ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (١- ٦) [سورة الصف (٦١) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»..
هو خبر يراد به تمجيد الله وتعظيمه، لذاته سبحانه وتعالى.. فهو- سبحانه- ممجد ومعظم، وإن لم يستجب المشركون والكافرون للإيمان به.
ولتمجيده وتعظيمه..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ».
هو إنكار من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يلبسوا ثوب الإيمان ظاهرا، ثم يكون هذا الظاهر على خلاف مع الباطن.. أو أن تقول ألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.. فهذا وجه من وجوه النفاق.. لا يليق بالمؤمن أن يلمّ به، أو يدخل على إيمانه شىء منه..
فالأقوال التي لا يصدّقها العمل، لا تخلو من أحد وصفين: إما أن تكون لغوا من القول.. وهذا مما ينبغى للمؤمن أن ينزه نفسه عنه.. فإن الكلمة على لسان المؤمن يجب أن تكون عقدا بين المؤمن ونفسه، لا تبرأ ذمته حتى يفى بهذا العقد، ويحققه.. فإنه عن الكلمة تلقّى المؤمن رسالة السماء، وعرف شريعة الله.. فليكن الكلمة عنده- سواء نطق بها هو، أو استمع إليها- حساب وتقدير.. وإما أن تكون الكلمة التي ينطق بها اللسان، ولا يصدقها العمل، كلمة كاذبة أو منافقة.. ولا يجتمع الإيمان مع النفاق.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» تعقيبا على هذا الإنكار، وتجريحا لهذا القول الذي لا يصدّقه العمل، وأنه قول ممقوت عند الله، يبغضه، ويبغض أهله..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنها تبين الصورة الكريمة التي ينبغى
ولما كان الجهاد فى سبيل الله أعظم الأفعال، وأكرمها، وأصدقها، حيث موقف المجاهد، وثباته فى ميدان القتال، والتحامه فى صفوف المجاهدين، وجعل كيانه بعضا من كيانهم، وحيث يكون هذا الموقف دليلا عمليا قاطعا على صدق الإيمان ووثاقته- لمّا كان هذا شأن الجهاد، فقد جعله الله سبحانه وتعالى هو المحكّ الذي يظهر عليه إيمان المؤمن، والشهادة التي تشهد له عند الله وعند الناس أن فعله يصدّق قوله على أتم صورة وأكملها..
وعلى هذا، فإن من أراد أن يكون مؤمنا حقّا، وأن يبرىء نفسه من الكذب والنفاق- عليه أن يشهد مواقف القتال، وأن يأخذ مكانه فى صف المجاهدين، وأن يعطى الجهاد حقه، وأن يقاتل حتى يكتب الله النصر للمومنين، أو يقتل وهو فى مواجهة العدو، لا موليا دبره، ولا محتميا بظهر غيره من المجاهدين.. فذلك هو الإيمان، بل هو أعلى درجات الإيمان وأكرمها، وأصدقها.. فأى قول يقوله المؤمن المجاهد بعد هذا، هو قادر على الوفاء به.. فإن من قدّم نفسه للاستشهاد فى سبيل الله، لهو أقوى من أن يضعف عن الوفاء بكلمة يقولها..
وقوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» فى هذه الآية عزاء للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- عما يرى فى بعض المؤمنين من ضعف إيمان، أو انحراف عن غير الطريق القويم، أو انحياز إلى المشركين، أو ممالأة للكافرين.. فهذا كله مما يمكن أن يقع فى الإنسانية، حيث
فهذا موسى- عليه السلام- قد لقى من قومه اليهود، الذين يرى النبي أبناءهم يكيدون له، ويكيدون لدعوته- قد لقى منهم نبيهم موسى ألوانا من الكيد، وصنوفا من الأذى.. وإذن فليوطن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- نفسه على أنه سيستقبل صورا من الأذى الذي لا ينقطع أبدا، ما دام قائما فى مواجهة الناس بتلك الدعوة، سواء فى هذا ما يكون من المشركين والكافرين والمنافقين، أو من المؤمنين الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان.. فتلك هى الحياة، وهؤلاء هم الناس..!!
