ﰡ
ولعلّ فيما حدّث به ختام سورة النّحل ما يكشف عن بعض حكمة الإسراء، وأنه- كما سنرى- كان استضافة للنبىّ الكريم فى رحاب الملأ الأعلى، ليستشفى مما نزل به من ضيق، وما ألمّ به من ألم، فى هذا الصراع الذي كان محتدما بينه وبين قومه، حتى لقد كانت تتنزّل عليه آيات الله تدعوه إلى أن يرفق بنفسه، وأن يتخفف من مشاعر الحزن على أهله، ألا يكونوا مؤمنين. وفى هذا يقول سبحانه «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (٨: فاطر) ويقول جلّ شأنه:
«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٩٩: يونس) ويقول سبحانه:
«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (٥٦: القصص)..
ويجتمع هذا كله فى قوله تعالى فى آخر سورة النحل: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ»..
فناسب هذا الختام للسورة أن تجىء بعدها سورة الإسراء، وما كشف الله لنبيه فى هذه الرحلة المباركة من جلال ملكوته، وما أراه من أسرار علمه وحكمته! بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآية: (١) [سورة الإسراء (١٧) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)سبحان: مصدر، منصوب، بفعل محذوف تقديره سبّح الله تسبيحا، أو سبّحه سبحانا..
أسرى: أسرى بكذا، أي سار به ليلا.. وأصل الفعل من السرّ، وهو ما خفى عن غير صاحبه من الأمور.. ولأن الليل يستر الناس، ويخفى شخوصهم وأفعالهم عن الناس، فقد سمّى السير فيه سرى.. وسمّى تحرك الليل نفسه، سرى، وذلك لأنه يقطع رحلته فى دورة الفلك من أول الليل إلى آخره دون أن يدلّ دليل على حركته، إلا شواهد باهتة خفية لا يراها إلا من يتربص له، ويرصد مسيرته.. فأول الليل وآخره سواء، فى مرأى العين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ».. فالليل نفسه يسرى، أي يسير متخفّيا فى ظلام، مستترا به، لا ننكشف حركته للناس..!
وعلى هذا، فكل حركة، أو عمل، يكون فى خفاء يمكن أن يطلق عليه لفظ «سرى»، فيقال: أسريت بهذا الأمر أي فعلته سرّا، دون أن يطلع عليه أحد..
وقيد السّرى باللّيل هنا، يراد به تحقيق أمرين:
أولهما: اتخاذ الليل ستارا للسير، وظرفا حاويا له، حتى لا تنفذ إليه الأبصار..
وثانيا: التحرك فى حذر، وحيطة، وفى خفاء، دون جلبة أو ضوضاء..
الأمر الذي يعين على إنفاذ الأمر دون أن يفضح.. فإن الليل وإن كان سترا
وقد توسعنا فى شرح كلمة «أسرى» وفى قيدها بظرف الليل، لندرك السرّ فى قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» وأن قيد السّرى هنا بالليل، وجعله وعاء حاويا له، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل، كما يقول بذلك المفسّرون، فهذا الظرف- فى رأيهم على هذا القول- ليس له أثر فى معنى لفظ «الإسراء».. إذ الإسراء أو السّرى- عندهم- لا يكون إلا ليلا.. فكلمة «ليلا» عندهم لمجرد التوكيد، بالتكرار!! وقد رأيت أن معنى الإسراء، أو السّرى، هو الخفاء، وأنه مشتق من السّرّ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر فى ستر من الخفاء، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل..
أولهما: أن ظرف الإسراء كان ليلا، وثانيهما: أنه كان بحيث لم يشعر به أحد، بل وقع فى ستر، بحيث لم يلحظه أحد من المتصلين بالنّبيّ، القريبين منه، الذين كانوا يشاركونه الحياة فى بيته، وفى الحجرة التي كان ينام فيها.
ونستظهر من هذا أمرين أيضا:
أولهما: أن الإسراء بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، كان بجسده، ولم يكن بروحه الشريف وحده.. وأنه لو كان بروحه لما جاء التعبير القرآنى عنه بلفظ «أسرى» الذي يدلّ فى ذاته على الستر والخفاء، ولما جعل هذا السّتر فى مضمون ستر آخر هو الليل، كما يقول سبحانه: «ليلا»..
وثانيهما: أن هذا الإسراء بالنبيّ الكريم، لم يكن معجزة متحدّية، وإنما هو رحلة روحيّة، واستضافة من الله الرحمن الرحيم، للنبىّ، فى رحاب ملكوته، حيث يشهد من ملكوت الله، ويتزود من ألطاف الله، ما لم يشهده بشر، وما لم يتزود به إنسان! هذا، وقد كان للإسراء حديث طويل متصل، امتلأت به كتب التفسير، والسّير، وقد دخل على هذا الحدث كثير من الخيال، وكثير من الكذب والدسّ، حتى كاد يختنق الشعاع المنبعث منه، وتغيب عن نظر الناظر فيه، مواقع العبرة والعظة منه..
ولهذا رأينا أن نقف من هذا الحدث وقفة، ندفع بها ما نستطيع دفعه من هذا الضباب المتكاثف حول «الإسراء»، حتى يستطيع المسلم أن يرى وجه هذه الآية الوضيئة التي اختص الله سبحانه وتعالى بها خاتم النبيين، وإمام المرسلين..
[وقفة مع الإسراء.. والمعراج]
قد رأينا فى مفتتح هذه السورة أنها تبدأ بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».فهذه الآية، هى كلّ ما ذكر القرآن ذكرا صريحا عن الإسراء..
وكان من أجل هذا أن سمّيت السورة سورة «الإسراء»، باعتبار أن «الإسراء» هو أبرز حدث فيها، وأظهر وجه من وجوه الأحداث التي عرضت لها هذه السورة.
وإذن، فالحديث الحقّ عن الإسراء، ينبغى ألا يخرج عن مضمون هذه الآية، وألا يجاوز حدودها..
والإسراء- كما يفهم من هذه الآية- هو رحلة سماوية، أرادها الله سبحانه لنبيّه الكريم، ليريه سبحانه وتعالى من آياته، ما لا تراه العيون، ولا تتظنّاه الظنون! وحدود هذه الرحلة- كما يذكر القرآن- هى: من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وزمانها، لحظة من لحظات الليل.. كما يقول سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..»
فالآية صريحة فى «الإسراء» وفى أنه كان فعلا للنبى الكريم، وأنه واقعة حقيقية، وليس رؤيا مناميّة، وإلّا لما كان له ذكر خاص فى سورة خاصة.
والذي يقف بالإسراء عند هذا الحدّ الذي قطعت به هذه الآية الكريمة، يجد أن تلك الإضافات الكثيرة، وتلك الذّيول الطويلة التي علقت بحديث
فالإسراء، على ما تشهد به الآية- لم يكن- كما أشرنا من قبل- معجزة متحدية، وإنما هو- كما قلنا- رحلة روحية إلى بيت المقدس، مجمع الأنبياء، وأول قبلة للإسلام!!
دواعى هذه الرحلة:
كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قبيل الإسراء، فى وجه خصومة عنيفة ظالمة، من قومه.. يدعوهم إلى الرشاد والخير، فيلقونه بالتكذيب والبهت، وبرمونه بالسّوء والأذى.. وهو رحيم بهم، حريص على هدايتهم، تكاد تذهب نفسه حسرة عليهم، إذ يراهم يتمزقون شعبا، ويتقطعون أوصالا، بين يدى دعوته التي يدعوهم إليها..
وليس حال أدعى من هذه الحال، للخروج من هذا الجوّ الثقيل الخانق، إلى جوّ آخر، فيه راحة للصدر واسترواح للنفس! ولكن: إلى أين المذهب والنبىّ قائم على دعوة السماء، موجه برسالتها؟
إنه لا مفرّ للنبىّ- إن أراد أن يظل فى سجل الأنبياء- من أن يثبت فى موقفه، لا يزايله، ولا يتحول عنه أبدا، وإن هلك! وقد قالها رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- لعمّه أبى طالب، حين دعاه عمّه إلى أن يترك ما هو فيه، ويلقى قومه بالموادعة، حتى لا تتمزّق وحدة قريش، ويقتل بعضها بعضا، فقال قولته الخالدة: «والله يا عمّ لو وضعوا الشّمس فى يمينى ولقمر فى بسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه» !
وقد أبت العصبية العربية على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب- رهط النبي الأدنين- أبت عليهم العصبية العربية، أن يتخلوا عن النبي، وأن يسلموه لقريش، تنال منه، وتستبد به! وكان من هذا أن عمدت قريش إلى مقاطعة بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وعقدت فيما بين بطونها وأفخاذها عهدا، على ألا يتعاملوا مع بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، فلا يزوّجوهم، ولا يتزوجوا منهم. ولا يأخذوا منهم أو يعطوهم.
بل إنها القطيعة التامة فى كل شىء بتواصل الناس به.
وقد واجه بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية، بشجاعة وصبر، وإباء، وأبوا أن يعطوا الدنيّة فى هذا الامتحان، الذي تعرف فيه معادن الرجال.. فجمع أبو طالب- عميد بنى هاشم- أهله، وانحاز بهم إلى شعب أبى طالب «١».. واستمر هذا الحصار، نحو ثلاث سنين، بلغ بهم الجهد فيها غايته، حتى سمع أصوات صبيانهم يتضاغون جوعا من وراء الشّعب! وطبيعى أن النبي الكريم، كان خلال هذه المحنة يحمل فى نفسه كل ما لقى آل عبد المطلب، وآل هاشم، من جهد ومشقة.. فكل ما كان يقع من آلام فى محيط أفرادهم، فردا فردا، وفى جماعاتهم، أسرة أسرة، كان يقع على مشاعر
رحلة فى العالم الأرضى:
وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه فى نفس النبي، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا.. أراد- صلوات الله وسلامه عليه- أن يلتمس له متنفسا خارج مكة، لعله يجد أعوانا على الحق، وأنصارا للخير، يستمعون له، ويستجيبون لدعوته.
كان لا بد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة، بعد أن
ومما ضاعف من وقع الآلام فى نفس الرسول، أن سقط فى ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا.. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار، ويفسد تدبير قريش، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم، بعد أن سلّط الله عليها الأرضة فأكلتها جميعا، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم الله عز وجل- ما كادت تنتهى هذه المحنة.
حتى مات عمه أبو طالب، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر.. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة، بعد موته بثلاثة أيام!! فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء فى عمه وفى زوجه، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟
إنه كان فى أحرج مواقف الدعوة، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه، بين قريش، وبين النبي.
إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه، يغادبهم، ويراوحهم بآيات الله وكلماته، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء، ولا يلقى منهم إلا ما يكره- نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها- حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما، وتطورات خطيرة فى حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة، وسيسمع أحاديث متباينة، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات الله، وسيهجر النبي موطنه، ويهاجر إلى موطن
وكان فيما قال له صاحب كلمتهم: «والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على الله. ما ينبغى لى أن أكلمك!!» إنها سفسطة أحمق، وضلالة ظلوم جهول! فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خيرهم، إن كان فيهم خير، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: «أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى..»
إذ كره رسول الله، أن يبلغ ذلك قومه عنه، فيغربهم ذلك به، ويدفعهم إلى
«اللهمّ.. أشكو إليك ضعف قوّتى، وقلّة حيلتى، وهو انى على الناس! «يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربى...
«إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى «١» ؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟
«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى..
«أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلّ علىّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك.
«لك العتبى حتى ترضى «١» «ولا حول ولا قوّة إلا بك..
بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق بالله، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة، اتجه الرسول إلى ربّه.. متضرعا، متوجعا، طالبا رضا ربّه ورحمته، فى صبر وحمد، على السّرّاء والضرّاء! مدد غير منتظر:
وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة، نزل منزلا بمكان يسمّى «نخلة» وقضى فيه ليلته، ثم قام فى جوف الليل يصلّى، ويتهجّد بكلمات ربّه، فصرف إليه نفر من الجنّ، فاستمعوا له، وباتوا الليل معه، دون أن يشعر بهم!..
وفى الصّباح، وقبل أن يزابل النبىّ مكانه الذي بات فيه، تلقّى خبر السّماء فى قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..»..
(الآيات: ٢٩- ٣٢) من سورة الأحقاف.
فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبىّ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن، فشاع فى كيانه الرّضا والاطمئنان.. إنه ليس وحده، وإن صوت السماء متصل به، وإن جندا
ومن هذا الذي يستمع إلى كلام الله، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من «الجنّ».. الجنّ الذي يضرب به المثل فى الخروج على كل نظام، والتأبّى على كل نداء!.
فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر فى نفوس الناس، وفى أضلّهم ضلالا، وأعتاهم عتوّا؟
ولا شك أن فى هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول الله، والتطييب لخاطره، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به فى الطائف.. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول، ويجد منه القوة على مواصلة السّير فى طريقه إلى قومه، وفى مواجهة تحدّيهم له، وعنادهم وتأبّيهم عليه!.
وعلى هذا العزم، ومع تلك القوة، مضى الرسول إلى مكة!.
ولا يجد الرسول قومه، على غير ما عرف منهم.. إنهم على هذا الضلال المبين، وعلى تلك العداوة له، والخلاف عليه.. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه، ما يشدّ عزمه، ويدفع به إلى مواجهة قومه فى مكة- فإنه ما زال فى حاجة إلى أمداد أخرى، تثبّت قدمه، وتشدّ عزمه، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد فى سماء مكة، بينه وبين قومه.
لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه، فى الأرض، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها، فكان لا بد من عالم آخر، يتزود منه بزاد روحى، يشيع فى كيانه قوى مجدّدة، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها فى هذا النضال المتصل بينه وبين قومه، حتى يحكم الله بينه وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين..
فكانت رحلة الإسراء!
وفى الإسراء إلى العالم العلوي.. يجد الرسول من آيات ربّه، ومن دلائل قدرته، وعجائب ملكوته، ما تذوب فى عباب محيطاته كل شرور العالم الأرضى وآلامه..
فلم يكن الإسراء فى صميمه، إلا رحلة روحية لرسول الله، فى عالم النور، وإلّا استدناء له إلى مواطن الرحمة واللطف.. وإن ذلك لهو الجزاء الحسن للرسول على جهاده الصّادق، فى سبيل الله، وفى قيامه على أداء الرسالة التي أرسل إليها، واحتمل ما احتمل من أجلها..
وماذا يكون للرسول من جزاء فى هذه الدنيا، على مالقى فى سبيل الدعوة من عنت وإرهاق، وما أصابه من ضرّ وأذى فى نفسه، وأهله، وصحبه؟ إن كلّ ما فى الأرض لا يقوم ببعض هذا الجزاء.. وإن الرسول الزاهد فى كل ما فى هذه الأرض، وما عليها من مال ومتاع.. فلم يكن إلا ما فى السماء، هو الذي يناسب حال الرسول، ويليق به! وقد ذكر القرآن الكريم حادثة الإسراء فى، أول سورة الإسراء..
والذي ذكره من أمر الإسراء، أنه وقع ليلا، وأن حدوده كانت من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقد وصف بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، فهو فى مكان قصىّ بالإضافة إلى المسجد الحرام.
يقول ابن إسحق فى سيرته: «وكان مسراه- صلّى الله عليه وسلّم- وما ذكر منه، بلاء وتمحيصا، وأمرا من أمر الله، فى قدرته وسلطانه.. فيه عبرة لأولى الألباب، وهدى ورحمة، وثبات لمن آمن به وصدّق، وكان من أمر الله على يقين.. فأسرى به كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين
وقد طلع النبىّ على قريش بهذا الخبر، وأنه أسرى به فى ليلته تلك من مكة إلى بيت المقدس، فبهتوه، وكذّبوه، وأطلقوا ألسنتهم بالقول السيّء فيه.. وقال قائلهم: «هذا والله الإمر «٢»، والله إن العير لتطّرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة.. أفيذهب محمد فى ليلة واحدة ويعود إلى مكة» ؟
ولم يقف الأمر عند كفّار قريش، بل تجاوزهم إلى ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، فارتدّوا عن الإسلام، وارتابوا..
وتحدّث الروايات أن الكفار ذهبوا إلى أبى بكر- رضى الله عنه- لعلهم يجدون عنده ما وجدوا عند ضعاف الإيمان، فقالوا له: «هل لك يا أبا بكر فى صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلّى فيه، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: أنتم تكذبون عليه؟ فقالوا: ها هو ذا فى المسجد يحدّث به الناس! فقال أبو بكر: «لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟
فو الله إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه.. فهذا أبعد مما تعجبون منه «٣» ».
ونحن نشكّ فى هذه الرواية.. فما كان أبو بكر بالذي يخفى عليه شىء من أمر النبىّ، حتى يعلمه كفار قريش قبل أن يعلمه، وما كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يحدث بهذا الخبر العجيب قبل أن يلقى به أبا بكر، وهو الذي كان أشبه بظلّ رسول الله، لا يفارقه أبدا!
(٢) الإمر بالكسر- الأمر العظيم فى شناعته: «لقد جئت شيئا إمرا»
(٣) زاد المعاد جزء ٢ والسيرة لابن هشام جزء ٢ ص ٤.
وفى حدود هذا المعنى ينبغى أن نقيم نظرتنا إلى الإسراء.. فهو بهذا المعنى، ليس معجزة للتحدّى، تقف من الناس موقف التعجيز لهم، والتحدّى بالإتيان بمثلها، وإنما هى إخبار بأمر شهده الرسول وحده.. فإذا حدّث به كان حديثه الصدق كلّه، لا ينبغى لمن آمن بأنه نبىّ أن يكذّبه، أو يشك فى شىء مما يقول..
إنه أمين السّماء.. لا يكذب أبدا.. هذا مبدأ يجب أن يسلم به كل من يدخل فى هذا الدين، ويؤمن بالله ورسوله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (٧: الحشر).
إن حديث الإسراء اختبار عملىّ لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله، لا يكون إيمانه إيمانا حقّا، حتى يؤمن برسوله، ولا يكون مؤمنا برسوله حتى يصدّق كل قول يقوله، ويسلّم به، قبل أن ينظر فيه، أو يعرضه على عقله.. وإن كان ذلك لا يمنعه من أن ينظر بعد هذا فى قول الرسول، وأن يعرضه على عقله فذاك نظر غايته الفهم والإدراك لمرامى قول الرسول والعمل به..
فهذه آيات الله التي كانت تنزل على الرسول الكريم، إنها لم يقم عليها شاهد بأنها كلام الله، إلّا إيمان المؤمنين به، بأنه رسول من عند الله، وإن كان فى آيات الله ذاتها ما يحدث عن إعجازها، وأنها ليست من قول بشر.. ولكن هذا لا يعرف إلا بعد نظر فى وجه آيات القرآن، واستعراض ما فيها من قوى الحق، وشواهد الإعجاز!
وقد مكّن الله للمسلمين من المسجد الأقصى، ودخل هو وما حوله فى دار الإسلام، منذ خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم، وإلى يوم الدين.. وإنه على رغم ما بذل أعداء الإسلام من جهود فى إخراج هذا البيت من يد المسلمين- فإنه لا يلبث أن يعود إليهم، كما يعود إليهم، كما يعود المسافر إلى أهله، بعد رحلة، قد تطول وقد تقصر! ونحن نكتب هذا، فى سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة (١٩٦٩ من الميلاد) وبيت المقدس فى يد اليهود، منذ عامين تقريبا، اليهود الذين عملوا لذلك من قبل ظهور الإسلام يوم كانوا خاضعين لحكم الرومان، ثم عملوا له بعد الإسلام، فأشعلوا الفتن، وأقاموا الحروب، وأغروا النصارى بالمسلمين، حتى وقع الشر بينهم فى تلك الحروب التي اتصلت نحو قرنين، والتي عرفت بالحروب الصليبية..
- كل هذا ليجد اليهود فرصتهم إلى هذا البيت الحرام، وها هم أولاء قد وجدوها اليوم، مستعينين بأموالهم، وسلطانهم على أمريكا، التي ساندتهم، ووقفت وراءهم، وأمدتهم بالعتاد والرجال والأموال..
ولا ندرى السبيل الذي نستردّ به هذا البيت.. أهو بالحرب أم بالسلم،
هذا عن الإسراء..
أما المعراج، فإن حديثه يطول.. ولكنّا سنكتفى بلمحات نشير بها إليه، لنكشف عن تلك المقولات التي قيلت فيه.. بلا حساب، ولا تقدير، حتى اشتبه فيه الحق بالباطل، وغلب فيه الخيال على الواقع.
قصّة المعراج:
والمراد بالمعراج، هو عروج النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أي صعوده إلى السماء، من بيت المقدس بعد أن أسرى به إليه..
والآيات التي يستند إليها الذين يصورون حديث المعراج هى ما جاء فى أول سورة النجم فى قوله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى».
وهذه الآيات محتملة لكثير من التأويلات، بحيث لا يرى فيها المعراج إلّا بعد جهد، وطول نظر، ومن خلال ثقب ضيق جدّا.. وذلك ليكون
وقد رويت عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، فى بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت الله، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورا ويقينا! وليس فى هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة.
ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، فى هذه القصة، دور كبير فى دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال فى هذا العالم العلوى، وفى المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به..
وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى فى حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى- عليهما الصلاة والسلام- وأن موسى سأل النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- عما افترض الله على أمّته من الصلاة، فلما قال النبىّ لموسى: إنها خمسون صلاة افترضها الله سبحانة وتعالى على المسلمين فى اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك».. ثم تقول الرواية: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف فاستجاب له ربّه فجعلها أربعين، فلما عاد النبىّ إلى موسى وأخبره بما خفف الله سبحانه وتعالى من
وعندها قال النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لموسى: «لقد استحيت من ربى»..!! وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسا فى العمل وخمسين فى الأجر!!.
هذه الرواية تشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة.. هذا، إذا جعلنا فى اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه، إذ كانوا ينكرون نبوّة النبىّ أصلا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث، هذا الأثر الذي أشرنا إليه! وثانيا: ما وجه الحكمة فى أن يكون من تدبير الله سبحانه وتعالى أن تجىء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات!! والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة فى أن يغدو النبىّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟
ألا غدوة وروحة واحدة تكفى إن كان لا بد من هذا؟.
إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة فى هذا، فيجعل من تمام الرواية: «أنها خمس فى العمل وخمسون فى الأجر» !!
هذا، وقد فصّل القاضي «عياض» فى كتابه «الشفا»، مذاهب القول فى الإسراء والمعراج.. وهل كان مع الإسراء معراج؟ وهل كان الإسراء بالروح وحده؟ أو بالروح والجسد معا؟
يقول القاضي عياض:
«اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراؤه- عليه الصلاة والسلام- بروحه أو جسده.. على ثلاث مقالات:
١- فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء حق، ووحي.. وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن (البصري) - والمشهور عنه خلافه- وإليه أشار محمد بن إسحاق.. وحجتهم قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» وما حكوه عن عائشة رضى الله عنها من قولها: «ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
٢- «وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة..
وهذا هو الحق. وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حية البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.. وهو قول الطبري،
٣- وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة، إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلّى الله عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه.. قال هؤلاء: «ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد عن المسجد الأقصى، لذكره، فيكون أبلغ فى المدح.»
وبعد أن انتهى القاضي عياض من عرض هذه الآراء، عرض رأيه هو، فرجح جانب القول بأن الإسراء كان بالروح والجسد معا.. فقال:
«والحق من هذا، والصحيح إن شاء الله، أنه إسراء بالروح والجسد فى القصة كلها- أي الإسراء والمعراج- وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار...
ثم يقول: «وليس فى الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: «بروح عبده» ولم يقل «بعبده» وقوله تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى».. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به.. إذ مثل هذه المنامات لا ينكر.. بل لم يكن ذلك الإنكار منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه، وحال يقظته.»
وممن قال بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا.. البيضاوي فى تفسيره، وقد أراد أن يخرج هذا الرأى على أسلوب البحث العلمي، وأنه من الممكنات التي لا ينكرها العلم.. يقول البيضاوي: «والأكثر- أي من آراء العلماء-
ثم يقول: «والاستحالة مدفوعة بما ثبت فى الهندسة أن ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها- الشمس- الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى فى أقل من ثانية!! وقد برهن فى الكلام أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض، وأن الله سبحانه قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فى بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات.»
والذي نقف عنده من كلام البيضاوي هنا قوله: «وقد برهن فى الكلام أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض».. وهذا يعنى أن الأجسام جميعها ترجع إلى أصل واحد، وأن هذا الأصل قابل لجميع الأعراض التي تقبلها الأجسام، بمعنى أن المادة التي شكل منها كائن ما، قابلة لأن يشكل منها كائن آخر مخالف له، مع اختلاف فى نسب الأجزاء التي يتكون منها الكائن وفى أوضاع هذه الأجزاء، بل إن ذلك نفسه واقع فى أجزاء الكائن الواحد..
فالعين مثلا هى من نفس المادة التي تخلّق منها الأنف، أو الكبد أو القلب، أو الشعر.. فكلها جميعا ترجع إلى ما عرف اليوم باسم «الذرّة» أو ما كان يعرف قديما بالجوهر الفرد.. فمن كتل الذرات تتكون الأجسام، ومن الاختلاف فى بناء الذرات، وترتيب أوضاعها، تظهر الأجسام فى صورها وأشكالها..
وهذا ما فهمه البيضاوي وقرّره فى قوله: «إن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض» يعنى أنه من الممكن أن يتحلل جسم الإنسان- مثلا- إلى ذرات فيصبح كائنا لطيفا غير مرئى، ثم يعاد تركيبه إلى وضعه الأصلى، فيكون جسدا
أما أن نجسّد العالم العلوىّ، ونحيله إلى أشياء من عالم التراب الذي نعيش فيه، فذلك مما يهوّن من خطر الإسراء والمعراج، ويزرى بقدرهما، ويبخس من قيمتهما..
إن الذي يطالع قصة الإسراء والمعراج، على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضها كتب السيرة، والتفسير، ليموت فى نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية، التي كان خليقا أن يثيرها فيه حديث الإسراء والمعراج، لو أزيح من طريقه هذا الركام الكثير من العوائق والسدود.. ولا تنخدع لتلك الأصباغ الساذجة التي يلطخ بها القصاص وجه الحقائق المادية، ليحعلوا لها بتلك الأصباغ وجها تدخل به إلى العالم العلوىّ.. فإن هذا «المكياج»
فالبراق مثلا.. الذي يأخذ فى حديث «الإسراء» لونا بارزا صارخا- والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي- هذا البراق ليس إلا «أتانا» ركب عليه جناحان من ريش، فصار أشبه بلعبة من لعب الأطفال التي يؤلفونها من حطام بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم..!
ثم هذا الحجر الذي يشدّ إليه الأنبياء دوابهم عند المسجد الأقصى، وتلك الحلقات المغروسة فى هذا الحجر لتمسك المقاود واللّجم- إنها جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كان يجدها المرء فى نفسه لو أزاح هذا الحجر من طريقها، وانزاحت معه اللّجم والمقاود والسروج وغيرها، مما يكون فى مرابط الحيوان! وعلى أىّ فإن الإسراء، على أية صورة وقع، لم يكن فيه ما يخرج النبىّ الكريم عن بشريّته، ويباعد ما بينه وبين الإنسان الذي هو «محمد»..
