تفسير سورة فاطر

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة فاطر
فيها آيتان

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قَوْلِهِ :﴿ يَصْعَدُ ﴾ ؛ وَالصُّعُودُ هُوَ الْحَرَكَةُ إلَى فَوْقَ، وَهُوَ الْعُرُوجُ أَيْضًا. وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ، وَلَكِنْ ضَرَبَ صُعُودَهُ مَثَلًا لِقَبُولِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّوَابِ فَوْقَ، وَمَوْضِعَ الْعَذَابِ أَسْفَلَ. وَالصُّعُودُ رِفْعَةٌ وَالنُّزُولُ هَوَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ التَّوْحِيدُ الصَّادِرُ عَنْ عَقِيدَةٍ طَيِّبَةٍ.
الثَّانِي : مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ.
الثَّالِثُ : مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ﴾ : هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ يَرْفَعُهُ ﴾ : قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَمَا أَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ.
وقيل الفاعل في يرفعه مضمر يعود على العمل ؛ المعنى : إلى الله يصعد الكلم الطيب،
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُصْعِدُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَقَدْ قَالَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ. فَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّافِعُ الْخَافِضُ. وَالثَّانِي مَجَازٌ ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ سَائِغٌ.
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يَنْفَعْ ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إذَا وَقَعَ شَرْطًا فِي الْقَوْلِ أَوْ مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّهُ لَا قَبُولَ لَهُ إلَّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَلَا مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّ كَلِمَهُ الطَّيِّبَ يُكْتَبُ لَهُ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ :﴿ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعُمُومٍ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ. وَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ بِشُرُوطِهَا، فَلَا يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِثُبُوتِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ من مِثْلِ مَا انْعَقَدَتْ بِهِ من قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مُتَعَارِضَةٌ فَتَبْقَى الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّتِهَا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا من فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي طَعَامِ الْبَحْرِ وَحِلْيَتِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَالنَّحْلِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
Icon