سورة طه
آياتها مائة وثلاثون آية أو أربعون واثنتان
قال القرطبي : مكية في قول الجميع، وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها ( فاصبر على ما يقولون. ).
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كل القرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرءون منه شيئا إلا سورة طه ويس فإنهم يقرءون بهما في الجنة ) وعن أنس بن مالك فذكر قصة عمر ابن الخطاب مع أخته وخباب، وقراءتهما طه، وكان ذلك سبب إسلام عملا والقصة مشهورة في كتب السير.
ﰡ
الأول: أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به.
والثاني: أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك (١)، قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك يا رجل لم يجب حتى تقول طه، وقيل إنها في لغة عك بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب: هي كذلك في لغة طيء، أي بمعنى يا رجل، وكذا قال الحسن وعكرمة، وقيل هي كذلك في اللغة السريانية حكاه المهدوي، وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السدي وسعيد بن جبير، وحكى عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل.
الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه.
الرابع: أنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أنها اسم للسورة.
_________
(١) عك قبيلة من قبائل العرب، إهـ خازن.
السابع: أن معناها طوبى لمن اهتدى.
الثامن: أن معناها طأ الأرض يا محمد قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي ﷺ كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروض.
وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي ﷺ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله طه يعني طأ الأرض يا محمد، وعن الحسن البصري أنه قرأ: طه، على وزن دع أمر بالوطء والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء.
التاسع: أنه قسم أقسم الله بطوله وهدايته، وعن أكثر المفسرين أن معناها يا رجل يريد النبي ﷺ وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهد وابن عباس غير أن بعضهم يقول: إنها بلسان الحبشة والنبطية والسريانية ويقول الكلبي. هي بلغة عك كما مر.
قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه ﷺ بلسان غير قريش انتهى وإذا تقرر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى، واضحة الدلالة؛ خارجة عن فواتح السور، التي قدمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم، واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة
قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة التعب والعناء، ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد والمعنى ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا إذ ما عليك إلا أن تبلغ، فهو كقوله سبحانه: (فلعلك باخع نفسك).
قال النحاس: بعض النحاة يقول هذه اللام في لتشقى لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود، وقال ابن كيسان: هي لام الخفض وهذا التفسير للآية على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت اسماً للسورة كان قوله ما أنزلنا الخ خبراً عنها.
وأما على أن معناها يا رجل أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة أيضاً مسوقة لصرفه (- ﷺ -) عما كان عليه من المبالغة في العبادة.
وعن ابن عباس قال: إن النبي ﷺ أول ما أنزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى فأنزل الله طه، الآية، وعنه قال: قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه فأنزل الله هذه الآية، وعنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام فأنزل الله هذه الآية، وعن علي كان يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت هذه الآية وحسن السيوطي إسناده.
(لمن يخشى) أي لمن خاف الله أو لمن يؤول أمره إلى الخشية أو لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنزال. أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع، وكأنه يشير إلى أن اللام في لمن للعاقبة
وعن مالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة؛ قال البغوي: أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز
الأول: القطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة وعدم الخوض في تأويلها وبه قال الخازن واختاره.
الثاني: الخوض فيه على التفصيل، وفيه قولان:
الأول: العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك، فإذا استقام له ملكه، واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه قاله القفال، قال الخازن: والذي قاله حق وصواب والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس. (ثم استوى على العرش يدبر الأمر) فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله: ثم استوى على العرش.
الثاني: أن يكون استوى بمعنى استولى، وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين، واحتجوا عليه بقول الشاعر.
قد استوى بشر على عراق | من غير سيف ودم مهراق |
وعن ابن الأعرابي: جاءه رجل فقال: ما معنى هذه الآية؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل إنما معنى قوله: استوى استولى فقال له
والحق ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها من إمرار الصفات على ظاهرها من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تأويل، والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حدّ ولا كيف وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والمجتهدين الأربعة وأهل الحديث والأثر، الذين يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تعطيل ولا تأويل والبحث في تحقيق هذا يطول جداً وليس هذا موضع بسط ذلك رداً وتعقباً وقد أوضحنا ذلك إيضاحاً شافياً في رسائلنا (الانتقال الرجيح) و (هداية السائل) و (بغية الرائد) (١) وغيرها فليرجع إليها قاله الشوكاني.
_________
(١) يسر الله لنا طبعها.
قال الواحدي: والمفسرون يقولون: إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه. قال قتادة: الثرى كل شيء مبتل.
وقيل السر ما أضمره الإنسان في نفسه والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل السر سر الخلائق، والأخفى منه سر الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه. وعن ابن عباس أيضاً قال: السر ما علمته أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه، وفي لفظ: يعلم ما تسر في نفسك ويعلم ما تعمل غداً.