فقد عاد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعد الإسراء، ولقى قومه مؤمنين، وكافرين، فلم ينكر أحد من أمره شيئا مما كان يعهد فيه.. حتى إن أعداءه أنفسهم لم يجدوا عليه أمارة من أمارات هذه الرحلة المباركة..
فإن خيرها كلّه كان مخبوءا فى كيانه، منطويا فى صدره، ساريا فى روحه..
إنه شأن من شأن الله مع نبيّه، وزاد روحىّ زوّده به ربّه، تكريما له، وترويحا عن كيانه المجهد المكدود.
وحديث المسلمين عن الإسراء، ينبغى أن يكون حمدا لله، وتنزيها له، وثناء عليه، أن أنزل نبيّهم هذا المنزل الكريم، ورفعه إلى هذا المقام العظيم،
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» أي فسبّحوا الله واحمدوا له، أن أسرى بعبده محمدا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن أراه من آياته وأسبغ عليه من آلائه، ما هو أهل له عند ربّه «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
الآيتان: (٢- ٣) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
التفسير:
مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما، هى أنه لما كانت الآية السابقة التي افتتحت بها السورة، قد ذكرت تلك النعمة العظمى التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على النبىّ، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فى تلك الرحلة العجيبة، التي رأى فيها ما رأى من آيات ربّه- فناسب ذلك أن يجىء ذكر النعم التي أنعم الله بها على عباده.. ولما كان أجلّ تلك النعم وأعظمها إرسال الرسل إلى الناس، يحملون إليهم هدى الله، ويدعونهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، ولما كانت التوراة التي نزلت على موسى، هى الشريعة القائمة عند أهل الكتاب المعاصرين للنبوّة- من يهود ونصارى-
«وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا».
فهذه الآية معطوفة على ما قبلها. والتقدير: سبّحوا- أيها الناس- ربّكم الذي أسرى بعبده محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والذي آبى موسى الكتاب وجعله هدى لبنى إسرائيل، فوجب عليهم أن يشكروا الله، وأن يأخذوا حظهم من هذا الهدى الذي جاءهم به رسول الله، وألا يتخذوا من دون الله وكيلا يتعاملون معه، ويسندون إليه أمورهم، ويجعلون عليه معتمدهم!..
[الحقيقة المحمّدية.. وما يقال فيها]
ونلمح فى هذا العطف سرّا لطيفا، تشّع منه دلالات تشير إلى مقام النبي الكريم، ومنزلته عند ربّه، وأنه صلّى الله عليه وسلّم، هو هدى فى ذاته وشخصه، يقابل الهدى الذي حملته التوراة إلى بنى إسرائيل! فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى من آيات ربّه الكبرى فى إسرائه ومعراجه، وما حمل فى كيانه من معالم الحق فى هذه الليلة المباركة- قد أصبح هو فى ذاته كتابا من كتب الله، ورسالة من رسالاته، يجد فيها أولوا البصائر للشرقة، وأصحاب القلوب السليمة، ما يجد المؤمنون بالله، فى آياته وكلماته من هدى ونور.. وهذا ما يحدّث به الحديث الشريف: «أنا رحمة مهداة»..
فالنبىّ الكريم فى ذاته، هو رحمة، بما نطق به من كلماته، وبما استملى الناس من سيرته، وبما اقتبسوا من أدبه وعلمه وحكمته..
فما أعظمه من إنسان! وما أكرمه من رسول! وما أعلى مقامه فى العالمين! وأحبّ هنا أن أقف وقفة قصيرة مع تلك المقولة التي تقال وتذاع بين المسلمين، فيما يعرف عند أصحابها «بالحقيقة المحمدية».
فالذين يستمعون من المسلمين إلى هذا العنوان: «الحقيقة المحمدية» وما يجىء وراء هذا العنوان من حديث عن هذه الحقيقة، قد يجدون فى صدورهم حرجا من أن يدفعوا عن هذه الحقيقة تلك الدعاوى التي يدّعيها عليها القائلون بها، والتي يصوّرون فيها النبىّ الكريم هذا التصوير العجيب، الذي يقطعه عن العالم البشرى، بما يضيفون إليه من صفات وأعمال، لا تقتضيها طبيعة البشر، ولا تثقل بها موازينه فى المصطفين من عباد الله.!
إنها مقولات كثيرة مغرقة فى الخيال، تضفى على ذات النبىّ أثوابا فضفاضة- بل مهلهلة- من نسيج الوهم، ومن واردات الخرافة، يحسب بها أصحابها- عن إيمان، أو عن كيد- أنّهم إنما يمجّدون النبىّ، ويفردونه وحده بتلك المنزلة التي تتقطع دونها الأوهام والظنون! ومن هنا، كان خطر هذه المقولات وأثرها داهما مزلزلا، فى المجتمع الإسلامى،
فالقرآن الكريم، يقرر فى مواضع كثيرة منه أن «محمدا» بشر من رأسه إلى أخمص قدمه..
فيقول سبحانه وتعالى، آمرا نبيّه الكريم أن يعلن الناس به: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» (١١٠: الكهف) ويقول سبحانه: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» (٩: الأحقاف).
فهو- صلوات الله وسلامه عليه- فى الناس، واحد من النّاس.. وهو-
ثم ماذا يقول النبىّ عن نفسه أكثر وأوضح من هذا القول الذي أمره به ربّه أن يقوله، حتى يدفع عن نفسه ما ليس له، مما يقوله عليه من يقولون من المغالين فيه، هذا الغلوّ، الذي هو وقول المتطاولين على مقامه- سفاهة وجهلا- والمتنقّصين لقدره- افتراء وكذبا على سواء؟
بل وماذا يقول النبىّ أكثر وأصرح من قوله: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد» - حتى يمسك هؤلاء المغالون فيه على طريق قاصد مستقيم فى شأنه؟
يتكىء القائلون بالحقيقة المحمدية، وبالصفات التي يوردونها عليها- يتكئون على حديث يروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، هو قوله: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين، وكنت نبيّا ولا آدم ولا الطين».. ويتخذون من هذا منطلقا ينطلقون به إلى اصطياد كل واردة وشاردة.. فلقد فتح عليهم هذا القول الذي يفهم منه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان نبيّا قبل أن يخلق آدم- نقول فتح عليهم هذا القول بابا بل أبوابا يلجون منها إلى اصطياد المقولات التي تتخذ من هذا المفهوم منطلقا إلى كل قريب وبعيد، وإلى كل معقول وغير معقول، حتى لقد اجتمع للقوم من هذا، ما تسمع من تلك المقولات التي لا تنتهى، ولا ينتهى حديث أصحابها عنها! ولا نعرض لصحة هذا الحديث، ولا لمكانه من القوة أو الضعف..
بل نأخذه مسلّمين به، قائلين بصحته.. سندا، ومتنا!
ولكن قبل أن نجيب على هذا، نسأل القائلين بالحقيقة المحمدية عن معنى منطوق الحديث: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين.. وكنت نبيا ولا آدم ولا الطين!..»
أين كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه قبل آدم؟
يقولون فيما يقولون: إنه كان درة أو ياقوتة فى العرش! ونقول لهم بما يقوله الله سبحانه وتعالى فى المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ.. وَيُسْئَلُونَ» (١٩: الزخرف) أفشهد هؤلاء القائلون بتلك المقولة- أشهدوا خلق محمد؟
ثم نسأل، هؤلاء القائلين بالحقيقة المحمدية: أين كان «محمد» قبل أن يولد لأبويه: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب؟» يقولون إنه ما زال منذ آدم يتنقل من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة إلى أن ولد! ونقول: إنّ كل إنسان تنقّل منذ آدم من الأصلاب، إلى الأرحام، حتى انتقل من صلب أبيه إلى رحم أمّه.. فماذا فى هذا؟
والحديث الذي يقول: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين... » إن صحّ- فإنه لا يخرج عن هذا المعنى، الذي فهمناه عليه. إذ تنقّل ويتنقل الناس جميعا فى أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات! فالحديث- إن صحّ- يشير بهذا إلى تلك الحقيقة التي يؤمن بها المؤمنون بالله، وهى أن علم الله سبحانه وتعالى، قد وسع كل شىء، وأن هذه الموجودات كلها، فى ملكوت السموات والأرض، هى فى علم الله سبحانه وتعالى، وأنها فى كتاب مكنون، كما يقول سبحانه جلّ شأنه: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ
(٧٥: النمل) وكما يقول تبارك وتعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (٢٢: الحديد).
فالذى يفهم من هذا الحديث- إن صحّ- أنه يحدّث عن علم الله سبحانه وتعالى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان فى علم الله نبيا قبل أن يخلق آدم، ويتحقق له وجود على هذه الأرض.. وليس هذا شأن النبي وحده، بل هو شأن كل مخلوق، إذ كان فى علم الله على تلك الصفة التي جاء، أو يجىء عليها، قبل أن يخلق آدم، بل وقبل أن يخلق أي مخلوق فى السموات والأرض.. إذ قبل الخلق، كان العلم، وفى مستودعات هذا العلم كانت المخلوقات جميعها، قبل أن تخلق وتبرز من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وعلى هذا، فلك أن تقول كنت جالسا على هذا الكرسي الذي أجلس عليه، أو نائما فى هذا المكان الذي أنام فيه، أو آكلا من هذا الطعام الذي آكل منه. إلى غير ذلك مما أنت فيه من شئونك وأحوالك- لك أن تقول: «كنت على هذه الحال، أو على هذا الشأن، وآدم بين الماء والطين، وكنت على تلك الحال وهذه الشأن ولا آدم ولا الطين..» !!
وبعد، فإن الحقيقة المحمدية ليست هى تلك الصورة المشوهة المضطربة التي تتراقص فى عالم الخيالات والأوهام، والتي تسبح فى سموات من الدخان والضباب.. وإنما هى تلك الحقيقة التي عاشت فى هذه الدنيا، فكانت نورا هاديا، وسراجا منيرا، يجلّى غياهب الظلمات، ويكشف للناس الطريق إلى الله، وإلى الحق، والخير.. ذلك هو محمد رسول الله، كما ينبغى أن يراه المسلم، وذلك هو «محمد» رسول الله، كما وصفه ربه جلّ وعلا: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
(٤٥- ٤٦: الأحزاب).
ثم لينظر أولئك الذين يتحدثون عن «الحقيقة المحمدية» هذا الحديث الأسطورىّ.. فهل يجدون للنبىّ فى دخان هذا الحديث، وجودا؟ وهل يحققون له ذاتا؟
إنهم قد يقولون: إنا نراه بعيون غير عيونكم، وبقلوب غير قلوبكم، وبمشاعر وأحاسيس غير مشاعركم وأحاسيسكم!! ونقول لهم: إننا لسنا من عالم الملائكة، ولا من عالم الشياطين.. إننا بشر مثلكم نعيش على هذه الأرض.. ننظر بعيون بشرية، ونتعامل بقلوب إنسانية، ونعيش بمشاعر وأحاسيس آدمية! وبهذا الكيان البشرى نرى محمدا، ونتعامل معه، ونوليه قدره من الحب والاحترام والإجلال، ونتخذه إمامنا وقدوتنا، ونصلّى عليه، ونطلب له المزيد من الدرجات العلا عند ربه..!
«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (١١٠: الكهف) إننا لم نلتق بمحمد إلا على أنه إنسان، نعرفه، ونعرف أصوله وفروعه، وقد عاش بيننا أربعين سنة من عمره لم يكن فيه ولا له إلّا ما فى الناس، وإلا لما للناس، حتى إذا شرّفه الله سبحانه وتعالى بالرسالة، أصبح بهذا التشريف رسولا من رب العالمين، شأن رسل الله جميعا.. وهذه الرسالة لم تغير من بشريته شيئا، ولو كان شىء من ذلك لما أنكرت عليه قريش أن يكون بشرا ثم يكون رسولا.. وفى هذا يقول الله على لسانهم، هذا القول الذي ينكرون فيه على الرسول رسالته: «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟». (٩٤: الإسراء) فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، رسولا من أنفسنا، ورحمة وهدى للعالمين.
الذرية: أي النسل، الذي تناسل من نوح وأبنائه، وهى فعلية، من الذّرء، وهو الخلق.. وأصلها: ذرئية.
أي أن بنى إسرائيل هؤلاء، هم من أبناء وذرارى البقية الباقية من قوم نوح، الذين آمنوا معه، وحملوا فى السفينة، ونجوا من الغرق..
وفى وصف بنى إسرائيل بهذه الصفة إلفات لهم إلى أنهم من ذرية قوم مؤمنين، نجّاهم الله بإيمانهم من الغرق الذي حلّ بإخوانهم الكافرين..
وإذن، فخروج بنى إسرائيل من الإيمان الذي كان عليه آباؤهم الأولون، وعودتهم إلى الكفر الذي كان عليه إخوان آبائهم هؤلاء- هو تضييع لهذا الميراث الكريم الذي تركه لهم آباؤهم، ثم هو عدوان على الله، وتعرّض لنقمته، كما انتقم من عمومتهم، فأغرقهم واجتثّ أصولهم.
وقد نصب «ذرية» على الاختصاص، وقيل نصب بالنداء، أي يا ذرية من حمل الله سبحانه، مع نوح..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» تحريض لبنى إسرائيل على أن يلحقوا بنوح، ويتأسّوا به، ويشكروا الله أن بعث فيهم رسولا، وأنزل معه كتابا يهديهم ويبين لهم طريق الحق!
الآيات: (٤- ٧) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٧]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
قضينا: أي أوجبنا، وقدّرنا، وحكمنا..
فهذا هو ما حكم الله سبحانه به، على بنى إسرائيل، وقضاه عليهم..
[بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة]
فقد حكم الله سبحانه وتعالى عليهم: أن يفسدوا فى الأرض مرتين [وهو قضاء لا مردّ له] ولهذا جاء الفعل مؤكدا: «لتفسدنّ».. فكأنه أمر لهم بأن يفسدوا- وذلك لأنهم واقعون تحت هذا القضاء الذي لا يردّ، حتى لكأنهم مأمورون به! وهذا من ابتلاء الله لهم، وغضبه عليهم، لما سبق فى علمه- جل شأنه- من أنهم لن يستقيموا على هدى، ولن يسكنوا إلى عافية! والفساد الذي ينضح من كيان بنى إسرائيل، هو فساد يجىء عن بطر وكبر، وكفر بنعم الله التي يفيضها عليهم، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» معطوفا على هذا الفساد، مؤكدا لتأكيده، حيث أنه كائن منه، ومتولد من كيانه.. فهو علوّ فاسد، نتاج غرس فاسد. فهم إنما يفسدون حين يمكن الله لهم فى الأرض، ويفيض عليهم الكثير من نعمه، وعندئذ يستبدّ
كالأرض الملح، ينزل عليها الغيث، فتتحول إلى برك ومستنقعات، لا تفوح منها إلا الروائح العفنة، ولا يتحرك على صدرها إلا الهوامّ والحشرات! وفى قوله تعالى: «فى الكتاب» إشارة إلى أن ما قضى الله به فى بنى إسرائيل، وألزمهم إياه- هو مما فى كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ.. وفى هذا توكيد لهذا القضاء المبرم، المكتوب، وأنه لا مفرّ منه..
هذا، ويرى «الزمخشري» أن المراد بالكتاب هو «التوراة» متابعا فى هذا من سبقه من المفسرين، وقد تبعه على هذا الرأى من جاء بعده..! وقليل من المفسرين من قال بأن الكتاب هو «اللوح المحفوظ» باعتبار أن ذلك رأى مرجوح..
والذي نقول به، هو أن المراد بالكتاب، هو الكتاب المسطور، وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» وهذا هو الأنسب والأولى فى هذا المقام.. وذلك لأمرين:
أولهما: أن الله سبحانه وتعالى قد وصف الكتاب الذي جاء به موسى- وهو التوراة- بأنه هدى لبنى إسرائيل.. وليس يتفق مع هذا الوصف أن يحمل إليهم هذا الكتاب دعوة إلى الإفساد والتحبّر فى الأرض! أما ما فى كتاب الله المسطور، فهو قدر مقدور لهم، خفى عليهم أمره.. شأنهم فى هذا شأن ما قدّر على الناس من أقدار.. فهم- والحال كذلك- مدعوّون إلى الهدى، بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى، ثم هم- مع هذا- واقعون تحت هذا القضاء الذي حجبه الله عنهم!!
أما ما أنذر الله سبحانه وتعالى، به بنى إسرائيل من سوء، وما رماهم به من لعنة، وما أخذهم به من مسخ، فقد كان ذلك واقعا على جماعات منهم، بحيث يبقى بعد ذلك بقية منهم خارجة عن هذا الحكم.. وتلك البقية هى متعلق أنظار القوم جميعا، بحيث يرى كل واحد منهم أنه فى غير الملعونين، والممسوخين، وإن كان- فيما قدّر عليه- فى الصميم منهم! - وفى قوله تعالى: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ» خبر محقق بأن الإفساد الذي يقع من القوم سيكون «مرّتين» يقعان على امتداد حياة بنى إسرائيل فى هذه الأرض..
وقد اختلف فى الزّمن الذي يقع فيه هذا الفساد فى كلّ مرة من المرتين، وهل وقعت هاتان المرتان أو لم تقعا بعد؟ أم وقعت إحداهما ولم تقع الأخرى؟
وأما المرة الثانية، فكانت بعد أن قتلوا النبىّ «أرميا»، وقيل بعد أن قتلوا النبىّ «يحيا»..!
والذي ينظر فى قوله تعالى: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» يرى أن الإفساد الذي يقع من بنى إسرائيل مصاحب لصفة دالّة عليه، مرهصة به، وهى أن يكونوا فى حال، هم فيها أصحاب قوة متمكنة وسلطان ظاهر، وعلوّ فى الأرض.. وأن هذا السلطان الظاهر لهم، وهذه القوة العتيدة بين أيديهم، وهذا العلوّ البادي لهم، إنما هو نعم مستنبتة فى أرض فاسدة، وغيث هاطل على مستنقع عفن.. ومن هنا يكون البناء الذي أقاموا منه سلطانا، وحصلوا منه على قوة، وبلغوا به ما بلغوا من علو- هو بناء فاسد، يحمل فى كيانه معاول هدمه وتدميره..
فإذا نظرنا إلى بنى إسرائيل من خلال هذه الصفة التي يكونون عليها حين يأخذهم الله سبحانه وتعالى بما يأخذ به الظالمين، فيسلط عليهم من يرميهم بالنقم، ويأخذهم بالبأساء والضراء.. نجد أن تاريخ القوم يحدّث عن أنهم قد كانوا على تلك الصفة، بعد سليمان عليه السلام، الذي أقام لهم دولة، وأنشأ فيهم ملكا واسعا عريضا.. وأنهم بعد أن ورثوا هذا الملك العريض، وملكوا هذا السلطان العتيد- بغوا وطغوا، وأقلقوا من حولهم من أمم وشعوب..
فسلط الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض أولا، فانقسموا إلى مملكتين، مملكة «يهوذا» فى الجنوب، وتضم بيت المقدس، ومملكة إسرائيل فى الشمال، وتضم سامريّا..
ولما ورث البابليون دولة الأشوريين فى العراق، فعلوا فى مملكة «يهوذا» ما فعله الآشوريون فى مملكة «إسرائيل».
ففى سنة (٥٨٦ ق. م) غزا البابليون مملكة «يهوذا» بقيادة ملكهم بختنصر، واستولوا عليها، ودمّروا الهيكل، وقادوا القوم ورؤساءهم أسرى..
وهكذا أصبحت مملكة سليمان كلها تحت الحكم البابلي، أو الأسر البابلي.
وعلى هذا يمكن أن نقول إن هذا الأسر البابلي هو الذي يشير إليه قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا». فهذا الحدث هو أقرب وأبرز بلاء وقع على بنى إسرائيل، بعد أن أفسدوا فى الأرض وعلوا علوّا كبيرا..
وليس يعترض على هذا بأن «بختنصّر» لم يكن من المؤمنين بالله، وإذن فلا يصحّ أن ينسب إلى الله. فى قوله تعالى: «عِباداً لَنا» فإن بختنصر- إذا صحّ أنه لم يكن مؤمنا بالله- ليس إلا عبدا من عباد لله، فالناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم عبيد الله. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم).
ويقول سبحانه لإبليس- لعنه الله-: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» فقد أضاف الله سبحانه الناس جميعا إليه.. هكذا: «عبادى».. ومن عباده هؤلاء الغاوون.
والجواب: أن بنى إسرائيل، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد مكروا بآيات الله، وبغوا فى الأرض، وملأوا الدنيا من حولهم ظلما وبغيا.. فهم- وإن كانوا مؤمنين ظاهرا- لم يكونوا أحسن حالا من الوثنيين فى أفعالهم السيئة المنكرة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (١٢٩: الأنعام) وكذلك يبتلى الله الظالمين بالظالمين، أو بمن هم أشد ظلما منهم، فهى نقم تضرب فى وجه نقم، وظلم يسوء وجوه الظالمين! ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً».. وفى هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى بعد أن أخذهم بعقابه، وألقى بهم فى هذا الضّياع زمنا، كما فعل بهم حين ضرب عليهم التيه أربعين سنة- عاد الله سبحانه بفضله عليهم، وأخرجهم من هذا البلاء، بعد أن جعل من الآباء عبرة للأبناء..
ومعنى ردّ الكرة عليهم أنهم أخذوا مكان القوة، على حين نزل القوم الذين ابتلاهم الله بهم إلى حال أشبه بتلك الحال التي كان عليها اليهود من الذلة والهوان، وذلك حين أغار الفرس، على البابليين، واستولوا على أوطانهم، وجعلوهم غنيمة لهم، كما فعل البابليون ببني إسرائيل.. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» (١٤٠: آل عمران).
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» إشارة إلى القوة التي لبسوها
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» تحذيرا لبنى إسرائيل، أن يركبوا الطريق الذي ركبه آباؤهم من قبل، وأن يفسدوا فى الأرض كما أفسدوا، فيحلّ بهم ما عرفوه من بلاء حل بآبائهم.
ثم إذا أعدنا النظر إلى بنى إسرائيل بعد الأسر البابلي، لم نجد لهم دولة ظاهرة ولا ملكا قائما.. وإنما هم دويلات ممزقة، متقاتلة فيما بينها، تخرج من حكم البابليين لتقع تحت حكم الفرس فى سنة (٥١٨ ق. م).. ثم تحت حكم الرومان، إلى أن جاء الفتح الإسلامى.. الذي أدخل بيت المقدس فى دولته، فأصبح المسجد الأقصى من مساجد الإسلام.. ليس لبنى إسرائيل شأن به منذ ذلك الوقت إلى يوم الناس هذا..
وإذن، فهناك المرّة الثانية، وهى التي أشار إليها قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً»..
والسؤال هنا هو:
هل جاء وعد الآخرة.. أي المرة الثانية؟ وإذا لم يكن قد جاء فمتى يجىء؟
وما الإرهاصات الدالة عليه؟
والجواب على هذا:
أولا: أن هذا الوعد- وعد الآخرة- كان إلى نزول القرآن الكريم غير واقع، وأنه سيقع فى المستقبل، القريب، أو البعيد.. والدليل على هذا ما يحدّث به القرآن الكريم فى هذا المقام.
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا»..
وتحدث عن مجىء المرة الثانية هكذا:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً».
فالآيتان تحدثان عن المستقبل، الذي يدل عليه الشرط: «إذا».. وهذا يعنى أن المرتين على سواء، فى تعليقهما بالمستقبل، وقت نزول القرآن.. الأمر الذي يجعل القول بأن إحداهما قد وقعت، والأخرى لم تقع.. قولا لا حجة عليه، ولا مبرّر له..
ولكن الذي ينظر فى الآيتين، يجد:
- أن الشرط الذي يعلّق الفعلين بالمستقبل، هو منظور فيه إلى ما قضاه الله سبحانه وتعالى فى كتابه، وجعله قدرا مقدورا على بنى إسرائيل، فى وقوع هاتين المرتين من الإفساد.. وعلى هذا يكون وقوع الأحداث المسطورة فى كتاب الله كلها، لم تكن وقعت، حين قضى الله بها، وأودعها خزائن علمه..
- وعند النظر فى الآيتين الكريمتين، نجد أن النظم القرآنى قد خالف بينهما.. فجعل ما وقع منهما عند نزول القرآن معبّرا عنه بلفظ الماضي:
«بعثنا.. جاسوا».. على حين جعل المرّة التي لم تقع بلفظ المستقبل: «لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ.. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا».
- ولو تساوت المرتان، فى الوقوع، أو عدم الوقوع، عند نزول
فهل وقعت بعد هذا، أم أنها لا تزال معلقة بالمستقبل، لم تقع بعد؟
والقرآن الكريم هو دليلنا فى الإجابة على هذا السؤال..
ففى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» - فى هذه الآية نجد حديثا عن «المسجد».. والمسجد كما هو معروف معلم من معالم الإسلام، وسمة من سمات بيوت الله التي يتعبّد المسلمون فيها.. إذ كان السجود أبرز عمل من أعمال المسلمين فى الصلاة.. ولهذا فقد كان الاسم الذي يعرف به المسجد الأقصى هو: «بيت المقدس» حتى إذا أسرى الله سبحانه وتعالى بالنبي الكريم إليه، أسماء- سبحانه- المسجد الأقصى.. وجعله بهذا الاسم، القبلة الأولى للمسلمين، كما جعله بهذه التسمية، مسجدا لهم يعبدون الله فيه.. ثم كان الوصف الذي يعرف به المسلمون فى المجتمع الإنسانى هو سمة السجود الذي فى وجوههم. كما يقول تعالى: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» (٢٩: الفتح).
فذكر «بيت المقدس» باسم «المسجد» يشير إشارة واضحة إلى أن المرة الثانية، التي يقع فيها من بنى إسرائيل هذا الإفساد، إنما تكون فى العهد الإسلامى، وفى الوقت الذي يكون فيه بيت المقدس مسجدا للمسلمين، على خلاف ما كان عليه من قبل، حيث لم تشر الآية الأولى إلى المسجد، من بعيد أو قريب.. بل جاءت الآية هكذا «فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ» أي تنقلوا كما
ونسأل مرة أخرى:
هل وقعت المرة الثانية؟ وهل جاء وعد الآخرة قبل يومنا هذا؟
والجواب هنا نأخذه أيضا من القرآن الكريم، ثم من أحداث التاريخ..
وننظر مرة أخرى فى الآية: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً».
فهناك حقائق تقررها الآية الكريمة، وهى:
- أن الذين يتسلّطون على بنى إسرائيل فى هذه المرة، سيدخلون المسجد الأقصى.. «كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ».
وهذا يعنى أمورا:
- أن الذين يدخلون المسجد الأقصى هذه المرة، قد كان لهم دخول إليه من قبل، وأنهم إنما يفعلون فى هذه المرة، ما فعلوه فى المرة السابقة..
- ودخول المسلمين المسجد الأقصى أول مرة، كان فى خلافة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وقد ظل فى أيديهم إلى أن دخله بنو إسرائيل فى هذه الأيام، من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين للهجرة..
نعم.. خرج المسجد الأقصى من يد المسلمين إلى يد الصليبيين.. ثم أعيد إليهم مرة أخرى، على يد صلاح الدين.. ولم يكن لبنى إسرائيل حساب أو تقدير فى هذا الأمر..