والأذى الذي لقيه موسى من قومه، هو ما كان يأتيه منهم من مكر بآيات الله، وشرود عن الطريق الذي أقامهم عليه.. فقد كانوا أبدا فى لجاج وعناد، وفى تحدّ وتكذيب لآيات الله التي بين أيديهم..
وفى القرآن الكريم مواقف كثيرة لإعنات اليهود لموسى، وشرودهم، وجماحهم عن طريق الهدى..
لقد أنجاهم الله على يد موسى من فرعون، ومما كان يسومهم، من سوء العذاب، وبين أيديهم، وأمام أعينهم ضرب موسى البحر بعصاه، فأقام من هذه الضربة طريقا فى البحر يبسا، سلكوه، وعبروا به الجانب الآخر من البحر، على حين أنه أطبق على فرعون وجنوده حين اتخذوا هذا الطريق مركبا فكانوا من المغرقين..
ومع هذه المعجزة القاهرة، فإن بنى إسرائيل ما كادت تستقر أقدامهم فى
وفى مكانهم الجديد ينزل الله عليهم المنّ والسلوى، ثم لا تلبث طباعهم النكدة أن تنفر من هذا الطعام، كما نفرت قلوبهم المظلمة من الإيمان بالإله الواحد، فقالوا لموسى: «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها» (٦١: البقرة).. وإنهم وهم يطلبون ما يرضى طباعهم الخبيثة، لا يقولون لموسى: ادع لنا ربنا، بل يقولون «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ» فكأنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم.!
ويذهب موسى لميقات ربه، ثم يعود إليهم، فيجدهم قد اتخذوا من حليّهم عجلا جعلوه إلها يعبدونه، كما يقول سبحانه: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا.. اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ..» (١٤٨: الأعراف).
فهذه المواقف الضالة، المسرفة فى الضلال، هى التي كانت تؤذى موسى، ونزعجه، إذ كانت تهدم كل بناء يقيمه، وتفسد كل طريق يصلحه.
وفى قوله تعالى: «وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» أي لم تؤذوننى بهذا الخلاف علىّ، والخروج عن السبيل الذي أقيمكم عليه، وأنتم تعلمون أنى رسول الله إليكم، بما أقمت أمام أعينكم من آيات ومعجزات، هى شهادة قائمة بأنّى رسول من عند الله. ؟
فالواو هنا، واو الحال، و (قد) حرف تحقيق، يفيد التوكيد، والجملة حالية، وقد جىء بالفعل المضارع بدل الماضي، للدلالة على أن هذا العلم قائم بينهم، وأن الآيات والمعجزات لا تزال تتنزل عليهم، وفى هذا ما يشير إلى ما فى طبائع القوم من عناد وجماح عن الانقياد للحق، والاستقامة على طريق الهدى.
وفى ذكر كلمة القوم فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» بدلا من أن يقال «والله لا يهدى الفاسقين» - فى هذا إشارة إلى أن المراد بهذا، هم قوم مخصوصون، وهم هؤلاء القوم، أي اليهود..
قوله تعالى:
«وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ»..
نسب السيد المسيح إلى أمه، لأنه هو النسب الذي له فى الناس، إذ لا أب له من بنى الإنسان، وإنما هو نفحة من روح الله..
ونادى المسيح بنى إسرائيل بقوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ» ولم يقل يا قوم كما هو حديث الأنبياء إلى أقوامهم، لأنه- وإن ولد فيهم- ليس ابنا لرجل منهم..
واليهود لا ينسبون أحدا إليهم إلا إذا كان مولودا من أبوين يهوديين، أو من أب يهودى على الأقل..
ومع أن اليهود، كانوا ينسبون السيد المسيح- عليه السلام- نسبة غير شرعية- إلى يهودىّ منهم، هو يوسف النجار، وإنه بهذا لا مانع عندهم من أن ينسب
وقوله: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ».. أي مؤمنا بالتوراة التي بين يدىّ، والتي هى كتابكم الذي تؤمنون به.. فأنا لم أجئكم بما تنكرونه علىّ، بل جئتكم مجددا هذه الرسالة التي جاءكم بها موسى، لأفيمكم على تعاليمها.. فلم تنكرون ما أدعوكم إليه! وفى هذا يقول السيد المسيح فى الإنجيل: «ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأكّمل» أي لأقيم ما هدمتم من تلك الشريعة، وما نقضتم من ناموسها..
