.
ﰡ
وقوله: هو الذي خلق السموات والأرض، ولم يقل: سبح لله السموات والأرض وما فيهما، فيكون أكثر مبالغة لأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها (وهو العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب (الحكيم) في أفعاله وأقواله.
على ما قام يشتمني جرير
عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، بأن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصية الذين خالفوا الإيمان. ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله (لم تقولون ما لا تفعلون)؟ قال النخعي: ثلاث آيات في كتاب الله منعتني أن أقضي على الناس، (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، وهذه الآية، ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال:
قال ابن عباس: هذه الآية في القتال وحده، وهم قوم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الرجل: قاتلت وضربت بسيفي ولم يفعل فنزلت:
وجملة: (كأنهم بنيان مرصوص) في محل نصب على الحال من فاعل يقاتلون أو من الضمير في صفاً على تقدير أنه مؤول بصافين أو مصفوفين، ومعنى مرصوص ملتزق بعضه ببعض، يقال: رصصت البناء أرصه رصاً إذا ضممت بعضه إلى بعض، وقال الفراء: مرصوص بالرصاص، قال المبرد: هو مأخوذ من رصصت البناء إذا لا يمت بينه، وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقيل: هو من الرصيص وهو ضم الأشياء بعضها إلى بعض، والتراص التلاصق، وقيل: المتلائم الأجزاء المستويها، وقال ابن عباس في الآية: مثبث لا يزول، ملصق بعضه على بعض، وقيل: أريد استواء نياتهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض، والأول أولى.
ولما ذكر تعالى الجهاد المشتمل على المشاق وأنه يحب المقاتلين في سبيله، ذكر قصتي موسى وعيسى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم، ليصبر على أذى قومه، وبين أنهما أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وجعل العقاب لمن خالفهما مبتدئاً بقصة موسى لتقدمه في الزمان فقال:
وجملة: (وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) في محل نصب على الحال، وقد لتحقق العلم أو لتأكيده لا للتقريب ولا للتقليل، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى كيف تؤذونني مع علمكم بذلك؟ والرسول يحترم ويعظم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، وتفيدكم العلم بها علماً يقينياً.
(فلما زاغوا) عن الإيمان وأصروا على الزيغ واستمروا عليه (أزاغ الله قلوبهم) عن الهدى وصرفها عن قبول الحق، وقيل: صرفها عن الثواب قال مقاتل: لما عدلوا عن الحق أي بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عنه، جزاء بما ارتكبوا، أو المعنى لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم، أو فلما اختاروا الزيغ أزاغ الله قلوبهم، أي خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق.
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، قال الزجاج: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق، والمعنى أنه لا يهدي كل متصف بالفسق وهؤلاء من جملتهم وإن من أسلم منهم لم يكن كافراً في علمه، أي محتوماً عليه بالكفر بحيث يموت عليه.
(ومبشراً برسول يأتي من بعدي) وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي، وقرىء بعدي بفتح الياء وبإسكانها (اسمه أحمد) هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو علم منقول من الصفة وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه أكثر حمد من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره وبالاعتبار الأول قدم عيسى هذا الاسم على محمد، لأن كونه حامداً لله سابق على حمد الخلق له لأنهم لم يحمدوه إلا بعد وجوده في الخارج، وحمده لربه كان قبل حمد الناس له وقال الكرخي: إنه إنما خصه بالذكر لأنه في الإنجيل مسمى بهذا الاسم ولأنه في السماء أحمد فذكر باسمه السماوي لأنه أحمد الناس لربه، لأن حمده لربه بما يفتحه الله عليه يوم القيامة من المحامد قبل شفاعته لأمته سابق على حمدهم له تعالى.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي "، وفي بعض حواشي البيضاوي أن له أربعة آلاف اسم، وأن نحو سبعين منها من أسمائه تعالى انتهى، والحق أن أسماء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، توقيفية لا يزاد عليها، ولا يدعى ولا يسمى بغيرها، وفي الخازن تحت هذه الآية:
" وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه، قاك أبو داود المدني: قد بقي في البيت موضع قبر " أخرجه الترمذي، وعن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم في الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل انتهى. ومثله في الخطيب، وقال مكان قوله: يأتي بعدكم أمة لفظ: أمة أحمد.
وقال: " روي أنه ﷺ قال: اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد، لأني محمود في أهل السماء والأرض " انتهى، ولينظر في سند هذا الحديث، قال القرطبي: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته انتهى، وذكره عيسى عليه السلام وقال: اسمه أحمد وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه تلك أمة أحمد فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل انتهى من الخطيب.