- ودخول المسلمين إلى المسجد الأقصى وانتزاعه من يد الصليبيين، ليس له شأن بالدخول الذي سيدخله المسلمون، بعد أن ينتزعوا هذا المسجد من يد بنى إسرائيل، لأن بنى إسرائيل لم يدخلوا المسجد، ولم يستولوا عليه منذ الفتح الإسلامى، حتى وقع لأيديهم فى هذه الأيام.
- والإرهاصة الثانية، هى الحال التي عليها اليهود أنفسهم، وهى أن يكونوا على الصفة التي وصفهم الله بها، حين يفسدون فى الأرض، ويعلون علوّا كبيرا، وحين يدخل عليهم أصحاب المسجد كما دخلوه أول مرة، ليسوءوا وجوههم، أي يلبسوهم الخزي والسوء، وقد اختصّت الوجوه بهذا، لأنها الصفحة التي ترتسم عليها أحوال الإنسان كلها، وما يمسّه من خير أو شر، وما يلقاه من نعيم أو بؤس.
والذي ينظر فى واقع بنى إسرائيل اليوم يجد:
أولا: أنهم منذ عهد سليمان لم تقم لهم دولة، بعد الدولة التي خربها يختنصّر، حتى قامت لهم دولة فى هذه الأيام، هى المعروفة باسم «إسرائيل» والتي تدعمها وتسندها قوى كثيرة من قوى البغي والعدوان.. التي تكيد للإسلام وتتربّص به.
ثانيا: أن هذه الدولة التي أقامها بنو إسرائيل هذه الأيام دولة ولدت من أحشاء الظلام، تحمل معها كل ما عرفت الإنسانية من أدوات الشر، والبغي، والعدوان.. فقد ملكت بكيدها ومكرها، كثيرا من الوسائل الخبيثة، التي مكنتها من تلك القوة، وأقامت بها هذه الدولة..
فالمال الذي أقيمت به هذه الدولة، هو عصارة تلك الدماء التي امتصها
وثالثا: هذه الدولة، هى غاية ما يمكن أن يبلغه بنو إسرائيل من علوّ، وغاية ما يمكن أن تطوله أيديهم من إفساد فى الأرض..
فهم الآن يضعون أيديهم على فلسطين كلها، وعلى شبه جزيرة سينا من مصر، وعلى مرتفعات جولان من سوريا..
وكل ذلك قد وقع ليد إسرائيل فى لحظة خاطفة، من لحظات الزمن، لا تتجاوز ستة أيام، الأمر الذي جعل لبنى إسرائيل اسما ذائعا رهيبا فى العالم، جعلت تتغذى منه إسرائيل بمشاعر العظمة والزهو والغرور، حتى تورّمت، وأوشكت أن تنفجر، مما بها من كظة وامتلاء، من الزهو والخيلاء.. ومن هنا كان منهم ذلك البغي والعدوان، والإفساد فى الأرض.. بنسف الدور، وقتل الأطفال والنساء، بلا وازع من حياء أو ضمير، وبلا خوف من قوة رادعة فى الأرض، أو فى السماء! المرة الثانية إذن هى ما فيه إسرائيل الآن.. من فساد فى الأرض، وعلوّ واستكبار.. فساد إلى أبعد مداه، وعلوّ واستكبار إلى غاية حدودهما.
أما الذي ينتظر بنى إسرائيل بعد هذا، فهو ما يقع تأويلا لقوله تعالى:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً».
والذي سيتولّى هذا- بلا شك- هم المسلمون، أصحاب المسجد، الذين دخلوه أول مرة، أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والذين سيدخلونه اليوم- إذا شاء الله- كما دخلوه أول مرة.
وإذا هى أقرب ما تكون إلى عهد الفتح الأول..
وشواهد هذا البعث للأمة الإسلامية كثيرة.. فقد تحررت أوطان العالم الإسلامى جميعها من الاستعمار، وأخذت الحياة تدبّ فى أرضها الموات، بما يتدفق منها من ينابيع الذهب الأسود «البترول» الذي أمدها بأقوى قوة تقوم عليها الأمم فى العصر الحديث، وهى المال، الذي يمكّن لها من العلم، وما يقوم على العلم من أسباب المدنية والعمران..
- وفى قوله تعالى: «وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً»..
التبار، والتتبير: التدمير، والإهلاك..
وفى هذا إشارة إلى أن المسلمين سيجيئون بقوة قاهرة، ذات بأس متمكن غالب، يأتى على القوم، وعلى كل ما معهم من سلاح وعتاد..
فكلمة «ما» وهى اسم موصول لغير العقلاء، يراد به بنو إسرائيل، وما معهم من معدات الحرب، وأدوات القتال، التي جلبوها من كل مكان، ورصدوها للشر والعدوان..
إن بنى إسرائيل بغير معدات الحرب هذه، لا حساب لهم، ولا وزن.. ولهذا كان ميزان الأسلحة والمعدات أثقل من ميزانهم، ولهذا أيضا جاء التعبير يلفظ
إننا لنقطع عن يقين، أن بنى إسرائيل معنا اليوم، واقعون تحت قوله تعالى:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً»..
وإذن فالجولة التالية بيننا وبين بنى إسرائيل، هى لنا، وسندخل المسجد إن شاء الله كما دخلناه أول مرة، وسنخزى القوم ونعرّيهم من كل ما لبسوا من أثواب الزهو والغرور.. وسنقضى على هذه الدولة المولودة سفاحا.. فلن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة..
بقي هنا أمران، نود أن نشير إليهما فى إيجاز..
أما الأمر الأول: فهو أن هذه الدولة قامت تحت اسم «إسرائيل» ولم تقم تحت اسم «اليهود» أو دولة «يهوذا»..
وهذا ما يجعل لقوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ... » متوجها إلى تلك الدولة القائمة تحت اسم «إسرائيل» الأمر الذي يجعل من العسير أن تدخل تحت حكم هذه الآية، لو أنها اتخذت أي اسم آخر غير هذا الاسم.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن..
وأما الأمر الثاني: فهو ما جاء فى قوله تعالى فى آخر هذه السورة: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ
.. (١٠١- ١٠٤: الإسراء) ونقف من هذه الآيات عند قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً»..
ففى قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ» إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن سكنى بنى إسرائيل الأرض، لن تكون إلا سكنى ذليلة مهينة، لا يرتفعون فيها عن هذه الأرض، ولا يستعلون بآدميتهم عن الدوابّ التي تدبّ عليها.. فهم أبدا لا صقون بهذه الأرض، يغوصون فى طينها، ووحلها إلى أذقانهم، بحثا عما تعطى الأرض.. أما ما وراء هذا من مطالب الروح، فلا حظّ لهم فيه، ولا شغل لهم به..!
وثانيهما: أنهم سيشرّدون فى الأرض كلها.. فى طولها وعرضها.. إذ كان همّهم من سكنى الأرض، هو البحث عن كل مرعى فيها، فهم يتتبعون مواقع الرعي حيث كانت، وهذا ما تحدث عنه حياة اليهود، حيث هم فى كل صقع من أصقاع الأرض..
وفى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» - إشارة إلى ما جاء فى قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» فبنو إسرائيل الذي جاءوا لوعد الآخرة، واجتمعوا اليوم فى فلسطين، وأقاموا الدولة الواقعة تحت حكم الله الذي قضى به عليهم يوم يجىء وعد الآخرة- بنو إسرائيل هؤلاء، قد جاءوا من كل أفق من آفاق الأرض مسوقين إلى حتفهم، مدعوّين إلى قدرهم المقدور، فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً».. أي جمعناكم من كل جهة.. فاللفيف من الناس: الجماعة
الآيات: (٨- ١٤) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨ الى ١٤]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
التفسير:
قوله تعالى: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً»..
هو خطاب لبنى إسرائيل، وإلفات لهم إلى بأس الله الذي لا يردّ عن القوم الظالمين، وأنهم بعد أن ينفذ فيهم قضاء الله، ويقعوا تحت «وعد الآخرة» لن يرفع عنهم التكليف المفروض على كل إنسان.. فهم- شأنهم شأن الناس-
وقوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن بنى إسرائيل قد تنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الباطل والضلال، فضربهم الله سبحانه وتعالى هاتين الضربتين المدمرتين، وكانت إحدى هاتين الضربتين، على يد المسلمين، أصحاب المسجد، الذي استولى عليه بنو إسرائيل.. فكان قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» دعوة لبنى إسرائيل إن هم أرادوا أن يرفع عنهم بلاء الله، وتستقيم طريقهم فى الحياة أن يؤمنوا بهذا القرآن، الذي يهدى للطريق المستقيم وألا يبحثوا عن دواء غيره يطبّون به لدائهم، إن أرادوا أن يخرجوا من هذا البلاء الذي ضربه الله عليهم.
- وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم المرادون بهذا الخطاب، فهم لا يؤمنون بالآخرة، كما يؤمن بها المؤمنون، وإنما يرون أن الجزاء معجل فى هذه الدنيا، وأن الجنة والنار هما فى هذه الدنيا، حيث السعداء والأشقياء، وحيث الأغنياء والفقراء.. هذه هى عقيدة بنى إسرائيل فى الآخرة.. وقد أشار إليهم سبحانه
قوله تعالى: «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا».
تكشف هذه الآية عن حال من أحوال الإنسان، وهو أنه مولع بحبّ العاجل من المتاع، يطلبه، ويؤثره على الآجل، وإن كان فيه من الخير أضعاف العاجل الذي طلبه وآثره..!
ومن هنا، كان أكثر الناس يطلبون الدنيا، ويستوفون حظوظهم منها، دون أن يتركوا للآخرة شيئا.. وهذا ما يحملهم على أن يهتفوا بالشرّ، ويلحّوا فى طلبه، حتى كأنه خير محقق.
ووصف ما يستعجله الناس من متاع الحياة الدنيا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الحال التي يتلبّس بها طالبوه، حيث يصرفهم عن الآخرة، ويعمى أبصارهم عن النظر إليها.. فهذا المتاع ليس شرا فى ذاته، وإنما هو شرّ بالنسبة لمن شغلوا به عن الآخرة، وأذهبوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا، واستمتعوا بها.. وفى هذا أيضا نخسة لبنى إسرائيل، وأنهم طلّاب دنيا، لا ينظرون إلى ما وراءها..
قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. أنها تكشف عن وجهين من وجوه الحياة المتسلطة على الناس، وهما النور والظلام، وهما أشبه بالوجهين اللذين يعيش فيهما الناس، وهما وجها الخير والشرّ اللذان أشارت إليهما الآية السابقة..
فلولا الليل ما كان النهار، ولولا النّهار ما عرف الليل..
وكذلك الخير والشر.. آيتان من آيات الله فى الناس.. كلّ منهما مكمّل للآخر، ومعلن عنه، ومحقق لوجوده.. فلولا الخير ما كان الشر، ولولا الشرّ ما عرف الخير..
والدنيا والآخرة.. آيتان من آيات الله.. فى الناس.. فكل منهما مكملة للأخرى، موصولة بها.. فلولا الدنيا ما كانت الآخرة، ولولا الآخرة ما كانت الدنيا إلا لعبا ولهوا، وما غرس الغارسون ما غرسوا فيها من معالم الحق والخير.. وما أعدّوا فيها هذا الزاد الطيب الكريم، الذي ادخروه للآخرة.
- وفى قوله تعالى: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» إشارة إلى أن الليل موقف سلبىّ بالنسبة لحياة الإنسان.. يخلد فيه الإنسان إلى الراحة، ويسلم فيه نفسه للنوم، ليعبّىء ذاته بأسباب القوة، والنشاط، حتى يعمل فى وجوه الحياة حين يطلع النهار بآيته المبصرة! والليل هو الليل، وإن بدّد الناس ظلامه بتلك المصابيح التي تجعل منه نهارا أو ما يشبه النهار! فهو سكن الناس، وهو الظرف الذي يأخذون فيه حظهم من الراحة والنوم.. إنه أشبه بالدنيا، والنهار أشبه بالآخرة..!
أكثر الناس فى الدنيا، فى ليل لا يبصرون، وفى سبات لا يستيقظون..
فإذا كانت الآخرة، فهم فى نهار مبصر، وفى يقظة واعية مدركة.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (٢٢: ق).
وقد قرىء: «مبصرة» بفتح الميم وسكون الباء، وفتح الصاد.. اسم آلة.. أي جعلنا آية النهار آلة للإبصار..
- وقوله تعالى: «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.» أي أن الليل والنهار، إذ يقتسمان الزمن، ويتداولانه فيما بينهما، كان سببا فى معرفة الزمن، وفى رصد حركاته، وعدّ السنين وحسابها.. وأنّه لو كان الزمن ليلا سرمدا، أو كان نهارا دائما، لما عرف الناس للزمن حركة، ولما تولّد لهم من حركته الأيام، والسنون! قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً»..
ألزمناه: أي أوجبنا عليه، وأخذنا به..
وطائره: عمله، من خير أو شر.. وسمّى عمل الإنسان طائره، لأنه حصيلة سعيه فى هذه الدنيا، وقد كان العرب، يتخذون من الطير فألا يجرون عليه أعمالهم.. فإذا أطلقوا طائرا، فطار من الشمال إلى اليمين، تفاءلوا به وسمّوه «سانحا» وإذا طار من اليمين إلى الشمال، تشاءموا به وسموه «بارحا»..
فأعمالهم كلها- على هذا التقدير- من خير أو شر، هى مما جرى به الطير:
سانحا، أو بارحا..
وقد ورد فى القرآن الكريم، ما جرى على ألسنة الذين يتخذون من الطير
والمعنى: أن كل إنسان يأنى يوم القيامة، وقد حمل معه حصيلة أعماله كلها، التي عملها فى دنياه، من خير أو شر، وقد لزمته، ونيطت به، حتى لكأنها قلادة تمسك بعنقه..
فهذه هى الحلية التي يتحلّى بها الإنسان من دنياه.. هى طائر، قد علق بعنقه، لا يطير يمينا أو شمالا، ولا يتحرك سانحا أو بارحا.. حيث لا عمل بعد أن يترك الإنسان هذه الدنيا.. لقد انقطع عمله، وسكن طائره الذي كان يصحبه فى الشرّ والخير ونزل معه إلى قبره، متعلقا به، كما يتعلق الطفل بصدر أمه، ويشدّ يديه إلى عنقها..
وقوله تعالى: «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً».. أي أنه بعد أن يبعث الإنسان، يجد هذا الطائر قد أصبح كتابا منشورا.. «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها»..
قوله تعالى: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» هو أمر إلى كل ذى كتاب أن يقرأ كتابه، وأن يحاسب نفسه بما فى هذا الكتاب، فهو ناطق مبين.. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (٢٩: الجاثية)
الآيات: (١٥- ٢٢) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
قوله تعالى: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا».
فى هذه الآية أمور:
أولا: أنها تعقيب على الأحكام، والمقررات التي عرضتها الآيات السابقة، وعرضت فيها المؤمنين، والكافرين، وحصيلة كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا، وحسابه عليه فى الآخرة..
- «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فما يعمله الإنسان من خير فهو له، وما يعمله من شر فهو واقع عليه، لا يصيب أحدا غيره.. «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».
ثانيا: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.. فلا يلقى حمل أحد على أحد..
ومعنى: «تزر» تحمل، والوازرة الحاملة..
وقد أسند الفعل إلى «النفس» ولهذا أنّث.. والمعنى: ولا تحمل نفس حمل نفس أخرى.. كما يقول سبحانه وتعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (٣٨: المدثر).
ثالثا: أنه مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بالناس، أن يقيم حجته عليهم، قبل أن يحاسبهم، وذلك بدعوتهم إليه عن طريق رسل يختارهم من الناس، ليبلغوهم رسالة الله إليهم، ويكشفوا لهم الطريق إليه.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».. فإذا جاء الرسول إلى الناس لم يكن لهم على الله حجة فى أخذهم بالعذاب إن لم يستجيبوا لرسول الله، ولم يؤمنوا بالله! وإنه مما يسأله الكافرون، والضالون يوم القيامة، وهم يعرضون على الله سبحانه، هذا السؤال التقريرى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى! وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» (٧١: الزمر).
قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً».
قرىء فى هذه الآية «أمرنا» آمرنا، بمدّ الهمزة، وأمرنا بكسر الميم، وأمّرنا بتشديدها، وفسّرت كلها بمعنى كثّرنا.
هذه الآية الكريمة تشير إلى قضاء الله سبحانه، النافذ فى العباد، وسنّته الجارية عليهم، المطّردة فيهم..
وهو سبحانه مبدع، قادر، يقول للشىء كن فيكون.. وليست هذه الأسباب وتلك السنن حدودا تحدّ من سلطان القدرة، والإبداع.. وإنما هى فى ذاتها من عمل القدرة، ومن آيات الإبداع، إذ كانت الحكمة قائمة مع الإبداع والقدرة.. وإلا فلو كانت القدرة قدرة مطلقة لا تتلبس الحكمة بها لكانت قوة طاغية، ترمى بالفوضى، والاضطراب.. تعالت قدرة الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وصفات الله سبحانه وتعالى، فى كمالها وجلالها، ليست على هذا التصور الذي نتصوره، من أنها صفات متعددة.. وإنما هى فى ذاتها صفة واحدة لله..
فكما أنه سبحانه واحد فى ذاته، هو سبحانه واحد فى صفاته.. ولكن هذا التعدد فى الصفات، إنما هو من حيث نظرتنا نحن إلى تجلّيات الله سبحانه وتعالى، فحين ننظر إلى العلم مثلا، ننسب العلم الكامل الشامل لله سبحانه وتعالى..
ولكنه علم من؟ إنه علم الله المتصف بصفات الكمال كلها.. وهكذا الشأن فى كل صفة نصف الله جلّ وعزّ بها.. إنها صفة الله المتصف بكل كمال، المنزّه عن كل نقص..
والآية الكريمة تحدّث- كما قلنا- عن قضاء الله فى عباده، وسنّته فيهم، وأنه- سبحانه- إذا قضى بأن يهلك قرية لم يهلكها حتى يقيم الحجة عليها، بإرسال الرسل أولا، ثم بما يكون منها من عصيان الرسول، وكفر بالله، وبما يسوق إليه الكفر من ضلال وفساد.. ثانيا.
- وفى قوله تعالى: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها»
إشارة إلى قضاء الله النافذ فيهم، وأنهم- تحت حكم هذا القضاء، لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كلّ آية..
«إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ»..
وتسأل: ما الحكمة من إرسال الرسل إلى من حقّ عليهم القول؟
والجواب، ما علمت من قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وذلك لإقامة الحجة عليهم، ولإظهار مالديهم من إرادة تواجه إرادة الله..
وإن كانت إرادة الله هى الغالبة! وتسأل: ما بال هؤلاء الذين حقّ عليهم القول يعذّبون وهم مسوقون سوقا إلى قدرهم المقدور؟
ولا جواب، إلّا أنّ هذه هى مشيئة الله فى عباده.. «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»..
ولا يسأل الخالق عما يفعل فيما خلق: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (٢٣: الأنبياء).
وفى الإشارة إلى «المترفين» وهم أصحاب الثّراء، الذي يعيش له أهله فى فراغ وبطالة- يعنى أن هؤلاء المترفين لا يرجى منهم خير، ولا يطبّ لدائهم بدواء.. فهم كائنات فاسدة هازلة، لا تجدّ أبدا.. ثم هم مع هذا قدوة الناس، وقادتهم بما لهم من ثراء! - وقوله تعالى: «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ»
- هو إشارة إلى ما قضى الله به فى عباده، وما حكم به على هذه القرية، من الهلاك والتدمير.. فقول الله: هو قضاؤه وحكمته.. وإحقاق القول: هو وقوعه، ونفاذه..
وأخذ القرية كلها بفساد المفسدين من أهل الترف فيها، إنما لأن أحدا من أهل القرية لم يضرب على أيديهم، ولم ينكر عليهم هذا المنكر، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (٢٥: الأنفال).
أي من سنن الله فى عباده، هذا الموت الذي كتبه عليهم، وجعله حكما واقعا على كل حىّ.. وهذه القرون، التي خلت من بعد نوح إلى اليوم، قد هلك أهلها جميعا، وهم أعداد كثيرة، تضمّ أمما وشعوبا لا يعلمها إلا الله، وقد مضوا جميعا إلى ربّهم، ليس معهم شىء مما كان لهم فى دنياهم، إلا ما عملوا من خير أو شر..
- وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»..- إشارة إلى أن علم الله محيط بكل ما عمل الناس، لا يعزب عنه مثقال ذرة مما عملوا..
وخصّ الذنوب بالعلم، لأنها هى الخطر الذي يتهدد الناس، حتى يحذروه، فيكتب لهم الأمن والعافية.. فإنه إذا توقّى الإنسان الذنوب، استقام على طريق الحق والخير، لأنها هى الوارد الذي يرد عليه ويفسد فطرته..
قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً».
العاجلة، هى الدنيا، وما فيها من متاع..
فمن قصر نظره على الدنيا، وعمل لها، ولم يلتفت إلى الآخرة.. فذلك هو كل حظّه، وهو حظ قدّره الله تبارك وتعالى له، لا أنّه جاء عن تقديره وتدبيره، وإرادته.. فليس كل من أراد الدنيا بمستجيبة له، وإنما الذي يستجاب له منها، هو ما أراده الله له..
وفى هذا ما يشير إلى أن طالب الدنيا قد بخس نفسه حظّها من الآخرة، حيث لم يعمل لها، ولم يصرف من همّه شيئا إليها، على حين أن طلبه للدنيا وحصر همّه فيها لم يجىء إليه بشىء إلا ما أراده الله له.. وهذا ما يشير إليه قوله
- وفى قوله تعالى: «لِمَنْ نُرِيدُ» إشارة إلى أن طالبى الدنيا لم يطلبوها إلا لأن الله سبحانه وتعالى أرادهم لها، وجعلهم من أهلها..
- وقوله تعالى: «مَذْمُوماً مَدْحُوراً».
المذموم: المنحوس الحظ، والمدحور: المخذول..
قوله تعالى: «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً».
هو الوجه المقابل لطلاب العاجلة.. وفى هذا الوجه يظهر أولئك الذين يريدون الآخرة، ويعملون لها.. وعملهم هذا محمود طيب، يشكره الله سبحانه وتعالى لهم، ويجزيهم الجزاء الطيب عليه..
- وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» هو قيد وارد على العمل الذي يعمله العاملون للآخرة، حتى يكون عملا مبرورا مشكورا، وهذا القيد هو الإيمان.. فكل عمل- وإن كان فى أصله حسنا- لا يقبل عند الله، إلا إذا زكّاه الإيمان بالله، وبهذا يكون العمل مرادا به الله، ومبتغى به مرضاته.. فيتقبله الله، ويجزل الثواب عليه..
قوله تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً»..
هو تعقيب على ما كشفت عنه الآيات السابقة من العاملين للدنيا، والعاملين للآخرة.. فهؤلاء وهؤلاء جميعا، إنما يرزقون من فضل الله، وينالون من عطائه.. «وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» فهو عطاء يشمل الخلق جميعا..
قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» - هو إلفات إلى هذه الدرجات المتفاوتة بين الناس، فيما أمدهم به الله سبحانه وتعالى فى هذه الدنيا.. فهم ليسوا على حظ واحد فيما نالوا من حظوظ الدنيا.. إذ فيهم من وسّع الله له فى الرزق، فملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفيهم من لا يملك إلا ثوبا مرقعا وكسرات من الخبز.. وبين هؤلاء وأولئك درجات..
هذا كلّه فى الدنيا.. الناس على تفاوت كبير فى حظوظهم منها.. وهم فى الآخرة كذلك، درجات متفاوتة، وحظوظ متباينة.. فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. وأهل الجنة درجات، وأصحاب النار دركات.. وشتّان ما بين الدنيا والآخرة، وما بين النار والجنة.. «وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا».. إنها دار البقاء والخلود.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (١٨٥: آل عمران).
قوله تعالى: «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا»..
الخطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب عام يشمل الناس جميعا، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه- إمام الإنسانية، ورسولها، وفى توجيه هذا النّهى للنبىّ ما يشير إلى خطر الأمر المنهىّ عنه، وإلى أنّه إن وقع من إنسان- أي إنسان- حبط عمله، وساء مصيره..
وفى التعبير عن سوء المصير، بالقعود، ما يشير إلى فداحة الخطب، وأنه من الهول بحيث ينهار معه بناء الإنسان، وتنحلّ قواه، فلا يقدر على الحركة،
الآيات: (٢٣- ٣٠) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
التفسير:
قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً».
وفى هذه الآية جاءت دعوة الله الناس جميعا إلى الإيمان بالله. فهذا ما قضى الله سبحانه وتعالى به فى عباده، حين أخذ عليهم العهد، وهم فى ظهور آبائهم..
كما يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا» (١٧٢: الأعراف).. فالناس جميعا- بحكم هذا العهد- مؤمنون بالله، بفطرتهم، يولد المولود منهم، وهو على هذه الفطرة، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصّرانه، ويمجّسانه».
ومن هنا يبدو إيمان الناس بالله وكأنه قضاء قضى الله به عليهم، وألزمهم إياه.. فهم مؤمنون بالله، بحكم فطرتهم المودعة فيهم، ومطلوب منهم أن يستقيموا على هذه الفطرة، وألّا يخرجوا عنها.. فالإيمان بالله غريزة مركوزة فى كيان الإنسان، أشبه بتلك الغرائز التي تتحكم فى سلوك الحيوان.. ولكن الإنسان حين يعقل ويدرك، يصبح كائنا ذا إرادة.. وهو بهذه الإرادة قد يلتقى مع الفطرة، وقد يصطدم بها.. ومن هنا يكون الإيمان والكفر، والهدى والضلال..
- وقوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» معطوف على ما قبله، ويصحّ عطف النهى على الأمر، والأمر على النهى، لأنهما طلبيّان.. وفى النهى معنى الأمر..
فقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» يحمل معنى الأمر، وهو اعبدوا الله.. فحسن عطف الأمر عليه: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً»..
وقدّم معمول المصدر، على المصدر، للاهتمام به، لأنه مطلوب الإحسان
ونصب إحسانا بفعل محذوف، تقديره «أحسنوا»..
وفى عطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين، على النهى عن عبادة غير الله، مزيد اهتمام بالوالدين، واحتفاء بقدرهما، وتنويه بفضلهما.. وذلك لأنهما هما السبب المباشر فى إيجاد الإنسان، حيث ينظر الناظر إلى مواليد الحياة، فيجد أنها ترجع إلى الذكر والأنثى، أو الأب والأم، وإن كان الخلق كله لله سبحانه وتعالى..
ثم لا يقف أمر الوالدين عند حدّ ولادة المولود، بل إنهما يقومان على أمره، ويسهران على كفالته، وتنشئته، حتى يجاوز مرحلة الطفولة والصبا، وحتى فى مرحلة الشباب، لا تنقطع رعاية الأبوين، ولا عنايتهما بأولادهما..
ومن هنا كان للأبوين هذا الحق فى عنق الأبناء، وهو حق توجبه المروءة، ويقتضيه العدل، قبل أن يوجبه الدين، وتقتضيه الشريعة..
وقد دعت الشريعة إلى أداء هذا الحق، فى صورة عامة مجملة، وهو الإحسان إليهما، الإحسان المطلق، الذي يشمل كل خير، ويضمّ كل إحسان.. سواء بالقول، أم بالعمل.. فكل ما هو داخل فى باب الإحسان ينبغى على الأبناء أن يقدموه إلى آبائهم.. «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً».
- وفى قوله تعالى: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما».