وقوله: «ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد» - هو إشارة إلى نبىّ يأتى من بعده اسمه أحمد، وهو رسول الله «محمد» صلى الله عليه وسلم..
وقد صدقت كلمة المسيح- عليه السلام- فما جاء بعده رسول- ولو على سبيل الادّعاء- حتى كانت رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» أي فلما جاءهم المسيح بالمعجزات التي وضعها الله سبحانه بين يديه، بهتوه، وكذبوه، واتهموه بالسحر والشعوذة، وتعقبوه بالأذى، وأخذوه بالبأساء والضراء، ولم يمسكوا عن مساءته حتى ساقوه إلى ساحة الاتهام، وحكموا عليه بالموت صلبا: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (١٥٧: النساء).
والذين كفروا هنا هم اليهود والنصارى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (٨٩: البقرة)..
[المسيح.. وتبشيره بالنبي] جاء فى هذه السورة- سورة الحشر- قوله تعالى على لسان المسيح: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ.. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ.. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..»
هذا ما جاء به القرآن، على لسان المسيح، إلى بنى إسرائيل، مبشرا إياهم، برسول يأتى من بعده اسمه «أحمد»، وهو اسم «محمد» رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كلا الاسمين مشتق من الحمد، فهو- صلوات الله وسلامه عليه، أحمد، ومحمود، ومحمد..
وإذا كانت الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم، قد خلت من هذه البشرى على وجه صريح، فإن ذلك لا ينقض ما جاء به القرآن الكريم، فى الآية السابقة، إذ القرآن، هو الحجة القائمة على ما سبقه من الكتب السماوية، لأنه آخرها، وضابط محكمها، والمهيمن عليها، كما يقول سبحانه
والإنجيل الذي يتحدث عنه القرآن، هو كتاب واحد، ولكنّ الذي فى أيدى الناس اليوم ليس إنجيلا واحدا، وإنما هو أربعة أناجيل، وقد كان فى وقت ما خمسة وسبعين إنجيلا، وقد وقع خلاف فيما بينها.. لأنها لا تعتمد على أصل واحد، ولا ترجع إلى الإنجيل الذي أنزل على المسيح عليه السلام، وإنما هى مرويات تتحدث عن السيد المسيح، وعن سيرته وأخباره، فيما يرويه عنه بعض حوارييه، أو من اتصل بحوارييه، وسمع منهم، وتتلمذ عليهم، وفى هذه السيرة عبارات من عظات السيد المسيح ووصاياه، وقد يكون فيها بعض آيات من الإنجيل السماوي، كان السيد المسيح يضمّنها عظاته ووصاياه..
وإذن فالأناجيل التي ذكرت سيرة السيد المسيح، تختلف فى تشخيص شخصية السيد المسيح، وفى تناول مواقفه، وفى نقل عباراته وكلماته، باختلاف الكتّاب الذين كتبوا هذه السيرة، ونفضوا عليها من عواطفهم ومشاعرهم، ومن ألوان ثقافاتهم ما جعل الأناجيل تختلف هذا الاختلاف، كما يختلف إنسان عن إنسان، فى تفكيره، وفى تصوره للأحداث.
وليس من همّنا هنا دراسة الأناجيل دراسة تاريخية، محققة، للإنجيل السماوي، أو الأناجيل التي جاءت محدّثة عنه..
وإنما الذي نقف عنده منها، هو أن القرآن الكريم قد ذكر آية صريحة تذكر على لسان السيد المسيح، تلك البشرى التي أعلنها فى بنى إسرائيل، مبشرا برسول يأتى من بعده اسمه «أحمد».. ثم نبحث فى
وإنه لكى نفهم هذه الإشارة التي جاءت على لسان المسيح، كما رواها «يوحنا» فى إنجيله، ينبغى أن نقف وقفة قصيرة مع السيد المسيح، ومع الظروف التي ولد فيها، وما كان بينه وبين اليهود من مواقف..
فذلك من شأنه أن يحل لنا كثيرا من رموز هذه الكلمات التي رويت عن السيد المسيح، عليه السلام..
فى حياة المسيح- عليه السلام- أكثر من حدث أثار تضارب الآراء فيه، واختلاف الناس عليه..
(فأولا) ميلاده من عذراء..
كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعى، وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرءوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى للقول فيه، أو التقول عليه.
فاليهود- مثلا- لم يعترفوا بهذا الميلاد، ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم، ويوسف النجار.
وبهذا وضعوا المسيح وأمه فى هذا الموضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار!.
(وثالثا) ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى الذي رآه الناس عليه والقضاء على شخصيته، وإفنائها..
فهذه ثلاث شبه، أوتهم، تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأى فيه، وتجعل منه شخصية أسطورية أكثر منها شخصية حقيقية..
والقرآن الكريم، هو وحده الذي تولّى «الدفاع» عن المسيح، وكشف الشّبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان، يأخذ مكان الذورة بين الناس!..
يقول الله تعالى «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ» :(١٧١: النساء) وبقول سبحانه: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» (٥٩ الزخرف).. ويقول جل شأنه:
«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.. كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (٧٥: المائدة).
إن الأخذ بما يقول القرآن فى المسيح، هو الذي يرفع هذه الشبه، التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب، والقلق النفسي، والروحي، والعقلي، عند أتباعه، إذ يرونه إنسانا فى شخص، إله، أو إلها فى جسد إنسان!.
كان المسيح قد تنبأ لهذا الخلاف، الذي يكون فى شأنه، ولهذه المقولات المنحرفة التي قيلت، أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه فى شرف مولده، وفى طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلحه من بشريته، ويخرجه من إنسانيته إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان فى ذات واحدة، وفى جسد واحد..
يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل المعتمدة اليوم، على لسانه، مخاطبا تلاميذه، وحوارييه:
«لكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذك يبكّت العالم على خطّية، وعلى برّ، وعلى دينونه.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي.. وأما على برّ فإنى ذاهب إلى أبى، ولا تروننى أيضا.. وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد أدين! «إن لى أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء بروح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية.. ذاك يمجّدنى، لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، كل ما للأب هولى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى، ويخبركم.. بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى لأنى ذاهب إلى الآب» «١» يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص، سيجيئ بعده، إذا هو ترك مقامه فيهم، وفارق هذه الدنيا.
وصفات هذا الشخص كما يحددها السيد المسيح هى:
أولا: أنه المعزّى الذي يجىء مواسيا ومعزيا، فيما أصيب به المسيح فى شخصه
ثانيا: أنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة:
ا- على خطية.. هى أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاء عليه.
ب- وعلى برّ.. وهو أنه ذاهب إلى الله، لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن الناس أنزلوه فى غير هذه المنزلة، حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين.
ح- وعلى دينونة.. وهى هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح.
وثالثا: أن المعزّى هذا، سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا، أيضا أن هذه الأشياء هى مما جدّ بعد المسيح من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها، وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل المحامى، الدفاع عنه، ودفع الشبه التي ألقيت عليه.
ورابعا: أن هذا المحامى لا يتكلم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هى التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية.
وخامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح.
وسادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى فى شأن المسيح ليس مديحا، تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس
هذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح، فى أوصاف المحامى أو المعزى الذي سيجيئ بعده، ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه، على ما سنرى:
يقول صاحب المسيحية الأصلية:
«وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسى فى قصد الله- بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا، ليحلّ محله، بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه «المعزى» (باراكليت) وهى تسمية مشروعة، ومعناها المحامى، أو مستشار الدفاع.
«وبذلك يكون عمل (الروح القدس) هو الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع: «هو يشهد لى» (يوحنا ١٥: ٢٦) ثم قال: «ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم» (يوحنا ١٦: ١٤) «١».
ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو «روح القدس» لا محمد، ولا غيره من البشر..!!
وإذا علمنا أن معتقد المسيحية هو أن المسيح هو «الله» وأن «روح القدس» هو الله، بمعنى أن كلّا منهما هو فى أقنوم من أقانيمه الثلاثة- إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون «المعزّى» شخصا، وأن يكون هذا الشخص هو الله، ثم أن يكون المسيح- وهو الله- يرسل «روح القدس» وهو الله!!.
الله يذهب فى صورة المسيح «الابن» ويجىء فى صورة روح القدس!
