ﰡ
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة سماعها يوجب روحا لمن كان يشاهد الإتقان، ويوجب لوحا لمن كان بوصف البيان فالرّوح من وجود الإحسان، واللوح من شهود السلطان، وكلّ مصيب، ولكلّ من الحقّ نصيب.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)استحق المدح والثناء على انفراده «١» بالقدرة على خلق السماوات والأرض.
«جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» :
تعرّف إلى العباد بأفعاله، وندبهم إلى الاعتبار بها، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينة كالسموات والأرض وغيرها، ومنها ما سبيل الإيمان به الخبر والنقل- لا بدليل العقل- والملائكة من ذلك فلا نتحقق كيفيّة صورهم وأجنحتهم، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته، وصدق كلمته.
قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» : قيل الخلق الحسن، وقيل الصوت الحسن، وقيل الصوت الحسن وقيل ملاحة العينين، وقيل الكياسة في الخيرة «٢»، وقيل الفصاحة في المنطق، وقيل الفهم عن الله، ويقال السخاء والجود، ويقال الرضا بالتقدير، ويقال علو الهمة، ويقال التواضع، ويقال العفة عند الفقر، ويقال الظرف في الشمائل، ويقال أن تكون محببّا إلى القلوب، ويقال خفة الروح، ويقال سلامة الصدر من الشرور، ويقال المعرفة بالله بلا تأمّل
(٢) اسم من الاختيار.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
الموسّع عليه رزقه لا يضيّق عليه غير الله، والمحروم لا يوسّع عليه غير الله.
ويقال: ما يلج في قلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضياء يقهره.
ويقال: ما يلزم قلوب أوليائه من اليقين فلا مزيل له، وما يغلق على قلوب الأعداء من أبواب الذكر فلا فاتح له غيره- سبحانه.
ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا ممسك له، والذي يمنعه عن أعدائه- بما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا ميّسر له من دونه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)
من ذكر النّعمة فصاحب عبادة، ونائل زيادة، ومن ذكر المنعم فصاحب إرادة، ونائل زيادة.. ولكن فرق بين زيادة وزيادة ذلك زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه:
اليوم سرّا بسرّ من حيث المشاهدة، وغدا جهرا بجهر من حيث المعاينة.
والنعمة على قسمين «٣» : ما دفع عنه من المحن، وما نفع به من المنن فذكره لما دفع عنه يوجب دوام العصمة، وذكره لما نفعه به يوجب تمام النعمة.
بل يفك أسره من هذه القيود لينطلق في رحلة العرفان بالقلب، ثم الروح، ثم السر، ثم عين السر.
(٢) يرى الزمخشري أن الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق وميزة فيه.. وتلك أمور لا يحيط بها وصف. [.....]
(٣) مرة أخرى يعود القشيري إلى ذكر نعم الدفع، ونعم النفع، وواضح أن الذكر والشكر لا زمان على الدوام.. هذا هو المقصد الذي يطمح إليه القشيري.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
هذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتسهيل للصبر عليه فإذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثلما استقبله، وأنّهم صبروا وأنّ الله كفاهم، فهو يسلك سبيلهم ويقتدى بهم، وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، بينما أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم «٢».
والعوامّ أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء «٣» المتقشفين، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)
(٢) لجأ «ملامتية» نيسابور إلى هذا الستر، واكتفوا بعلم الله بأسرار هم وصلاح باطنهم، ولم يأبهوا بالمخلوقين.
بل رغبة في تأكيد علاقتهم بالله، وإمعانا في إخفاء حقائقهم كانوا يقومون بأشياء تستوجب الملامة.. نقول ذلك رغبة في توضيح أن أفكار هذا المذهب كانت معروفة في مدينة نيسابور موطن القشيري، كما كان السلمى جد أبى عبد الرحمن صديقه الحميم واحدا من رواد هذا المذهب وأئمته.
