ﰡ
مكية، إلا قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ... الآيات الثمان. وهى: مائة وعشر آيات. وكأنّ وجه المناسبة لما قبله قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا «١»، إشارة إلى أنَّ مَن اتقى الله، وحصّل مقام الإحسان، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه، لئلا يتوهم الجهال أنه- عليه الصلاة والسلام- عرج به للقاء الحق تعالى فى جهة مخصوصة، فنزه الحقّ تعالى نفسه، فى افتتاح سورة الإسراء دفعا لهذا الإيهام، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)قلت: «سُبْحانَ» : مصدر غير متصرف، منصوب بفعل واجب الحذف، أي: أسبحُ سبحان. وهو بمعنى التسبيح، أي: التنزيه، وقد يستعمل عَلَمًا له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف، كقول الشاعر:
قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ | سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ «٢» |
يقول الحق جلّ جلاله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وهو: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: تنزيهاً له عن الأماكن والحدود والجهات، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء. وإنما وقع الإسراء برسوله- عليه الصلاة والسلام- ليقتبس أهلُ العالم العلوي، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي، فأسرى به لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعينه لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر، عِنْدَ البَيْتِ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبراق» «٣».
(٢) البيت للأعشى. انظر ديوانه، ص ٩٣، ولسان العرب (سبح).
(٣) أخرجه بطوله البخاري فى مواضع، منها: (مناقب الأنصار، باب المعراج)، ومسلم فى (الإيمان، باب الإسراء)، من حديث أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة.
قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره: قيل: كان رؤيا صادقة، وقيل: أسرى بروحه، وهو خلاف القرآن، وإن أسند إلى عائشة- رضى الله عنها-، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة، دخل كلام بعضهم في بعض، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها مد بصرها، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج، وهو أحسن ما رأيت، فعرج بي، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً، فقيل: هذا أبوك آدم، وفي السماء الثانية شابيْن، فقيل: هما يحيى وعيسى، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا، فقيل: أخوك يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم- صلوات الله على جميعهم.
فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ، كأنهم جراد من ذهب، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة- أي: عصفور- فتخلف، وقال: وما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابًا، ثم احتملني الرفرف إلى العرش، فنُوديتُ: حَيِّ ربك. فقلت: لا أُحصي ثناء عليك، أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نفسك» «١». فلما أخبر بما رأى كذَّبه أهل مكة، ولو كان في النوم ما أنكره المشركون. وقيل: كانا معراجين، بمكة والمدينة، في النوم واليقظة. هـ.
قلت: وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوي: مرْتَبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العَلِية خاصة بنبينا، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدَّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزي: وحجة الجمهور: أنه لو كان منامًا، لم تُنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يُكَذَّبُ، ألا ترى أن أُم هانئ قالت له- عليه الصلاة والسلام:
(لا تُخبر بذلك أحدًا). وحجة من قال إنه كان منامًا: قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ «٢»، وإنما يقال: الرؤيا، في المنام، ويقال، فيما يرى بالعين: رؤية، وقوله، في آخر حديث الإسراء: «فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام»، ثم قال: وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين «٣». هـ.
وقوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو: بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا
(٢) من الآية ٦٠ من سورة الإسراء.
(٣) وهذا هو الصواب.
قلت: معنى كلامه: أنه إذا تجلى بنوره الأصلي، من غير واسطة، لا يمكن إدراكه، وأما إذا تجلى بواسطة المظهر فإنه يُمكن إدراكه، والحاصل: أنّ الحق تعالى إنما يتجلى على قدر الرائي، لا على قدره إذ لا يطيقه أحد. وسيأتي، في الإشارة، بقية الكلام عليه، إن شاء الله. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي: السميع لأقوال حبيبه في حال مناجاته، البصيرُ بأحواله، فيكرمه ويُقربه على حسب ذلك.
الإشارة: قال بعض الصوفية: إنما قال تعالى: بِعَبْدِهِ، ولم يقل: بنبيه: ولا برسوله ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من الإسراء. غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به- عليه الصلاة والسلام-، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء على قدر تصفية الروح، وغيبتها عن هذا العالم الحسي، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش، وتخوض في بحار الجبروت، وأنوار الملكوت، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته. وإنما خص الإسراء بالليل لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل في هذه السورة. قاله المحشي.
وقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى، قال الورتجبي: أي: تنزه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية، وما يتوهم الخلق من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء، أنه كان في مكان، أي: لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السموات، أنه رفع إلى مكان، أو هو في مكان، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته، أي:
في بحر عظمته ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «الكونُ في يمين الرحمن أقل من خردلة». والعندية والفوقية منه، ونزّه نفسه عن أوهام المشبّهات، حيث توهموا أنه أسرى به إلى المكان، أي: سبحان من تنزه عن هذه التهمة. هـ. وقال القشيري: أرسله الحق تعالى ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ- عليهم السلام- آدابَ العبادة، قال تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «٢»، وما التَفَتَ يمينًا ولا شمالاً، ما طمع في مقام، ولا في إكرام، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ، تلك الليلة. هـ.
(٢) من الآية ١٧ من سورة النجم.
وقال، في قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى، لأن هناك الآية الكبرى من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سيناء، وطور زيتا، والمصيصة، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى، وفي تلك الجبال مواضع كشوف الحق، ولذلك قال: (بارَكْنا حَوْلَهُ)، انظر تمامه.
ولمّا كان لسيدنا موسى عليه السلام مزيد كلام ومراجعة مع نبينا- عليه الصلاة والسلام- فى قضية الإسراء، ذكره بإثره، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
قلت: (ذُرِّيَّةَ) : منادى، أي: يا ذرية من حملنا مع نوح، والمراد: بني إسرائيل. وفي ندائهم بذلك: تلطف وتذكير بالنعم، وقيل: مفعول أول بتتخذوا، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، فتكون كقوله:
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً «١».
يقول الحق جلّ جلاله: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة وَجَعَلْناهُ أي: التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وقلنا: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا تُفوضون إليه أموركم، وتُطيعونه فيما يأمركم. بل فوضوا أموركم إلى الله، واقصدوا بطاعتكم وجه الله، يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، فاذكروا نعمة الإنجاء من الغرق، وحملَ أسلافكم في سفينة نوح، إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً يحمد الله ويشكره في جميع حالاته. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وَحَثٌّ للذرية على الاقتداء به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو، إفراد الوجهة إلى الحق، ورفعُ الهمة عن الخلق، حتى لا يبقى الركون إلا إليه، ولا الاعتماد إلا عليه، وهو مقتضى التوحيد. قال تعالى: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا «٢». وبالله التوفيق.
(٢) من الآية ٩ من سورة المزمل.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٨]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أخبرناهم وأوحينا إليهم فِي الْكِتابِ التوراة، وقلنا: والله لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الخ. أو: قضينا عليهم فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ، لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي: إفسادتين، أُولاهُمَا: مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعياء، وقيل: أرمياء. وثانيتهما: قتل زكريا ويحيى، وقَصْدُ قتل عيسى عليه السلام، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ولتستكبرن عن طاعة الله، أو لتظلمن الناس وتستعلون عليهم علوًا كبيرًا.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ عقاب أُولاهُما أي: أول مرتي الإفساد بأن أفسدوا في الأرض المرة الأولى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا بختنصر وجنوده أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوة وبطش في الحرب شديد، فَجاسُوا فترددوا لطلبكم خِلالَ الدِّيارِ وسطه، للقتل أو الغارة، فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخربوا المسجد. وفي التذكرة للقرطبي: أنه سلط عليهم في المرة الأولى بخُتنصر، فسباهم، ونقل ذخائر بيت المقدس على سبعين ألف عَجَلَة، وبقوا في يده مائة سنة. ثم رحمهم الله تعالى وأنقذهم من يده، على يد ملك من ملوك فارس، ثم عصوا، فسلط عليهم ملك الروم قيصر. هـ. قال تعالى: وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: وكان وعد عقابهم وعدًا مقضيًا لا بدّ أن يُفعل.
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي: الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ أي: على الذين بُعثوا عليكم، فرجع المُلك إلى بني إسرائيل، واستنقذوا أسراهم، فقيل: على يد «بهْمَن بن إسفنديار» ملك فارس، فاستنقذهم، ورد أسراهم إلى الشام، وملَّكَ دَانْيال عليهم، فاستولوا على مَن كان فيها من أتباع بختنصر، وقيل: على يد داود عليه السلام حين قتل جالوت.
قال تعالى: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: عددًا مما كنتم. والنفير: من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل: جمع نَفر، وهم: المجتمعون للذهاب إلى الغزو.
وقال السهيلي في كتاب «التعريف والإعلام» : المبعوث في المرة الأولى هم أهل بابل، وكان إذ ذاك عليهم «بختنصر»، حين كذّبوا أرمياء وجرحوه وحبَسوه. وأما في المرة الأخيرة: فقد اختلف فيمن كان المبعوث عليهم، وأن ذلك كان بسبب قتل يحيى بن زكريا. فقيل: بختنصر، وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بزمان طويل. هـ. وقول الجلال السيوطي: وقد أفسدوا في الأُولى بقتل زكريا، فبعث عليهم جالوت وجنوده، ولا يصح لأنه يقتضي أن داود تأخر عن زكريا، وهو باطل.
ثم قال تعالى لبني إسرائيل: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الأخرى ويجبر كسركم، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا إلى عقوبتكم، وقد عادوا بتكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد قتله، فعاد إليهم بتسليطه عليهم، فقتل من بني قريظة سبعمائة في يوم واحد، وسبى ذراريهم، وباعهم في الأسواق، وأجلى بني النضير، وضرب الجزية على الباقين. هذا في الدنيا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ منهم ومن غيرهم حَصِيراً محبسًا، لا يقدرون على الخروج منها، أبدَ الآباد. وقيل: بساطًا كبسط الحصير، كقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قضى الحقُّ جلّ جلاله ما كان وما يكون في سابق علمه، فما من نَفَسٍ تُبديه إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه. فالواجب على العبد أن يكون ابن وقته، إذا أصبح نظر ما يفعل الله به. فأسرار القدر قد استأثر الله بعلمها،
(٢) من الآية ٤١١ من سورة الأعراف.
(بحر عميق لا تطيقه)، فأعاد عليه السؤال، فقال: (طريق مظلم لا تسلكه) لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء، وفرَّق بين القدرة والحكمة، وبين العبودية والربوبية، فإذا تحقق العارف بالوحدة، عِلَمَ أنَّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أَعدهم للإكرام، وأظهر خلقًا أعدهم للانتقام، وأبهم الأمر عليهم، ثم خلق فيهم كسبًا واختيارًا فيما يظهر لهم، وكلفهم لتقوم الحجة عليهم، وتظهر صورة العدل فيهم. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً. فالقدرة تُبرز ما سبق في الأزل، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان، وللشقاوة علامات كالخذلان والكفران. نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.
ومن علامة السعادة: التمسك بما جاء به القرآن العظيم، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١٠]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)
قلت: «وَأَنَّ الَّذِينَ» : إما عطف على «إِنَّ» الأولى، أو على «وَيُبَشِّرُ» بإضمار يخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي للطريق التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق وأعدلها، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وهو: الخلود في النعيم المقيم، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم. وَيخبر أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا أي: أعددنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، أو: ويُبشر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم، وعقاب أعدائهم.
الإشارة: لا شك أن القرآن يهدي إلى طريق الحق إما إلى طريق تُوصل إلى نِعم جنانه، أو إلى طريق تُوصل إلى شهوده ودوام رضوانه، فالأولى طريق الشرائع والأحكام، والثانية طريق الحقائق والإلهام، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم، ولذلك أمر شيوخُ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد، حتى يُشرق قلبه بأنوار المعارف، ويرجع من الفناء إلى البقاء، ثم بعد ذلك يُمر بالتلاوة، ليذوق حلاوة القرآن، ويتمتع بأنواره وأسراره، وقد أنكر بعضُ من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر- أعني: ترك التلاوة في بدايتهم- محتجًا بهذه الآية، ولا دليل فيها عليم لأن كون القرآن يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ يعني: التمسك والتدبر في معانيه، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب، كما هو مجرب، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له في علوم القوم، وربما يُذكر وجود التربية من أصلها، ويسد البابَ في وجوه الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
قلت: (دُعاءَهُ) : مفعول مطلق. والإضافة في قوله: (آيَةَ اللَّيْلِ) و (آيَةَ النَّهارِ) : بيانية، أي: فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين الشمس والقمر تكون للتخصيص، أي: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، أو: وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين.. الخ، و (كُلَّ شَيْءٍ) : منصوب بفعل مضمر، يفسره ما بعده، وكذا: (وَكُلَّ إِنسانٍ) و (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) : صفتان لكتاب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ على نفسه وولده وماله بِالشَّرِّ عند الغضب والقنط.
