تفسير سورة فاطر

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة فاطر
سورة الملائكة مكية، عددها خمس وأربعون آية كوفية

﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾ الشكر لله ﴿ فَاطِرِ ﴾ يعني خالق ﴿ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾ منهم جبريل، وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، والكرام الكاتبين، عليهم السلام، ثم قال جل وعز: الملائكة ﴿ أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ يقول: من الملائكة من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولإسرافيل ستة أجنحة، ثم قال جل وعز: ﴿ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ وذلك أن في الجنة نهراً يقال له نهر الحياة يدخله كل يوم جبريل، عليه السلام، بعد ثلاث ساعات من النهار يغتسل فيه، وله جناحان ينشرهما في ذلك النهر، ولجناحه سبعون ألف ريشة، فيسقط من كل ريشة قطرة من ماء، فيخلق الله جل وعز منها ملكاً يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة، فذلك قوله عز وجل: ﴿ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من خلق الأجنحة من الزبادة ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١] يعني يزيد في خلق الأجنحة على أربعة أجنحة ما يشاء.﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ﴾ الرزق نظيرها في بني إسرائيل ابتغاء رحمة من ربك، يعني الرزق ﴿ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ لا يقدر أحد على حبسها ﴿ وَمَا يُمْسِكْ ﴾ وما يحبس من الرزق ﴿ فَلاَ مُرْسِلَ ﴾ يعني الرزق ﴿ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾ فلا معطي من بعد الله ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٢] في أمره.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ يعني أهل مكة ﴿ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ ثم أخبرهم بالنعمة، فقال جل وعز: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ يعني المطر ﴿ وَٱلأَرْضِ ﴾ يعني النبات، ثم وحد جل جلاله، فقال: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾ [آية: ٣].
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾ يعزي النبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم إياه ﴿ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ [آية: ٤] أمور العباد تصير إلى جل وعز في الآخرة.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ يعني كفار مكة ﴿ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾ في البعث أنه كائن ﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ عن الإسلام ﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ ﴾ [آية: ٥] الباطل وهو الشيطان.
ثم قال جل وعز: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ حين أمركم بالكفر بالله ﴿ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾ يقول: فعادوه بطاعة الله عز وجل، ثم قال جل وعز ﴿ إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ ﴾ إنما يدعو شيعته إلى الكفر بتوحيد الله عز وجل.
﴿ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾ [آية: ٦] يعني الوقود. يم بين مستقر الكفار، ومستقر المؤمنين، فقال عز وجل: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ في الآخرة ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ صدقوا بتوحيد الله عز وجل ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ أدوا الفرائض ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم يعني جزاءهم عند ربهم ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [آية: ٧] في الجنة.﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءَ عَمَلِهِ ﴾ نزلت في أبي جهل بن هشام ﴿ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ ﴾ عن الهدى ﴿ مَن يَشَآءُ ﴾ فلا يهديه إلى الإسلام ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ لدنيه ﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فلا تقتل نفسك ندامة عليهم، يعني أهل مكة ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [آية: ٨].
﴿ وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ ﴾ فسقنا السحاب ﴿ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ يعني بالميت أنه ليس عليه نبت ﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ﴾ بالماء ﴿ ٱلأَرْضَ ﴾ فتنبت ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ بعد إذ لم يكن عليها نبت ﴿ كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ ﴾ [آية: ٩] هكذا يحيون يوم القيامة بالماء كما يحيي الأرض بعد موتها ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ ﴾ المنعة بعبادة الأوثان فليعتز بطاعة الله عز وجل.﴿ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ جميع من يتعزز فإنما يتعزز بإذن الله عز وجل ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ ﴾ العمل الحسن يقول: إلى الله عز وجل يصعد في السماء التوحيد ﴿ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ يقول: شهادة ألا إله إلا الله ترفع العمل الصالح إلى الله عز وجل في السماء، ذكروا عن ابن عباس أنه قال: ﴿ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ الله إليه، ثم ذكر جل ثناؤه من لا يوحده، فقال جل ثناؤه: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ الذين يقولون الشرك ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ في الآخرة، ثم أخبر عن شركهم، فقال عز وجل ﴿ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [آية: ١٠] وقولهم الشرك يهلك في الآخرة.