(٣) القراء جماعة من قراء القرآن ظهروا منذ عهد مبكر (ولازموا الأعمدة في الليل يتهجدون، حتى إذا جاء النهار استقوا الماء واحتطبوا للنبى وكانوا في صحبته (ابن سعد ح ٣ ق ١ ص ٣٦، ٣٧)، ولكن اللفظة أطلقت فيما بعد بصفة عامة على (الذين يزورون عن الدنيا ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح والزهد والتأمل) ابن سعد ج ٦ ص ٢٥٥. (ويقال تقرى بتسهيل الهمزة أي تنسك) (أمالى القالي ح ٣ ص ٤٧).. ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة تنقية هذا اللون من التعبد من كل الأغراض والأمراض حيث يقول: «يا أيها الناس إنه أتى على حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد خيل إلى أن أقواما يقرءون القرآن يريدون به ما عند الله، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وبأعمالكم» البيان والتبيين ح ٣ ص ١٣٨. ولكن يبدو أن الزمن قد فعل فعله في خروج طوائف من القراء عن هذا الخط... الأمر الذي جعل القشيري- وقد عاش في القرنين الرابع والخامس- يتحفظ في الحكم عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٦]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
عداوة الشيطان بدوام مخالفته فإنّ من الناس من يعاونه بالقول ولكن يوافقه بالفعل، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربّ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة، والشيطان لا يفتر في عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة فيبرز لك عدوّك فإنه أبدا متمكّن لك.
«إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ» وحزبه هم المعرضون عن الله، المشتغلون بغير الله، الغافلون عن لله. ودليل هذا الخطاب: إن الشيطان عدوّكم فأبغضوه واتخذوه عدوا، وأنا وليّكم وحبيبكم فأحبّونى وارضوا بي حبيبا.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٧]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
الذين كفروا لهم عذاب معجل وعذاب مؤجّل، فمعجّله تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم ووقاحة همّتهم حتى أنهم يرضون بأن يكون الصنم معبودهم. وأمّا عذاب الآخرة فهو ما لا تخفى على مسلم- على الجملة- صعوبته.
«وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» : والأجر الكبير اليوم سهولة العبادة ودوام المعرفة، وما يناله في القلب من زوائد اليقين وخصائص الأحوال. وفي الآخرة: تحقيق السّؤل ونيل ما فوق المأمول.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٨]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
معنى الآية: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن ليس كذلك؟ لا يستويان! ومعنى «زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» أن الكافر يتوهّم أنّ عمله حسن، قال تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «١».
ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ويحوّش «٢» حطامها، ولا يفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كما لها فلقد زين له سوء عمله (والذي يتبع شهواته ويبيع مؤبّد راحاته فى الجنة بساعة فلقد زين له سوء عمله) «٣». وإن الذي يؤثر على ربّه شيئا من المخلوقات لهو من جملتهم. والذي يتوهّم أنه إذا وجد نجاته ودرجاته في الجنة- وأنّ هذا يكفيه... فقد زيّن له سوء عمله حيث يتغافل عن حلاوة المناجاة. والذي هو في صحبة حظوظه ولا يؤثر حقوق الله فلقد زين له سوء عمله فرآه حسنا.
«فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» : يعنى إذا عرفت حقّ «٤» التقدير، وعلمت أنهم سقطوا من عين الله، ودعوتهم جهرا، وبذلت لهم نصحا، فاستجابتهم ليست لك، فلا تجعل على قلبك من ذلك مشقة ولا عناء.
(٢) حوش المال ونحوه- جمعه وادخره (الوسيط).
(٣) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(٤) هكذا في م وهي في ص (سرّ) التقدير.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٩]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
أجرى سنّته بأنه يظهر فضله في إحياء الأرض بالتدريج فأولا يرسل الرياح ثم يأتى بالسحاب، ثم يوجّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد له تخصيصا كيف يشاء، ويمطر هناك كيف يشاء. كذلك إذا أراد إحياء قلب عبد بما يسقيه وينزل عليه من أمطار عنايته، فيرسل أولا رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشىء فيها سحب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يجود بمطر ينبت في القلب أزهار البسط، وأنوار «١» الرّوح، فيطيب لصاحبه العيش إلى أن تتمّ لطائف الأنس.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
من كان يريد العزة بنفسه فليعلم أنّ العزة بجملتها لله، فليس للمخلوق شىء من العزّة.
