ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٧) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
التفسير:
قوله تعالى:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
فاطر السموات والأرض: أي مبدعهما، وخالقهما، على أتم نظام وأكمله.
ومنه الفطرة، وهى ما ركّب الله سبحانه وتعالى فى الإنسان من غرائز وميول، يولد بها الإنسان، كصفحة بيضاء نقية..
وقد شرحنا هذا المعنى فى مواضع أخرى..
فالحمد لله، من ذاته، ومن المخلوقات لذات الخالق، حمدا على الخلق والإيجاد، وعلى ما أمد به ما خلق، من أسباب البقاء، وعلى أن جعل الملائكة رسلا إلى الناس، تحمل إليهم رسالات السماء، بالهدى والنور، وتستغفر للمؤمنين بالله، وتصلى على رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه..
- وقوله تعالى: «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» صفة للأجنحة، وتدل هذه الصيغ على كثره المعدود، وأن الملائكة ذوو أجنحة، وأنهم فى ذلك ثلاثة أصناف، صنف له جناحان، وصنف له ثلاثة أجنحة، وثالث له أربعة أجنحة.. وهذه الأجنحة من نور، تتشكل من هذه الأنوار اللطيفة كما تتشكل صور الأشياء من عالم المادة..
وقوله تعالى «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» هو ردّ على من يتصور أن ذوات الأجنحة لا تكون إلا بجناحين، وأن الثلاثة لا يقوم بها نظام الطائر، كما أن الأربعة هى بمنزلة الجناحين.. وهذا فى تقدير الخلق، ولكن الخلاق العظيم المبدع، يخلق ما يشاء، ويزيد فى الخلق ما يشاء.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فإذا جعل لطائر، ثلاثة أجنحة، أو أربعة، أو ما شاء الله من أجنحة، كان ذلك بتقدير، وعلم، وحكمة.. «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» (٧: السجدة) قوله تعالى:
«ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» أي إن القدرة كلّها بيد الله وحده، لا يملك أحد شيئا بقدر به على أن
فما يرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس، من رحمة، أي من خير ورزق، لا يستطيع أحد رده، والحيلولة بينه وبين أن يصل إلى حيث أراد الله..
وما يمسك الله من شىء، فلا يستطيع أحد أن يرسله، ولا أن يزحزحه عن الموضع الذي هو فيه..
وقد قيّد ما يرسل من الله- سبحانه- بالرحمة، إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، وأنه رحيم بعباده، وأن رحمته وسعت كل شىء وأطلق ما يمسك، ولم يقيد بالرحمة أو غيرها، إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يمسك ما يمسك لاضنّا بما يمسكه، وإنما لحكمة وتقدير.. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الذي عز سلطانه فملك كل شىء، والذي قام ملكه على الحكمة، فلا يقع فيه شىء إلا بتقدير الحكيم العليم قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» وإذا كان الله سبحانه وتعالى، هو مالك الملك وحده، والمنصرف فيه بلا شريك يشاركه- فإن أي مخلوق يتوجه إلى غير خالقه، ويطلب الرزق منه، يكون قد ضل، ولن يبوء إلا بالخيبة والخسران.
- وقوله تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» استفهام إنكارى، ينكر على الذين يولّون وجوههم إلى غير الله، ويلتمسون الرزق من غيره- ينكر عليهم هذا الضلال، ويتبعهم إلى هذا المتجه الخاطئ الذي يتجهون إليه.. والإفك:
الافتراء والبهتان.
«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».
هو عزاء كريم من الله سبحانه وتعالى، للنبى صلوات الله وسلامه عليه، فيما يلقى من قومه من تكذيب، فهو ليس وحده الذي كذّب من قومه، فإن إخوانه الأنبياء من قبله، قد لقوا من أقوامهم مثل ما لقى، من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى، وتكذيب الضالين والجاهلين..
- وقوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» تهديد لهؤلاء المكذبين، وبأن أمرهم إلى الله، وأنهم راجعون إليه، فيقضى فيهم بحكمه، ويجزى المسيء منهم بما عمل!..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» وعد الله: هو ما وعد الله سبحانه فى آياته، وعلى لسان رسوله، من البعث والحساب.. والجزاء، والجنة والنار.
وهذا الوعد حق، وهو آت لا ريب فيه..
- وقوله تعالى: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» تنبيه للغافلين عن هذا اليوم، المتناسين أو الناسين لهذا الوعد، المشغولين عنه بما بين أيديهم من متاع الدنيا وزخارفها..
- وقوله تعالى: «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» الغرور: هو الشيطان، وسمى غرورا، لأن يغر الناس، ويخدعهم، ويزين لهم الضلال، فيأتونه وكأنه الهدى..
قوله تعالى:
«إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ»..
هو وصف كاشف لهذا «الغرور» وهو الشيطان.. إنه عدو للناس، ومن الحكمة أن يحذر المرء عدوه، وألّا يأمن جانبه.. وهو عدو خفى، وهذا يقضى بالانتباه الشديد إلى هذا العدو، وإلى الأساليب والحيل التي يدخل بها على الإنسان..
فكل منكر، وكل ضلال، من ورائه شيطان يدفع الإنسان إليه، ويزين له الطريق نحوه..
فإذا واجه الإنسان منكرا، أو تلبس به، فليذكر أنه ضحية عدوه هذا، وأنه قد تمكن منه، ونال غايته فيه.. فليجتهد ما استطاع أن يخرج من سلطان هذا العدو، وأن يفسد عليه صنيعه به، وأن يشد عزمه وإرادته، وأن يستحضر جلال الله وعظمته، وأن يذكر أنه فى موقفه هذا، على الطريق إلى جهنم، والشيطان هو الرائد إليها، والداعي إلى عذاب السعير..
قوله تعالى:
«الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».
وحزب الشيطان وأولياؤه هم الكافرون، والكافرون لهم عذاب شديد
الآيات: (٨- ١٤) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٨ الى ١٤]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ».
وقفت الآيات السابقة من المشركين موقف الناصح الداعي إلى الحق، الكاشف عن آيات الله، وآلائه، المحذّر من بأس الله وعذابه، المواسى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من تكذيب المشركين له.. فتلك هى سبيل الضالين مع رسل الله فى كل أمة..
وهنا فى هذه الآية، يتلقى النبي من ربّه عزاء جميلا، عن مصابه فى قومه، ودعوة كريمة إلى الرفق بنفسه، والترويح عنها، والإمساك بها بعيدا عن موطن الحزن والحسرة، على من لا يستحقون الأسى عليهم، والحزن لهلاكهم..
إن نفسه أعزّ على الله وأكرم من أن تشقى هذا الشقاء المعنّى، فى سبيل نفوس رخيصة ضائعة، لا يقام لها وزن..
- وفى قوله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» استفهام إنكارى، يراد به كشف هؤلاء المشركين للنبىّ، وأنهم قد زين لهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وأنهم من أجل هذا لن يتحولوا عمّا هم فيه أبدا..
وفى النظم القرآنى كلام محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» أيستجيب لداع يدعوه إلى غير هذا الذي زيّن له؟ ذلك ما لا يكون.. وهؤلاء المشركون الذين أمسكوا بشركهم، قد زيّن لهم هذا الشرك، فرأوه حسنا.. وإذن فلا يرجى منهم أن يستجيبوا لك أبدا.. ومن هنا فإن الأسى عليهم، والجزع من المصير الذي هم صائرون إليه- لا محلّ له، إذ كان هو المنزل الذي تخيّروه ورضوا به، وإذ كان ذلك هو الزاد الذي لن يستسيغوا غيره. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ».!
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى قضاء الله فى هؤلاء المشركين، فإنهم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (١٧: الكهف) قوله تعالى:
«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى، يبعث رسله بالرحمة إلى عباده، فيقبلها قوم، وبأباها آخرون. فهى أشبه بالغيث، ينزل من السماء، فتحيا بها أماكن منها، وتخرج الحبّ والثمر، على حين يتحول به بعضها إلى أحراش، تؤوي الهوام والحشرات.
- وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً» هو معطوف
والتقدير: إن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وهو سبحانه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً» واختلاف النظم فى «يَهْدِي» (بالفعل المتجدد) «وأَرْسَلَ» (بالفعل الماضي).. إشارة إلى أن الإرسال يسبق الآثار المترتبة عليه، وهى الإهداء، أو الإضلال، والإحياء أو الإماتة.. فالإرسال سابق، ولهذا عبّر عنه بالفعل الماضي.. والآثار المترتبة عليه، مستمرة، لا تنقطع، ولهذا عبر عنه بفعل المستقبل «يهدى».
- وفى قوله تعالى «كَذلِكَ النُّشُورُ».. إشارة إلى قضية البعث، التي هى مبعث ارتياب المشركين، وتكذيبهم للرسول فى كل ما يدعوهم إليه..
وفى هذه الإشارة دليل مادىّ محسوس يشهد لإمكانية البعث، وأنه إذا كانت الأرض الميتة المجدبة، ينزل عليها الماء، فتلد هذه المواليد العجيبة، من النبات، والزهر، والثمر، فإن هذه الأرض التي أودع فى ترابها الناس، ليس ببعيد أن ينفخ الله فيها نفخة الحياة، فتخرج ما فى بطنها من آدميين!..
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ».
أي أن هؤلاء المشركين إنما يتخذون هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله، ليكونوا لهم شفعاء عند الله، ولينالوا بهم عزا وجاها، كما يقول سبحانه
- وقوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ».. إشارة إلى أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يرد موارد عزّته إلا الطيبون.. والمشركون نجس، وإذن فلا طريق لهم إلى الله، ولا شىء لهم من العزة التي هى ملك يمينه..
وأنهم إذا أرادوا أن يأخذوا طريقهم إلى الله، وإلى العزة التي بين يديه، فليتطهروا من شركهم، وليؤمنوا بالله، وبغير الإيمان بالله لن يكون لهم طريق إلى الله.. فالكلم الطيب هو كلمة التوحيد: «لا إله إلا الله» وقوله تعالى:
«وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» - إشارة إلى الإيمان بالله يقيم صاحبه على أول الطريق إلى الله، ثم تكون الأعمال الصالحة التي تقوم وراء الإيمان هى التي ترفع صاحبها إلى الله، وتدنيه منه.. فإن الإيمان- مجرد الإيمان- دون عمل صالح، هو خير معطل، أشبه بالنبتة الصالحة فى الأرض الطيبة، لا يصيبها ماء! فإذا أصابها الماء اهتزت لها الأرض وربت وأنبتت من كل زوج بهيج..
«فالعمل الصالح» يزكى الإيمان، وينميه، ويثبت دعائمه، ويرفع بنيانه وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ»..
مكر السيئات: تدبيرها، والاحتيال فى التمكين لها.
وفى هذا تهديد للمشركين الذي يغرسون فى مغارس السوء، ويعملون فى مجال الضلال، إنهم لا يجنون من غرسهم هذا إلا أنكد الثمر وأخبثه.. إنه العذاب الشديد فى الآخرة، والحسرة والوبال فى الدنيا..
قوله تعالى:
«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو عرض لبعض سلطان الله، وقدرته، وأن له سبحانه العزة جميعا..
فهو- سبحانه- بقدرته، خلق الناس من هذا التراب الهامد. فهذا التراب هو الأصل الذي تخلقت منه النطف، التي تخلّق منها الأجنة فى بطون الأمهات، ومن الأجنّة كانت المواليد، وكان الناس..
وهذا التراب، الذي يبدو أنه أصل أول فى خلق الإنسان، هو فى حقيقته، قد مرّ فى أطوار كثيرة، حتى صار هذا التراب.. تماما كما مر الإنسان فى أطوار الخلق، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة.. إلى آخر ما هنا لك من صور وأطوار فى الخلق.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» إشارة إلى تنويع خلق الإنسان، فكان منه الذكر والأنثى.. كما يقول سبحانه وتعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (٣٧- ٣٩: القيامة)
والنقص من العمر، ليس نقصا فى العمر المقدّر فى كتاب الله للكائن الحي، وإنما هو نقص بالإضافة إلى من طال عمره.. فالذى قدر له أن يعيش أياما، أو شهورا، أو بضع سنين، إنما يعيش هذا العمر المقدر له فى علم الله، والمسطور فى كتابه، وهذا العمر، هو عمر يبدو ناقصا بالنسبة لمن يعيش عشرات السنين.. أما عمره فلم ينقص منه شىء.. وذلك كله يسير على الله، الذي لا يئوده حفظ هذا الوجود! قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ومن دلائل قدرة الله، وكمال عزته، أنه جمع بين البحرين، وفرق بينهما فى آن.. فهما فى واقع الحياة كائن واحد، يتشكل من مادة واحدة هى الماء.
ومع هذا فهما طبيعتان متغايرتان.. «هذا عَذْبٌ فُراتٌ» أي ماء حلو:
«سائع شرابه» أي تستبغ النفس شرابه، ويلذ لها طعمه.. «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ»
فأولا: الناس، وأصلهم من ماء، كهذا الماء. هم هذه النطفة، وقد فرقت القدرة الإلهية بينهم، كما فرقت بين العذب والملح فهناك المؤمنون والكافرون، وهما غير متساويين، كما أن الماء العذب والماء الملح غير متساويين.
وثانيا: الماء العذب، بقا له المؤمن، والماء الملح، يقابله الكافر. والمؤمن طيب، مقبول فى الحياة الإنسانية.. إنّه الحياة التي تمسك بوجودها على الصحة والسلامة، كالماء العذب، فهو الذي يمسك حياة الأحياء، ويقيم وجودها..
وثالثا: الماء الملح، وهو على ما به من ملوحة لا تقبلها النفس، يشارك الماء العذب، فى استكمال حياة الناس، وفى جلب كثير من المصالح لهم. وكذلك الكافر، إنه- على ما به- يشارك فى بناء الحياة الإنسانية، ويمثلّ جانبا مهمّا منها. إنه الكفة الأخرى التي يعتدل بها ميزان الحياة.. وإنه لولا الكافر، ما استبان وجه المؤمن، ولا عرف فضله، ومقامه..
ورابعا: الماء الملح، هو الكثرة الغالبة فيما على الأرض من ماء، وكذلك الكفر، هو الوجه العريض فى دنيا الناس، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ- وَلَوْ حَرَصْتَ- بِمُؤْمِنِينَ» (١٠٣: يوسف) وخامسا: أنه برسالات السماء، وهدى الرسل، يخرج المؤمنون من أحشاء
وهناك صور كثيرة لا تنتهى، يمكن أن يراها الناظرون فى الآية الكريمة، وفى النظر إلى الناس على ضوئها..
قوله تعالى:
«يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» ومن قدرة الله، وبسطة سلطانه، وكمال عزته.. أنه- سبحانه- «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» أي أنه سبحانه يدخل الليل، بظلامه الكثيف، فى أحشاء النهار، فيشتمل عليه النهار، ويستولى بسلطانه المشرق، على ظلماته المتراكمة..
فإذا الدنيا وقد خلعت هذا الرداء الأسود، ولبست ذلك الثوب النورانى، كما تلبس العروس ثوب زفافها.. وأنه سبحانه- بقدرته- «يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل هذا النور الساطع فى أحشاء الظلام، فيستولى الظلام بسلطانه على هذا النور.. وهكذا الحياة.. نور وظلام، وخير وشر، وعذب فرات وملح أجاج، ومؤمن وكافر..
- وقوله تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي ومن قدرته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر لسلطانه، وأجراهما بقدرته، كيف شاء، وأقامهما على هذا النظام المحكم الذي لا يدخل عليه أي اضطراب أو خلل:
- قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» القطمير: هو القشرة الرقيقة التي تكون غلافا للنواة فى داخل الثمرة..
أمّا الذين يعبدهم المشركون من أرباب، فإنهم لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. ما يملكون جميعا قشرة من نواة.. فما أضلّ من يلتمس العزّة، ويرجو الخير ممن لا يملك شيئا..
قوله تعالى:
«إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».