وهذا من حيث الشكل- كما يقال فى لغة القضاء- أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد:
(أولا) : أن «روح القدس» الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى- لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح، ولا من غيرهم.
(وثانيا) أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع- لم يعرف له أحد موقعا، ولم يكن له قول مأثور فى شأن المسيح، وفى تمجيده..
فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله، وأقواله، التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا فى القرآن الكريم، ووقفنا عند ما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه فى شخصه، وفى شخص أمّه، من ضرّ وأذى! جاءت- بعثة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه- وقد مضى على الدعوة المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة فى الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه فى عقول الناس وقلوبهم.. من أولياء الدعوة وأعدائها على السوء.. إذ قد استنفد أعداؤها كلّ ما لديهم من مقولات يقولونها فى المسيح ودعوته، كما استنفد أولياؤها كلّ ما عندهم من مقولات، فى تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها.. ومن هذا الشد والجذب،
وهنا تبرز الحكمة فى الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول فى هذه القضية، شيئا.. لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمّة شك فى أن هذا المحامى، أو مستشار الدفاع أو المعزّى، هو «محمد» عليه الصلاة والسلام.
فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح:
(أولا) : هو المحامى، الذي كان له دور معروف فى قضية المسيح، وكان بمشهد، أو بمسمع من الناس جميعا..
(وثانيا) هو الذي دافع فى هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح، وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا لهما، وعزاء مما أصابهما من رميات وطعنات.
(وثالثا) : لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه.. «لأنه لا يتكلم من عند نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به»..
(ورابعا) أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه، لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به، وبلّغه للناس، كما أمره ربه بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
.. وفى هذا يقول السيد المسيح: «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم».
لقد كان «محمد» بما تلقّى من كلمات الله، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما فى العالمين، وكان فى ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة، لما أصابهما من بلاء عظيم.!
وننظر فى كلمات المسيح مرة أخرى..
ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات:
١- «إن فى انطلاقى لخيرا لكم».. فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان «المحامى» الذي يتولى الدفاع عن قضيته، وبعرضه لهم فى المعرض الذي يجلّى حقيقته، ويكشف عن شخصه الكريم.
٢- «فإنى أرسله إليكم».. وهذه المقولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر، هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث، هو الإله المتصرف فى هذا الوجود.
وهى مقولة إن حملت على ظاهرها هذا، كانت إقرارا من الله- الذي هو المسيح- بالعجز عن الدفاع عن نفسه، فيقيم محاميا يتولّى الدفاع عنه!! وعلى هذا، فإن هذه المقولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو الله! وإما أن تحمل على غير ظاهرها، ويكون قول المسيح: «إنى أرسله إليكم» محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع فى قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه- فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيىء للمحامى سبيلا إلى الظهور.. وبهذا يمكن
٤- فى قوله: «يأخذ ممّا لى ويخبركم» إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح، ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّاله، أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشريته. كما نطق بذلك القرآن الكريم.
وإذا كان القرآن الكريم، قد قال على لسان المسيح: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» - نقول إذا كان القرآن قد قال هذا على لسان السيد المسيح، فإن هذا القول يوافق تماما ما سجلته الأناجيل عنه، من قوله الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقول فيه مخاطبا أتباعه: «إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إذا لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى».. وكلمة «المعزّى» هى إحدى المعاني التي فسرت بها كلمة «باركليت» اليونانية، والتي فسّرت أيضا بمعنى: المحامى، أو مستشار الدفاع.
والقرآن يصرّح بأن المسيح بشّر فى الإنجيل باسم هذا الذي سيجيئ من بعده، لا بصفته، إذ يقول: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..»
وأحمد صفة من الحمد، يشتقّ منها محمد، ومحمود، وحامد، وحمّاد..
وقد أخذ الرسول الكريم أعدل صفات الحمد، وأقومها، وأجمعها للمحامد كلّها، فهو «محمد» أي هو موضع الحمد له، والثناء عليه، من كلّ حامد
الآيات: (٧- ١٤) [سورة الصف (٦١) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ..»
الاستفهام هنا، مراد به النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب..