ويقال من كان يريد العزة لنفسه فلله العزّة جميعا، أي فليطلبها من الله، وفي آية أخرى أثبت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وقال هاهنا «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» ووجه الجمع بينهما أن عزّ الربوبية لله وصفا، وعزّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلا من الله ولطفا فإذا العزّة لله جميعا.
وعزّه سبحانه- قدرته. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يقهر فيكون من صفات فعله على أول القولين.. ومن صفات ذاته على القول الآخر. ويقال العزيز هو الذي لا يوصل إليه من قولهم: أرض عزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه.
ويقال العزيز الذي لا مثل له من قولهم: عزّ الطعام في اليد، فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.
«وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» : أي يقبله. ويقال العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. ويقال الكلم الطيب ما يكون موافقا للسّنّة، ويقال هو ما يشهد بصحّته الإذن والتوقيف. ويقال هو نطق القلب بالثناء على ما يستوجبه الربّ. ويقال هو ما يكون دعاء للمسلمين. ويقال ما يتجرد حقّا للحقّ ولا يكون فيه حظّ للعبد. ويقال ما هو مستخرج من العبد وهو فيه مفقود «٢». ويقال هو بيان التنصّل وكلمة الاستغفار.
ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يطلب عليه عوض قوله جل ذكره: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ».
أي يقلب عليهم مكرهم فما يتوهمونه من خير لهم يقلبه محنة عليهم. ويقال: تخليته إياهم ومكرهم «٣» - مع قدرته على عصمتهم، وكونه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بحالتهم، ثم إن ما يتّخذ من الطين سريع التغيّر، قليل
(٢) أي ما يصدر عن العبد وهو مأخوذ مستلب عن نفسه- من المعارف.
(٣) نصبنا الراء فى (ومكرهم) لتكون مفعولا معه فهكذا نفهم السياق.
وإذا كان لا يخفى عليه- سبحانه- شىء من أحوالهم في ابتداء خلقتهم، فمن يبال أن يخلق من يعلم أنه يعصى فلا يبالى أن يغفر لمن رآه يعصى «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٢]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
لا تستوى الحالتان: هذه إقبال على الله، واشتغال بطاعته، واستقلال بمعرفته.. وهذه إعراض عن الله، وانقباض عن عبادته، واعتراض- على الله- فى قسمته وقبضته. هذه سبب وصاله، وهذه سبب هجره وانفصاله، وفي كلّ واحدة من الحالتين يعيش أهلها، ويزجى أصحابها وقتها. ولا يستوى الوقتان: هذا بسط وصاحبه في روح، وهذا قبض وصاحبه في نوح. هذا خوف وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاء وصاحبه في ارتياح. هذا فرق وصاحبه بوصف العبودية، وهذا جمع وصاحبه في شهود الربوبية.
«وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» : كذلك كلّ يتقرّب فى حالته لربّه ويتزيّن على بابه، وهو حليته التي بها يتحلى من طرب أو حرب، من شرف أو تلف.
(٢) أي أن معصية العبد من العبد عملا- وفي هذا إثبات لحرية الإنسان واختياره- وإن كانت من الله علما...
وهو من قبل ومن بعد غافر الذنب وقابل التوب. [.....]
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٣]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)
تغلب النّفس مرة على القلب، ويغلب القلب مرة على النّفس. وكذلك القبض والبسط فقد يستويان، ومرة يغلب القبض على البسط، ومرة يغلب البسط على القبض، وكذلك الصحو والسّكر، وكذلك الفناء والبقاء.
وسخّر شموس التوحيد وأقمار المعرفة على ما يريد من إظهاره على القلوب.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ» : فأرونى شظية من النفي أو الإثبات لما تدعونه من دونه! وإذ لم يمكنكم ذلك.. فهلّا أقررتم، وفي عبادته أخلصتم، وعن الأصنام تبرّأتم؟.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٤]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
إن استعنتم بأصنامكم لا يعينوكم، وإن دعوتموهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا- على جهة ضرب المثل- لا يستجببون لكم لأنهم لا يملكون نفع أنفسهم.. فكيف يملكون نفع غيرهم؟! «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» : لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت، ولكن لا ينفعهم الإيمان بعد زوال التكليف.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)
الفقر على ضربين: فقر الخلقة وفقر الصفة فأمّا فقر الخلقة فهو عامّ لكلّ أحد فكلّ مخلوق مفتقر إلى خالقه، فهو قد حصل من العدم، فهو مفتقر إليه ليبديه وينشيه، ثم بعد
وأمّا فقر الصفة فهو التجرّد ففقر العوام التجرّد من المال، وفقر الخواص التجرد من الأعلال ليسلم لهم الفقر.