(تنبيه) قد راجعنا من التفاسير الموجودة عندنا الآن جلها كتفسير أبي السعود والمدارك للنسفي والبيضاوي وحاشيته من الخفاجي والجلالين وحاشية
ومن عرف طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر، ونظر بعين الإنصاف إلى هذه البشارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلتها النصارى في عيسى ابن مريم عليهما السلام، جزم بأن هذه الإخبارات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في غاية من القوة، ونهاية من الصحة والشهرة والقبول، وهذه جملة صالحة منها تذكر هنا ونتكلم عليها بما يكشف عن حالها، والدلالة منها على هذا المقصود فأقول وبالله أجول وأصول: فمن تلك البشارات ما في الباب السابع عشر من سفر التكوين:
وعلى إسماعيل أستجيب لك هو ذا أباركه وأكبره، وأكثره جداً، فسيلد اثني عشر رئيساً، وأجعله لشعب كبير انتهى، فقوله: أجعله لشعب كبير مشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره وقد قال تعالى ناقلاً دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في كلامه المجيد: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ: وأما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء، وهو يذكركم ما قلت لكم، ثم ذكر بعد ذلك بقليل، وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون، وذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا، ولكن أقول لكم الآن حقاً يقيناً انطلاقي عنكم خير لكم، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم، ويدنيهم ويمنحهم، ويوقفهم على الخطبة والبر والدين، وذكر بعد ذلك بقليل هكذا فإن لي كلاما كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ له، ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه، هذا ما في الإِنجيل انتهى كلام الرازي.
وفي الزبور المائة والتاسع والأربعين: سبحوا الرب تسبيحاً جديداً سبحوه في مجمع الأبرار، فليفرح إسرائيل بخالقه، وبنو صهيون يبتهجون بملكهم، فليسبحوا اسمه بالمصياف بالطبل والمزمار، يرتلوا له لأن الرب يسر بشعبه ويشرف المتواضعين، بالخلاص تفتخر الأبرار بالمجد، ويبتهجون على مضاجعهم ترفيع الله في حلوقهم، وسيوف ذات فمين في أياديهم، ليضعوا انتقاماً في الأمم وتوبيخات في الشعوب، ليقيدوا ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال من حديد، ليضعوا بهم حكماً مكتوباً، هذا المجد يكون لجميع الأبرار اهـ.
وهذا الزبور عبر عن المبشر به بالملك، وعن مطيعيه بالأبرار، وصدق
والفارقليطاء، عجمية يونانية معناه الشافع والواسطة والمسلي والممجد وهذه المعاني تدل على الممدوح، بعضها بالمطابقة وبعضها بالتضمن وبعضها بالالتزام فإن التمجيد مرادف للحمد، والثلاثة الأخر مما توجب الحمد. فهذا هو معنى قوله سبحانه (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، والدليل على ذلك وصفه بالمكث إلى الأبد والدوام، فإنه لم يأت بعد عيسى عليه السلام أحد يتصف بهذه الصفة غيره، وفي التنكير دلالة على أن هذا الفارقليطاء، الذي هو الآن معكم أي المسيح زمني ولا يبقى إلى الأبد والذي يأتي بعده أبدي.
وإن فسره النصارى بالروح القدس فهذا خطأ لأن الروح القدس لم يبق معهم بعد يوم الدار ولا يوجد معهم في زماننا هذا غير روح إبليس شيء فيكون عدولهم عن اتباع أمره هو محافظتهم عليه، وإلا فإن كان الفارقليطاء عبارة عن الروح القدس الذي نزل على الحواريين يوم الدار لاستطاع أساقفة النصارى وقسوسهم أن يفعلوا الخوارق التي فعل المسيح، لكنهم لا يستطيعون على شيء من ذلك، فالفارقليطاء ليس بعبارة عن الروح القدس الذي نزل عليهم يوم الدار، أما المقدم فلأن الحواريين كانوا يعملون الخوارق التي كان يفعلها المسيح، وأما التالي فلأنه لم ينقل عنهم لا في الغابر ولا في الحال.
وأما قولنا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم، هو المتصف بالمكث إلى
وسياق الكلام في رومية أن بولوس كان يعظ بعيسى، ويوبخ اليهود على عدم إيمانهم به وهو كلام طويل آخره قوله: وأما إسرائيل فإنه قد طلب شريعة العدل، ولم يظفر بها، ولم لم يظفر بها؟ لأنهم لم يطلبوها بالإِيمان، بل بأعمال الشريعة، وذلك لأنهم عثروا بحجرة كما حررها آنذا واضع حجرة تمعثر، وصخرة شك، وكل من يؤمن بها لا يخجل. يريد بذلك أن بني إسرائيل كانوا يطلبون الهدى فلم يصيبوه، لأنهم كانوا يطلبونه بمحض الأعمال لا بالإِيمان، وهذا يدل على أن غاية شريعة عيسى لم تكن إلا بالقوة النظرية، وسبب عدم صلبهم إياه بالإِيمان لأنهم عثروا بعيسى لأنهم لم يعرفوه، واستدل على عدم إيمانهم به بقول أشعياء، وهذا لا يدل على ربوبيته، بل ولا على نبوته.