إشارة إلى مقطع من مقاطع الحياة، ومرحلة من مراحلها، يبلغها الأبوان، فيكونان فيها فى حال من الضعف والوهن، وذلك حين يتقدم بهما العمر..
وهنا قد يجد بعض الأبناء أن الفرصة ممكنة لهم فى أن يتخفّفوا من حقوق الوالدين، أو أن يسيئوا الأدب معهما..
و «إمّا» أصلها «إن» الشرطية، «وما» الزائدة للتوكيد.
و «أفّ» صوت، يدل على الضجر، والضيق من قائله إلى المقول له..
ولا تنهرهما: النّهر: الزجر، والتعنيف فى الخطاب..
فالآية الكريمة، ترسم أدب الحديث مع الوالدين فى حال بلوغهما الكبر..
فالكلمة النابية تجرح مشاعرهما، وتكدر خاطرهما، والكلمة الطيبة تنعش روحيهما وتشرح صدريهما..
إن الأبوين فى حال الكبر لا يحتاجان إلى كثير من الطعام أو الكساء، أو غيرهما من متع الحياة، وإنما الذي يحتاجان إليه فى تلك الحال، هو الإحسان إليهما بالكلمة الطيبة، إذ كان أكثر ما يملكانه ويتعاملان به فى هذه الحال هو الكلام، أخذا، وعطاء..
قوله تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً»..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً»..
وخفض الجناح، كناية عن لين الجانب، ولطف المعاشرة، ورقّة الحديث.
والإنسان فيه جانبان من كل شىء.. جانب الخير، وجانب الشر.. جانب القوة، وجانب الضعف، جانب الشدة، وجانب اللين، وهكذا..
وبين جانبى الإنسان إرادة، هى التي تنزع به إلى أي الجانبين.. فهو فى
فكأنّ الإنسان حين دعى إلى أن يلين لأبويه، وأن يرّق لهما، قد مثّل بطائر أراد أن يأخذ هذا الجانب من جانبيه، وهو جانب الرحمة والعطف، فخفض جناحه ومال إليه..
قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً»..
هو تعقيب على ما تضمنته الآيات السابقة من النهى عن الشرك بالله، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.. وهذا التعقيب يقرر أنّ أساس الأعمال كلها، هى القلوب، وما تنطوى عليه، من صلاح.. فإذا كان قلب الإنسان سليما، ونيّته معقودة على الإيمان بالله، والإحسان إلى الوالدين، ثم كان منه زلة أو عثرة، فذلك مما لا يفسد على المؤمن إيمانه، ولا يضيّع على المحسن إحسانه، إذا هو رجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً»..
والأوابون: جمع أواب، وهو كثير الأوب، أي التوبة والرجوع إلى الله.. وهذا يعنى أن الإنسان فى معرض الخطأ والزلل.. وأن الذي يصلح من خطئه، ويصحح من عوجه، هو رجوعه إلى لله، وطلب الصفح والمغفرة منه.
قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً».
هو دعوة إلى الإحسان إلى جماعات لهم حقوق على الإنسان، بعد حقّ الوالدين، وهؤلاء هم:
والمساكين: وهم وإن لم يكونوا ذوى قرابة قريبة من الإنسان، فإنهم ذوو قرابة له فى الإنسانية، وهم بعض المجتمع الذي هو منه..
وأبناء السبيل: وهم الذين يقطعهم السفر عن أهلهم، ومالهم.. فهم فى عزلة ووحشة، وهم لذلك، فى حاجة إلى من يؤنسهم ويذهب بوحشتهم.
- وفى قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» إشارة إلى أن ما يبذله الإنسان لهؤلاء الجماعات هو حقّ لهم عنده! فإذا أداه لهم، فإنما يؤدى دينا عليه.. ثم هو مع أداء هذا الدين مثاب عند الله، يضاعف له الأجر، ويجزل له المثوبة..
وقد أطلق الحق، فلم يحدّد، ولم يبيّن، ليشمل كل ما هو مطلوب، حسب الحال الداعية له.
- وفى قوله تعالى: «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ما يشير إلى أمرين:
أولهما: الإغراء بالبذل والإنفاق.. وهذا على خلاف منطوق النظم «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً».. فإن النهى عن التبذير هنا، يشير إلى أن الدعوة إلى الإنفاق قد وجدت أو من شأنها أن تجد قلوبا رحيمة، وأيديا سخيّة، تنفق وتنفق، حتى تجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف، والتبذير.. فجاء قوله تعالى:
«وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ليمسك المسرفين فى البذل والعطاء على طريق الاعتدال.!
وهذا الإغراء إنما هو لما يغلب على النفوس من شحّ وبخل..
وثانيهما: النهى عن التبذير حقيقة.. وذلك أن بعضا من الناس، قد يشتد بهم الحرص على مرضاة الله، والمبالغة فى تنفيذ أمره، فيجاوزون حدّ
حتى يلتزموا الطريق الوسط، كما يقول سبحانه، فى مدح المنفقين: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (٦٧: الفرقان).
قوله تعالى: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً».. هو تنفير من التبذير، والإسراف.. فى أي وجه من الوجوه، حتى فى مجال الخير والإحسان.. وكفى بالتبذير نكرا أن يكون وجهه دائما مصروفا فى وجوه الشرّ، وقلّ أن يظهر له وجه فى باب الإحسان.. ومن هنا كان مكروها على أي حال، إذ كان الغالب عليه هذا المتّجه المنكر..
قوله تعالى: «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً».
الضمير فى «عنهم» يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ»..
والإعراض عنهم، هو الإمساك عن إعطاء الحق الذي هو لهم.
والرحمة المرجوّة من الله: هى الرزق المنتظر من فضله سبحانه وتعالى..
ومعنى الآية: إنك أيها الإنسان، إن أمسكت لضيق ذات يدك عن أن تؤدّى حق ذى القربى والمسكين وابن السبيل، منتظرا رزقا وسعة فى الرزق من الله.. فلا يمنعنّك هذا من أن تحسن إليهم بالكلمة الطيبة «فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً».. أي طيبا ليّنا، فيه مسرّة لهم، وجبر لخاطرهم، وتيسير لمعسورهم، وفى الحديث: «الكلمة الطيبة صدقة»..
قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً».
وكما أن الشحّ مذموم، فكذلك السّرف مذموم.. كلاهما خروج عن حدّ الاعتدال، الذي هو ميزان العدل، والحكمة! والبخيل والمبذر، كلاهما ينتهى أمره إلى الندم والحسرة.. البخيل إذ لم ينتفع بما بين يديه من نعم الله.. والمبذر، إذ ضيّع هذه النعم، ولم يبق على شىء منها..
قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»..
بسط الرزق: سعته وكثرته..
وقدر الرزق: قلّته بالنسبة للرزق الكثير المبسوط..
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يرزق الناس، وهو سبحانه الذي يبسط الرزق ويوسعه لبعضهم، على حين يعطى منه بقدر لآخرين.. وهذا وذاك إنما هو بحساب وتقدير، وعن علم وحكمة.. «إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»..
الآيات: (٣١- ٣٩) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣١ الى ٣٩]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
رسمت هذه الآيات منهجا متكاملا لبناء لإنسان على أسس سليمة، وقواعد ثابتة، من الحق، والخير، ولإحسان. ففى اجتناب منهيات هذه الآيات، وإتيان مأموراتها، ضمان لسلامة الإنسان، وسعادته فى الدنيا والآخرة، ولهذا جاء وصف هذا المنهج بأنه مما أوحى به الله سبحانه وتعالى إلى نبيه، من معالم الحكمة، كما يقول سبحانه: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ».
وقوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» - هو وصاة للآباء بما يجب عليهما نحو أولادهم، وذلك مقابل ما أوصى به سبحانه الأولاد، بما يجب عليهم نحو آبائهم..
والنهى عن قتل الأولاد، إنما هو لمحاربة آفة عارضة، أصابت بعض القبائل العربية فى الجاهلية، فدفعت بهم إلى قتل أبنائهم، ووأد بناتهم.!
والذي يتأمل فى هذه الظاهرة التي فشت فى بعض القبائل العربية، يجد أنها إنما قامت أصلا على غريزة حبّ الآباء للأبناء، وحرصهم على كفالتهم، وضمان أمنهم وسلامتهم.. وذلك أن ما كان يلقاه الأعرابى من فقر، وما يقاسيه من بلاء وضرّ فى سنى الجدب والمحن، هو شىء مفزع مخيف.. إذا نظر الأعرابى إليه وهو يتجه إلى بنيه، ويمدّ يده إليهم، ويبسط جناحه المشئوم عليهم، هاله ذلك وأفزعه، ورأى الموت لبنيه رحمة من هذا البلاء، وشفاء من هذا الداء.!
لهذا، كان التخلص من الأبناء، عند الولادة، هو المهرب الذي فرّ إليه بعض الأعراب بأبنائهم من وجه هذا المستقبل الكئيب الذي ينتزع أبناءهم من بين أيديهم- تحت وطأة الجوع، ويسلبهم الحياة نفسا نفسا، ويذيقهم الموت موتات، لا موتة واحدة! قد يكون هو الجهل، وسوء التدبير، وفساد العقيدة، ذلك الذي سوّل لبعض الأعراب أن يصنعوا بأبنائهم هذا الفعل الشنيع المنكر.. ولكن ليس هو جفاف العاطفة، ولا جفاء الطبع، ولا بلادة الحس، بل ربّما كان ذلك- كما قلنا- عن زيادة فى خصب العاطفة، ورقة الطبع، ورفاهة الحسّ، حيال
فعلى الذين يتخذون من هذا الفعل الذي كان يفعله بعض الأعراب بأبنائهم- شاهدا على وحشيّة العرب، وفساد طبيعتهم، وانتكاس البشرية فيهم- عليهم أن يصححوا نظرتهم إليهم، وأن يردّوا هذه الظاهرة إلى أصلها الذي جاءت منه، وسيرون من هذا، أن قتل بعض الأعراب لأبنائهم، كان- حسب تقديرهم- حماية لهم من الموت البطيء، وفرارا بهم من ملاقاة تلك الحياة القاسية المهلكة.. ولأمر ما تأكل بعض الحيوانات أبناءها..
كما تفعل القطط مثلا، حين ترى أولادها فى معرض الهلاك، من عدوّ يهجم عليها، وينتزعها منها.. إنها حينئذ لا تجد مكانا أمينا تغيبهن فيه عن عين عدوّها إلا بطنها الذي خرجن منه منذ قليل! أمّا وأد البنات، فهو فرع من هذا الأصل، وهو قتل الأبناء خشية الفقر.. وأنه إذا كان بعض الآباء يمسك البنين، ويئد البنات، فلأن البنات أقلّ احتمالا من الأبناء، ولأن فى تعرضهن لهذه الحياة القاسية ما قد يمسّ شرفهن. ويلحق العار بهن وبآبائهن! ولهذا كان وأد البنات فاشيا أكثر من قتل الأبناء!
لقد زاد الحياة إلىّ حبّا | بناتي إنهن من الضعاف |
أحاذر أن يرين الفقر بعدي | وأن يشربن رنفا «١» بعد صاف |
وأن يعرين إن كسى الجواري | فتنبو العين عن كوم عجاف «٢» |
ولولا ذاك قد سوّمت مهرى | وفى الرحمن للضعفاء كاف |
وفى الشعر العربىّ كثير من مثل هذه المواقف التي تكشف عن تلك العواطف الرقيقة التي كان يحملها العربىّ لبناته، صغيرات وكبيرات.
الفقر إذن، وما قد يقاسيه الأولاد من مسغبة قاتلة بيد الحرمان، هو الذي دفع ببعض العرب، إلى هذا الفعل المنكر، الذي كانوا يفعلونه، وأكبادهم تتمزق حسرة، وقلوبهم تتنزّى ألما، ولهذا جاء قوله تعالى: «خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» كاشفا عن العلّة التي من أجلها كان يقتل العربي ابنه، أو أبناءه، أو يئد بنته أو بناته.
وقد صحّح الله سبحانه وتعالى ما وقع فى تفكيرهم من خطأ، أدّى بهم إلى
(٢) الكوم: جمع كوماء، وهى الناقة الفتية، والعجاف: جمع عجفاء، وهى الهزيلة.
وفى تقديم رزق الأبناء على الآباء ما يشير إلى أنهم جميعا على سواء فى الرزق عند الله، لا يملك هؤلاء، ولا هؤلاء رزقا لأنفسهم، وإنما يرزقون جميعا من فضل الله..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» تأثيم لهذا الفعل، وتجريم له، وتشنيع عليه، وأنه خطأ ارتكبه الآباء عن نيّة حسنة، ولكنه يحمل قدرا كبيرا من الشناعة والمنكر، فهو خطأ وخطء معا.. والخطء، هو الذنب، والخطيئة.
قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا»..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تضمنت فيما تضمنت نسبة الأبناء إلى الآباء.. وهذه النسبة لا تعرف إلا إذا كانت علاقة الرجل بالمرأة قائمة على أساس سليم، فلا يتصل الرجل بغير امرأته، ولا تتصل المرأة بغير زوجها..!
فاتصال الرجل بغير امرأته، والمرأة بغير زوجها، فيه عدوان على هذه الحرمة التي يجب أن تقوم بين الزوجين.. ثم فيه من جهة أخرى، اختلاط للأنساب، وضياع للحقوق التي تقوم على هذه الأنساب، فلا تكون هناك صلة جامعة بين آباء وأبناء.
والفاحشة، والفحش: المنكر، السيّء، القبيح. والوصف الملازم للزنا
قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً»..
بعد أن نهت الآية السابقة عن قتل الأولاد بيد الآباء، صيانة للنفس من حيث هى نفس، ورعاية لهذه الصلة الوثيقة، وتلك الرابطة القوية التي تربط بين الآباء والأبناء- جاءت هذه الآية ناهية عن قتل النفس- أىّ نفس- لتلك الاعتبارات التي تمسك يد الآباء عن قتل أبنائهم.. فالناس جميعا أبناء نفس واحدة، وإن تفرقوا شعوبا وقبائل، واختلفوا ألسنة وألوانا.. فكما تقوم بين الآباء والأبناء صلة الدم التي تحجزهم- أو من شأنها أن تحجزهم- عن قتلهم، كذلك تقوم صلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من شأنها أن تكفّ يده عن قتله..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِالْحَقِّ» قيد وارد على النهى المطلق، وهو أنه وإن كان للنفس الإنسانية هذه الحرمة التي تعصمها من القتل، فإن هناك بعض النفوس ترفع عنها هذه العصمة فتستحق القتل، وذلك حين يستخفّ صاحبها بنفس غيره، ويستبيح دمه.. هنا يكون القصاص، ويكون قتل القاتل، حقّا مشروعا.. فذلك هو العدل الذي إن لم يستقم ميزانه بين الناس على هذا الوجه، اضطرب أمنهم، وشاع الفساد فيهم.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» وتقتل النفس كذلك، وقتلها حق، فى حال الكفر بعد الإيمان، والزنا مع الإحصان. فالكفر بعد الإيمان عدوان على الله، وإهدار لآدمية النفس التي لبست الإيمان، ثم خلعت هذا اللباس وارتدت الكفر.. إنها كانت حيّة بالإيمان، فأماتها صاحبها بالكفر، فكان
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً».
- الذي قتل مظلوما، هو الذي قتل عدوانا وبغيا من غير جريرة استحق عليها القتل، وهو أن يكون قاتلا لنفس بغير حق..
والولىّ، هو من يكون إليه أمر القصاص من القاتل، سواءا كان قريبا، أم سلطانا.. والسلطان، هو سلطان الحق، الذي فى يد ولىّ المقتول على القاتل..
فهو بهذا الحق يقتل القاتل..
وليس لولىّ المقتول، أن يجاوز الحق الذي له على القاتل، فيقتل غير القاتل، أو يقتل مع القاتل غيره، كابن أو أخ.. كما أنه ليس له أن يمثّل بالقاتل.. وإنما هى ضربة بضربة..!
فهذا هو الإمام علىّ- كرم الله وجهه- حين طعنه ابن ملجم- لعنه الله- هذه الطعنة الغادرة، استدعى أبناءه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- رضى الله عنهم- وأوصاهم فيما أوصاهم به، فقال: «إن عشت فأنا صاحب الحق، إن شئت أخذت بحقّى، وإن شئت عفوت، وإن متّ فضربة بضربة، ولا تمثّلوا».. فالتمثيل بالقاتل هو من الإسراف فى القتل الذي تضمنه النهى فى قوله تعالى. «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ»..
هذا، السلطان، الحاكم، هو ولىّ دم كل قتيل يقتل ممن هم تحت سلطانه.. وله أن يتولىّ قتل القاتل، أو أن يسلّمه إلى يد أولياء القتيل، ليقتلوه هم بأيديهم، شفاء لما فى أنفسهم من حزن على قتيلهم، ومن نقمة على قاتله.
تنهى هذه الآية عن حرمة من حرمات الله، وهى مال اليتيم، التي هى أشبه بحرمة النفس، التي حرّم الله قتلها، إلا بالحقّ.. فمال اليتيم، قد حرّم الله سبحانه وتعالى أن يقربه أحد إلا بالتي هى أحسن، أي بما فيه إحسان إلى اليتيم، وتنمية لماله، وتثمير له.. وبهذا يستحق القائم على هذا المال أن يأكل منه، فى مقابل الجهد الذي بذل فيه.. «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (٦: النساء).
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا» تنبيه إلى هذا الخطر، الذي يتهدّد من يقرب مال اليتيم، ويطوف بحماه، حيث نوازع النفس إليه، ودواعى الطمع فيه، إذ كان ولا قدرة لصاحبه على دفع يد من يريده بسوء..
- وفى قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» هو إلفات إلى الأوصياء على اليتامى، وأن أموالهم هى أمانة فى يد هؤلاء الأوصياء، فهذا عهد أخذه الله عليهم وألزمهم الوفاء به.. وإن العبث بهذا المال، أو التفريط فيه، أو العدوان عليه- هو نقض لهذا العهد، وخيانة لتلك الأمانة.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» تنويه بهذا العهد، وتشديد النكير على من يغدر به، إذ جاء النظم مصورا العهد، بتلك الصورة الحيّة العاقلة، التي ترى وتعقل ما كان من أصحابها من غدر أو وفاء.. فإن هى سئلت، أجابت، وكشفت عن حالها مع الغادرين أو الموفين! قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا».
القسطاس: الميزان، ويقول اللغويون والمفسرون، إن الكلمة فارسية معرّبة..
وقد تصرّف القرآن الكريم فى هذه الكلمة على جميع الوجوه، فجاء منها بالفعل.. فقال تعالى: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».. وبالمصدر فى قوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» وباسم الفاعل فى قوله سبحانه: «وَمِنَّا الْقاسِطُونَ».. وهكذا تصرّف القرآن بهذه الكلمة كما يتصرف فى كل كلمة عربية متمكنة فى عروبتها..
أما وزنها، فهو جار على وزن المصدر من الفعل الرباعي.. فقسطاس على وزن فعلال، من قسطس، مثل دحراج من دحرج، وزلزال من زلزل..
والتأويل: العاقبة، وهو ما يؤول إليه الأمر وما ينكشف مع الزمن منه..
والآية، تدعو إلى رعاية الحقوق، وقيامها على ميزان الحق والعدل، أخذا وعطاء..
والكيل والوزن، هما أكثر ما تقع الخيانة فيهما، ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الذين يعبثون بهما، ولا يرعون الأمانة فيهما، فقال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ».. بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد بعث الله نبيا كريما هو «شعيب» كانت رسالته قائمة على رعاية الكيل والميزان..
قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا»..
والسرّ فى هذا، هو أن المنهي عنه فى الآيات السابقة كان عن أمور لا تحقّق إلّا بأكثر من شخص، كقتل الأبناء، الذي هو فى أضيق صوره لا يتم إلا بين أب وابنه، وكقتل النفس، الذي لا يكون إلا بين قاتل ومقتول.. ومال اليتيم، الذي هو بين اليتيم والوصىّ عليه.. والزنا، الذي بين رجل وامرأة، وكذلك الكيل والميزان، ونحوهما.. إنها عمليات لا تتم إلا بين آخذ ومعط..
أما ما جاء فى قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».. فهو شأن من شئون الإنسان وحده، لا يكاد يطّلع عليه أحد سواه..
- ومعنى قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ» أي لا تتّبع.. وأصله من القفو والقفا، وهو أن يتبع الإنسان خطو غيره، ويسير وراءه، أي يجىء من قفاه.. ومنه القافية فى الشّعر، لأنّها آخر البيت..
وفى الآية الكريمة دعوة آمرة، إلى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتوجيه ملكاته إلى هذا الوجود، فلا يقول إلا عن علم، ولا ينطق إلا بما يمليه عليه عقله، ويوحى إليه به إدراكه..
فالآية الكريمة تنهى عن أن يكون الإنسان إمّعة، يتبع كل ناعق، ويجرى وراء كل داع، دون أن يكون له رأى فيما يعمل ويقول.. وهذا معناه تعطيل لمدركاته، وعدوان على إنسانيته بحرمانها من حقّها فى التزوّد بزاد العلم والمعرفة..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى ما للسمع، والبصر، والفؤاد من قوة قادرة على اصطياد
«أولئك».. والفؤاد: هو القلب، وما يتصل به من قوى الإدراك والشعور.
- وفى قوله تعالى: «كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن الإنسان سيسأل عن تلك الجوارح وهذه القوى التي أمدّه الله بها، ليتعرف بها إلى الحق والخير، فإن هو عطلها أو وجهها إلى وجوه الشر والفساد، كان مسئولا عنها، محاسبا على تفريطه أو إفراطه فيها..
قوله تعالى: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا»..
هو دعوة إلى الإنسان فى ذات نفسه إلى أن يعرف قدره، ولا يجاوز حدوده..
فإذا كان فى الناس من يزرى بقدر نفسه، فلا يرى لها حقّا فى أن تأخذ مكانها فى الحياة، وموقفها مع الناس، ويرضى لنفسه أن يقاد فينقاد، دون أن يفكر أو يقدر.. فإن فى الناس من يذهب به الغرور بنفسه إلى حدّ يجعله يقيم لنفسه مقاما من مدّعيات وأباطيل، يطاول به السماء، ويتعالى به على العالمين..
وكلا الرجلين مذموم، مجانب لطريق الحق والهدى.
والمحمود من الإنسان هو أن يأخذ طريقا وسطا.. فيستعمل قواه وملكاته بحكمة، واعتدال، ثم إذا بدا له أنه ممن آتاهم الله بصيرة نافذة، وعقلا راجحا،
لفظ الإشارة «ذلك» مشار به إلى كل ما تقدم من منهيّات وأوامر..
وأن هذا الذي وقع النهى عليه هو السيّء، المكروه عند الله، يجب اجتنابه وحراسة الإنسان نفسه من أن يلمّ به..
قوله تعالى: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً»..
الإشارة «ذلك» إلى ما تحدثت به الآيات السابقة من منهيات ومأمورات، وهى من الحكمة التي أوحى الله سبحانه وتعالى بها إلى النبىّ.. وفى الخروج عليها مهلكة وضياع.
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» إظهار مزيد من العناية بهذا الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى من الحكمة، وهو النهى عن الشرك بالله، إذ كان الشرك بالله- عصمنا الله منه- هو كبيرة الكبائر، لا يصلح لإنسان مع الشرك عمل أبدا.. وليس للمشرك مصير إلا النار.
ويتوقّى المواطن التي يجىء منها.
فإذا كان هذا شأن النبىّ، وهو المصطفى من بين عباد الله، والمحفوف بألطاف الله ورحمته.. فكيف شأن الناس، وهم فى مواجهة هذا الداء الخطير؟ إنّهم فى حاجة إلى مراقبة شديدة، وإلى حراسة دائمة، من أن يندسّ إليهم هذا الداء، فى سرّ أو علن.. فما أكثر المسارب الخفيّة التي ينفذ بها الشرك إلى الناس..
الآيات: (٤٠- ٤٤) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
التفسير:
قوله تعالى: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً»..
ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، الشرك، والخطر الذي يتهدّد الناس
وفى نسبة الإصفاء إلى الله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي يهب لكم ما يهب من بنين، إنه لا يستقيم مع منطق أن يخصهم الله تعالى بالبنين، ثم يجعل لنفسه البنات؟
قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً»..
التصريف: عرض الأمر على وجوه مختلفة، حتى يظهر ظهورا تاما، ويتضح وضوحا مبينا.. وفى القرآن الكريم معارض كثيرة للقضايا التي عرضها
- وفى قوله تعالى: «لِيَذَّكَّرُوا» إشارة إلى الحكمة من هذا التصريف الذي جاء فى القرآن لآيات الله.. وذلك ليكون للناس منه عبرة وذكرى، حيث تلقاهم العبر، ناطقة الدلائل والشواهد..
- وفى قوله تعالى: «وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» إشارة إلى ما فى الناس، وخاصة هؤلاء المشركين من قريش، من عناد، يعمى أبصارهم عن الحق، ويصمّ آذانهم عن الاستماع إلى آيات الله وكلماته.. فلا يبصرون شيئا، ولا يعقلون حديثا..
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا»..
فى هذه الآية ردّ على مفتريات المشركين، على الله، واتخاذهم آلهة يعبدونها من دونه، ويجعلونهم شركاء له، قائلين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى».
فالله سبحانه وتعالى- عند المشركين- هو إله مع آلهة، وربّ مع أرباب، وإن كان له المقام الأول فيهم.. وهذا ما لا يجعل لله السلطان المطلق فى هذا الوجود، بل يجعل لهذه الآلهة، وتلك الأرباب شأنا معه، كشأن الأمراء مع الملك مثلا..
الأمر الذي لا بد أن ينتهى يوما إلى منازعة وشقاق، بين هؤلاء الآلهة وبين الإله الأكبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» أي لو كان مع الله آلهة، لتطاولت أيديهم إلى صاحب العرش، ولنازعوه السلطان، فرادى أو مجتمعين.. وهل سلم صاحب سلطان من أن ينازعه فى سلطانه من هم دونه من أمراء، ووزراء؟ فكيف يكون مع الله سبحانه وتعالى
قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً»..
هو تنزيه لله، وتقديس لمقامه أن يقال فيه هذا القول المنكر، وهو ما يقوله المشركون، من أن لله أبناء، أو بنات، هن آلهات معه..
قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً».
إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من مخلوقات ناطقة أو صامتة، كبيرة أو صغيرة كلها، تسبّح بحمده، تسبيح ولاء وخضوع، كما يقول جلّ شأنه:
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم) وكما يقول سبحانه عن الملائكة: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (٢٦- ٢٧: الأنبياء).
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».. أي إن هذه العوالم المبثوثة فى السموات والأرض، تسبّح لله تسبيحا لا يفقهه إلا العالمون، الذين يرون فى تجاوب هذا الوجود، وفى خضوعه للسنن التي أجراه الله عليها، تسبيحا وولاء، وعبودية خالصة لله ربّ العالمين.. ففى التعبير بكلمة «تفقهون» إشارة إلى أن هذا التسبيح لا يراه ولا يدرك معناه إلا أهل الفقه، الذي اختصّ به الراسخون فى العلم.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» إشارة إلى تلك المقولات الضّالة التي يقولها المشركون فى الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخذهم بحلمه، فلم يعجّل لهم العقاب، بل أفسح لهم فى الأجل، ومدّ لهم فى العمر، حتى يتاح لهم إصلاح ما أفسدوا، ويرجعوا إلى الله، ويستقيموا على طريق
الآيات: (٤٥- ٤٧) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً»..