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك، وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يُسارع إلى كل ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء، كقول النضر بن الحارث: اللهم انصر خير الحزبين اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هّذاَ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ.. الآية «١». وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام، فإنه لما انتهى الروح إلى سُرَّته ذهب ليقوم، فسقط، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل، فإنَّ وقت الفرج محدود، فالليل والنهار مطيتان، يُقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دالتين على كمال قدرتنا، وباهر حكمتنا، يتعاقبان على الإنسان، يُقربان له كل بعيد، ويأتيان له بكل موعود. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي: فمحونا الآية التي هي الليل بأن جعلناها مظلمة، لتسكنوا فيه، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي: مضيئة مشرقة لتبتغوا من فضله، أو: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وهما: الشمس والقمر، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وهو القمر بأن جعلناه أطلس، لا نور فيه من ذاته، بل نوره مستمد من نور الشمس، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ، وهي الشمس مُبْصِرَةً للناس، أو مبصرًا فيها بالضوء الذاتي، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، وَلِتَعْلَمُوا
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي: حظه وما قُدر له من خير وشر، فهو لازم فِي عُنُقِهِ لا ينفك عنه.
ويقال لكل ما لزم الإنسان: قد لزم عنقه. وإنما قيل للحظ المقدَّر في الأزل من الخير والشر: طائر لقول العرب:
جرى لفلان الطائر بكذا من الخير والشر، على طريق الفأل والطيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر هو ملزم لأعناقهم، لا محيد لهم عنه، كالسلسلة اللازمة للعنق، يُجر بها إلى ما يُراد منه. ومثله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ «١»، وقال مجاهد: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقي أو سعيد». أو: وكل إنسان ألزمناه عمله يحمله في عنقه، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً مكتوب فيه عمله، وهو صحيفته. يَلْقاهُ مَنْشُوراً، ويقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبًا، لا تحاسبك إلا نفسك، أو: رقيبًا وشهيدًا على عملك، أو: لا يَعُد عليك أعمالك إلا نفسك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للإنسان أن يكون داعيًا بلسانه، مفوضًا لله في قلبه، لا يعقد على شيء من الحظوظ والمآرب، فقد يدعو بالخير في زعمه، وهو شر في نفس الأمر في حقه، وقد يدعو بالشر وهو خير. وقد تأْتيه المضار من حيث يرتقب المسار، وقد تأتيه المسار من حيث يخاف الضرر وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فالتأني والسكون من علامة العقل، والشَّرَّةُ والعَجَلَة من علامة الحمق. فما كان من قسمتك لا بدّ يأتيك في وقته المقدّر له، وما ليس من قسمتك لا يأتيك، ولو حرصت كل الحرص. فكل شيء سبق تفصيله وتقديره، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٥ الى ١٧]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
ومن كمال عدله تعالى: أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل، كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أحدا في الدنيا ولا في الآخرة حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يُبين الحجج، ويمهد الشرائع، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أنَّ لا حُكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، فمن بلغته دعوته، وخالف أمره، واستكبر عن أتباعه، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام- عليهم السلام- في جميع الأمم، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا «٢»، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «٣»، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت، وعمت الأقطار، واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام: مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ «٤» فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى، فمن بلغته دعوة أحد منهم، بوجه من الوجوه، فقصَّر، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة، مع إخبار النبي ﷺ أن آباءهم، الذين مضوا في الجاهلية، في النار، وأن ما يدحرج من الجُعَل «٥» خير منهم، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي- أحد أجلاء الشافعية، وعظماء أئمة الإسلام- في أول منهاجه، في باب: «من لم تبلغه الدعوة» : وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر لأنه، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف، كما
(٢) من الآية ٢٦ من سورة النحل.
(٣) من الآية ٢٤ من سورة فاطر.
(٤) من الآية ٧ من سورة ص. [.....]
(٥) الجعل: حيوان معروف كالخنفساء... انظر: النهاية فى غريب الحديث (جعل).
وقال الزركشي، في آخر باب النيات، من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة، حيث قال: وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري: وقال الشافعي:
ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه.
ثم قال تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أي: تعلقت إرادتنا بإهلاكها لإنفاذ قضائنا السابق، ودنا وقتُ إهلاكها، أَمَرْنا مُتْرَفِيها
منعميها، بمعنى رؤسائها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة، لقوله: فَفَسَقُوا فِيها
خرجوا عن أمرنا. وقيل: أمرناهم:
ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه، أو: جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم، وأفضى بهم إلى الفسوق، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله، أو بظهور معاصيهم.
فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. وَكَمْ أَهْلَكْنا أي: كثيرًا أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ أي: الأمم مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالمًا ببواطنها وظواهرها، فيعاقب عليها أو يعفو. وبالله التوفيق.
الإشارة: من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان في رفقة السائرين، ثم غلبه القضاء، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه، وما كنا معذبين أحدا بإسدال الحجاب بيننا وبينه، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب: حجاب الوهم بإثبات حس الكائنات، فلو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان.
وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة، فحق عليها القول بغم الحجاب، فدمرناها تدميرًا، أي: تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك، فتلفت وهلكت، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
قلت: (لِمَنْ نُرِيدُ) : بدل من ضمير (لَهُ) بدل بعض من كل. و (كُلًّا) : مفعول (نُمِدُّ)، و (هؤُلاءِ) : بدل منه.
و (كَيْفَ) : حال، و (دَرَجاتٍ) و (تَفْضِيلًا) : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الدنيا الْعاجِلَةَ، مقصورًا عليها همه، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ التعجيل له. قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه، ولا كل واحد جميع ما يهواه. قاله البيضاوي. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها يدخلها ويحترق بها، حال كونه مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودًا من رحمة الله. والآية في الكفار، وقيل: في المنافقين، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم. والأصح: أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها عمل لها عملها اللائق بها، وهو: الإتيان بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة اللام في قوله: «لَها» : اعتبار النية والإخلاص. والحال أن العامل مُؤْمِنٌ إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب، فإنه العمدة، فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند الله، مقبولاً مثابًا عليه فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة.
كُلًّا نُمِدُّ أي: كل واحد من الفريقين نُمد بالعطاء مرة بعد أخرى، هؤُلاءِ المريدين للدنيا، وَهَؤُلاءِ المريدين للآخرة، نُمد كلا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ في الدنيا، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها مَحْظُوراً ممنوعًا من أحد، لا يمنعه في الدنيا مؤمن ولا كافر، تفضلاً منه تعالى. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والجاه، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا، فينبغي الاعتناء بها دونها، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار.
الإشارة: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ. ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وهي صاغرة» «١»، واعلم أن الناس على قسمين قوم أقامهم الحق لخدمته، وهم: العباد والزهاد، وقوم اختصهم بمحبته، وهم: العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الكرامات والأنوار، وفي المعارف والأسرار. وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب، هذا في الدنيا، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين. وقال القشيري في تفسير الآية: منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة، ثم يجتمعون في الرؤية، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ. وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه. وأنشدوا:
لو يَسْمَعُون- كما سمعتُ- حديثها | خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا «٢» |
وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا، عند قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «٣». والله تعالى أعلم.
ثم بيّن السعى للآخرة، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
(٢) البيت لكثير عزة. انظر ديوانه (٤٤٢)، وتزيين الأسواق (١/ ٤١).
(٣) الآية ١٠٣ من سورة الأنعام.
ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام.
و «أُفٍّ» : اسم فعل، معناها: قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي: أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل: أُفّ لَهُ. وقال في القاموس: أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ: تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر.
وأُفّ: كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها «١»، ولغتها أربعون، ثم ذكرها. وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَضى رَبُّكَ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، ب أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة «من لم يشكر الناس لم يشكر الله».
ثم أمر ببرهما، فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما أي: مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي: فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسًا بطريق الأحرى. وقال في الإحياء: الأُفّ: وسخ الظفر، والتف: وسخ الأذن، أي: لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل: لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. هـ.
وَلا تَنْهَرْهُما ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً جميلاً لينًا لا غلظ فيه، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه مبالغة فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك مِنَ الرَّحْمَةِ أي: من إفراط الرحمة
ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي ﷺ أنه قال: «رِضَا اللهِ فى رضا الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا» «٢». ورُوي: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: «لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما». ورُوي أن شيخًا أتى النبي ﷺ فقال: إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال: إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال:
غَذَوْتُك مَوْلُودًا، ومُنْتُك يَافعًا، | تُعلُّ بما أُجْرِي عليك، وتَنْهَلُ |
إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ | لسُقْمِكَ، إلا باكِيًا أَتَملْمَلُ |
كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي | طُرِقتَ به دونى، وعينى تهمل |
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي | إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ |
جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً | كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ |
فَلَيْتَكَ، إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي، | فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاور يفعل «٣» |
(٢) أخرجه الترمذي فى (البر، باب الفضل فى رضا الوالدين)، وابن حبان (الإحسان- البر والصلة ح ٤٣٠)، وصححه الحاكم فى المستدرك (٤/ ١٥٢) من حديث عبد الله بن عمرو.
(٣) أخرجه بنحوه البيهقي فى الدلائل (٦/ ٣٠٤)، والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله. وفى آخره: فأخذ النبي ﷺ بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك».
قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح، أو طائعين لله، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ: التوابين، أو الرجّاعين إلى طاعته، غَفُوراً لما فرط منهم عند حرج الصدر من إذاية ظاهرة أو باطنة، أو تقصير في حقهما. ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية، يجري مثله في والد الروحانية، وهو الشيخ، ويزيد لأنه أوكد منه لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا، معرضًا للعطب أو السلامة، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدّم في سورة النساء تمام هذه الإشارة «٣». والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالإحسان إلى القرابة لقربهما من الوالدين، تعظيما لهما، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
(٢) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب فى بر الوالدين) وابن ماجة فى (الأدب، باب صل من كان أبوك يصل) والحاكم فى المستدرك (٢/ ٣٠٦٦)، وصححه ووافقه الذهبي من حديث مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري.
(٣) راجع إشارة الآية ٣٦ من سورة النساء.
«مَا هذَا السَّرَفُ؟ فقال: أَو فِي الوُضُوءِ سَرَفٌ؟ فقال: نَعَمْ، وإِنْ كنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» «١».
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي: أمثالهم في الشر فإن التضييع والإتلاف شر. أو: على طريقتهم، أو: أصدقاؤهم وأتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف، رُوي أنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها- أي: يتقامرون- من الميسر، وهو القمار- ويُبذرون أموالهم في السمعة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بالإنفاق في القرابات. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغاً في الكفر، فينبغي ألا يطاع.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي: وإن أعرضت عما ذكر من ذوي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد، حيث لم تجد ما تُعطيهم، ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي: لطلب رزق تنتظره يأتيك لتعطيهم منه، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فقل لهم قولاً لينًا سهلاً، بأن تعدهم بالعطاء عند مجئ الرزق، وكان ﷺ إذا سأله أحد، ولم يجد ما يعطيه، أعرض عنه، حياء منه. فَأُمِرَ بحسن القول مع ذلك، مثل: رزقنا الله وإياكم، والله يُغنيكم من فضله، وشبه ذلك.
ثم أمره بالتوسط في العطاء، فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل الإمساك، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، وهو استعارة لغاية الجود، فنهى الحقُّ تعالى عن الطرفين، وأمر بالتوسط فيهما، كقوله: إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا... «٢» الآية. فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً أي: فتصير، إذا أسرفت، ملومًا عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التبذير، محسورًا: منقطعًا بك، لا شيء عندك. وهو من قولهم: حسر السفر بالبعير: إذا أتعبه، ولم يُبْقِ له قوة. وعن جابر رضي الله عنه: بينا رسول الله ﷺ جالس، أتاه صبى،
(٢) من الآية ٦٧ من سورة الفرقان.
ثم سلاَّه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يُضيقه على مَن يشاء. فكل ما يصيبك من الضيق فإنما هو لمصلحة باطنية، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرهم وعلانيتهم، فيعلم مِنْ مصالحهم ما يخفى عليهم فيرزقهم على حسب مصالحهم، ويضيق عليهم على قدر صبرهم. والحاصل: أنه يعطي كل واحد ما يَصلح به، والله أعلم.
الإشارة: أمر الحق- جل جلاله- رسوله صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه ممن كان على قدمه، أن يعطوا حق الواردين عليهم من قرابة الدين والنسب، والمساكين والغرباء، من البر والإحسان حسًا ومعنى كتعظيم ملاقاته، م وإرشادهم إلى ما ينفع بواطنهم، والإنفاق عليهم، من أحسن ما يجد، حسًا ومعنى، وخصوصًا الإخوان في الله. فكل ما يُنفق عليهم فهو قليل في حقهم، ولا يُعد سرفًا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا. قال في القوت: دعا إبراهيمُ بن أدهم الثوريَّ وأصحابَه إلى طعام، فأكثر منه، فقال له سفيانُ: يا أبا إسحاق أما تخاف أن يكون هذا سرفًا؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام سرف. هـ. قلت: هذا إن قدَّمه إلى الإخوان الذاكرين الله قاصدًا وجه الله، وأما إن قدمه مفاخرة ومباهاة دخله السرف. قاله في الحاشية الفاسية، ومثله في تفسير القشيري، وأنه لا سَرف فيما كان لله، ولو أنفق ما أنفق. بخلاف ما كان لدواعي النفس ولو فلسًا. هـ. وأما الخروج عن المال كله فمذموم، إلا من قوي يقينه، كالصدِّيق، ومن كان على قدمه. وكذلك الاستقراض على الله، واشتراؤه بالدَّين من غير مادة معلومة، إن كان قوي اليقين، وجرّب معاملته مع الحق، فلا بأس بفعل ذلك وإلاَّ فليكف لئلا يتعرض لإتلاف أموال الناس فيتلفه الله. وبالله التوفيق.
