ﴿أَعْتَدْنَا لَهُم عذَابا أَلِيمًا﴾ أَي: أعددنا. والبشارة هَاهُنَا بِمَعْنى الْخَبَر؛ لِأَن الْعَرَب لَا تضع الْبشَارَة إِلَّا فِي مَوضِع السرُور.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَي: ضع هَذَا الْخَبَر لَهُم مَوضِع الْبشَارَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَدْعُو الْإِنْسَان بِالشَّرِّ دعاءه بِالْخَيرِ وَكَانَ الْإِنْسَان عجولا﴾ دُعَاء الْإِنْسَان بِالشَّرِّ هُوَ أَن يَدْعُو على نَفسه وَأَهله وَولده حَالَة الْغَضَب، فَيَقُول: اللَّهُمَّ أهلكهم، اللَّهُمَّ العنهم، وَرُبمَا يَقُول لنَفسِهِ هَذِه الْمقَالة.
وَقَوله: ﴿دعاءه بِالْخَيرِ﴾ أَي: كدعائه بِالْخَيرِ، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.
222
﴿الْإِنْسَان عجولا (١١) ﴾
فَاسْتَجَاب الله لَهُ، وَضربت عُنُقه صبرا يَوْم بدر.
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر، أغضب كَمَا يغْضب الْبشر، وَأَيّمَا مُسلم لعنته، أَو سببته فاجعلها لَهُ صَلَاة وَرَحْمَة ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَتَى النَّبِي بأسير فسلمه إِلَى سَوْدَة بنت زَمعَة لتحفظه، وَكَانَ الْأَسير أَتَى مشدودا فَجعل جَمِيع اللَّيْل يَئِن، فَقَامَتْ سَوْدَة، وأرخت من وثَاقه؛ فهرب الْأَسير، فَلَمَّا دخل رَسُول الله قَالَ لَهَا: أَيْن الْأَسير؟ فَذكرت لَهُ ذَلِك فَقَالَ: قطع الله يدك، وَبعث خلف الْأَسير من رده، فأخرجت سَوْدَة يَدهَا؛ ليجيء من يقطعهَا بِدُعَاء النَّبِي؛ فَدخل عَلَيْهَا النَّبِي، وَرَآهَا على تِلْكَ الْحَالة، فَسَأَلَهَا: مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: لدعائك يَا رَسُول الله؛ فَقَالَ رَسُول الله: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر أغضب كَمَا يغْضب الْبشر.. " الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَان عجولا﴾ يَعْنِي: أَنه يعجل بِدُعَاء الشَّرّ، وَالله لَا يعجل بالإجابة.
وَفِي الْآيَة قَول وَهُوَ أَن هَذَا فِي آدم صلوَات الله عَلَيْهِ، وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أَدخل الرّوح فِي رَأسه، فَجعل ينظر إِلَى نَفسه كَيفَ يخلق! فَلَمَّا بلغ الرّوح وَسطه أَرَادَ أَن يقوم فَلم يقدر، فَقَالَ الله تَعَالَى: " وَخلق الْإِنْسَان عجولا ".
هَذَا محكي عَن قَتَادَة وَغَيره، وَعَن سلمَان الْفَارِسِي أَن الله خلق آدم فِي آخر سَاعَة
223
﴿وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ فمحونا آيَة اللَّيْل وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكُم ولتعلموا عدد السنين والحساب﴾ من يَوْم الْجُمُعَة، فَجعل الرّوح تجْرِي فِي جسده، وَيحيى آدم فَنظر إِلَى الشَّمْس، وَهِي تغرب، فَقَالَ: يَا رب، قبل اللَّيْل - أَي أتم خلقي قبل اللَّيْل - فَقَالَ الله تَعَالَى: " وَخلق الْإِنْسَان عجولا ".
وَفِي أصل الْآيَة قَول آخر؛ وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿وَيَدْعُو الْإِنْسَان بِالشَّرِّ﴾ أَي: يَدْعُو بِفعل الْمعْصِيَة كَمَا يَدْعُو بِفعل الطَّاعَة. قَالَ الشَّاعِر:
(عَسى فارج الْهم عَن يُوسُف يسخر لي ربة الْمحمل)
وَالصَّحِيح مَا قدمنَا من قبل.
224
قَوْله: ﴿وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ﴾ أَي: علامتين دالتين على أَن لَهما إِلَهًا وَاحِدًا.
وَقيل: علامتين على اللَّيْل وَالنَّهَار، وَالْمرَاد من اللَّيْل وَالنَّهَار: هُوَ الشَّمْس وَالْقَمَر.
وَقَوله: ﴿فمحونا آيَة اللَّيْل﴾ رُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: المحو هُوَ السوَاد الَّذِي فِي الْقَمَر.
وَفِي بعض الْآثَار أَن ابْن الْكواء قَامَ إِلَى عَليّ فَسَأَلَهُ عَن هَذَا فَقَالَ: أعمى - أَرَادَ عمى الْقلب - يسْأَل عَن عمياء! ثمَّ قَالَ: هُوَ السوَاد الَّذِي فِي الْقَمَر، وَقيل: إِن معنى قَوْله: ﴿فمحونا آيَة اللَّيْل﴾ أَي: جعلنَا اللَّيْل بِحَيْثُ لَا يبصر فِيهِ كَمَا [لَا] يبصر الْكتاب إِذا مُحي.
وَقَالَ قَتَادَة وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَهُوَ محكي أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس قَالُوا: إِن الله تَعَالَى خلق الشَّمْس وَالْقَمَر مضيئين نيرين كل وَاحِد مِنْهُمَا مثل الآخر فِي الضياء، فَلم يكن يعرف اللَّيْل من النَّهَار، وَالنَّهَار من اللَّيْل، فَأمر جِبْرِيل حَتَّى مسح بجناحه
224
﴿وكل شَيْء فصلناه تَفْصِيلًا (١٢) وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتابا يلقاه منشورا (١٣) اقْرَأ كتابك﴾ وَجه الْقَمَر.
قَالَ مقَاتل: انْتقصَ مِمَّا كَانَ تِسْعَة وَسِتُّونَ جُزْءا، وَبَقِي جُزْء وَاحِد.
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة﴾ أَي: مضيئة نيرة، وَقيل: ذَات أبصار أَي: يبصر بهَا.
وَقَوله: ﴿لتبتغوا فضلا من ربكُم﴾ بِالنَّهَارِ.
وَقَوله: ﴿ولتعلموا عدد السنين والحساب﴾ أَي: عدد السنين وحساب الشُّهُور وَالْأَيَّام.
وَقَوله: ﴿وكل شَيْء فصلناه تَفْصِيلًا﴾ أَي: بَيناهُ تبيينا.
225
قَوْله تَعَالَى: ﴿وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه﴾ روى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ مَعْنَاهُ: مَا قدر لَهُ من خير وَشر.
وَعَن مُجَاهِد: عمله من خير وَشر، وَعَن الضَّحَّاك: أَجله ورزقه وسعادته وشقاوته. وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: حَظه. وَقيل: كِتَابه.
وَعَن مُجَاهِد فِي رِوَايَة أُخْرَى: ورقة (مُتَعَلقَة) فِي عُنُقه مَكْتُوب فِيهَا شقي أَو سعيد. والأقوال مُتَقَارِبَة، وَإِنَّمَا سمي طائرا أَي: مَا طَار لَهُ من خير أَو شَرّ، وَهَذَا على جِهَة التَّمْثِيل والتشبيه، وَمن ذَلِك السوانح والبوارح، فالسانح: هُوَ الَّذِي يطير من قبل الْيَمين، فيتبرك بِهِ الْإِنْسَان، والبارح: هُوَ الَّذِي يطير من قبل الشمَال، فيتشاءم بِهِ الْإِنْسَان. قَالَ الشَّاعِر:
(تطير غدائر الْإِشْرَاك شفعا ووترا والزعامة للغلام)
وَقَوله: ﴿وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة﴾ وقرىء: " وَيخرج لَهُ " بِالْيَاءِ أَي: الطَّائِر يخرج لَهُ،
225
﴿كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا (١٤) من اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا (١٥) وَإِذا أردنَا﴾ وقرىء: " وَيخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتاب " على مَا لم يسم فَاعله، وقرىء " وَيخرج " بِفَتْح الْيَاء يَعْنِي: عمله يخرج ﴿كتابا﴾ يَوْم الْقِيَامَة، كَأَنَّهُ يتَحَوَّل الْعَمَل كتابا فِي الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿يلقاه﴾ قَرَأَ الْحسن: " يلقاه " بِضَم الْيَاء من التلقية، وَهَذَا فِي الشاذ.
وَقَوله: ﴿منشورا﴾ فِي الْآثَار أَن الله تَعَالَى يَأْمر الْملكَيْنِ بطي الصَّحِيفَة، إِذا تمّ عمر العَبْد، فَلَا ينشر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا الصُّحُف نشرت﴾.
226
قَوْله: ﴿اقْرَأ كتابك﴾ فِيهِ إِضْمَار، وَهُوَ أَنه يُقَال لَهُ: اقْرَأ كتابك. قَالَ قَتَادَة: يقْرَأ كل إِنْسَان سَوَاء كَانَ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا، أَو لم يكن قَارِئًا.
وَقَوله: ﴿كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا﴾ أَي: شَاهدا قَالَ الْحسن: عدل مَعَك من جعلك حسيب نَفسك.
وَقَالَ بَعضهم: يُقَال لَهُ هَذَا كتاب كَانَ لسَانك قلمه، وَرِيقك مداده، وجوارحك قرطاسه، وَكتب المملي على كاتبيك، فاقرأ مَا أمليت، وَالله أعلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ﴾ أَي: نفع اهتدائه لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا﴾ أَي: وبال ضلالته عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ يُقَال: نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فَإِنَّهُ قَالَ لمن أسلم: ارْجعُوا إِلَى دينكُمْ الْقَدِيم، فَإِنِّي أحمل أوزاركم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يُؤَاخذ أحد بذنب أحد، وَقيل: لَيْسَ لأحد أَن يُذنب، فَيَقُول: فلَان قد أذْنب فَأَنا أتبعه، فَإِنِّي لَا آخذ أحدا بذنب أحد.
وَقَوله: ﴿وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا﴾ هَذَا دَلِيل على أَن مَا وَجب وَجب
226
﴿أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميرا (١٦) ﴾ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعقلِ، فَإِن الله تَعَالَى نَص أَنه لَا يعذب أحدا حَتَّى يبْعَث الرَّسُول.
وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة أهل الفترة و [الْمَعْتُوه] والأصم والأبكم والأخرس والشيوخ الَّذين لم يدركوا الْإِسْلَام (فيؤجج) لَهُم نَارا، فَيَقُول: ادخلوها، فَيَقُولُونَ: كَيفَ ندْخلهَا، وَلم تبْعَث إِلَيْنَا رَسُولا؟ ! وَلَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا، فَيُرْسل الله إِلَيْهِم رَسُولا، فيطيعه من علم الله أَنه يطيعه، ويعصيه من علم الله أَنه يعصيه، فيفصل بَينهم على ذَلِك.
227
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة﴾ أَي: أهل قَرْيَة، وقرىء ﴿أمرنَا مُتْرَفِيهَا﴾ وَالْمَعْرُوف هَذَا، وقرىء: " آمرنا " - بِالْمدِّ -، " مُتْرَفِيهَا " وهذل محكي عَن عَليّ، وَقُرِئَ " أمرنَا " بِالْقصرِ وَالتَّشْدِيد، وَقُرِئَ: " أمرنَا - بِكَسْر الْمِيم - مُتْرَفِيهَا " وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس.
أما قَوْله: ﴿أمرنَا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ أمرناهم بِالطَّاعَةِ ففسقوا وعصوا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم ابْن جريج وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أمرنَا أَي: أكثرنا، يُقَال: أَمر الْقَوْم: إِذا كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِر:
(إِن يغبطوا يهبطوا وَإِن أمروا يَوْمًا يصيروا للهلك والنكد)
وَأنكر الْكسَائي أَن يكون أمرنَا بِمَعْنى أكثرنا، وَقَالَ: هُوَ آمرنا بِمَعْنى أكثرنا، وَهَذَا هُوَ اللُّغَة الْغَالِبَة.
وَأما أَبُو عُبَيْدَة فَقَالَ: تَقول الْعَرَب: أمرنَا بِمَعْنى أكثرنا، وَإِنَّمَا احتجنا إِلَى هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن الله تَعَالَى لَا يَأْمر بِالْمَعَاصِي.
وَهَذَا بِاتِّفَاق الْأمة وَفِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ أَنه يُقَال: كَيفَ يَأْمر مُتْرَفِيهَا بِالْفِسْقِ، وَالله تَعَالَى يَقُول: ﴿إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان﴾، وَيَقُول: {إِن الله
227
﴿وَكم أهلكنا من الْقُرُون من بعد نوح وَكفى بِرَبِّك بذنوب عباده خَبِيرا بَصيرًا (١٧) من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد ثمَّ جعلنَا لَهُ جَهَنَّم يصلاها مذموما مَدْحُورًا (١٨) وَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا (١٩) ﴾ لَا يَأْمر بالفحشاء) ؟ وَالْجَوَاب مَا سبق.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث وَهُوَ أَنه معنى قَوْله: ﴿أمرنَا مُتْرَفِيهَا﴾ أَي: بعثنَا، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة بعثنَا مُتْرَفِيهَا "، وَأما قَوْله: " أمرنَا " بِالتَّشْدِيدِ أَي: سلطنا.
وَقيل: أمرنَا أَي: جعلناهم أُمَرَاء؛ فَيجوز أَن يكون بعثنَا على هَذَا الْمَعْنى.
وَأما " أمرنَا " - بِكَسْر - الْمِيم فقد ذكرُوا أَنه ضَعِيف فِي اللُّغَة.
وَقَوله: ﴿مُتْرَفِيهَا﴾ أَي: منعميها، والمترف: الْملك الْمُنعم، أوردهُ ثَعْلَب.
وَقَوله: ﴿ففسقوا فِيهَا﴾ أَي: عصوا فِيهَا. ﴿فَحق عَلَيْهَا القَوْل﴾ أَي: وَجب عَلَيْهَا الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿فدمرناها تدميرا﴾ أَي: أهلكناها إهلاكا.
228
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم أهلكنا من الْقُرُون من بعد نوح﴾. اخْتلفُوا فِي الْقرن، فَقَالَ بَعضهم: الْقرن مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَقَالَ بَعضهم: مائَة سنة، وَقَالَ بَعضهم: ثَمَانُون سنة، وَقَالَ بَعضهم: أَرْبَعُونَ سنة، وَالْمرَاد من الْقُرُون أهل الْقُرُون.
وَقَوله: ﴿وَكفى بِرَبِّك بذنوب عباده خَبِيرا بَصيرًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كَانَ يُرِيد العاجلة﴾ أَي: الدُّنْيَا، وَهَذَا وصف الْكفَّار؛ لأَنهم الَّذين يُرِيدُونَ الدُّنْيَا، وَلَا يُرِيدُونَ الْآخِرَة، وَالْآيَة فِي قوم أَرَادوا العاجلة فَحسب.
وَقَوله: ﴿عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد﴾ يَعْنِي: لمن نُرِيد إهلاكه.
وَقَوله: ﴿ثمَّ جعلنَا لَهُ جَهَنَّم يصلاها﴾ أَي: يدخلهَا، وَقيل: يقاسي حرهَا.
وَقَوله: ﴿مذموما مَدْحُورًا﴾ والمذموم من الذَّم، والمدحور هُوَ المطرود والمبعد من
228
﴿كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من عَطاء رَبك وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا (٢٠) انْظُر كَيفَ فضلنَا بَعضهم على بعض وللآخرة أكبر دَرَجَات وأكبر تَفْضِيلًا (٢١) ﴾ رَحْمَة الله، يُقَال: (دحره) عَن كَذَا أَي: أبعده.