والفقر على أقسام: فقر إلى الله، وفقر إلى شىء هو من الله معلوم أو مرسوم وغير ذلك.
ومن افتقر إلى شىء استغنى بوجود ذلك الشيء فالفقير إلى الله هو الغنيّ بالله، والافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله، فالمفتقر إلى الله مستغن بالله، والمستغنى بالله مفتقر إلى الله «٢».
ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخضوع، ومن آفات الغنى امتزاجه بالتكبّر.
وشرف العبد في فقره، وكذلك ذلّه في توهمه أنه غنيّ: -
وإذا تذلّلت الرّقاب تقرّبا | منّا إليك فعزّها في ذلّها «٣» |
ومن شرط الفقير المخلص ألا يملك شيئا ويملك كلّ شىء.
ويقال: الفقير الصادق الذي لا يملكه شىء «٤».
ومن آداب الفقير الصادق إظهار التّشكّر عند كمال التكسّر. ومن آداب الفقر كمال المعنى وزوال الدعوى. ويقال الشكر على البلوى والبعد عن الشكوى.
(٢) من أقوال الجنيد في هذا الصدد وقد سئل عن الافتقار إلى الله: أهو أتم أم الاستغناء بالله قال: إذا صح الافتقار إلى الله فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أتم لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى (الرسالة ص ١٣٥).
(٣) من أقوالهم في هذا الصدد: لو علم أبناء الملوك ما نحن فيه من عز لجالدونا عليه.
(٤) أي لا يكون أسيرا لغرض أو لعرض، فتلك آفة الدنيا والنفس.
ويقال: الفقر المحمود العيش مع الله براحة الفراغ على سرمد الوقت من غير استكراه شىء منه بكلّ وجه.
قوله: «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» : الإشارة منه أن يعطى حتى يحمد.
ويقال الغنىّ إذا أظهر غناه لأحد فإمّا للمفاخرة أو للمكاثرة- وجلّ قدر الحقّ عن ذلك- وإمّا ليجود ويتفضّل على أحد.
ويقال: لا يقول لنا أنتم الفقراء للإزراء بنا- فإنّ كرمه يتقدّس عن ذلك- وإنما المقصود أنه إذا قال: والله الغنى، وأنتم الفقراء أنه يجود علينا.
ويقال إذا لم تدّع ما هو صفته- من استحقاق الغنى- أولاك ما يغنيك، وأعطاك فوق ما يكفيك.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٦ الى ١٧]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧)
عرّفك أنه غنيّ عنك، وأشهدك موضع فقرك إليه، وأنه لا بدّ لك منه، فما القصد من هذا إلا إرادته لإكرامك وإيوائك في كنف إنعامه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٨]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
كلّ مطالب بعمله، وكلّ محاسب عن ديوانه، ولكلّ معه شأن، وله مع كلّ أحد شأن. ومن العبادات ما تجرى فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجرى النيابة فلو أن عبدا عاصيا منهمكا في غوايته فاتته صلاة مفروضة، فلو قضى عنه ألف ولىّ وألف صفيّ تلك الصلاة الواحدة عن كل ركعة ألف ركعة لم تقبل منه إلّا أن يجىء هو: معاذ الله أن نأخذ إلا ممّن وجدنا متاعنا عنده! فعتابك لا يحرى مع غيرك، والخطاب الذي معك لا يسمعه غيرك:
فسر أو أقم وقف عليك محبتى | مكانك من قلبى عليك مصون |
الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة، والخشية هي المخافة فمعنى الآية، لا ينفع التخويف إلّا لمن صاحب الخوف- وطير السماء على أشكالها تقع.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢)
كما لا يستوى الأعمى والبصير لا تستوى الظلمات والنور، ولا يستوى الظلّ والحرور، ولا الأحياء والأموات.. وكذلك لا يستوى الموصول بنا والمشغول عنّا، والمجذوب إلينا، والمحجوب عنّا، ولا يستوى من اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوى من أشهدناه حقّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذكرنا:
أحبابنا شتان: واف وناقض ولا يستوى قطّ محبّ وباغض قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
أي وما من أمة ممن كانوا من قبلك إلّا بعثنا فيهم نذيرا، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافة بالحقّ.