إنه أظلم الظالمين، لأنه يفترى على الله، فى حال يدعى فيها إلى الإسلام، وتقوم بين يديه أمارات الحق، وشواهد الهدى، فيفترى الكذب، أي يختلقه اختلاقا، ثم يرمى بهذا الكذب المفترى فى وجه الحق، بلا حياء..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو تعقيب على هذه الجريمة التي يقترفها هؤلاء المجرمون، الذين يبهتون الحق، ويكابرون فى إنكاره..
إنهم أظلم الظالمين، لأنهم ضلّوا عن الحق لم يقبلوه، ثم إنهم إذ لم يقبلوا هذا الحق الذي دعوا إليه- رجموه بالزور والبهتان.. فهم ظالمون، ظالمون.. «والله لا يهدى القوم الظالمين» الذين تأبى طبائعهم أن تستجيب للهدى، وتسكن إليه..
والقوم الظالمون هنا، هم «اليهود»، الذين رفضوا دعوة السيد المسيح، والذين لم يقفوا عند حدّ الرفض، بل بهتوه، وكذبوه.. وإنه كما دعا المسيح آباء هؤلاء اليهود إلى الإسلام الذي هو دين الله فكذبوه، وأنكروا عليه دعوته- كذلك فعل أبناؤهم هؤلاء، الذين دعاهم «محمد» - عليه السلام- إلى الإسلام، فافتروا الكذب، وأنكروا أنه رسول الله.. وكما ضلّ الآباء، كذلك ضل الأبناء..
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»..
«يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».
نور الله، هو الحق الذي يحمله رسل الله، ويبشرون به فى الناس..
أي أن هؤلاء القوم الظالمين يريدون بافترائهم الكذب، وتعمدهم له- إطفاء نور الله، وهو القرآن الكريم، وما يدعو إليه..
واللام فى قوله تعالى: «ليطفئوا» هى لام العاقبة، أي يريدون الافتراء ويحملون أنفسهم عليه، ليطفئوا نور الله بأفواههم.. فافتراؤهم الكذب لغاية يريدونها، هى لإطفاء نور الله.. وعلى هذا المعنى جاء قول قيس بن الملوح (مجنون ليلى) :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما | تمثّل لى ليلى بكل سبيل |
وفى قوله تعالى: «بأفواههم» - إشارة إلى الكذب والافتراء الذي تتفوه به أفواههم، فكأن هذه الكلمات الآثمة التي تخرج من أفواههم- هى نفثات تخرج من صدور مغيظة محنقة، ينفخون بها فى هذا المصباح الهادي، ليطفئوا نوره..
قوله تعالى: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».. هو تعقيب على موقف هؤلاء المفترين من نور الله، ومن دينه الذي يدعو إليه رسول الله..
فهذا النور سوف يبسط سلطانه على الآفاق كلها، وسيبلغ به الله سبحانه وتعالى تمام كماله، وإن كره الكافرون هذا، وإن احترقت أكبادهم حسرة وكمدا، لما
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»..
أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أرسل رسوله «محمدا» بالهدى، ودين الحق، ليظهر هذا الدين، ويعليه على الدين كله، وهو ما سبقه من أديان، ولو كره المشركون هذا الظهور لدين الله..
وفى هذه الآية وعد من الله سبحانه وتعالى بنصر هذا الدين، وبسط سلطانه على كل دين، لأنه الحق، الذي بلغ بالدين غاية كماله وتمامه.. إنه نور الله، والله متم نوره..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ».
هو نداء من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين استجابوا لله ولرسوله، ودانوا بهذا الدين، وهو دعوة لهم إلى تجارة تنجيهم من عذاب أليم فى الدنيا والآخرة..
قوله تعالى:
«تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
ففى هذه التجارة الربح العظيم، والخير العميم، الذي يقع لأيدى المتجرين بها، لو كانوا يعلمون ما يكون لهم من ورائها، من خير..
ودعوة المؤمنين إلى الإيمان بالله ورسوله، هو دعوة إلى إيمان خالص من الريب، مبرأ من الشرك.. فليس كل من دخل فى الإيمان كان مؤمنا حقّا..