229
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن أَرَادَ الْآخِرَة﴾ أَي: طلب الْآخِرَة ﴿وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن﴾ أَي: عمل لَهَا عَملهَا، وَهُوَ مُؤمن.
وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا﴾ أَي: مَقْبُولًا.
وَيُقَال: إِن الشُّكْر من الله هُوَ قبُول الْحَسَنَات، والتجاوز عَن السَّيِّئَات، وَقيل معنى الْآيَة: أَنه وضع أَعْمَالهم الْموضع الَّذِي يشْكر عَلَيْهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار.
وَقَوله: ﴿من عَطاء رَبك﴾ أَي: من رزق رَبك.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا﴾ أَي: مَمْنُوعًا.
وَأجْمع أهل التَّفْسِير أَن معنى عَطاء رَبك فِي هَذِه السُّورَة هُوَ الدُّنْيَا، فَإِن الْآخِرَة لِلْمُتقين، وَلَيْسَ للْكفَّار فِيهَا نصيب.
وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله تَعَالَى يُعْطي الدُّنْيَا من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إِلَّا من يحب ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿انْظُر كَيفَ فضلنَا بَعضهم على بعض﴾ يَعْنِي: الدُّنْيَا، وَمعنى
229
﴿لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر فتقعد مذموما مخذولا (٢٢) ﴾ لتفضيل هُوَ التقتير والتوسيع، والتقليل والتكثير، وَالْقَبْض والبسط، وَقد رُوِيَ فِي بعض الْآثَار أَن الله تَعَالَى عرض ذُرِّيَّة آدم على آدم فَرَأى فيهم تَفَاوتا شَدِيدا! فَقَالَ: رب هلا سويت بَين خلقك؟ فَقَالَ: يَا آدم، أردْت أَن أشكر.
وَقَوله: ﴿وللآخرة أكبر دَرَجَات﴾ قد بَينا أَن الدرجَة مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْجنَّة مائَة دَرَجَة؛ مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ خَمْسمِائَة سنة ".
وَقَوله: ﴿وأكبر تَفْضِيلًا﴾ أَي: أعظم تَفْضِيلًا.
وَفِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الْمُؤمنِينَ يدْخلُونَ الْجنَّة بإيمَانهمْ؛ ويقتسمون الدَّرَجَات بأعمالهم ".
230
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد فِيهِ الْأمة، وَقد بَينا نَظِير هَذَا من قبل.
وَالْقَوْل الآخر: لَا تجْعَل أَيهَا الْإِنْسَان مَعَ الله إِلَهًا آخر، وَهَذَا الْخطاب مَعَ كل أحد.
وَقيل: إِن المُرَاد مِنْهُ النَّبِي على مَا هُوَ الظَّاهِر، وَهُوَ وَإِن كَانَ مَعْصُوما، فَلم يسْقط عَنهُ الْخطاب بالاحتراز والمباعدة عَن الْكفْر.
وَقَوله: ﴿فتقعد مذموما مخذولا﴾ أَي: مذموما من غير حمد، ومخذولا من غير نصر.
230
﴿وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا إِمَّا يبلغن عنْدك الْكبر أَحدهمَا أَو﴾
وَقيل: مخذولا أَي: متروكا من الْعِصْمَة، وَالله تَعَالَى إِذا ترك العَبْد فقد أهلكه.
وَمعنى قَوْله: ﴿فتقعد﴾ أَي: فَتكون مأفوكا، وَتبقى مخذولا.
231
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه﴾ قَرَأَ عبد الله بن مَسْعُود: " ووصى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه "، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ فِي الأَصْل " ووصى " إِلَّا أَنه اتَّصل الْوَاو بالصَّاد فِي الْكِتَابَة فقرىء: " وَقضى ". وَالْمَعْرُوف هُوَ قَوْله: ﴿وَقضى﴾. وَعَلِيهِ اتِّفَاق الْقُرَّاء؛ وَمَعْنَاهُ: وَأمر رَبك؛ وَحَقِيقَة الْقَضَاء هُوَ إحكام الشَّيْء وإمضاؤه على وَجه الْفَرَاغ مِنْهُ، وَمِنْه قَوْلهم: قضى القَاضِي بَين الْخَصْمَيْنِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون﴾ أَي: أفرغوا مَا فِي أَنفسكُم وامضوه، فعلى هَذَا معنى قَوْله: ﴿وَقضى رَبك﴾ أَي: حكم عَلَيْهِم رَبك حكم تعبد.
وَمعنى الْفَرَاغ هَاهُنَا: هُوَ إتْمَام التَّعَبُّد. وَفِي بعض التفاسير: أَن رجلا أَتَى الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَالَ: إِنِّي طلقت امْرَأَتي ثَلَاثًا، فَقَالَ: عصيت رَبك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتك، فَقَالَ الرجل: كَذَلِك كَانَ قَضَاء الله؟ فَقَالَ الْحسن: كذبت، مَا قضى الله. أَي: مَا أَمر الله، وَكَانَ الْحسن فصيحا فَلم يفهم النَّاس قَوْله؛ فَذكرُوا أَنه يُنكر الْقدر.
وَفِي بعض الرِّوَايَات أَنه قيل لَهُ: إِن بني أُميَّة يقتلُون النَّاس، وَيَقُولُونَ: كَذَا قَضَاء الله، فَقَالَ الْحسن: كذب أَعدَاء الله؛ وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.
وَقيل: إِنَّه أنكر جعلهم ذَلِك عِلّة لقتلهم، ذكره ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف.
وَقَوله: ﴿أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه﴾ يَعْنِي: أَن توحدوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ. وَقَوله: ﴿وبالوالدين إحسانا﴾ أَي: أَمر أَن تحسنوا بالوالدين إحسانا.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود، أَنه سَأَلَ رَسُول الله فَقَالَ: " أَي الذُّنُوب أعظم؟ فَقَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه. قَالَ: ثمَّ أَي؟ قَالَ: عقوق الْوَالِدين ".
231
﴿كِلَاهُمَا فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما وَقل لَهما قولا كَرِيمًا (٢٣) ﴾
وَقَوله:: ﴿إِمَّا يبلغان﴾ وَقُرِئَ: " إِمَّا يبلغن عنْدك الْكبر " فَقَوله: ﴿يبلغان﴾ ينْصَرف إِلَيْهِمَا؛ فعلى هَذَا قَوْله: ﴿أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا﴾ على وَجه الِاسْتِئْنَاف.
وَقَوله: ﴿يبلغن﴾ ينْصَرف إِلَى أَحدهمَا، فَقَوله: ﴿أَو كِلَاهُمَا﴾ على الْبَدَل مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿فَلَا تقل لَهما أُفٍّ﴾ قرئَ: " أُفٍّ " بِكَسْر الْفَاء، و " أُفٍّ " بِفَتْح الْفَاء، و " أُفٍّ " بِكَسْر الْفَاء والتنوين. قَالُوا: وَفِيه سِتّ لُغَات: أفًّا وأفٌّ وأفٍّ الثَّلَاثَة بِالتَّنْوِينِ، وأفَّ وأفُّ وأفِّ بِغَيْر التَّنْوِين.
قَالَ الْأَصْمَعِي: الأف وسخ الْأذن، والتف وسخ الْأَظْفَار، وَقيل: الأف وسخ الْأَظْفَار، والتف الشَّيْء الحقير، وَحَقِيقَته أَنه كلمة تقال عِنْد الضجر من الشَّيْء واستثقاله، وَقيل: الأف بِأَدْنَى مَا يتبرم بِهِ، فمنى الْآيَة: لَا يتبرم بهما، وَلَا يستثقل معالجة أذاهما. وَذكر مُجَاهِد أَنه عِنْد الْحَدث وَذكر الْبَوْل وَصَاحبه أَنه لَا يستثقل معالجتهما فِي ذَلِك؛ كَمَا لم يستثقلا معالجته.
وَقَوله: ﴿وَلَا تنهرهما﴾ الِانْتِهَار من النَّهر، [و] هُوَ الزّجر بالإغلاظ والصياح.
وَقَوله: ﴿وَقل لَهما قولا كَرِيمًا﴾ أَي: قولا لينًا.
وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: شَرّ الْآبَاء من يحملهُ الْبر على الإفراط، وَشر الْأَبْنَاء من يحملهُ التَّقْصِير على العقوق.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: لَو علم الله شَيْئا أبلغ فِي الزّجر من قَوْله: ﴿أُفٍّ﴾، لنهى عَن ذَلِك، ثمَّ قَالَ عَليّ: ليعْمَل الْبَار مَا شَاءَ فَلَنْ يدْخل النَّار، وليعمل الْعَاق مَا يَشَاء فَلَنْ يدْخل الْجنَّة.
وَفِي الْأَخْبَار، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْبر يزِيد فِي الْعُمر ". وَذكر مُسلم فِي
232
﴿واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا (٢٤) ربكُم أعلم بِمَا فِي نفوسكم إِن تَكُونُوا صالحين﴾ الصَّحِيح بِرِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " رغم أَنفه. رغم أَنفه، رغم أَنفه! فَقيل: من يَا رَسُول الله؟ قَالَ: من أدْرك أَبَوَيْهِ على الْكبر أَو أَحدهمَا فَلم يدْخل الْجنَّة ".
وروى عَامر بن ربيعَة أَن رجلا أُتِي النَّبِي فَقَالَ: " إِن أَبَوي قد توفيا، فَهَل بَقِي شَيْء أبرهما بِهِ؟ فَقَالَ: نعم، إِنْفَاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وَالِاسْتِغْفَار لَهما، وَالصَّدَََقَة عَنْهُمَا ".
233
قَوْله تَعَالَى: ﴿واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة﴾ مَعْنَاهُ: وألن جَانِبك لَهما.
وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أطعهما مَا أمراك. والخفض هُوَ التَّوَاضُع، وَجَنَاح الذل: ترك الاستعلاء. مَأْخُوذ من استعلاء الطَّائِر [بجناحيه].
وَقَوله: ﴿من الرَّحْمَة﴾ أَي: من الشَّفَقَة والعطف.
وَقَرَأَ عَاصِم الجحدري وَيحيى بن دثار: " واخفض لَهما جنَاح الذل " - بِكَسْر الذَّال - فالذل - بِضَم الذَّال - من التذلل، أَي: كن لَهما كالذليل المقهور، والذل - بِكَسْر الذَّال - من الانقياد وَالطَّاعَة.
وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: كن بَين يديهما كَالْعَبْدِ المذنب بَين يَدي السَّيِّد الْفظ الغليظ.
233
﴿فَإِنَّهُ كَانَ للأوابين غَفُورًا (٢٥) وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه والمسكين وَابْن السَّبِيل وَلَا تبذر تبذيرا (٢٦) ﴾
وَقَوله: ﴿وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا﴾ أَي: كَمَا رحماني بتربيتي صَغِيرا.
234
قَوْله تَعَالَى: ﴿ربكُم أعلم بِمَا فِي نفوسكم﴾ أَي: بِمَا فِي قُلُوبكُمْ. وَقَوله: ﴿إِن تَكُونُوا صالحين﴾ أَي: مُطِيعِينَ.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ للأوابين غَفُورًا﴾ وَوجه اتِّصَال الْآيَة بِمَا قبلهَا، هُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿ربكُم أعلم بِمَا فِي نفوسكم﴾ من العقوق وَالْبر، فَإِن بدرت من بار بدرة من العقوق، فَإِن الله كَانَ للأوابين غَفُورًا يَعْنِي: [للتوابين] غَفُورًا.
وَفِي الأواب أَقْوَال كَثِيرَة، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ الَّذِي يرجع من الشَّرّ إِلَى الْخَيْر، وَعَن سعيد بن الْمسيب: هُوَ الَّذِي كلما أذْنب تَابَ وَإِن كثر، وَعَن عبيد بن عُمَيْر: هُوَ الَّذِي لَا يقوم من مجْلِس حَتَّى يسْتَغْفر الله من ذنُوبه، وَقيل: إِن الأواب هُوَ المسبح، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا جبال أوبي مَعَه﴾ وَعَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ: الأواب الَّذِي يُصَلِّي بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَتسَمى الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت صَلَاة الْأَوَّابِينَ، وَعَن عون الْعقيلِيّ قَالَ: الأواب هُوَ الَّذِي يُصَلِّي الضُّحَى، وَعَن السّديّ قَالَ: هُوَ الَّذِي يُذنب سرا وَيَتُوب سرا.
وأصل الأواب: هُوَ الرَّاجِع، قَالَ الشَّاعِر:
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن ذَا الْقُرْبَى هَا هُنَا قرَابَة الْإِنْسَان، وَمعنى الْآيَة: الْأَمر بصلَة ذَوي الْأَرْحَام.
وَعَن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: ذَا الْقُرْبَى هَا هُنَا قرَابَة الرَّسُول. وَقَوله: ﴿والمسكين﴾
234
﴿إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين وَكَانَ الشَّيْطَان لرَبه كفورا (٢٧) وَإِمَّا تعرضن عَنْهُم ابْتِغَاء رَحْمَة من رَبك ترجوها فَقل لَهُم قولا ميسورا (٢٨) ﴾ أَي: السَّائِل الطّواف.
وَقَوله: ﴿وَابْن السَّبِيل﴾ قيل: الْمُنْقَطع بِهِ، وَقيل: الضَّيْف. وَقَوله: ﴿وَلَا تبذر تبذيرا﴾ أَي: لَا تسرف إسرافا.
والتبذير: هُوَ الْإِنْفَاق فِي غير طَاعَة الله تَعَالَى. وَعَن عُثْمَان بن الْأسود قَالَ: كنت أَطُوف مَعَ مُجَاهِد بِالْبَيْتِ فَقَالَ: لَو أنْفق عشرَة آلَاف دِرْهَم فِي طَاعَة الله مَا كَانَ مُسْرِفًا، وَلَو أنْفق درهما وَاحِدًا فِي مَعْصِيّة الله، كَانَ من المسرفين.
235
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين﴾ أَي: أشباه الشَّيَاطِين، وَقيل: سماهم إخْوَان الشَّيَاطِين؛ لأَنهم اتبعُوا مَا سَوَّلَ لَهُم الشَّيَاطِين، [وَقيل] لمن اتبع إنْسَانا فِي شَيْء هُوَ أَخُوهُ.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَان لرَبه كفورا﴾ أَي: بربه كَافِرًا.
قَوْله تَعَالَى:
(يَوْمَانِ يَوْم مقامات وتفدية وَيَوْم سير على الْأَعْدَاء تأويب)
﴿وَإِمَّا تعرضن عَنْهُم﴾ الْإِعْرَاض صرف الْوَجْه عَن الشَّيْء ( .) أَو إِلَى من هُوَ أولى مِنْهُ، أَو لإذلال من يصرف عَنهُ الْوَجْه.
وَقَوله: ﴿ابْتِغَاء رَحْمَة من رَبك﴾ أَي: طلب رزق من رَبك.
وَقَوله: ﴿ترجوها﴾ الرَّجَاء: تَعْلِيق النَّفس بِمن تطلب مِنْهُ الْخَيْر. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لَا ترجون إِلَّا رَبك، وَلَا تخافن إِلَّا من رَبك.
235
﴿وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط فتقعد ملوما محسورا (٢٩) ﴾
وَقَوله: ﴿فَقل لَهُم قولا ميسورا﴾ الْيُسْر: ضد الْعسر، والميسور هَا هُنَا هُوَ الْعدة فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين. وَهُوَ أَن يَقُول: يأتينا شَيْء فَنُعْطِيه. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: عدَّة النَّبِي دين، وَقيل: القَوْل الميسور هُوَ أَن تَقول: يرزقنا الله وَإِيَّاك، أَو يَقُول: بَارك الله فِيك.