أي أن هؤلاء المعبودين الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله، إن يدعهم عابدوهم إلى أي أمر، ولأية حاجة- لا يسمعوا دعاءهم.. لأنهم أحجار صمّاء، ودمى خرساء.. «وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» أي لو قدّر لهم أن يسمعوا- فرضا- أو كان فيهم من يسمع- فعلا- كالملائكة والجنّ، وغيرهم ممن يعبدهم المشركون- ما استجابوا لهم، وما أسعفوهم بما يطلبون منهم.. إنهم يطلبون شيئا ممن لا يملك شيئا.. وفاقد الشيء لا يعطيه..
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ».. وأكثر من هذا
وقوله تعالى: «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إشارة إلى أن ما تحدّث به الآية من تلك الحقائق، هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، لأنه من عند الله، العليم الخبير.. وهذا ما يقضى بالتصديق بهذه الأخبار، والعمل بها، وأخذ العبرة منها، لأنها ممن يعلم الغيب فى السموات والأرض، وكلّ علم يخالف هذا العلم، باطل، وضلال..
الآيات: (١٥- ٢٣) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»
- وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ» دعوة للناس أن يتجهوا بحاجاتهم إلى من يملك كل شىء، ومن بيده الخير كله.. والناس جميعا فى حاجة دائمة إلى من يعينهم، ويقضى حوائجهم، وهم يتوسلون إلى هذا بكثير من الوسائل، ومنها عبادة الأصنام، والملائكة والجنّ، والملوك وأصحاب الجاه والسلطان، يبغون بذلك الخير منهم.. وكلهم إنما يتناولون ما بين أيديهم من جاء، أو سلطان، أو مال- من عطاء الله.. إنهم فقراء إلى الله..
إن حبس عنهم العطاء، كانوا أفقر الفقراء، وأضعف الضعفاء.. وإذن فالناس جميعا- غنيّهم وفقيرهم- فقير إلى الله.. «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (٢٠: الإسراء) وقوله تعالى: «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» حثّ للناس على الطلب من الله، والرغب إليه فيما عنده.. فإنه سبحانه غنىّ، لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بالعطاء أبدا.. «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» (٣٢: النساء) فهو سبحانه يستجيب لمن سأله، ويعطيه ما شاء من فضله.. وهو سبحانه «حميد» أي يحمد لعباده ما يلقون به عطاءه، من حمد وشكر، أيّا كان هذا العطاء، قليلا أو كثيرا..
إنه فضل من فضل وإحسان من إحسانه.. وإن من لا يشكر على القليل لا يشكر على الكثير..
قوله تعالى:
«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي إن من فقركم إلى الله، أيها الناس، هو احتياجكم إليه فى حفظ حياتكم..
(٥٦- ٥٨ الذاريات).. فإذا لم يؤدّ الناس واجب الشكر لله، ولم يقوموا على الوظيفة التي خلقهم الله لها، لم يكونوا أهلا ليشغلوا هذا المكان، وكان أولى أن يشغله غيرهم، ممن يعرف لهذا المكان قدره، ويؤدى المطلوب منه فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (٣٨: محمد) «وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي ليس عسيرا على الله أن يستبدل خلقا بخلق، وعالما بعالم، وكيف وهو الخالق لكل شىء؟
قوله تعالى:
«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ.. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» جاءت هذه الآية تعقيبا على الآيتين السابقتين اللتين حملتا تهديدا للناس بإفنائهم جميعا، إذا هم لم يوفوا حق الله عليهم، من إيمان به وشكر له..
وفى هذه الآية تفرقة بين الناس، الذين وضعتهم الآيتان السابقتان وضعا واحدا فى مقام التهديد..
فالناس، وإن كانوا مجتمعا واحدا، هم أشبه بالجسد الواحد، يتأثر، ويشقى
كلّ منهم له وجوده الذاتي، وحياته الخاصة به، وحسابه الذي يقوم عليه ميزانه فى مقام الخير والشر على السواء.. فإذا نظر إلى الإنسان من خلال المجتمع، كان عليه أن يكون عضوا صالحا فيه، ثم كان عليه أيضا أن يعمل على إصلاح ما يظهر من فساد فى مجتمعه.. ففى ذلك حماية له من عدوى الفساد، ومن ريحه الخبيثة، أن تفسد عليه حياته..
ثم إذا نظر إليه من خلال ذاته- صالحا كان أو فاسدا- كان التعامل معه فى مقام الحساب والجزاء على أساس شخصى.. فله إحسانه كله، وعليه إساءته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
- «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» والوزر: الإثم والذنب.
والوازرة. حاملة الوزر، والمراد بها ذات الإنسان..
والمعنى، أنه لا يحمل إنسان ذنب غيره، ولا يعينه فى حمله، وإن كان حمله خفيفا، وحمل غيره ثقيلا، ولو كان حامل هذا الحمل الثقيل قريبا، كأب، أو ابن، أو زوج، أو أخ لمن يدعوه إلى حمل بعض ما حمل.. كما يقول سبحانه بعد هذا:
- «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» هذا هو ميزان الحساب للناس.. لكل إنسان عند الله، جزاء ما عمل..
قوله تعالى:
- «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» أي إنما ينفع هذا البيان، وذلك النذير، من يخشى الله بالغيب، ويعرف
وفى قصر الإنذار على الذين يخشون ربهم بالغيب، مع أن الرسول نذير وبشير للناس جميعا- فى هذا إشارة إلى أن الذين ينتفعون بهذا النذير، هم الناس، وهم أهل للخطاب، وأما غيرهم، فلا حساب لهم ولا وزن فى هذا المقام..
- قوله تعالى: «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» معطوف على قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» وكان النظم يقضى بالتوافق فى وحدة الزمن بين الفعلين المتعاطفين، فيكونان مضارعين أو ماضيين،.. ولكن جاء الحديث عن الخشية بالفعل المضارع، الذي يحمل زمنا متجددا، على حين جاء الحديث عن إقامة الصلاة بالفعل الماضي، الذي يقطع الفعل عن المستقبل، وهذا لا يكون فى القرآن الكريم إلا عن حكمة، وتقدير..
والذي يبدو لنا من هذا- والله أعلم- أن الخشية لله بالغيب، لا تكون إلا عن طبيعة تتقبل التعامل بما وراء المادة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما الطبيعة التي تلبست بها المادة، وسيطرت عليها، فلا يكون منها نظر إلى ما وراء المادة، ولا تقع منها خشية لله، لأنها لا ترى الله، ولا تشهد جلاله، وسلطانه.. فالإنذار لا يفيد، ولا يؤثر، إلا إذا صادف طبيعة من شأنها أن تتقبل الإيمان بما وراء المادة، وعن هذه الطبيعة تصدر الخشية من الله، فى كل حال، وفى كل موقف يقفه صاحب هذه الطبيعة، فيشهد فى أي حال
ومن جهة أخرى، فإن هذه الطبيعة التي من شأنها أن تخشى الله بالغيب، وتتوقّى الوقوع فى الإثم- هذه الطبيعة لا يقيمها على الطريق القويم، ولا يجلو بصيرتها جلاء ترى على ضوئه ما لله- سبحانه- من كمال، وجلال، وسلطان- إلا الصلاة، وإقامتها على وجهها الصحيح.. فهى التي تعطى الخشية مضمونا ذا قيمة مؤثرة فى سلوك الإنسان، كما أن الخشية هى التي تعطى الصلاة قدرا وأثرا.. فالصلاة من غير خشية لا ثمرة لها، ولا خير منها.. والخشية التي لا تغذّيها الصلاة وتنميها، هى زرع حبس عنه الماء، فلا يلبث أن يذوى، ويذبل، ثم يجفّ ويموت فمن الخشية لله، أن تقام الصلاة، فمن لا يخشى الله لا يقيمها، ومن أقامها على غير خشية، فلا نفع له منها..
فخشية الله، هى أساس الإيمان، وملاك كل عمل يعمله المؤمن بالله..
فإذا خلا قلب الإنسان من خشية الله، لم يكن ثمة إيمان، ولم يكن ثمة عمل يقوم فى ظل هذا الإيمان..