«بَشِيراً وَنَذِيراً» : تضمنت الآية بيان أنه لم يخل زمانا ولا قوما من شرع.
وفي وقته ﷺ أفرده بأن أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٥]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥)أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سنّتهم مع كلّ نبىّ، وإن أصرّوا على سنّتهم في الغيّ فلن تجد لسنّة الله تبديلا في الانتقام والخزي.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
بيّن في هذه الآية وأمثالها أن تخصيص الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقان الفعل وإحكامه شهادة على علم الصانع وإعلامه.
وكذلك أيضا «مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ» : بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت منشها بنعت الجلال.
قوله جل ذكره: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ».
«إِنَّما» كلمة تحقيق تجرى من وجه مجرى التحديد أي التخصيص والقصر، فمن فقد العلم بالله فلا خشية له من الله.
والفرق بين الخشية والرهبة أنّ الرهبة خوف يوجب هرب صاحبه فيجرى في هربه، والخشية إذا حصلت كبحت جماح صاحبها فيبقى مع الله، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة «١».
والخوف قضية الإيمان، قال تعالى: «وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «٢» فالخشية قضية العلم، والهيبة توجب المعرفة.
(٢) آية ١٧٥ سورة آل عمران.
ويقال حذرا من أن يحصل لهم سوء أدب وترك احترام، وانبساط في غير وقته بإطلاق لفظ، أو ترخّص بترك الأولى.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)
الذين يستغرق جميع أوقاتهم قيامهم بذكر الله وبحقّه، وإتيانهم بأنواع العبادات وصنوف القرب فلهم القدر الأجلّ من التقريب، والنصيب الأوفر من الترحيب. وأما الذين أحوالهم بالضدّ فمنالهم على العكس. أولئك هم الأولياء الأعزّة، وهؤلاء هم الأعداء الأذلّة.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣١]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)
ما عرّفناك- من اختيارنا لك وتخصيصنا إياك، وتقديمنا لك على الكافة- فعلى ما أخبرناك، وأنشدوا:
لا أبتغى بدلا سواك خليلة | فثقى بقولي والكرام ثقات |
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٢]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)
«أَوْرَثْنَا» : أي أعطينا الكتاب- أي القرآن- الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاء بلفظ الإرث توسّعا.
«اصْطَفَيْنا» : أي اخترنا. ثم ذكر أقسامهم، وفي الخبر أنه لمّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام: «أمتى وربّ الكعبة» ثلاث مرات.
ومحلّ النّسب هاهنا المعرفة، ومحلّ السبب الطاعة. وإن قيل محلّ النّسب فضله، ومحل السبب فعلك «١».. فهو وجه. ويصحّ أن يقال محلّ النسب اختياره لك بدءا ومحلّ السبب إحسانه لك تاليا.
ويقال أهل النسب على أقسام: - الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق.
ويقال جميع وجوه التملّك لا بدّ فيها من فعل للعبد كالبيع، أمّا ما يملك بالهبة فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك: والوصية لا تستحقّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لا بدّ من قبول أهل السّهمان، والميراث لا يكون فيه شىء من جهة الوارث وفعله، والنّسب ليس من جملة أفعاله.
ويقال الميراث يستحقّ بوجهين: بالفرض والتعصيب، والتعصيب أقوى من الفرض لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعصبة «٢».
«فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» : تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأفضل، وأرادوا به من ظلم نفسه لكثرة ما حمّلها من الطاعة.
والأكثرون: إنّ السابق هو الأفضل، وقالوا: التقديم في الذكر لا يقتضى التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة «٣».