وَاعْلَم أَن الْآيَة خطاب مَعَ النَّبِي، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم يسألونه، وَكَانَ يكره الرَّد وَلَيْسَ عِنْده شَيْء يعْطى، فَجعل يمسك من القَوْل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ﴿فَقل لَهُم قولا ميسورا﴾.
236
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك﴾ الْآيَة. روى ابْن مَسْعُود: " أَن امْرَأَة بعثت غُلَاما إِلَى رَسُول الله تسأله شَيْئا، فَقَالَ النَّبِي: لَيْسَ عِنْدِي شَيْء، فَرجع الْغُلَام وَذكر لَهَا؛ فَردَّتْ الْغُلَام وَقَالَت: سَله قَمِيصه الَّذِي هُوَ لابسه، فَسَأَلَهُ فَأعْطَاهُ ذَلِك، وَبَقِي فِي الْبَيْت بِلَا قَمِيص، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقَوله: ﴿وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك﴾ أَي: لَا تبخل، وَالْكَلَام على وَجه التَّمْثِيل فَجعل الْبَخِيل الممسك كمن يَده مغلولة إِلَى عُنُقه.
وَقَوله: ﴿وَلَا تبسطها كل الْبسط﴾ أَي: لَا تسرف فِي الْإِعْطَاء.
وَقَوله: ﴿فتقعد ملوما محسورا﴾ والملوم: هُوَ الَّذِي أَتَى بِمَا يلوم بِهِ نَفسه ويلومه غَيره، والمحسور هُوَ الْمُنْقَطع بِهِ الَّذِي قد ذهب مَاله، وَبَقِي ذَا حسرة، يُقَال: دَابَّة حسير إِذا أعيت من السّير فَقَامَتْ بالراكب. فَمَعْنَى الْآيَة لَا تحمل على نَفسك كل الْحمل فِي الْإِعْطَاء، فَتَصِير بِمَنْزِلَة من بلغت بِهِ النِّهَايَة فِي التَّعَب والإعياء.
قَالَ قَتَادَة: محسورا أَي: نَادِما. وأنشدوا فِي الدَّابَّة الحسير:
236
﴿إِن رَبك يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِنَّه كَانَ بعباده خَبِيرا بَصيرًا (٣٠) وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق نَحن نرزقكم وَإِيَّاكُم إِن قَتلهمْ كَانَ خطئا كَبِيرا (٣١) وَلَا تقربُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَة وساء سَبِيلا (٣٢) ﴾
(لَهُ ديك حسري... فَأَما عظامها فبيض... وَأما جلدهَا فصليب)
237
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن رَبك يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِنَّه كَانَ بعباده خَبِيرا بَصيرًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا معنى الْبسط وَالْقدر من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق﴾ أَي: خشيَة الْفقر، وَقد كَانُوا يئدون الْبَنَات خشيَة الْفقر.
وَقَوله: ﴿نَحن نرزقهم وَإِيَّاكُم﴾ أَي: نَحن الْمُعْطِي للزرق لَا أَنْتُم.
وَقَوله: ﴿إِن قَتلهمْ كَانَ خطأ كَبِيرا﴾ الْمَعْرُوف: " خطأ " بِالْكَسْرِ وَالْقصر. وَقَرَأَ ابْن كثير " خطاء كَبِيرا " بِالْكَسْرِ وَالْمدّ، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " خطأ " بِفَتْح الْخَاء والطاء وَالْقصر، وَقُرِئَ: " خطآء " بِالْفَتْح وَالْمدّ، فَأَما قَوْله: " خطأ " بِالْكَسْرِ وَالْقصر أَي: إِثْمًا كَبِيرا. وَأما قَوْله: " خطأ " بِالْكَسْرِ وَالْمدّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أهل اللُّغَة لَا يعْرفُونَ هَذَا! وَلَعَلَّه لُغَة.
وَأما قَوْله: " خطاء " بِالْفَتْح وَالْقصر مصدر مثل قَوْله: أخطا، وَالْفرق بَين الخِطأ والخَطأ كِلَاهُمَا بِالْقصرِ أَن الْخَطَأ - بِالْكَسْرِ - مَا يتَعَمَّد بِالْفِعْلِ وآثم فَاعله. وَالْخَطَأ - بِالْفَتْح - مَا لم يتَعَمَّد. وأنشدوا:
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقربُوا الزِّنَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ فَاحِشَة﴾ الْفَاحِشَة: فعل قَبِيح على أقبح الْوُجُوه.
وَقَوله: ﴿وساء سَبِيلا﴾ أَي: سَاءَ طَرِيقا، وَمَعْنَاهُ بئس السلك هَذَا الْفِعْل.
وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " فِي الزِّنَا
237
﴿وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا فَلَا يسرف فِي الْقَتْل إِنَّه كَانَ منصورا (٣٣) ﴾ سِتّ خِصَال: (ثَلَاث) فِي الدُّنْيَا، (وَثَلَاث) فِي الْآخِرَة؛ أما الثَّلَاث فِي الدُّنْيَا: يذهب نور الْوَجْه، وَيُورث الْفقر، وَينْقص الْعُمر، وَأما الثَّلَاث فِي الْآخِرَة: فَغَضب الرب، وَسُوء الْحساب، وَدخُول النَّار ".
238
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: الْكفْر بعد الْإِيمَان، وَالثَّيِّب الزَّانِي، وَالْقَاتِل نفسا بِغَيْر حق ".
فَقَوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ فالقتل بِالْحَقِّ أَن يَقع بِأحد هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة.
وَقَوله: ﴿وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا﴾ أَي: سُلْطَان الْقود، هَكَذَا قَالَه قَتَادَة وَغَيره. وَعَن الضَّحَّاك أَن السُّلْطَان هَا هُنَا هُوَ تَخْيِير ولي الْقَتِيل بَين أَن يقتل أَو يعْفُو، أَو يَأْخُذ الدِّيَة.
وأصل السُّلْطَان هُوَ الْحجَّة، فَلَمَّا ثَبت هَذَا لوَلِيّ الْقَتِيل بِحجَّة ظَاهِرَة سَمَّاهُ سُلْطَانا، وَقيل: معنى الْآيَة أَن الْوَلِيّ يقتل؛ فَإِن لم يكن ولي، قَتله السُّلْطَان.
وَقَوله: ﴿فَلَا يسرف فِي الْقَتْل﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن السَّرف فِي الْقَتْل أَن يقتل غير الْقَاتِل، وَقيل: إِن السَّرف فِي الْقَتْل أَن يمثل بالمقتول، وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: السَّرف فِي الْقَتْل أَن يطْلب قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ، وَقد كَانَت الْجَاهِلِيَّة لَا يرضون بقتل الْقَاتِل وَحده؛ إِذا كَانَ الْمَقْتُول شريفا وَيطْلبُونَ قتل الْقَاتِل وَجَمَاعَة مَعَه من أقربائه وَقَومه.
238
﴿وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إِن الْعَهْد كَانَ مسئولا (٣٤) ﴾ وَقُرِئَ: " فَلَا تسرف " " بِالتَّاءِ " على خطاب ولي الْقَتِيل، وَأما " بِالْيَاءِ " على المغايبة. وَفِي الْآيَة قَول آخر وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿فَلَا يسرف فِي الْقَتْل﴾ بِالْيَاءِ أَي: الْقَاتِل الأول الْمُتَعَدِّي.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ منصورا﴾ على هَذَا يَعْنِي أَن الْقَاتِل الأول لَو تعدى فولي الْقَتِيل مَنْصُور من قبلي، وَقد قَالَ أهل الْمعَانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿إِنَّه كَانَ منصورا﴾ مَعْنَاهُ أَي: الْقَتِيل مَنْصُور فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ أما النُّصْرَة فِي الدُّنْيَا فَفِي إِيجَاب الْقود لَهُ. وَأما النُّصْرَة فِي الْآخِرَة فبتكفير خطاياه، وبإيجاب الثأر لقاتله، وَقيل: إِنَّه كَانَ منصورا؛ أَي: ولي الْقَتِيل.
وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " فَلَا تسرفوا فِي الْقَتْل إِن ولي الْقَتِيل كَانَ منصورا ".
239
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا بالعفة الَّتِي هِيَ أحسن. وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ على أقاويل: أَحدهَا: أَن القربان بالأحسن هُوَ حفظ الْأُصُول، وتثمير الْفُرُوع، وَالْآخر: أَن القربان بالأحسن هُوَ التِّجَارَة فِي مَاله، وَهَذَا قريب من الأول، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن القربان بالأحسن هُوَ أَن لَا يخالط مَال الْيَتِيم بِمَال نَفسه.
فروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة ميز الأوصياء طعامهم من طَعَام الْيَتَامَى، وشرابهم من شراب الْيَتَامَى، وَكَانُوا يمسكون طَعَام الْيَتِيم حَتَّى يَأْكُل أَو يفْسد، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿وَإِن تخالطوهم فإخوانكم﴾.
وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: القربان بالأحسن أَن يستقرض من مَال الْيَتِيم إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِذا اسْتغنى رد.
239
﴿وأوفوا الْكَيْل إِذا كلتم وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا (٣٥) ﴾
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا يقرب مَاله أصلا، وَلَا يشرب المَاء من مَاله.
وَذهب بعض الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو يُوسُف إِلَى أَن قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ﴾ مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم﴾. وَقد ذكرنَا فِي هَذَا الْمَعْنى من قبل مَا هُوَ أَكثر من هَذَا.
وَقَوله: ﴿حَتَّى يبلغ أشده﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن الأشد هُوَ الْحلم، وَمِنْهُم من قَالَ: (ثَمَان) عشرَة سنة، وَمِنْهُم من قَالَ: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، وَهَذَا وَقت مُنْتَهى الْقُوَّة وَتَمام الْعقل بالحنكة والتجارب.
وَقَوله: ﴿وأوفوا بالعهد﴾ قَالَ قَتَادَة: الْعَهْد: كل مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ وَنهى عَنهُ.
وَقَوله: ﴿إِن الْعَهْد كَانَ مسئولا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ مَظْلُوما، وَهُوَ قَول السّديّ.
وَالْآخر: كَانَ مسئولا عَنهُ، وَهُوَ أحسن الْأَقَاوِيل، وَالثَّالِث: أَن الْعَهْد يسْأَل عَن صَاحب الْعَهْد. فَيُقَال لَهُ: فيمَ نقضت، كالموءودة تسْأَل فيمَ قتلت؟.
وَفِي معنى الْعَهْد قَول آخر: وَهُوَ أَنه كل مَا يلتزمه الْإِنْسَان على نَفسه.
240
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأوفوا الْكَيْل إِذا كلتم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه القبان، وَالْآخر: أَنه كل ميزَان يكون. ذكره الزّجاج.
وَاخْتلفُوا أَن القسطاس رومي أَو عَرَبِيّ؟ قَالَ مُجَاهِد: هُوَ رومي مُعرب، وَقَالَ غَيره:
240
﴿وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد﴾ هُوَ عَرَبِيّ مَأْخُوذ من الْقسْط، والقسط هُوَ الْعدْل، فعلى هَذَا معنى الْآيَة وزنوا بِالْعَدْلِ الْمُسْتَقيم.
وَقَوله: ﴿ذَلِك خير﴾ يَعْنِي: ذَلِك خير لكم فِي الدُّنْيَا بِحسن الذّكر. ﴿وَأحسن تَأْوِيلا﴾ وَأحسن عَاقِبَة فِي الْآخِرَة.
241
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم﴾ قَالُوا: مَعْنَاهُ وَلَا تقل مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم، وَقُرِئَ: " وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم " بِرَفْع الْقَاف؛ مَعْنَاهُ مَا ذكرنَا، وَمِنْهُم من قَالَ: معنى قَوْله: ﴿وَلَا تقف﴾ أَي: لَا ترم بِالظَّنِّ مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم. وأصل القيافة اتِّبَاع الْأَثر، يُقَال: قَفَوْت فلَانا، إِذا [اتبعت] أَثَره. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: وَلَا تتبع لسَانك مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فيتكلم بالحدس وَالظَّن.
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نَحن بَنو النَّضر بن كنَانَة لَا نقفوا أمنا، وَلَا ننتفي من أَبينَا ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من تقوف مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم حبس فِي ردغة الخبال حَتَّى يخرج مِمَّا قَالَ ".
وَقَوله: ﴿إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد﴾ رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: لَا تقل سَمِعت وَلم تسمع، وَلَا رَأَيْت وَلم تَرَ، وَلَا علمت وَلم تعلم. وَاخْتلف القَوْل فِي سُؤال السّمع وَالْبَصَر والفؤاد؛ فَفِي أحد الْقَوْلَيْنِ: يسْأَل الْمَرْء عَن سَمعه وبصره وفؤاده.
241
﴿كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا (٣٦) وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا إِنَّك لن تخرق الأَرْض وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا (٣٧) كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها (٣٨) ذَلِك مِمَّا﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد يسْأَل عَمَّا فعله الْمَرْء. فَإِن قيل: قد قَالَ: ﴿كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا﴾، وَأُولَئِكَ لَا يُقَال إِلَّا للعقلاء؟ وَالْجَوَاب: قُلْنَا: يجوز أَن يُقَال لغير الْعُقَلَاء. قَالَ جرير:
(عباد يخطئون وَأَنت رب كريم لَا يَلِيق بك الذموم)
242
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا﴾ المرح هُوَ الْفَرح بِالْبَاطِلِ، وَيُقَال: هُوَ الأشر والبطر، وَيُقَال: هُوَ البأو وَالْعَظَمَة، وَقيل: الْخُيَلَاء.
وَقَوله: ﴿إِنَّك لن تخرق الأَرْض﴾ أَي: لن تثقب الأَرْض، وَقيل: لن تقطع الأَرْض بالسير.
وَقَوله: ﴿وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا﴾ أَي: لَا يقدر أَن يَتَطَاوَل الْجبَال، وَفِي الْمَعْنى وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن الْإِنْسَان إِذا مَشى مختالا، فَمرَّة يمشي على عَقِبَيْهِ، وَمرَّة يمشي على صُدُور قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: لن تثقب الأَرْض إِن مشيت على عقبيك، وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا إِن مشيت على صُدُور قَدَمَيْك.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن من أَرَادَ أَن يخرق الأَرْض أَو يطاول الْجبَال لَا يحصل على شَيْء، فَكَذَلِك من مَشى مختالا لَا يحصل باختياله على شَيْء.
وَقَوله: ﴿كل ذَلِك كَانَ سَيِّئَة عِنْد رَبك مَكْرُوها﴾ قرى: " سيئه " وَقَوله: " سَيِّئَة " بِالتَّنْوِينِ أَي: كل مَا نهيت عَنهُ فِي هَذِه الْآيَات فَهِيَ سَيِّئَة مَكْرُوهَة عِنْد رَبك، وَمن قَرَأَ " سيئه " بِالرَّفْع فَمَعْنَاه على التَّبْعِيض؛ لِأَنَّهُ قد تقدم بعض مَا لَيْسَ بسيئة مثل قَوْله: ﴿وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه﴾، وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة وَقل رب ارحمهما﴾ وَغير ذَلِك. فَمَعْنَاه أَن مَا تقدم فِي هَذِه الْآيَات من السَّيئَة مَكْرُوهَة عِنْد رَبك.
242
﴿أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة وَلَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتلقى فِي جَهَنَّم ملوما مَدْحُورًا (٣٩) أفأصفاكم ربكُم بالبنين وَاتخذ من الْمَلَائِكَة إِنَاثًا إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما (٤٠) وَلَقَد صرفنَا فِي هَذَا الْقُرْآن لِيذكرُوا وَمَا يزيدهم إِلَّا نفورا (٤١) قل لَو كَانَ مَعَه﴾
243
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك مِمَّا أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة﴾ كل مَا أَمر الله بِهِ وَنَهَاهُ فَهِيَ حِكْمَة.
وَقَوله: ﴿وَلَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر﴾ قد بَينا هَذَا من قبل، وَهُوَ أَن الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة.
وَقَوله: ﴿فَتلقى فِي جَهَنَّم ملوما مَدْحُورًا﴾ أَي: مطرودا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفأصفاكم ربكُم﴾ مَعْنَاهُ: أفجعل لكم الصفوة، وَجعل لنَفسِهِ مَا لَيْسَ بصفوة؟ وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَة بَنَات الله.
وَقَوله: ﴿بالبنين وَاتخذ من الْمَلَائِكَة إِنَاثًا﴾ هَذَا مَعْنَاهُ.
وَقَوله: ﴿إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما﴾ أَي: فظيعا كَبِيرا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد صرفنَا فِي هَذَا الْقُرْآن﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: تَكْرِير الْأَمر وَالنَّهْي والمواعظ والقصص، وَالْآخر: تَبْيِين القَوْل بِجَمِيعِ جهاته.
وَقَوله: ﴿لِيذكرُوا﴾ مَعْنَاهُ: ليتعظوا.
وَقَوله: ﴿وَمَا يزيدهم إِلَّا نفورا﴾ أَي: مَا يزيدهم التَّبْيِين إِلَّا نفورا. وَقيل: تصريف القَوْل فِي الْأَمر وَالنَّهْي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل لَو كَانَ مَعَه﴾ أَي: مَعَ الله ﴿آلِهَة﴾.
وَقَوله: ﴿كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِذا لطلبوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا بالتقرب إِلَيْهِ، وَالْآخر: وَهُوَ الْأَصَح إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا بالمفازة والمغالبة وَطلب الْملك، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا﴾.
243
﴿آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا (٤٢) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا (٤٣) تسبح لَهُ السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح﴾
244
قَوْله تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿تسبح لَهُ السَّمَاوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ﴾ قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ﴾ قَالَ عِكْرِمَة: وَإِن من شَيْء حَيّ إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَعَن عِكْرِمَة أَيْضا قَالَ: الشَّجَرَة تسبحه.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: كل الْأَشْيَاء تسبح لله حَيا كَانَ أَو جمادا، وتسبيحها (بسبحان الله وَبِحَمْدِهِ).
وَعَن أبي صَالح أَنه سمع صرير بَاب فَقَالَ: هُوَ تسبيحه.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لَا تضربوا الدَّوَابّ على رءوسها فَإِنَّهَا تسبح الله، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن تَسْبِيح هَذِه الْأَشْيَاء: يَا حَلِيم، يَا غَفُور.
وروى مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو غياث عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: " وَإِن من شَيْء جماد أَو حَيّ إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ حَتَّى صرير الْبَاب ونقيض السّقف.
وَاعْلَم أَن لله فِي الجماد علما لَا يُعلمهُ غَيره، وَلَا يقف عَلَيْهِ غَيره، فَيَنْبَغِي أَن يُوكل علمه إِلَيْهِ. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: تَسْبِيح السَّمَاوَات وَالْأَرْض والجمادات وَسَائِر الْحَيَوَانَات سوى الْعُقَلَاء، هُوَ مَا دلّت بلطيف تركيبها وَعَجِيب هيئاتها على خَالِقهَا، فَيصير ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّسْبِيح مِنْهَا.
وَالْمَنْقُول عَن السّلف مَا قُلْنَا من قبل، وَالله أعلم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم﴾ أَي: لَا تعلمُونَ تسبيحهم.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن مَوضِع هَذِه الْآيَة فِي التَّوْرَاة ألف آيَة كَانَ الله تَعَالَى قَالَ:
244
﴿بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤) وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا (٤٥) وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن﴾ سبح لي كَذَا، وَسبح لي كَذَا، وَسبح لي كَذَا، وعَلى القَوْل الْأَخير قَوْله: ﴿وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم﴾ أَي: لَا تستدلون بمشاهدة هَذِه الْأَشْيَاء على تَعْظِيم الله. وَهَذَا لَيْسَ بمعتمد، وَالصَّحِيح مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ قد بَينا معنى الْحَلِيم والغفور.
245
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا﴾ رُوِيَ فِي الْأَخْبَار أَنه لما نزلت سُورَة ﴿تبت يدا أبي لَهب﴾ جَاءَتْهُ امْرَأَته أم جميل، وَمَعَهَا فهر، وقصدت النَّبِي وَهِي تَقول: مذمما أَبينَا، وَدينه قلينا، وَأمره عصينا، وَكَانَ النَّبِي جَالِسا مَعَ أبي بكر فِي الْحجر، فَقَالَ أَبُو بكر للنَّبِي: هَذِه الْمَرْأَة قد جَاءَت، فَقَالَ النَّبِي: إِنَّهَا لَا تراني؛ وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة؛ فَجَاءَت الْمَرْأَة، وَقَالَت: يَا أَبَا بكر، أَيْن صَاحبك؟ فقد بَلغنِي أَنه هجاني، وهجا أَبَا لَهب، وَقد علمت قُرَيْش أَنِّي بنت سَيِّدهَا. فَلم يقل أَبُو بكر شَيْئا، وَرجعت وَهِي تَقول: قد كنت جِئْت بِهَذَا الْحجر؛ لأرضخ رَأسه ". روته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ النَّبِي يُصَلِّي وَيقْرَأ الْقُرْآن، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يقصدونه بالأذى، فَكَانُوا يجيئون وَلَا يرونه.
وَقَوله: ﴿حِجَابا مَسْتُورا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: حِجَابا ساترا، وَالْآخر: مَسْتُورا بِهِ. وَقيل: إِن الْحجاب الَّذِي جعله الله هُوَ الأكنة الَّتِي خلقهَا على قُلُوبهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة﴾ أَي: أغطية، وَحكى بعض السّلف أَنه
245
﴿يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفورا (٤٦) نَحن أعلم بِمَا يَسْتَمِعُون بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْك وَإِذ هم نجوى إِذْ يَقُول الظَّالِمُونَ﴾ سمع رجلا يقْرَأ: ﴿وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذا جَاءَهُم الْهدى﴾ فَقَالَ: الأكنة.
وَقَوله: ﴿أَن يفقهوه﴾ مَعْنَاهُ: كَرَاهَة أَن يفقهوه، وَقيل: لِئَلَّا يفقهوه.
وَقَوله: ﴿وَفِي آذانهم وقرا﴾ أَي: ثقلا، وَمَعْنَاهُ: لِئَلَّا يسمعوه. وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة صَرِيحًا.
وَقَوله: ﴿وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده﴾ هُوَ قَوْله: لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَقَوله: ﴿ولوا على أدبارهم نفورا﴾ أَي: نافرين.
وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة﴾.
246
قَوْله تَعَالَى: ﴿نَحن أعلم بِمَا يَسْتَمِعُون بِهِ﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: " بِهِ " صلَة، وَمَعْنَاهُ نَحن أعلم بِمَا يَسْتَمِعُون، أَي: يطْلبُونَ سَمَاعه، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْك وَإِذ هم نجوى﴾ أَي: ذووا نجوى. وَفِي الْقِصَّة: أَن النَّبِي كَانَ يقْرَأ، وَالْمُشْرِكُونَ قد اجْتَمعُوا، وَكَانُوا يتناجون فِيمَا بَينهم، فَيَقُول هَذَا: كَاهِن، وَيَقُول هَذَا: سَاحر، وَيَقُول هَذَا: شَاعِر، وَيَقُول هَذَا: مَجْنُون؛ ويريدون بِهِ الرَّسُول.
وَقَوله: ﴿إِذْ يَقُول الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا﴾ قَالَ مُجَاهِد: مخدوعا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: رجلا لَهُ سحر، وَهُوَ الرئة، يَعْنِي: أَنه بشر. قَالَ الشَّاعِر:
(ذمّ الْمنَازل بعد منزلَة اللوى والعيش بعد أُولَئِكَ الْأَيَّام)
246
﴿إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا (٤٧) انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (٤٨) وَقَالُوا أئذا كُنَّا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جَدِيدا (٤٩) قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا (٥٠) ﴾
أَي: نعلل ونخدع، وَهُوَ على تَأْوِيل الخدع، وَهُوَ الْأَصَح.
وَقيل: مسحورا أَي: مصروفا عَن الْحق.
247
وَقَوله تَعَالَى: ﴿انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال﴾ أَي: الْأَشْبَاه.
وَقَوله: ﴿فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا﴾ أَي: وصُولا إِلَى طَرِيق الْحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا أءذا كُنَّا عظاما ورفاتا﴾ قَالَ الْفراء: رفاتا، أَي: تُرَابا، وَقَالَ غَيره: رفاتا: أَي: حطاما. يَعْنِي: إِذا تحطمنا.
وَقَوله: ﴿أءنا لمبعوثون خلقا جَدِيدا﴾ قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَأْمُرهُم بِأَن يَكُونُوا حِجَارَة أَو حديدا، وهم لَا يقدرُونَ عَلَيْهِ قطعا؟ وَالْجَوَاب: أَن هَذَا أَمر تعجيز، وَلَيْسَ بِأَمْر إِلْزَام، وَمعنى الْآيَة أَي: استشعروا فِي قُلُوبكُمْ أَنكُمْ حِجَارَة أَو (حَدِيد)، فَلَو كُنْتُم كَذَلِك لم تفوتوني، وَقيل مَعْنَاهُ: لَو كُنْتُم خلقْتُمْ من الْحِجَارَة وَالْحَدِيد بدل اللَّحْم والعظم لمتم ثمَّ بعثتم. قَالَه أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: هُوَ الْمَوْت. وَمَعْنَاهُ: لَو كُنْتُم الْمَوْت بِعَيْنِه لأدرككم الْمَوْت.
وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يجاء بِالْمَوْتِ يَوْم الْقِيَامَة على هَيْئَة كَبْش أغبر، فَيُوقف بَين الْجنَّة وَالنَّار؛ فيعرفه كلهم، فَيذْبَح، فَيُقَال: يَا أهل الْجنَّة، خُلُود لكم وَلَا موت، وَيَا أهل النَّار، خُلُود وَلَا موت ".
247
﴿أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الَّذِي فطركم أول مرّة فسينغضون إِلَيْك رُءُوسهم وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قل عَسى أَن يكون قَرِيبا (٥١) يَوْم يدعوكم فتستجيبون بِحَمْدِهِ وتظنون إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا (٥٢) ﴾
وَعَن مُجَاهِد أَن معنى قَوْله: ﴿أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم﴾ هُوَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال. أَي: لَو كُنْتُم كَذَلِك لمتم وبعثتم.
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ كل مَا يعظم فِي عين الْإِنْسَان وصدره. وَعَن الْكَلْبِيّ قَالَ: هُوَ الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿فسيقولون من يعيدنا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿قل الَّذِي فطركم أول مرّة﴾ أَي: أنشأكم أول مرّة، وَمن قدر على الْإِنْشَاء فَهُوَ على الْإِعَادَة أقدر.
وَقَوله: ﴿فسينغضون إِلَيْك رُءُوسهم﴾ أَي: يحركون إِلَيْك رُءُوسهم، وَهَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء.
وَقَوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ﴾ أَي: مَتى السَّاعَة؟ وَهَذَا أَيْضا قَالُوهُ استهزاء.
وَقَوله: ﴿قل عَسى أَن يكون قَرِيبا﴾ مَعْنَاهُ: أَنه قريب، " وَعَسَى " من الله وَاجِب على مَا بَينا.
248
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم يدعوكم فتستجيبون بِحَمْدِهِ﴾ أَي: حامدين لَهُ. فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا؟ وَالْخطاب مَعَ الْكفَّار؛ وَالْكَافِر كَيفَ يبْعَث حامدا لرَبه؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه خطاب للْمُؤْمِنين، وَقد انْقَطع خطاب الْكفَّار إِلَى هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْخطاب مَعَ الْكفَّار، وَمعنى قَوْله: ﴿فتستجيبون بِحَمْدِهِ﴾ أَي: مقرين أَنه خالقكم وباعثكم.
وَقَوله: ﴿وتظنون إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا﴾ هَذَا فِي جنب مُدَّة الْقِيَامَة (وَالْخُلُود) فَلَو مكث الْإِنْسَان فِي قَبره الألوف من السنين، يعد ذَلِك قَلِيلا فِي جنب مَا يصل إِلَيْهِ من
248
﴿وَقل لعبادي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن إِن الشَّيْطَان ينزغ بَينهم إِن الشَّيْطَان كَانَ للْإنْسَان عدوا مُبينًا (٥٣) ربكُم أعلم بكم إِن يَشَأْ يَرْحَمكُمْ أَو إِن يَشَأْ يعذبكم وَمَا أَرْسَلْنَاك﴾ الخلود.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِنَّهُم يستحقرون مُدَّة الدُّنْيَا فِي جنب الْقِيَامَة.
وَعَن سعيد بن أبي عرُوبَة قَالَ: يقومُونَ فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. وَالْأولَى أَن يكون هَذَا فِي الْمُؤمنِينَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَن الْكفَّار بَين النفختين، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سنة، فَإِذا حشروا وَقد استراحوا تِلْكَ الْمدَّة قَالُوا: مَا لبثنا إِلَّا قَلِيلا.
249
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقل لعبادي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن﴾ فِي الْآيَة قَولَانِ: الْأَشْهر وَالْأَظْهَر أَن قَوْله: ﴿يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن﴾ أَي: الْكفَّار، وَهَذَا قبل نُزُوله آيَة السَّيْف.
قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يستأذنون رَسُول الله فِي الْقِتَال فينهاهم عَن ذَلِك، وَيَأْمُرهُمْ بِالْإِحْسَانِ فِي القَوْل، وَالْإِحْسَان فِي القَوْل هُوَ قَوْلهم للْكفَّار: يهديكم الله. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن عمر شَتمه بعض الْكفَّار، فَأَرَادَ أَن يقاتله، فَأمره رَسُول الله بالصفح وَالْعَفو.
وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي الْآيَة: أَن المُرَاد بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَرَادَ بِهِ: أَن يَقُولُوا ويفعلوا الَّتِي هِيَ أحسن. أَي: الْخلَّة الَّتِي هِيَ أحسن.
وَقيل: المُرَاد مِنْهُ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
وَقَوله: ﴿إِن الشَّيْطَان ينزغ بَينهم﴾ أَي: يفْسد بإيقاع الْعَدَاوَة. وَقَوله: ﴿إِن الشَّيْطَان كَانَ للْإنْسَان عدوا مُبينًا﴾ أَي: عدوا ظَاهر الْعَدَاوَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ربكُم أعلم بكم إِن يَشَأْ يَرْحَمكُمْ وَإِن يَشَأْ يعذبكم﴾ قَالَ: يَرْحَمكُمْ بالتوفيق وَالْهِدَايَة، ويعذبكم بالإضلال، وَقيل: يَرْحَمكُمْ بالإنجاء من النَّار، أَو يعذبكم بالإيقاع فِيهِ. وَقَوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم وَكيلا﴾ أَي: كَفِيلا. قَالَ الشَّاعِر:
(أرانا موضِعين (لحتم) غيب ونسحر بِالطَّعَامِ وبالشراب)
249
﴿عَلَيْهِم وَكيلا (٥٤) وَرَبك أعلم بِمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض وآتينا دَاوُد زبورا (٥٥) قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم وَلَا تحويلا (٥٦) أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة أَيهمْ﴾ أَي: كَفِيل.
وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: لم يسلطك عَلَيْهِم بمنعهم من الْكفْر.
250
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَرَبك أعلم بِمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: وَرَبك الْعَالم بِمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْعَالم بأحوالهم وأفعالهم ومقاصدهم.
وَقَوله: ﴿وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض﴾ مَعْنَاهُ: أَنه اتخذ بَعضهم خَلِيلًا، وكلم بَعضهم، وسخر الْجِنّ وَالْإِنْس وَالطير وَالرِّيح لبَعْضهِم، وَأَحْيَا الْمَوْتَى لبَعْضهِم، فَهَذَا معنى التَّفْضِيل.
وَقَوله: ﴿وآتينا دَاوُد زبورا﴾ قَالُوا: الزبُور كتاب يشْتَمل على مائَة وَخمسين سُورَة، كلهَا تحميد وتمجيد وثناء على الله، لَيْسَ فِيهَا أَمر وَلَا نهي وَلَا حَلَال وَلَا حرَام. وَمعنى الْآيَة: أَنكُمْ لما لم تنكروا تَفْضِيل سَائِر النَّبِيين وإعطائهم الْكتب، فَلَا تنكروا فضل النَّبِي وإعطائه الْقُرْآن. فَيجوز أَن يكون هَذَا الْخطاب مَعَ أهل الْكتاب، وَيجوز أَن يكون مَعَ قوم كَانُوا مقرين بِهَذَا من مُشْركي الْعَرَب. وَالزَّبُور مَأْخُوذ من الزبر؛ والزبر هُوَ الْكِتَابَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه﴾ رُوِيَ أَن الْمُشْركين لما قحطوا حَتَّى أكلُوا الْكلاب والجيف اسْتَغَاثُوا بِالنَّبِيِّ، ليدعو لَهُم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿قل ادعوا الَّذين زعمتم﴾ أَنهم آلِهَة ﴿من دونه﴾ أَي: من دون الله.
وَقَوله: ﴿فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم﴾ أَي: كشف الْجُوع والقحط عَنْكُم.
وَقَوله: ﴿وَلَا تحويلا﴾ أَي: لَا يملكُونَ نقل الْحَال، وتحويلا من السقم إِلَى الصِّحَّة، وَمن الجدب إِلَى الخصب، وَمن الْعسر إِلَى الْيُسْر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أُولَئِكَ الَّذين تدعون "
250
﴿أقرب ويرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا (٥٧) وَإِن من قَرْيَة إِلَّا نَحن مهلكوها قبل يَوْم الْقِيَامَة أَو معذبوها عذَابا شَدِيدا كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب﴾ وَعنهُ أَنه قَالَ: كَانَ قوم من الْمُشْركين يعْبدُونَ قوما من الْجِنّ، فَأسلم الجنيون الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ، وَبَقِي هَؤُلَاءِ على شركهم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. مَعْنَاهُ: إِن الَّذين كُنْتُم تدعونهم وتعبدونهم ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أَي: يطْلبُونَ ﴿إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة﴾ والوسيلة هِيَ الدرجَة الرفيعة فِي الْجنَّة، وَقيل: الْوَسِيلَة كل مَا يتوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى أَي: يتَقرَّب.
وَقَوله: ﴿أَيهمْ أقرب﴾ مَعْنَاهُ: ينظرُونَ أَيهمْ أدنى وَسِيلَة، وَقيل: أَيهمْ أقرب إِلَى الله فيتوسلون بِهِ، وَقيل: الْآيَة فِي عُزَيْر والمسيح وَغَيرهمَا، وَقيل: الْآيَة فِي الْمَلَائِكَة؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، وَالْمَلَائِكَة عبيد يطْلبُونَ إِلَى الله الْوَسِيلَة، وَهَذَا فِي نفر من الْمُشْركين دون جَمِيعهم.
وَقَوله: ﴿ويرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه﴾ يَعْنِي: الجنيين الَّذين أَسْلمُوا وَالْمَلَائِكَة، أَو عُزَيْرًا والمسيح.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " لَو وزن خوف الْمُؤمن ورجاؤه لاعتدلا ".
وَقَوله: ﴿إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا﴾ أَي: يطْلب مِنْهُ الحذر.
251
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن من قَرْيَة إِلَّا نَحن مهلكوها قبل يَوْم الْقِيَامَة﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا من قَرْيَة إِلَّا نَحن مهلكوها فإهلاك الْمُؤمنِينَ بالإماتة، وإهلاك الْكفَّار بالاستئصال وَالْعَذَاب، وَقيل قَوْله: ﴿مهلكوها﴾ هَذَا فِي حق الْمُؤمنِينَ بالإماتة.
قَوْله: ﴿أَو معذبوها عذَابا شَدِيدا﴾ فِي حق الْكفَّار.
251
﴿مسطورا (٥٨) ﴾
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ عَن مقَاتل بن سُلَيْمَان قَالَ: وجدت فِي كتاب ضحاك بن مُزَاحم - وَهُوَ الْكتاب المخزون - وَقد ذكر فِيهِ مَا يهْلك الله بِهِ أهل كل بَلْدَة، أما مَكَّة فيهلكها الحبشان، وَأما الْمَدِينَة فالجوع، وَأما الْبَصْرَة فَالْفرق، وَأما الْكُوفَة فعدو [سلطه] الله عَلَيْهِم، وَأما الشَّام ومصر فويل لَهَا من عدوها، وَقيل: تخربها الرِّيَاح، وَأما أصفهان وَفَارِس وكرمان فبالظلمات وَالصَّوَاعِق، وَكَذَلِكَ ذكر فِي أرمينية وأذربيجان، وَأما الرّيّ، فيغلب عَلَيْهِم عدوهم من الديلم، وَأما الهمذان فيهلكهم عَدو لَهُم فَلَا همذان بعده، وَأما النيسابور فالرعود والبروق وَالرِّيح، وَأما مرو فيغلب عَلَيْهِ الرمل وَبِهِمَا الْعلمَاء الْكثير، وَأما هراة فيمطرون حيات فتأكلهم، وَأما سجستان فتهلك بِالرِّيحِ، وَأما بَلخ فيغلب عَلَيْهِ المَاء فتهلك، وَأما بُخَارى فيغلب عَلَيْهِم التّرْك، وَأما سَمَرْقَنْد وفرغانة والشاش وإسبيجاب وخوارزم فيغلب عَلَيْهِم بَنو قنطورا بن كركرى فيهلكون عَن آخِرهم، وَالْخَبَر غَرِيب جدا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " ويل لأهل بَغْدَاد يخسف بهم " والأثر غَرِيب.
وَفِي بعض المسانيد عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا يهْلك الله قوما حَتَّى يظْهر فيهم الزِّنَا والربا.
وَقَوله: ﴿كَانَ ذَلِك فِي الْكتب مسطورا﴾ أَي: مَكْتُوبًا، وَمعنى الْكتاب: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَفِي الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أول مَا خلق الله الْقَلَم فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
يُقَال: سطر إِذا كتب.
252
﴿وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ وآتينا ثَمُود النَّاقة مبصرة فظلموا بهَا وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا (٥٩) وَإِذ قُلْنَا لَك إِن رَبك أحَاط بِالنَّاسِ وَمَا جعلنَا﴾
253
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ﴾ الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز أَلا يُرْسل الله الْآيَات لِأَن الْأَوَّلين كذبُوا بهَا؟ وَمَا وَجه الإمتناع عَن إرْسَال الْآيَات بتكذيب الْأَوَّلين؟ وَالسُّؤَال مَعْرُوف، وَهُوَ مُشكل. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن " إِلَّا " مَحْذُوف، وَمثله قَول الشَّاعِر:
( [ذكرت] أَبَا أروى فَبت كأنني برد الْأُمُور الماضيات وَكيل)
(وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ لعَمْرو أَبِيك إِلَّا الفرقدان)
وَمَعْنَاهُ: وَمَا منعنَا من إرْسَال الْآيَات وَإِن كذب بهَا الْأَولونَ، يَعْنِي: أَن تَكْذِيب الْأَوَّلين لَا يمنعنا من إرْسَال الْآيَات.
وَالْجَوَاب الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ الَّتِي اقترحها الْكفَّار، فَإِنَّهُ قَالُوا للنَّبِي: اجْعَل لنا الصَّفَا ذَهَبا، أَو بعد عَنَّا هَذِه الْجبَال لنزرع الْأَرَاضِي.
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ﴾ معنى الِاسْتِثْنَاء فِي إهلاك الْأَوَّلين حِين كذبُوا بِالْآيَاتِ المقترحة، وَقد حكمنَا أَن هَذِه الْأمة ممهلة فِي الْعَذَاب، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر﴾ وتلخيص الْجَواب: أَن الْأَوَّلين اقترحوا الْآيَات فَلَمَّا أعْطوا كذبوها فأهلكوا، فَلَو أعطينا هَؤُلَاءِ الْآيَات المقترحة وكذبوا بهَا عاجلناهم بِالْعَذَابِ، وَقد حكمنَا بإمهالهم، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا الْجَواب أَنه قَالَ: ﴿وآتينا ثَمُود النَّاقة مبصرة﴾ أَي: آيَة نيرة مضيئة، أَو آيَة يبصر بهَا الْحق، وَقَوله: ﴿فظلموا بهَا﴾ أَي: كذبُوا بهَا، فعوجلوا بالعقوبة. فَهَذَا هُوَ المُرَاد، وَإِن كَانَ غير مَذْكُور.
وَقَوله: ﴿وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا﴾ أَي: تحذيرا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْنَا لَك إِن رَبك أحَاط بِالنَّاسِ﴾ قَالَ مُجَاهِد أَي هم فِي قَبضته. قَالَ الْحسن: حَال بَينهم وَبَين أَن يَقْتُلُوك أَو يكيدوك بِغَيْر الْقَتْل. فَهَذَا معنى الْإِحَاطَة.
253
﴿الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن ونخوفهم فَمَا يزيدهم إِلَّا طغيانا كَبِيرا (٦٠) ﴾
وَقَوله: ﴿وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس﴾ الْأَكْثَرُونَ أَن هَذِه الرُّؤْيَا هِيَ لَيْلَة الْمِعْرَاج، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَالْحسن، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالضَّحَّاك، وَغَيرهم.
فَإِن قَالَ قَائِل: لَيْلَة الْمِعْرَاج كَانَت رُؤْيَة عين لَا رُؤْيا نوم؟ وَالْجَوَاب: أَنه قد صَحَّ عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: هِيَ رُؤْيا عين، أسرى بِالنَّبِيِّ تِلْكَ اللَّيْلَة.
﴿والشجرة الملعونة﴾ هِيَ شَجَرَة الزقوم.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل أَبُو المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة قَالَ: أَنا أَبُو الْحسن بن فراس، قَالَ: أَنا أَبُو جَعْفَر الديبلي، قَالَ: أَنا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه.
وَأما ذكر الرُّؤْيَا بِمَعْنى الرُّؤْيَة هَاهُنَا يجوز؛ لِأَنَّهُمَا أخذا من معنى وَاحِد. وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ لَهُ معراجان: مِعْرَاج رُؤْيَة، ومعراج رُؤْيا.
وَأما معنى الْفِتْنَة على هَذَا القَوْل: أَن قوما من الَّذين آمنُوا ارْتَدُّوا حِين سمعُوا عَن النَّبِي هَذَا، وَفِي أصل الْآيَة قَول آخر: (وَهُوَ) أَن الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة هِيَ " أَن النَّبِي رأى فِي النّوم أَنه قد دخل مَكَّة، فاستعجل، وَسَار إِلَى مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة محرما بِالْعُمْرَةِ، وَذكر الصَّحَابَة أَنه رأى هَذِه الرُّؤْيَا، فَلَمَّا صد عَن مَكَّة حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الرُّجُوع افْتتن بذلك قوم.
254
وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور، أَن عمر قَالَ لأبي بكر: أَلَيْسَ قد رأى أَنه يدْخل مَكَّة؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: هَل قَالَ: إِنَّه يدْخل الْعَام؟ قَالَ: لَا. قَالَ: سيدخلها.. الْخَبَر إِلَى آخِره.
وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْآيَة: مَا حَكَاهُ الدمياطي فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " رأى النَّبِي فِي مَنَامه كَأَن أَوْلَاد الحكم بن أبي الْعَاصِ ينزون على منبره نزو القرود - وَفِي رِوَايَة (يتداولون منبره تداول الكرة) - فساءه ذَلِك، فَدَعَا أَبَا بكر وَعمر وأخبرهما بذلك، ثمَّ سمع أَن الحكم بن أبي الْعَاصِ يَحْكِي الرُّؤْيَا، فَلم يتهم أَبَا بكر، واتهم عمر فَدَعَاهُ، وَقَالَ لَهُ: لم أفشيت سري؟ فَقَالَ: وَالله مَا ذكرته لأحد؟ فَقَالَ رَسُول الله، كَيفَ وَالْحكم يَحْكِي هَذَا للنَّاس؟ ! فَقَالَ عمر: نَجْتَمِع ثَانِيًا حَتَّى أخْبرك من أفشاه. قَالَ: فجَاء هُوَ وَأَبُو بكر، وقعدا مَعَ الرَّسُول فِي ذَلِك الْموضع، وَجعلُوا يذكرُونَ هَذَا، ثمَّ إِن عمر خرج مبادرا، فَإِذا هُوَ بالحكم يستمع، فَذكر ذَلِك للنَّبِي، فطرده رَسُول الله من الْمَدِينَة، وَلم يأوه أَبُو بكر وَلَا عمر، وَمَا زَالَ طريدا إِلَى زمن عُثْمَان " الْقِصَّة إِلَى آخرهَا. هَذَا هُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي ذكر فِي الْآيَة.
وَقد رُوِيَ " أَن النَّبِي مَا روى مستجمعا [ضَاحِكا] مُنْذُ رأى هَذِه الرُّؤْيَا إِلَى أَن مَاتَ.
وَأما الشَّجَرَة الملعونة فالأكثرون أَنَّهَا شَجَرَة الزقوم، فَإِن قيل: أَيْن لعنها فِي الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الشَّجَرَة الملعونة، أَي: الملعون آكلها. وَقَالَ الزّجاج: الْعَرَب تَقول لكل طَعَام كريه: طَعَام مَلْعُون. فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
255
﴿وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس قَالَ أأسجد لمن خلقت طينا (٦١) ﴾ أريناك)، وَكَذَلِكَ مَا جعلنَا الشَّجَرَة الملعونة ﴿فِي الْقُرْآن﴾ إِلَّا فتْنَة للنَّاس.
وَأما الْفِتْنَة فِي شَجَرَة الزقوم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أَبَا جهل قَالَ: إِن النَّار تَأْكُل الشّجر، وَأَن مُحَمَّدًا يزْعم أَن النَّار تنْبت الشَّجَرَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن عبد الله بن الزبعري قَالَ: يَا قوم، إِن مُحَمَّدًا يخوفنا بالزقوم، وَمَا نَعْرِف الزقوم إِلَّا الزّبد وَالتَّمْر، فَقَالَ أَبُو جهل: يَا جَارِيَة، هَلُمِّي فزقمينا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي شَجَرَة الزقوم أَنَّهَا شَجَرَة الكشوثا الَّتِي تلتوي على الشّجر فتجففه. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن أَوْلَاد الحكم بن أبي الْعَاصِ، وَهُوَ مَرْوَان وَبَنوهُ.
ذكره سعيد بن الْمسيب، وَأنكر جمَاعَة من أهل التَّفْسِير هَذَا القَوْل، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿ونخوفهم﴾ أَي: نحذرهم ﴿فَمَا يزيدهم﴾ أَي: مَا يزيدهم التخويف ﴿إِلَّا طغيانا كَبِيرا﴾ أَي: تمردا وعتوا عَظِيما.
256
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم﴾ قد ذكرنَا معنى السُّجُود فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَاخْتِلَاف النَّاس فِيهِ. وَقَوله: ﴿فسجوا إِلَّا إِبْلِيس قَالَ أأسجد لمن خلقت طينا﴾ مَعْنَاهُ: لمن خلقته طينا. وَقَوله: ﴿طينا﴾ نصب على الْحَال أَي: فِي حَال طينته، وَفِي الْآيَة حذف، وَمَعْنَاهُ: أأسجد لمن خلقته من طين، وخلقتني من نَار، وللنار فضل على الطين، فَإِن النَّار تَأْكُل الطين. وَلم يعلم الْخَبيث أَن الْجَوَاهِر كلهَا من جنس وَاحِد؛ وَالْفضل لما فَضله الله تَعَالَى. وَفِي الطين من الْمَنَافِع مَا يقادم مَنَافِع النَّار، أَو يرقى عَلَيْهَا، وللطين من كرم الطَّبْع مَا لَيْسَ للنار.
256
﴿قَالَ أرأيتك هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ لَئِن أخرتن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لأحتنكن ذُريَّته إِلَّا قَلِيلا (٦٢) ﴾
وروى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله بعث إِبْلِيس حَتَّى أَخذ من الأَرْض قَبْضَة من التُّرَاب، وَكَانَ فِيهَا المالح والعذب فخلق مِنْهَا آدم، فَمن خلقه من العذب كَانَ سعيدا وَإِن كَانَ من أبوين كَافِرين، وَمن خلقه من المالح كَانَ شقيا، وَإِن كَانَ من صلب (بني آدم).
قَالَ ابْن عَبَّاس فَقَوله: ﴿أأسجد لمن خلقت طينا﴾ أَي: أأخضع لمن خلقته من طين، وَأَنا جِئْت بِهِ؟.
257
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ أرأيتك هَذَا الَّذِي﴾ قَوْله: " أَرَأَيْت " أَي: أَخْبرنِي، وَالْكَاف لتأكيد المخاطبة. وَقَوله تَعَالَى: ﴿هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ﴾ أَي: كرمته عَليّ وفضلته.
وَقَوله: ﴿لَئِن أخرتن﴾ أَي: أمهلتني ﴿إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾ فطمع الْخَبيث أَن ينطر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وينجو من الْمَوْت، فَأبى الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِ، على مَا قَالَ فِي سُورَة الْحجر: ﴿فَإنَّك من المنظرين إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم﴾.
وَقَوله: ﴿لأحتنكن ذُريَّته﴾ قَالُوا: لأستأصلنهم؛ يُقَال: احتنك الْجَرَاد الزَّرْع إِذا استأصله. وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ مَأْخُوذ من حنك الدَّابَّة إِذا شدّ فِي حنكها الْأَسْفَل حبلا (رسنا) يَسُوقهَا بِهِ.
وَمَعْنَاهُ: لأسوقنهم إِلَى الْمعاصِي سوقا، ولأميلنهم إِلَيْهِ ميلًا، وَقيل: لأستولين عَلَيْهِم بالإعواء، وَقيل: لأضلنهم.
وَقَوله: ﴿ذُريَّته﴾ أَوْلَاده ﴿إِلَّا قَلِيلا﴾ والقليل هم الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان﴾ فَإِن قيل: كَيفَ عرف إِبْلِيس أَن
257
﴿قَالَ اذْهَبْ فَمن تبعك مِنْهُم فَإِن جَهَنَّم جزاؤكم جَزَاء موفورا (٦٣) واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال﴾ أَكثر ذُرِّيَّة آدم يتبعونه؟ قُلْنَا: الْجَواب من وَجْهَيْن: أَنه لما رأى انقياد آدم لوسوسته طمع فِي ذُريَّته.
وَالثَّانِي: أَنه رأى ذَلِك فِي اللَّوْح مَكْتُوبًا، وَعرف كَمَا عرف الْمَلَائِكَة حِين قَالُوا: ﴿أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء﴾.
258
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ اذْهَبْ فَمن تبعك مِنْهُم فَإِن جَهَنَّم جزاؤكم جَزَاء موفورا﴾ أَي: موفرا وَمعنى موفرا أَي: مكملا وَقَالَ الشَّاعِر:
قَوْله تَعَالَى: ﴿واستفزز﴾ قَالَ الْأَزْهَرِي مَعْنَاهُ: وادعوهم دُعَاء تستفزهم إِلَى إجابتك، أَي: فتستخفهم.
وَقيل: استفزز بهم أَي: أسْرع بهم، وَقيل: احملهم على الإغواء. وَقَوله: ﴿من اسْتَطَعْت مِنْهُم﴾ بَينا معنى الِاسْتِطَاعَة، وَأنْشد الشَّاعِر فِي معنى الاستفزاز:
(وَمن يَجْعَل الْمَعْرُوف من دون عرضه يفسره وَمن لَا يتق الشتم يشْتم)
(فَقلت لَهَا هِيَ فَلَا تستفزي ذَوَات الْعُيُون وَالْبَيَان المحصب)
وَقَوله: ﴿بصوتك﴾ قَالَ مُجَاهِد: الْغناء وَاللَّهْو، وَقَالَ الْحسن: الدُّف والمزمار، وَقيل: كل صَوت يَدْعُو إِلَى غير طَاعَة الله، وَقيل: كل كَلَام يتَكَلَّم بِهِ فِي غير ذَات الله.
وَقَوله: ﴿وأجلب عَلَيْهِم﴾ أَي: اجْمَعْ عَلَيْهِم مكائدك وحيلك، يُقَال: جلب على الْعَدو إِذا جمع عَلَيْهِم الْجَيْش. وَفِي الْمثل: " إِذا لم تغلب فأجلب " وَقيل مَعْنَاهُ: أجمع عَلَيْهِم جيشك وجندك.
وَقَوله: ﴿بخيلك ورجلك﴾ كل رَاكب فِي مَعْصِيّة فَهُوَ من خيل إِبْلِيس، وكل ماشي فِي مَعْصِيَته فَهُوَ فِي رجل إِبْلِيس. وَالْخَيْل: الرَّاكِب، وَالرجل: المشاة، وَفِي الْخَبَر:
258
﴿وَالْأَوْلَاد وعدهم وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا (٦٤) ﴾ " يَا خيل الله، ارْكَبِي ".
وَقَوله: ﴿وشاركهم فِي الْأَمْوَال﴾ كل كسب من حرَام، وكل مَا أنْفق [فِي] مَعْصِيّة الله، فَهُوَ الَّذِي شَارك فِيهِ إِبْلِيس، وَقيل: مَا زين لَهُم من الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام.
وَقَوله: ﴿وَالْأَوْلَاد﴾ فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: الموءودة.
قَالَ مُجَاهِد: أَوْلَاد الزِّنَا، وَقَالَ غَيره: هُوَ تهويدهم وتنصيرهم وتمجيسهم.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى هُوَ: تسميتهم الْأَوْلَاد: عبد الْعُزَّى، وَعبد الدَّار، وَعبد منَاف، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِي بعض المسانيد عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا أَتَاهُ، وَقَالَ: إِن امْرَأَتي استيقظت، وَكَأن فِي فرجهَا شعلة نَار، قَالَ: ذَاك من وطىء الْجِنّ. قَالَ: فَمن أَوْلَادهم؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ المخنثون.
وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد: إِن الشَّيْطَان يقْعد على ذكر الرجل؛ فَإِذا لم يسم الله أصَاب امْرَأَته مَعَه، وَأنزل فِي فرجهَا كَمَا ينزل الرجل. وَرُوِيَ قَرِيبا من هَذَا عَن مُجَاهِد. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " إِن فِيكُم مغربين. قيل: وَمن المغربون؟ قَالَ: الَّذين شَارك فيهم الْجِنّ ".
وَقَوله: ﴿وعدهم﴾ أَي: قل لَهُم: لَا جنَّة وَلَا نَار، وَقيل: قل لَهُم: أَن لَا بعث.
وَقَوله: ﴿وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا﴾ الْغرُور: تَزْيِين الْبَاطِل بِمَا يظنّ أَنه حق. وَفِي بعض التفاسير بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي: " أَن إِبْلِيس قَالَ: يَا رب، لعنتني، وأخرجتني من الْجنَّة لأجل آدم؛ فسلطني عَلَيْهِ وعَلى ذُريَّته، فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنْت مسلط، فَقَالَ: إِنِّي لَا أستطيعه إِلَّا بك فزدني، فَقَالَ: ﴿واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم﴾
259
﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَكفى بِرَبِّك وَكيلا (٦٥) ﴾ إِلَى آخر الْآيَة. فَقَالَ آدم: يَا رب، أَنْت سلطت إِبْلِيس عَليّ وعَلى ذريتي، وَإِنِّي لَا أستطيعه إِلَّا بك فَمَالِي، فَقَالَ: لَا يُولد لَك ولد إِلَّا وكلت بِهِ من يَحْفَظُونَهُ، فَقَالَ: زِدْنِي، فَقَالَ: الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، والسيئة بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: التَّوْبَة معروضة مادام الرّوح فِي الْجَسَد، فَقَالَ: زِدْنِي، فَقَالَ: ﴿يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم﴾ الْآيَة ". وَفِي هَذَا الْخَبَر " أَن إِبْلِيس قَالَ: يَا رب، بعثت أَنْبيَاء، وأنزلت كتبا، فَمَا قرآني؟ قَالَ: الشّعْر. قَالَ: فَمَا كتابي؟ قَالَ: الوشم. قَالَ: فَمَا طَعَامي؟ قَالَ: كل طَعَام مَا لم يذكر عَلَيْهِ اسْم الله. قَالَ: فَمَا شرابي؟ قَالَ: كل مُسكر. قَالَ: فَمَا حبائلي؟ قَالَ: النِّسَاء. قَالَ: فَمَا آذَانِي؟ قَالَ المزمار. قَالَ: فَمَا بَيْتِي؟ قَالَ: الْحمام. قَالَ: فَمَا منتصبي؟ قَالَ: السُّوق ". وَالْخَبَر غَرِيب جدا، وَالله أعلم.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَأْمر الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَهُوَ يَقُول: ﴿إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء﴾ وَالْجَوَاب: أَن هَذَا أَمر تهديد ووعيد، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُم﴾ وكالرجل يَقُول لغيره: افْعَل مَا شِئْت فسترى، وَمثل هَذَا يكثر.
260
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان﴾ قد بَينا، وَقد قيل إِن مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان فِي أَن تحملهم على ذَنْب لَا أقبل تَوْبَتهمْ مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿وَكفى بِرَبِّك وَكيلا﴾ أَي: حَافِظًا، أَو من يُوكل إِلَيْهِ الْأَمر.
260
﴿ربكُم الَّذِي يزجي لكم الْفلك فِي الْبَحْر لتبتغوا من فَضله إِنَّه كَانَ بكم رحِيما (٦٦) وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا (٦٧) أفأمنتم أَن يخسف بكم جَانب الْبر أَو يُرْسل عَلَيْكُم﴾
261
قَوْله تَعَالَى: ﴿ربكُم الَّذِي يزجي لكم الْفلك فِي الْبَحْر﴾ أَي: يَسُوق ويسير، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا أَيهَا الرَّاكِب المزجى مطيته سَائل بني أَسد مَا هَذِه الصَّوْت)
وَقَوله: ﴿لكم الْفلك فِي الْبَحْر﴾ أَي: السَّفِينَة فِي الْبَحْر.
﴿ولتبتغوا من فَضله﴾ أَي: لتطلبوا من رزقه.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ بكم رحِيما﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر﴾ أَي: الشدَّة فِي الْبَحْر، وَإِنَّمَا خص الْبَحْر بِالذكر؛ لِأَن الْيَأْس عِنْد وُقُوع الشدَّة فِيهِ أغلب.
وَقَوله: ﴿ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه﴾ أَي: بَطل وَسقط.
وَقَوله: ﴿من تدعون﴾ أَي: من تَدعُونَهُ ﴿إِلَّا إِيَّاه﴾ أَي: إِلَّا الله، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم﴾ يَعْنِي: عَن الْإِخْلَاص والالتجاء إِلَى الله.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا﴾ أَي: كَافِرًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفأمنتم أَن يخسف بكم جَانب الْبر﴾ الْخَسْف بالشَّيْء: هُوَ تغييبه فِي الأَرْض، وَقيل: هُوَ ابتلاع الأَرْض إِيَّاه.
وَقَوله ﴿جَانب الْبر﴾ أَي: طرفا من الْبر.
وَقَوله: ﴿أَو يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا﴾ أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، والحصباء الْحِجَارَة. مَعْنَاهُ: ريحًا ترمي بِالْحِجَارَةِ.
261
﴿حاصبا ثمَّ لَا تَجدوا لكم وَكيلا (٦٨) أم أمنتم أَن يعيدكم فِيهِ تَارَة أُخْرَى فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفا من الرّيح فيغرقكم بِمَا كَفرْتُمْ ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعا (٦٩) وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم﴾
وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة الحاصب: الْبرد، وَقَالَ بَعضهم الحاصب: الثَّلج. قَالَ الفرزدق:
(مُسْتَقْبلين شمال الرّيح بطردهم ذُو حاصب كنديف [الْقطن] منثور)
وَقَوله: ﴿ثمَّ لَا تَجدوا لكم وَكيلا﴾ أَي: من تكلون أَمركُم إِلَيْهِ فينجيكم؟.
262
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم أمنتم أَن يعيدكم فِيهِ تَارَة أُخْرَى﴾ أَي: فِي الْبَحْر كرة أُخْرَى. وَقَوله: ﴿فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفا من الرّيح﴾ القاصف: هُوَ الرّيح الَّتِي تكسر كل شَيْء وصلت إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿فيغرقكم بِمَا كَفرْتُمْ﴾ أَي: بكفركم.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعا﴾ أَي: ثائرا، وَهُوَ طَالب الثأر، هَكَذَا قَالَه الْفراء، وَقيل: من يتبعنا بالإنكار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد كرمنا بني آدم﴾ فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ أكلهم بِالْيَدِ، وَسَائِر الْحَيَوَانَات يَأْكُلُون بأفواههم، وَقيل: امتداد الْقَامَة وانتصابها، وَالدَّوَاب منكبة على وجوهها، وَقيل: بِالْعقلِ والتمييز، وَقيل: بِأَن سخر جَمِيع الْأَشْيَاء لَهُم، وَقيل: بِأَن جعل فيهم خير أمة أخرجت للنَّاس، وَقيل: بالخط والقلم.
وَقَوله: ﴿وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر﴾ أَي: حملناهم فِي الْبر على الدَّوَابّ، وَفِي الْبَحْر على السفن.
وَقَوله: ﴿ورزقناهم من الطَّيِّبَات﴾ الَّتِي رزقها الله تَعَالَى بني آدم فِي الدُّنْيَا مَعْلُومَة، وَقيل: الْحَلَال، وَقيل.
262
﴿على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا (٧٠) يَوْم نَدْعُو كل أنَاس بإمامهم﴾
﴿وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا﴾ قَالَ أَبُو النَّضر مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ: على كل الْخلق سوى طَائِفَة من الْمَلَائِكَة مِنْهُم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وعزرائيل، وَفِي تَفْضِيل الْبشر على الْمَلَائِكَة أَو الْمَلَائِكَة على الْبشر كَلَام كثير لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَظَاهر الْآيَة أَنه فَضلهمْ على كثير من خلقه لَا على الْكل، وَيجوز أَن يذكر الْأَكْثَر، وَيُرَاد بِهِ الْكل، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْبشر أفضل من الْمَلَائِكَة على تَفْصِيل مَعْلُوم، وَهُوَ أَن عوام الْمُؤمنِينَ الأتقياء أفضل من عوام الْمَلَائِكَة، وخواص الْمُؤمنِينَ أفضل من خَواص الْمَلَائِكَة. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة﴾ والبرية كل من خلق الله على الْعُمُوم.
263
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَوْم نَدْعُو كل أنَاس بإمامهم﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: بِنَبِيِّهِمْ، وَالْآخر: بِكِتَابِهِمْ، وَالثَّالِث: بأعمالهم، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِمَام هدى وَإِمَام ضَلَالَة، وَعَن سعيد بن الْمسيب: كل قوم يَجْتَمعُونَ إِلَى رئيسهم فِي الْخَيْر وَالشَّر. وَفِي الْخَبَر: يُنَادى يَوْم الْقِيَامَة: قومُوا يَا متبعي مُوسَى، يَا متبعي عِيسَى، يَا متبعي مُحَمَّد، يَا متبعي شَيْطَان، يَا متبعي كَذَا وَكَذَا.
وَفِي جَامع [أبي] عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي هَذِه الْآيَة: " أَن النَّبِي قَالَ: يعْطى الْمُؤمن كِتَابه بِيَمِينِهِ، ويمد فِي جِسْمه سِتُّونَ ذِرَاعا، ويبيض وَجهه، وَيُوضَع على رَأسه تَاج من لُؤْلُؤ، فَيقبل إِلَى أَصْحَابه، وَيَقُول لَهُم: أَبْشِرُوا؛ فَلِكُل رجل مِنْكُم مثل هَذَا. وَأما الْكَافِر فَيعْطى كِتَابه بِشمَالِهِ، ويمد فِي جِسْمه سِتُّونَ ذِرَاعا، ويسود وَجهه، وَيُوضَع على رَأسه تَاج من نَار، فَيقبل (إِلَى) أَصْحَابه وَيَقُول لَهُم: أَبْشِرُوا؛ فَلِكُل رجل مِنْكُم مثل هَذَا ".
263
﴿فَمن أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَأُولَئِك يقرءُون كِتَابهمْ وَلَا يظْلمُونَ فتيلا (٧١) وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا (٧٢) وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَأُولَئِك يقرءُون كِتَابهمْ﴾ وَالْكتاب: هُوَ صحيفَة الْحَسَنَات والسيئات.
وَقَوله: ﴿وَلَا يظْلمُونَ فتيلا﴾ أَي: لَا ينقص من حَقهم بِقدر الفتيل.
والفتيل: هُوَ الَّذِي فِي شقّ النواة، وَقيل: مَا فتل بَين الْأَصَابِع.
264
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا﴾ لَيْسَ الْعَمى هَاهُنَا هُوَ عمى الْبَصَر؛ لِأَن النَّاس يحشرون بأتم خلق مصححة الأجساد لخلود الْأَبَد. وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي قَالَ: " تحشرون يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غرلًا بهما " وَقَوله: بهما: أَي: مصححة الأجساد للخلود. فعلى هَذَا معنى قَوْله: ﴿وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى﴾ أَي: أعمى الْقلب عَن رُؤْيَة [الْحق] ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى﴾ أَي: أَشد عمى.
وَقيل مَعْنَاهُ: من كَانَ فِي هَذِه الدُّنْيَا بَعيدا عَن الْحق، فَهُوَ فِي الْآخِرَة أبعد، وَقيل: من كَانَ فِي هَذِه الدُّنْيَا أعمى من الِاعْتِبَار، فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى عَن الِاعْتِذَار.
وَقَوله: ﴿وأضل سَبِيلا﴾ أَي: أَخطَأ طَرِيقا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك﴾ مَعْنَاهُ: ليصرفونك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك. وَسبب نزُول الْآيَة أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: اطرد هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء عَنْك حَتَّى نجلس مَعَك ونسلم؛ فهم أَن يفعل ثمَّ يَدعُوهُم من بعد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن سعيد بن جُبَير وَمُجاهد أَنَّهُمَا قَالَا: طلبُوا من النَّبِي أَن يمس آلِهَتهم حَتَّى يسلمُوا ويتبعوه، فَقَالَ النَّبِي فِي نَفسه: وَمَا عَليّ أَن أفعل ذَلِك إِذا علم الله مني أَنِّي كَارِه لَهُ، وَكَانَ ذَلِك خاطر قلب، وَلم يكن عزما - فَأنْزل
264
﴿الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لتفتري علينا غَيره وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا (٧٣) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا (٧٤) ﴾ الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن أهل الطَّائِف لما جَاءُوا إِلَى النَّبِي ليسلموا، وَكَانَ استصعب عَلَيْهِ أَمرهم، وحاصرهم بضع عشرَة لَيْلَة، وَلم يفتح، فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا للنَّبِي: نسلم بِشَرْط أَن لَا نركع، وَأَن تَمَتعنَا بِاللات سنة من غير أَن نعبدها، وَذكروا غير هَذَا، فَقَالَ: " أما ترك الرُّكُوع فَلَا خير فِي دين لَا رُكُوع فِيهِ، وَأما اللات فَلَا أترك وثنا بَين الْمُسلمين؛ فراجعوه فِي أَمر اللات، وَقَالُوا: لتتحدث الْعَرَب زِيَادَة كرامتنا عَلَيْك، فَسكت النَّبِي، فطمع الْقَوْم عِنْد سُكُوته، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَهَذَا قَول مَعْرُوف.
وَقَوله: ﴿لتفتري علينا غَيره﴾ أَي: تَقول علينا غير مَا أَنزَلْنَاهُ عَلَيْك. وَقَوله: ﴿وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا﴾ أَي: صاحبا ووديدا.
265
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إلَيْهِنَّ شَيْئا قَلِيلا﴾ معنى كَاد أَي: قرب، وكدت أَي: قربت من الْفِعْل.
وَقَوله: ﴿شَيْئا قَلِيلا﴾ فِي مَوضِع الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ: لقد كدت تركن إِلَيْهِم ركونا. فَإِن قيل: النَّبِي كَانَ مَعْصُوما من الشّرك والكبائر، فَكيف يجوز أَن يقرب مِمَّا طلبوه مِنْهُ؛ وَالَّذِي طلبوه مِنْهُ كفر؟
الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نعتقد أَن الرَّسُول مَعْصُوم من الشّرك والكبائر، ونحمل على أَن مَا وجد مِنْهُ كَانَ هما من غير عزم، وَقد قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى وضع عَن أمتِي مَا حدثت بِهِ نَفسهَا مَا لم تَتَكَلَّم بِهِ أَو تعْمل " وَفِي الْجُمْلَة الله
265
﴿إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا (٧٥) ﴾ أعلم بِرَسُولِهِ من غَيره، وَقد قَالَ قَتَادَة: لما وَقع هَذَا كَانَ رَسُول الله يَقُول بعد ذَلِك: " اللَّهُمَّ، لَا تَكِلنِي إِلَى نَفسِي طرفَة عين ".
وَالْجَوَاب الثَّانِي: وَهُوَ أَنه قَالَ: ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن﴾ وَقد ثبته وَلم يركن، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته﴾ إِلَى أَن قَالَ: ﴿إِلَّا قَلِيلا﴾ وَقد تفضل الله، ورحم، وَلم يتبعوا الشَّيْطَان.
266
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: ضعف عَذَاب الْحَيَاة، وَضعف عَذَاب الْمَمَات.
وَقيل: ضعف عَذَاب الدُّنْيَا، وَضعف عَذَاب الْآخِرَة، وَقيل: إِن الضعْف بِمَعْنى الْعَذَاب، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لأذقناك عَذَاب الْحَيَاة وَعَذَاب الْمَمَات، وَإِنَّمَا سمي الْعَذَاب ضعفا لتضاعف الْأَلَم فِيهِ.
فَإِن قيل: لم يُضَاعف الْعَذَاب لَهُ؟ قُلْنَا: لعلو مرتبته كَمَا يُضَاعف الثَّوَاب لَهُ عِنْد الطَّاعَة. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين﴾ وَالْمعْنَى مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا﴾ أَي: لَا تَجِد من يمنعنا من عذابك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَادُوا ليستفزونك من الأَرْض ليخرجوك مِنْهَا﴾ الاستفزاز: هُوَ الإزعاج بِسُرْعَة. وَاخْتلفُوا فِي معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَسبب نُزُولهَا أَن يهود قُرَيْظَة وَالنضير وَبني قينقاع أَتَوا النَّبِي، وَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم، قد علمت أَن بِلَاد الْأَنْبِيَاء هِيَ الشَّام وَهِي الأَرْض المقدسة، وَمَتى سَمِعت
266
﴿وَإِن كَادُوا ليستفزونك من الأَرْض ليخرجوك مِنْهَا وَإِذا لَا يلبثُونَ خِلافك إِلَّا قَلِيلا (٧٦) سنة من قد أرسلنَا قبلك من رسلنَا وَلَا تَجِد لسنتنا تحويلا (٧٧) ﴾ بِنَبِي من تهَامَة؟ ! فَاخْرُج مَعنا إِلَى الشَّام نؤمن بك وننصرك؛ فهم النَّبِي بِالْخرُوجِ مَعَهم، وَضرب بقبته على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة ليخرج؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَالْأَرْض هَاهُنَا هِيَ الْمَدِينَة، وَهَذَا قَول مَعْرُوف.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْآيَة مَكِّيَّة، وَمعنى الأَرْض: أَرض مَكَّة، وَكَانَ الْمُشْركُونَ قد هموا أَن يخرجوه مِنْهَا أَو يقتلوه، فَأمره الله تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، وَأَن يخرج بِنَفسِهِ.
وَقيل: الأَرْض جَمِيع الأَرْض، والإخراج مِنْهَا هُوَ الْقَتْل.
وَقَوله: ﴿وَإِذا لَا يلبثُونَ خَلفك﴾ وقرىء: " خِلافك " وَمَعْنَاهُ: بعْدك ﴿إِلَّا قَلِيلا﴾ وَمعنى الْقَلِيل على القَوْل الثَّانِي: مَا بَين خُرُوج رَسُول الله إِلَى أَن قتلوا ببدر، وعَلى القَوْل الأول مُدَّة الْحَيَاة.
267
قَوْله تَعَالَى: ﴿سنة من قد أَرْسَلْنَاك قبلك من رسلنَا﴾ الْآيَة. [انتصبت] السّنة؛ لِأَن مَعْنَاهُ: [هَذِه] السّنة كَسنة من قد أرسلنَا، ثمَّ حذفت الْكَاف فانتصبت السّنة، وَمعنى سنة الله هُوَ استئصال الْقَوْم بِالْهَلَاكِ إِذا أخرجُوا الرَّسُول أَو قَتَلُوهُ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَجِد لسنتنا تحويلا﴾ أَي: تبديلا، وَقيل: لعادتنا، وَمَعْنَاهُ: مَا أجْرى الله تَعَالَى من الْعَادة فِي خلقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس﴾ اخْتلفُوا فِي الدلوك: قَالَ ابْن [مَسْعُود] : هُوَ الْغُرُوب، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الزَّوَال، وَقد حُكيَ عَنْهُمَا كلا الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ اخْتلف التابعون فِي هَذَا. وأصل الدلوك من الْميل، وَالشَّمْس تميل إِذا زَالَت أَو غربت، وَقيل: من الدَّلْك، وَالْإِنْسَان عِنْد الزَّوَال يدلك عَيْنَيْهِ لشدَّة ضوء
267
﴿أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا (٧٨) ﴾ الشَّمْس، ويدلك عَيْنَيْهِ عِنْد الْغُرُوب، فَتبين الشَّمْس لمعْرِفَة جرمها. قَالَ الشَّاعِر:
(مصابيح لَيست باللواتي تقودها نُجُوم وَلَا بالآفلات الدوالك)
تَقول الْعَرَب: طَرِيق دوالك إِذا كَانَت ذَات شعب. وَأولى الْقَوْلَيْنِ أَن يحمل على الزَّوَال لِكَثْرَة الْقَائِلين بِهِ، فَإِن أَكثر التَّابِعين حملوه عَلَيْهِ، ولأنا إِذا حملنَا عَلَيْهِ تناولت الْآيَة جَمِيع الصَّلَوَات الْخمس، فَإِن قَوْله: ﴿لدلوك الشَّمْس﴾ يتَنَاوَل الظّهْر وَالْعصر.
وَقَوله: ﴿إِلَى غسق اللَّيْل﴾ يتَنَاوَل الْمغرب وَالْعشَاء.
وغسق اللَّيْل: ظُهُور ظلمته، وَقيل: اجْتِمَاع سوَاده.
وقله: ﴿وَقُرْآن الْفجْر﴾ أَي: صَلَاة الْفجْر، وَاسْتدلَّ الْعلمَاء بِهَذَا على وجوب الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة حَيْثُ سمى الصَّلَاة قُرْآنًا. وَقَوله: ﴿إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا﴾ أَي: تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار. وَمعنى تشهده: تحضره. وَقد صَحَّ بِرِوَايَة الْأَعْمَش رَحمَه الله عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " إِن قُرْآن الْفجْر - صَلَاة الْفجْر - تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار ". وَقيل معنى قَوْله: ﴿مشهودا﴾ أَي: أَمر النَّاس بشهودها ليصلوها جمَاعَة. وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول.
268
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ﴾ يُقَال: تهجد إِذا قَامَ بعد النّوم للصَّلَاة، وهجد إِذا نَام. قَالَ الْأَزْهَرِي: التَّهَجُّد: إِلْقَاء الهجور، وَهُوَ النّوم، وَعَن عَلْقَمَة وَالْأسود وَغَيرهمَا: أَنه لَا يكون التَّهَجُّد إِلَّا بعد النّوم.
وَقَوله: ﴿نَافِلَة لَك﴾ أَي: زِيَادَة لَك، قيل: هِيَ زِيَادَة لكل أحد فَمَا معنى
268
﴿وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا (٧٩) ﴾ تَخْصِيص النَّبِي بذلك؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ هِيَ تَكْفِير الذُّنُوب لغيره وَزِيَادَة لَهُ، لِأَن ذنُوبه مغفورة، وَقيل: نَافِلَة لَك أَي: فَرِيضَة عَلَيْك، وَقد كَانَ عَلَيْهِ الْقيام بِاللَّيْلِ فَرِيضَة، وَقيل: نَافِلَة لَك أَي: فَضِيلَة لَك، وَخص بِالذكر، ليَكُون لَهُ السَّبق فِي هَذِه الْفَضِيلَة؛ وليقتدي النَّاس بِهِ فِيهَا.
وَقَوله: ﴿عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا﴾ أجمع الْمُفَسِّرُونَ أَن هَذَا مقَام الشَّفَاعَة، وَقد ثَبت هَذَا عَن النَّبِي. وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَرَأَ قَوْله: ﴿عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا﴾ قَالَ: " هُوَ الْمقَام الَّذِي أشفع فِيهِ لأمتي " وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " أَنا سيد الْأَنْبِيَاء إِذا بعثوا، وَأَنا وافدهم إِذا تكلمُوا، وَأَنا مبشرهم إِذا أبلسوا، وَأَنا إمَامهمْ إِذا سجدوا؛ أَقُول فليسمع، وأشفع فأشفع، وأسأل فَأعْطِي ".
وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: يجلسه على الْعَرْش، وَعَن غَيره: يقعده على الْكُرْسِيّ بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: يقيمه عَن يَمِين الْعَرْش.
وَعَن حُذَيْفَة أَنه قَالَ: يجمع الله النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي صَعِيد وَاحِد يسمعهم الدَّاعِي، وَينْفذهُمْ الْبَصَر، وهم حُفَاة عُرَاة قيام، لَا يسمع مِنْهُم حس، فَيَقُول الله تَعَالَى: يَا مُحَمَّد، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك وَالْخَيْر فِي يَديك، والمهتدى من هديت، تَبَارَكت وَتَعَالَيْت، لَا ملْجأ وَلَا منجا مِنْك إِلَّا إِلَيْك، وَأَنا عَبدك بَين يَديك. قَالَ: فَهَذَا
269
﴿وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا (٨٠) ﴾ هُوَ الْمقَام الْمَحْمُود.
وَعَن بَعضهم أَن الْمقَام الْمَحْمُود: هُوَ لِوَاء الْحَمد الَّذِي يعْطى النَّبِي وَقد ثَبت عَن النَّبِي، أَنه قَالَ: " شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي ". وَقَالَ: " إِن لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، وَإِنِّي ادخرت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة ". وَعنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: " لَا أَزَال أشفع حَتَّى يسلم إِلَيّ صكاك بأسماء قوم وَجَبت لَهُم النَّار، وَحَتَّى يَقُول مَالك خَازِن النَّار: مَا تركت للنار فِي أمتك من نقمة ". وَالْأَخْبَار فِي الشَّفَاعَة كَثِيرَة، وَأول من أنكرها عَمْرو بن عبيد، وَهُوَ ضال مُبْتَدع بِإِجْمَاع أهل السّنة.
270
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أدخلني الْمَدِينَة مدْخل صدق، وَأخرج من مَكَّة مخرج صدق، وَذكر الصدْق لمدح الْإِخْرَاج، كَقَوْلِه: ﴿وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق﴾ فالصدق لمدح الْقدَم، وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿فِي مقْعد صدق﴾ لمدح المقعد. وَإِنَّمَا مدح لما يؤول إِلَيْهِ الْخُرُوج وَالدُّخُول من النَّصْر والعز ودولة الدّين.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أخرجني من مَكَّة، وأدخلني مَكَّة، قَالَه الضَّحَّاك. وَالْقَوْل الثَّالِث: أدخلني فِي الدّين، وأخرجني من الدُّنْيَا، وَالْقَوْل الرَّابِع: أدخلني فِي الرسَالَة، وأخرجني من الدُّنْيَا، وَقد قُمْت بِمَا وَجب على من حَقّهَا. وَالْقَوْل الْخَامِس: أخرجني يَعْنِي من المناهي وأدخلني يَعْنِي فِي الْأَوَامِر.
وَالْمَشْهُور هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. والمخرج بِمَعْنى الْإِخْرَاج، والمدخل بِمَعْنى الإدخال.
270
﴿وَقل جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا (٨١) ﴾
وَقَوله: ﴿وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا﴾ قَالَ مُجَاهِد: حجَّة بَيِّنَة، وَقَالَ غَيره: ملكا عَزِيزًا، وَالْملك الْعَزِيز: هُوَ الْمُؤَيد بِالْقُدْرَةِ وَالْحجّة.
271
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقل جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل﴾ قَالَ قَتَادَة: الْحق: الْقُرْآن، وَالْبَاطِل: الشَّيْطَان. وَقيل: الْحق: عبَادَة الله، وَالْبَاطِل: عبَادَة الْأَصْنَام. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَن النَّبِي دخل مَكَّة، وحول الْكَعْبَة ثلثمِائة وَسِتُّونَ صنما، فَجعل يطعنها وَيَقُول: جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا " ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد أَبُو المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ: أخبرنَا بِهِ الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني قَالَ: أَنا جدي أبي الْهَيْثَم قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن يُوسُف الْفربرِي قَالَ: أخبرنَا البُخَارِيّ قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن [الْمَدِينِيّ] قَالَ: أَنا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن أبي معمر، عَن عبد الله بن مَسْعُود الْخَبَر ".
وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي كَانَ يُشِير بِيَدِهِ إِلَى الصَّنَم فيستلقي الصَّنَم من غير أَن يمسهُ.
وَقَوله: ﴿إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا﴾ أَي: ذَاهِبًا. يُقَال: زهقت نَفسه إِذا خرجت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة﴾ الْآيَة قيل: إِن " من " هَا هُنَا للتجنيس لَا للتَّبْعِيض. وَمَعْنَاهُ: وننزل الْقُرْآن الَّذِي مِنْهُ الشِّفَاء، وَقيل: وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة أَي: مَا كُله شِفَاء فَيكون المُرَاد من الْبَعْض هُوَ الْكل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(أَو يعتلق بعض النُّفُوس حمامها... )
271
﴿وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا (٨٢) وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونأى بجانبه وَإِذا مَسّه الشَّرّ كَانَ يئوسا (٨٣) ﴾
أَي: كل النُّفُوس، الْحمام: هُوَ الْمَوْت.
وَأما المُرَاد من الشِّفَاء هُوَ الشِّفَاء من الْجَهْل بِالْعلمِ، وَمن الضَّلَالَة بِالْهدى، وَمن الشَّك بِالْيَقِينِ، وَقيل: المُرَاد من الشِّفَاء هُوَ الشِّفَاء من الْمَرَض بالتبرك بِهِ، وَقيل: إِن معنى الشِّفَاء هُوَ ظُهُور دَلِيل الرسَالَة مِنْهُ بالإعجاز وَعَجِيب النّظم والتأليف.
وَقَوله: ﴿وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين﴾ أَي: هُوَ بركَة وَبَيَان وَهدى للْمُؤْمِنين.
وَقَوله: ﴿وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا﴾ معنى زِيَادَة الخسار فِي الْقُرْآن للظالمين: مَا كَانَ يَتَجَدَّد مِنْهُم بالتكذيب عِنْد نُزُوله آيَة آيَة، فَذَلِك زِيَادَة الخسار وَالْكفْر.
272
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان﴾ أَي: بِالصِّحَّةِ، وسعة الرزق، وَطيب الْحَيَاة، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿أعرض﴾ أَي: تولى. وَقَوله: ﴿ونأى بجانبه﴾ أَي: تبَاعد بجانبه. وَقُرِئَ " وناء بجانبه " وَهَذَا يقرب مَعْنَاهُ من الأول. وَمعنى الْآيَة: هُوَ ظُهُور التضرع وَالْإِخْلَاص فِي الدُّعَاء والالتجاء إِلَى الله عِنْد المحنة والشدة، وَترك ذَلِك عِنْد النِّعْمَة وَالصِّحَّة. وَمعنى التباعد: هُوَ ترك التَّقَرُّب إِلَى الله، وَمَا كَانَ يظهره من ذَلِك عِنْد الضّر والشدة.
وَقَوله: ﴿وَإِذا مَسّه الشَّرّ كَانَ يؤسا﴾ أَي: آيسا. وَمَعْنَاهُ أَنه يتَضَرَّع وَيَدْعُو عِنْد الضّر والشدة، فَإِذا خرت الْإِجَابَة يئس، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَن ييئس من إِجَابَة الله، وَإِن تَأَخَّرت الْإِجَابَة مُدَّة طَوِيلَة.
وَعَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ: إِنِّي أَدْعُو الله بدعوة مُنْذُ عشْرين سنة وَلم يجبني إِلَيْهَا وَمَا آيست مِنْهَا. قيل: وَمَا تِلْكَ الدعْوَة؟ قَالَ: ترك مَا لَا يعنيني.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل كل يعْمل على شاكلته﴾ أَي: على جديلته وطبيعته، وَمَعْنَاهُ: مَا يشاكل خلقه. وصحف بَعضهم كل يعْمل على جديلته - وَهُوَ تَصْحِيف قريب من الْمَعْنى - والتصحيف فِي التَّفْسِير.
272
﴿قل كل يعْمل على شاكلته فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا (٨٤) ويسألونك عَن﴾
وَقَوله: ﴿فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا﴾ أَي: أوضح طَرِيقا، وَأبين مسلكا.
273
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك عَن الرّوح﴾ الْآيَة. روى عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " كنت مَعَ رَسُول الله فِي حرث، وَهُوَ متوكئ على عسيب فَجَاءَهُ قوم من الْيَهُود، وسألوه عَن الرّوح فَوقف رَسُول الله ينظر إِلَى السَّمَاء فَعرفت أَنه يُوحى إِلَيْهِ، وتنحيت عَنهُ، ثمَّ قَالَ: ﴿ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا﴾ وَهَذَا خبر صَحِيح ".
وَعَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عَطاء " أَن قُريْشًا اجْتمعت وَقَالُوا: إِن مُحَمَّدًا نَشأ فِينَا بالأمانة والصدق، وَمَا أتهمناه بكذب، وَقد ادّعى مَا ادّعى، فَابْعَثُوا بِنَفر إِلَى الْيَهُود، واسألوهم عَنهُ، فبعثوا بِقوم إِلَى الْمَدِينَة؛ لِيَسْأَلُوا يهود الْمَدِينَة عَنهُ، فَذَهَبُوا وسألوهم، فَقَالُوا: سلوه عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِن أجَاب عَن اثْنَيْنِ، وَلم يجب عَن الثَّالِث، فَهُوَ نَبِي، وَإِن أجَاب عَن الثَّلَاث، أَو لم يجب عَن شَيْء من الثَّلَاثَة فَلَيْسَ بِنَبِي، سلوه عَن ذِي القرنين، وَعَن فتية فقدوا فِي الزَّمن الأول، وَعَن الرّوح، - وَأَرَادُوا بِالَّذِي لَا يُجيب عَنهُ الرّوح - فَرَجَعُوا وسألوا النَّبِي عَن ذَلِك، وَقد اجْتمعت قُرَيْش فَقَالَ: سأجيبكم غَدا. وَلم يقل: إِن شَاءَ الله، فتلبث الْوَحْي أَرْبَعِينَ يَوْمًا لما أَرَادَ الله تَعَالَى، ثمَّ إِنَّه نزل بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله﴾ وَنزل الْوَحْي بِقصَّة (أَصْحَاب) الْكَهْف وقصة ذِي القرنين، وَنزل بِالروحِ قَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي﴾.
وَاخْتلفُوا فِي الرّوح على أقاويل: فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر ﴿نزل بِهِ الرّوح الْأمين﴾. وَعنهُ أَنه قَالَ: خلق فِي السَّمَاء من
273
﴿الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي﴾ جنس بني آدم لَهُم أَيدي وأرجل لَيْسُوا من الْمَلَائِكَة.. وَذكره أَبُو صَالح أَيْضا، وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الرّوح ملك ذُو سَبْعُونَ ألف وَجه، لكل وَجه سَبْعُونَ ألف لِسَان - وَفِي رِوَايَة سَبْعُونَ لِسَانا يسبح الله بألسنته كلهَا.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن الرّوح هَا هُنَا: هُوَ الْقُرْآن. وَقيل: إِنَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَمَعْنَاهُ أَنه لَيْسَ كَمَا قَالَ الْيَهُود وَلَا كَمَا قَالَ النَّصَارَى، وَلكنه روح الله وكلمته تكون بأَمْره.
وَأَصَح الْأَقَاوِيل: أَن الرّوح هَا هُنَا هُوَ الرّوح الَّذِي يحيا بِهِ الْإِنْسَان، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين. وَاخْتلفُوا فِيهِ: مِنْهُم من قَالَ: هُوَ الدَّم؛ أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ لم يغب مِنْهُ إِلَّا الدَّم، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ تنفس الْإِنْسَان من الْهَوَاء؛ أَلا ترى أَن المخنوق يَمُوت لاحتباس النَّفس عَلَيْهِ، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه عرض، وَقَالَ بَعضهم: جسم لطيف يشبه الرّيح، يجْرِي فِي تجاويف الْإِنْسَان. وَاسْتدلَّ من قَالَ إِنَّه جسم [إِن] الله تَعَالَى قَالَ: ﴿بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله﴾ وَإِنَّمَا يتَصَوَّر رزق الْأَجْسَام لَا رزق الْأَعْرَاض وتدل عَلَيْهِ أَن النَّبِي قَالَ: " أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلف من ثَمَر الْجنَّة أَو تَأْكُل ".
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد بأَرْبعَة آلَاف سنة " وَهَذَا كُله دَلِيل على أَن الرّوح جسم وَلَيْسَ بِعرْض، وَهَذَا أولى الْقَوْلَيْنِ.
274
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا (٨٥) ﴾
وَذكر بعض أهل الْمعَانِي: أَن الرّوح معنى اجْتمع فِيهِ النُّور وَالطّيب وَالْعلم والعلو والبقاء، أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ مَوْجُودا رَأَتْ الْعين وَسمعت الْأذن، فَإِذا ذهب الرّوح فَاتَ السّمع وَالْبَصَر، وَإِذا كَانَ مَوْجُودا فالإنسان طيب فَإِذا خرج أنتن وَإِذا كَانَ مَوْجُودا فيوجد فِي الْإِنْسَان الْعلم بالأشياء، فَإِذا فَاتَ صَار جَاهِلا، وَكَذَلِكَ تُوجد فِيهِ الْحَيَاة فَإِذا فَاتَ صَار الْإِنْسَان مَيتا، وَيُوجد فِيهِ الْعُلُوّ واللطافة فَاتَ تسفل وكنف.
وَأولى الْأَقَاوِيل فِي الرّوح أَن يُوكل علمه إِلَى الله.
وَيُقَال: هُوَ معنى يحيا بِهِ الْإِنْسَان لَا يُعلمهُ إِلَّا الله. وَذكر الْقُرْآن أَن الله تَعَالَى لم يخبر أحدا بِمَعْنى الرّوح، وَلَا يُعلمهُ غَيره. وَعَن عبد الله بن بُرَيْدَة أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى لم يطلع على معنى الرّوح ملكا مقربا، وَلَا نَبيا مُرْسلا، وَخرج رَسُول الله من الدُّنْيَا، وَلم يعلم معنى الرّوح، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿قل الرّوح من أَمر رَبِّي﴾ مَعْنَاهُ: من علم رَبِّي، وَقد قَالَ بَعضهم: إِن رَسُول الله علم معنى الرّوح إِلَّا أَنه لم يُخْبِرهُمْ بِهِ؛ لِأَن ترك إخبارهم بِهِ كَانَ علما على نبوته. وَأَيْضًا لم يُخْبِرهُمْ بِهِ؛ لِئَلَّا يكون إخْبَاره ذَرِيعَة إِلَى سُؤَالهمْ عَمَّا لَا يعنيهم.
وَقَوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا﴾ يَعْنِي: فِي جنب علم الله، وَيُقَال: إِن هَذَا خطاب للْيَهُود على معنى أَنه قَالَ للنَّبِي: قل للْيَهُود.
وَقيل: إِنَّه خطاب للرسول. وَقد رُوِيَ أَن الْيَهُود قَالُوا: قد أوتينا التَّوْرَاة، وفيهَا الْعلم الْكثير؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿قل لَو كَانَ الْبَحْر مدادا لكلمات رَبِّي﴾ الْآيَة مَعْنَاهُ: أَن مَا أُوتِيتُمْ من الْعلم الَّذِي فِي التَّوْرَاة قَلِيل فِي جنب علم الله.
275

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿كهيعص (١) ذكر رحمت رَبك عَبده زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا (٣) ﴾
(تَفْسِير) سُورَة مَرْيَم مَكِّيَّة
(و) قد روينَا عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه من تلادي، وَفِي رِوَايَة: من الْعتاق الأول ".
276
Icon