وفى الحديث الشريف: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن».. فالمراد بنفي الإيمان هنا، هو نفى الخشية من الله، عند ارتكاب هذه المنكرات.. فلو كان الإنسان المواجه لهذه المنكرات على خشية من الله ما أقدم على اقتراف واحدة منها..
فالخشية المطلوبة من المؤمن، خشية دائمة، متجددة.. ومن هنا كان التعبير عنها بفعل الاستمرار والتجدد..
واختصت الصلاة بالذكر لأنها عمود الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» (١١: يس) وقوله سبحانه: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ».. (٢- ٣: البقرة) قوله تعالى:
«وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ»..
التزكى: التطهر، من الشرك، والكفر، ومن الآثام والمنكرات..
أي ومن تطهر من الشرك والكفر، وجنّب نفسه التلوث بأقذار الآثام والمنكرات، فإنما يتطهر لنفسه، حيث تظهر آثار ذلك عليه، وتكون عائدة هذا التطهر راجعة إليه، يوم يعرض على ربه نقيا، طاهرا، فيدخل فى رضوان الله مع الطيبين الطاهرين..
[الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة] قوله تعالى:
«وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ»..
فى هذه الآيات عرض لما بين الأشياء ونقيضها من تفاوت بعيد، واختلاف شديد.. وأن الشيء ونقيضه لا يستويان أبدا..
والظلمات.. والنور. لا يستويان كذلك. هذه ظلمات، وذاك نور..
والظل.. والحرور.. لا يستويان أيضا.. هذا ظل بارد، وذاك سموم حار..
والأحياء.. والأموات.. على رفى نقيض.. هؤلاء أحياء، وأولئك أموات هامدون..
ويلاحظ هنا أمران:
أولهما: جمع الظلمات، وإفراد النور..
وذلك لأن الظلمات هى ظلال أشباح، داخلة إلى عالم النور، إذ كان العالم كله نورا من نور الله، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فالعالم كيان واحد من نور، وهذا الظلام الذي يرى فى العالم، إنما هو من ظلال تلك الأشباح الكثيفة الداخلة عليه..
ومن جهة أخرى، فإن الذي يعيش فى النور، إنما يأخذ طريقا واحدا فيه إلى غايته، أما الذي يعيش فى الظلمات، فإنه لا يعرف له طريقا.. بل يتحرك مضطربا على طرق شتى..
وثانيهما: تقديم الظل على الحرور، والأحياء على الأموات.. وكان النظم يقضى بتقديم الحرور على الظل، والأموات، على الأحياء، لتتسق ألوان الصورة كلها، فيكون الأسود المعتم (الأعمى، والظلمات، والحرور، والأموات) - فى جانب، والأبيض المشرق (البصير، والنور، والأحياء، والظل) - فى جانب آخر! فما حكمة هذا؟.
نقول- والله أعلم- إن الجواب على هذا من وجهين:
فقدمت هنا نعمتان، على حين قدمت قبلهما آفتان، هما العمى والظلمات..
وفى هذا التوزيع توازن لألوان الصورة، حيث جاءت هكذا:
آفتان تقابلان نعمتين.. العمى والبصر، والظلام والنور..
ونعمتان تقابلان آفتين.. الظل والحرور، والحياة والموت.
وثانيا: أن الأصل فى نفى الاستواء- وهو التوازن بين الشيئين- أن يقع أولا على الناقص منهما، فيقدّم المفضول على الفاضل، كما فى قوله تعالى:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ»..
(٢٩: الحشر) وقوله سبحانه: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».. (٩٥: النساء) هذا هو الاستعمال فى أصل اللغة، فإذا خرج الاستعمال عن هذا الأصل، كان ذلك لغاية يراد لها.. كما فى قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (٩: الزمر) وذلك حين لا يكون المراد هو تقرير حكم فى المفاضلة بين أمرين، وإنما المراد هو الإلفات إلى أن الأمور ليست على وجه واحد، وإنما لكل أمر وجهان.. وجه، وضدّ لهذا الوجه.
مثل الوجود والعدم، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظل والحر، والعذب والملح.. وهكذا.. والمطلوب من الخصم أن يعترف به هنا، هو أن الشيء الذي يمسك به، ليس هو كل الشيء، وإنما يقابله نقيضه، الذي يجب أن ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه، على الوجه الآخر، الذي لهذا الشيء..
فإذا كان المشركون يمسكون بالشرك، ولا يرون أن هناك معتقدا غيره-
الشيء وضده.. وليس الشرك الذي بين أيديهم بدعا من الأشياء..
فليبحثوا عن الوجه الآخر المقابل له.. فإذا فعلوا، كانت المرحلة الثانية من مراحل النظر، وهى أن يوازنوا بين ما معهم من شرك، وبين الوجه الآخر المقابل له، وهو الإيمان..
وقد جاء الأمران الأولان على الأصل، فقدّم فيهما المفضول على الفاضل، على حين جاء الأمران الآخران على غير الأصل، فقدم فيهما الفاضل على المفضول.. وبهذا أخذ كل من الفاضل والمفضول مكانه فى الصورة على قدم المساواة.. لأن الأمر- كما قلنا- لم يكن يراد منه المفاضلة، وإنما المراد هو إثبات تلك الحقيقة التي لا خلاف عليها، وهى الازدواج فى الأشياء، والتقابل بين الشيء وضده..
وفى مجىء المقطع الأول من الصورة، على أصل الوضع فى اللغة، الذي يتفق مع مجرى التفكير، وذلك بتقديم المفضول على الفاضل، فى مقام الموازنة والمفاضلة بينهما- فى هذا التقاء مع المشركين على أمر لا خلاف عليه، بين مؤمن وغير مؤمن.. وهذا من شأنه ألّا يصدم تفكيرهم، ولا يخرج بهم عن مألوفهم، الأمر الذي يدعوهم إلى الاستماع إلى هذا الذي يعرض عليهم، وإلى النظر فيه..
فإذا وقع مقطع هذا الحديث من أنفسهم هذا الموقع، واجههم المقطع الآخر من الصورة، وهو مقطع قد انقلب فيه الوضع، وانعكست فيه مواقع الأمور، فقدّم ما حقه التأخير، وأخّر ما حقه التقديم، وفى هذا إشارة إلى أمرين:
وثانيهما: أنهم لو أرادوا أن يقيموا الصورة كلها على وضع سليم، لكان عليهم أن يغيّروا بأيديهم هذا الوضع الذي أخذه المقطع الثاني من الصورة، وأن يجعلوه موافقا للوضع الأول، فيقدموا الحرور على الظل، والأموات على الأحياء، وبهذا يكون الحكم على المطلوب صادرا منهم، فتجىء الصورة العامة هكذا:
«وما يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الحرور ولا الظل ولا الأموات ولا الأحياء».. إنها عملية تدعو إلى تحريك العقل، وإلى أن يعمل عملا جادّا على تسوية هذه المتناقضات.. فإذا اتجهت عقولهم إلى هذا الاتجاه، كان من طبيعة الأمور ألّا ترصى عقولهم بهذه المتناقضات، التي تقوم فى كيانهم، حيث يؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان.. وهكذا تجىء آيات الله، بهذه الإيحاءات النفسية، التي تدخل العقل فى رفق ولطف، إلى مواطن الهدى، ومواقع الخير..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ».. إشارة إلى أن الناس فريقان:
فريق يسمع آيات الله ويستجيب لها، وفريق لا يسمع ولا يستجيب..
وفى إسناد الإسماع إلى الله تعالى، إشارة إلى أن هذا الأمر كلّه بيد الله، وكل شىء معلق بمشيئته: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣٩: الأنعام) :
وقوله تعالى: «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» تيئيس للمشركين الذين استولى عليهم الشرك، أن يكونوا فى السامعين، وإراحة للرسول من بذل الجهد فى سبيل إسماعهم.. إنهم أموات.. وليس من عمل الرسول أن يسمع الأموات.. «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ». (٨٠: النمل) «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ».. فهذا هو عمل الرسول.. إنه نذير، ينذر هؤلاء الضالّين، ويخوفهم عذاب الله، وليس من شأنه أن يفتح آذانهم التي أصمها الله عن أن تسمع كلماته.. وقد اقتصر هنا على جانب من رسالة الرسول، وهو الإنذار، لأن الخطاب فى مواجهة المشركين، الذين لن يؤمنوا أبدا، والذين ليس لهم إلا ما تحمل إليهم النذر من عذاب، وبلاء..