ولما أمر بما يقربنا إليه نهى عما يبعدنا عنه، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
«خِطاء» بالمد، إما لغة، أو مصدر خاطأ. انظر البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مخافة الفاقة المستقبلة، وقد كانوا يقتلون البنات- وهو الوأد- مخافة الفقر، فنهاهم عن ذلك، وضمن لهم أرزاقهم، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً إثمًا كَبِيراً لما فيه من قطع التناسل وانقطاع النوع وإيلام الروح. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، نهى عن مقاربته بالمقدمات. كالعزم، والنظر وشبهه، فأحرى مباشرته، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي: فعلة ظاهرًا فُحشها وقُبحها، وَساءَ سَبِيلًا قبح طريقًا طريقُهُ، وهو غصب الأبْضاع لما فيه من اختلاط الأنساب وهتك محارم الناس، وتهييج الفتن.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدًا، كما في الحديث «٢». ويلحق بها أشياء في معناها: كالحِرَابَةِ، وترك الصلاة، ومنع الزكاة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي: غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي: الذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث، سُلْطاناً تسلطًا بالمؤاخذة بمقتضى القتل بأخذ الدية، أو القصاص، وقوله: مَظْلُوماً: يدل على أن القتل عمد لأن الخطأ لا يُسمى ظلمًا. أو: جعلنا له حجة غالبة، فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يحق قتله، أو بالمثلة، أو قتل غير القاتل، إِنَّهُ أي: الولي كانَ مَنْصُوراً حيث وجب القصاص له، وأمر الولاة بمعونته. أو: إنه، أي: المقتول، كان منصورًا في الدنيا بثبوت القصاص ممن قتله، وفي الآخرة بالثواب.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلاً عن أن تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالطريقة التي هي أحسن، كالحفظ والتنمية، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ حتى يتم رشده، ثم يدفع له، فإن دفعه لمن يتصرف فيه بالمصلحة فلا بأس، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إذا عاهدتم الله أو الناس، إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي: مطلوبا الوفاء
(٢) أخرجه البخاري فى (الديات، باب قول الله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»... إلخ)، ومسلم فى (القسامة، باب ما يباح به دم المسلم) عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
أحسن عاقبة ومآلاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ولا تقتلوا ما أنتجته الأفكار الصافية من العلوم بإهمال القلوب في طلب رزق الأشباح، خشية لحوق الفقر، فإنَّ الله ضامن لرزق الأشباح والأرواح. ولا تميلوا إلى الحظوظ، التي تُخرجكم عن حضرة الحق فإن ذلك من أقبح الفواحش. ولا تقتلوا النفس بتوالي الغفلة والجهل، التي حرَّم الله قتلها وإهمالها، وأمر بإحيائها بالذكر والعلم، ومن قُتل بذلك مظلومًا بحيث غلبته نفسه، ولم تساعده الأقدار، فقد جعلنا لعقله سلطانًا، أي: تسلطًا عليها بمجاهدتها وقتلها وردها إلى مولاها، فلا يُسرف في قتلها، بل بسياسة وحيلة، كما قال القائل:
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فَرُبَّ حِيله | أنفعُ في النُّصْرة مِن قَبِيلهْ |
ثم قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
وقيل: إن «مَسْؤُلًا» مسند إلى «عَنْهُ» كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «١»، والمعنى: يسأل صاحبه عنه، وهو خطأ لأن الفاعل وما يَقوم مقامه لا يتقدم. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي: الإشارة في «أُولئِكَ» : إلى السمع والبصر والفؤاد، وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك لأنها حواس لها إدراك، والضمير في «عَنْهُ» : يعود على «كُلُّ»، ويتعلق «عَنْهُ» بمسئولا. هـ. وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من «مَسْؤُلًا». و (مَرَحاً) : مصدر في موضع الحال. و (مَكْرُوهاً) : نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَقْفُ تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فلا تقل ما لا تحقيق لك به من ذم الناس ورميهم بالغيب. فإذا قلت: سمعتُ كذا، أو رأيت كذا، أو تحقق عندي كذا، مما فيه نقص لأحد، فإنك تُسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه. وهذا معنى قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. قال البيضاوي: ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به تقليدًا، أو رجمًا بالغيب. واحتج به من منع اتباع الظن، وجوابه: أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعيًا أو ظنيًا إذ استعماله بهذا المعنى شائع. وقيل: إنه مخصوص بالعقائد. وقيل: بالرمي وشهادة الزور، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «من قَفَا مُؤْمنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ «٢»، حَتَّى يَأتِيَ بِالمَخْرَجِ» «٣». إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي: كل هذا الأعضاء الثلاثة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل واحد منها مسئول عن نفسه، يعني: عما فعل به صاحبه. هـ مختصرًا.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: ذا مرح، وهو: التكبر والاختيال، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقًا لشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا تتطاول عليها عزّا وعلوا، وهو تهكم بالمختال، وتعليل للنهي، أي: إذا كنت لا تقدر على هذا، فلا يناسبك إلا التواضع والتذلل بين يدي خالقك، كُلُّ ذلِكَ المذكور، من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هنا، وهي: خَمْسٌ وعشرون خصلة، قال ابن عباس: (إنها المكتوبة في ألواح موسى)، فكل ما ذكر كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ «٤» أي: خصلة قبيحة مَكْرُوهاً أي: مذمومًا مبغوضًا.
والمراد بما ذكر: من المنهيات دون المأمورات.
(٢) قال ابن الأثير: وردغة الخبال، جاء فى الحديث أنها عصارة أهل النار... انظر النهاية (خبل- ردغ).
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٢/ ٧٠) وأبو داود فى (الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها)، من حديث ابن عمر، بلفظ: «من قال فى مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال».
(٤) قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «سيئه» بضم الهمز والهاء مضافا لهاء المذكر الغائب. اسم كان، وقرأ الباقون «سيئة» بفتح الهمزة ونصب تاء التأنيث مع التنوين على التوحيد خبر كان... انظر الإتحاف (٢/ ١٩٧) والبحر المحيط (٦/ ٣٥).
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، كرره، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، وأنه رأس الحكمة وملاكها، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه، ولو جمع أساطير الحكماء، ولو بلغت عنان السماء. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد: غيره ممن يتصور منه ذلك. ورتب عليه، أولاً: ما هو عاقبة الشرك في الدنيا، وهو: الذم والخذلان، وثانيًا:
ما هو نتيجته في العقبى. فقال: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك، وتلومك الملائكة والناس، مَدْحُوراً مطرودًا من رحمة الله.
ثم قبَّح رأيهم في الشرك، فقال: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ، وهو خطاب لمن قال: الملائكة بنات الله.
والهمزة للإنكار، أي: أفخصَّكم ربكُم بأفضل الأولاد، وهم البنون، وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بناتٍ لنفسه، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي: عظيم النكر والشناعة، لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ في إيجاب العقوبة لخرمه لقضايا العقول، بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه، وتُفضلون عليه أنفسكم بالبنين، ثم جعلتم الملائكة، الذين هم أشرف الخلق، أدونهم، تعالى الله عن قولكم علوًا كبيرًا.
الإشارة: ينبغي للإنسان الكامل أن يكون في أموره كلها على بينة من ربه، فَيُحَكِّمُ على ظاهره الشريعة المحمدية، وعلى باطنه الحقيقة القدسية، فإذا تجلى في باطنه شيء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسُنَّة، فإن قبلاه أظهره وفعله، وإلاَّ رده وكتمه، كان ذلك الأمر قوليًا أو فعليًا، أو تركًا او عقدًا فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئٍ مسلم أن يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وإليه الإشارة بقوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فإن لم يجد نصًا في الكتاب أو السنة فليستفت قلبه، إن صفا من خوض الحس، وإن لم يَصْفُ فليرجع إلى أهل الصفاء، وهم أهل الذكر. قال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «١»، ولا يستفت أهل الظنون، وهم أهل الظاهر، قال تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «٢».
وقال القشيري في تفسير الآية هنا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: جانب محاذاة الظنون، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان. فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت، فارجع إلى الله،
(٢) من الآية ٣٦ من سورة يونس.
قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، ورد في بعض الأخبار، في صفة مشي الصوفية: أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل، متواضعين خاشعين، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة، ولا اختيال مُخل بالتواضع. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالرجوع إلى كتابه، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤١]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا بيَّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والعبر، والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا ليتعظوا به، وَما يَزِيدُهُمْ ذلك إِلَّا نُفُوراً عن الحق وعنادًا له.
الإشارة: من شأن القلوب الصافية: إذا سمعت كلام الحبيب فرحت واهْتَزت، أو خشعت واقشعرت من هيبة المتكلم، كلٌّ على ما يليق بمقامه، ومن شأن القلوب الخبيثة المكدرة: نفورها من كلام الحق إذ الباطل لا يُقاوم الحق، ولا يطيق مواجهته. والله تعالى أعلم.
ثم أبطل مذاهب أهل الشرك، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: لَوْ كانَ مَعَهُ في الوجود آلِهَةٌ تستحق أن تُعبد، كَما يَقُولُونَ «١» أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، إِذاً لَابْتَغَوْا لطلبوا
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ «٣» أي: تنزهه، وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان، وتوابع الحدوث، بلسان الحال، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. وظاهره: أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي، والراجح أنه مقالي. ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص، كما قال الجلال السيوطي، أي:
تقول: سبحان الله وبحمده. بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله. وإلى هذا يرشد كلام أهل الكشف، حتى ذكر الحاتمي: أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه. وورد في الحديث:
«ما اصطيد حوت في البحر، ولا طائر يطير، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى» «٤». وفي الحديث أيضًا: «ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله، ألا يسبح الله بحمده، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم». «٥»
ومذهب أهل السنة: عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة، فيصح الخشوع من الجماد، والخشية لله والتسبيح منه له.
وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع: فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن يحمل قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره. هـ.
وقال ابن عطية: اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح فقالت فرقة: هو تجوز، ومعناه: أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة: قوله: مِنْ شَيْءٍ: لفظه عموم،
(٢) من الآية ٥٧ من سورة الإسراء.
(٣) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب: (تسبح) بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، انظر: الاتحاف ٢/ ١٩٩.
(٤) عزاه السيوطي فى الدر (٤/ ٣٣٣) لأبى الشيخ عن مرثد بن أبى مرثد. [.....]
(٥) ذكره السيوطي بنحوه فى الدر (٤/ ٣٣٢) وعزاه لابن مردويه، عن عمرو بن عبسة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: قد كان يُسبح مدة. يريد أن الشجرة، في زمان نموها واغتذائها، تُسَبح. وقد صارت خوانًا أو نحوه، أي: صارت جمادًا. وقالت فرقة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء، على العموم، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة، لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأنه لا يُفقه، وينفصل عنه بأن يريد بقوله: لا تَفْقَهُونَ: الكفار والغفلة، أي: أنهم يُعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء. هـ.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: وربما يدل للعموم تسبيح الحصى فى يده- عليه الصلاة والسلام-، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات من نبات غير يابس، وحجر متصل بموضعه، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة، ولا ينتفي مطلق الاستمداد لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله، فهو عام، وقد قال تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «١»، وتدبر حنين الجذع. هـ. وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه، وقال البيضاوي أيضًا في قوله: وَلكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ، وإلى ما لا يتصور منه، وعليهما، أي: ويحمل- عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. هـ.
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة، مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة، الدالة على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراك، غَفُوراً لمن تاب منكم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش، أو ما قُدر وجوده من غيرهما كله قائم بين حس ومعنى، بين عبودية وربوبية، بين قدرة وحكمة. فالحس محل العبودية، فيه تظهر قهرية الربوبية، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها، وتقول: سبحانه ما أعظم شأنه، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد، وغاص في أسرار التفريد.
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة: «وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس فى دار
إذَا لَمْ تَرَ الهلالَ فسَلِّم | لأناس رأوه بِالأبْصارِ |
وسبب عدم فقه تسبيح الأشياء: غفلة القلوب، وطبع الأكنّة عليها، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
قلت: (أَنْ يَفْقَهُوهُ) : مفعول من أجله، أي: كراهة أن يفقهوه، و (نُفُوراً) : مصدر في موضع الحال. والضمير في (بِهِ) : يعود على «ما»، أي: نحن أعلم بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء والسخرية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتنزيه والتسبيح، ودعوتهم إلى العمل بما فيه من التوحيد، ورفض الشرك، وغير ذلك من الشرائع، جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على دواعي الحِكَمِ الخفية بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، خَصَّ الآخرة بالذكر من بين سائر ما كفروا به دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به، وتمهيدًا لما سينقل عنهم من إنكار البعث، أي: جعلنا بينك وبينهم حِجاباً يمنعهم عن فهمه والتدبر فيه، مَسْتُوراً عن الحس، خفيًا، معنويًا، وهو الران الذي يَسْبَحُ على قلوبهم من الكفر، والانهماك في الغفلة. أو: ذا ستر، كقوله: وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «١»، أي: آتيًا، فهو ساتر لقلوبهم عن الفهم والتدبر.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي: واحدًا غير مشفوع به آلهتهم، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هَرَبا من استماع التوحيد، والمعنى: وإذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى، فرَّ المشركون عن ذلك لِمَا في ذلك من رفض آلهتهم وذمها. قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي: بالأمر الذي يستمعون به من الاستهزاء، وكانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي: ونحن أعلم بغرضهم، حين همَّ جماعة ذات نجوى، يتناجون بينهم ويخفون ذلك. ثم فسر نجواهم بقوله: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ، وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا محض ظلم، أي: إذ يقولون: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مجنونًا قد سُحر حتى زال عقله.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، مثلوك بالساحر، والشاعر، والكاهن، والمجنون، فَضَلُّوا عن الحق في جميع ذلك، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى، أو إلى الطعن فيما جئتَ به بوجه فهم يتهافتون، ويخبطون، كالمتحير في أمره لا يدري ما يفعل. ونزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار.