الواو هنا للاستئناف، والآية حديث مستأنف، يكشف عن حال المشركين، وهم فى حال يستمعون فيها إلى النبي، وهو يقرأ القرآن.. إن الله سبحانه وتعالى قد جعل بينهم وبين النبىّ حجابا مستورا، فلا يصل شىء مما يقرأ من القرآن إليهم، ولا ينفذ إلى قلوبهم..
- وفى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» إشارة كاشفة عن الداء الذي يسكن إلى كيان المشركين، ويفسد عليهم مدركاتهم وتصوراتهم وإيمانهم بالله. إنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله.. ومن هنا، كانت الصلة بينهم وبين الله قائمة على هذا الضلال والفساد..
قوله تعالى: «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً»..
هو بيان لهذا الحجاب المستور، الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين المشركين وبين النبىّ، وهو يقرأ القرآن، ويرفع منه للناس معالم الهدى.. فهؤلاء المشركون قد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي أغطية كثيفة، أشبه بالجحر الذي يستكنّ فيه الحيوان، ويعتزل فيه العالم الخارجي، فلا يرى أحدا، ولا يراه أحد..
كذلك جعل على آذانهم «وقرا» أي ثقلا فى السّمع، فلا تسمع شيئا.. فقد يحتجب الحيوان داخل كنّه عن العالم الخارجي، ولكن يظل مع ذلك متصلا به عن طريق السّمع.. أما هؤلاء المشركون، فقد أخذ الله سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم.. فهم أموات غير أحياء، وإن خيل إليهم أو للناس أنهم أحياء.. يسمعون، ويبصرون، ويعقلون! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» - إشارة إلى ما ركب المشركين من ضلال، فى تصورهم لمقام الألوهية..
فهم يقبلون الاستماع إلى أي حديث يذكر فيه الله مع الآلهة التي يعبدونها..
أما إذا ذكر الله وحده فى قرآن أو غيره، فذلك حديث بغيض إليهم، يلقونه منكرين، بل مذعورين، إذا وقع على آذانهم: «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» أي صدموا به، فارتدوا على أدبارهم كما ترتدّ الكرة، اصطدمت بحائط! قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً»..
- وفى قوله تعالى: «بِهِ» إشارة إلى تلك الأجهزة الفاسدة التي صحبوها معهم، ليستمعوا بها إلى القرآن.. فهذا الذي يستمعون به من أجهزة، إن هو إلا قلوب مريضة، وطوايا خبيثة، مبيّتة للشر، راصدة للعدوان! - وفى قوله تعالى: «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» فصح لهؤلاء المشركين، وهم يستمعون إلى القرآن.. إنهم يستمعون إليه متلصصين، بعيدا عن أن يراهم أحد.. حيث تقع لآذانهم كلمات الله، فيتناجون فيما بينهم بها، ويبحثون عما يقولونه من زور وبهتان فيها.. ثم تنتهى بهم تلك المناجاة إلى هذا الحكم الفاسد، الذي يصدرونه على القرآن، وعلى النبىّ لذى يتلو هذا القرآن فيقولون: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي إن اتبعنا هذا الرجل فلن نتبع «إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» قد مسّه طائف من الجنّ، فاضطرب عقله، واحتلّ تفكيره، وأصبح يهذى بهذا القول الذي يردّده، ولا يملّ ترديده.. «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» (٢٥: المؤمنون).
الآيات: (٤٨- ٥٢) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا»..
الأمر هنا «انظر» هو إلفات للنبىّ، ولكلّ مؤمن، أن ينظر فى تلك المقولات التي يقولها المشركون، وإلى تلك الأمثال التي يضربونها، ويتحدون منها حجة على إنكار البعث.. وقد كانت تلك الأمثلة التي ضربوها مما أملته عليهم أهواؤهم الفاسدة، وعقولهم المريضة- كانت سببا فى أن ضلّوا هذا الضلال، الذي ألقى بهم فى متاهات لا يستطيعون الخروج منها، ولا يجدون فيها من يدلّهم على طريق يسيرون فيه، حتى فى وسط هذا الضلال.. إنهم فى حيرة مطبقة، يدورون فيها حول أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» حيث نفى الاستطاعة المطلقة عنهم، إلى التعرّف على أي طريق.. ولو كان من طرق الضلال..
وقدّم الأمر بالنظر إلى تلك الأمثال التي ضربوها، على هذه الأمثال، حتى يتهيأ الناظر إليها، ويخلى نفسه من كل نظر إلى غيرها.. وذلك لما فيها من فتنة وضلال.. الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر فيها، حتى يتوقى الناظر إليها ما فيها من شرّ مستطير، وخطر داهم..
قوله تعالى: «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» هذا هو المثل الذي ضربوه.. وهو مثل واحد، وقد سمّى «أمثالا» لأنه
والرّفات: العظام المتحلّلة، التي ضاعت معالمها، وصارت ترابا فى التراب..
قوله تعالى: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً»..
ينغضون إليك رءوسهم: أي يحركونها فى إنكار، وإباء، وتكرّه..
شأن من يأخذ دواء مرا، فيأتى بهذه الحركة الجنونيّة برأسه، من غير وعى! والآية تردّ على المشركين هذا الضلال، الذي ضربوا له مثلهم هذا.. إنهم يستنكرون أن يبعثهم الله بعد أن تبلى عظامهم، وتتحلل أجسامهم.. فدفع الله سبحانه مثلهم هذا بمثل هو أشدّ إنكارا عندهم للبعث، فقال تعالى: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ».. أي كونوا على أية صفة هى أبعد وأغرب من صفتكم التي تكونون عليها بعد الموت.. كونوا حجارة جامدة، لا صلة بين الحياة وبينها، أو حديدا، أصلب من الحجارة، وأبعد منها نسبا إلى الحياة.. أو كونوا أي خلق آخر يكبر فى صدوركم، ويكون أبعد من الحجارة والحديد استحالة فى بعث الحياة فيه.. كونوا عدما مطلقا.. فإن قدرة الله سبحانه وتعالى لا يعجزها شىء.. وإنكم إذا أنكرتم هذا، وقلتم: من يبعثنا إذا صرنا على هذه الحال أو تلك، فهذا هو الجواب: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إنه سبحانه، قد خلقكم من تراب وفطركم منه، أي أنبتكم كما ينبت
قوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا»..
هو بيان لميقات هذا البعث الذي سأل المشركون عنه هذا السؤال الإنكارى، بقولهم: «متى هو؟»..
إنه اليوم الذي ينتظر أمر الله، ودعوته الموتى من قبورهم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» (٢٥: الروم) - وفى قوله تعالى: «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» - ما يسأل عنه، وهو: كيف يستجيبون لدعوة الله لهم من قبورهم، بالحمد، وقد جاء فى قوله تعالى فى سورة يس «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» فهم ينادون هنا بالويل، فكيف يستجيبون هناك بالحمد. والموقف هو هو؟
والجواب على هذا- والله أعلم-: أن هذا وذاك وإن كان منهم فى يوم البعث، إلا أن كلّا منهما فى موقف غير الموقف الآخر.. فهم حين يبعثون من قبورهم، يحمدون لله، على أن أحياهم بعد موتهم، فالحياة نعمة تستوجب الحمد والشكر لله ربّ العالمين.. ولكنهم حين يشهدون أهوال هذا اليوم، ينادون بالويل، إذ يرون بأعينهم المصير الذي هم صائرون إليه، كما يقول سبحانه:
ويصحّ أن يكون هذا الحمد على سبيل القهر، إذ لا يملكون من أنفسهم شيئا، فهم والحال كذلك- مسلمون، مستسلمون، يحمدون الله على السّرّاء والضرّاء..
- وفى قوله تعالى: «وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» - إشارة إلى هذه الدنيا، ومتاعها القليل الزائل.. فإنه مهما عاش الإنسان فيها، ثم طويت صفحته منها، وجد أن ما عاشه فى هذه الدنيا لم يكن إلا ساعة من نهار، كما يقول سبحانه وتعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (٤٦: النازعات) وكما يقول جل شأنه: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (٣٥: الأحقاف).
الآيات: (٥٣- ٥٧) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً».
الواو، فى قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبادِي» للاستئناف، وما بعدها كلام مستأنف، موجّه إلى «عباد الله»..
وعباد الله، هم الذين أضافوا أنفسهم إلى الله، فقبل الله سبحانه وتعالى ضيافتهم، وأضافهم إليه، إضافة تكريم هكذا: «عبادى».. حتى لكأن غيرهم من المشركين والضالين، ليسوا عباده، الذين يستحقون إضافتهم إليه سبحانه، وإن كانوا عبيدا له: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم).
- وقوله تعالى: «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي القولة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، وهى الإيمان بالله واليوم الآخر، على حين قال المشركون والكافرون القولة السيئة، قولة الكفر بالله وباليوم الآخر.. فهذه القولة من عباد الله، هى اعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وذلك هو الذي يؤهّلهم لهذا المقام الكريم، فيضيفهم المولى جل وعلا إليه: «عبادى» وقوله تعالى: «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ» أي يفسد بينهم، ويعمل على إضلالهم، وعباد الله هم الذين يحرسون أنفسهم منه، ويردّون كيده إلى نحره، كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» (٤٢: الحجر).
قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا».
هذه الآية ردّ على اعتراض، قد يدور فى بعض الرءوس، فيقول قائل:
وقد جاء الجواب: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» إنّه كما خلقكم بيده، أقامكم بعدله وحكمته.. كلّ فى مكانه الذي أراده له.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٤: الملك).
إنه ليس لمخلوق شىء مع الخالق.. «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» أيها المخلوقون، فيجعلكم من عباده، وأهل طاعته «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» فيضلكم، ويختم على قلوبكم.. وليس للمرحومين من الناس، ولا للمعذبين منهم مذهب إلى غير هذا المقام الذي أقامهم الله فيه، وأرادهم له: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (٢٣: الأنبياء).
- وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» إشارة إلى أنه ليس إلى النبىّ أن يغيّر من قدر الله فى الناس شيئا.. فمن قدّر عليه الشقاء فهو من أهل الشقاء، لا يتحول عنه أبدا، ومن كتبت له السعادة فهو من السعداء لن يدفعها عنه أحد.. وليس الرسول وكيلا على الناس، يدبّر أمرهم، ويتسلط على مصيرهم، وإنما هو بشير ونذير، يؤذّن فى الناس بكلمات الله وآياته.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» (٧: الرعد).
قوله تعالى: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً».
فى الآية الكريمة ردّ على شبهة قد تقع لبعض الناس من قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ».. إذ قد يسأل بعض الناس: لماذا كان هذا الحكم واقعا فى أبناء آدم، حيث يرحم بعضهم ويعذّب بعضهم؟
فكان الجواب: إن ذلك هو حكم لله فى المخلوقات جميعا، فى السموات وفى
ثم بيّنت الآية بعد هذا صورة من صور التباين والاختلاف بين جماعات، هم من صفوة خلق الله، وهم الأنبياء.. فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم فى هذا المقام الكريم، وفى تلك المنزلة العالية- ليسوا على درجة واحدة، وفى مقام واحد.. وإنما هم درجات عند الله.. وإن كانوا جميعا فى مقام القرب، وفى منازل الرضوان..
وهنا سؤال، وهو: لماذا اختصّ داود عليه السّلام بالذّكر، هو والزبور الذي آتاه الله إياه؟ وداود- عليه السلام- لم يكن فى منزلة إبراهيم، خليل الله، ولا موسى كليم الله، ولا عيسى كلمة الله، ولا محمد خاتم رسل الله. ولم يكن الزّبور فى منزلة التوراة أو الإنجيل أو القرآن.. فما تأويل هذا؟
الجواب على هذا- والله أعلم- أن داود عليه السلام، هو النبىّ الذي جمع الله سبحانه وتعالى له الملك والنبوة معا، كما جمعهما لابنه سليمان من بعده.. أي أن الله قد جمع له الدنيا والآخرة جميعا، فآتاه للدنيا خير ما فيها، وهو الملك، وآتاه للآخرة خير مالها، وهو النبوّة.. ولهذا يقول تبارك وتعالى مخاطبا إياه:
«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».. ولهذا أيضا لم يكن داود عليه السلام صاحب كتاب يحمل شريعة، وإنما كان الزّبور الذي آتاه الله إياه، صلوات وتسابيح، يمجّد
وعلى هذا، فاختصاص «داود» بالذكر هنا، إنما هو لبيان أن التفاضل الذي يقوم بين الموجودات كلها، هو قائم بين الأنبياء والرسل.. فمنهم من جعله الله سبحانه نبيا ورسولا، ومنهم من جعله نبيا ولا رسالة له، إلا فى خاصة نفسه وأهله، ومنهم من جعله رسولا إلى قرية، أو أمة، ومنهم من جعله رسولا إلى الناس كافة، وذلك هو مما اختص به «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- من بين رسل الله جميعا.. وفى ذلك يقول الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (٢٥٣: البقرة) وداود- عليه السلام- قد جمع له حظ الدنيا والآخرة جميعا.. فهو ملك ليس خالص الملك، إذ يقوم على ملكه سلطان النبوة، وهو نبىّ غير خالص النبوّة، إذ يقوم على سلطان نبوته سلطان ملكه.. فهو نمط وحده بين أنبياء الله، وفى ملوك الأرض.
قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا»..
هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم، وتسفيه لعقولهم، إذ يعبدون من دون الله مالا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. فهاهم أولاء وتلك هى معبوداتهم التي يعبدونها، فليدعوها لضرّ مسّهم، أو لبلاء وقع بهم، فهل تستجيب لهم آلهتهم تلك؟ وهل يسمعون أو يعقلون؟ فكيف إذن يتعاملون مع من لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا؟ ولكنه السّفه والضلال.
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
..
المشار إليه هنا باسم الإشارة «أولئك» - هم المؤمنون الذين يعبدون الله، إلها سميعا بصيرا مجيبا.. وهؤلاء المؤمنون، هم فى مقابل أولئك المشركين الذين يدعون خشبا مسنّدة، أو أحجارا منحوتة.. لا تسمع ولا تبصر.. وشتان بين دعاء ودعاء! وفى الإشارة إلى المؤمنين من غير ذكرهم، تنويه بهم، ورفع لمنزلتهم، وأنهم أعرف من أن يعرّفوا..
- وفى قوله تعالى: «يَدْعُونَ» وفى حذف المفعول به، إشارة إلى أنهم يدعون من ينبغى أن يدعى، إذ لا مدعوّ- على الحقيقة- غيره، وهو الله سبحانه وتعالى..
- وفى قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» بيان لما يدعو به المؤمنون ربّهم، وهو أنهم يدعونه مسبّحين بحمده، شاكرين لفضله.. فهذا هو دعاء المؤمنين: عبادة، وصلاة، وتسبيح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» (٢٨:
الكهف)..
وابتغاء الوسيلة، طلبها، وإدراكها.. والوسيلة ما يتوسّل به، ويتقرب به إلى الله، من عبادات وقربات.
- وفى قوله تعالى: «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» إشارة إلى محذوف، تقديره: أيهم أقرب إلى ربّه أكثر توسلا إليه بالطاعات والعبادات.. إذ أنه كلما قرب العبد من ربّه، اشتدت خشيته له، لازدياد معرفته بجلاله، وعظمته، فيشتدّ حرصه على مرضاته، والتفانى فى العبودية والعبادة، ليزداد من الله قربا، كلما ازداد طاعة وخشوعا وعبودية.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» تعقيب على قوله سبحانه:
«وَيَخافُونَ عَذابَهُ».. وهو أن هذا العذاب شديد، حيث يقع بأهله، لا يدفعه عنهم من الله دافع، وهو لهوله وشدته، يحذره ويتوقى الدنوّ منه، كلّ من يطلب الأمن والعافية لنفسه.
ولم يأت فى النظم القرآنى تعقيب على قوله تعالى: «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» كما جاء التعقيب على قوله سبحانه: «وَيَخافُونَ عَذابَهُ».. لأن أكثر ما يؤتى النّاس من استخفافهم بعذاب الله، أو غفلتهم عنه.. أمّا الرجاء فى مغفرته ورحمته.. فالناس جميعا واقفون على باب الرجاء، حتى أن أكثرهم عصيانا لله، ومحدّة له يتخذون من الطمع فى رحمة الله، مدخلا يدخلون به على المعاصي فى جرأة فاجرة، حتى ليقول صاحب الجنتين الذي كفر بربّه: «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (٣٦: الكهف).. وهذا مكر مع الله، وتغرير بالنفس.. إن من يرجو ويطمع فى رحمته، يجب أن يكون ممن يخشاه، ويتوقّى محارمه.. فإذا زلّ، كان طمعه فى الله قائما على منطق.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».. (٥٦: الأعراف) هذا، وفى الآية الكريمة وجه آخر..
وهو أن المشار إليه فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ» هم المعبودون
ويكون قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» هو خبر لقوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ».. أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، هم عباد من عباد الله المؤمنين به، يبتغون رحمته ويتخذون الوسائل إلى مرضاته بالطاعات والعبادات، وهم أبدا على رجاء فى رحمته، وخشية من عذابه.. كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (٥٠: النحل) وكما يقول جلّ شأنه: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (١٩- ٢٠: الأنبياء).
الآيات: (٥٨- ٦٠) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً».
«إن» حرف يفيد النفي.. بمعنى «ما» أي: ما من قرية إلا نحن
وإهلاك ما يهلك الله من القرى، هو تركها للزّمن، يفعل فيها ما يفعل فى الأحياء، فإذا عمارها خراب، وإذا أهلها تراب فى التراب.. كما يقول سبحانه:
«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (٨٨: القصص).
أما عذاب ما يعذّب من القرى، فهو ما يحلّ بتلك القرى من نقم الله، فيأخذها بما أخذ به القرى الظالمة، كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، حيث أهلكها الله سبحانه مرة واحدة، بما سلط عليها من عذاب- وقوله تعالى: «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» تقرير لحكم الله فى خلقه.. وهو أن ذلك مما قضى الله به فى أم الكتاب، وجرى به القلم وسطّره فى اللوح المحفوظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (٢٢: الحديد).
وفى هذا، إنذار لمشركى قريش، ولقريتهم التي تقف من النبىّ هذا الموقف العدائى، الظالم.. فتؤذى رسول الله، وتصدّ الناس عن سبيل الله..
إن هذه القرية لن تفلت من هذا المصير الذي تصير إليه القرى جميعا..
فإذا لم يأخذها الله سبحانه وتعالى ببأسه، ويعجّل لها العذاب، أخذها بسنته فى خلقه، فابتلعها باطن الأرض فيما ابتلع قبلها من قرى وأمم! قوله تعالى: «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً»..
فكان أن أخذهم الله ببأسه، وعجّل لهم العذاب.
وهذا هو السبب الذي من أجله، لم يجىء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قومه بآية كتلك الآيات.. لأنها كانت بلاء على من جاءت إليهم ولم يؤمنوا بها، ولن يكون حال هؤلاء المشركين مع أيّة آية يأتيهم بها النبي، بأحسن من حال الذين سبقوهم.. والله سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء المشركين:
«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (١٤- ١٥: الحجر).
- وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» وفى وصفها بأنها مبصرة إشارة إلى أنها كانت آية واضحة، تعيش فى النّاس، وتتمشّى بينهم، يمرّون بها مصبحين وممسين.. وليست كعصا موسى، ولا يد عيسى، فكلتاهما تظهر المعجزة فيها بإذن من صاحبها، ثم تختفى، دون أن يتاح للناس تقليبها، وترديد النظر فيها.. وهذا هو بعض السرّ فى اختصاص ناقة صالح بالذكر هنا، إنها كانت تعيش مع الناس، بين سمعهم وبصرهم..
- وقوله تعالى: «فَظَلَمُوا بِها» إشارة أنها كانت سببا فى أن اعتدوا عليها، فأصبحوا آثمين، ظالمين.. فحقّ عليهم العذاب.
- وقوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» أي ما نبعث بهذه الآيات
فمن رحمة الله بهذه الأمة، أن لم تأتها الدعوة إلى الله بين يدى آية مادية..
فإنه لو حدث هذا، لكان فيه القضاء على أهل مكة التي طلعت منها شمس الدعوة الإسلامية، ثم لا نقطع ما بين النبىّ وقومه الذين يدعوهم إلى الله، إذ لم يكن له- والأمر كذلك- قوم.. وبهذا تطوى الدعوة كتابها، وينسحب الرسول من الميدان..!
ولكن الله بالغ أمره.. فجاءت الدعوة الإسلامية على هذا الأسلوب، لتعيش فى الناس، ما دام للناس حياة فى هذه الحياة! قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً».
فى هذه الآية أمور:
- أولها: قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» «إذ» هنا ظرفية، تشير إلى وقت قيل فيه هذا القول للنبىّ.
فمتى كان ذلك؟ وما هو القول الذي قاله سبحانه وتعالى للنبىّ؟ وقيل هذا وذاك.. ما معنى الإحاطة بالناس؟ وما المراد منها؟
إحاطة الله بالناس، علمه بهم، علما محيطا، كاشفا لكل شىء منهم..
وإذن فكل آية فى القرآن جاءت تحدّث عن علم الله، صالحة لأن تكون هى هذا القول الذي قيل للنبىّ، والذي دعى هنا إلى تذكّره..
- ثانيهما: قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ما هى الرؤيا؟ وما الفتنة التي فتن بها الناس منها؟
اختلف فى الرؤيا التي أريها النبىّ هنا.. وهل هى «الإسراء» ؟ أم أنها الرؤيا التي رآها وهو فى مكة من أنه سيدخل المسجد الحرام؟ أم أنها الرؤيا التي أريها فى مكة أيضا من أنه سيكون بينه وبين قريش حرب، وأن القوم سيهزمون؟. وكان فيما نزل من القرآن المكي قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» حتى ليروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقول:
«كنت لا أدرى أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».. أي أنه عرف أن هذه الآية قد جاء يوم بدر بتأويلها..
ولا يعترض على الرأى الأول بأن «الرؤيا» تشير إلى أن الإسراء كان رؤيا منامية، مع أن الرأى المعوّل عليه أنها كنت رؤية اليقظة.. ذلك أن الرؤيا تستعمل فى اللغة بمعنى الرؤية.. وخاصة إذا كانت الرؤية بالليل، كالسير فإنه إذا كان فى الليل سمّى سرى، مع أنه فى حقيقته سير.
أما الفتنة التي فتن بها الناس من هذه الرؤيا، فقد ارتدّ بعض ضعاف
وكذلك الشأن فى رؤياه- صلّى الله عليه وسلّم- أنه سينتصر على قريش فى أول معركة معها..
والرأى الراجح أن «الرؤيا» هى الإسراء، وقد عرفت الاعتراض على هذا الرأى، وردّنا عليه.
- وثالثها: قوله تعالى: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ».
ما الشجرة الملعونة فى القرآن؟ ولم لعنت؟ ثم لم كانت فتنة؟
لم يذكر القرآن الكريم، شجرة موصوفة بتلك الصفة، وهى اللعنة..
ومن هنا ذهب المفسّرون مذاهب شتّى فى هذه الشجرة.
والذي نتخذه دليلا فى بحثنا عن تلك الشجرة، أنها ذات صلة بقريش، وأنها مثار فتنة للمشركين..
وعلى هذا، فإنا نجد فى القرآن الكريم شجرة ذكرت فى سورة «الصافات» وهى من القرآن المكي، وقد تهدّد بها الله سبحانه وتعالى، المشركين، وأذاقهم طعامها النكد، فى هذه الدنيا، قبل أن يملئوا منها بطونهم فى جهنم، فقال تعالى: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» (٦٢- ٦٨: الصافات). وفى سورة الواقعة، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ
فهذه الشجرة قد ذكرها الله سبحانه وتعالى فى القرآن المكي، وعرضها فى هذه المعارض، مهددا بها المشركين، متوعدهم بها، مذيقهم طعامها الذي يغلى فى البطون كغلى الحميم.
وقد كان المشركون، يستمعون إلى هذا القرآن، ويتناجون بما تملى لهم أهواؤهم وضلالاتهم فيه، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» (٤٧: الإسراء).
وقد كانت هذه الشجرة مثار استهزاء وسخرية فيما بينهم، كما أنها كانت مادة للعبث منهم بالمسلمين، وبمعتقدهم فى صدق الرسول، الذي يقول لهم مثل هذا القول.. إذ كيف يقول «محمد» بأن النار التي سيعذّب فيها من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، هى جحيم، وأنّها نار تلظى، وقودها الناس والحجارة- كيف يقول هذا، ثم يقول إن هناك شجرة أو أشجارا من زقّوم تطلع فيها، ثم تثمر ثمرا يأكله المعذّبون بتلك النار؟ أهذا قول يتفق أوله مع آخره؟ النار التي تأكل كل شىء، تصلح لأن تكون مغرسا ومنبتا لشجر؟
وأكثر من هذا، فقد بدا لبعض الذين سفهوا أنفسهم من هؤلاء المشركين، أن يتخذوا من هذا الوعيد الذي توعدهم الله به، مادة للتسلية، والعبث، إمعانا فى الاستهزاء والسخرية، ومبالغة فى التكذيب والتحدي..
فمن ذلك ما روى عن أبى جهل أنه كان يقول: «هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر؟ وما نعرف الزّقوم إلا التّمر
فهاتان آيتان من آيات الله المأدبة، وهما القول بالإسراء، والقول بتلك الشجرة التي تنبت فى أصل الجحيم.. وفى هاتين الآيتين فتنة للناس، أي لهؤلاء المشركين، كما كانت الآيات المادية فى الأمم السابقة فتنة لتلك الأمم! وأنه إذا كان المشركون يريدون آيات مادية فهاتان آيتان مادّيتان، أو شبه ماديتين، وقد كانتا فتنة لهم.. فهل تزيدهم الآيات المادية إلا فتنة إلى فتنة؟
- وفى قوله تعالى: «وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» إشارة إلى أن هذه الآيات المادية أو شبه المادية، هى نذير بلاء وفتنة، ومطلع عذاب عاجل يقع بالمشركين، إن هم أصروا على موقفهم هذا الذي يقفونه من آيات الله..!
بقي أن نعرف لم وصفت الشجرة بأنها ملعونة؟ ولم تلعن وهى لم يكن منها ما يستوجب اللعن؟
والجواب:
أولا: أن الله سبحانه وتعالى قد وصفها بأنها تنبت فى أصل الجحيم،
وثانيا: أن وصف الشجرة بأنها ملعونة، لا ينبنى عليه أنها ملعونة من الله، وإنما هو وصف بالنسبة لآثارها فيمن يذوق طعمها، فهو طعام كريه، لا يطعمه إلا الخاطئون.. فإذا وصف الشيء بأنه مرّ المذاق، أو خبيثه، فهو بالنسبة لطاعمه.. وقد لا يكون طعمه على تلك الصفة فى حقيقته..
ثالثا: جاء فى قوله تعالى فى وصف الشجرة: «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ»..
فهى فتنة، كما أن الشيطان فتنة.. وقد جاء فى قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» أي هى فتنة كذلك..
وهذا مما يرجح القول بأن المقصود بالشجرة هى شجرة الزقوم، كما يقيم ذلك دليلا على أنها شجرة ملعونة..