الآيات: (٢٤- ٢٨) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
قوله تعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وليس الرسول.. صلوات الله وسلامه عليه.. نذيرا وحسب، وإنما هو نذير وبشير.. نذير للضالين المكذبين، وبشير للمؤمنين المهتدين..
وفى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» إشارة إلى أن الله سبحانه قد بعث فى كل أمة رسولا، ينذر، ويبشر.. كما يقول سبحانه.
«رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (١٦٥: النساء).
واقتصر هنا فى رسالة الرسل، على الإنذار، لأن المقام- كما قلنا- مقام تهديد للمشركين وأهل الضّلال، ولأن أبرز جانب فى حياة الرسل، هو الجانب الإنذارى، حيث كانت حياتهم جهادا متصلا لأهل الكفر والضلال..
قوله تعالى:
«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ»
والزبر: جمع زبور، مثل عمود، وعمد..
والزّبور، الشيء المقطوع من أصل.. والمراد بالزّبر هنا، ما كان ينزل على الأنبياء من آيات الله، تحمل عظات وعبرا، وبشريات، ونذرا..
والكتاب المنير: هو التوراة.. كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (٤٤: المائدة) والآية مواساة للنبىّ، وعزاء كريم له من ربه، فيما يلقى من قومه من تكذيب.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- ليس أول رسول يلقى من قومه ما لقى، من اتهام وتكذيب، وإنما ذلك شأن الرسل قبله مع أقوامهم، جاءوهم بمعجزات مادية محسوسة، وجاءوهم بآيات الله وكلماته، وجاءوهم بكتاب منير من عند الله، يحمل دستورا متكاملا، للحياة الدنيا والآخرة- جاءوهم بكلّ هذا، فما وجدوا منهم إلا البهت والتكذيب، وإلا التهديد والأذى..
«فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ.. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (٣٥: الأحقاف) وقوله تعالى:
«ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» تلك عاقبة المكذبين برسل الله.. لقد أخذهم الله بذنوبهم، وصبّ عليهم البلاء، صبا: «فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٤٠: العنكبوت) - وقوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» إلفات إلى بأس الله، وما أخذ به الظالمين، الذي أتوا المنكرات، فأنكر الله عليهم ما أتوه، وليس بعد إنكار الله
انظر.. إنه شىء مهول.. نعوذ بالله منه..
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ.. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» الجدد: القطع، واحدتها جدّة.. ومنه «جدّة» البلد المعروف على ساحل البحر الأحمر من الجزيرة العربية، لأنها جدّت أي قطعت من الآكام والهضاب القائمة فى هذا الموقع.. ومنه أيضا قول الشاعر..
أبى حبّى سليمى أن يبتدأ | وأمسى حبها خلقا جديدا |
والغرابيب: جمع غربيب، مثل قنديل وقناديل، وهو الشيء الحالك السواد، ومنه سمى الغراب غرابا..
والآية معرض من معارض الخلق والإبداع، لقدرة الله سبحانه وتعالى..
وفيها إلفات إلى هؤلاء السادرين فى غيهم، الهائمين فى ظلمات جهلهم وضلالهم، أن يقيموا وجوههم على هذا الوجود، وأن يفتحوا أبصارهم على صحفه، وأن يقرءوا ما خط على هذه الصحف من سطور، تحدث عن قدرة الخالق، وإبداعه، وعلمه، وسلطانه..
- وفى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» خطاب للنبىّ ولكلّ من هو أهل لهذا الخطاب، من كل ذى عين، وعقل..
فمن هذا التراب الأسود، اكتست الأرض العارية الجديب، بحلة قشيبة، من الزهر، والثمر، المختلف الألوان، بين أحمر، وأصفر، وأبيض.. إلى غير ذلك مما لا حصر له من ألوان..
فمن أبدع هذا، وصوره على تلك الصور الرائعة المذهلة؟
«أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها.. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» (٦٠: النمل) قوله تعالى:
«وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» سطور أخرى من صفحة الوجود.. يرى فيها الناظرون بألبابهم، قدرة الله وإبداعه فى هذا الجماد الجامد، وفى الجبال الثابتة الراسخة بالذات- إنها ليست أكوانا متضخمة بلا وزن ولا حساب، بل إن يد القدرة ممسكة بكل ذرة فيها، وإن الناظر ليرى فى ألوانها المختلفة من أبيض وأحمر، وأسود وما بين الأبيض والأحمر، والأسود- أن يدا قادرة، مدبرة، قد أقامتها بحساب دقيق وتدبير محكم، حيث أن وراء هذه الألوان صفات أخرى لتلك الجبال، فاللون الأبيض وراءه أحجار جبرية، على حين أن اللون الأحمر يضم أحجارا صلدة جامدة، أما اللون الأسود، ففى كيانه أحجار أشد صلابة، وأكثر احتمالا..
ففى هذه الألوان علم ينفذ منه العقل إلى حقائق، ومعطيات، فيها خير كثير،
فالعالم الإنسانى مثلا.. كل إنسان عالم بذاته.. فى صورته، ولونه، ولسانه، وفى مشاعره، وتفكيره، وتصوراته، وخواطره، بحيث لا يكاد يتفق إنسان وإنسان.. والدواب.. والأنعام كذلك.. كل حى منها، وإن بدا أنه قريب الشبه بغيره، فإن لكل حىّ منها صفات ظاهرة وباطنة، تميزه من غيره.
ولكن من الذي يرى هذا، ويدرك الفروق الظاهرة، أو الخفية بين هذه المخلوقات؟ إنه لا يرى هذا إلا أهل العلم، وأصحاب النظر، الذين ينظرون بعقولهم لا بعيونهم وحدها.. ولهذا جاء قوله تعالى، تعقيبا على هذه الدعوة الداعية إلى النظر فى تلك الموجودات:
«إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» فإن هذه الخشية لله، التي تقع فى القلوب، وتستولى على المشاعر، لا تجىء إلا عن علم بما لله من جلال، وقدرة، وعلم، وحكمة.. وهذا العلم لا يحصّل إلا بالبحث الجادّ، والنظر المتأمل، والعقل الدارس المفكر، فى خلق السموات والأرض، وما فى السموات والأرض..
فمعرفة الله أولا، ثم الخشية له ثانيا..
وإنه لا معرفة إلا عن نظر، وتفكر، وتدبر..
فمن كان أكثر معرفة لله، وعلما بما له من صفات الكمال والجلال- كان أكثر خشية لله، وتوقّيا لحرماته..
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» أي أنه مع ما لله من عزة وقوة وسلطان، فإنه سبحانه، غفور، يلقى أهل الإساءة بالمغفرة، إذا سألوا هم مغفرته، وطلبوا عفوه، والتمسوا رضاه.
الآيات: (٢٩- ٣٧) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٩ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة، أشارت إلى العلم، وإلى ما للعلماء من مقام عند الله، وما فى قلوبهم من خشية له، وذلك بما علموا من دلائل قدرته بالنظر فى آياته الكونية، نظرا عاقلا، مدركا، متفحصا. ملأ قلوبهم خشية لله، ومراقبة له، ومجانبة لحرماته..
وهنا- فى هذه الآية- دعوة إلى النظر فى آيات الله القرآنية، وما يقع للعقل منها من علم بالله سبحانه، وبما له- سبحانه- من علم، وحكمة، وقدرة..
ففى هذه الآيات القرآنية، معجزات، يرى فيها الذين يتلونها تلاوة مبصرة، وشواهد ناطقة تشهد بما لله من كمال وجلال، تماما كما يرى الراءون لآيات الله المادية المعجزة..
«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ» دعوة إلى التلاوة المتدبرة الفاقهة، التي تحصّل علما وحكمة، وهى التي تملأ القلوب إجلالا وخشية لله.
«وَأَقامُوا الصَّلاةَ».. الجملة هنا حالية من فاعل يتلون، أي يتلون كتاب الله، أي يخشون الله، وقد أقاموا الصلاة، فى ظل من هذه الخشية، وفى استصحاب لها..