وسياقه في أشعياء هو قوله: ألا لا تتكلموا على من تتكلم عليه هذه الأمة، ولا تخشوا ما يخشونه، ولا تخافوا، وقدسّوا رب الجنود وحده، واخشوه وخافوا منه، لأنه هو المقدس، وهو حجرة العثرة، وصخرة الشك، وهو لأهل بيت إسرائيل فخ، ولكنه أورشليم مصيدة، وسيعثرون ويسقطون وينكسرون ويقيدون ويؤسرون، فاطووا الشهادة واختموا الصحف التي عند
وهذا لا دلالة فيه على عيسى عليه السلام، لأن أول صفاته رب الجنود ولم يكن المسيح كذلك، والصفة الثانية كونه حجرة عثرة ولا تقل إنهم قد عثروا بالمسيح أي شكوا فيه لأن مطلق الشك لا يكفي في صدقه عليه لقوله: يعثرون ويسقطون الخ والصفة الثالثة كونه يغطي وجهه عن إسرائيل وابن مريم كان مختصاً بدعوتهم، كما صرح به في متى، فلا يصدق عليه، والصفة الرابعة كونه ناسخاً لما قبله من الشرائع كلها لقوله: اطووا الشهادة واختموا الصحف وعيسى بن مريم يقول كما في متّى: وهؤلاء الاثنا عشر أرسلهم عيسى وأمرهم وهو يقول: لا تنطلقوا إلى طريق العوام ولا تدخلوا في أحد أمصار السامريين بل اذهبوا إلى غنم بيت إسرائيل الضالة، ويقول كما في متى أيضاًً، لكنك إن أردت أن تلج الحياة فحافظ على الأحكام الخ، وهذه كلها صريحة في خصوصية نبوته، وعدم نسخ ناموس موسى، فلا يصدق عليه، فلا دلالة له عليه.
وإذا فهمت هذا فقد علمت أن غاية هذا الفصل التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وتقدير كلام أشعياء لا تكلموا علي، أي تسبوا وترفضوا من تتكلم عليه، أي من تسبه وترفضه هذه الأمة أي اليهود، ولا تخشوا من يخشوه، أي لا تتولوا من يتولوه ولا تعادوا من يعادوه، بل قدسوا استثناء منقطع من لا تتكلموا واخشوا رب الجنود وحده، واخشوه وخافوا منه، أي لا تحذروا سلاطين اليونانيين والفلسطينيين والرومانيين والمدينيين ولا تقدسوهم، بل اجعلوا جميع اتكالكم على رب الجنود، أي الملك العادل، والنبي الأمي الكامل لأنه أي رب الجنود، والرب بمعنى المربي والمولى، يقال: هو رب النعمة أي مفيضها، ورب البيت أي مولاه، وإذا أضيف إلى الضمير المتصل لا يكون إلا بمعنى المعبود على الأصح هو المقدس فقط لا غيره، لأن تعريف
أما التقديس فلأنه لم يرتكب قبل نبوته ما يوجب الثلب، وأما العثرة والشك فلأنه من أولاد هاجر، ولم يبعث منهم قبله نبي، وأما أيوب فمن أعراب مدين وأما خالد بن سنان عند من يقول بنبوته فمن أعراب سامرة، وهو لأهل بيت إسرائيل فخ هذه صفة أخرى له صلى الله عليه وسلم، وهي أنه فخ يصيدهم ويأسرهم، فكما فعل بهم الفلسطينيون هكذا يفعل بهم هو أيضاًً، ولسكنة أورشليم مصيدة المصيدة هي الشبكة التي تصيد كل ما يوكر عليها مرة واحدة بخلاف الفخ فإنه لا يصيد مما يوكر عليه إلا ما ينقر العتلة ولا يكون إلا واحداً فكان مراد أشعياء عليه السلام أنه يتسلط على اليهود ويقهرهم واحداً بعد واحد، لأنهم مشتتون.