وفي الآية تنبيه على أن الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله تعالى وإسماعه، بل لغرض آخر كتصوير النفس بالذكر ورسوخها فيه ودفع الشواغل والوساس، ومنعها عن الاشتغال بغيره، وهضمها بالتضرع والجؤار
(فقال لأهله امكثوا) المراد بالأهل هنا امرأته، وهي بنت شعيب واسمها صفورا، وقيل صفوريا، وقيل صفورة واسم أختها ليا، وقيل شرقا وقيل عبدا واختلف في التي تزوجها هل هي الصغرى أو الكبرى، والجمع لظاهر لفظ الأهل، أو للتفخيم، وقيل المراد بهم المرأة والولد والخادم،
(إني آنست ناراً) أي أبصرت يقال آنست الصوت سمعته وآنست الرجل أبصرته، وقيل الإيناس الإبصار البَيِّن، ومنه إنسان العين لأنه يبصر به الأشياء وقيل هو الوجدان وقيل الإحساس فهو أعم من الإبصار وقيل الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس، والجملة تعليل للأمر بالمكث ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى متوقعين بني الأمر على الرجاء فقال:
(لعلّي) لعدم الجزم بوفاء الوعد (آتيكم) أجيئكم (منها) أي من النار (بقبس) هو الجذوة والشعلة من النار في رأس عود أو قصبة أو فتيلة ونحوها وهو فَعَل بمعنى مفعول كالقَبَض والنَقَض بمعنى المقبوض والمنقوض وكذا المقياس يقال قبست منه ناراً أقبس قبساً فأَقْبَسَني أي أعطاني وكذا اقْتَبَسْتُ، قال اليزيدي: أَقْبَسْتُ الرجلَ علما وَقَبَسْتُهُ ناراً ففرقوا بينهما هذا قول المبرد، فإن كنت طلبتها له قلت: أقبسته، وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً سواء قال: وقبسته أيضاً فيهما.
(أو) لمنع الخلو وهو الظاهر دون الجمع (أجد على النار) وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها كما قال سيبويه (هدى) أي هادياً يهديني إلى الطريق، ويدلني عليها، قاله ابن عباس وكان أخطأها لظلمة الليل، قال الفراء: أراد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف أي ذا هدى ولعله لم يقل قوماً يهدونني كما في الكشاف إذ لا دليل على فوق الواحد.
وقيل لم يكن الذي رآه ناراً، بل كان نوراً وذكر بلفظ النار، لأن موسى حسبه ناراً، وقيل هي النار بعينها، وهي إحدى حجب الرب سبحانه، ويدل له ما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: " حجابه النار، لو كشفها لأهلكت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " (١) أخرجه مسلم.
(يا موسى) أي نودي من الشجرة، فقيل يا موسى وهذا أول الكلمات بينه وبين الله تعالى، وسيأتي آخرها وهو قوله: (أن العذاب على من كذب وتولى)؛ وهذا بالنسبة لهذه الواقعة، وهذه الحالة وإلا فله مكالمات أخر قاله سليمان الجمل ولما نودي موسى، قال: من المتكلم فقال الله تعالى:
_________
(١) مسلم ١٧٩.
(فاخلع نعليك) أمره الله سبحانه بخلع نعليه تعظيماً، لأن الحفوة أبلغ في التواضع وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل معناه انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس، والأول أولى، قيل ومن ثَم طاف السلف بالكعبة حافين.
قال النسفي: والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها، فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي انتهى، وقيل لأنهما كانا من جلد حمار ميت أو من جلد مدبوغ، قاله علي وابن مسعود، وروي عن السدي وقتادة، وقيل معنى الخلع لهما تفريغ القلب من الأهل والمال وهو من بدع التفاسير، ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال:
(إنك بالواد المقدس) أي المطهر، والمبارك والقدس الطهارة، والأرض المقدسة الطهرة، سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين (طوى) اسم للوادي، قال الجوهري: هو اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه وجعله اسم واد ومكان جعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة، وقيل طوى كثني من الطي مصدر لنودي أو للمقدس، أي نودي نداءين أو قدس مرة بعد أخرى، قال ابن عباس: يعني الأرض المقدسة وذلك أنه مر بواديها ليلاً فطوى، يقال طويت وادي كذا وكذا، وقيل طوى واد مستدير عميق، مثل المطوي في استدارته.
(فاستمع لما يوحى) إليك مني أو للوحي، وفيه نهاية الهيبة والجلال له كأنه قال لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: (أقم الصلاة لذكري) (١).
وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: (أقم الصلاة لذكري) " (٢). وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى، وقيل المعنى لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول. وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي، ولا ترائي فيها، ولا تقصد بها غرضاً آخر.
_________
(١) مسلم ٦٨٤ - البخاري ٣٨٤.
(٢) الترمذي كتاب الصلاة الباب ١٦ - ١٧ - ابن ماجة كتاب الصلاة الباب ١٠.
ومعنى الآية أن الله تعالى بالغ في اخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف؛ وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت على الإنسان ليكون على حذر، تقديم الْوَجَل في كل وقت.
وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بفتح الهمزة، ومعناه أظهرها، قال النحاس: وأجود من هذا ما روي عنه أنه قرأها بضم الهمزة، قال الفراء: معناه على الفتح أكاد أظهرها من خفيت الشيء إذا أظهرته، أخفيه.
قال القرطبي: قال بعض اللغويين يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار، قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، قال النحاس وهذا أحسن، وليس المعنى على أظهرها ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة، وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على (أكاد) وبعده مضمر، أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها إلى آخره، واختار هذا النحاس.