أما عن استنكار المشركين للجمع بين النار، والشجر.. فذلك لجهلهم بقدرة الله، أولا، ولجهلهم بأسرار الطبيعة ثانيا.. فالنار، والشجر، والماء، والطين.. وكلّ ما يرون فيه من تناقض. هو من أصل واحد، ومن مادة واحدة، وإن اختلفت صوره وأشكاله.. وقد استطاع العلم الحديث أن يحوّل الأشياء من حال إلى حال، بإجراء بعض التغييرات فى تركيب عناصرها، كتحويل الصلف إلى لبن، والخشب إلى ورق مصقول، أو حرير ناعم..
إلى غير ذلك مما يتحول به الشيء من النقيض إلى النقيض..
بل إن الطبيعة نفسها لتقوم بهذه العمليات كل يوم، فتحول الهواء الشفاف إلى ماء، وتحول الماء إلى هواء.. كما تحول الماء السائل إلى ثلج جامد، والملح
وقد أشار القرآن الكريم، إشارة خاطفة إلى تحوّل الأشياء إلى طبيعة غير طبيعتها، كالشجر يتحول إلى نار، فيقول سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ»
(٨٠: يس).. ففى الشجر نار مستكنة، كما أن فى النار ماء مستكنّا.. فليس إذن بالمستحيل أن يجتمع الشجر والنار، وأن تنبت فى أصل الجحيم أشجار تأخذ طبيعة النار، وتتغذّى منها.
الآيات: (٦١- ٦٥) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ؟
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة أشارت إلى بعض ما يفتن
وقد دعى إبليس من الله تعالى أن يسجد لآدم، فأبى واستكبر وقال:
«أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟».. وقال فى موضع آخر: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ».. وقد كان خلق آدم من طين آية من آيات الله المادية، وكان على إبليس أن يؤمن بها.. ولكن هذه الآية كانت سببا فى كفره بالله، وطرده من رحمته.
قوله تعالى: «قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا».
أرأيتك: أي أرأيت يا الله.. والكاف حرف خطاب للمولى سبحانه وتعالى، يؤكد الضمير المتصل قبله، والمراد بالرؤية هنا، العلم.. أي أعلمت يا الله!.
أحتنكنّ: أي أفسدنّ، وأستولينّ.. احتنك الشيء: لاكه فى حنكه وعلكه، كما تعلك الدابّة لجامها.
وهذا تحدّ من إبليس- لعنه الله- لله سبحانه وتعالى، فى آدم، وأنه أضعف شأنا من إبليس، وأنه إذ كان كذلك، فكيف يسجد القوىّ للضعيف؟..
هكذا فكر إبليس وقدّر.!
قوله تعالى: «قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً».
اذهب: أمر مراد به الطرد من رحمة الله..
وفى هذا تسفيه لهؤلاء المشركين الذين اتبعوا آباءهم، كما اتبع أبناء إبليس، إبليس. فمتابعة الذرّية لآبائهم، مضلّة لهم، إذ كان عليهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يأخذوا الطريق الذي يؤدى إليه نظرهم..
- وقوله تعالى: «جَزاءً مَوْفُوراً» أي جزاءا كاملا، لا ينقص منه شىء..
فلا يخفف عنهم العذاب، ولا يقصر مداه..
قوله تعالى: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً».
استفزز: أي: أخف، وأفزع، واستفزّ فلان فلانا: أي أخافه وأفزعه.
وأجلب: أي: أجمع أمرك، وادع كل ما تملك من قوة.. وأجلب القوم، جاءوا من كل صوب، ومنه الجلب، وهم التجار الواردون على السوق..
والخيل: المراد بها راكبوها..
والرّجل: جمع راجل، وهو من يمشى على رجليه إلى غايته، سواء فى حرب أو غيره..
والأمر هنا، يراد به الاستخفاف بإبليس، وبكيده الذي يكيد به للناس.
فليعلن الشيطان الحرب على أبناء آدم، وليأت بكل ما معه من عدد وعدّة.. وليجلب بخيله ورجله، وليشاركهم فى أموالهم وأولادهم، وذلك بما يفسد عليهم من أموال وبنين.. ثم إذا لم يجد فى ذلك ما يمكنه منهم، فليأتهم متلطفا، متودّدا، بعد أن جاءهم مهددا، متوعدا، مفسدا.. وليمدّ لهم فى حبل الأمانىّ، وليكثر لهم من الوعود المعسولة الكاذبة.. فذلك كلّه لن يبلّغه شيئا من أبناء آدم الذين جعلهم الله من أهل طاعته، وأرادهم لجنته، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» فهؤلاء هم أبناء آدم، ليس لإبليس سلطان عليهم، إلا من كان من أهل الشّقوة والضلال..
فهؤلاء- بما سبق فيهم من قضاء الله- هم مستجيبون للشيطان موالون له..
إذ كانت أهواؤهم متفقة مع هواه، ووجهتهم قائمة على وجهته.. إنهم، وهو، من أهل الشقاء والبلاء.
- وفى قوله تعالى: «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» تحذير من الشيطان، وأمانيه ومغرياته التي يمنّى بها الناس، ويغريهم بها، فما هى إلا ضلال فى ضلال، وأباطيل لا تجىء إلا بالأباطيل! وتحذير الناس من الشيطان ومغرياته، وإن كان لا يردّ شيئا مما قضى به الله
قوله تعالى «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا».
فعباد الله، هم أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وهؤلاء لا سبيل للشيطان إليهم، إنهم فى عصمة منه بهذا القضاء الأزلىّ من الله فيهم.. وهو قضاء خفىّ لا يعلمه أحد، ولا يدرى مخلوق إن كان من أهل السعادة أو أهل الشقاء.. ومن هنا كان السعى والعمل، والتسابق إلى الإحسان- من مطلوبات الناس، ومن مبتغياتهم.. لأن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة.
فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين.. وفى الحديث: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل الجنة!».. وهكذا نحن فى الحياة.. طلاب العلم مثلا:
العاقلون المجدّون منهم، هم على طريق النجاح عند الامتحان، والمهملون الغافلون، هم على طريق الإخفاق..
وقد يجدّ للعامل المجدّ ما يصرفه عن العمل والجدّ، فيخفق، ويجدّ للكسول المهمل ما يدفعه إلى الجدّ والتحصيل، فينجح. وكل سائر إلى القدر المقدور له.. ولكن سنّة الله قائمة فى الناس: أن لا ثمرة بغير عمل، ولا حصاد إلا بعد زرع!
كيف يخاطب إبليس بهذا الخطاب الذي يشعر بالقرب: «كَفى بِرَبِّكَ» ؟
والجواب على هذا، - والله أعلم- أن هذا الخطاب ليس لإبليس، وإنما هو التفات إلى الإنسان، الذي هو داخل فى عموم قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» وكأنهم بمشهد من هذا الخطاب.. ثم إنه بدلا من أن يجىء النظم بصيغة الجمع هكذا: «وكفى بربكم» جاء النظم القرآنى بصيغة المفرد «وَكَفى بِرَبِّكَ».. وذلك لينظر كل إنسان إلى خاصة نفسه، وليعمل ما وسعه العمل على أن يتوقّى هذا الشيطان المترصد له، والمتربص به، وليكن مما يستعين به على ذلك أن يتوكل على الله، وأن يستعين به، وليجعل فى يقينه أنه من عباد الله، الذين لا سلطان للشيطان عليهم..
ويجوز أن يكون الخطاب للشيطان، قهرا له: وإلزاما له بسلطان الربوبية، الذي خرج بكفره عن سلطانه.. وأنه مقهور مخذول، ليس له على عباد الله سلطان، وهو سبحانه وتعالى وكيلهم الذي يدفع عنهم كيده.
الآيات: (٦٦- ٧٠) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
قوله تعالى: «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً»..
بعد أن خوطب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، بقوله: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» جاء الخطاب إلى النّاس جميعا، شارحا هذه الوكالة، وما يجىء منها إلى الإنسان من إمدادات الخير والإحسان من ربّ العالمين، فالله سبحانه، هو الذي سخّر للناس البحار والأنهار، تجرى فيها الفلك بأمره حاملة الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد، دون أن يطغى الماء على الفلك، أو يمسكها على ظهره بلا حراك.. كما يقول سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (٣٣: الشورى) وهو سبحانه بهذه الوكالة القائمة على الناس قادر على أن يدفع عنهم ما يكيد به الشيطان لهم، إذا هم آمنوا بالله واتخذوه وكيلا.
قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» وفى الحال التي تتعرض فيها الفلك لريح عاصف، أو موج صاحب، لا تجدون أيها الناس من يكشف هذا البلاء، إلا الله.. «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» فليس لمعبوداتكم التي تعبدونها سبيل إليكم وأنتم فى هذا الكرب..
إنهم قابعون هناك حيث تركتموهم فى معابدكم، أحجارا جاثمة، أو جثثا هامدة.. ولكن سرعان ما تنسون أيها الناس فضل الله عليكم، ورحمته
وهذا فوق أنه سفه وضلال، هو كفران وجحود.
قوله تعالى: «أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا».
ولكن أين تذهبون؟ إذا أنتم أمنتم جانب البحر؟ أو تخرجون من ملك الله؟ ثم أتدفعون بأس الله عنكم إذا جاءكم؟ فهل تأمنون، وأنتم فى البرّ أن يرسل الله عليكم ريحا عاصفة، محملة بالهلاك والدمار، فتغرقكم فى الأرض، وتدفنكم فى بطنها.. فإذا كنتم قد سلمتم من الغرق فى البحر، فهل تعجز قدرة الله من أن تنالكم بالبلاء وأنتم على ظهر اليابسة؟ وهل إذا وقع بكم هذا البلاء، هل هناك من يتولى دفعه عنكم؟.
- وفى قوله تعالى: «جانِبَ الْبَرِّ» إشارة إلى هذا الحمى وذلك الجناب الذي يجد فيه الإنسان طمأنينة وأمنا حين يضع قدمه على اليابسة، بعد أن يترك البحر ومخاطره.. فهذا الجانب لا يعصم من أمر الله، ولا يردّ بأسه.
قوله تعالى: «أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً».
وهل أمنتم، بعد أن نجاكم الله من الغرق وأنتم على ظهر السفين، ثم كفرتم بالله، ولم تذكروا فضله عليكم ورحمته بكم- هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى، مسوقين إليه بسلطان قدره وقدرته، ثم يرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.. إنه انتقام من كفركم بالله ومكركم بنعمه عليكم.. فهل إذا أغرقكم الله فى تلك المرّة، هل يكون لكم على الله حجة؟ أليس هذا هو الجزاء العادل الذي أنتم أهل له بكفركم، وضلالكم؟
لقد أراكم الله سبحانه فضله ورحمته، فأنكرتم الفضل والرحمة.. وهذا بلاؤه
(١٦٥: آل عمران) والتبيع: من يتبع غيره، والمراد به هنا من يطالب الله بما يحلّ بالمشركين من بلاء.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا».
هو استعراض عام لنعم الله على الناس جميعا.. أبناء آدم.. فقد كرمهم الله سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي خلقهم عليها، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، كما يقول سبحانه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (٤: التين) وكما يقول جلّ شأنه: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» (٦- ٨: الانفطار).
ومع هذا التكريم فى الخلق، فقد سخر الله للناس ما فى البرّ والبحر، وأفاض عليهم من الخيرات والنعم، وأقامهم على هذه الأرض، وجعلهم خلفاءه عليها.. وهذا كلّه من شأنه أن يدعو الإنسان إلى الولاء لله، وإفراده سبحانه بالحمد والثناء! - وفى قوله تعالى: «وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» - ما يسأل عنه وهو: ما منزلة الإنسان بين المخلوقات؟ وما المخلوقات التي فضّل عليها؟
وما المخلوقات التي فضّلت عليه؟
صريح منطوق الآية يدل على أمرين:
أولهما: أن الإنسان فضّل على كثير من المخلوقات التي بثّها الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجود كلّه.
والذي لا شك فيه، هو أن الإنسان فى أصل خلقته، أفضل المخلوقات التي تعيش معه على هذا الكوكب الأرضىّ، ولهذا جعله الله خليفته فى هذه الأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ولكن هذه الخلقة المهيأة لأن تكون بمقام الخلافة لله تعالى على الأرض، لا يتحقق لها هذا، حتّى تحقق هى ذاتيتها، وتخرج القوى الكامنة فيها، وتفجّر الطاقات المندسّة فى كيانها.. كالنواة التي تضمّ فى كيانها عناصر شجرة عظيمة، أو نخلة باسقة.. تظلّ هكذا شيئا ضئيلا ميتا، حتى تندسّ فى صدر الثّرى، ثم تتفاعل معه، وتخرج خبأها بعد جهد وصراع.
أما الإنسان الذي لا يعمل على الانتفاع بما أودع الله فيه من قوى، فسيظل كتلة باردة من لحم ودم، لا يرتفع كثيرا عن مستوى أدنى الحيوانات وأحطها منزلة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (٤- ٦: التين).
هذا هو مقام الإنسان فى العالم الأرضى.. إنه سيد المخلوقات كلها فى هذا العالم، مادام محتفظا بإنسانيته، عاملا على الارتقاء بوجوده.. أما المخلوقات التي فى غير هذا العالم الأرضى، فلا شأن للإنسان بها، كما أنها لا شأن لها بالإنسان، ومن ثمّ فالمفاضلة بينه وبينها شىء غير وارد، وغير منظور إليه.. إذ لا تعامل بين الإنسان وبين تلك المخلوقات!
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
التفسير:
قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا».
الإمام: المقدّم من كل شىء.. وإمام القوم: رئيسهم، وصاحب الكلمة فيهم..
والفتيل: النّتوء البارز فى شقّ النواة، ويضرب به المثل فى الشيء الحقير.
والآية تنتقل بهؤلاء الناس، الذين كرمهم الله، وفضلهم على كثير من خلقه، وحملهم فى البر والبحر، ورزقهم من الطيبات- تنتقل بهم من الدنيا، التي يتقلّبون فيها، ويسرحون ويمرحون، فإذاهم بين يدى الله فى مقام الحساب
فأتباع الأنبياء مع أنبيائهم، وأتباع الضلال مع أئمتهم.. وهكذا كل طائفة، وكل جماعة، وكل أمة، مع إمامها، وقائدها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» (٦٩: الزمر).. فالنبيون والشهداء، يشهدون على أتباعهم بما كان منهم فى الدنيا..
وليس علم الله سبحانه وتعالى بهم، فى حاجة إلى من يقيم الشهادة عليهم، ولكن هذه الشهادة هى خزى وفضح للمجرمين، بعرض مخازيهم على الملأ.
- وقوله تعالى: «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» هو عرض لأهل الفوز والنجاة فى الآخرة.. وهم الذين أخذوا كتابهم بيمينهم.. فهؤلاء يجدون مسرّة بلقاء كتابهم، وتهشّ نفوسهم لقراءته، والاستمتاع بما يرون فيه من أعمال طيبة، تؤهلهم لرضوان الله، والفوز بالجنة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» (٧- ٩: الانشقاق) ويقول جل شأنه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (١٩: الحاقة).. إنه لسعيد بهذا الكتاب، وإن الفرحة لنملأ كيانه، فيطير بها فرحا هنا وهناك، يدعو من يلقاه ليقرأ ما فى كتابه، وليشاركه هذه الفرحة، فيتضاعف فرحه، ويعظم سروره..
وفى إفراد الضمير العائد على الموصول فى قوله تعالى: «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» ثم إعادته إليه جمعا فى قوله سبحانه «فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» - فى هذا ما يشير إلى أن كل واحد يدعى ليأخذ كتابه بيده.. ثم إذا أخذ كلّ كتابه، اجتمع بعضهم إلى بعض، والتقى أهل اليمين بأهل اليمين، وأهل الشمال بأهل الشمال.. ومن هنا كانت قراءة أهل اليمين لكتبهم فى صورة جماعية.. كل
ولم تذكر الآية أصحاب الشمال ذكرا صريحا، وإنما دلّت عليهم بأوصافهم..
فهم عمى يوم القيامة، لما يغشاهم من كرب هذا اليوم، وما يطلع به عليهم كتابهم الذي يأخذونه بشمالهم، من نذر الشؤم والبلاء.. فلا ينظرون إليه، وإذا نظروا لم يبصروا شيئا.. حيث ملك الرعب وجودهم، وأخذ الفزع قلوبهم وأبصارهم! إنهم كانوا عميا فى هذه الدنيا، فلم يروا آيات الله، ولم ينظروا فيما جاءهم به رسل الله من هدى ونور.. وهاهم أولاء فى الآخرة على ما كانوا عليه فى الدنيا، قد غرقوا فى بحر متلاطم الأمواج من الكرب والبلاء، فلا يجدون طريقا للنجاة، ولا يرون وجها للفرار من هذا الهول العظيم..
قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا»..
فتنه يفتنه عن الشيء فتونا: أضلّه عنه، وصرفه إلى غيره.
والافتراء: الاختلاق، وتلفيق الأخبار..
وفى هذه الآية، يردّ المكذّبون بالآخرة، إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن رأوها عيانا فيما يشبه أحلام اليقظة.. وما يكادون يصحون من غفوتهم تلك حتى يواجهوا بما كانوا يأخذون به النبىّ من عنت، وما يتهدّدونه من أذى..
حيث يريدونه على أن يترك آلهتهم، ولا يعرض لها فى القرآن الذي يتلوه على
ويقولون له فيما يقولون: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا، أَوْ بَدِّلْهُ».. فيجيئه أمر الله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (١٥: يونس).
ولا يجد هؤلاء الضالّون المتكبّرون مقنعا فيما يجيبهم به النبىّ على ما يسألون، ولا يرضيهم منه، أو يدفع عنه سفههم، إلّا أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن..
- وفى قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» إشارة إلى هذا الصّراع العنيف بين هؤلاء المشركين وبين النبىّ، وإلى ما يسوقون إليه من ألوان التهديد والوعيد.. حتى ليبلغ الأمر غايته من الشدّة والبلاء، وحتى ليكادا لنبىّ يصل إلى حال يوشك أن يفلت فيها الأمر من يده، إذ جاوز حدود ما تحمل الطاقة البشرية من جهد وعناء، كما يقول سبحانه وتعالى فيما يعرض للرسل من بلاء: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (١١٠: يوسف).
فهذا التصوير للموقف، يكشف عن مدى ما يسوق الكافرون إلى النبىّ من أذى، وما يأخذونه به من عنت.. وأنه صلوات الله وسلامه عليه وهو فى معرض هذه العواصف الهوجاء، يمسك نفسه على الطريق الذي أقامه الله تعالى عليه، ويضمّ يديه فى قوة وإصرار على الرسالة التي حمّلها الله إياه، إلى أن يحكم الله بينه وبين قومه!..
- وفى قوله تعالى: «وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» إشارة إلى أنه لو تحوّل النبىّ قليلا إلى ممالأة قومه، ونزل شيئا عما يدعوهم إليه، لجاءوا إليه موادعين مسالمين، ولهدأت هذه العواصف المزمجرة حوله، ولجرت سفينته فى ريح رخاء!.
- وفى قوله تعالى: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» إشارة إلى ما عند النبىّ ﷺ من رصيد عظيم من العزم والصبر، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- مع هذا الكيد العظيم الذي يكيد له به قومه، لو ترك وشأنه لما تزحزح عن موقفه إلا شيئا قليلا.. ولكنّ أمداد السماء قد جاءته فى وقتها فأمسكت به، فربطت على قلبه، وشدّت من عزمه وثبتت من قدمه.. وهكذا يصنع الله لأوليائه وأحبائه، فيدفع بهم إلى مواطن البلاء، حتى يبلوا بلاءهم، ويعطوا كل ما عندهم، وحتى إذا كاد يفرغ كل ما معهم، وينفد كلّ ما لديهم، جاءهم نصر الله، وتتابعت عليهم أمداده.
- وقوله تعالى: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا».
ركن إلى الشيء: مال إليه..
والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يركن إليهم، ولم يمل إلى ما يدعونه إليه، ولو قيد أنملة، وإن كاد يفعل ذلك، ولكن الله سلّم.. ونحو هذا قول الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى | تركت على عثمان تبكى حلائله |
أي لو فعلت هذا- أيها النبىّ- وملت هذا الميل القليل لكان حسابك عسيرا.. فإن صغيرتك كبيرة، لمقامك الكريم الذي أنت فيه، وإنه على قدر علوّ مقامك يكون حسابك.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» إشارة إلى ما لله سبحانه من سلطان فى خلقه، وأنه- سبحانه- يجرى حكمه فى عباده كما أراد، دون أن يكون لأحد اعتراض على حكمه، أو دفع له..
قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا».
استفزّه: أجفله، وأزعجه..
أي أن هؤلاء المشركين من قومك أيها النبىّ، قد أعنتوك، وأجلبوا عليك بكل ما استطاعوا من صور البغي والعدوان، حتى لأوشكوا أن يخرجوك من الأرض، أي يطردوك منها طردا، فلا يدعون لك موضعا فيها، تدعو فيه إلى الله، وتبلغ رسالته.. وإنهم لو فعلوا لأخذهم الله بالعذاب، ولما بقيت لهم فى الأرض باقية بعدك.. فهذه هى سنّة الله فى الرسل من قبلك مع أقوامهم.
وأنهم إذا تأبّوا عليهم، وأخذوهم بالبأساء والضرّاء، أخرجهم الله من بين أقوامهم، ثم صبّ على هؤلاء الأقوام عذابه، فأهلكهم، مصبحين، أو ممسين.
وفى هذا تهديد للمشركين، وإنذار لهم، وأنهم إن فعلوا بالنبيّ هذا الفعل أخذهم الله بما أخذ به الظالمين من قبلهم.
«سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (٦٢: الأحزاب)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
التفسير:
قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ.. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً».
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. هى أنه لما كانت الآيات السابقة قد حملت شيئا من التلويح للنبىّ الكريم أن يعدّ نفسه للصبر والاحتمال على ما يلقى من المكاره من قومه، فقد ناسب أن تجىء هذه الآية وما بعدها، محمّلة بالزّاد الذي يتزود به، فى هذا الموقف المتأزّم، الذي تنحلّ فيه العزائم، وتزلّ الأقدام، فيجد منه المدد الذي يقوّى عزمه، ويثبت قدمه. وذلك بإقامة الصّلاة من دلوك الشمس، أي من وقت الزّوال عند الظهر، «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» أي ظلمته..
- «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» أي وصلاة الفجر، وهى صلاة الصبح، وسميت قرآنا، لأن قراءة القرآن أظهر وجوهها.. «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» أي
ودعوة النبىّ إلى إقامة الصلاة من وقت زوال الشمس عن كبد السماء، إلى دخول الليل واشتداد ظلامه، هو دعوة له- صلوات الله وسلامه عليه- إلى إقامة أربع صلوات، هن: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.. وأما صلاة الصبح، فقد جاء الأمر بها فى قوله تعالى: «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ».. وقد أفردت وحدها، لما فيها من مشقّة، ولما فى وقتها من بركة.
وفى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» - دعوة خاصة إلى النبي الكريم، أن يتهجّد بالقرآن.. إلى جانب إقامة الصلاة المفروضة.. وقد كانت تلاوة القرآن هى عبادة النبىّ فى أول الدعوة، حيث جاء أمر الله سبحانه وتعالى إليه بقوله: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا..» فلما فرضت الصلاة، ظلت تلاوة القرآن فريضة واجبة على النبىّ، مندوبة، للمؤمنين..
والتهجّد: اليقظة بالليل بعد النوم..
ومن الليل: أي من بعض الليل، لا كلّه.. فحرف الجرّ «من» للتبعيض.
والنافلة: الزيادة، على المطلوب..
فالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، مطالب فى هذا، بما لم تطالب به أمته، وهو أن يقوم من الليل، بعد أن ينزع عنه لباس النوم، وأن يصحب القرآن معه،
- وفى قوله تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» شرح لصدر النبىّ، وإغراء له بهذا التهجّد الذي تحمل فيه النفس ما تحمل من عناء ومشقة، فذلك قليل فى سبيل مرضاة الله سبحانه، والقرب منه، والفوز بالمقام المحمود عنده..
والمقام المحمود، هو مجمع المحامد كلّها، حيث لا يناله إلا من جمع المحامد جميعها..
وفى التعبير عن الرفع إلى المقام المحمود، وإحلال النبىّ به- فى التعبير عنه بالبعث، إشعار بأنّ هذا المقام هو مرتبة لن تصل إليها البشرية، إذ لم تؤهلها لها طبيعتها.. فالإنسان الذي ينال هذا المقام كأنما خلق خلقا جديدا. وانسلخ انسلاخا يكاد يكون تامّا عن طبيعة البشر..! وهذا هو سرّ من أسرار تصدير هذا الوعد الكريم من ربّ العالمين بفعل الرجاء «عسى» ليظل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- متطلعا إلى هذا المقام، طامعا فيه، راجيا أن يبلغه.. وقد بلغه- صلوات الله وسلامه عليه- كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» ولا يتحقق رضاه- صلوات الله وسلامه عليه- إلا إذا تحقق له هذا الرجاء، الذي تعلّقت به نفسه، وهو أن يبعثه ربّه مقاما محمودا..
قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً».. هو دعاء علّمه إياه ربه، ليدعو به عند كل أمر يعالجه، ويعمل له، وهو أن يستعين ربّه عليه، بأن يدخله مدخل الصّدق إلى هذا الأمر، ويسدّد خطاه عليه، ويهيىء له الأسباب
فالدخول إلى أي أمر ما، هو مباشرته، والخروج منه، هو الفراغ منه..
كالمعركة مثلا فى ميدان القتال.. الدخول إليها هو الالتحام فى القتال، والخروج منها هو انتهاء المعركة بانتصار أحد الفريقين المتقاتلين..
والدخول مدخل الصدق إليها، يكون أولا وقبل كل شىء بتخليص دوافعها من البغي والعدوان، بأن تكون دفاعا عن حق، ودفعا لظلم..
ثم يكون ثانيا، بالإعداد لها إعدادا روحيا وماديا، بتوطين النفس على الاستشهاد فى سبيل الله، وباستيفاء وسائل الحرب، وخطط القتال.
وهكذا كل أمر يعالجه النبىّ.. يدعو الله أن يكون دخوله إليه من مدخل الحق، لا يبغى غير الحق ولا يعمل لغير الحقّ. وأن يكون خروجه منه من مخرج الحقّ، فلا يتلبّس أثناء ممارسته لهذا الأمر بشىء من الباطل.. وهذا إنما يستعان عليه بالله سبحانه وتعالى، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» فبهذا السلطان الذي يمدّه الله به، يجد الحراسة القوية الأمينة، التي تدفع عنه كلّ عارض يعرض له من وهن أو ضعف أو خذلان.
قوله تعالى: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً».. هو الوصف الكاشف لخاتمة أمور النبىّ كلّها، قبل أن تجىء خاتمتها.. فكل أموره- صلوات الله وسلامه عليه- سيدخلها مدخل صدق، وسيخرج منها مخرج صدق، مستندا إلى سلطان الله، مؤيّدا بنصره.. وهذا إعلان- مقدّما- بانتصار الحق الذي يدعو إليه النبىّ، ويعمل له، وهو دعوة الإسلام، وهداية الناس إلى الله..
وقد تحقق هذا.. فانتصرت دعوة الإسلام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا!..
«جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً».
قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً».
هو إلفات إلى هذا القرآن الذي بين يدى النبىّ، والذي يتلقّى آياته وكلماته من ربّه- إنه هو الحقّ الذي فيه الشفاء لما فى البصائر من عمى، وما فى القلوب من ضلال، وهو الرحمة التي تبسطها يد الرحمن الرحيم إلى عباده ليستشفوا بها من جهالتهم وضلالهم.. ثم هو الرائد الأمين الذي يدخل المصاحب له مدخل الصدق، ويخرجه مخرج الصدق، ويجعل له من عند الله سلطانا نصيرا.