ويقال قرن باسم الظالم قرينة وهي قوله: «لِنَفْسِهِ»، وقرن باسم السابق قرينة وهي قوله:
(٢) العصبة واحدة العصب، وعصبة الرجل (فى الفرائض) من ليست له فريضة مسماة في الميراث، وإنما يأخذ ما أبقى ذو والفروض. أنظر رأى القشيري في تفضيل التعصيب على الفرض (المجلد الأول من هذا الكتاب ص ٣١٧)
(٣) على نحو ما يذكره البلاغيون في ذكر الخاص بعد العام.
لنفسه، والسابق كسر صولته بقوله: بإذن الله.
كأنه قال: يا ظالم ارفع رأسك، ظلمت ولكن على نفسك، ويا سابق اخفض «١» رأسك سبقت- ولكن بإذن الله.
ويقال إنّ العزيز إذا رأى ظالما قصمه، والكريم إذا رأى مظلوما أخذ بيده، كأنه قال:
يا ظالم، إن كان كونك ظالما يوجب قهرك، فكونك مظلوما يوجب الأخذ بيدك «٢».
ويقال الظالم من غلبت زلّاته، والمقتصد من استوت حالاته، والسابق من زادت حسناته.
ويقال الظالم من زهد في دنياه، والمقتصد من رغب في عقباه، والسابق من آثر على الدارين مولاه.
ويقال الظالم من نجم كوكب عقله، والمقتصد من طلع بدر علمه، والسابق من ذرّت «٣» شمس معرفته.
ويقال الظالم من طلبه، والمقتصد من وجده، والسابق من بقي معه.
ويقال الظالم من ترك المعصية، والمقتصد من ترك الغفلة، والسابق من ترك العلاقة «٤».
ويقال الظالم من جاد بماله، والمقتصد من لم يبخل بنفسه، والسابق من جاد بروحه.
ويقال الظالم من له علم اليقين، والمقتصد من له عين اليقين، والسابق من له حق اليقين.
ويقال الظالم صاحب المودة، والمقتصد صاحب الخلّة، والسابق صاحب المحبة.
ويقال الظالم يترك الحرام، والمقتصد يترك الشّبهة، والسابق يترك الفضل «٥» فى الجملة.
(٢) فآية كرم المولى سبحانه أنه ينظر إلى الظالم على أنه مظلوم مظلوم من قبل نفسه التي دعته إلى أن يظلم غيره.... ولعمرى إنها غاية الكرم كما يتصورها هذا الصوفي الجليل.
(٣) ذرت الشمس ذروا أي ظهرت أول شروقها (الوسيط).
(٤) أي العلاقة بالدنيا والنفس وما يتصل بهما.
(٥) الفضل هنا معناه ما زاد عن الحاجة الضرورية اتقاء للحرام والشبهة، يقول سهل التّسترى: «إذا كان الحلال في التدين هو ما لا يعصى الله فيه فإن الحلال عند الصوفي مالا ينسى الله فيه». [.....]
ويقال الظالم صاحب رجاء، والمقتصد صاحب بسط، والسابق صاحب أنس.
ويقال الظالم صاحب خوف، والمقتصد صاحب خشية، والسابق صاحب هيبة.
ويقال الظالم له المغفرة، والمقتصد له الرحمة والرضوان، والسابق له القربة والمحبة.
ويقال الظالم صاحب الدنيا، والمقتصد طالب العقبى، والسابق طالب المولى.
ويقال الظالم طالب النجاة، والمقتصد طالب الدرجات، والسابق صاحب المناجاة.
ويقال الظالم أمن من العقوبة، والمقتصد فاز بالمثوبة، والسابق متحقق بالقربة.
ويقال الظالم مضروب بسوط الحرص، مقتول بسيف الرغبة، مضطجع على باب الحسرة.
والمقتصد مضروب بسوط الندامة، مقتول بسيف الأسف، مضطجع على باب الجود.
والسابق مضروب بسوط التواجد، مقتول بسيف المحبة، مضطجع على باب الاشتياق.
ويقال الظالم صاحب التوكل، والمقتصد صاحب التسليم، والسابق صاحب التفويض.