ثم دل جل وعز على نفسه، فقال: ﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ﴾ يعني بدأ خلقكم ﴿ مِّن تُرَابٍ ﴾ يعني آدم عليه السلام ﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ يعني نسله ﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ ﴾ ذرية آدم ﴿ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ ﴾ يقول: لا تحمل المرأة الولد ﴿ وَلاَ تَضَعُ ﴾ الولد ﴿ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ ثم قال جل وعز: ﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ﴾ يعني من قل عمره أوكثر فهو إلى أجله الذي كتب له، ثم قال جل وعز: ﴿ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ﴾ كل يوم حتى ينتهي إلى أجله ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ اللوح المحفوظ مكتوب قبل إن يخلقه ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [آية: ١١] الأجل حين كتبه الله جل وعز في اللوح المحفوظ.﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ ﴾ يعني الماء العذاب والماء المالح ﴿ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ يعني طيب ﴿ سَآئِغٌ شَرَابُهُ ﴾ يسيغه الشارب ﴿ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ مر لا ينبت ﴿ وَمِن كُلٍّ ﴾ من الماء المالح والعذب ﴿ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ السمك ﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ﴾ يعني اللؤلؤ ﴿ تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ يعني بالمواخر أن سفينتين تجريان أحدهما مقبلة والآخرى مدبرة بريح واحدة، تستقبل إحداهما الأخرى ﴿ لِتَبْتَغُواْ ﴾ في البحر ﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾ من رزقه ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ١٢].
﴿ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ ﴾ انتقاص كل واحد منهما من الآخر حتى يصير أحداهما إلى تسع ساعات والآخر إلى خمس عشرة ساعة ﴿ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾ لبني آدم ﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ كلاهما دائبان يجريان إلى يوم القيامة، ثم دل على نفسه، فقال جل وعز: ﴿ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ ﴾ فاعرفوا توحيده بصنعه، ثم عاب الآلهة، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ ﴾ الذين تعبدون ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ الأوثان ﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ [الآية: ١٣] قشر النوى الذي يكون على النوى الرقيق. ثم أخبر عن الآلهة اللات والعزى، ومناة، فقال سبحانه: ﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ﴾ يقول: لو أن الأصنام سمعوا ما استجابوا لكم ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ ﴾ يقول: إن الأصنام يوم القيامة يتبرءون من عبادتكم إياها، فتقول للكفار: ما أمرناكم بعبادتنا، نظيرها في يونس:﴿ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾[يونس: ٢٩] ثم قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [آية: ١٤] يعني الرب نفسه سبحانه فلا أحد أخبر منه. قوله عز وجل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ يعني كفار مكة ﴿ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ يعني إلى ما عند الله تعالى ﴿ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾ عن عبادتكم ﴿ ٱلْحَمِيدُ ﴾ [آية: ١٥] عند خلقه.﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ ﴾ أيها الناس بالهلاك إذا عصيتم ﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [آية: ١٦] غيركم أمثل منكم.﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [آية: ١٧] إن فعل ذلك هو على الله هين.﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ﴾ من الوزر ﴿ إِلَىٰ حِمْلِهَا ﴾ من الخطايا أن يحمل عنها ﴿ لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ ﴾ من وزرها ﴿ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ﴾ ولو كان بينهما قرابة ما حملت عنها شيئاً من وزرها ﴿ إنَّمَا تُنذِرُ ﴾ المؤمنين ﴿ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ ﴾ آمنوا به ولم يروه ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أتموا الصلاة المكتوبة ﴿ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ﴾ ومن صلح فصلاحه لنفسه ﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ١٨] فيجزى بالأعمال في الأخرة. ثم ضرب مثل المؤمن والكافر، فقال جل وعز: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾ [آية: ١٩] وما يستويان في الفضل والعمل الأعمى عن الهدى، يعني الكافر والبصير بالهدى المؤمن.﴿ وَلاَ ﴾ تستوي ﴿ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ ﴾ [آية: ٢٠] يعني بالظلمات الشرك والنور يعني الإيمان.