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، أنكروا البعث، واستبعدوا أن يجعلهم خلقًا جديدًا، بعد فنائهم وجعلهم ترابًا. والرفات: الذي بلي، حتى صار غبارًا وفتاتا. و «أَإِذا» : ظرف، والعامل فيه: ما دلّ عليه قوله:
(لَمَبْعُوثُونَ)، لا نفسه لأن ما بعد «إن» والهمزة، لا يعمل فيما قبله، أي: أنُبعث إذا كنا عظامًا.. الخ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم في سورة «الأنعام» «١» تفسير الأكنة التي تمنع من فهم القرآن والتدبر فيه، والتي تمنع من الشهود والعيان، فراجعه، إن شئت. وفي الآية تسلية لمن أوذي من الصوفية فرُمِيَ بالسحر أو غيره. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالجواب عما أنكروه من البعث، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
إما: اسم «عَسى» وهي تامة، أو خبرها، والاسم مضمر، أي: عسى أن يكون البعث قريبًا، أو: عسى أن يقع فى زمن قريب. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : منصوب بمحذوف اذكروا يوم يدعوكم. أو: بدل من «قريب» على أنه ظرف. انظر أبا السعود. و (بِحَمْدِهِ) : حال من ضمير (فَتَسْتَجِيبُونَ)، أي: منقادين له، حامدين له لما فعل بكم.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد لمن أنكر البعث: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ أي: يعظم فِي صُدُورِكُمْ عن قبول الحياة، فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة، أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا، أو شيئًا أكبر عندكم من ذلك، وأبعد من الحياة، لقدرنا على بعثكم إذ القدرة صالحة لكل ممكن.
ومعنى الأمر هنا: التقدير، وليس للتعجيز، كما قال بعضهم. انظر ابن جزي، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة مرة أخرى، مع ما بيننا وبين الإعادة، من مثل هذه المباعدة؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئًا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون، فَسَيُنْغِضُونَ يحركون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تعجبًا واستهزاءً، وَيَقُولُونَ استهزاء: مَتى هُوَ أي: البعث، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً، فإنَّ كل ما هو آتٍ قريب.
واذكروا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل، فَتَسْتَجِيبُونَ أي: فتبعثون من القبور بِحَمْدِهِ بأمره، أو ملتبسين بحمده، حامدين له على كمال قدرته، عند مشاهدة آثارها، ومعاينة أحكامها، كما قيل: إنهم يقومون ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ ما لبثتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لما ترون من الهول، أو تستقصرون مدة لبثكم في القبور، كالذي مرَّ على قرية.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن كان قلبه أقسى من الحجارة والحديد، واستغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود جهالته وغفلته، فقُل لهم: كونوا حجارة أو حديدًا، أو خلقًا أكبر من ذلك، فإنَّ الله قادر على أن يُحيي قلوبكم بمعرفته، ويُلينها بعد القساوة، بسبب شرب خمرته. فسيقولون: من يعيدنا إلى هذه الحالة؟ قل: الذي فطركم على توحيده أول مرة، حين أقررتم بربوبيته، يوم أخذ الميثاق. فسَيُنْغضون إليك رؤوسهم تعجبًا واستغرابًا، ويقولون:
متى هو هذا الفتح؟! قل: عسى أن يكون قريبًا يوم يدعوكم إلى حضرته بشوق مقلق، أو خوف مزعج، بواسطة شيخ عارف، أو بغير واسطة، فتستجيبون بحمده ومنته، وتظنون إن لبثتم في أيام الغفلة إلا قليلاً فتلين قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتحسن أخلاقكم، فلا تخاطبون العباد إلا بالتي هى أحسن، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلْ لِعِبادِي المؤمنين: يَقُولُوا للمشركين الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ولا تخاشنوهم، إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يهيج بينهم الجدال والشر، فلعل المخاشنة لهم تُفضي إلى العناد وازدياد الفساد. وكان هذا بمكة، قبل الأمر بالقتال، ثم نُسخ «١». وقيل: في الخطاب من المؤمنين بعضهم لبعض، أمرهم أن يقولوا، فيما بينهم، كلامًا لينًا حسنًا. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ العداوة والبغضاء إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.
يقولون لهم في المخاطبة الحسنة: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة والإيمان، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالموت على الكفر. وهذا تفسير للكلمة التي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي: قولوا هذه الكلمة ونحوها، ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه يثير الشر، مع أن ختام أمرهم غيب. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولاً إليك أمرهم، فتجبرهم على الإيمان، وإنما أَرْسلْنَاكَ مبشرًا ونذيرًا، فَدارهِم، ومُر أصحابك باحتمال الأذى منهم. رُوي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم فشكوا إلى رسول الله ﷺ فنزلت، وقيل: شتم رجل عمر رضي الله عنه، فهمَّ به، فأمره الله بالعفو.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم، فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء. وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيًا، وأن يكون العُراة الجياع أصحابه. وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية، والتفرغ من العلائق الجسمانية، لا بكثرة الأموال والأتباع، حتى يستبعدوا نبوة سيدنا محمد ﷺ لقلة ماله، وضعف أصحابه فإن سيدنا داود عليه السلام كان مثله في قلة ماله وأتباعه، ثم قواه بالملك والنبوة. ولذا قال: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وقيل: هو إشارة إلى تفضيل نبينا محمد ﷺ فإنه مذكور في الزبور، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأمته خير الأمم، وأنهم يرثون الأرض بالفتح عليهم قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «٢». والله تعالى أعلم.
(٢) الآية ١٠٥ من سورة الأنبياء.
ثم رجع إلى الكلام مع المشركين والرد عليهم، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
قلت: (أُولئِكَ) : مبتدأ، و (الَّذِينَ يَدْعُونَ) : صفته، و (يَبْتَغُونَ) : خبره. وضمير «تَحْوِيلًا» : للكفار، وفى «يَدْعُونَ» :
للآلهة المعْبُودين. وقيل: الضمير في «يَدْعُونَ» و «يَبْتَغُونَ» : للأنبياء المذكورين قبلُ في قوله: فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ، والوسيلة: ما يتوسل به ويتقرب إلى الله، و (أَيُّهُمْ) : بدل من فاعل (يَبْتَغُونَ)، و «أيّ» : موصولة، أي:
يبتغي من هو أقرب إليه تعالى- الوسيلة، فكيف بمن دونه؟ أو ضمَّنَ معنى يبتغون: يحرصون، أي: يحرصون أيهم يكون إليه تعالى أقرب؟
يقول الحق جلّ جلاله: قُلِ لهم: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة تعبدونهم مِنْ دُونِهِ كالملائكة والمسيح وعُزير، أو كالأصنام والأوثان، فَلا يَمْلِكُونَ لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ، كالمرض والفقر والقحطِ، وَلا تَحْوِيلًا لذلك عنكم إلى غيركم، قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أنهم آلهة، هم في غاية الافتقار إلى الله والتوسل إليه، كلهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي: التقرب بالطاعة، ويحرصون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إلى الله من غيره، فكيف يكونون آلهة؟ أو: أولئك الذين يدعونهم آلهة، يطلبون إلى ربهم الوسيلة
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين لزمته القهرية والعبودية، فهو عاجز عن إصلاح نفسه، فكيف يصلح غيره؟
ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فكيف يدفع عن غيره؟ فارفع همتك، أيها العبد، إلى مولاك، وأنزل حوائجك كلها به دون أحد سواه، فكل ما سواه مفتقر إليه، والفقير المضطر لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ والله يتولى هداك.
ثم بيّن قهريته تعالى، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: أهلها، إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت والاستئصال، أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبًا. وقال في المستخرج: وإن من قرية إلا نحن مهلكوها الصالحة بالإفناء، والطالحةُ بالبلاء، أو معذبوها بالسيف إذا ظهر فيهم الزنى والربا. هـ. قال ابن جزي: رُوي أن هلاك مكة بالحبشة، والمدينة بالجوع، والكوفة بالترك، والأندلس بالخيل. ثم قال: وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطُليطلة وغيرها، فبأخذ الروم لها.
هـ. قلت: قد استولى العدو على الأندلس كلها فهو خرابها. أعاد الله عمارتها بالإسلام. آمين.
وقال في حُسْن المحاضرة: وأخرج الحاكم في المستدرك عن كعب قال: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية- والجزيرة أرض بالبصرة، وموضع باليمامة، لا جزيرة الأندلس- ثم قال: ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة: والكوفة آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ولا تكون الملحمة حتى تخرب الكوفة، ولا تفتح مدينة الكفر حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تُفتح مدينة الكفر. قال: وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، وأورده القرطبي في التذكرة من حديث حذيفة مرفوعًا: يبدو الخراب في أطراف الأرض، حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع، وخراب اليمن من الجراد، وخراب الأُبُلَّةِ من الحِصار، وخراب فارس من الصعاليك، وخراب الترك من الديلم، وخراب الديلم من الأرمن، وخراب الأرمن من الخَرز، وخراب
قلت: وسكت عن المغرب، ولعله المعنىّ بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله» «١». زاد في رواية: وهم أهل المغرب، ورجحه صاحب المدخل «٢»، قال: لأنهم متمسكُون بالسنة أكثر من المشرق «٣». والله تعالى أعلم بغيبه.
الإشارة: القرية محل تقرر السر، وهو القلب، فإما أن يُهلكه الله بالتلف والضلال، وإما أن يُعذبه عذابًا شديدًا بالمجاهدات والمكابدات، ثم ينعمه نعيمًا كبيرًا بالمشاهدات والمناجاة. كان ذلك في الكتاب مسطورًا، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أجاب عن تأخر الآيات بعد اقتراحها، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
قلت: (أَنْ نُرْسِلَ) : مفعول «منعنا»، و (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ) : فاعل.
يقول الحق جلّ جلاله: وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم: اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا، إلا تكذيب الأولين بها، فهلكوا، وهم أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها، فيهلكوا أمثالهم، كما مضت به سنتُنا، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم لأن فيهم من يُؤمن، أو يلد من يؤمن.
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسبب سؤالهم، مُبْصِرَةً بينة ذات إبصار، أو بصائر واضحة الدلالة، يُدركها كلُّ من يبصرها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها، أو: فظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فهلكوا، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المستأصِلِ، فإن لم يخافوا نزل بهم، أو: وما نرسل بالآيات غير المقترحة، كالمعجزات وآيات القرآن، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
(٢) هو ابن الحاج العبدري صاحب «المدخل إلى الشرع الشريف».
(٣) فى تعيين هذه الطائفة يقول الإمام النووي: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. هـ.
الإشارة: إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي: رحمة واعتناء به، فلعله حين تظهر له، يقف معها ويستحسن حاله، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب، فيقف عن السير، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال، وفي الحكم: «ما أرادت همة سالك أن تقف عند ما كشف لها، إلاّ نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك». وقال الششترى رضي الله عنه:
ومهما ترى كل المراتب تجتلي | عليك، فحل عنها، فعن مثلها حلنا |
ليس لي في غير ذاتك مطلب | فلا صورة تُجْلى، ولا طُرْفَةٌ تُجْنى |
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ فيما أوحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ علماً وقدرة، وأسرار وأنواراً، كما يليق بجلاله وتجليه، فلا يختص بمكان ولا زمان، بل هو مظهر الزمان والمكان، وقد كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ في قضية الإسراء، قال ابن عباس: «هي رؤيا عين» حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ اختباراً لهم، من يصدق بذلك ولا يكيف، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره، فيقع في التجسيم والتحييز، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء.
وإنما خصّ الحق تعالى إحاطته بالناس، مع أنه محيط بكل شيء، كما في الآية الأخرى: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ «١» لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شىء.
أن المراد لعنة آكلها، وقيل: إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد، وهي في أصل الجحيم.
قال تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ بأنواع التخويف، أو بالزقوم، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً عتوا مجاوزاً للحد.
الإشارة: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه»، من قامت به الأشياء، وهو وجودها ونور ذاتها، ومحيط بها، كيف تحصره، أو تحيزه، أو تحول بينه وبين موجوداته؟ قيل لسيدنا علي- كَرّم الله وجهه-: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أين كان ربنا قبل خلق الأشياء؟ فتغير وجهه، وسكت، ثم قال: قولكم: أين؟ يقتضي المكان، وكان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان. هـ.
وقال الشيخ الشاذلي: (قيل لي: يا عليّ بي قُلْ، وعليّ دُل، وأنا الكل). وفي الحديث: «لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار»، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلِّم تسلم، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن عداوة إبليس المتقدمة فى قوله: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
: مفعول «أرأيت»، و (جزاء) : مصدر، والعامل فيه:
«جَزاؤُكُمْ»، فإنَّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه، وقيل: حال موطئة لقوله: «مَوْفُوراً».