وسمّى هذا الإيمان، وهذا الجهاد، تجارة، لأن التجارة عطاء وأخذ، وأعيان تقدّم للبيع، وثمن يؤخذ فى مقابل هذه الأعيان.. والمؤمنون بالله ورسوله، يقدمون أموالا وأنفسا، ويأخذون فى مقابل ما يقدمون ما يجزيهم الله سبحانه وتعالى عليه، من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١١١: التوبة)..
وقوله تعالى:
«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»..
هو جواب لشرط مقدّر دلّ عليه ما فى الآية السابقة من الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والجهاد فى سبيله.. أي إن استجبتم لهذه الدعوة التي دعيتم إليها- أيها المؤمنون- يغفر الله لكم ذنوبكم. ويسترها عليكم، فلا ترونها بعد أن محاها الله، وطهّركم منها بمغفرته، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار،
قوله تعالى:
«وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» أي ولكم مع هذا الفوز العظيم بجنات النعيم فى الآخرة- رغيبة أخرى تحبونها، وتتطلعون إليها، تلك هى ما ستلقون من نصر من الله، ومن فتح قريب، بما يفتح الله لكم فى هذه الدنيا من فتوح، وما يمكّن لكم من نصر على أعدائكم.. وقد حقق الله للمؤمنين ما وعدهم به من نصر وفتح، فقد انتصروا على أعدائهم من المشركين وللكافرين، وفتحوا معاقل الشرك، ودانت لهم مواطن المشركين، فيما وقع لهؤلاء المؤمنين من فتح خيبر، ومن إجلاء اليهود من المدينة، ومن فتح مكة.. ثم ما تلا ذلك من فتوح لمملكتى الفرس والروم..
وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».. هو أمر سماوى من الله سبحانه وتعالى للنبى الكريم أن يبشر المؤمنين بهذا الوعد الذي وعدهم الله إياه، وأن يكشف لهم عن مواقع هذا النصر والفتح القريب.. وقد بشّر النبي الكريم أصحابه بما سيلقاهم على طريق الإسلام من نصر وفتح.. وفى هذا ما يدخل الطمأنينة والرضاء على قلوب المؤمنين، ويمدّهم بأمداد السكينة والصبر على ما كانوا يعانون من شدة وضيق، وما كانوا يلقون من كيد وبلاء..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ».
وأنصار الله، هم الذين ينصرون دين الله، ويبذلون أنفسهم وأموالهم فى سبيله..
وقوله تعالى: «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ».. أي أنه بهؤلاء الحواريين الذين قاموا لنصر دين الله، وبجهادهم فى سبيله- قد آمنت طائفة من بنى إسرائيل، وكفرت طائفة، كما كان الحال فى مبدأ الدعوة الإسلامية، حيث آمن بإيمان الذين سبقوا إلى الإيمان، وجاهدوا فى سبيل الله- آمن بعض المشركين، وكفر بعض..
ثم كانت الخاتمة أن اندحر الذين كفروا بالمسيح، وأصبحت للمؤمنين به الغلبة عليهم، إلى يوم القيامة، كما يقول الله تعالى: «يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (٥٥: آل عمران).. وهكذا ظل اليهود الذين كفروا بالمسيح تحت يد المؤمنين منذ المسيح إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم.. سواء منهم المؤمنون بالمسيح الذين آمنوا به إلى ظهور النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أو المؤمنون الذين آمنوا برسول الله، فهم مؤمنون كذلك بالمسيح.. وهكذا ينتصر الذين آمنوا برسول الله على الذين كفروا به، وتكون لهم اليد العليا عليهم أبد الدهر... إلى يوم القيامة.
نزولها: مدنية..
عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية..
عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة.
عدد حروفها: سبعمائة وعشرون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
جاء فى سورة «الصف» السابقة على هذه السورة، قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».. ثم جاء فى سورة «الجمعة» : هذه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».. فكان ذلك تصديقا لهذه البشرى، وتحقيقا لما أخبر به المسيح، من مجىء رسول من بعده اسمه أحمد.. فهذا الرسول، هو هذا النبي الذي بعثه الله فى الأميين، وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه- فناسب ذلك أن تجىء سورة «الجمعة» على هذا الترتيب فى المصحف، آخذة مكانها بعد سورة «الصف».. وفى هذا شاهد من شواهد كثيرة، تقطع بأن ترتيب السور فى المصحف، توفيقى من عند الله، أشبه بترتيب الآيات فى السور..