فالآية هنا مثل قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» (١٨: فاطر).
«وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» معطوف على «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» أي وأنفقوا مما رزقهم الله سرّا وجهرا، فى ظل من خشية الله كذلك، وفى استصحاب لتلك الخشية..
«يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ».. خبر إن.. أي أن هؤلاء الذين يتلون كتاب الله، تلاوة تملأ قلوبهم خشية لله، ثم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة- وهم على خشية من الله- هؤلاء يرجون تجارة رائجة، رابحة لن تبور..
بل إنها تجد من يشتريها منهم، ويضاعف لهم الثمن فيها.. وإنه الله سبحانه وتعالى هو الذي يشترى منهم هذه البضاعة، ويضاعف لهم الثمن عليها..
قوله تعالى:
«لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ».
هو تعليل لنفى البوار عن تجارة هؤلاء العاملين، إنها تجارة يتقبلها
قوله تعالى:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ».
هو إلفات إلى هذا الكتاب، الذي دعت الآية السابقة إلى تلاوته..
وأنه هو الحق، المصدق لما بين يديه من الكتب السابقة..
- وقوله تعالى: «مِنَ الْكِتابِ» من للتبعيض، وهذا يعنى أن ما كان قد نزل من القرآن الكريم، لم يكن كل القرآن، بل بعضه.. وهذا هو الواقع، فإن السورة مكية.. وهذا يعنى أن القرآن المدني لم يكن قد نزل منه شىء بعد..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ».. أي إنه سبحانه عالم بما يصلح أمر العباد، بصير بهم، فينزّل عليهم من آياته، فى كل زمن ما يناسبهم، ويتفق وعقولهم..
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»..
الكتاب هنا، هو القرآن الكريم..
ففى العطف بحرف «ثم» إشارة إلى أن ما أوحى إلى النبي حتى نزول هذه الآية، لم يكن إلا بعضا من الكتاب.. وأن ميراث المسلمين لهذا الكتاب لم يأت بعد، لأن الكتاب لم يتم نزوله، وسيتم ذلك بعد بضع سنوات. ولهذا جاء العطف بثم ليفيد هذا التراخي فى الزمن، بين نزول هذه الآية وبين تمام نزول القرآن:
- وفى قوله تعالى: «أَوْرَثْنَا» - إشارة أخرى إلى أن هذا الكتاب، هو ميراث المسلمين على مرّ الأزمان، وأنه لهم خالصة من دون الناس، إذ كانوا هم الذين ينتفعون به، ويجنون الثمر الطيب منه.. وسمّى القرآن ميراثا، لأنه فضل من فضل الله سبحانه وتعالى، لم يحصله المسلمون بكدّهم وسعيهم، وإنما وضعه الله بين أيديهم، إحسانا وفضلا.
- وفى قوله تعالى: «اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» إشارة ثالثة إلى أن هؤلاء المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب، هم المصطفون من عباد الله جميعا، لأنهم هم المؤمنون.
وهذا يعنى أن الذين لا يؤمنون بهذا الكتاب، ليسوا على الإيمان،. بل هم كافرون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ»
وهذا يعنى من جبهة رابعة أن المسلمين جميعا هم الفريق المصطفى والمتخير من فريقى الناس.. إذ الناس فى الدنيا فريقان:
مؤمن، وكافر، كما يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٢: التغابن).. وهم فى الآخرة فريقان كذلك. كما يقول الله تعالى
إنهم فى مجموعهم، ثلاث طوائف: طائفة آمنت بالله، ولكنها لم تعمل بهدى هذا الإيمان، ولم ترتفع بأعمالها إلى مستواه، فظلمت نفسها بالوقوف عند أول درجة من درجات الكمال، وقد فتح أمامها الطريق إليه، وأقيمت لها على جوانبه معالم الهدى.. وإنه لا عذر لها فى التوقف عن السير فى هذا الطريق الآمن المطمئن، لتجنى ما وعدت به على طريقه من خيرات ومسرات..
وهذه الطائفة هى طائفة العصاة من المؤمنين، أصحاب الكبائر.. وطائفة أخرى.. آمنت به كذلك، ولكنها لم تقف عند أول منزلة من منازل الإيمان، بل خطت خطوات بطيئة متمهلة.. تسير حينا، وتتوقف حينا..
ومع هذا فهى على الطريق سائرة.
وهؤلاء هم المؤمنون، الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. فأحسنوا وأساءوا، وأطاعوا وعصوا.. وهؤلاء هم وسط بين الذين ظلموا أنفسهم، والذين سبقوا بالخيرات. وهم الطائفة الثالثة من طوائف المؤمنين.. أما الطائفة الثالثة فهى طائفة أولئك الذين ساروا سيرا حثيثا على طريق الإيمان، فلم يقفوا عند إثم، ولم يسكنوا إلى كنف معصية، فسبقوا بالخيرات، وبلغوا الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم.. وهؤلاء هم الأتقياء، والصالحون، والأبرار، وهم الذين أنعم الله عليهم، ومنحهم التوفيق، وحفظهم من الزلل على الطريق..
ونخلص من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما على ضوء هذه الآية الكريمة:
الحقيقة الأولى، هى أن المسلمين، الذين أورثهم الله القرآن الكريم، هم جميعا- المستقيم منهم والمعوج، والمطيع والعاصي- هم الفريق المصطفى المتخير من الله من بين عباد الله.. فالمسلمون فريق.. والناس جميعا فريق..
الحقيقة الثانية، وهى أن أهل هذه الملة جميعا ناجون، وأن أهل المعصية منهم إذا حبسوا على النار قليلا أو كثيرا، فإنهم من أهل الجنة. وهذا ما بشير إليه الحديث الشريف: «من قال لا إله إلا الله مؤمنا بها قلبه دخل الجنة» وفى الحديث أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وينبنى على هاتين الحقيقتين أمور:
أولها: أن على المسلم أن ينظر إلى نفسه، فى هذا المقام الكريم الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيه، وجعله من أهل اصطفائه، وهذا يقتضيه أن يحرص الحرص كله على أن يحتفظ بمكانه هذا، وأن يطلب منزلة أعلى، فى منازل الإيمان التي لا حدود لها، وألا يسفّ ويتدلّى، فتزلّ قدمه بعد ثبوتها..
وثانيها: أن المسلمين إنما أورثهم الله القرآن الكريم، بعد أن تخيرهم له من بين الناس.. فهم أهله، وأولى الناس به.. ولن يكونوا أهله وأولياءه إلا إذا
فهو أمانة فى عنق كل إنسان، وهو أمانة فى أعناق المسلمين جميعا.. وعلى هذا فإن هذا الميراث لن يضيع أبدا.. إذ لو بقي فرد واحد من المسلمين، لكان هذا الكتاب ميراثا له ولكان أمانة فى عنقه، ولكان مطالبا بحمل الأمانة، مطالبا بأدائها..
وقدم الظالم لنفسه، لأن الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي هم الكثرة فى المسلمين، ثم جاء بعدهم المقتصدون، وهم أقل منهم عددا، ثم جاء السابقون بالخيرات بإذن ربهم، لأنهم قلة فى المسلمين، وصفوة صفوتهم.. وقيل إن هذا الترتيب منظور فيه إلى الأحوال التي تعترى الناس فى هذا المقام، وهى ثلاث: معصية، ثم توبة، ثم قربة.. فإذا عصى العبد فهو ظالم، فإذا تاب، فهو مقتصد، فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته، فهو سابق.. وقيل قدم الظالم، لئلا يبئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله، فتعيّن توسط المقتصد.
وقوله تعالى:
«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» «جَنَّاتُ عَدْنٍ» بدل من قوله تعالى: «الْفَضْلُ الْكَبِيرُ».. فالفضل
وقوله تعالى: «يَدْخُلُونَها» خبر لجنات أي جنات عدن يدخلها المؤمنون.
وقوله تعالى: «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ».