وأما البلد فإنه يتسلط عليها مرة واحدة، وسيعثرون أي يشكون فيه ويسقطون إذا شكوا وينكسرون إذا سقطوا، ويقيدون إذا انكسروا إلا أنهم لا يستطيعون الفرار ويؤسرون إذا قيدوا فاطووا الشهادة التي عندكم أيها الأنبياء، واختموا الصحف أي أسفار التوراة، ونبوات الأنبياء التي عند تلاميذي أي بني إسرائيل لأنها ستنسخ وتترك إذا ظهر رب الجنود صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إليها بعد، وأنا سأنتظر الرب الذي يغطي وجهه عن إسرائيل، وأترقبه، يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: إني لا أنتظر من يأتي قبله يعني عيسى الذي أشار إليه في غير هذا المكان لأنه نبي لبني إسرائيل، لكني أنتظر الذي يغطي وجهه عنهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن نبوته صلى الله عليه وسلم، عامة، والعامة تلزم منها دعوة الكل، فكيف يغطي وجهه عنهم؟
لأن المراد بتغطية الوجه عدم ظهوره منهم واستقامته في ملكهم، ثم
أو المراد بالسكون في صهيون سكون دينه واستقرار أهل ملته فيه، وهذا أوضح مما قبله، وفي سفر التكوين: وأما أنت يا يهوذا فإنك أنت الذي تمدحه إخوته وستكون يدك في عنق أعدائك وستجثو لك أولاد أبيك ألا فإن القضيب لن ينصرف عن يهوذا، ولا واضعي الناموس من تحت قدميه حتى يأتي شيلو، وتصير إليه عوام الناس، وأبطأ إلى الجفن جحشه، وإلى منتخب الكروم أتانه غاسلاً بالخمر قميصه، وبدم الكرم لباسه، وسوف تكون عيناه أحمر من الخمر وأسنانه أبيض من اللبن. اهـ.
وهذا نص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأوله النصارى وقالوا: إن شيلو هو المسيح ابن مريم، وقال اليهود: بل هو في شأن المسيح المزمع بالإِتيان، وسياق دعوى النصارى هو أن هذا الفصل في سفر التكوين يتضمن دعاء يعقوب لبنيه، وأنه تنبأ لكل واحد منهم بما يناسب شأنه، وتنبأ ليهوذا بأن السلطنة ستستقر في أولاده حتى يخرج شيلو، ووصفه بهذه الصفات التي أشار إليها في غير هذا المكان، والحق أنه يجيز صحة النهوض، وليس فيه ريبة إلا أن غايته ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قيد زوال الملك والنبوة من بني إسرائيل بظهور عيسى، ومن بعد ظهوره إلى هذا الآن لم
وقال اليهود: إن شيلو الذي هو عبارة عن المسيح المزمع بالإِتيان، وأنه لم يأت بعد لعدم وقوع الشرط لأن شرط ظهوره زوال السلطنة والنبوة منهم وقد زالت النبوة، لكن السلطنة لم تزل لأن بعض الممالك البعيدة عنا يوجد فيها منهم ملوك لم تبلغ إلينا أخبارهم، وأجيب بأن الواو في قوله: لا تزول السلطنة ولا واضعي الناموس للجمعية، فلا يمكن زوال أحدهما وبقاء الثاني وأن الأرض كلها محددة من مجاري ٦٥ درجة من الجنوب إلى جزيرة مندوسة ومن ٨١ درجة من الشمال من جزيرة سلامة إلى آخر ممالك الفرنج، وليس فيها بقعة مجهولة، وكذا الجزائر فالاعتراف بأن فيها مملكة تكون فيها ملوك وأمم مجهولة محمولة على الجهالة وهو ممنوع.
فمن أين حصل لكم العلم بهذا المجهول؟ فينتقض اعتراضهم، وإذا تحقق لك ذلك، اعلم أنه عليه السلام قيد زوال السلطنة والنبوة لظهور شيلو وصيرورة عوام الناس إليه وقوله حتى يأتي شيلو يدل على أنه لا بد للملك والنبوة بعد ظهوره أن تزولا من اليهود وتنتقلا إلى غيرهم وهم العرب، وقال اليهود: إن كان صحة ظهور شيلو التجاء عوام الناس إليه فلا يمكن أن يظهر شيلو، ولا تلجىء عوام الناس إليه، لكن عيسى ابن مريم قد خرج ولم تلتجىء عوام الناس إليه، فعيسى ابن مريم ليس بشيلو.