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ امتنع، وقالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي: من طين فهو أصله من الطين، وأنا أصلي من النار، فكيف أسجد له وأنا خير منه؟! ثم قالَ إبليس: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي: أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ بأمري بالسجود له، لِمَ كرمتَه عليّ؟ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أي: والله لئن أخرتنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلن من احتنكت السَّنةُ أموالَهم أي: استأصلتها. أي: لأهلكن ذُرِّيَّتَهُ بالإغواء والإضلال، إِلَّا قَلِيلًا أو: لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي:
لأقودنهم إلى عصيانك، إلا قليلاً، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم لمَا سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية: وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله. هـ. قلت: إنما يحتاج إلى هذا: من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني: فلا.
قالَ تعالى: اذْهَبْ امض لما قصدته، وهو: طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ التفت إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: جزاؤهم، بضمير الغيبة ليرجع إلى فَمَنْ تَبِعَكَ، لكنه غلب المخاطب ليدخل إبليس معهم، فتُجازون على ما فعلتم جَزاءً مَوْفُوراً وافرًا مكملاً، لا نقص فيه. وَاسْتَفْزِزْ استخفف، أو اخدع مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أن تستفز بِصَوْتِكَ بدعائك إلى الفساد، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي: صِحْ عليهم، من الجلبة، وهي: الصياح، بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي: بأعوانك من راكب وراجل، قيل: هو مجاز، أي: افعل بهم جهدك. وقيل: إن له من الشياطين خيلاً ورجالاً. وقيل: المراد: بيان الراكبين في طلب المعاصي، والماشين إليها بأرجلهم. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام، والتصرف فيها على ما لا ينبغي، كإنفاقها في المعاصي، وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العزى.
وضَعْفُهُ ظاهر، والآية مشيرة لرده لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد، لا في الإيلاء، فإنه لم يرد، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائري فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك، فالله أعلم. وأما عكس ذلك إيلاء الإنسي الجنية، فأمر لا يحيله العقل، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس «١». قاله المحشي الفاسي.
وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا حساب، أو المواعد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة، وطول الأمل، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وباطلاً. والغرور: تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
الإشارة: ينبغي لك أيها الإنسان أن تكون مضادًا للشيطان، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم بالتواضع واللين، وإذا كان هو مجتهدًا في إغواء بني آدم بما يقدر عليه، فاجتهد أنت في نصحهم وإرشادهم، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم، بقدر ما يمكنك، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك، حتى تنقذهم من غروره وكيده. وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلي والخفي، في أموالهم وأولادهم، فدُلَّهم أنت على التوحيد، والإخلاص، في اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم. وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة كحسن الظن بالله، إن صحبه العمل بما يرضيه. فإن فعلت هذا كنت من عباد الله الذين ليس له عليهم سلطان، كما أشار إليهم بقوله:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
قلت: (أَفَأَمِنْتُمْ) : الهمزة للتوبيخ، والفاء للعطف على محذوف، أي: أنجوتم من البحر فأمنتم.
ثم ذكر ما يحث على التعلق به، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية، فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجري لَكُمُ الْفُلْكَ ويسيرها فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والربح، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في تسخيرها لكم حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعني: خوف الغرق، ضَلَّ غاب عنكم مَنْ تَدْعُونَ من تعبدون من الآلهة. أو: من تستغيثون به في حوادثكم، إِلَّا إِيَّاهُ وحده، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه، ولا تدعون، لكشفه، إلا إياه، فكيف تعبدون غيره، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه؟ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد، أو عن شكر النعمة، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً بالنعم، جحودًا لها، إلا القليل، وهو كالتعليل للإعراض.
أَفَأَمِنْتُمْ أي: أنجوتم من البحر، وأمنتم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه، أو يخسف بكم في جوفه، كما فعل بقارون، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي: ريحًا حاصبًا، يرميكم بحصباء كقوم لوط، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا حافظاً لكم منه، فإنه لا رادّ لفعله. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي: ريحًا شديدة، لا تمر بشيء إلا قصفته، أي: كسرته، فَيُغْرِقَكُمْ، وعن يعقوب: «فتغرقكم» على إسناده إلى ضمير الريح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بنون التكلم في الخمسة. يفعل ذلك بكم بِما كَفَرْتُمْ بكفركم، أي: بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبًا يتبعنا بثأركم، كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها «١»، أو: لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم الذين أضافهم إلى نفسه بأن اصطفاهم لحضرة قدسه، وشغلهم بذكره وأُنسه، لم يركنوا إلى شيء سواه، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه. فلا جرم أنه يحفظهم برعايته، ويكلؤهم بسابق عنايته. فظواهرهم قائمة بآداب العبودية، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية. فلمَّا قاموا بخدمة الرحمن، حال بينهم وبين كيد الشيطان، وقال لهم: ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة لتبتغوا
ثم ذكر كرامة بنى آدم، وتفضيلهم ردّا لقول الشيطان «أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليّ»، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٠]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قاطبة، برهم وفاجرهم، أي: كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله لأنه يطأ بها القاذورات فسقطت حرمتها.
وَحَمَلْناهُمْ أي: بني آدم، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على الدواب والسفن فيمشون محمولين في البر والبحر.
يقال: حملته حملاً: إذا جعلت له ما يركب. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، وَفَضَّلْناهُمْ بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا وهم: من عدا الملائكة- عليهم السلام-. تَفْضِيلًا عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة- كالمقربين مثلاً- أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم.
يا سابقًا فى موكب الإبداع | ولا حقا في جَيْش الاخْتِراع |
اعْقِل فَاَنْتَ نُسْخَةُ الوُجُود | ِلله ما أعلاَك مِن مَوْجُود |
أَلَيْس فِيك العرشُ والكرسِيُّ | والعَالَمُ العُلْويُّ والسُّفْلِيُّ |
ما الكونُ إِلا رَجلٌ كبيرُ | وأنتْ كونٌ مِثْلُه صَغِيرُ |
إذا كنتَ كُرْسِيًّا، وعَرْشًا، وَجنَّةً، | وَنارًا، وأَفْلاَكًا تدَوُر، وأَمْلاَكا |
وكُنْتَ من السِّرِّ المَصُون حَقِيقة | وأَدْرَكْتَ هذا بالحقِيقَةِ إِدْرَاكا |
فَفِيمَ التَّأَنِّي فِي الحَضِيضِ تُثَبُّطًا | مُقِيمًا معَ الأسْرَى، أمَا آن إِسْرَاكَا؟! |
ومنها: أن جعل ذاته مشتملة على الضدين: النور والظلمة، الكثافة واللطافة، الروحانية والبشرية، الحس والمعنى، القدرة والحكمة، العبودية وأسرار الربوبية، إلى غير ذلك. ولذلك خصه بحمل الأمانة.
ومنها: أنه جعله قلب الوجود، هو المنظور إليه من هذا العالم، وهو المقصود الأعظم من إيجاد هذا الكون، فهو المنعَّم دون غيره، إن أطاع الله، ألا ترى قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «٢»، فنعيم الجنان خاص بهذا الإنسان، أو: من التحق به من مؤمني الجان. وقال الورتجبي: كرامة الله تعالى لبني آدم سابقة
(٢) من الآية ٧٥ من سورة الزمر.
والحاصل أنه فضلهم بالخلْق والخلُق، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. هـ. قاله المحشي الفاسي.
ثم ذكر محل ظهور كرامة بنى آدم، وهو يوم القيامة، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
قلت: يجوز في (أَعْمى) - الثاني-: أن يكون وصفًا كالأول، وأن يكون من أفعل التفضيل، وهو أرجح لعطف «وَأَضَلُّ» عليه، الذي هو للتفضيل. وقال سيبويه: لا يجوز أن يقال: هو أعمى من كذا، وإنما يقال: هو أشد عمى، لكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر، لا في عمى القلب. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ بنبيهم. فيقال: يا أُمَّةَ فلان، يا أمة فلان، احضروا للحساب. أو: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا صاحب الخير ويا صاحب الشر، فهو مناسب لقوله: (فَمَنْ أُوتِيَ... ) إلخ.
(٢) من الآية ٧٥ من سورة ص.
قيل: بأمهاتهم، والحكمة في ذلك: إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين، وألا يُفتضح أولاد الزنى. هـ.
وقال أبو الحسن الصغير: قيل لأبي عمران: هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم؟ قال: قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا. وفي البخاري- باب يدعى الناس بآبائهم، وساق حديث ابن عمر:
«يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن» «٢»، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم، وهو الراجح، إلا فيمن لا أب له. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي: فمن أوتي صحيفة أعماله، يومئذ، من أولئك المدعوين بيمينه إظهارًا لخطر الكتاب، وتشريفًا لصاحبه، وتبشيرًا له من أول الأمر، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ المؤتى لهم. والإشارة إلى «مَن» : باعتبار معناها لأنها واقعة على الجمع إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع، لا على وجه الانفراد كما في حال الدنيا. وأتى بإشارة البعيد إشعارًا برفع درجاتهم، أي: أولئك المختصون بتلك الكرامة، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور، يقرأون كتابهم وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء، فإن الفتيل- وهو:
قشر النواة- مَثلٌ في القلة والحقارة.
ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل، أَعْمى فاقد البصيرة، لا يهتدي إلى رشده، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعنا فيه من العقل والقوى، فيما خلق له من العلوم والمعارف، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى كذلك، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا، ومعرفة الحق، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه، وَأَضَلُّ سَبِيلًا عنه لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة. وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه
(٢) أخرجه البخاري فى (كتاب الأدب، باب يدعى الناس بآبائهم).
الإشارة: يدعو الحق تعالى، يوم القيامة، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها، ثم يدعوهم، ثانيًا، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهَدْي المحمدي. فيقال: يا أصحاب فلان، ويا أصاحب فلان، اذهبوا إلى الجنة، لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. وهذا في حق أهل الحق والتحقيق، الدالين على سلوك الشريعة، والتمسك بأنوار الحقيقة ذوقًا وكشفًا، فكل من تبعهم، وسلك منهاجهم، كان من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم: أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من لم يكن من حزبهم، ولم يدخل تحت تربيتهم، فإن استعمل عقله وقُواه فيما يُنجيه يوم القيامة كان من الذين يُؤتون كتابهم بيمينهم، ولا يظلمون فتيلا. ومن أهل عقله واستعمل قواه في البطالة والهوى، كان من القبيل الذي عاش في الدنيا أعمى، ويكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، والعياذ بالله.
ثم ذكر نوعا من هذا القبيل، الذي أعمى الله بصيرته، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
قلت: «وَإِنْ» : مخففة من الثقيلة في الموضعين، واسمها: ضمير الشأن، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي: إن الشأن قاربوا أن يفتنوك. و (سُنَّةَ) : مفعول مطلق، أي: سنَّ اللهُ ذلك سنة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كادُوا أي: كفار العرب، لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتقول ما لم أقل لك، مما اقترحوا عليك. نزلت في ثقيف،
(٢) الآية ٩٠ من نفس السورة.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: لو فعلت ما أرادوا منك لصرت لهم وليًا وحبيبًا، ولخرجت من ولايتي، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون، الذي هو أدنى ميل، أي: لولا أن عصمناك، لقاربت أن تميل إليهم لقوة خدعهم، وشدة احتيالهم. لكن عصمتنا منعتك من المقاربة. وهو صريح في أنه- عليه الصلاة والسلام- ما هَمَّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها، ولا قارب ذلك. وهو دليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه. قاله البيضاوي. وفيه رد على ابن عطية، حيث قال:
قيل: إنه هَمَّ بموافقتهم، لكن كان ذلك خطرة، والصواب: عدم ذلك لأن التثبيت والعصمة مانعٌ من ذلك.
وقد أجاد القشيري في ذلك، ونصه: ضربنا عليكَ سرادقات العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباع هواك، فالزَّلَلُ منك محال، والافتراءُ في نعتك غير موهوم، ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى جانب الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ شدائدُ البلاء لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك فإنَّ كل مَنْ هو أعلى درجةً فَذَنْبُه- لو حصل- أشدُّ تأثيرًا.
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ... الآية: لو وكلناك ونَفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة، لقاربت الإمام بشيء مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكِنَّا أفردناك بالحفظ، بما لا تتقاصر عنكَ آثاره، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنواره. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، هبوط الأكابر على قدر صعودهم. هـ.
إِذاً أي: لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ عذاب الْحَياةِ، وَضِعْفَ عذاب الْمَماتِ، أي: مِثْلِيْ ما يُعَذِّبُ غيرك في الدنيا والآخرة لأن خطأ الخطير أخطر. وكأن أصل الكلام: عذابًا ضعفًا في الحياة، وعذابًا ضعفًا في الممات، أي: مضاعفًا، ثم حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت
(٢) أخرجه الطبري (١٥/ ١٣٠) عن سعيد بن جبير، بسند ضعيف.