هو حال من الفاعل فى قوله تعالى: «يَدْخُلُونَها» وهذه الحلىّ التي يلبسها المؤمنون فى جنات عدن، هى من بعض ما كانوا يشتهون فى دنياهم، أو مما كانوا يتمتعون به، ويجدون المسرّة منه.. فيكون من تمام النعمة عليهم أن ينالوا كلّ شىء كان مشتهى لهم فى دنياهم، وقصرت عنه أيديهم، أو كان متعة من متعهم فى هذه الدنيا..
وليس هذا كل نعيم أهل الجنة، بل هو شىء لا يكاد يذكر إلى ما هناك من نعيم لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. ولكنه من شهوات النفس فى دنياها، فلا نحرم منه إذا هى نزلت منزل الإحسان المطلق، والنعيم الشامل.. تماما كما يجىء إنسان من أقاصى الريف إلى مدينة كالقاهرة..
إن كل ما فى نفسه أن ينال شيئا مما كان يراود خياله، ويطرق أمله، كأن يدخل «السينما» أو يجلس فى مطعم فيأكل حتى يشبع، أو يلبس بدلة!! أو نحو هذا..
إن آماله وهو فى عيشه الضيق الضنك، لا تتسع لأكثر من هذا..
ولك فى هذا مثل تجده فى طوارق الأحلام.. إن كل إنسان يقع له فى أحلامه، ما يشتهيه فى يقظته، وتقصر عنه يده..
وفى عالم الأحلام متسع لكل شىء.. ومع هذا فإن المحروم من الشيء لا يكاد يحلم إلّا به، وإن كان عند غيره تافها لا يلتفت إليه فى يقظة أو منام.. وفى المثل:
«الجوعان يحلم بالرغيف!» فمخطىء أولئك الذين يتهمون الإسلام من هذا الجانب، ويحقرون
فأولا: ليس هذا هو كلّ نعيم الجنة التي وعد به المتقون، وإنما هو- كما قلنا- شىء قليل قليل إلى كثير كثير، لا حصر له، مما لم تره عين فى هذه الدنيا، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر..
وثانيا: أن هذا الذي يساق إلى أهل الجنة من نعيم الدنيا، ليس فرضا عليهم، وإلزاما لهم، بل هو استجابة لمطلب كان لهم فى الدنيا، وعزّ عليهم الحصول عليه.. وأنه لكى تتم سعادتهم، ولكى يدركوا أن ما فاتهم فى دنياهم لم يكن إلا شيئا تافها إلى هذا النعيم الذي أعدّه الله لهم- كان وضع هذا المتاع الدنيوي بين أيديهم، إزاء ما فى الجنة من نعيم.
وثالثا: ليس هذا النعيم جسديّا، بل إن الرّوح لتجد راحتها وسعادتها فى حصولها على ما حرمت منه، ولو كان أمرا ماديا فى ذاته.. كما يقع ذلك للروح فى عالم الأحلام.. إن ما يقع فى الأحلام من أمور تستجيب لرغبة الإنسان، هى مما يسعد نفسه، ويرضى مشاعره..
قوله تعالى:
«وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ»
فهم يحمدون الله مع كل نعمة تطلع عليهم من نعيم الجنة التي لا ينقطع نعيمها لحظة.. لقد أذهب الله عنهم فى هذا المقام الكريم «الحزن» الذي كان قد وقع فى نفوسهم لما فاتهم من متاع الدنيا، ولما ابتلوا به فيها من مصائب وفتن.. ولقد غفر الله لهم ما كان منهم من ذنب، وما فعلوه من منكر، وستره عنهم، فلم يروه، حتى لا يسوءهم وجهه، وهم فى رضوان الله، وفى رحاب فضله وإحسانه، وشكر لهم الله القليل من صالح أعمالهم فجزاهم عليه هذا الجزاء العظيم.
قوله تعالى:
«الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ»..
النّصب: التّعب من العمل والجهد.. واللغوب: الإعياء والفتور..
أي وإنهم ليحمدون الله سبحانه، أن أنزلهم هذه الدار الكريمة الطيبة من فضله، والتي لا يتحولون عنها أبدا، والتي لا يمسهم فيها تعب أبدا، ولا ينالهم أدنى عناء أو مشقة.. لأنهم ينالون ما شاءوا من نعيم. وينعمون بما اشتهوا من طيبات، دون أن يبذلوا لذلك جهدا، أو يعملوا له عملا..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» أما أهل الكفر والضلال، فإن لهم دارا غير هذه الدار، وحياة غير تلك الحياة.. إن دارهم هى النّار، وحياتهم فيها عذاب لا ينقضى، ولا
«الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (١٢- ١٣ الأعلى) وهذا ما يشير إليه المتنبي بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا |
قوله تعالى:
«وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ».
الاصطراخ: التنادى بطلب الغوث من أمر مفظع.. والصارخ هو من يستصرخ غيره، ويدعوه إلى نجدته.. كما يقول الشاعر..
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع | كان الصراخ له قرع الظنابيب |
يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ».. ولا يلقون لهذا الاستصراخ إلا الردع والزجر.. «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» (١٠٨: المؤمنون)..
هذا ما يجيبهم به لسان الحال. لقد عمروا فى الدنيا عمرا طويلا، يتسع لأن يتذكر فيه من تذكر، وأن يتعرف إلى ربه، ويؤمن به، ويعمل صالحا يرضاه له.
وقوله تعالى: «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ».. إشارة إلى أنه مع العمر الذي عاشوه فى الدنيا، ومع ما معهم من عقول، لو استعملوها لاهتدوا بها، ولعرفوا الطريق إلى الله- مع هذا فقد بعث الله فيهم رسولا ينذرهم بين يدى هذا العذاب الأليم، فما استمعوا له، ولا التفتوا إليه..
وقوله تعالى: «فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» - هو تعقيب على هذا اللوم الزاجر، الذي أجيبوا به على استصراخهم.. فما لهم إلا هذا العذاب، وما لهم هنا من نصير، يستجيب لهم، ويخلصهم مما هم فيه
الآيات: (٣٨- ٤١) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
وقوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»
- هو تقرير للحقيقة، التي غايت عن أهل الشرك والضلال، وهى أن الله سبحانه هو الإله الذي ينبغى أن يعبد.. إنه يعلم كل غائبة فى السموات أو فى الأرض، وإنه يعلم ما تنطوى عليه الصدور، وما تكنّه الضمائر.. ومن كان هذا شأنه، كان سلطانه قائما على كل شىء، وكانت عبادته وحده واجبة على كل مخلوق..
وقوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» أي أنه سبحانه قد أعلى قدر الإنسان، ورفع منزلته، وجعله خليفة فى الأرض.. وكان مقتضى هذا أن يحتفظ الإنسان بهذا المقام الكريم، وأن يعرف لله فضله عليه، وإحسانه إليه، وأن يذكر أنه خليفة لله، وأنه بهذه الخلافة يعمل فى الأرض التي هى ملك لله.. فكيف يسوغ له أن يخرج عن
وقوله تعالى: «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» أي فمن خرج على استخلاف الله إياه، وكفر به، فعليه كفره، وسيلقى الجزاء الذي يستحقه وقوله تعالى: «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» أي أن هذا الكفر الذي لبسه الكافرون بعد أن خلعوا نعمة الخلافة التي ألبسهم الله إياها، لا يزيدهم عند ربهم إلا، بغضا، وبعدا من رحمته، حيث ينزع عنهم ثوب الكرامة الذي خلعه عليهم، ويلبسهم الذلة والمهانة، ويلقى بهم فى جهنم مذمومين مدحورين...
وقوله تعالى: «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» أي لا يزيدهم هذا الكفر الذي لبسوه إلا كفرا وضلالا، فهم مع هذا الكفر فى كفر ينمو على الأيام.. فهم يزدادون كل يوم مع هذا الكفر، خسرانا، حيث تخف موازينهم يوما بعد يوم.. إنهم يحملون فى كيانهم داء خبيثا، هو الكفر يمتص ماء الحياة منهم، قطرة قطرة، حتى يتحولوا إلى أعواد من الحطب لا نصلح إلّا وقودا للنار! قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً» أسئلة مطلوب من المشركين أن يوردوها على عقولهم- إن كانت لهم عقول- ثم ليجيبوا عليها، إن كانوا يجدون لها جوابا..