وأجيب عن ذلك بمنع الصغرى، لأن قوله: وتصير عوام الناس إليه أي إلى أمره وكلامه، وقد اتبع عوام الناس أمره في تبشيره بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن الذين ينقادون إلى شريعته صلى الله عليه وسلم، هم عوام الناس، أي ليسوا بيهود كالعرب والفرس والروم والهنود والسنود وحبشة وبعض أهل الصين، وأما اليهود فمنهم من يؤمن به، ويصير إلى كلامه، ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يمكث راكساً في
وفي نشيد الإنشاد: هذا صوت محبوبي فإنه أتى يقفز على الجبال ويظفر على الأتلال، إن محبوبي كالغزال، أو كخشف الأوعال، هذا هو واقف خلف جدارنا يطل من الكوة، ويظهر نفسه من الشباك، فكلمتني محبوبتي وقالت لي: قم يا محبوبي وجميلي، وتعال، فإن الشتاء قد مضى، والمطر قد انقضى، وظهر الزهر على الأرض، وقرب زمان الترنم، وقد سمع صوت اليمامة في أرضنا، وأبدت الظمخة تبنها، والكرمة عنبها الغض، فقم يا محبوبي وجميلي وتعال. انتهى.
وهذا من عمدة الأمثال التي تخص محمداً صلى الله عليه وسلم، وتبشر به، وقد غفل عنه اليهود والنصارى ولم يتوجهوا له ولا لما قبله وبعده من هذا السفر، والحق أحق أن يعترف به، فإن جميع آياته تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكني اكتفيت منه بهذا المثال ونقلت لفظة محبوبي من الأصل الانكتاري على ما كانت عليه، وهو لفظ لو بفتح اللام وسكون الواو الانكتارية الساكنة وهي تارة تطلق على العشق وتارة على المعشوق، وكان الكاتودكيون قد ترجموها بابن أخي وأجمعوا على ذلك امتثالاً لأمر البابا سركيس، وهي في الأصل العبراني دوو كفلس بإمالة الواو، ومعناها العم أخو الأب كما ورد في أشمويل، وبنو العم كما ورد في الخروج، وابن العم، كما ورد في أرميا، ولم يفسرها أحد من اليهود بابن الأخ فعلى ترجمة الانكتاريين يكون محبوب سليمان عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه تنبىء عليه ولأنه خاتم الرسل، وعلى ترجمة الباب سركيس يكون ابن أخيه لأن محمداً صلى الله
والمعنى أن هذا صوت محبوبي يسمع فاسمعوه، فإنه أتى يقفز على الجبال لأنه تولد في الحجاز، وهي أرض وعرة كثيرة الجبال، ويظفر على الأتلال لأنه ربي في البر مع بني تميم، إن محبوبي كالغزال، جملة استئنافية تتضمن بعض صفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك إشارة إلى أنه كان طويل العنق أسمر العينين، أو كخشف الأوعال عطف على كالغزال وتأكيد لها، هذا هو واقف خلف جدارنا، هذا للتحضيض في الاصطفاء لكلامه، وخلف جدارنا إشارة إلى قرب زمانه أو إلى ضرورة إتيانه، يطل من الكوة ويظهر نفسه من الشباك، إشارة إلى علو مكانه وسمو مقامه، وإلى أنه يأتي إلى بلدهم لكن لا يتوقف فيها، بل يكون فيها كالذي ينظر من الشباك، وفيه إشارة إلى المعراج الجسماني لأن قوله: يطل وينظر فيهما إشارة إلى غاية انتهاء النظر، وهو يدل على التحدُّد الجسماني وعلى ارتفاع مكان الناظر، وفيه رد على من ينكر معراجه بالجسم.
فتكلمت محبوبتي وقالت، اطراد من المتكلم إلى المخاطب، والتأنيث باعتبار القبيلة أو البلد، قم يا محبوبي وجميلي وتعال، إظهار للرغبة في ظهوره صلى الله عليه وسلم، فإن الشتاء قد مضى، يريد بالشتاء مدة ما بينهما من الزمان، أو زمان الفترة بينه وبين عيسى عليه السلام، والمطر قد انقضى،
هذا كله ظاهر الدلالة على الطلب، فإن قلت: يمكن أن لا يكون مطلب سليمان من هذا التنبيء محمداً صلى الله عليه وسلم، قلت: فحينئذ إما أن يكون كلامه يخص نبياً آخر أو معشوقاً مجازياً أو يكون مهملاً، ولا سبيل إلى كل واحد منها أما إلى الشق الأخير فلأنه كلام الله أو كلام النبي، والإهمال ممتنع عليهما أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن النبي رجل يختصه الله بتبليغ كلامه من بين أهل عصره، فيجب أن يكون عاقلاً، والعاقل لا يتكلم بالمهمل، وإلا فإذا حصل الشك في صحة بعض أنبائه يفسد اليقين بها في الكل، ولأن أكثر القوم ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مما هو يخل بالعصمة، وأما أنه لا سبيل إلى كونه معشوقاً مجازياً، فلأنه لا يجوز للنبي أن يدخل سائر كلامه في الوحي، وإن فعله فقد عصى، ولأنه إما أن يكون ذكراً أو أنثى وعلى كلا الوجهين يلزم منه تفسيق النبي وهو باطل.