وَإِنْ كادُوا أي: كاد أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ التي أنت فيها. وهي: أرض مكة، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا إلا زمنًا قليلاً. وقد كان كذلك، فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في اليهود فإنهم حَسَدوا مقام النبي ﷺ بالمدينة، فقالوا:
الشام مقام الأنبياء، فإن كنت نبيًا فالحَقْ بها حتى نؤمن بك. فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم، فخرج مرحلة، فنزلت «١»، فرجع صلى الله عليه وسلم، ثم قتل منهم بني قريظة، وأجلى بني النضير بقليل، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي:
عادته تعالى: أن يُهلك من أُخْرِجَتْ رسلهم من بين أظهرهم، فقد سنَّ ذلك في خلقه، وأضافها إلى الرسل لأنها سُنت لأجلهم. وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي: تغييرًا وتبديلاً.
الإشارة: من شأن العارف الكامل أن يأخذ بالعزائم، ويأمر بما يقتل النفوس، ويوصل إلى حضرة القدوس، وهو كل ما يثقل على النفوس، فإن أتاه من يفتنه ويرده إلى الهوى، حفظته العناية، واكتنفته الرعاية، فيقال له:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك وحي إلهام، لتفتري علينا غيره، فتأمر بالنزول إلى الرخص والتأويلات، وإذا لا تخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك بالحفظ والرعاية، لقد كدت تركنُ إليهم شيئًا قليلاً، وهي:
خواطر تخطر ولا تثبت. إذًا لأذقناك ضعف الحياة، وهو: الذل والحرص والطمع. وضعف الممات، وهو: السقوط عن مقام المقربين، أهل الرَّوح والريحان. وإن كادوا ليستفزونك من أرض العبودية، ليخرجوك منها إلى إظهار الحرية، من العز والجاه، وإذًا لا يلبثون خلافك ممن اتبعك إلا قليلاً لأن من رجع إلى مباشرة الدنيا والحس قلَّ مدده، فيقل انتفاعه، فلا يتبعه إلا القليل. هذه سُنة الله في أوليائه، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
ثم أمر بمراسم الشريعة، التي هى عنوان العناية، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
و (قُرْآنَ) : عطف على (الصَّلاةَ)، أو منصوب بفعل مضمر، أي: اقرأ قرآن الفجر، أو على الإغراء.
يقول الحق جلّ جلاله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ أي: عند زوال الشَّمْسِ، وهو إشارة إلى إقامة الصلوات الخمس، فدلوك الشمس: زوالها وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغسق الليل: ظلمته، وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح، وإنما عبَّر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر لأن القرآن يُقرأ فيها أكثر من غيرها لأنها تُصلي بسورتين طويلتين، ثم مدحها بقوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكةُ الليل وملائكة النهار، أو: يشهده الجم الغفير من المصلين، أو فيه شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء، والنوم، الذي هو أخو الموت، بالانتباه.
ثم أمر بقيام الليل فقال: وَمِنَ اللَّيْلِ أي: بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ أي: اترك الهجود، الذي هو النوم فيه، للصلاة بالقرآن، نافِلَةً لَكَ أي: فريضة زائدة لك على الصلوات الخمس، أو فريضة زائدة لك لاختصاص وجوبها بك، أو نافلة زائدة لك على الفرائض غير واجبة. وكأنه، لما أمر بالفرائض، أمر بعدها بالنوافل. وتطوعه- عليه الصلاة والسلام لزيادة الدرجات، لا لجبر خلل أو تكفير ذنب لأنه مغفور له ما تقدّم وما تأخّر. و «مِنَ» : للتبعيض، والضمير في «بِهِ» : للقرآن. والتهجد: السهر، وهو: ترك الهجود، أي: النوم. فالتفعل هنا للإزالة كالتأثم والتحرج، لإزالة الإثم والحرج.
ثم ذكر ثوابه فى حقه- عليه الصلاة والسلام- فقال: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً عندك وعند جميع الناس، وهي: الشفاعة العظمى. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ قال:
«المَقَام المحمُود هُوَ المَقَامُ الذي أَشْفَعُ فِيهِ لأمَّتِي «١» ». وقال ابن عباس رضي الله عنه: مقامًا محمودًا يحمده فيه الأولون والآخرون، ويشرف فيه على جميع الخلائق، يسأل فيُعطى، ويشفع فيُشَفَّع. وعن حذيفة: يُجْمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه، فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: «لبيك وسعديك. والشر ليس إليك، والمَهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت».
ثم يأذن له في الشفاعة. والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربي المعافري في أحكامه: واخْتُلِفَ في وجه كون قيام الليل سببًا للمقام المحمود على قولين، فقيل:
إن البارئ تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببًا لفضله، من غير معرفة منا بوجه الحكمة. وقيل: إن قيام الليل فيه
الإشارة: قوم اعتنوا بإقامة صلاة الجوارح، وهم: الصالحون الأبرار، وقوم اعتنوا بإقامة صلاة القلوب، التي هي الصلاة الدائمة، وهم العارفون الكبار، وقوم اعتنوا بسهر الليل في الركوع والسجود، وهم العباد والزهاد والصالحون، أولوا الجد والاجتهاد. وقوم اعتنوا بسهره في فكرة العيان والشهود، وهم المقربون عند الملك الودود.
الأولون يُوفون أجرهم على التمام بالحور والولدان، والآخرون يُكشف لهم الحجاب ويتمتعون بالنظر على الدوام، الأولون محبون، والآخرون محبوبون، الأولون يشفعون في أقاربهم ومن تعلق بهم، والآخرون قد يشفع واحد منهم في أهل عصره. وما ذلك على الله بعزيز.
ولما أمره بالقيام بوظائف العبودية، أمره بالتعلق فى أموره كلها بالربوبية، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلْ يا محمد: رَبِّ أَدْخِلْنِي في الأمور كلها مُدْخَلَ صِدْقٍ بأن أدخل فيها بك لا بنفسي، وَأَخْرِجْنِي منها مُخْرَجَ صِدْقٍ كذلك، مصحوبًا بالفهم عنك، والإذن منك في إدخالي وإخراجي. وقيل: أدخلني قبري مدخل صدق راضيًا مرضيًا، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، أي: إخراجًا مرضيًا مُلقى بالكرامة. فيكون تلقينًا للدعاء بما وعده من البعث، المقرون بالإقامة للمقام المحمود، التي لا كرامة فوقها. وقيل: المراد: إدخال المدينة، والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله- عليه الصلاة والسلام- مكة ظاهرًا عليها، وإخراجه منها آمنًا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار، وإخراجه منه سالمًا. وقيل: إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة، وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل: إدخاله في كل ما يلائمه من مكان أو أمر، وإخراجه منه بالحفظ والرعاية، بحيث يدخل بالله ويخرج بالله. وهو الراجح كما قدمناه.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من مستبْطَن أمورك، سُلْطاناً نَصِيراً أي: حجة ظاهرة، تنصرني على من يخالفني ويعاديني، أو: عزًا ناصرًا للإسلام، مظهرًا له على الكفر. فأجيبتْ دعوته- عليه الصلاة والسلام-
يا عَلِيُّ، ارْمِ بِهِ فصعَدَ إليه، ورَمَى به، فَكَسَرَهُ «٧». هـ.
الإشارة: إذا تمكن العارفون من شهود حضرة القدس ومحل الأنس، وصارت معشش قلوبهم كان نزولهم إلى سماء الحقوق وأرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. فلم ينزلوا إلى سماء الحقوق بسوء الأدب والغفلة، ولا إلى أرض الحظوظ بالشهوة والمتعة، بل دخلوا في ذلك بالله ولله، ومن الله وإلى الله، كما في الحكم. ثم قال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني، وانقيادي إليك إذا أخرجتني. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ينصرني ولا ينصر عليّ، ينصرني على شهود نفسي، حتى أغيب عنها وعن متعتها وهواها، ويفنيني عن دائرة حسي، حتى تتسع عليّ دائرة المعاني عندي، وأفضي إلى فضاء الشهود والعيان، فحينئذ يَزهق الباطل، وهو ما سوى الله، ويجيء الحق، وهو وجود الحق وحده، فأقول حينئذ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، وإنما أثبته الوهم والجهل، وإلا فلا ثبوت له ابتداء وانتهاء.
وثبوت الوهم والجهل فى القلب: مرض من الأمراض، وشفاؤه فى التمسك بما جاء به القرآن العظيم، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٢]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
(٢) من الآية ٣٣ من سورة التوبة.
(٣) من الآية ٥٥ من سورة النور.
(٤) الآيتان: ١٧١- ١٧٢ من سورة الصافات.
(٥) المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده، فيمسكه من عصا ونحوها... انظر: مختار الصحاح، (خصر).
(٦) أي: من نحاس.
(٧) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الإسراء)، ومسلم فى (الجهاد، باب فتح مكة).
يقول الحق جلّ جلاله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ لما في الصدور، ومن سقام الريب والجهل، وأدواء الأوهام والشكوك، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ به، العالِمين بما احتوى عليه من عجائب الأسرار وغرائب العلوم، المستعملين أفكارهم وقرائحهم في الغوص على درره ويواقيته، أي: وننزل ما هو تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم، ورفع الأوهام والشكوك عنهم، كالدواء الشافي للمرض، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن لا شفاه الله» «١». وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الكافرين المكذبين، الواضعين الأشياء في غير محلها، مع كونه في نفسه شفاء من الأسقام، إِلَّا خَساراً إلا هلاكًا بكفرهم وتكذيبهم به. ولا يفسر الخسران هنا بالنقصان فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يُعبّر عنه بالهلاك، لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام، فهم في الزيادة في مراتب الهلاك، من حيث إنهم، كلما جدّدوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة ازدادوا بذلك هلاكًا.
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد، بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك، وإسناد زيادة الخسران إلى القرآن، مع أنهم هم المزدادون في ذلك بسوء صنيعهم باعتبار كونه سببًا لذلك، حيث كذَّبوا به، وفيه تعجيب من أمره حيث جعله مدار الشفاء والهلاك. قاله أبو السعود.
الإشارة: لا يحصل الاستشفاء بالقرآن إلا بعد التصفية والتطهير للقلب، بالتخلية والتحلية، على يد شيخ كامل، عارف بأدواء النفوس، حتى يتفرغ القلب من الأغيار والأكدار، ويذهب عنه وساوس النفوس وخواطر القلوب ليتفرغ لسماع القرآن والتدبر في معانيه. وأما إن كان القلب محشوًا بصور الأكوان، مصروفًا إلى الخواطر والأغيار، لا يذوق له حلاوة، ولا يدري ما يقول، فلا يهتدي لما فيه من الشفاء، إذ لا يستشفي بالقرآن إلا من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولأجل ذلك كان من شأن شيوخ التربية أن يأمروا المريد بالذكر المجرد، حتى تُشرق عليه أنواره، وتذهب به عنه أغياره. وحينئذ يأمره بتلاوة القرآن ليذوق حلاوته، فإذا كمل تطهيره، تمتع بحلاوة شهود المتكلم، فيسمعه من الحق بلا واسطة، وهو المراد بالرحمة المذكورة بعد الشفاء. والله تعالى أعلم.
وَإِذَا أدرك العبد هذه النعمة العظمى، وجب عليه دوام الشكر، كما نبّه عليه تعالى بذكر ضدها، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
قال تعالى: قُلْ كُلٌّ أي: كل واحد منكم وممن هو على خلافكم يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على طريقته التي تُشاكل حاله من الهُدى والضلالة، فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي: فربكم، الذي يراكم على هذه الأحوال والطرق، أعلم بمن هو أسَدْ طريقًا وأبين منهاجًا. وقد فسرت الشاكلة أيضًا بالطبيعة والعادة والدين والنية.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يمعن النظر في كلام سيده، فإذا وجده مدَحَ قومًا بعمل، بادر إلى فعله، أو بوصف، بادر إلى التخلق به، وإذا وجده ذم قومًا، بسبب عمل، تباعد عنه جهده، أو بوصف تطهر منه بالكلية. وقد ذم الحق تعالى هنا من بطر بالنعمة وغفل عن القيام بشكرها، ومن جزع عند المصيبة وأيس من ذهابها، فليكن المؤمن على عكس هذا، فإذا أصابته مصيبة أو بلية تضرع إلى مولاه، ورجى فضله ونواله، وإذا أصابته نعمة دنيوية أو دينية أكثر من شكرها، وشهد المنعم بها في أخذها وصرفها، ولا سيما نعمة الإيمان والمعرفة، وتصفية الروح من غبش الحس والوهم، حتى ترجع لأصلها، الذي هو سر من أسرار الله، الذي أشار إليه بقوله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ أي: عن حقيقة الروح، الذي هو مدبر البدن الإنساني، ومبدأ حياته. رُوي أن اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح،
رُوِيَ أنه ﷺ لما قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب، قال عليه الصلاة والسلام: «بل نحن وأنتم». فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «١»، وتارة تقول هذا، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «٢» الآية. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ... «٣» الآية.
وهذا من ركاكة عقولهم فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية، بل ما نيط به المعاش والمعاد، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه، قليل ينال به خير: كثير في نفسه.
وقال ابن حجر: أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد وإنما الروح من الله؟. هـ. قلت: يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري: أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ «الرُّوحِ» يدخل تحت قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، ثم قال: وفي الجملة: الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل: إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، وضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق. هـ. وقيل: المراد بالروح: خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة، وقيل: جبريل عليه السلام، وقيل:
القرآن. ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من وحيه وكلامه، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.
الإشارة: قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا، فتكلم على قدر فهمه. فقال بعضهم: حقيقة الروح: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربّه» : قد ظهر
(٢) من الآية ١٠٩ من سورة الكهف.