﴿ وَلاَ ٱلظِّلُّ ﴾ يعني الجنة ﴿ وَلاَ ٱلْحَرُورُ ﴾ [آية: ٢١] يعني النار.﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ ﴾ المؤمنين ﴿ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ ﴾ يعني الكفار والبصير، والظل والنور، والأحياء، فهو مثل المؤمن، والأعمى، والظلمات، والحرور، والأموات، فهو مثل الكافر، ثم قال جل وعز: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ ﴾ الإيمان ﴿ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ ﴾ يا محمد ﴿ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ ﴾ [آية: ٢٢] وذلك أن الله جل وعزشبه الكافر من الأحياء حين دعوا إلى الإيمان فلم يسمعوا، بالأموات أهل القبور الذين لا يسمعون الدعاء. ثم قال للنبي، عليه السلام، حين لم يجيبوه إلى الإيمان: ﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ [آية: ٢٣] ما أنت إلا رسول ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾ لم نرسك رسولاً باطلاً لغير شىء ﴿ بَشِيراً ﴾ لأهل طاعته بالجنة ﴿ وَنَذِيراً ﴾ من النار لأهل معصيته، ثم قال: ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ ﴾ وما من أمة فيما مضى ﴿ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [آية: ٢٤] إلا جاءهم رسول غير أمة محمد، فإنهم لم يجئهم رسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجيئهم إلى يوم القيامة.﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾ يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر فلست بأول رسول كذب ﴿ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من الأمم الخالية ﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ بالآيات التي كانوا يصنعون ويخبرون بها ﴿ وَبِٱلزُّبُرِ ﴾ وبالأحاديث التي كانت قبلهم من المواعظ ﴿ وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ ﴾ [آية: ٢٥] المضىء الذي فيه أمره ونهيه.﴿ ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بالعذاب ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [آية: ٢٦] تغييري الشر.﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾ يعني المطر ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ﴾ بالماء ﴿ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ﴾ بيض وحمر وصفر ﴿ وَمِنَ ٱلْجِبَالِ ﴾ أيضاً ﴿ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ﴾ يعني بالجدد الطرائق التي تكون في الجبال منها أبيض وأحمر ﴿ وَ ﴾ منها ﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [آية: ٢٧] يعني الطوال السود. ثم قال جل وعز: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ ﴾ بيض وحمر وصفر وسود ﴿ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ اختلاف ألوان الثمار، ثم قال جل وعز: ﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ﴾ فيها تقديم يقول: أشد الناس لله عز وجل خيفة أعلمهم الله تعالى ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ في ملكه ﴿ غَفُورٌ ﴾ [آية: ٢٨] لذنوب المؤمنين.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ في مواقيتها ﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ من الأموال ﴿ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ [آية: ٢٩] لن تهلك، هؤلاء قوم من المؤمنين أثنى الله جل وعز عليهم.﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ﴾ ليوفر لهم أعمالهم ﴿ وَيَزِيدَهُم ﴾ على أ عمالهم من الجنة ﴿ مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ ﴾ للذنوب العظام ﴿ شَكُورٌ ﴾ [آية: ٣٠] لحسناتهم.
﴿ وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ يقول: إن قرآن محمد صلى الله عليه وسلم يصدق ما قبله من الكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء، عليهم السلام ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ ﴾ بأعمالهم ﴿ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٣١] بها.﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ﴾ قرآن محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا ﴾ اخترنا ﴿ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ من هذه الأمة ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ﴿ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ عدل في قوله ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ ﴾ الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة، وتصديق الأنبياء ﴿ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ﴾ بأمر الله عز وجل ﴿ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ ﴾ [آية: ٣٢] دخول الجنة. ثم أخبره بثوابهم، فقال جل وعز: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ تجري من تحتها الأنهار ﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾ هؤلاء الأصناف الثلاثة ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾ بثلاث أسورة ﴿ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [آية: ٣٣] وقد حبس الظالم بعد هؤلاء الصنفين السابق والمقتصد، ما شاء الله من أجل ذنوبهم الكبيرة، ثم غفرها لهم وتجاوز عنهم، فأدخلوا الجنة، فلما دخلوها، واستقرت بهم الدار حمدوا ربهم من المغفرة ودخول الجنة.﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ ﴾ لأنهم لا يدرون ما يصنع الله عز وجل بهم ﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ ﴾ للذنوب العظام ﴿ شَكُورٌ ﴾ [آية: ٣٤] للحسنات وإن قلت، وهذا قول آخر شكور للعمل الضعيف القليل، فهذا قول أهل الكبائر من أهل التوحيد. ثم قالوا: الحمد لله ﴿ ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ ﴾ يعني دار الخلود أقاموا فيها أبداً لا يموتون ولا يتحولون عنها أبداً ﴿ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ﴾ لا يصيبنا في الجنة مشقة في أجسادنا ﴿ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [آية: ٣٥] ولا يصيبنا في الجنة عيا لما كان يصيبهم في الدنيا من النصب في العبادة.﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله ﴿ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ ﴾ هكذا ﴿ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [آية: ٣٦] بالإيمان.﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ﴾ يعني يستغيثون فيها والاستغاثة أنهم ينادون فيها ﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ ﴾ من الشرك، ثم قيل لهم: ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ﴾ في الدنيا ﴿ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ ﴾ في العمر ﴿ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ﴾ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فَذُوقُواْ ﴾ العذاب ﴿ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ [آية: ٣٧] ما للمشركين من مانع يمنعهم من الله عز وجل.﴿ نَّ ٱللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ يعلم ما يكون فيهما وغيب ما في قلوبهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ٣٨] بما في القلوب.﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من بعد الأمم الخالية ﴿ فَمَن كَفَرَ ﴾ بتوحيد الله ﴿ فَعَلَيْهِ ﴾ عاقبه ﴿ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً ﴾ يقول الكافر لا يزداد في طول العمل إلا ازداد الله جل وعز له بغضاً، ثم قال جل وعز: ﴿ وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً ﴾ [آية: ٣٩] لا يزداد الكافرون في طول العمل إلا ازدادوا بكفرهم خساراً.﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ﴾ مع الله يعني الملائكة ﴿ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ ﴾ يعني تعبدون ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾ يقول: ماذا خلقت الملائكة في الأرض كما خلق الله عز وجل أن كانوا آلهة ﴿ أَمْ لَهُمْ ﴾ يعني أم لهم: الملائكة ﴿ شِرْكٌ ﴾ مع الله عز وجل في سلطانه ﴿ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ ﴾ يقول: هل أعطينا كفار مكة فهم على بينة منه بأن مع الله عز وجل شريكاً من الملائكة ثم أستأنف، فقال: ﴿ بَلْ إِن يَعِدُ ﴾ ما يعد ﴿ ٱلظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [آية: ٤٠] ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الملائكة لهم في الآخرة إلا باطلاً.
ثم عظم نفسه تعالى عما قالوا من الشرك، فقال جل ثناؤه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ ﴾ يقول: ألا تزولا عن موضعهما ﴿ وَلَئِن زَالَتَآ ﴾ ولئن أرسلهما فزالتا ﴿ إِنْ أَمْسَكَهُمَا ﴾ فمن يمسكهما ﴿ مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾ الله يقول: لا يمسكهما من أحد من بعده، ثم قال في التقديم: ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً ﴾ عنهم عن قولهم الملائكة بنات الله تعالى حين لا يعجل عليهم بالعقوبة ﴿ غَفُوراً ﴾ [آية: ٤١] ذو تجاوز.﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾ يعني كفار مكة في الأنعام حين قالوا:﴿ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ ﴾[الأنعام: ١٥٧] ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ بجهد الأيمان ﴿ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾ يعني رسولاً ﴿ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ ﴾ يعني من اليهود والنصارى، يقول الله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ [آية: ٤٢] ما زادهم الرسول ودعوته إلا تباعداً عن الهدى عن الإيمان.﴿ ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ ﴾ قول الشرك ﴿ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ ﴾ ولا يدور قول الشرك ﴿ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ كقوله عز وجل ﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ [هود: ٨] ودار بهم الآية، ثم خوفهم، فقال: ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ ﴾ ما ينظرون ﴿ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ ﴾ مثل عقوبة الأمم الخالية ينزل بهم العذاب ببدر كما نزل بأوائلهم ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ ﴾ في العذاب ﴿ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [آية: ٤٣] لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم. ثم قال جل وعز يعظهم: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ عاد، وثمود، وقوم لوط ﴿ وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ بطشاً، فأهلكناهم ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ ﴾ ليفوته ﴿ مِن شَيْءٍ ﴾ من أحد، كقوله عز وجل:﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾[الممتحنة: ١١]، قوله جل وعز في يس: ﴿ وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ ﴾ [يس: ١٥] يعني من أحد، يقول: لا يسبقه من أحد كان﴿ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾فيفوته أحد كان في السماوات أو في الأرض حتى يجزيه بعمله ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً ﴾ بهم ﴿ قَدِيراً ﴾ [آية: ٤٤] في نزول العذاب بهم إذا شاء.﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ ﴾ كفار مكة ﴿ بِمَا كَسَبُواْ ﴾ من الذنوب وهو الشرك لعجل لهم العقوبة، فذلك قوله عز وجل: ﴿ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ فوق الأرض من دابة لهلكت الدواب من قحط المطر ﴿ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ إلى الوقت الذي في اللوح المحفوظ ﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾ وقت نزول العذاب بهم في الدنيا ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾ [آية: ٤٥] لم يزل الله عز وجل بعباده بصيراً.
Icon