وأما أنه لا سبيل إلى كونه نبياً آخر فلوجوه:
الأول أن النصوص المشتبهة قد أخذها القوم من اليهود والنصارى، ولم يبق إلا ما شبهة فيه.
والثاني أنه لم يتنبأ إلا على اثنين فقط، وهما يحيى بن زكريا وعيسى ابن
وفي سفر الرؤيا ما ترجمته: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس، إني سأطعم المظفر من شجرة الحياة التي هي في جنة الله، وفيه: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس، فإن المظفر لا تظهره الموتة الثانية. اهـ.
وفيه أيضاًً: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس إني سأطعم المظفر من المن المكنون، وأعطيه حجرة بيضاء مكتوباً عليها اسم مرتجل لا يفهمه إلا من يناله، وفيه أيضاًً: وسأعطي المظفر الذي يحفظ جميع أفعالي سلطاناً على الأمم فيرعاهم بقضيب من حديد، ويسحقهم كآنية الفخار كما أخذت أنا من أبي وأعطيه أيضاًً نجمة الصبح، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر يلبس ثياباً بيضاء، ولا أمحو اسمه من سفر الحياة، وأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر أجعله عموداً في هيكل الإلهي، ولا يخرج خارجاً، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة التي نزلت من السماء من عند إلهي، وأكتب عليه اسمي الجديد فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر أهب له الجلوس معي على كرسي كما ظفرت أنا أيضاًً، وجلست مع أبي على كرسيه، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. أهـ.
وهذه سبعة بشارات متواترة مترادفة في الإصحاح الأولى والثانية من رؤيا يوحنا بن زبدي تدل دلالة صريحة على بعثة محمد ﷺ وعلى
وقوله: فمن كانت له أذن سامعة الخ مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة المرسلات: (ويل يومئذ للمكذبين) حيث تكررت مرات، وكان يوحنا في جزيرة أطموس في يوم الأحد فأتاه الوحي وحل عليه روح القدس، وسمع صوتاً عظيماً يقول له: إني أنا الألف والياء الأول والآخر، فاكتب ما تراه وأرسله إلى الكنائس السبع المشهورة. أعني كنيسة أفسيس وكنيسة سيمرنا وبيرغاموس وشاتيرا وسارديس دفيلا ولفية ولاذقية، وفي آخر كل كتاب كتب إلى الكنائس السبع قوله: فمن كانت له أذن سامعة الخ، وهذا ملخص الفصول المشتملة على الحجج، وإن أردت الاطلاع على العبارة جميعها فارجع إلى سفر الرؤيا وهذه الرؤيا هي ما يعتقده النصارى رؤيا رآها يوحنا تشتمل على الأخبار التي حدثت في العالم من ارتفاع المسيح إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بل من وفاته إلى ظهور المهدي، ومن وفاة المهدي إلى قيام الساعة، ولا شك أنها تدل على ذلك وأنها كلام الله لكني لست بمطمئن من تحريفها، ومع ذلك لا شك أن أماكن الاستدلال فيها قائمة على دعائمها الأصلية.
فمن جملة ذلك هذه الآيات الشريفة ولفظ المظفر في الأصل اليوناني يدل على الغالب والغازي والقاهر في الحرب، والموتة الثانية عبارة عند النصارى عن موت الإنسان في الذنب، أي انهماكه فيه لا غير، وأما البعث فإنهم يعترفون بقيام جميع الناس عند ظهور المسيح، وبخلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ولم يتعرضوا للبحث في هذا المقام، وعند اليهود
وفي سفر الرؤيا: ورأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد جازتا، والبحر لن يوجد بعد، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، مهيأة كعروس مزينة لزوجها انتهى.
وهذا من أجل البشارات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن جدة الأرض والسماء تدل على تحول الأحوال، وتبدل الأمثال، وإلا فلا معنى لزوالهما قبل يوم القيامة، ولا معنى لوجود غيرهما وأما البحر فإنه قد كنى به عن الضلال الذي كان يعرض في ذلك الزمان من بعض كهنة اليهود، فإنهم لم يزالوا يدعون النبوة بالكذب وهم أول من خاض في ذلك البحر. وقوله: كالعروس الخ بيان لحسن انتظام مكة شرفها الله وزوجها هو رب الجنود صلى الله عليه وسلم.