أي أنظرتم فى وجه هؤلاء الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله؟
وهل عرفتم ما هم عليه؟.
- «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟» أي أخلقوا شيئا مما ترون على هذه الأرض من مخلوقات؟ هل خلقوا ذبابة؟
- «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟» وإذا لم يكونوا قد خلقوا شيئا مما هو على الأرض، فهل لهم شىء مما فى السموات؟ ذلك بعيد.. فإن من عجز عن أن يخلق أدنى المخلوقات فى الأرض، لهو أعجز من أن يكون له أي شىء فى السموات..
- «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ».
سؤال إلى المشركين عن ذات أنفسهم هم.. وهو أنهم إذا لم يجدوا لهذا الذي سئلوا عنه فى شأن آلهتهم، جوابا يقبله العقل، بأن لهم شيئا فى هذا الوجود فى أرضه وسماواته- إذا لم يجدوا فى أنفسهم ما يحدّث عن آلهتهم تلك بأن لها شيئا أو شأنا فى الملك- فهل أخذوا هذا الذي أضافوه إلى آلهتهم عن كتاب من عند الله، فهم لهذا على بينة وعلم فى شأن آلهتهم، مما علموه من هذا الكتاب؟ ذلك ما لم يكن!.
فإذا كان العقل يأبى أن يضيف إلى آلهتهم شيئا، أو يجعل لهم شأنا فى هذا الوجود، وإذا لم يكن بأيدى هؤلاء المشركين كتاب من عند الله، أقامهم على هذا الرأى السقيم الباطل الذي رأوه فى آلهتهم، فلم يبق إذن شىء يصل بين هؤلاء المشركين وآلهتهم، إلا ما تلقوه من ضلالات الضالين وأهواء ذوى الأهواء منهم.. «بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً»..
إن هذا الذي هم فيه من ضلال مع هذه المعبودات التي يعبدونها، هو من
وفى الحديث عنهم بضمير الغائب، إعراض عنهم وإنزالهم منزلة الغائب، إذ لم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا. وقد استرخصوا عقولهم، واستخفّوا بها..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» - هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يسقط الله عليهم السماء، أو يخسف بهم الأرض.. فهو سبحانه الذي يمسكهما بموضعيهما اللذين هما فيهما..
«وإن» فى قوله تعالى «إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» - نافية، بمعنى ما، أي إن زالتا ما أمسكهما أحد من بعد الله، لو رفع يده عنهما..
- وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» - إشارة إلى أن الله سبحانه قد وسع بحلمه الناس، ولم يأخذهم بظلمهم، ولولا هذا لأهلكهم، وأفسد عليهم حياتهم، وهو سبحانه مع حلمه، غفور، ينتظر رجعة الظالمين إليه، فيقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم..
الآيات: (٤٢- ٤٥) [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
قوله تعالى:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً»..
أي أن هؤلاء المشركين، الذين استرخصوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم، كانوا يقسمون بأعظم الأيمان عندهم وآكدها، - قبل أن يأتيهم النبي- «لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» أي رسول، كما جاء إلى الأمم السابقة رسل- «لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» أي ليكونن أهدى من إحدى هذه الأمم، وهم بنو إسرائيل، إذ كانوا يتمثلون فيهم العلم، والدّين، لما كان بين أيديهم من كتاب، وما بينهم من علماء..
ولم يصرح القرآن ببني إسرائيل، مع أن المشركين لا يعنون غيرهم، وذلك- والله أعلم- للاستصغار بشأنهم، وأنهم ليسوا المثل الذي يحتذى به فى الاستقامة والهدى..
والاقتصار على وصف الرسول بأنه «نذير» إشارة إلى أن الإنذار هو أول ما يتلقاه الأقوام من رسلهم، إذ كان الرسل إنما يبعثون فى أقوامهم، حين يكثر الفساد فيهم، وتختلط معالم الدين الصحيح فى قلوبهم وعقولهم.. فيكون أول ما يلقى به الرسول قومه هو الإلفات إلى هذا الضلال الذي هم فيه، وتحذيرهم منه، وإنذارهم سوء عاقبته.
- وقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» - أي لما جاء الرسول الذي كانوا يتمنون الهدى عليه يديه، لم يزدهم إلا نفورا عن الحق، وإعراضا عن الهدى..
قوله تعالى:
«اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا».
- «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ» هو بدل من قوله تعالى:
«إِلَّا نُفُوراً» أي لم يزدهم إرسال الرسول إليهم إلا نفورا عن الحق، وإلا استكبارا فى الأرض، واستعلاء على العباد، وإلا الإمعان فى تدبير المكر السيّء للرسول، وتبييت الشر له وللمسلمين..
- وقوله تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» أي لا يقع المكر السيّء الذي مكروه إلا بهم.. إنهم يحفرون الحفرة التي سيقعون فيها، ويفتلون الحبل الذي يشنقون به..
- «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ» - أي فهل ينتظرون إلا أن يؤخذوا بما أخذ به الأولون الذي كذبوا رسل الله، من بلاء وهلاك؟..
- وقوله تعالى: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا»..
أي أن سنة الله قائمة على طريق مستقيم لا ينحرف أبدا.. وهى سنة مطردة، لا تتبدل اتجاها باتجاه، ولا تتحول من حال إلى حال..
وسنة الله، هو هذا النظام الذي أقام عليه الوجود، وربط المسببات بأسبابها..
ومن سنة الله فى الظالمين أن يأخذهم بظلمهم، كما أن من سنته فى المحسنين أن يجزيهم بإحسانهم..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً»..
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الضالين أن يسيروا فى الأرض، وأن ينظروا بأعينهم سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتحول.. إنهم سيرون أقواما كانوا قبلهم، وكانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فأخذهم الله بذنوبهم، وقلب عليهم دورهم..
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» أي وما كان لقوة هؤلاء وبأسهم أن تردّ عنهم بأس لله إذا جاءهم.. فماذا يعصم هؤلاء
ولقد أتوا الجرم الذي يوجب الهلاك، وهم فى قبضة الله. وعلمه يكشف عن كل ما اقترفوا.. ولم يبق إلا إمضاء العقوبة فيهم.. فلينظروا، وسيرون عاقبة أمرهم!.
قوله تعالى:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً»..
هو جواب على سؤال يقع فى نفوس المشركين، عند سماعهم التهديد الذي حملته إليهم الآية السابقة، وهو: أين هو العذاب الذي نهدّد به؟..
فكان قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» - جوابا على مثل هذا السؤال.. وهو أن الله سبحانه لو يؤاخذ الناس فى الدنيا بذنوب المذنبين منهم، وما يحاربون به الله سبحانه، من كفر، وإلحاد، ومجاهرة بالمعاصي- لو يؤاخذهم بهذا، ما ترك على ظهر هذه الأرض، من دابة.. فإن ذنوب المذنبين- لجسامتها، وشناعتها- لا يغسل دنسها ورجسها إلا طوفان من العذاب، يأتى على كل حياة قائمة على هذه الأرض..
«وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» أي لكن يؤخر حساب الناس إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة..
نزولها: مكية.
عدد آياتها: ثلاث وثمانون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة وتسع وعشرون.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف.
مناسبتها لما قبلها جاء فى الآيات التي ختمت بها سورة «فاطر» السابقة قوله تعالى:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ثم جاءت الآيات الثلاث التي تلت هذه الآية والتي ختمت بها السورة- تعقيبا على تلك الآية، وبيانا لموقف المشركين من هذا القسم الذي أقسموه..
وقد بدئت سورة «يس» بالقسم بالقرآن الكريم، الذي جاءهم النبىّ الكريم به، ثم وقوع هذا القسم على الإخبار بأن محمدا هو رسول الله، وأنه على صراط مستقيم، وأن تكذيب المشركين له، ورفضهم لدعوته، لم يكن إلا عن ضلال وعمى، وإلا عن استكبار وحسد.. لقد كانوا يتمنون أن يبعث الله فيهم رسولا، وأن يأتيهم بكتاب، مثل كتب أهل الكتاب، وها هو ذا الرسول، والكتاب.. فماذا هم فاعلون؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال..