تفسير سورة فاطر

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية

﴿الحمد لله فاطر السماوات والارض﴾ مبدِعهما من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ ﴿جَاعِلِ الملائكة﴾ الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى ﴿رُسُلاً﴾ منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الاضافة الاتفاق وأمَّا على الوجهِ الأولِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه وقرئ جاعلُ بالرَّفعِ على المدح وقرئ الذى فَطَرَ السموات والارض وَجَعَلَ الملائكة أي جاعلهم وسائطَ بينه تعالى وبين أنبيائِه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بينه تعالى وبين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصبيريا أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحالية وقرئ رُسْلاً بسكونِ السِّينِ ﴿أُوْلِى أَجْنِحَةٍ﴾ صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أن أولاء اسم لذا ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى ﴿مثنى وثلاث وَرُبَاعَ﴾ صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنحة متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المتراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً اجنحة كل منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله ﷺ أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح ورُوي أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يتراءى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعل فخرج ﷺ في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورته فغشى عليه ﷺ ثم أفاق وجبريل مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بين كتفيِه فقال سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريلُ عليه السَّلامُ فكيف لو رأيت
141
فاطر ٢ ٣ إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ ﴿يَزِيدُ فِى الخلق ما يشاء﴾ استثناف مقرِّرٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلكَ من أحكامِ مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بَها الوصفُ وما رُوي عن النبيِّ ﷺ من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها وقولُه تعالى ﴿إِنَّ الله على كل شَىْء قَدِيرٌ﴾ تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولِ قدرتِه تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالَى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بيِّناً
142
﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾ عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وأعزُّها منالاً وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام أيْ أي شئ يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه أيَّة رحمةٍ كانتْ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به ﴿فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ أي لا أحدَ يقدِر على إمساكِها ﴿وَمَا يُمْسِكْ﴾ أي أي شئ يُمْسِكْ ﴿فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ﴾ أي لا أحدَ يقدِر على إرسالِه واختلافُ الضَّميرينِ لما أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعدِ إمساكِه ﴿وَهُوَ العزيز﴾ الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمورِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك ﴿الحكيم﴾ الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ حسبما تقتضيِه الحِكمةُ والمصلحةُ والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ بموجبِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ أمرُ التَّكوينِ وبعد ما بيَّن سبحانَه أنَّه الموجدُ للملك والملكوتِ والمتصرِّفُ فيهما بالقبضِ والبسطِ من غيرِ أنْ يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما بوجهٍ من الوجوهِ أمرَ النَّاس قاطبةً أو أهلَ مكَّةَ خاصَّةً بشكر نعمه فقال
﴿يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي إنعامَه عليكم إنْ جُعلت النِّعمةُ مصدراً أو كائنةً عليكم إنْ جُعلت اسماً أي راعُوها واحفظُوها بمعرفةِ حقِّها والاعترافِ بها وتخصيصِ العبادةِ والطَّاعةِ بموليها ولمَّا كانتْ نعمُ الله تعالى مع تشعُّبِ فنونِها منحصرةً في نعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإبقاءِ نَفَى أنْ يكونَ في الوجودِ شئ غيرُه تعالى يصدرُ عنه إحدى النِّعمتينِ بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ المُنادِي باستحالةِ أنْ يُجاب عنه بنعَم فقال ﴿هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله﴾ أي هَلْ خالقٌ مغايرٌ له تعالى موجودٌ على أنَّ خالقٍ مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ زيدتْ عليه كلمة مِن لتأكيدِ العُمومِ وغيرِ الله نعتٌ له باعتبارِ محلِّه كما أنَّه نعتٌ له في قراءةِ الجر باعتبار لفظه وقرئ
142
فاطر ٤ ٥ بالنَّصبِ على الاستثناءِ وقوله تعالى ﴿يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض﴾ أي بالمطرِ والنَّباتِ كلامٌ مبتدأٌ على التَّقاديرِ لا محلَّ له من الإعراب داخل من حيِّز النَّفي والإنكار ولا مساغَ لما قيلَ من أنَّه صفةٌ أخرى لخالق مرفوعةُ المحلِّ أو مجرورتُه لأنَّ معناه نفي وجودِ خالقٍ موصوفٍ بوصفَيْ المغايرةِ والرَّازقيَّةِ معاً من غيرِ تعرضٍ لنفْي وجودِ ما اتَّصف بالمغايرةِ فَقَطْ ولا لما قيلَ من أنه الخبرُ للمبتدأِ ولا لما قيلَ من أنَّه مفسِّر لمضمرٍ ارتفع به قولُه تعالى مِنْ خالقٍ على الفاعلية أي هل يرزقكم من خالق الخ لما أنَّ معناهما نفي رازقيَّة خالقٍ مغايرٍ له تعالى من غيرِ تعرضٍ لنفيِ وجودِه رأساً مع أنَّه المرادُ حتماً ألا يُرى إلى قولِه تعالى ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتقرير النَّفيِ المستفادِ منه قصداً وجارٍ مجرى الجوابِ عمَّا يوهمه الاستفهامُ صورةً فحيث كان هذا ناطقاً بنفيِ الوجودِ تعيّنَ أنْ يكونَ ذلك أيضاً كذلك قطعاً والفاءُ في قوله تعالى ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ لترتيبِ إنكارِ عدولهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبلها كأنه قيل وإذا تبيَّن تفرُّده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمنْ أيِّ وجهٍ تُصرفون عن التَّوحيدِ إلى الشِّركِ وقوله تعالى
143
﴿وإن يكذبوك فقد كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ﴾ تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله ﷺ بين خطابي النَّاسِ مسارعةً الى تسليته ﷺ بعمومِ البليَّةِ أولاً والإشارةِ إلى الوعدِ والوعيدِ ثانياً أيْ وإن استمرُّوا على أنْ يكذِّبوك فيما بلَّغتَ إليهم من الحقِّ المُبين بعد ما أقمتَ عليهم الحجَّةَ وألقمتَهم الحجرَ فتأسَّ بأولئك الرُّسلِ في المُصابرةَ على ما أصابهُم من قبل قومِهم فوضعَ موضعهَ ما ذُكر اكتفاءً بذكرِ السَّببِ عن ذكرِ المسبَّبِ وتنكيرُ الرُّسل للتَّفخيمِ الموجبِ لمزيدِ التَّسليةِ والتَّوجهِ إلى المُصابرةِ أي رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوو عدد كثيرٍ ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ لا إلى غيرِه فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بما أنتُم عليهِ من الأحوالِ التي من جملتها صبرُك وتكذيبُهم وفي الاقتصارِ على ذكرِ اختصاصِ المرجعِ بالله تعالى مع إبهامِ الجزاءِ ثواباً وعقاباً من المبالغةِ في الوعدِ والوعيدِ ما لا يخفى وقرئ تَرْجعُ بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوع والأولُ أدخلُ في التهويلِ
﴿يا أيها الناس﴾ رجوعٌ إلى خطابِهم وتكريرُ النِّداءِ لتأكيدِ العظةِ والتَّذكير ﴿إِنَّ وَعْدَ الله﴾ المشارَ إليه برجعِ الأمورِ إليه تعالى من البعث والجزاء ﴿حَقّ﴾ ثابتٌ لا محالةَ من غيرِ خُلفٍ ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ بأنْ يُذهلكم التَّمتع بمتاعِها ويُلهيكم التَّلهي بزخارِفها عن تداركِ ما يهمكم يومَ حلولِ الميعادِ والمرادُ نهيُهم عن الاغترار بها وإنْ توجَّه النَّهيُ صورةً إليها كما في قوله تعالى لا يجر منكم شِقَاقِى ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله﴾ وعفوِه وكرمه تعالى ﴿الغرور﴾ أي المبالغُ في الغُرور وهو الشَّيطانُ بأنْ يمنيكم المغفرةَ مع الإصرارِ على المعاصِي قائلاً اعملوا ما شئتُم أَنَّ الله غَفُورٌ يغفِرُ الذُّنوبَ جميعاً فإنَّ ذلكَ وإنْ أمكنَ لكنْ تعاطي الذّنوبِ بهذا التَّوقعِ من قبيلِ تناولِ السُّمِّ تعويلاً على دفعِ الطَّبيعةِ وتكريرُ فعلِ النَّهي للمبالغةِ فيه ولاختلافِ الغرورينِ في الكيفية وقرئ الغُرور بالضَّمِّ على أنَّه مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ كقعود جمع قاعد
143
فاطر
144
٦ - ٨ ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ عداوةً قديمةً لا تكاد تزولُ وتقديمُ لكم للاهتمامِ به ﴿فاتخذوه عَدُوّاً﴾ بمخالفتِكم له في عقِائدِكم وأفعالِكم وكونِكم على حَذَرٍ منه في مجامعِ أحوالِكم وقولُه تعالى ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير﴾ تقريرٌ لعداوتِه وتحذيرٌ من طاعتِه بالتَّنبيهِ على أنَّ غرضَه في دعوةِ شيعتِه إلى اتِّباعِ الهَوَى والركونِ إلى ملاذِّ الدُّنيا ليس تحصيلَ مطالبِهم ومنافِعهم الدُّنيويَّةِ كما هو مقصد المُتحابِّين في الدُّنيا عند سعي بعضِهم في حاجةِ بعضٍ بل هو توريطُهم وإلقاؤُهم في العذابِ المُخلَّد من حيثُ لا يحتسبون
﴿الذين كَفَرُواْ لَهُمْ﴾ بسببِ كفرِهم وإجابتِهم لدعوةِ الشَّيطانِ واتِّباعِهم لخطواتِه ﴿عَذَابٌ شَدِيدٍ﴾ لا يقادَر قَدُره مديدٌ لا يُبلغ مداهُ ﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم﴾ بسببِ ما ذُكر من الإيمانِ والعملِ الصالحِ الذي من جُملتِه عداوةُ الشِّيطانِ ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة ﴿وأجر كبير﴾ لاغاية لهما
﴿أَفَمَن زُين لَهُ سوءُ عَمَلِهِ فرآه حَسَناً﴾ إمَّا تقريرٌ لما سبقَ من التَّبايُنِ البيِّنِ بين عاقبتيْ الفريقينِ ببيان تباين حاليهما المُؤدِّيينِ إلى تَينكِ العاقبتينِ والفاءُ لإنكارِ ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أبعدَ كونِ حاليهما كما ذُكر يكون من زُيِّن له الكفرُ من جهةِ الشَّيطانِ فانهمك فيه كمنْ استقبحَه واجتنَبه واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكون عاقبتاهما كما ذُكر فحُذِفَ ما حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وقولُه تعالى ﴿فَإِنَّ الله يُضِلُّ﴾ الخ تقريرٌ له وتحقيقٌ للحقِّ ببيانِ أنَّ الكُل بمشيئتِه تعالى أيْ فإنَّه تعالىَ يُضلُّ ﴿مَن يَشَآء﴾ أنْ يضلَّه لاستحسانه واستحبابِه الضَّلالَ وصرفِ اختيارِه إليه فيردَّه أسفلَ سافلينَ ﴿وَيَهْدِى مَن يَشَآء﴾ أنْ يهديَه بصرفِ اختيارِه إلى الهُدى فيرفعه إلى أعلى عليين وإمَّا تمهيدٌ لما يعقُبه من نهيه ﷺ عن التَّحسرِ والتَّحزنِ عليهم لعدمِ إسلامِهم ببيانِ أنَّهم ليُسوا بأهلٍ لذلَك بلْ لأنْ يُضربَ عنهم صَفْحاً ولا يُبالي بهم قطعاً أي أبعدَ كونِ حالِهم كما ذُكر تتحسَّر عليهم فحُذف لما دلَّ عليه قولُه تعالى ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات﴾ دلالة بيِّنةٌ وإمَّا تمهيدٌ لصرفِه ﷺ عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والمبالغةِ في دعوتِهم إليه ببيان استحالة تحولهم عن الكفرِ لكونِه في غايةِ الحسنِ عندهم أي أبعدَ ما ذُكر من زُيِّن له الكفرُ من قبل الشيطان فرآه فانهمك فيه يقبلُ الهدايةَ حتَّى تطمعَ في إسلامِه وتُتعبَ نفسَك في دعوتِه فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما مرَّ من قولِه تعالى فَإِنِ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء الخ على أنَّه ممن شاء الله تعالى أنْ يضلَّه فمن يهدى من أضل الله وَمَا لَهُم مِن ناصرين وقرئ فلا تُذهب نفسك وقولُه تعالى حسراتِ إمَّا مفعول له أي فلا
144
فاطر ٩ ١٠ تهلك نفسك للحسرات والجمعُ للدِّلالةِ على تضاعفِ اغتمامِه ﷺ على أحوالِهم أو على كثرةِ قبائحِ أعمالِهم الموجبةِ للتَّأسُّفِ والتَّحسرِ وعليهم صلةُ تذهب كما يقال هَلك عليه حبا ومات عليه حُزناً أو هو بيانٌ للمتحسَّر عليهِ ولا يجوزُ أنْ يتعلَّق بحسراتٍ لأنَّ المصدرَ لا تتقدَّمُ عليه صلتُه وإمَّا حالٌ كأن كلها صارت حسرات وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ أي من القبائحِ تعليلٌ لما قبله على الوجوهِ الثلاثةِ مع ما فيه فيه من الوعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّها نزلتْ في أبي جهلٍ ومُشركِي مكَّةَ
145
﴿والله الذى أَرْسَلَ الرياح﴾ مبتدأ وخبر وقرئ الريح وصيغةُ المضارعِ في قوله تعالى ﴿فَتُثِيرُ سحابا﴾ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لعلك الصُّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على كمال القدرةِ والحكمةِ ولأنَّ المرادَ بيانُ إحداثِها لتلك الخاصَّيةِ ولذلك أُسند إليها أو للدِّلالةِ على استمرارِ الإثارةِ ﴿فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ ميت﴾ وقرئ بالتَّخفيفِ ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارض﴾ أي بالمطرِ النَّازلِ منه المدلولِ عليه بالسَّحابِ فإنَّ بينهما تلازماً في الذِّهنِ كما في الخارجِ أو بالسَّحابِ فإنَّه سببُ السَّببِ ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي يُبسها وإيرادُ الفعلينِ على صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ وإسنادهما الى نون العظمة المنبئ عن اختصاصِهما به تعالى لما فيهما من مزيدِ الصُّنعِ ولتكميل المُماثلةِ بين إحياءِ الأرضِ وبين البعثِ الذي شُبِّه به بقوله تعالى ﴿كَذَلِكَ النشور﴾ في كمال الاختصاصِ بالقُدرةِ الرَّبانيةِ والكافُ في حيِّزِ الرفعِ على الخبرية أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي تشاهدونَه إحياءٌ الأمواتِ في صحَّة المقدوريَّةِ وسهولةِ التأتِّي من غيرِ تفاوتٍ بينَهما أصلاً سوى الألفِ في الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي وقيل في كيفيَّةِ الإحياءِ يُرسل الله تعالى من تحت العرشِ ماءً فينبتُ منه أجسادُ الخلقِ
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العزة﴾ هم المشركونَ الذينَ كانُوا يتعزَّزون بعبادةِ الأصنامِ كقولِه تعالى ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلهة لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً﴾ والذين كانوا يتعزَّزون بهم من الذينَ آمنُوا بألسنتِهم كما في قوله تعالى ﴿الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ والجمعُ بين كانَ ويريد الدلالة على دَوام الإرادةِ واستمرارِها ﴿فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً﴾ أي له تعالى وحَدهُ لا لغيرِه عزَّةُ الدُّنيا وعزَّةُ الآخرةِ أي فليطلبها منْهُ لا من غيرِه فاستُغني عن ذكرِه بذكرِ دليلِه إيذاناً بأنَّ اختصاصَ العزَّةِ به تعالى موجبٌ لتخصيصِ طلبها به تعالى وقوله تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ بيان لما يُطلب به العزَّةُ وهو التَّوحيدُ والعملُ الصَّالحُ وصعودُهما إليه مجازٌ عن قبولِه تعالى إيَّاهُما أو صعودُ الكَتَبةِ بصحيفتهما وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عبارةٌ عن كمالِ الاعتدادِ به كقولِه تعالى وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات أي إليه يصلُ الكلمُ الطَّيبُ الذي به يُطلب العزَّةَ لا إلى الملائكةِ الموكَّلين بأعمال العبادِ فَقطَ وهو يعزُّ صاحَبهُ ويعطى طلبته بالذات
145
فاطر ١١ والمستكّنُّ في يرفعه للكلم فإنَّ مدارَ قبولِ العملِ هو التَّوحيدُ ويُؤيده القراءةُ بنصب العمل أو العمل فإنَّه يحققُ الإيمانَ ويقويه ولا يُنال الدَّرجاتُ العاليةُ إلا به وقرئ يُصعد من الإصعادِ على البناءين والمُصعدُ هو الله سبحانَه أو المتكلِّم به أو الملكُ وقيل الكلمُ الطَّيبُ يتناول الذِّكرَ والدُّعاءَ والاستغفارَ وقراءةَ القُرآن وعنه ﷺ انه سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ إذَا قالَها العبدُ عرجَ بها الملكُ إلى السَّماءِ فحيا بها وجَه الرحمن فإذا لم يكُن عمل صالحا لم تُقبل وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما من عبدٍ مسلمٍ يقول خمس كلمات سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهنَّ ملكٌ فجعلهنَّ تحتَ جناحِه ثم صعدَ بهنَّ فما يمرُّ بهنَّ على جمعٍ من الملائكةِ إلا استغفرُوا لقائلهنَّ حتَّى يحيى بهنَّ وجَه ربِّ العالمين ومصداقُه قوله عزَّ وجلَّ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب الخ ﴿والذين يَمْكُرُونَ السيئات﴾ بيانٌ لحال الكَلِمِ الخَبيثِ والعملِ السيء وأهلِهما بعد بيانِ حالِ الكلم الطيب والعمل الصالح وانتِّصابُ السَّيئاتِ على أنَّها صفةٌ للمصدرِ المحذوفِ أي يمكرون المكَرَاتِ السَّيئاتِ وهي مكرات قريش بالنبي ﷺ في دارِ النَّدوةِ وتداورِهم الرَّأيِ في إحدى الثَّلاثِ التي هي الإثباتُ والقتلُ والإخراجُ ﴿لَهُمْ﴾ بسببَ مكراتِهم ﴿عذاب شَدِيدٍ﴾ لا يقادَر قَدرُه ولا يُؤبه عندَهُ لمَا يمكرونَ ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ﴾ وضعَ اسمِ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ بكمالِ تميُّزهم بما هُم فيه من الشَّرِّ والفسادِ عن سائرِ المُفسدينَ واشتهارِهم بذلك وما فيه من معنى البعد للتنبيه على تَرامي أمرهِم في الطُّغيانِ وبُعد منزلِتهم في العُدوانِ أي ومكرُ أولئكَ المُفسدين الذينَ أرادُوا ان يمكروا به ﷺ ﴿هُوَ يَبُورُ﴾ أي هو يهلكُ ويفسدُ خاصَّةً لا مَن مكرُوا بهِ ولقد أبارَهُم الله تعالى بعد إبارةِ مكراتِهم حيثُ أخرجَهم من مكَّةَ وقتلَهم وأثبتَهم في قَليبِ بدرٍ فجمعَ عليهم مكراتِهم الثَّلاثَ التي اكتفوا في حقه ﷺ بواحدةٍ منهن
146
﴿والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ﴾ دليلٌ آخرُ على صحَّةِ البعثِ والنُّشورِ أي خلقكم ابتداءً منه في ضمنِ خلق آدمَ عليه السلام خلقاً إجماليَّاً كما مرَّ في تحقيقُه مراراً ﴿ثُمَّ مِن نطفة﴾ أي ثم خلقكم منها خلقاً تفصيلياً ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا﴾ أي أصنافاً أو ذُكراناً وإناثاً وعن قَتادةَ جعل بعضَكم زَوْجاً لبعضٍ ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ إلا ملتبسةً بعلمِه تابعةً لمشيئتِه ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ﴾ أي من أحدٍ وإنما سُمِّي معمَّراً باعتبارِ مصيرِه أي وما يُمدُّ في عمرِ أحدٍ ﴿وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ أي من عمرِ أحدٍ على طريقةِ قولِهم لا يُثيب الله عبداً ولا يُعاقبه إلا بحقَ لكنْ لاعلى معنى لا يُنقص عمره بعد كونه زائدا بل على معنى لا يُجعل من الابتداءِ ناقصاً وقيل الزِّيادةُ والنَّقصُ في عمرٍ واحدٍ باعتبارِ أسبابِ مختلفةٍ أُثبتتْ في اللَّوحِ مثلِ أنْ يكتبَ فيه إنْ حجَّ فلانٌ فعمرُه ستُّونَ وإلا فأربعونَ وإليه أشارَ ﷺ بقولِه الصَّدقة والصِّلةُ تُعمِّرانِ الدِّيارَ وتزيدانِ في الأعمارِ وقيلَ المرادُ بالنَّقصِ ما يمرُّ من عمرِه وينقصُ فإنَّه يكتب في الصَّحيفةِ عمرُه كذا وكذا سنة ثم يُكتب تحتَ ذلك ذهبَ يومٌ ذهبَ يومانِ وهكذا حتَّى يأتي على آخره وقرئ ولا ينقص عل البناءِ للفاعلِ ومن عُمْره
146
فاطر ١٢ ١٣ بسكونِ الميمِ ﴿إِلاَّ فِى كتاب﴾ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه اللَّوحُ وقيل عِلمُ الله عزَّ وجلَّ وقيل صحيفةُ كلِّ إنسانٍ ﴿إِنَّ ذلك﴾ أي ما ذكر من الخلقِ وما بعدَهُ مع كونِه محاراً للعقولِ والأفهامِ ﴿عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ لاستغنائِه عن الأسبابِ فكذلك البعثُ
147
﴿وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ والفُراتُ الذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه والأُجاج الذي يحرق بملوحته وقرئ سيِّغ كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ ومَلِح ككَتِفٍ وقوله تعالى ﴿وَمِن كُلّ﴾ أي من كلِّ واحدٍ منهما ﴿تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ﴾ أي من المالحِ خاصَّةً ﴿حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقة قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ ﴿وَتَرَى الفلك فِيهِ﴾ أي في كلَ منهما وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لان الخطاب الكل حد تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ ﴿مَوَاخِرَ﴾ شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ ﴿لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا مِن فَضْلِهِ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي ولتشكُروا على ذلك وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضياً عند الله تعالى
﴿يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل﴾ بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلٌّ منهما إلى الآخَر ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ عطفٌ على يُولج واختلافُهما صيغةً لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمر لا تعدد فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى ﴿كُلٌّ يَجْرِى﴾ أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسرية على المدارات اليومية المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً ﴿لاِجَلٍ مسمى﴾
147
فاطر ١٤ ١٧ قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما رُوي عن الحسن رحمه الله وقيل جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما ومدَّةُ الجريانِ للشمس سنة والقمر شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ ﴿ذلكم﴾ إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ ﴿الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك﴾ وفيه من الدلالة على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الاخبار له مالا يخفى ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلاماً مُبتدأً في مقابلةِ قوله تعالى ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يملكون من قطمير﴾ الدلالة على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ وقُرىء يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مثلٌ في القِلة والحقارةِ
148
﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ﴾ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله كاشفٌ عن جليةِ حالِ ما يدعونَه بأنَّه جمادٌ ليس من شأنِه السَّماعُ ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ﴾ على الفرضِ والتَّقديرِ ﴿مَا استجابوا لَكُمْ﴾ لعجزِهم عن الأفعالِ بالمرَّةِ لا لما قيلَ من أنَّهم متبرِّئون منكم وممَّا تدعُون لهم فإن ذلك مما لا يُتصور منهم في الدُّنيا ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي يجحدونَ بإشراكِكم لهم وعبادتِكم إيَّاهم بقولِهم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴿وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ أي لا يخبرك بالأمرِ مخبرٌ مثلُ خبيرٍ أخبرَك به وهو الحقُّ سبحانَه فإنَّه الخبيرُ بكُنهِ الأمورِ دُون سَائرِ المخبرين والمرادُ تحقيقُ ما أخبر به من حالِ آلهتِهم ونفيُ ما يدَّعُون لهم من الإلهيةِ
﴿يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله﴾ في أنفسِكم وفيما يعن لكم من امرمهم او خطب علم وتعريفُ الفقراءِ للمبالغةِ في فقرِهم كأنَّهم لكثرةِ افتقارِهم وشدَّةِ احتياجِهم هم الفقراءُ فحسب وأنَّ افتقارَ سائرِ الخلائقِ بالنسبةِ إلى فقرِهم بمنزلة العدمِ ولذلك قال تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ﴿والله هُوَ الغنى الْحَمِيدُ﴾ أي المستغنِي على الإطلاقِ المنعمُ على سائرِ الموجوداتِ المستوجبُ للحمدِ
﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ليسُوا على صفتِكم بل مستمرُّون على الطَّاعةِ أو بعالمٍ آخرَ غيرِ ما تعرفونَهُ
﴿وَمَا ذلك﴾ أي ما ذُكر من الإذهابِ بهم والإتيانِ بآخرينَ ﴿عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ بمتعذرٍ ولا متعسرٍ
148
فاطر ١٨ ٢٢
149
﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾ أي لا تحملٌ نفسٌ آثمةٌ ﴿وِزْرَ أخرى﴾ إثمَ نفسٍ أُخرى بل إنَّما تحملُ كلٌّ منهما وزرها وأماما في قولِه تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ من حملِ المضلِّين أثقالاً غيرَ أثقالِهم فهو حملُ أثقالِ إضلالِهم مع أثقالِ ضلالِهم وكلاهما أوزارُهم ليس فيها من أوزارِ غيرِهم شئ ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ﴾ أي نفسٌ أثقلَها الأوزارُ ﴿إلى حِمْلِهَا﴾ لحملِ بعضِ أوزارِها ﴿لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء﴾ لم تجب بحمل شئ منه ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ أي المدعُو المفهوم من الدَّعوةِ ﴿ذَا قربى﴾ ذا قرابةٍ من الداعى وقرئ ذُو قُربى وهذا نفيٌ للحملِ اختياراً والأوَّلُ نفيٌ له جبارا ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ﴾ استئنافٌ مسوق لبيان من يتَّعظُ بما ذُكر أي إنَّما تنذر بهذه الإنذاراتِ ﴿الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب﴾ أي يخشَونَه تعالى غائبينَ عن عذابِه أو عن النَّاسِ في خلواتِهم أو يخشَون عذابَه وهو غائبٌ عنهم ﴿وَأَقَامُوا الصلاة﴾ أي راعَوها كما ينبغي وجعلوها مَنَاراً منصوباً وعَلَماً مرفُوعاً أي إنما ينفعُ إنذارُك وتحذيرُك هؤلاءِ من قومِك دُون مَنْ عداهُم منْ أهل التَّمرد والعناد ﴿ومن تزكى﴾ أن تطهرَ من أوضار الأوزارِ والمعاصِي بالتَّاثرِ من هذهِ الإنذاراتِ ﴿فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ﴾ لاقتصارِ نفعِه عليها كما أنَّ مَن تدنَّس بها لا يتدنَّس إلا عليها وقرئ من ازكَّى فإنَّما يزكَّى وهو اعتراضٌ مقررٌ لخشيتهم وإقامِتهم الصَّلاةَ لأنَّها من معظمِ مبادِي التزكِّي ﴿وإلى الله المصير﴾ لا إلى أحدٍ غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيهم على تزكِّيهم أحسنَ الجزاء
﴿وما يستوى الاعمى والبصير﴾ أي الكافرُ والمؤمنُ
﴿وَلاَ الظلمات وَلاَ النور﴾ أي ولا الباطلُ ولا الحقُّ وجمع الظلمات مع أفرادِ النُّورِ لتعدُّدِ فنونِ الباطلِ واتِّحاد الحقِّ
﴿وَلاَ الظل وَلاَ الحرور﴾ أي ولا الثَّوابُ ولا العقاب وإدخال لاعلى المتقابلينِ لتذكيرِ نفيِ الاستواءِ وتوسيطها بينهما للتأكيد والحرور فَعولٌ من الحرِّ غلب على السَّمومِ وقيل السَّمومُ ما يهبُّ نهاراً والحَرورُ ما يهبُّ ليلاً
﴿وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات﴾ تمثيلٌ آخرُ للمؤمنينَ والكافرين
149
فاطر ٢٣ ٢٧ أبلغُ من الأوَّلِ ولذلك كُرِّر الفعلُ وأُوثر صيغةُ الجمعِ في الطَّرفينِ تحقيقاً للتَّباينَ بين أفرادِ الفريقينِ وقيل تمثيلٌ للعُلماءِ والجَهَلةِ ﴿إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء﴾ أنْ يُسمَعه ويوفِّقه لفهم آياتِه والاتَّعاظِ بعظاتِه ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور﴾ ترشيحٌ لتمثيل المصرِّينَ على الكُفرِ بالأمواتِ وإشباع في إقناطه ﷺ من إيمانِهم
150
﴿إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ ما عليكَ إلا الإنذارُ وأمَّا الإسماعُ البتةَ فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوعِ على قلوبهم
﴿إِنَّا أرسلناك بالحق﴾ أي محقَّين أو محقّاً أنتَ أو إرسالاً مصحُوباً بالحقِّ ويجوز أن يتعلق بقوله ﴿بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي بشيراً بالوعدِ الحقِّ ونذيراً بالوعيدِ الحقِّ ﴿وَإِن مّنْ أُمَّةٍ﴾ أي ما مِنْ أُمَّةٍ من الأممِ الدَّارجةِ في الأزمنةِ الماضيةِ ﴿إِلاَّ خَلاَ﴾ أي مَضَى ﴿فِيهَا نَذِيرٌ﴾ من نبيَ أو عالمٍ يُنذرهم والاكتفاءُ بذكرهِ للعلمِ بأنَّ النَّذارةَ قرينةُ البشارةِ لا سيِّما وقد اقترنا آنِفاً ولأنَّ الإنذارَ هو الأنسبُ بالمقَامِ
﴿وَإِن يُكَذّبُوكَ﴾ أي تموا على تكذيبكَ فلا تُبالِ بهم وبتكذيِبهم ﴿فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم﴾ من الأممِ العاتيةِ ﴿جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ أي المعجزاتِ الظاهرةِ الدالةِ على نُبوُّتهم ﴿وبالزبر﴾ كصُحفِ إبراهيمَ ﴿وبالكتاب المنير﴾ كالتوراة والإنجيلِ والزَّبورِ على إرادةِ التفصيل دون الجمع ويجوز أنْ يُرادَ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ
﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ﴾ وضعَ الموصولُ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيز الصَّلةِ والإشعارِ بعلَّةِ الأخذِ ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي إنكارِي بالعقوبة وفيه مزيدُ تشديدٍ وتهويلٍ لها
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من اختلافِ أحوالِ النَّاسِ ببيان أنَّ الاختلافَ والتَّفاوتَ أمرٌ مطردٌ في جميعِ المخلوقات من النَّباتِ والجمادِ والحيوانِ والرؤيةُ قلبيةٌ أيْ ألم تعلمَ ﴿أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ بذلك الماءِ والالتفات لإظهارِ كمال الاعتناءِ بالفعلِ لما فيه من الصُّنعِ البديع المنبئ عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ ﴿ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ أي أجناسُها أو أصنافُها على أنَّ كلاًّ منها ذُو أصناف مختلفة أو هيآتها وأشكالُها أو ألوانُها من الصفرة والخضرة والحُمرةِ وغيرِها وهو الأوفقُ لما في قوله تعالى ﴿ومن الجبال جُدَدٌ﴾ أي ذو جدد أي خططٍ وطرائقَ ويقالُ جدة الحمارِ للخطةِ السَّوداءِ
150
فاطر ٢٨ ٢٩ على ظهره وقرئ جُدُد بالضَّمِّ جمع جديدةٍ بمعنى الجدة وجَدَد بفتحتينِ وهو الطَّريقُ الواضحُ ﴿بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها﴾ بالشِّدةِ والضَّعفِ ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ عطفٌ على بيضٌ أو على جدُد كأنَّه قيل ومن الجبالِ مُخطَّطٌ ذو جُددٍ ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبَ وهو تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعدِه فإنَّ الغربيبَ تأكيدٌ للأسواد كالفاقعِ للأصفرِ والقانِي للأحمرِ ومن حقِّ التَّأكيدِ أنْ يتبعَ المؤكَّدَ ونظيرُه في الصِّفةِ قولُ النَّابغةِ والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يمسحُها وفي مثلهِ مزيدٌ تأكيدٍ لما فيه من التَّكرارِ باعتبار الإضمارِ والإظهارِ
151
﴿وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه﴾ أي ومنهم بعضٌ مختلفٌ ألوانُه أو وبعضُهم مختلفٌ ألوانُه على ما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله وإيراد الجملتينِ اسميتين مع مشاركتِهما لما قبلَهُما من الجملةِ الفعليةِ في الاستشهادِ بمضمونِهما على تباينِ النَّاسِ في الأحوالِ الباطنةِ لما أنَّ اختلافَ الجبالِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ فيما ذُكر من الألوانِ أمرٌ مستمرٌ فعبَّر عنه بما يدلُّ على الاستمرارِ وأمَّا إخراجُ الثَّمراتِ المختلفةِ فحيثُ كان أمراً حادثاً عبَّر عنه بما يدلُّ على الحدوثِ ثم لما كان فيه نوعُ خفاءً علَّق به الرُّؤية بطريقِ الاستفهامِ التقريري المنبئ عن الحمل عليها والتَّرغيبِ فيها بخلافِ أحوالِ الجبالِ والنَّاسِ وغيرِهما فإنَّها مُشاهدَة غنيَّةٌ عن التأمُّلِ فلذلك جُرِّدتْ عن التَّعليقِ بالرُّؤيةِ فتدبر وقوله تعالى ﴿كذلك﴾ مصدرٌ تشبيهيٌّ لقوله تعالى مختلفٌ أي صفة لمصدره المؤكِّد تقديرُه مختلفٌ اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الثمار والجبال وقرئ الوانا وقرئ والدَّوابَ بالتَّخفيفِ مبالغةً في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وقوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ تكملة لقوله تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب بتعيين من يخشاه عزَّ وجلَّ من النَّاس بعد بيانِ اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ مراتبِهم أمَّا في الأوصافِ المعنويَّةِ فبطريقِ التَّمثيلِ وأما في الأوصافِ الصُّوريةِ فبطريقِ التَّصريحِ توفية لكلَّ واحدةٍ منهما حقَّها اللائقَ بها من البيانِ أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال ﷺ أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له ولذلك عقَّب بذكرِ أفعالِه الدالةَ على كمالِ قدرتِه وحيث كان الكَفَرةُ بمعزلٍ من هذه المعرفةِ امتنع إنذارُهم بالكلِّية وتقديمُ المفعولِ لأن المقصودَ حصرُ الفاعليَّةِ ولو أُخِّر انعكسَ الأمر وقرئ برفع الاسم الجليلة ونصبِ العلماءِ على أنَّ الخشية مستعارةٌ للتَّعظيمِ فإنَّ المعظَّم يكونُ مهيباً ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ تعليل لوجوبِ الخشيةِ لدلالتهِ على أنَّه معاقبٌ للمصرِّ على طغيانِه غفورٌ للتائب عن عصيانِه
﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله﴾ أي يداومُون على قراءته أو متابعةِ ما فيه حتى
151
فاطر ٣٠ ٣٢ صارتْ سمةً لهم وعُنواناً والمرادُ بكتابِ الله تعالى القُرآنُ وقيلَ جنسُ كتبِ الله فيكون ثناءً على المصدِّقين من الأممِ بعد اقتصاصِ حالِ المكذِّبين منهم وليسَ بذاك فإنَّ صيغةَ المضارعِ مناديةٌ باستمرارِ مشروعيةِ تلاوتِه والعملِ بما فيه واستتباعِهما لما سيأتي من توفيةِ الأجورِ وزيادةِ الفضلِ وحملُها على حكايةِ الحالِ الماضيةِ مع كونِه تعسُّفاً ظاهرا مما لا سبيل إليه كيفَ لا والمقصودُ الترغيبُ في دينِ الإسلامِ والعملُ بالقُرآن النَّاسخِ لما بين يديهِ من الكتبِ فالتَّعرضُ لبيان حقيقتها قبل انتساخِها والإشباعُ في ذكرِ استتباعها لما ذُكر من الفوائدِ العظيمةِ مَّما يُورث الرَّغبةَ في تلاوتِها والإقبالِ على العملِ بها وتخصيصُ التِّلاوةِ بما لم ينسخ منها باطلٌ قطعاً لما أنَّ الباقي مشروعاً ليس إلا حكمها لكنْ لا من حيث أنه حكَّمها بل من حيثُ انه حكّم القرآنَ وأما تلاوتُها فبمعزلٍ من المشروعيَّةِ واستتباع الأجر بالمرَّة فتدبر ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة وأنفقوا من ما رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً﴾ كيفما اتَّفق من غيرِ قصدٍ إليهما وقيل السِّرُّ في المسنونةِ والعلانيةُ في المفروضةِ ﴿يَرْجُونَ تجارة﴾ تحصيلَ ثوابٍ الطاعة وهو خبرُ إنَّ وقوله تعالى ﴿لَّن تَبُورَ﴾ أي لن تكسد ولن تهك بالخسرانِ أصلاً صفةٌ لتجارةَ جيء بها للدِّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بين الرِّبحِ والخُسرانِ لأنَّه اشتراءُ باقٍ بفانٍ والإخبارُ برجائِهم من أكرمِ الأكرمينَ عِدَةٌ قطعيةٌ بحصولِ مرجوِّهم وقولُه تعالى
152
﴿لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ﴾ متعلقٌ بلَنْ تبورَ على معنى أنَّه ينتفي عنها الكسادُ وتنفُق عند الله تعالى ليوفيَهم أجورَ أعمالِهم ﴿وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ﴾ على ذلك من خزائنِ رحمتِه ما يشاءُ وقيل بمضمرٍ دلَّ عليه ما عُدَّ من أفعالهم المرضيَّةِ أي فعلُوا ذلك ليوفيَهم إلخ وقيل بيرجُون على أن اللامَ للعاقبةِ ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ تعليلٌ لما قبلَه من التَّوفيةِ والزِّيادةِ أي غفورٌ لفرطاتِهم شكورٌ لطاعاتِهم أي مجازيهم عليها وقيل هُو خبرُ إنَّ الذينَ ويرجُون حالٌ من واوِ أنفقُوا
﴿والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب﴾ وهو القرآنُ ومِن للتَّبيين أو الجنسِ ومن للتَّبعيضِ وقيل اللَّوحَ ومِن للابتداءِ ﴿هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي أُحِقُّه مصدِّقاً لّمَا تقدَّمه من الكتبِ السَّماويةِ حالٌ مؤكِّدة لأنَّ حقِّيتَه تستلزمُ موافقتَه إيَّاهُ في العقائدِ وأصولِ الأحكامِ ﴿إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ محيطٌ ببواطنِ أمورِهم وظواهرِها فلو كانَ في أحوالِك ما ينافي النُّبوة لم يُوحِ إليك مثلُ هذا الحقَّ المعجزِ الذي هو عيارٌ على سائرِ الكتبِ وتقديمُ الخبيرِ للتَّنبيه على أنَّ العمدةَ هي الأمورُ الرُّوحانيَّةُ
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب﴾ أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره
152
فاطر ٣٣ ٣٤ وتحققه وقيل أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ ﴿الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تعالى اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطاً ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسله عليهم الصلاة والسلام وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب الآيةَ ﴿فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ﴾ بالتقصير في العمل به وهو المرجأُ لأمرِ الله ﴿وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيءِ ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله﴾ قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علماً وعملاً وتعليماً وفي قوله بِإِذْنِ الله أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيةٌ على عزَّةِ منال هذه الرتبة وصعوبةِ مأخذِها وقيل الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيءِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً وهو معنى قوله ﷺ وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون فى طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسول الله ﷺ سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلته في الشَّرفِ ﴿هُوَ الفضل الكبير﴾ من الله عز وجل لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى
153
﴿جنات عَدْنٍ﴾ إمَّا بدلٌ من الفضلُ الكبيرُ بتنزيلِ السَّببِ منزلةَ المسَّببِ أو مبتدأٌ خبرُه ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ وعلى الأوَّلِ هو مستأنفٌ وجمعُ الضَّميرِ لأنَّ المرادَ بالسَّابقِ الجنسُ وتخصيصُ حالِ السَّابقينَ ومآلِهم بالذِّكرِ والسُّكوتُ عن الفريقينِ الآخرينِ وإنْ لم يدلَّ على حرمانِهما من دخولِ الجنةِ مُطلقاً لكنَّ فيه تحذيراً لهما من التَّقصيرِ وتحريضاً على السَّعيِ في إدراكِ شأوِ السَّابقينَ وقُرىء جنَّاتِ عدنٍ وجَّنةَ عدنٍ على النَّصبِ بفعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ وقُرىء يُدخَلُونها على البناءِ للمفعولِ ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مقدرةٌ وقُرىء يحلُون من حَلِيتْ المرأةُ فهي حاليةٌ ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾ هيَ جمع أسورة جمع سوار ﴿من ذهب﴾ من الأولى تبعيضيَّةٌ والثَّانيةُ بيانيَّةٌ أي يُحلَّون بعضَ أساورَ من ذهبٍ كأنَّه أفضلُ من سائرِ أفرادِها ﴿وَلُؤْلُؤاً﴾ بالنَّصبِ عطفاً عَلى محلِّ منْ أساورَ وقُرىء بالجرِّ عطفا على ذهبٍ أي من ذهبٍ مرصعٍ باللُّؤلؤِ أو من ذهبٍ في صفاءِ اللُّؤلؤِ ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ وتغيير الاسلوب قد مر في سورةِ الحجِّ
﴿وَقَالُواْ﴾ أي يقولون وصيغةَ الماضِي للدلالةِ على التحقق ﴿الحمد لله الذي أذهب عَنَّا الحزن﴾ وهو ما أهمَّهم من خوفِ سوءِ العاقبةِ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما حَزَنُ الأعراضِ والآفاتُ وعنه حَزَنُ الموتِ وعن الضَّحَّاكِ لحزن وسوسةِ إبليسَ وقيل همُّ المعاش وقيل حزن
153
فاطر ٣٥ ٣٧ زوالِ النِّعمِ والظَّاهرُ أنَّه الجنسُ المنتظمُ لجميعِ أحزانِ الدِّينِ والدُّنيا وقُرىء الحُزْنَ وعن رسول الله ﷺ ليسَ على أهلِ لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورِهم ولا في محشرِهم ولا في مسيرِهم وكأنِّي بأهل لا إله إلا الله يخرجُون من قبورِهم ينفضُون التُّرابَ عن وجوهِهم ويقولُون الحمدُ لله الذي أذهب عنا الحزن ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ﴾ أي للمذنبينَ ﴿شَكُورٌ﴾ للمطيعينَ
154
﴿الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة﴾ أي دارَ الإقامةِ التي لا انتقالَ عنها أبداً ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ من إنعامِه وتفضُّلِه من غيرِ أنْ يوجبَه شيءٌ من قبلنا ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ تعب ﴿وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ كلالٌ والفرقُ بينهما ان النصب نفس المشقَّة والكُلفة واللُّغوب ما يحدث منه من الفتورِ والتَّصريحُ بنفي الثَّاني مع استلزامِ نفي الأوَّلِ له وتكريرُ الفعلِ المنفي للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كلَ منهما
﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ﴾ لا يُحكم عليهم بموتٍ ثانٍ ﴿فَيَمُوتُواْ﴾ ويستريحُوا ونصبُه بإضمارِ أنْ وقُرىء فيموتونَ عطفاً على يقضي كقوله تعالى وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴿وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا﴾ بل كلَّما خبتْ زيد إسعارُها ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الجزاء الفظيعِ ﴿نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ﴾ مبالغٍ في الكفرِ أو الكفرانِ لا جزاء أخف وأدنى منه وقُرىء يُجزى على البناءِ للمفعولِ وإسناده إلى الكلِّ وقرىء يجازى
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ يستغيثُون والاصطراخُ افتعالٌ من الصُّراخِ استُعمل في الاستغاثةِ لجهد المستغيثِ صوتَه ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ﴾ بإضمارِ القولِ وتقييدِ العملِ الصَّالحِ بالوصفِ المذكورِ للتَّحسرِ على ما عملوه من غيرِ الصَّالحِ والاعترافِ به والإشعارِ بأنَّ استخراجَهم لتلافيهِ وأنَّهم كانُوا يحسبونه صالحاً والآنَ تبيَّن خلافُه وقولُه تعالى ﴿أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ جوابٌ من جهتِه تعالى وتوبيخٌ لهم والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ ومَا نكرةٌ موصوفةٌ أي ألم نمهلْكُم أو ألم نؤخرْكُم ولم نعمْركُم عمراً يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ أي يتمكَّنُ فيه المتذكرُ من التَّذكُّرِ والتَّفكُّرِ قيل هو أربعون سنةً وعن ابن عباس رضي الله عنهما ستُّون سنة ورُوي ذلكَ عن عليَ رضيَ الله عنه وهو العُمر الذي أعذرَ الله فيه إلى ابنِ آدم قال ﷺ أعذرَ الله إلى امرىءٍ أخَّر أجلَه حتَّى بلغَ ستِّين سنة وقولُه تعالى ﴿وَجَاءكُمُ النذير﴾ عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ لأنَّها في معنى قد عمَّرناكم كما في قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ووضعنا الخ لأنَّه في معنى قد شرحنا الخ والمرادُ بالنذير رسول الله ﷺ أو ما معه من القُرآن وقيل العقلُ وقيل الشَّيبُ وقيل موتُ الأقاربِ والاقتصارُ على ذكرِ النَّذيرِ لانه الذى
154
فاطر ٣٨ ٤٠ يقتضيهِ المقامُ والفاءُ في قوله تعالى ﴿فذوقوا﴾ لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التَّعميرِ ومجيءِ النَّذيرِ وفي قولِه تعالى ﴿فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ﴾ للتَّعليلِ
155
﴿إِنَّ الله عالم غَيْبِ السماوات والارض﴾ بالإضافةِ وقُرىء بالتَّنوينِ ونصبِ غيبَ على المفعوليةِ أي لا يَخفى عليهِ خافيةٌ فيهما فلا تخفى عليه أحوالُهم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ قيل إنَّه تعليلٌ لما قبله لأنَّه إذا علمَ مضمراتِ الصُّدورِ وهي أخفى ما يكونُ كان أعلمَ بغيرِها
﴿هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الارض﴾ يقال للمستخلَفِ خليفة والأول يُجمع خلائفَ والثَّانِي خلفاءَ والمعنى أنَّه تعالى جعلكم خلفاءَه في إرضه وألقى إليكم مقاليدَ التَّصرفِ فيها وسلَّطكم على ما فيها وأباحَ لكم منافعها أو جعلكم خلفاءَ ممَّن قبلكم من الأممِ وأورثكَم ما بأيديهم من متاعِ الدُّنيا لتشكُروه بالتَّوحيدِ والطَّاعةِ ﴿فَمَن كَفَرَ﴾ منكُم مثلَ هذه النِّعمةِ السَّنيةِ وغمطَها ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي وبالُ كفرِه لا يتعداهُ إلى غيرِه وقولُه تعالى ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ بيانٌ لوبالِ الكفرِ وغائلتِه وهو مقتُ الله تعالى إيَّاهم أي بغضه الشَّديد الذي ليسَ وراءَهُ خزيٌّ وصغارٌ وخسارُ الأخرةِ الذي ما بعدَهُ شرٌّ وخسارٌ والتَّكريرُ لزيادةِ التَّقريرِ والتَّنبيهِ على أن اقتضاءِ الكُفر لكلِّ واحدٍ من الأمرين الهائلينِ القبيحينِ بطريقِ الاستقلالِ والأصالةِ
﴿قل﴾ تبكيتا لهم ﴿أرأيتم شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي آلَهتكم والإضافةُ إليهم لأنَّهم جعلوهم شركاءَ لله تعالى من غير أن يكون له أصلٌ ما أصلاً وقيل جعلُوهم شركاءَ لأنفسِهم فيما يملكونَهُ ويأباه سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه ﴿أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض﴾ بدلُ اشتمالِ من أرأيتُم كأنَّه قيل أخبرُوني عن شركائِكم أرُوني أيَّ جزءٍ خلقُوا من الأرضِ ﴿أَمْ لَهُمْ شرك في السماوات﴾ أي أمْ لهم شركةٌ مع الله سبحانه في خلقِ السَّمواتِ ليستحقُّوا بذلك شركةً في الألوهَّيةِ ذاتيَّةً ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً﴾ ينطقُ بأنَّا اتخذَّناهُم شركاءَ ﴿فَهُمْ على بَيّنَةٍ مّنْهُ﴾ أي حجَّةٍ ظاهرةٍ من ذلكَ الكتابِ بأنَّ لهم شركةً جعليةً ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ آتيناهُم للمشركينَ كما في قوله تعالى أم أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا الخ وقُرىء على بيِّناتٍ وفيه إيماءٌ إلى أنَّ الشِّركَ أمرٌ خطيرٌ لا بُدَّ في إثباتهِ من تعاضدِ الدَّلائلِ ﴿بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً﴾ لمَّا نَفَى أنواعَ الحُججِ في ذلك أضربَ عنه بذكرِ ما حملَهم عليه وهو تغريرٌ الأسلافِ للأخلافِ وإضلالُ الرُّؤساءِ للأتباعِ بأنَّهم شفعاءُ عند الله يشفعُون لهم بالتَّقريبِ إليه
155
فاطر
156
٤١ - ٤٤ ﴿إن الله يمسك السماوات والارض أَن تَزُولاَ﴾ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ غايةِ قُبحِ الشرك وهو له أي يمسكها كراهةَ زوالِهما أو يمنعهما أنْ تزولا لأنَّ الإمساك منع ﴿وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ أي مَا أمسكهما ﴿مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ﴾ من بعدِ إمساكِه تعالى أو من بعدِ الزَّوالِ والجملةُ سادَّةٌ مسدَّ الجوابينِ ومن الأولى مزيدة لتأكيد العُمومِ والثَّانيةُ للابتداءِ ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ غيرَ معاجلٍ بالعقوبةِ التي تستوجبُها جناياتُهم حيثُ أمسكَهما وكانتا جديرتينِ بأنْ تهدّا هداً حسبما قال تعالى تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض وقُرىء ولو زَالَتا
﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم﴾ بلغ قُريشاً قبل مبعثِ رسول الله ﷺ أنَّ أهلَ الكتابِ كذَّبوا رسلَهم فقالُوا لعنَ الله اليَّهودَ والنَّصارَى أتتُهم الرُّسلُ فكذبوهم فو الله لئن أتانا رسولٌ لنكونَّن أهدى من إحدى الامم اليَّهودِ والنَّصارَى وغيرِهم أو من الأمَّةِ التي يُقال لها إِحدى الأممِ تفضيلاً لها على غيرِها في الهُدَى والاستقامةِ ﴿فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ﴾ وأيُّ نذير أشرفُ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام ﴿مَّا زَادَهُمْ﴾ أي النَّذيرُ أو مجيئةُ ﴿إِلاَّ نُفُورًا﴾ تُباعداً عن الحقِّ
﴿استكبارا فِى الارض﴾ بدلٌ من نفورا او مفعول له ﴿ومكر السيء﴾ أصلُه وإنْ مكرُوا السَّيءَ أيَّ المكرَ السَّىءَ ثم ومكرا السيء ثم ومكرو السيء وقرىء بسكونِ الهمزةِ في الوصلِ ولعلَّه اختلاسٌ ظن سكوتا وقفةٌ خفيفةٌ وقرىء مكراً سيِّئاً ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ﴾ أي ما ينتظرونَ ﴿إِلا سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ﴾ أي سُنَّة الله فيهم بتعذيبِ مكذِّبيهم ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ بأنْ يضع موضعَ العذابِ غيرَ العذابِ ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً﴾ بأنْ ينقله من المكذِّبين إلى غيرِهم والفاءُ لتعليلِ ما يُفيدُه الحكمُ بانتظارِهم العذابَ من مجيئهِ ونفيُ وجدانِ التَّبديلِ والتَّحويلِ عبارةٌ عن نفي وجودهما بالطَّريقِ البُرهانِّي وتخصيصُ كلَ منُهما بنفيٍ مستقلَ لتأكيدِ انتفائهما
﴿أو لم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ استشهاد على ما قبلَه من جريانِ سُنَّتِه تعالى على تعذيبِ المكذبين بما يشاهدونه
156
فاطر ٤٥ في مسايرِهم إلى الشَّامِ واليمنِ والعراقِ من آثار دمار الأممِ الماضيةِ العاتيةِ والهمزة للانكار والنفي الواو للعطفِ على مقدَّرٍ يليقُ بالمقامِ أي أقعدُوا في مساكنِهم ولم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم ﴿وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وأطولَ أعماراً فما نفعُهم طولُ المَدَى وما أغنَى عنهم شدَّةُ القُوى ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية وقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء﴾ أي ليسبقه ويفوته ﴿في السماوات وَلاَ فِى الارض﴾ اعتراضٌ مقررٌ لما يُفهم مَّما قبله من استئصالِ الأممِ السَّالفةِ وقولُه تعالىَ ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ أي مُبالغاً في العلمِ والقُدرةِ ولذلك علمَ بجميعِ أعمالِهم السَّيئةِ فعاقبَهم بموجبِها تعليل لذلك
157
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس﴾ جميعاً ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ من السَّيئاتِ كما فُعل بأولئكَ ﴿مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا﴾ أي على ظهرِ الأرضِ ﴿مِن دَابَّةٍ﴾ من نسمةٍ تدُبُّ عليها من بني آدمَ وقيل ومن غيرِهم أيضاً من شؤمِ معاصِيهم وهو المرويُّ عن ابن مسعود وانس رضي الله عنهما ويعضُد الأولَ قولُه تعالى ﴿ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى﴾ وهو يومُ القيامةِ ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ فيجازيهم عندَ ذلك بأعمالِهم إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّاً فشرٌّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الملائكةِ دعتْهُ ثمانيةُ أبوابِ الجنَّةِ أنِ ادخلْ من أيِّ بابٍ شئتَ والله تعالَى أعلم
157
سورة يس ١ ٣
سورة يس مكية وعنه ﷺ تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون
﴿بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾
158
Icon