والمؤمنون، الذين يستجيبون لدعوة النبىّ هم الذين ينتفعون بكلمات الله وآياته، ويجدون فيها الشفاء والرحمة.
أما الذين يشاقّون النبىّ، ويصدّون عن سبيل الله، فلن يزيدهم القرآن إلّا ضلالا إلى ضلالهم، ومرضا إلى مرضهم.. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (١٠: البقرة).
- وفى قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» إشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما يتنزل حالا بعد حال، ولم ينزل جملة واحدة.. وهذا يعنى أن كل ما ينزل من القرآن، هو شفاء ورحمة، سواء ما نزل، أو سينزل.. لا أنّ بعضه فيه شفاء ورحمة، وبعضه الآخر ليس فيه شفاء ورحمة، كما يذهب إلى ذلك
الآيات: (٨٣- ٨٨) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٨]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها قد جاءت لتذكر الناس بنعمة من أعظم النعم عليهم، وهى هذا القرآن، وما يحمل إليهم من شفاء ورحمة: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».
وإذا كان كثير من الناس يكفرون بنعم الله، ويستقبلونها بالجحود والنكران، فقد ناسب أن يجىء قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ» ليكشف بذلك عن طبيعة مندسّة فى كيان الإنسان
هذا وفى الآية الكريمة باب فسيح من أبواب رحمة الله، يدخل منه الناس جميعا إلى حيث يجدون الرحمة والإحسان.. «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ».. فسبحانك سبحانك من ربّ كريم رحيم..
وشاهت وجوه من اتجهوا إلى غيرك، ومدّوا أيديهم إلى سواك.
قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا»..
الشاكلة: الطبيعة التي يكون عليها الإنسان، وهى التي تحدد طريقه ومذهبه فى الحياة.
وفى هذه الآية إشارة إلى أن الناس ليسوا كلّهم على شاكلة هذا الإنسان الذي تحدثت عنه الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً»
.. ففى الناس من يقدر الله حقّ قدره، إذا أنعم الله عليه، شكر، وإذا مسّه الضّرّ، صبر، وانتظر فى أمل ورجاء رحمة الله، وفضله..
- وفى قوله تعالى: «فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا» - وفى إضافة الناس جميعا إلى ربّهم، دعوة لهؤلاء الشاردين عن طريق الحق، أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يعودوا إلى ربّهم، حتى يكونوا أهلا لأن يضافوا إليه، وينزلوا دار ضيافته وكرمه..
قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»..
«الواو» فى ويسألونك، للاستئناف، وهى فى نظمها هذا، إنما تنادى بصوت عال فاضح لهؤلاء الذين يسألون هذا السؤال الذي لا يريدون به هدى، ولا يبغون منه معرفة، وإنما هو المراء والجدل، واللّجاج فى والضلال والعناد..
وفى الحديث عن هؤلاء السائلين بضمير الغيبة «الواو» فى «ويسألونك» دون أن يجرى لهم ذكر- فى هذا تجهيل لهم، وإتاحة الفرصة لمن اشترك فى هذه الجريمة أن يفرّ بنفسه، وأن يطلب السلامة بالبعد عن هذا الموطن، الذي من ضبط فيه متلبسا بهذا التساؤل المنحرف عن طريق الاستفادة والمعرفة- كان فى وجه الاتهام والمؤاخذة..
- وقوله تعالى: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» أي من شأنه سبحانه وتعالى، ومما وسعه علمه هو، جلّ شأنه..
- وفى قوله سبحانه: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا».. أمور.. منها:
وثانيا: أن العلم الذي يحصّله العلماء، وتتسع له المدارك والعقول.. هو علم قليل قليل.. لا يبلغ شيئا إلى جانب علم الله.. ويكفى الإنسان جهلا وصغارا أنه يجهل نفسه، ويجهل الروح السارية فيه، والتي هى مبعث حياته، وحركته.. فكيف يكون له علم مع علم الله الذي وسع الوجود كله علما وحكمة ورحمة. ؟
وثالثا: التحريض على طلب العلم، والاستزادة منه، حتى يكون هذا العلم القليل الذي نعلمه، كثيرا، نفيد منه فى أمور معاشنا ومعادنا.. فما أكثر ما نجهل من عالمنا الأرضى المحدود الذي نعيش فيه، وما أكثر ما ينكشف لنا كل يوم من خباياه وأسراره.. فلنطلب العلم، ولنجدّ فى الطلب.. ولكن ليكن ذلك لحساب العلم والمعرفة، لا لإشباع شهوة المماحكة والجدل..
هذا، والرأى عندنا أن يكون المراد بالروح هنا القرآن الكريم، فهو روح الأرواح، وحياة النفوس، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بهذه الصفة فى قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» (٢: النحل) وفى قوله سبحانه: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» (١٥: غافر).
«مِنْ أَمْرِهِ» كما اتصلت فى قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ».. فكان الرّد عليهم: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي».. وفى هذا قرينة على أن الروح هنا هو الروح هناك..
وأصرح من هذا، فى الدلالة على أن المراد بالروح هو القرآن الكريم ما جاء فى سورة الشورى فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (الآية: ٥٢).. فالروح هنا صريح الدلالة على أن المراد به هو القرآن الكريم..
وكذلك ما جاء فى سورة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ..» ففى ليلة القدر تنزل الملائكة، كما نزل القرآن الكريم فيها، إذ يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»..
وفى اقتران نزول «الروح» بقوله تعالى: «مِنْ أَمْرِ رَبِّي» و «مِنْ أَمْرِهِ» و «مِنْ أَمْرِنا» و «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» إشارة إلى ما يحمل القرآن الكريم من أحكام الله سبحانه وتعالى، وما قضى به سبحانه، من أمر ونهى.. وخصّ الأمر بالذكر، لأن النهى فى حقيقته أمر بالترك للمنهىّ عنه ومجانيته، فهو داخل حكما فى الأمر..
وهذا المفهوم لكلمة «الروح» وأن المراد بها القرآن الكريم، يسانده ما جاء فى الآية الكريمة بعد هذا «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» حيث كان المشركون يسألون عن القرآن الكريم سؤال استهزاء، من أين جاء به؟
وقد جاء الرد عليهم فى قوله سبحانه: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أي فهذا القرآن وما اشتمل عليه من علم، هو من بعض علم الله..
قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً».
المشيئة الإلهية هنا غير مرادة ولا واقعة، لأنها معلقة بإرادة الله سبحانه وتعالى.. والله سبحانه وتعالى لا يريدها.. فهى مشيئة غير مشاءة.. «فلو» حرف شرط، يفيد امتناع الشرط لامتناع جوابه.. والتقدير: لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك.. ولكننا لم نشأ..
والغرض من هذا الشرط غير الواقع، الإشارة إلى أنه ممكن الوقوع، وأن إمكان وقوعه متوقف على مشيئة صاحب المشيئة.. ومنه قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً».. ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يقع هذا، ولذلك جاء التعقيب بعد ذلك: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» وفى توكيد الفعل الواقعة عليه المشيئة: «لنذهبنّ» - إشارة إلى ما لمشيئة الله سبحانه وتعالى من سلطان غالب لا يدفع، وقوة قاهرة لا تردّ..
وفى الآية إلفات إلى العلم الكثير الذي اشتمل عليه القرآن الكريم، والذي ضمّت عليه آياته وكلماته، وأنه إذا أصغت الآذان إليه، وتفتحت القلوب له، ووردت العقول موارده- وجد عنده واردوه، والمتعاملون معه، والآخذون منه، مذخورا لا ينفد من العلم والمعرفة.. كما يقول سبحانه وتعالى:
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» (٥١: العنكبوت) فهذا القرآن، وما حمل إلى الناس من هدى ورحمة، وما جمع بين دفتيه من علم ومعرفة- هذا القرآن، وهذا شأنه، قد غفل عنه هؤلاء الغافلون الجاهلون.. ولم يقفوا عند هذا، بل تصدّوا له، وحاربوه، وقال بعضهم لبعض:
«لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (٢٦: فصلت).. ثم ها هم أولاء يجيئون من خلف القرآن، ويتسلّلون من ورائه، فى خبث ومكر، يسألون سؤال من يطلب العلم، ويبغى المعرفة، وما هم بطلاب علم، ولا روّاد معرفة.. إذ لو كانوا كذلك لكان فيما نزل عليهم من قرآن ما يملأ عليهم حياتهم علما ومعرفة: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» ؟
(٥١: العنكبوت)..
- ففى قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ».. تهديد لهؤلاء المشركين بتحويل هذا القرآن عنهم، ورفعه من بينهم، وحرمانهم هذا الخير العظيم المسوق إليهم! ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى بك أيها النبىّ وبقومك، هى التي أمسكت هذا الخير عندهم، وأبقته فيهم: «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» فبفضل الله سبحانه وتعالى عليك، وإكرامه العظيم لك، قد أبقى على قومك، فلم يعجّل لهم العذاب، ولم يقطع عنهم هذا الخير الذي حملته إليهم بين يديك.. بل جعله الله سبحانه مائدة ممدودة لهم، وموردا يردونه أنّى شاءوا، غير مدفوعين عنه، ولا محرومين منه.
قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».
بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم، تلك الإشارة الدالة على ما فيه من علم غزير، وخير كثير، قد غفل عنه المشركون، وأنهم- إذ فعلوا ذلك- ليسوا أهلا لأن يعيش بينهم هذا الخير وذلك العلم، ولكن فضل الله العظيم، على نبيّه الكريم، قد أمسك على قومه هذا القرآن فيهم، ليتداركوا أنفسهم، وليأخذوا بحظهم منه..
نقول: بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم وموقف المشركين منه- جاء قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» - ليكون ذلك بيانا كاشفا عن قدر هذا القرآن، وعن علوّه الذي لا ينال، وأنه روح من أمر الله، يحيى موات القلوب والنفوس.
فهذا القرآن، مع أن مادته مما يصوغ منها العرب شعرهم ونثرهم، ومع أن كلماته وتراكيبه جارية على ألسنتهم، معروفة لهم- هو معجزة قاهرة متحدّية للإنس والجنّ، أبد الدهر، فمن شاء منهم، فليقف لهذه المعجزة، وليتحدّ هذا التحدي، وليدع إليه من استطاع من الإنس والجنّ، ثمّ لينظر ماذا يكون هذا الذي استطاع هو ومن معه أن يأتوا به، وليعرضوه فى مقام الموازنة والمقايسة بينه وبين القرآن العظيم، ثم ليكن حكمهم فى هذا هو مقطع القول فى إعجاز القرآن أو غير إعجازه! وهو الجواب المفحم عن الروح الذي سألوا عنه! نقول هذا، ولا نحسب أحدا منذ نزل القرآن إلى اليوم، قد دخل فى هذه التجربة، ثم استقام له منها شبهة فى أن أي كلام، مهما بلغ من البلاغة، يدنو من سماء القرآن، وينتظم فى عقده.. وكيف وهو أرض والقرآن سماء، وهو حصى والقرآن جواهر؟!
كم بودرت «١» غادة كعاب | وعمّرت أمّها العجوز |
أحرزها الولدان خوفا | والقبر حرز لها حريز |
يجوز أن تبطئ المنايا | والخلد فى الدهر لا يجوز |
الآيات: (٨٩- ٩٦) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٦]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
(٢) انظر فى هذا كتابنا «إعجاز القرآن» فى الجزءين الأول والثاني.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً».
صرّفنا: بيّنا، وكشفنا، وذلك بعرض الأمر على وجوهه كلّها، حتى ينكشف للناس جميعا.. والتصريف التنويع، ومنه تصريف الرياح، وهو هبوبها من جهات مختلفة.
بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى ما فى القرآن الكريم من هذا الإعجاز الذي أعجز الإنس والجنّ، جاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» - جاء ليكشف عن هذا الضلال المبين، وذلك العناد الأعمى، الذي يستبدّ بالناس، فيعميهم عن الحق، ويصرفهم عن الهدى، ويزين لهم الباطل..
فهذا القرآن فى بيانه المبين، وحجته المشرقة القاهرة، وهذه الآيات التي صرّفها الله سبحانه وتعالى فى هذا القرآن، والأمثال التي ضربها للناس فيه، كلّ
هذا بيان لما كان عليه المشركون من عناد ومكابرة فى الحق.. فهم إذ عموا عن آيات الله، وإذ لم يروا منها ما يراه أهل السلامة والعافية، لم يتّهموا أنفسهم، ولم ينظروا إلى هذا الداء المتمكن منهم، فلجّ بهم فى الضلال، وساقهم إلى هذا التيه الذي هم فيه، بل اتهموا القرآن نفسه، وقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ثم راحوا يتحدّون النبىّ، ويقترحون عليه فى مجال التحدّى أن يأتيهم بآيات مادّية يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم..
- «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً».. فهذه واحدة من مقترحاتهم.. أن يفجر لهم ينبوعا من الأرض يتدفق منه الماء، كما فعل موسى مع بنى إسرائيل بعصاه.
وأخرى.. هى أن تكون للنبىّ جنة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار فى وسط هذه الصحراء الجديب.. «أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً»..
وثالثة.. هى أن يسقط عليهم السّماء، فتطبق على الأرض وتحيلهم وديارهم ترابا فى ترابها.
«أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً».. والكسف: القطع..
«أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا».. والقبيل: ما يقابل الشيء ويواجهه، ومنه القبلة، لأنها فى مقابل من يتجه إليها، ويقبل عليها..
وخامسة.. وهى أن يكون له بيت عظيم، وقصر مشيد، كقصر كسرى أو قيصر، تحتشد فيه الزخارف، وتجتمع فيه ألوان الزينة والترف..
«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» أي من ذهب.
وسادسة، وهى أن يرقى فى السماء، ويرى صاعدا إليها، كما تصعد الطيور الى ما فوق السحاب..
«أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ..»
وإنهم لن يصدّقوا ما تراه أعينهم، إذا هو صعّد إلى السماء، فقد يكون ذلك من قبيل السّحر، وإنّما الذي يجعل من صعوده إلى السماء آية عندهم، أن يعود إليهم، ومعه كتاب كالكتاب الذي جاء به موسى..
«وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ»..
فهذه مقترحاتهم المتحدية، التي اقترحوها على النبىّ، وله أن يختار أيّا منها.. فإن أعجزته واحدة، فليختر غيرها.. فإن أعجزته هذه المقترحات كلها، فقد أسقط فى يده، وظهر عجزه، وكان عليه أن يستسلم لهم، ويدع ما يدعوهم إليه..
وفى هذه المقترحات أمور.. منها:
أولا: أنها صيغت صياغة يبدو منها أن القوم قد أنصفوا النبىّ، ولم يجيئوا إليه متعنّتين، حيث وضعوا بين يديه أكثر من سبيل، فيتخيرّ أيسرها عليه، وأقربها تناولا منه..
وثالثا: أن أصابع اليهود تبدو بصماتها واضحة على تلك المقترحات، وأنهم هم الذين صاغوها للمشركين تلك الصياغة الخبيثة الماكرة.. إذ هم أصحاب قدم راسخة فى هذا الضلال الذي كانوا يلقون به رسل الله إليهم.. فقد سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، كما يقول الله تعالى عنهم: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (٥٥: البقرة). ومن مواقفهم الماكرة مع موسى أنهم أرادوا أن يمتحنوا قدرته على الاتصال بالله، فطلبوا إليه أن يأتيهم بطعام غير المنّ والسّلوى، وهو طعام سماوى وضعه الله فى أيديهم.. فقالوا «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها، قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» (٦١: البقرة).
فهذه المقترحات التي اقترحها المشركون على النبىّ لم يكن مرادا بها إلّا التحدّى، حتى ولو كان فى هذا التحدّى هلاكهم! فقولهم: «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» هو من قبيل ما طلبه بنو إسرائيل، من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير!! وقد أمر الله نبيّه أن يردّ على مقترحاتهم تلك بقوله سبحانه: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا»..
وقد تضمن هذا الرد أمرين:
وثانيا: أنه رسول، ومن شأن الرسول ألّا يخرج عن الحدود التي رسمها له من أرسله، وإلا كان خائنا للرسالة، وحينئذ يكون ما يعمله أو يقوله هو لحسابه الشخصي، وفى حدود مقدرته..
والرسول حريص على أداء الرسالة التي أمر بتبليغها، ملتزم الحدود المرسومة له.. فإذا حدثته نفسه بالخروج عن حدود رسالته، فمعنى هذا أنه انسلخ عن صفته تلك، ولم يعد رسولا، وأصبح مجرد «بشر» لاصلة له بالسماء.. وإذا كان كذلك، فإنه ليس له سبيل إلى الإتيان بشىء من هذه المقترحات التي يقترحها المشركون عليه، والتي هى فوق طاقة البشر! ففى هذا الرد المعجز: «هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» إفحام لهؤلاء المشركين، الذين يجهلون تلك البديهيات، وهى أن الرسول الذي يقترحون عليه هذه المقترحات، هو بشر منهم، قبل أن يكون رسولا، وأن كونه رسولا لا يخرجه عن بشريته، وأنه إنما يعطى ما تقدمه له السماء، كما يقول الله سبحانه وتعالى له: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» (١١٠: الكهف) وكما يقول سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (٤٤- ٤٧: الحاقة).
قوله تعالى: «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا»..
الناس، هنا، هم مطلق الناس، فى كل زمان ومكان.. والمراد بهم
كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (١٠٣: يوسف)..
والشبهة التي تفسد على هؤلاء الضالين رأيهم فى رسل الله، وتصوّرهم للطبيعة التي يكونون عليها- هى أن الرسل الذين يكونون سفراء بين الله والناس، ينبغى أن يكونوا- حسب تقديرهم- على مستوى فوق مستوى البشر، إذ لو كان من الممكن أن يتصل إنسان بالله، لكانوا هم- أي هؤلاء الضالون المنكرون- أهلا لهذا الأمر، وأولى به من هذا الرسول، الذي يدّعى تلك الدعوى على الله..!!
فهذا الإنكار الذي يواجه به المشركون رسل الله، إنما يقوم أساسا عند هؤلاء المنكرين، على أمرين:
أولهما: أن البشر عموما فى مستوى دون هذا المستوي الذي يستطيع فيه إنسان أن يتصل بالله.
وثانيهما: أنه لو كان فى الإمكان أن يتصل إنسان بالله، فلن يكونه هذا الإنسان الذي يدّعى أنه رسول من عند الله! فهناك عندهم من هم أولى منه.. حتى لكأن ذلك مما يتزاحمون عليه من مظاهر الحياة المادية.. والله سبحانه وتعالى يقول: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (١٢٤: الأنعام).
وقوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» - هو ردّ على هؤلاء الذين ينكرون أن يبعث الله بشرا رسولا، ويرفضون التعامل مع أي إنسان يقول إنه رسول من ربّ
- وفى قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ» استبعاد لصلاحية الملك أن يؤدى رسالة الرسول بين الناس.. إنه ملك، وهم بشر..
فلو جاء إلى الناس على صورة غير صورة البشر لفتنوا به إذا خاطبهم- وهو غير إنسان- بلسانهم وتحدّث إليهم بلغتهم.
ولو جاءهم فى صورة إنسان، لظلت الشبهة قائمة عندهم فى أن هذا الرسول بشر.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» (٩: الأنعام) أي أنه إذا كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن يبعث إلى الناس ملكا رسولا لاقتضت حكمته أن يكون هذا الملك فى صورة بشرية كاملة، حتى يمكن أن يلتقى بالناس ويبلغهم رسالة ربّه! وهذا لا يغيّر من واقع الحال شيئا.. فملك فى صورة بشر.. هو فى حساب الناس بشر.
قوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يتركهم النبىّ وشأنهم، وما هم فيه من ضلال وعمى، بعد أن أبلغهم رسالة ربّه، ورفع لأبصارهم أضواء الحق، وأنوار الهدى.. والله شهيد على ما كان من النبىّ وما كان منهم، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، مطلعا على ما يسرّون وما يعلنون.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
التفسير:
قوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن وجوه منكرة للمشركين، الذين أعماهم الضلال، وأصمهم الكبر، فلم يروا ما يشع من آيات الله من أضواء، ولم يستمعوا إلى ما تحمل إليهم من هدى، بل جعلوا يهزءون ويسخرون برسول الله، وبكلمات الله، ويجيئون إلى الرسول الكريم يتحدّونه بتلك المقترحات التي يقترحونها عليه، وبتلك الأسئلة المتعنتة التي
فهؤلاء المشركون هم ممن حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار، وأنهم إن يدعوا إلى الهدى فلن يسمعوا، ولن يهتدوا أبدا..
هكذا كانت مشيئة لله فى هؤلاء الضالين المشركين، ولن يردّ عنهم مشيئة الله، ولىّ ولا نصير. وإذن فإنهم سيموتون على ما هم عليه من كفر وضلال، فإذا حشروا يوم القيامة، سحبوا على وجوههم إلى جهنم، وجرّوا إليها جرّا، كما يقول سبحانه وتعالى: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (٤٨: القمر) وفى سحبهم على وجوههم إذلال لهم وامتهان لإنسانيتهم، وقد كانت هذه الوجوه تلبس ألوانا من الكبر، والصّعر، والتعالي على العباد.
- وفى قوله تعالى: «عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا» إشارة إلى ما يحيط بهم من هول، وما ينزل بهم من كرب، حتى لتذهب حواسّهم، وتتعطل جوارحهم..
فلا يبصرون، ولا يتكلمون، ولا يسمعون.
- وقوله تعالى: «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» أي مصيرهم، ومستقرّهم.
- وقوله تعالى: «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» أي كلّما أخذت هذه النار فى الخمود، وخفّ عليهم سعيرها، زادت اشتعالا وسعيرا، وذلك مما يضاعف فى آلامهم، ويزيد من عذابهم، حيث تتغاير بهم أحوال العذاب، فيتقلبون بين اليأس والرجاء، وبين الموت والحياة.. وذلك هو العذاب فى أقسى صوره، وآلمها.. على خلاف ما لو كان العذاب الواقع بهم على حال واحدة، ولو كان بالغا غاية الشدة، فإنه بعد فترة من الزمن يصبح شيئا رتيبا، يجرى على وتيرة
قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً».
هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ هؤلاء الضالّون بما أخذوا به، من عذاب ونكال.. إنهم كفروا بآيات الله، وبرسول الله، وبما دعاهم إليه من الإيمان بالله، وباليوم الآخر.. ولم يقع فى تصورهم أنهم يبعثون بعد الموت، وشكّوا فى قدرة الله أن يعيد إليهم الحياة بعد أن يموتوا ويصبحوا عظاما نخرة، ورفاتا ضائعا فى التراب.
والاستفهام هنا إنكارى، حيث ينكر المشركون البعث، ويقولون «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (٢٩: الأنعام).. بل إنهم ليقسمون على هذا قسما مؤكدا حتى يقطعوا على أنفسهم طريق النظر فى هذا الأمر أو التفكير فيه.. «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (٣٨: النحل).
قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً».
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يكذبون بالبعث، ويقولون منكرين:
«أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً».. فلو أنهم كانوا على شىء من الإدراك السليم، لرأوا فى قدرة الله سبحانه وتعالى ما ينزهها عن العجز.. فهى قدرة قادرة على كلّ شىء.. ولو لحقها العجز عن شىء ما لما كانت من صفات الكمال الواجبة لله.
فهذا الوجود كله فى سمائه وأرضه، هو بعض صنعة هذه القدرة.. وتلك
«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (٢٧: الروم)..
وبالتالى فإن خلق الناس من جديد، وهم بعض هذا الوجود، هو بالقياس إلى الطبيعة البشرية- أهون- من خلق السموات والأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (٥٧: غافر).
- وفى قوله تعالى: «قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» مبالغة فى الرد على المشركين المنكرين للبعث.. فالناس لا يخلقون خلقا عند بعثهم من الموت، وإنما البعث إعادة لما كانوا عليه.. ولكن جاء التعبير القرآنى بلفظ الخلق ردّا على قول المشركين: «أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» ؟
- وقوله تعالى: «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ». الفعل معطوف على قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا» الذي يراد به الماضي، بمعنى لقد رأوا، وإن كانت هذه الرؤية لم ترفع عن أبصارهم هذا الضلال الذي هم فيه.. والمراد بالأجل، هو الأجل الموقوت للبعث والقيامة، وهو آت لا ريب فيه.. كما يقول سبحانه:
«وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ» (١٠٤: هود).
- وفى قوله تعالى: «فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً» وفى ذكر الظالمين باللفظ الظاهر بدلا من الضمير، الذي يقتضيه السياق- فى هذا ما يكشف عن حقيقتهم، وأنهم موصوفون بالظلم، لبعدهم عن الحق، ومكابرتهم فى الحقائق المسلّمة، وافترائهم على الله الكذب.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
(٧: الصف).
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً».. القتور. البخيل، البالغ الغاية فى البخل، والإقتار: ضد الإسراف، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (٦٧: الفرقان).
وضمير الخطاب: موجه إلى هؤلاء المشركين، الذين أشار إليهم قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ»..
وفى العدول عن الغيبة إلى الخطاب، ليواجه المشركون بهذا الاتهام، وليكونوا هم وحدهم الممثلين للإنسانية فى هذه الصفة الذميمة، صفة البخل، الذي ينضح عن طبع جاف، غليظ، مستبدّ.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت فيما ذكرت عن المشركين، أنهم أعنتوا النبىّ وأبوا أن يستجيبوا له، ولم يكن ذلك منهم عن جهل بهذه المعجزة الكبرى التي جاءهم بها النبىّ، فهم أعلم الناس بالقرآن، وأنه فوق أن يأتى البشر بسورة من مثله، ولكن آفتهم التي ذهبت بهم مذاهب الضلال بين يدى هذا الصبح المشرق المبين، هى أن الذي جاءهم بهذه المعجزة، بشر مثلهم.. فكيف يكون لإنسان مثلهم أن يستأثر بهذا الفضل، ويستولى على هذا السلطان؟ - فناسب ذلك أن يجىء قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» وفى هذا ما يكشف عن الطبيعة الكامنة فيهم، بل الطبيعة الغالبة على الناس جميعا، وهى حسد الناس بعضهم لبعض، لما ركّب فيهم من أثرة وحبّ للذات!
لا لشىء، إلا لأنه يريد بهذا أن يكون السّيد المفرد بين الناس! فالإنسان يرى أخاه الإنسان منافسا خطيرا له، وفى مجال هذا التنافس يقوم، بين الناس والناس التحاسد، حتى ليتمنّى بعضهم لبعض الفقر والحاجة! على حين أن الإنسان لا ينفس على المخلوقات الأخرى ما حباها الله به من قوة أو سلطان أو جمال! وقد قيل: «لا كرامة لنبىّ فى وطنه».. ولله درّ المعرّى إذ يقول:
أولو الفضل فى أوطانهم غرباء | تشذّ وتنأى عنهم القرباء |
لأمسكتم خشية أن تنفقوا فتتسع أرزاق الناس، ويكثر الخير فى يدهم، وفى هذا ما يفوت عليكم مقام التفرّد، والاستعلاء على الناس! - وقوله تعالى: «وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» هو حكم عام على الناس فى جملتهم، وأنهم يمسكون أيديهم عن الإنفاق، ولو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا، ليحقّق ذاته، ويفردها بين الناس بما جمع من كنوز الدنيا..