(٣) من الآية ٢٧ من سورة لقمان، وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف للثعلبى فى التفسير، بغير سند ولا راو.
الرابع: لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. الخامس: لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة لأنه منزه عن ذلك. السادس: لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال. السابع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية.
الثامن: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية، بل الروح موجود في سائر الجسد، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان، وتنزه عن المكان والزمان. التاسع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر، ولا يمثل بالصور، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصارُ، ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «٢». هـ. وحديث «من عرف نفسه... »
الخ، قال النووي: غير ثابت، وقال السمعاني: هو من كلام يحيى ابن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.
وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي؟ قال: نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت: «بلى».
قلت: لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي: الروح: شعاع الحقيقة، يختلف آثارها في الأجساد. قال: ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن، وكل صوت طيب، وكل رائحة طيبة لحسن جوهرها وروح وجودها، ظاهرها غيب الله، وباطنها سر الله، مصورة بصورة آدم، فإذا أراد الله
(٢) من الآية ١١ من سورة الشورى.
ثم بيّن قوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
قلت: قال ابن جزي: هذه الآية متصلة المعنى بقوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي: في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم. هـ. (إلا رحمة) : يحتمل أن يكون متصلاً، أي: لا تجد من يتوكل برده إلا رحمة ربك. أو منقطعًا، أي: لو شئنا لذهبنا بالقرآن، لكن رحمة من ربك تمسكه من الذهاب، و (لا يأتون) : جواب القسم الدال عليه اللام الموطئة، وسد مسد جواب الشرط. ولولا اللام لكان جوابًا للشرط، ولم يُجزَمْ لكون الشرط ماضيًا، كقول زهير:
فإن أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسألَةٍ | يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَا لي وَلاَ حَرَمُ «١» |
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: بالقرآن الذي هو منبع العلوم التي أُوتيتموها، ومقتبس الأنوار، فلا يبقى عندكم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. والمراد بالإذهاب: المحو من المصاحف
ثم نوّه بقدر الكتاب الذي أنزله فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، واتفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة، وحسن النظم، وكمال المعنى، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أبدًا لما تضمنه من العلوم الإلهية، والبراهين الواضحة، والمعاني العجيبة، التي لم يكن لأحد بها علم، ثم جاءت فيه على الكمال، ولذلك عجزوا عن معارضته. وقال أكثر الناس: إنما عجزوا عنه لفصاحته، وبراعته، وحسن نظمه. ووجوه إعجازه كثيرة. وإنما خص الثقلين بالذكر لأن المنكر كونه من عند الله منهما، لا لأنَّ غيرهما قادر على المعارضة. وإنما أظهر في محل الإضمار، ولم يقل: لا يأتون به لئلا يتوهم أن له مثلاً معينًا، وإيذانًا بأن المراد نفي الإتيان بمثَلٍ مَّا، أي: لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة، وفيهم العرب العاربة، أرباب البراعة والبيان. فلا يقدرون على الإتيان بمثله وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي: ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا. وهو عطف على مقدّر، أي: لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرًا لبعض، ولو كان.. الخ. ومحله النصب على الحالية، أي: لا يأتون بمثله على كل حال مفروض، ولو على هذه الحالة.
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي: كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة، توجب زيادة تقرير وبيان، ووكادة رسوخ واطمئنان، لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة، مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى بديع، هو، في الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس، كالمثل ليتلقوه بالقبول، أو بيَّنَّا لهم كل شيء محتاجون إليه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من
الإشارة: كما وقع التخويف بإذهاب خصوصية النبوة والرسالة، يقع التخويف بإذهاب خصوصية الولاية والمعرفة العيانية، فإنّ القلوب بيد الله، يُقلبها كيف يشاء. والخصوصية أمانة مودعة في القلوب، فإذا شاء رفعها رفَعها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره. وما زالت الأكابر يخافون من السلب بعد العطاء، ويشدون أيديهم على الأدب لأن سوء الأدب هو سبب رفع الخصوصية، والعياذ بالله.
قال القشيري: سُنَّةُ الحقِّ مع خيار خواصه أن يُدِيم هم شهود افتقارهم إليه ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين بجريانِ حُكْمِه، ثم قال: والمرادُ والمقصودُ: إدامة تَفَرُّدِ سِرِّ حبيبه به، دونَ غيره. هـ. وأما سلب الأولياء بعضهم لبعض فلا يكون في خصوصية المعرفة بعد التمكين إذ لا مانع لما أعطى الكريم، وإنما يكون في خصوصية التصريف وسر الأسماء، إذا كان أحدهما متمكنًا فيه، وقابل من لم يتمكن، قد ينجذب إلى القوى بإذن الله، وقد يُزال منه إذا طغى به. والله تعالى أعلم.
ثم أظهر الحق تعالى جحودهم وعتوهم، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٦]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش، عند ظهور عجزهم، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي، وغيره من المعجزات الباهرة، معلِّلين بما لا يمكن في العادة وجوده، ولا تقتضي الحكمة وقوعه، من الأمور الخارقة للعادة، كما هو ديدن المبهوت المحجوج، قالوا للنبى- عليه الصلاة والسلام- في جمع من أشرافهم:
إن مكة قليلة الماء، ففجر لنا فيها عينًا من ماء، وهو معنى قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة يَنْبُوعاً عينًا لا ينشف ماؤها. وينبوع: يفعول، من نبع الماء إذا خرج.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي: بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة، مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي: تجريها بقوة، خِلالَها في وسطها تَفْجِيراً كثيرًا، والمراد: إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها، أو إدامة إجرائها، كما ينبىء عنه «الفاء»، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «١» قطعًا متعددة، أو قطعًا واحدًا، و (كَما زَعَمْتَ) : يعنون بذلك قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «٢»، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي: مقابلاً نُعاينه جهرًا، أو ضامنًا وكفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي: ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة: الزينة، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي: في معارجها فحذف المضاف. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي: لأجل رُقيك فيها وحده حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً فيه تصديقك، نَقْرَؤُهُ نحن، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه: قال عبد الله بن أميّة لرسول صلى الله عليه وسلم- وكان ابن عمته-: لن أؤمن لكَ حَتَّى تتَّخذَ إلى السماء سُلَّمًا، ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتَّى تأتيها، وتأتي معك بصك منشور، معه أربعة من الملائِكَةِ يَشْهَدُونَ أنك كما تقول. هـ. ثم أسلم عبد الله بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد كان يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات، التي تخرّ لها صُم الجبال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام-: قُلْ تعجبًا من شدة شكيمتهم. وفي رواية «قال» : سُبْحانَ رَبِّي تنزيهًا له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد في قدرته. أو تنزيهًا لساحته- سبحانه- عما لا يليق بها، من مِثل هذه الاقتراحات الشنيعة، التي تكاد السموات يتفطرن منها، أو عن طلب ذلك، تنبيهًا على بطلان ما قالوه، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً لا مَلَكًا، حتى يتصور مني الرقي في السماء ونحوه، رَسُولًا مأمورًا من قِبل ربى
(٢) من الآية ٩ من سورة سبأ.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي: الذين حكِيتْ أباطيلهم، أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي: الوحي، وهو ظرف لمنع، أو يؤمنوا، أي: وما منعهم وقت مجيئ الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك، إِلَّا أَنْ قالُوا أي: إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا، منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر. وليس المراد أن هذا القول صدر من بعضهم فمنع بعضًا آخر منهم، بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل، المستتبع بهذا المقول منهم. وإنما عبَّر عنه بالقول إيذانًا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير روية، ولا مصداق له في الخارج. وقصر المانع من الإيمان فيما ذكر، مع أن لهم موانع شتى، إما لأنه معظمها، أو لأنه المانع بحسب الحال، أعني: عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ، من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية.
قُلْ لهم من قِبَلنا تثبيتًا للحكمة، وتحقيقًا للحق المزيح للريب: لَوْ كانَ أي: لو وُجد واستقر فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ قارين ساكنين فيها، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يهديهم إلى الحق لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه. وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة مع الملائكة لأنها منوطة بالتناسُب والتجانس، فبعث الملائكة إليهم مناقض للحكمة التي يدور عليها أمر التكوين والتشريع. وإنما يبعث الملك إلى الخواص، المختصين بالنفوس الزكية، المؤيدة بالقوة القدسية، فيتلقون منهم ويُبلغون إلى البشر.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً على أني أديتُ ما عليَّ من مواجب الرسالة، وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد. فهو شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وكفى به شهيدًا، ولم يقل: بيننا تحقيقًا للمفارقة، وإبانة للمباينة، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ من الرسل والمرسل إليهم، خَبِيراً بَصِيراً محيطًا بظواهر أعمالهم وبواطنها، فيجازيهم على ذلك. وهو تعليل للكفاية. وفيه تسلية للرسول- عليه الصلاة والسلام- وتهديد للكفار، والله تعالى أعلم.
الإشارة: طلب الكرامات من الأولياء جهل بطريق الولاية، وسوء الظن بهم، إذ لا يشترط في تحقيق الولاية ظهور الكرامة، وأيُّ كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم، حتى عاينوه وشاهدوه حقًا، وارتفعت عنهم الشكوك والأوهام، وصار شهود الحق عندهم ضروريًا، ووجود السِّوَى محالاً ضروريًا، فلا كرامة أعظم من
والهداية بيد الله، كما قال تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
قلت: (عَلى وُجُوهِهِمْ) : حال من ضمير «نحشرهم». و (عُمْياً..) الخ: حال أيضًا من ضمير «وُجُوهِهِمْ».
و (مَأْواهُمْ) : استئناف، وكذا: (كُلَّما..) الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدي الرسل، فَهُوَ الْمُهْتَدِ إليه، وإلى ما يؤدي إليه من الثواب، أو فهو المهتدي إلى كل مطلوب، وَمَنْ يُضْلِلْ أي: يخلق فيه الضلال، كهؤلاء المعاندين، فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ينصرونهم من عذابه، أو يُهدونهم إلى طريقه، ويُوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولاً في قوله: (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) : مراعاة للفظ «من»، وجمع ثانيًا في (لَهُمْ) مراعاة لمعناها تلويحًا بوحدة طريق الحق، وتعدد طرق الضلال.
وَنَحْشُرُهُمْ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إيذانًا بكمال الاعتناء بأمر الحشر، أي: ونسوقهم يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي: كابين عليها سَحْبًا، كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «١»، أو: مشيًا إلى المحشر بعد القيام، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «الذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» «٢». حال كونهم عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا لا يُبصرون ما يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يُقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، لمَّا كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يُحشروا، بعد الحساب، من الموقف إلى النار، مَؤُوفي «٣» القوى والحواس. وأن يُحشروا كذلك، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم، فإنَّ إدراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٢/ ٣٥٥٤)، والترمذي وحسنه فى (التفسير- سورة الإسراء) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) مؤوفى: صيغة جمع مضافة، من الآفة، وهى العاهة. وأيف الزرع: أصابته آفة، فهو مؤوف على وزن: معوف. انظر مختار الصحاح (أوف).
الإشارة: من يهده الله إلى صريح المعرفة وسر الخصوصية فهو المهتد إليها، يهديه أولاً إلى صحبة أهلها، فإذا تربى وتهذب أشرقت عليه أنوارها. ومن يُضلله عنها، فلا ينظر ولا يهتدي إلى صحبة أهلها، فيُحشر يوم القيامة محجوبًا عن الله، كما عاش محجوبًا. يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، لا يُبصر أسرار الذات في مظاهر النعيم، ولا ينطق بالمكالمة مع الرحمن الرحيم، ولا يسمع مكالمة الحق مع المقربين وذلك بسبب إنكاره لأهل التربية في زمانه، وقال: لا يمكن أن يبعث الله من يحيي الأرواح الميتة بالجهل بالمعرفة الكاملة.
وفيه إنكار لعموم القدرة الأزلية، وتحجير على الحق. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر دلائل عموم قدرته، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
قلت: (وَجَعَلَ) : عطف على «قادِرٌ» لأنه في قوة قدر، أو استئناف. و (لَوْ أَنْتُمْ) : الضمير: فاعل بفعل يُفسره ما بعده، كقول حاتم:
لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْني «١».
وفائدة ذلك الحذف والتفسير للدلالة على الاختصاص والمبالغة. وقيل في إعرابه غير هذا.
قُلْ لهم: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم، خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مخافة النفاد بالإِنفاق، إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه، ولو آثر غيره بشيء فإنما يُؤثره لغرض يفوقه، فهو إذًا بخيل بالإضافة إلى جود الله سبحانه، إلا من تخلق بخلق الرحمن من الأنبياء وأكابر الصوفية. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغًا في البخل لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل. يعني: أن طبع الإنسان ومنتهى نظره: أن الأشياء تتناهى وتفنى، وهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى، فهو يخترع من الخلق ما يشاء، ويخترع من الأرزاق ما يريد، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته. وبهذا النظر تتصل الآية بما قبلها. انظر ابن عطية.
قلت: ويمكن أن تتصل في المعنى بقوله: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا)، فكأن الحق تعالى يقول لهم: لو كانت بيدكم خزائن رحمته، لخصصتم بالنبوة من تريدون، لكن ليست بيدكم، ولو كانت بيدكم تقديرًا، لأمسكتم خشية الإنفاق لأن طبع الإنسان البخل وخوف الفقر، فهو كقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ «١»، بعد قوله: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحق تعالى قادر على أن يخلق ألف عالمَ في لحظة، وأن يفنى ألف عالم في لحظة، فلا يعجزه شيء من الممكنات. وكما قدر أن يحيي الإنسان بعد موته الحسي هو قادر على أن يحييه بعد موته المعنوي بالجهل والغفلة، على حسب ما سَبق له في المشيئة، وجعل لذلك أجلاً لا ريب فيه، فلا يجحد هذا إلا مَن كان ظالماً كفورًا.
قل لمن يخصص الولاية بنفسه، أو بأسلافه، ويُنكر أن يفتح الله على قوم كانوا جُهالاً: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم الخصوصية عندكم خشية أن ينفد ما عندكم، وكان الإنسان قتورًا، لا يُحب الخير إلا لنفسه.
(٢) الآية ٤ من سورة ص.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
قلت: قال في الأساس: ثبره الله: أهلكه هلاكًا دائمًا، لا ينتعش بعده، ومن ثَم يدعو أهلُ النار: وا ثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك: ما ثبطك عنها. وهذا مثبَرُ فلانة: لمكان ولادتها، حيث يثبرها النفاس. وفي القاموس: الثبر:
الحبْسُ والمنع، كالتثبير والصرف عن الأمر وعن الحبيب، واللعن والطرد. والثبور: الهلاك والويل والإهلاك. هـ.
و (إِذا جاءَهُمْ) : إما متعلق بآياتنا، أو بقلنا محذوف.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله. وهي: العصا، واليد، والجراد، والقُمل، والضفادع، والدم، والطوفان، والسنون، ونقص الثمرات. وقيل: انفجار الماء من الحجر، ونتق الطور، وانفلاق البحر، بدل الثلاث. وفيه نظر فإن هذه الثلاث لم تكن لفرعون، وإنما كانت بعد خروج سيدنا موسى عليه السلام. وعن صفوان بْن عسال: أن يهوديًا سأل النبي ﷺ عنها فقال: «ألاَّ تُشركوا به شَيْئًا، ولا تَسْرقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحَقِّ، ولا تَسْحُروا، ولا تأكُلُوا الرِّبَا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سُلْطَانٍ ليَقْتُلَهُ، ولا تَقذفُوا المُحْصَنَة، ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وعليكم، خاصَّة اليهود، ألاَّ تَعْدُوا في السَّبْتِ». فقبَّل اليهوديُ يَدَه ورجْلَه- عليه الصلاة والسلام «١».
قلت: ولعل الحق تعالى أظهر لهم تسعًا، وكلفهم بتسع، شكرًا لما أظهر لهم، فأخبر- عليه الصلاة والسلام- السائل عما كلفهم به لأنه أهم، وسكت عما أظهر لهم لأنه معلوم. وإنما قبَّل السائلُ يده لموافقته لما في التوراة، وقد علم أنه ما عَلِمَه رسولُ الله ﷺ إلا بالوحى، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وعليكم، خاصة اليهود، ألا تعدوا»، حكم مستأنف زائد على الجواب، ولذلك غيَّر فيه سياق الكلام.
قالَ له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون، ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التي ظهرت على يدي إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومدبرهما، ولا يقدر عليها غيره، حال كونها بَصائِرَ بينات تبصرك صدقي، ولكنك تعاند وتكابر، وقد استيقنتها أنفسكم، فجحدتم ظلمًا وعلوًا، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي: مهلكًا مقطوعًا دابرك، أو مغلوبًا مقهورًا، أو مصروفًا عن الخير. قابل موسى عليه السلام قول فرعون:
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً بقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً وشتان ما بين الظنين ظنُّ فرعون إفك مبين، وظن موسى حق اليقين لأنه بوحي من رب العالمين، أو من تظاهر أماراته.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي: يستخفهم ويزعجهم مِنَ الْأَرْضِ أرض مصر، فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فعكسنا عليه علمه ومكره، فاستفززناه وقومه من بلده بالإغراق. وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم هو منها. أو أرض الشام. وهو الأظهر، إذ لم يصح أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بالسكنى. وانظر عند قوله: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «٢» فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: الحياة الآخرة، أو الدار الآخرة، أي: قيام الآخرة، جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً مختلطين إياكم وإياهم، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم. واللفيف: الجماعات من قبائل شتى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينفع في أهل الحسد والعناد ظهور معجزة ولا آية، ولا يتوقف عليها مَن سبقت له العناية، لكنها تزيد تأييدًا، وطمأنينة لأهل اليقين، وتزيد نفورًا وعنادًا، لأهل الحسد من المعاندين. وبالله التوفيق.
(٢) الآية ٥٩ من سورة الشعراء.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
قلت: تقديم المعمول، وهو (بِالْحَقِّ) : يُؤذن بالحصر. و (قُرْآناً) : مفعول بمحذوف يُفسره ما بعده.
يقول الحق جلّ جلاله في شأن القرآن: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي: ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسًا بالحق، المقتضي لإنزاله، وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه من الأمر والنهي، والمعنى: أنزلناه حقًا مشتملاً على الحق. أو: ما أنزلناه من السماء إلا محفوظًا بالرصَد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظًا من تخليط الشياطين. ولعل المراد: عدم اعتراء البطلان له أولاً وآخرًا. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيعين بالثواب، وَنَذِيراً للعاصين بالعقاب، وهو تحقيق لحقية بعثه- عليه الصلاة والسلام- إثر تحقيق حقية إنزال القرآن.
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي: أنزلناه مفرقًا مُنَجّماً في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين. قال القشيري: فرَق القرآن ليهون حفظه، ويكثر تردد الرسول عليه من ربه، وليكون نزوله في كل وقت، وفي كل حادثة وواقعة دليلاً على أنه ليس مما أعانه عليه غيره. هـ. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ على مهلٍ وتؤدة وتثبتٍ فإنه أيسر للحفظ، وأعون على الفهم، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والحوادث الواقعة.
قُلْ للذين كفروا: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، فإنَّ إيمانكم لا يزيده كمالاً، وامتناعكم منه لا يزيده نقصانًا. أو: أُمِرَ باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم، كأنه يقول: سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا لأنكم لستم بحجة، وإنما الحجة لأهل العلم، وهم: المؤمنون من أهل الكتاب، الذين أشار إليهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي: العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي: يسقطون على وجوههم سُجَّداً تعظيمًا لأمر لله، أو شكرًا لإنجازه ما وعد في تلك الكتب من نعتك، وإظهارك، وإنزال القرآن عليك.
والأذقان: جمع ذقن، وهو: أسفل الوجه حيث اللحية. وخصها بالذكر لأنها أول ما تلقى في الأرض من وجه الساجد. والجملة: تعليل لما قبلها من قوله: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة. والمعنى: إن لم تؤمنوا
وَيَقُولُونَ في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا عن خلْف وعده إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي: إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولاً لا محالة، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كرره لاختلاف السبب، فإن الأول: لتعظيم الله وشكر إنجاز وعده. والثاني: لِمَا أثر فيهم من مواعظ القرآن، يَبْكُونَ: حال، أي: حال كونهم باكين من خشية الله، وَيَزِيدُهُمْ القرآنُ خُشُوعاً، كما يزيدهم علمًا بالله تعالى.
الإشارة: وبالحق أنزلناه، أي بالتعريف بأسرار الربوبية، وبالحق نزل لتعليم آداب العبودية. أو: بالحق أنزلناه، يعني: علم الحقيقة، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة. وما أرسلناك إلا مبشرا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص، ونذيرًا لأهل الخوض بالطرد والبعد. وقرآنا فرقناه، لتقرأه نيابة عنا، كي يسمعوه منا بلا واسطة، عند فناء الرسوم والأشكال، ونزّلناه، للتعريف بنا تنزيلاً، قل آمنوا به لتدخلوا حضرتنا، أو لا تؤمنوا، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه، خاشعون عند تلاوته، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان القرآن مشتملاً على أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه:
«يا الله، يا رحمن»، قالوا: إنه ينهانا عن عبادة إلهين، وهو يدعو إلهًا آخر. وقالت اليهود: إنك لتُقل ذكر الرحمن، وقد أكثر الله تعالى ذكره في التوراة، فأنزل الله ردًا على الفريقين:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى...
قلت: «أي» : شرطية، و (ما) : زائدة تأكيدًا لما في «أيًّا» من الإبهام، وتقدير المضاف: أيَّ الأسماء تدعو به فأنت مُصيب.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلِ يا محمد للمؤمنين: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ نادوه بأيهما شئتم، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد: إما التسوية بين اللفظين فإنهما عبارتان عن ذاتِ واحد، وإن اختلف الاعتبار، والتوحيد إنما هو للذات، الذي هو المعبود بالحق، وإما أنهما سيان في حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود، فلذلك قال: أَيًّا ما تَدْعُوا أىّ اسم تدعوا به تصب، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فيكون الجواب محذوفًا، دلَّ عليه الكلام. وقيل: التقدير أياما تدعو به فهو حسن، فوضع موضعه: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع الأسماء يستدعي حسن ذَيْنِك الاسمين، وكونها حسنى لدلاتها على صفات الكمال من الجلال والجمال إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها، وكمالها جمالاً وجلالاً.
وقد ورد التوقيف بغيرها، أمَّا في القرآن فكالمولى، والنصير والغالب، والقاهر والقريب، والرب والأعلى، والناصر والأكرم، وأحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وذي الطول، وذي القوة، وذي المعارج، وغير ذلك. وأما في الحديث، فكالمنان، والحنان، وقد ورد في رواية ابن ماجة «٣» أسماء ليست في الرواية المشهورة كالقائم، والقديم، والوتر، والشديد، والكافي، وغيرها.
وإحصاؤها: إما حفظها لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارًا، وإما ضبطها حصرًا وعلمًا وإيمانًا وقيامًا بحقوقها، وإما تعلقًا وتخلقًا وتحققًا. وقد ذكرنا في شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلُّق والتخلق والتحقق بها.
وفي ابن حجر: أن أسماء الله مائة، استأثر الله بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يُطلع عليه أحدًا، فكأنه قيل: مائة لكن واحد منها عند الله. وقال غيره: ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيًا، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي، فقال: الأسماء الحسنى مائة، على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة: «الله»، ويؤيده قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «٤». فالتسعة والتسعون لله فهي زائدة عليه وبه تكمل المائة. هـ.
(٢) أخرجه الترمذي فى (الدعوات، باب ٨٣). وأخرج البيهقي روايته فى (السنن الكبرى، كتاب الإيمان، باب أسماء الله عز وجل ثناؤه) من حديث أبى هريرة. [.....]
(٣) أخرجها فى (الدعاء، باب أسماء الله عزّ وجل).
(٤) من الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)، قال الورتجبي: إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين، اللذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات، والنعوت والأفعال فالله اسمُهُ، وهو اسمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمعِ، والرحمن اسم عين الجمع فالرحمن مندرج تحت اسمه: «الله» لأَنه عين الكل، وإذا قلت: الله ذكرت عين الكل. ثم قال: وإذا قال «الله» يفنى الكل، وإذا قال: «الرحمن» يبقى الكل، من حيث الاتصاف والاتحاد، فالاتصاف بالرحمانية يكون، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال: عن الأستاذ: من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه: أنه يُنزههم بأسرارهم في رياض ذكره بتعداد أسمائه الحسنى، فيتنقلون من روضة إلى روضة، ومن مأنس إلى مأنس، ويقال:
الأغنياء تنزههم في بساتينهم، وتنزههم في منابت رياحِينهم. والفقراء تنزههم في مشاهد تسبيحهم، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. هـ. قلت: والعارفون تنزههم في مشاهدة أسرار محبوبهم، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وبالله التوفيق.
ثم أمره بإخفاء قراءته عن المشركين لئلا يسبوا القرآن ومن جاء به، فقال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَجْهَرْ بقراءة صلاتك، بحيث تُسمع المشركين، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها، وَلا تُخافِتْ أي: تُسر بِها حتى لا تُسمع من خلفك من المؤمنين، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا واطلب بين المخافتة والإجهار طريقًا قصدًا، فإنَّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. رُوي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت، ويقول: أُنَاجِي ربِّي، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي. وعمر رضي الله عنه كان يجهر، ويقول: أطردُ الشَّيْطَانَ وأُوقِظُ الوَسْنَانَ. فلما نزلت، أَمَرَ رسولُ الله ﷺ أبا بَكْرٍ أَنْ يَجْهَر قليلاً، وعمر أن يَخْفِض قليلاً «١».
وقيل: المعنى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كلها، وَلا تُخافِتْ بِها بأسرها، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا بالمخافتة نهارًا والجهر ليلاً. وقيل: (بِصَلاتِكَ) بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة لزوال علة السب واللغو
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي: لم يكن له ناصر ينصره (مِنَ الذُّلِّ) أي: لم يذل فيحتاج إلى ولي يُواليه ليدفع ذلك عنه. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته، دون غيره إذ بذلك يتم الكمال، وما عداه ناقص حقير، ولذلك عطف عليه: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظيمًا، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك. رُوِي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علَّمه هذه الآية:
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ | ) الخ «١». والله تعالى أعلم. |
(٢) من الآية ١٠٨ من سورة طه.