وفي أشعيا: وستخرج من قنس الأسى عصى، وينبت من عروقه غصن وستستقر عليه روح الرب أعني روح الحكمة والمعرفة والروح الشورى والعدل وروح العلم وخشية الله وتجعله ذا فكرة وقادة مستقيماً في خشية الرب فلا يقضي بمحاباة الوجوه ولا يدين بمجرد السمع. انتهى. وهذه صفات رب
وفي سفر الرؤيا: فأخذتني الروح إلى جبل عظيم شامخ وأرتني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله وفيها مجد الله وضوؤها كالحجر الكريم كحجر اليشم والبلور وكان لها سور عظيم عال واثنا عشر باباً وعلى الأبواب اثنا عشر ملكاً وكان قد كتب عليها أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر انتهى.
ولا تأويل لهذا النص بحيث أن يدل على غير مكة شرفها الله تعالى، والمراد بمجد الله بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاًً: ولسور المدينة اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الحمل الاثني عشر انتهى. وهذا تأكيد صريح لما قبله والاثنا عشر الأساس لعلهم الخلفاء الاثنا عشر من قريش، وفيه إشارة إلى انقياد جميع المذاهب العيسوية لشريعة خير البرية صلى الله عليهم وسلم، ولو بعد حين، وبعد ظهور المهدي، ونزول عيسى عليه السلام، وهذه الرؤية طويلة جداً وفيها دلائل على صحة نبوة محمد ﷺ وأحوال أمته المرحومة، ولكل جملة منها تأويل حسن، ومحمل صريح، ومعنى صحيح، بحيث لا تدل إلا على هذه الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد أنزل بعضهم هذه الرؤيا على ما يوافق مذاهب الإمامية ولا عبرة به، لأن التبشير إنما وقع في الكتب القديمة ببعثة محمد النذير البشير صلى الله عليه وسلم، لا بغيره من عترته ﷺ الكائنة إلى يوم القيامة إلا ما ورد في القرآن الكريم من كون مثل أصحابه عموماً في التوراة والإنجيل، لا على الخصوص، فلا دلالة لها على شيء من ذلك في تلك النصوص، وقد بلغ بعض الناس هذه البشارات إلى ثلاث وعشرين بشارة، وفي بعضها نظر واضح، وبعضهم إلى ثمان عشرة بشارة منها ما تقدم في هذا المقام، وفي
وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان على عباده المؤمنين حيث انتهض عصابة منهم للرد على النصارى باللسان والبيان، والعمل بالأركان، وأفحموهم إفحاماً يبقى عاراً عليهم إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى، وفن البشارات أيضاًً ما في ترجمة القرآن المجيد للقسيس سيل نقله من إنجيل برنابا ولفظه: اعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي الله عليه، لأن الله غير راض عن الذنب، ولما حبتني أمي وتلاميذي لأجل الدنيا أسخط الله لأجل هذا الأمر، وأراد باقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العنيدة غير اللائقة، ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، ولا يكون لهم أذية هناك. وإني وإن كنت بريئاً لكن بعض الناس لما قالوا في حقي: إنه الله وابن الله هذا القول، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي، ولا يستهزئون بي، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس انتهى.
وهذه بشارة صريحة عظيمة، وإن قال النصارى: إن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا المتقدمين، وفي ترجمة كتاب أشعياء باللسان الأرمني:
وفاران جبل بمكة وبحيئُه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى، واستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما في سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام: وسكن برية فاران وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر انتهى.
ولا شك أن إسماعيل كان ساكناً بمكة المكرمة، زاد الله شرفها، إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة التي ينكرها النصارى، ويؤولونها على غير محاملها، وكل من أسلم من علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى في القرون الأولى، بل إلى الآن شهد بوجود البشارات المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية في كتب العهدين العتيق والجديد.
وهكذا اعترف بصحة نبوته ﷺ وعموم رسالته من حمله الشقاء على عدم الإسلام، وقبول الإيمان، كهرقل عظيم الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحُيَيُّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وأضرابهم، والله سبحانه وتعالى يتم نوره ولو كره الكافرون وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
(فلما جاءهم) عيسى (بالبينات) أي بالمعجزات والآيات (قالوا هذا) الذي جاءنا به (سحر مبين) أي واضح ظاهر، وقيل: المراد محمد ﷺ لما جاءهم بذلك، قالوا هذه المقالة والأولى أولى، بل هو المتبادر من السياق، وهما قولان حكاهما المفسرون قرأ الجمهور: سحر، وقرىء ساحر، وهما سبعيتان.