والرسول الكريم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لمنّى ثالثا!!».. وإنه ليس به من حاجة إلى هذا الثالث، بل إنه ليكيه القليل مما ضمّ عليه أحد الواديين.. ولكنه كما قلنا- الأثرة وحبّ الذات!
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت المشركين، وموقفهم من النبىّ إذ جاءهم بالمعجزة القاهرة، البادية لهم فى كلمات الله، فأبوا أن يستمعوا لها، ووقفوا من النبىّ الكريم موقف التحدّى، يطالبونه بآيات مادّية محسوسة.. فناسب ذلك أن يذكّروا بهذا المشهد من الحياة الماضية، الذي أعاد التاريخ سيرته فيهم، فكانوا صورة مكررة له..
فهذه آيات مادية محسوسة.. ليست واحدة، ولكنها تسع آيات بيّنات، قد جاء بها موسى إلى فرعون، وعرضها عليه، واحدة واحدة، وكل واحدة منها تحدّث بلسان مبين أنها من عند الله، إذ كانت معجزة محسوسة لا ينكرها إنسان له عين يبصر بها.
فماذا كان من فرعون إزاءها؟ لقد أنكرها، وكفر بها، وازداد معها
فبين هؤلاء المشركين من قريش، وبين فرعون نسب قريب، يجمعهما فيه، الجبروت والطغيان، واستغلاق القلوب، وظلام النفس، وضلال الرأى..
وهذه المقترحات التي يقترحها مشركو قريش على النبىّ، قد جاء بمثلها نبىّ من أنبياء الله إلى «فرعون» فلم يجد فيها مقنعا، ولم ير إلا أنها كيد من كيد موسى، وسحر من سحره.. ولو جاء النبىّ إلى هؤلاء المشركين بتلك الآيات، أو ما يماثلها، أو يزيد عليها، لما تغير موقفهم من النبي، بل لزادهم ذلك ضلالا إلى ضلال، وفتنة إلى فتنة..
والآيات التسع التي قدّمها موسى بين يدى فرعون.. هى: العصا التي يلقيها فإذا هى ثعبان مبين، ويده التي يدخلها فى جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء..
فهاتان آيتان..
ثم ما أخذ الله به فرعون وقومه على يد موسى من السّنين، وهى سنوات من القحط والجدب، حيث كان النيل يجفّ.. ثم مارماهم الله به من الآفات المهلكة التي أتت على الزروع والثمار، بعد أن أينعت وأثمرت!.. فهاتان آيتان.. كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (١٣٠: الأعراف)..
ثم ما سلّط الله سبحانه وتعالى على فرعون وقومه من الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم.. كما يقول سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (١٣٣: الأعراف) وهذه خمس آيات.. وقد شرحنا هذا فى سورة الأعراف..
وفى دعوة بنى إسرائيل إلى الشهادة هنا، فضح لهم، ولماهم عليه من ضلال.. إذ أنهم يعلمون منذ اليوم الأول للرسالة الإسلامية، أن رسولها مبعوث من عند الله، وأن ما بين يديه من قرآن، هو كلمات الله.. وقد كان الواجب يقتضيهم- ديانه وخلقا- أن يؤازروا النبىّ، وأن يؤيدوه فى دعوته، وأن يؤدّوا الشهادة فى النبىّ على وجهها، إذا هم سئلوا من قريش.. لا أن يكونوا قوة مستترة وراء المشركين، يمدونهم بكلمات الزور والضلال، ويلقون بها بين يدى الدعوة الإسلامية.. حيث كان اليهود عند المشركين موضع ثقة فيما يتصل بالرسل والرسالات، لأنهم أهل كتاب. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من تلك المواقف اللئيمة التي كان يقفها اليهود من النبىّ ومن رسالته..
كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (٥١: النساء)..
قوله تعالى: «قالَ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً».
البصائر: جمع بصيرة، وهى القوة العاقلة فى الإنسان، التي تكشف له الأمور، وتربه عواقبها.
والمثبور: الهالك.. وهو من الثبور، أي الهلاك..
- وفى قول موسى لفرعون: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ» - إشارة إلى أن هذه الآيات التي رآها فرعون، من شأنها أن تقيم
وفى الإشارة إلى الآيات بإشارة العقلاء «هؤلاء» ما يدل على أنهن آيات تنطق بلسان مبين، وتحدّث عن نفسها، وتبين عن حقيقتها، حتى لكأنها ذات عقل يدرك، ولسان ينطق.
- وفى قول موسى لفرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» ردّ على قول فرعون له: «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً».. والظن هنا بمعنى اليقين، سواء ظن فرعون، أو ظن موسى.. ففرعون يقول عن يقين قائم على جهل وعناد، وموسى يقول عن يقين، يشهد به واقع الحال، ويدلّ عليه ما ركب فرعون من كبر وعناد! قوله تعالى: «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً».
الاستفزاز: الإفزاع، والإزعاج..
وإرادة فرعون، هى همّه، وتأهبه.. أي أنه عند ما رأى فرعون ما رأى من معجزات، وأبى أن يؤمن بها، وأعجزته الحيلة عن أن يتحدّى تلك المعجزات- أراد أن ينتقم من بنى إسرائيل، الذين جاء موسى ليخّلصهم من
قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً».
اختلف المفسرون فى المراد من «الأرض» التي دعى بنو إسرائيل إلى سكناها.. وأكثر الآراء على أنها الأرض المقدسة التي أشار إليها قوله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» (٢١: المائدة).
كذلك اختلف المفسرون فى المراد بوعد الآخرة: فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» ويكاد يكون إجماعهم على أنه يوم القيامة..
والرأى الذي نميل إليه، أن المراد بالأرض، هو مطلق الأرض.. وهذا يعنى أن يتبعثر بنو إسرائيل فى وجوه الأرض كلها، وأن يتناثروا فى أقطارها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً» (١٦٨:
الأعراف).. وقد قطّعوا أمما، وتناثروا فى آفاق الأرض كلها..
وعلى هذا يكون المراد بوعد الآخرة هنا، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (٧: الإسراء)..
ويكون معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على بنى إسرائيل بأن يتقلبوا فى هذه الأرض، فيجتمعوا ويتفرقوا، فإذا اجتمعوا وقامت لهم دولة وسلطان، فسدوا وأفسدوا، فيسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يضربهم بيد البلاء، فيشتت شملهم، ويمزّق جمعهم.. وأن هذا الجمع والتفرق سيقع منهم
وأصل «اللفيف» من اللّفّ، وهو لفّ الشيء فى الشيء، وإخفاؤه فيه.. ومنه الشجر الملتفّ، وهو الذي تشابكت أغصانه، فأطبقت على ما تعلوه من أرض، حتى لا يكاد ينفذ إليها شىء من خارج..
وهذا يعنى أن مجىء بنى إسرائيل إلى وعد الآخرة، إنما يكون من حيث تاهوا وضلوا فى وجوه الأرض، ولم يكن له وضع ظاهر فيها..
وقد أشرنا إلى هذا فى أول السورة، فى مبحث خاص..
الآيات: (١٠٥- ١١١) [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١١١]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً».
الضمير فى أنزلناه، يعود إلى القرآن الكريم، وليس هناك مذكور يعود إليه هذا الضمير، وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام القرآن، وأنه أظهر وأشهر من أن يذكر للدلالة عليه.. فإذا ذكر الحقّ الذي نزل من السماء، واستقرّ حقّا قائما فى هذه الأرض، مصاحبا للناس- كان ذلك معنيّا به القرآن الكريم وحده، دون سواه.
وهنا سؤال:
كيف يكون ذلك الوصف خاصّا بالقرآن الكريم وحده، مع أن الكتب السماوية كلّها إنما نزلت بالحقّ، لأنها من عند الله؟
والجواب على هذا، هو أن هذه الكتب، وإن تكن قد أنزلها الله سبحانه وتعالى، بالحقّ، كما أنزل القرآن.. إلا أنها حين اتصلت بالنّاس، عبثوا بها، وغيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي نزلت به..
أما القرآن الكريم، فقد أنزله الله سبحانه وتعالى بالحق، وأنه سبحانه تولّى حفظ هذا الحقّ الذي نزل به، فلم تبدّل آياته، ولم تحرّف كلماته.. وهذا هو بعض السرّ فى قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ».. أي ملازما للحقّ، قائما عليه..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»..
ولهذا، فقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الكتب، أمانة فى يد القائمين عليها من أحبار ورهبان.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (٤٤: المائدة) فهم الموكّلون بحفظ كتبهم التي هى أمانة فى أيديهم.. فإن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها، شأنهم فى هذا شأنهم فى كل أمانة يؤتمن الناس عليها.. وقد ضيع أهل الكتاب هذه الأمانة، فلم يرعوها حقّ رعايتها، بل مكروا بآيات الله، فغيّروا وبدّلوا، وألقوا بأهوائهم فيها.. على هذه الصورة الشائهة التي فى أيديهم..
- وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» إشارة إلى أن مهمّة النبىّ هى إبلاغ هذا الكتاب، والتبشير بما يحمل إلى الذين يؤمنون به من رضوان الله، وثوابه العظيم لهم، فى الدنيا والآخرة، والإنذار بما يحمل إلى المكذبين، من وعيد بالبلاء والنقمة وسوء المنقلب.! تلك هى وظيفة النبي مع هذا الكتاب الذي أنزله الله عليه.. أما حفظه، فقد تولّاه الله سبحانه وتعالى.
فليفرغ النبىّ جهده كلّه، إلى إبلاغه للناس!
والواو فى قوله تعالى: «وَقُرْآناً» هى واو العطف، وما بعدها معطوف على الآية قبلها.. لتثبت وصفا آخر للقرآن.. فكما أنه نزل بالحق، وبالحق استقرّ وثبت، ولم يلحقه تبديل أو تحريف- هو كذلك نزل قرآنا منجّما، ولم ينزل مرة واحدة.
وفى تنكير «قُرْآناً» تنويه به، ورفع لقدمه، وأنه لتفرده بهذا الوصف، مستغن عن كل تعريف.. إذ كان هو وحده المستأهل لأن يقرأ، وأن يؤثر بالقراءة من كل قارئ.
و «فرقناه» أي نزلناه مفرّقا، ولم ينزل كلّا واحدا، كما نزلت الكتب قبله.. وأصله من الفرق، وهو الفصل بين الشيئين، كما يقول سبحانه وتعالى:
«فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» (٦٣: الشعراء) أي أن موسى حين ضرب البحر بعصاه انفلق، وانشق، فكان كل فرق، أي جانب، كالجبل العظيم وقد قرىء «فرّقناه» بتشديد الراء.. وهذا يؤيد المعنى الذي أشرنا إليه كما يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ».. فهذا تعليل للسبب الذي من أجله أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن على مكث، أي على زمن متطاول، فنزل منجّما، أي مفرّقا فى نحو ثلاث وعشرين سنة..
وذلك ليعيش النبىّ والمؤمنون معه، على هذا الزاد الكريم، المختلف الألوان، والطعوم، طوال تلك المدّة التي كان القرآن يتنزل فيها، وهم يرصدون مطلع كلّ آية، ويشهدون بزوغ كل كلمة.. وبهذا ظل النبي والمؤمنون معه خلال هذه السنين الثلاث والعشرين فى مقام الانتظار لهذا الضيف العظيم، تطلع عليهم مواكبه موكبا، موكبا، وتلقاهم أضواؤه، شعاعة شعاعة، حتى إذا كان
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» وعندها صافح النبىّ هذا الوافد الكريم، فى موكبه الحافل، وسناه المشرق، ثم ودّعه، لينتقل هو- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى، وليقيم القرآن فى الناس مقامه، حيث يجتمع عليه المسلمون، ويستقبلون من آياته وكلماته إشارات الهدى، إلى حيث الفلاح والنجاة، فى الدنيا والآخرة جميعا..
- وفى قوله تعالى: «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» وفى تعدية الفعل «قرأ» بحرف الجرّ «على» «على الناس» بدلا من اللام: «للناس». إشارة إلى علوّ هذا القرآن، وأنه بحيث يشرف عليهم من عليائه، فيملأ وجودهم نورا، وألقا، وبحيث يكشف لهم كلّ خفيّة، إذا هم جعلوا أبصارهم إليه، ووجهوا عقولهم وقلوبهم له.. فلا تعمّى عليهم المسالك، ولا تتفرق بهم السبل، وفى هذا يقول الرسول الكريم «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنّتى».
- وفى قوله تعالى: «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» بيان للأسلوب الذي نزل به القرآن خلال هذا الزمن الذي نزل فيه، وأنه نزّل تنزيلا.. أي نزل شيئا شيئا، وهذا يعنى أن القرآن الكريم وإن تلقّاه النبىّ آية آية، وآيات آيات، وسورة سورة- فإنه فى جميع أحواله تلك، هو القرآن الكريم كلّه.. ففى الآية الواحدة، أو الآيات، يعرف القرآن الكريم، ويعرف أنه كلام ربّ العالمين، وأنه المعجزة القاهرة المتحدية، التي تقصر دونها أيدى البلغاء، وتخضع لجلالها رقاب الفحول من الشعراء والخطباء! فالآيات القليلة التي تلقّاها النبىّ فى صدر دعوته، كانت صورة مصغرة
وإذا كان لنا أن نمثّل الصورة التي تنزل بها القرآن، فإنه يمكن أن نرى فى القمر وفى مطالعه ومنازله، أقرب صورة له.. حيث القمر هو القمر فى جميع مطالعه، وإن لم ينكشف من وجهه، هلالا، ما انكشف منه، بدرا.. إنه فى جميع أحواله آية من آيات الله، وإن أية لمعة بارقة منه هى إشارة مبينة عنه، ونبأ عظيم يحدّث عن بهائه وجلاله وروعته!.. ومع هذا، فإن العيون الكليلة لا تنبهر به، والقلوب المريضة لا يروعها ما يروع القلوب من هذا الجلال والجمال المطلّ به على الوجود.. تماما كالقرآن الكريم الذي لم تتفتح له قلوب، المستكبرين الضالين، حتى بعد أن تم وكمل، على حين انجذب إليه المهتدون المؤمنون مع أول آية من آياته، ولأول إشارة من إشاراته..
قوله تعالى:
«قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا».
فى هذه الآية إشارة إلى أن شأن أولئك المكابرين المعاندين، الذين يقفون من كتاب الله هذا الموقف المنحرف، وينظرون إليه هذا المنظر المريض- إشارة إلى أنهم لا يعلون من قدر القرآن شيئا، إذا هم آمنوا به، ولا ينزلون من قدره شيئا، إذا هم أمسكوا أنفسهم على الكفر، وأبوا أن يعترفوا بأنه كلام الله، وأن الرسول الذي جاء به هو رسول الله.. إنه مائدة الله الممدودة بهذا الخير الذي لا ينفد على كثرة الطاعمين منه، ولا يفسد على مر الزمن لقلة الأيدى التي تمتد إليه، وتنال منه.. فالشمس هى الشمس، وإن اكتحلت بضوئها الأبصار، أو عشيت عن ضوئها العيون!! - وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
.. فى هذا إشارتان:
أولاهما: أن هذا القرآن لا يقدره قدره، ولا يعرف فضله، إلا من انتفع بعقله، وأحسن الاستماع إليه، والتلقّى عنه.. وأنّ أصحاب العقل والحجا وأهل العلم والمعرفة، هم أقرب الناس نسبا إلى هذا القرآن- وأكثرهم معرفة به، وأصدقهم نظرا إليه، وعرفانا بقدره وفضله.
وثانيتهما: أن هذا القرآن، قد جعل للعرب عامة، ولأهل مكة خاصة فضل السبق إليه. والوقوف على موارده.. فجاء إليهم بلسان عربى مبين، هو لسانهم الذي به يتعاملون.. ثم هو من جهة أخرى قد سعى إليهم، وحلّ بينهم، دون أن يبذلوا جهدا أو مالا.. فإن هم أحسنوا استقباله، وأخذوا بحظّهم منه، فذلك هو خيرهم المدعوّون إليه، وإن هم أساءوا مقامه فيهم، وغلّوا أيديهم عن تناول قطوفه، والأخذ من ثمره، ارتحل عنهم إلى غيرهم، ونزل عند من يعرف قدره، ويحسن الأخذ عنه..
والقوم الذين يتلفت إليهم القرآن فى هذا الموقف، ويؤذن أهل مكة بالتحول عنهم إليهم، هم أهل العلم، من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
فأهل العلم هؤلاء يعرفون قدر هذا القرآن ويعلمون- بما عندهم من علم- أنه كلام الله، وأن الرسول الذي يتلوه- هو رسول الله.. وأن هذا القرآن إذا يتلى عليهم خشعوا له، وخرّوا على أذقانهم سجّدا بين يدى آياته وكلماته.. كما يقول سبحانه وتعالى فى القسيسين والرهبان من النصارى: «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (٨٣: المائدة)..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا
..
والذي ينبغى الالتفات إليه هنا، هو أن أهل العلم من أهل الكتاب، هؤلاء الذين إذا يتلى عليهم القرآن «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» - لم يكونوا قد وجهوا بالقرآن بعد، ولم يكونوا قد دعوا إلى الإيمان به.. إذ كانت الدعوة لا تزال تمهدّ الأرض التي تركّز رايتها فيها، وتجعل منها منطلقا لرسالتها فى الناس جميعا.. حيث تخيرت الأمة العربية التي نزلت بلسانها، لحمل هذا الشرف العظيم.. ومع هذا، فإن أهل الكتاب- وخاصة أهل العلم منهم- كانوا يرصدون مطلع النبوة، ويشهدون هذا الصراع المحتدم فى مكة بين قريش وبين النبىّ الذي ظهر فيهم، وما يتلو عليهم من آيات الله.. وكانت تلك الآيات، تطرق أسماع العلماء من أهل الكتاب، فيعرفون وجه الحق فيها، فتخشع لذلك قلوبهم، وتفيض بالدمع عيونهم ويخرّون للأذقان يبكون! وفى هذا الذي يتحدث به القرآن إلى أهل مكّة عن علماء أهل الكتاب، وعن موقع كلمات الله وآياته هذا الموقع منهم- فى هذا تسفيه لأهل مكة، ولتفّلتهم عن هذا الخير الوارد عليهم، ثم هو من جهة أخرى تحريض لهم على أن يبادروا هذا الخير فيأخذوا حظهم منه، قبل أن يقلت من أيديهم، ويسبقهم إليه أهل الكتاب، وهم الذين كانوا ينفسون على أهل الكتاب هذا العلم الذي جاءتهم به رسل الله فى هذه الكتب التي فى أيديهم، والذين كانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ (١٥٧: الأنعام).. فها هم أولاء قد أنزل عليهم الكتاب الذي كانوا يتمنّونه، وها هم أولاء يزورّون عن هذا الكتاب، ويزهدون فيه، بل ويرجمونه بأيديهم
قوله تعالى:
«وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً».
هو بيان لحال أخرى من أحوال أهل العلم من أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم القرآن.. فهم لأول الصدمة يخرّون على أذقانهم سجّدا.. ثم هم إذا صحوا من سكرتهم قليلا، وفاء إليهم ما عزب من عقولهم، وجدوا أنفسهم مع آيات الله، تطالعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخرّون للأذقان باكين، لما عرفوا من الحق.. فيزدادون خشوعا إلى خشوع، وإيمانا إلى إيمان! فهما إذن حالان للمستمعين إلى آيات الله، من أهل العلم هؤلاء..
الحال الأولى، حين تلقاهم آيات الله، وتطلع عليهم كلماته لأول وهلة..
فإذاهم بين يديها فى حال من الجلال والرهبة، تنعقد معه الألسنة، وتسكن معه الجوارح، وتخمد الأنفاس.. شأنهم فى هذا شأن من تبغته آية من آيات الله، يرى فيها من الحسن والجمال ما لم تشهده عين، ولم يتصوره خاطر، فيخرّ مغشيا عليه، جلالا ورهبة..
والحال الثانية.. أنه حين يعيشون مع هذه الآيات وقتا ما، ويأنسون إليها، ويزايلهم بعض ما وقع عليهم أول الأمر من سطوة جلالها وجمالها، عندئذ يجدون شيئا من العقل يلقونه بها، وإذا هى لعقولهم أبهى جلالا، وأروع
قوله تعالى:
«قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا».
فى هذه الآية يعود الخطاب إلى المشركين، بعد أن وقفت بهم الآيتان السابقتان إزاء أهل الكتاب، وأرتهم منهم أنهم يتعاملون مع هذا القرآن الذي لم يدعوا إليه بعد، ويلقونه بهذا الاحتفاء العظيم، على حين أنهم- أي المشركين- يلقون هذا القرآن الذي دعوا إليه، بوجوه منكرة، وقلوب مغلقة، وعقول شاردة.
وفى تجديد الخطاب إليهم، دعوة مجدّدة لهم إلى أن يتدبروا أمرهم هذا الذي هم فيه، وأن يبادروا فيصلحوا موقفهم من القرآن، ويصطلحوا معه، ويلقوه لقاء كريما غير هذا اللقاء الذي كان منهم.. هذا إن كان لهم حاجة فى أنفسهم، وفى استنقاذها من الضلال والضياع! وإلا فهم وما اختاروا! - وفى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» تصحيح لمعتقد المشركين فى الله.. ذلك أنهم كانوا لا يعرفون عن الله إلا أنه «الله» أي الإله الأكبر، الذي يرأس الآلهة الآخرين، الذين يعبدونهم من دونه.. من ملائكة وكواكب، مثّلوها فى تلك الأصنام التي نحتوها من أحجار، وسوّوها من خشب، أو ذهب.. كاللات، والعزّى، ومناة، وغيرها..
فاسم «الله» هو عند هؤلاء المشركين، هو العلم الذي يطلقونه على الإله الأكبر.. ليس له عندهم اسم أو صفة أخرى..
كالرحمن، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم، والحكيم.. وكانوا يقولون:
أإله هو أم آلهة هذا الذي يدعونا محمد إلى الإيمان به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ.. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» (٦٠: الفرقان).
فكان قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» - تصحيحا لمعتقدهم الفاسد فى الله، وأنه سبحانه وتعالى ليس- كما تصوّروا- ذاتا كدواتهم، أو ذوات معبوداتهم، يطلق عليهم اسم واحد، يستدلّ به عليه، ويتعامل معه به! فالله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال كلها، فأىّ وصف من أوصاف الكمال، هو لله سبحانه، وهو اسم وصفة معا لذاته.. فالله، هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو العليم، وهو السميع، وهو البصير، وهو الخالق، وهو الرازق.. إلى ما يمكن أن تحمل للغة من صفات الكمال والجلال، التي لا يشاركه أحد فيها..
فكل اسم حسن يدعى الله به، ويعبد عليه، هو إيمان بالله، وإقرار بالعبودية له. وذلك بأية لغة، وبأى لسان! - وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» - هو بيان للأسلوب القاصد، المستقيم، الذي يدعى الله سبحانه وتعالى به، ويعبد عليه، وهو ألا يكون جهرا صارحا بالدعاء، وبالصلاة- وهى دعاء أيضا- ولا هما خافتا به.. وإنما هو وسط بين هذا وذاك.. فالجهر الصارخ، يدخل على الإنسان بشعور حفىّ، بأن الله بعيد عنه، لا يسمع إلا إذا
أما الهمس بالدعاء والمخافتة به، فإنه يعزل صاحبه عن أن يسمع ما يناجى به الله، ومن ثمّ فلا يتشكل له من دعائه من المعاني ما يصل شعوره بالله، ويشدّ عقله وقلبه إليه!.
قوله تعالى:
«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً».
بهذه الآية تختم هذه السورة الكريمة.. فيلتقى ختامها مع بدئها، حيث بدأت بتسبيح الله وتنزيهه ثم ختمت بحمده وتقديسه.
وكأنّ هذا الحمد هو مما أوجبه استقبال تلك المنّة الكبرى التي منّ الله بها على عبده محمد، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
ثم لكأن هذا الحمد أيضا هو بيان لصورة من صور الكمال التي يدعى بها الله أو الرحمن، كما جاء الأمر فى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى».
ونرتّل قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ»، فنجد أننا بين يدى صلاة هى الصورة المثلى للدعاء لذى أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ الكريم والمؤمنين معه، أن يقيموا دعاءهم عليه فى قوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا».
فأولا: مضمون الدعاء.. فهو فى كلمات قليلة، قد جمع فيها ما تفرق من صور الدّعاء، فى مقام الولاء لله، وإخلاص العبادة والعبودية لله.. فهو حمد لله، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ هو إقرار بأن الله سبحانه المتفرد بالكمال، والمنزّه عن النقص، فلا حاجة له إلى ولد يؤنس وحشته، ويتخذ منه سندا وعضدا، ولا منازع له، ولا شريك معه فى هذا الوجود، ولا معين له فى القيام على هذا الوجود، والإمساك بنظامه الحافظ له.. فحيث نظر ناظر، فرأى قوة لقوىّ، أو عظمة لعظيم، أو سلطانا لذى سلطان، أو غنى لذى غنى..
أو ما شاكل ذلك مما يكبر فى صدور الناس- فالله سبحانه وتعالى له القوة كلها، وله العظمة جميعها، وله السلطان المطلق، وله الغنى الشامل، وله الكمال فى كل شىء، وإليه أمر كل شىء.. وهذا هو بعض السرّ فى أن ختم هذا الدعاء بقوله تعالى: «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً».. أي قل: الله أكبر، الله أكبر..
تكبيرا مطلقا، من غير مقايسة أو مفاضلة.. الكبير فى كل مقام.. فهو- سبحانه- الكبير المتعال، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
وثانيا: الكلمات التي ختم بها هذا الدعاء، قد انتظمت صورتها من حروف، من شأنها أن تمسك من ينطق بها على حال بين الجهر والتخافت، حتى دون أن يكون ذلك عن قصد منه.
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فلو ذهب من يتلو هذه الكلمات أن يجهر بها إلى حيث يبلغ صوته من العلوّ، لأسكت به عند طبقة معينة من الأداء الصوتى، لا يستطيع أن يرتفع فوقه، وذلك لخلوّها من أي حرف من حروف المدّ.. وهى الواو، والألف، والياء.. الأمر الذي يحجز الصوت عن أن يذهب مذهبا فوق حدود الاعتدال..
وانظر، فإنك تجد أكثر حروف هذه الكلمات من اللامات والميمات والدالات والذالات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ».
فهناك خمسة عشر لاما وستة ميمات، ودالان، وثلاثة ذالات.
ومخرج حرف اللام من طرف اللسان حيث يضرب فى مقدمة الحلق، على حين أن الميم مخرجه من الشفتين، ومخرج الدال والذال من أقصى طرف اللسان، حيث يضرب فى الأسنان..
فالحركة الغالبة عند النطق بهذه الكلمات، هى حركة طرف اللسان مع الشفتين، حيث لو أراد الإنسان أن يحرك لسانه بهذه الكلمات من داخل شفتيه، لاضطر اضطرارا إلى أن يفتح شفتيه عند النطق بالميم، ولو أراد أن يزمّ شفتيه عند النطق بالميمات، لوجد هناك ما يقسره قسرا على أن يفتح شفتيه عند الالتقاء بثلاث واوات رصدت له، وأخذت مكانها فى مقاطع هذه الكلمات.. والواو حرف لا يتحقق نطقه نطقا صحيحا إلا بحركة الشفتين، حركة تجمعهما، ثم تفرقهما فى فتحة أشبه بنصف دائرة! فسبحان من هذا كلامه! سبحانه! سبحانه!!