ويقال الظالم صاحب تواجد، والمقتصد صاحب وجد، والسابق صاحب وجود.
ويقال الظالم صاحب المحاضرة، والمقتصد صاحب المكاشفة، والسابق صاحب المشاهدة.
ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة، والمقتصد يراه في كل يوم مرة، والسابق غير محجوب عنه البتة.
ويقال الظالم مجذوب إلى فعله الذي هو فضله، والمقتصد مكاشف بوصفه الذي هو عزّه، والسابق المستهلك في حقّه الذي هو وجوده.
قوله: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» لأنه ذكر الظالم مع السابق «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٣]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
(٢) أعجب القرطبي بمنهج الصوفية في تفسير «الظالم والمقتصد والسابق» على هذا النحو فأورد طائفة كبيرة من أقوالهم استغرقت نحو صفحة ونصف الصفحة (ح ١٤ ص ٣٤٨).
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٤]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)
تحققوا بحقائق الرضا، والحزن سمّى حزنا لخزونة «١» الوقت على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضا واستبشار.
ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوء الأدب. ويقال هو سياسة النفس.
«إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ» للعصاة، «شَكُورٌ» للمطيعين. قدّم ما للعاصين رفقا بهم لضعف أحوالهم «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٥]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
«دارَ الْمُقامَةِ» : أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجا.
«لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» : إذا أرادوا أن يروا «٣» مولاهم لا يحتاجون إلى قطع مسافة، بل في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاما، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقة أو تحديق مقلة في جهة «٤» يرونه كماهم بلا كيفية.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
(٢) يتجلى هنا ما يتمتع به هذا الصوفي من نزعة الأمل وفتح الباب أمام العصاة.
(٣) يضاف هذا الرأى إلى موضوع «رؤية الله في الآخرة» كما يتصوره القشيري.
(٤) هكذا في م وهي في ص (وجهة) وكلاهما صحيح إذ المقصود تنزيه من يرونه- سبحانه- عن التقيد بالمكانية.. جلت الصمدية عن التقيد بمحل.
«وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ»، فيقال لهم أو لم نعمركم... ؟
أما جاءكم النذير قبل أن تبلغوا زمان المشيب؟
ويقال: ألم تستوفوا مدة الإمهال في النظر؟
«وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» : الرسل، ويقال ضعف الشيخوخة، ويقال سقوط السّنّ، ويقال تقوّس الظّهر.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٨]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)
أي عالم بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين.
عالم بمن يريد بالناس السوء وبمن يحسن بالله الظنّ.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٩]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
أهل كلّ عصر خليف عمن تقدمهم فمن قوم هم لسلفهم حمال «١»، ومن قوم هم أراذل وأنذال فالأفاضل زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة. وقد قالوا:
يوم وحسب الدهر من أجله | حيّا غد والتفت الأمس |
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)
كرّر إشهادهم عجز أصنامهم، ونقص من اتخذوهم آلهة من أوثانهم ليسفّه بذلك آراءهم، ولينبّههم إلى ذميم أحوالهم وأفعالهم، وخسّة هممهم، ونقصان عقولهم.
ثم أخبر أنهم لا يأتون بشىء مما به يطالبون، وليس لهم صواب عمّا يسألون.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
أمسكها بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتّبهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإفنائهما يساهمه، ولا شريك في وجودهما ونظامهما يقاسمه.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
ليس لقولهم تحقيق، ولا لعهدهم وضمانهم توثيق، وما يعدون من أنفسهم فصريح زور، وما يوهمون من وفائهم فصرف تغرير.. وكذلك المريد في أوان نشاطه تمنيه نفسه م (١٤) لطائف الإشارات- ج ٣-
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٤]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
فى الجملة ما خاب له وليّ، وما ربح له عدوّ، ولا ينال الحقيقة من انعكس قصده، بل يرتدّ عليه كيده وهو سبحانه يدمّر على أعدائه تدميرا، ويوسع لأوليائه فضلا كبيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٥]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
لو عجّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تف أعمارهم القليلة به، وما اتسعت أيامهم القصيرة له، فأخّر ذلك ليوم الحشر.. فإنّه طويل. والله على كل شىء قدير، وبأمور عباده خبير بصير.