قال ابن عطية: اللام في (ليطفئوا) لام مؤكدة مزيدة دخلت على المفعول، لأن التقدير يريدون أن يطفئوا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم كقولك: لزيد ضربت ولرؤيتك قصدت، وقيل: هي لام العلة، والمفعول محذوف، أي يريدون إبطال القرآن، أو دفع الإسلام، أو هلاك الرسول ليطفئوا، وقيل إنها بمعنى أن الناصبة، وأنها ناصبة بنفسها، قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر، وإليه ذهب الكسائي، ومثل هذا قوله: يريد الله ليبين لكم.
(والله متم نوره) بإظهاره في الآفاق وسائر في البلاد من المشارق إلى المغارب، وإعلائه على غيره، ومتم الحق، ومبلغه غايته، قرىء متم نوره بالإضافة سبعية وبتنوين (ولو كره الكافرون) ذلك فإنه كائن لا محالة.
(ولو كره المشركون) ذلك فإنه كائن لا محالة، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وقال مجاهد: ذلك إذا نزل عيسى، لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام، والدين مصدر يعبر به عن الأديان المتعددة، وجواب لو في الموضعين محذوف، أي أتمه وأظهره، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
" عن أبي هريرة قال: قالوا لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ فنزلت هذه الآية فكرهوا فنزلت: (لم تقولون ما لا تفعلون) إلى قوله (بنيان مرصوص) أخرجه ابن مردويه، قال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون قال: وددت يا نبي الله أعلم أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها؟ ثم بين سبحانه هذه التجارة التي دل عليها فقال:
(ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم بيان كيفية جري الأنهار من تحت الجنات مراراً، والمعنى:
من تحت أشجارها وغرفها (ومساكن طيبة) أي قصوراً من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوته حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً في كل سرير سبعون فراشاً، من
(في جنات عدن) أي في جنات إقامة وخلود (ذلك) المذكور من المغفرة وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو (الفوز العظيم) الذي لا فوز بعده والظفر الذي لا ظفر يماثله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) أي دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين، قرىء أنصاراً لله بالتنوين، وبالإضافة، والرسم يحتمل القراءتين معاً، واختار أبو عبيدة الإضافة لقوله: (نحن أنصار الله) بالإضافة وهي سبعية، واللام يحتمل أن تكون مزيد في المفعول لزيادة التقوية، أو غير مزيدة والأول أظهر قال قتادة قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلاً فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه.
(كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؟ أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين، لما قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟ فقالوا نحن أنصار الله والكاف في كما نعمت مصدر محذوف، أي كونوا كوناً كما قال، قاله مكي، وفيه نظر، إذ لا يؤمرون بأن يكونوا كوناً، وقيل: الكاف في محل نصب على إضمار القول أي قلنا لهم ذلك كما قال عيسى، وقيل: هو كلام محمول على معناه دون لفظة وإليه نحا الزمخشري والمعنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله وإلى بمعنى مع أي مع الله وقيل: التقدير من أنصاري فيما يقرب إلى الله؟ قيل التقدير من أنصاري متوجهاً إلى نصرة الله وقد تقدم الكلام على هذا في سورة آل عمران.
(قال الحواريون) هم أنصار المسيح وخلص أصحابه وأول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرجل صفيه وخالصه من الحور وهو البياض الخالص وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها وفي المختار التحوير تبييض الثياب.
" عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله ﷺ للنفر الذين لقوه بالعقبة: أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون بعيسى بن مريم " أخرجه ابن سعد وابن إسحاق و " عن محمود بن لبيد قال: قال رسول الله ﷺ للنقباء: إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل قومي قالوا: نعم " أخرجه ابن سعد.
(فآمنت طائفة من بني إسرائيل) بعيسى عليه السلام (وكفرت طائفة) به وذلك لأنهم لما أختلفوا بعد رفعه تفرقوا وتقاتلوا فرقة قالت: كان الله فارتفع وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه وفرقة قالت: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان حتى بعث الله محمّداً ﷺ فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم) أي قوينا المحقين منهم على المبطلين وقال ابن عباس: أي أيدنا الذين آمنوا بمحمد ﷺ وأمته على عدوهم وقيل: المعنى فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً.
(فأصبحوا ظاهرين) أي صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه.
(إحدى عشرة آية بلا خلاف، وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وأخرج مسلم وأهل السنن.
عن أبي هريرة: " سمعت رسول الله - ﷺ - يقرأ في الجمعة سورة الجمعة، و (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) "، وأخرجوا عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه.
عن جابر بن سمرة قال: " كان رسول الله - ﷺ - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون ".
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)