وقال أبو علي الفارسي: هو من باب السلب وليس من الأضداد، ومعنى أخفيها أزيل عنها خفاءها وهو سترها، ومن هذا قولهم اشكيته أي أزلت شكواه وعن الأخفش أن كاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله إذا أخرج يده لم يكد يراها، قال والمعنى أقارب ذلك لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم جاز أن
(لتجزى كل نفس بما تسعى) أي بسعيها، والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال فهو هاهنا يعم الأفعال، والتُّرُوك للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به.
وقيل الضمير للصلاة بعيد وهو (من لا يؤمن بها) من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر فهو في الحقيقة نهي له ﷺ عن الانصداد أو عن إظهار اللين للكافرين، فهو من باب لا أريتك ههنا، كما هو معروف.
(واتبع هواه) أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية، وفي إنكار الساعة (فتردى) أي فتهلك لأن انصدادك عنها لصد الكافرين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له.
(وأهش بها على غنمي) هش بالعصا يهش هشاً إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق، أي أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي؛ قاله عكرمة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وقرأ النخعي أهس بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل هما لغتان بمعنى واحد، ولما ذكر تفصيل منافع العصا عقبه بالإجمال فقال: (ولي فيها مآرب) أي حوائج (أخرى) قاله مجاهد وقتادة، وأحدها مأرُبة مثلت الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، والقياس أُخر، وإنما قال أخرى رداً إلى الجماعة أو لنسق الأخرى، ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام ويتلذذ بالخطاب.
وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء، منها قول بعض العرب:
عصاي أركزها لصلاتي وأعدها لعداتي وأسوق بها دابتي وأقوى بها على سفري وأعتمد عليها في مشيتي ليتسع خطوي، وأثب بها النهر وتؤمنني العثر وألقي عليها كسائي فتقيني الحر وتدفيني من القر وتدني إلى ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي وعلاقة أدواتي، أعصي (١) بها عند الضراب وأقرع بها الأبواب وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان وعن السيف عند منازلة الأقران ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني. أهـ.
_________
(١) يقال عصى بالسيف يعْصى إذا ضرب به، أ. هـ صحاح.
وقال بعضهم: إمساك العصا سنة الأنبياء وزينة الصلحاء وسلاح على الأعداء وعون الضعفاء وغم المنافقين وزيادة في الطاعات.
ويقال إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان ويخشع منه المنافق والفاجر وتكون قبلته إذا صلى وقوته إذا أعيا.
قيل كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فماً وباقيها جسم حية تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، وقال في موضع آخر كأنها جان. وهي الحية الصغيرة الجسم الخفيفة، وقال في موضع آخر كأنها ثعبان، وهو أكبر ما يكون من الحيات، ووجه الجمع أن الحية اسم جامع للكبير والصغير والذكر والأنثى.
وقيل كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان. وقيل سماها جاناً تارة نظراً للمبدأ وثعباناً مرة باعتبار المنتهى، وحية تارة أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب فنودي أن يا موسى.
قال الأخفش والزجاج: التقدير إلى سيرتها مثل واختار موسى قومه. قال: ويجوز أن يكون مصدراً لأن معنى سنعيدها سنسيرها، أو سائرة أو مسيرة، والمعنى سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية، والأولى تأنيث الأول، والسيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية أو مكتسبة، وهي في الأصل فِعْلة من السير كالرِّكْبَة من الركوب، ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة والهيئة.
قيل إنه لما قيل له لا تخف طابت نفسه حتى بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، قال المحلي وأرى ذلك موسى لئلا يجزع إذا انقلبت حية لدى فرعون.
وجواب الأمر (تخرج) يدك خلاف ما كانت عليه من الأدمة حال كونها (بيضاء) نيرة مشرقة كائنة.
(من غير سوء) أي عيب كنى به عن البرص، ويسمى هذا عند أهل البيان الاحتراس، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البرص والبهق، فأتى بقوله: (من غير سوء) نفياً لذلك.
والمعنى تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس، تغشي البصر من غير برص، وبه قال ابن عباس.
(آية) أي معجزة (أخرى) غير العصا. وقال الأخفش: أنها بدل من بيضاء، قال النحاس. وهو قول حسن، وقال الزجاج: المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى، لأنه لما قال: (تخرج بيضاء) دل على أنه قد آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله:
ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال:
(إنه طغى) أي عصى وتمرد وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد في كفره إلى ادعاء الإلهية.
قال الزمخشري: فإن قلت (لي) من قوله: (اشرح لي صدري ويسر لي أمري) ما جدواه، والكلام منتظم بدونه؟ قلت قد أبهم الكلام أولاً فقال: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره، ويقال يسرت له كذا ومنه هذه الآية وتيسرته لكذا، ومنه فسنيسره لليسرى.
وجواب الأمر قوله:
قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.
الأولى: قوله:
(فليلقه اليم بالساحل) الأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز لا كان إلقاؤه بالساحل أمراً واجب الوقوع، وهذا أمر معناه الخبر وإنما
(يأخذه عدو لي وعدو له) جواب الأمر بالإلقاء أو القذف، والمراد بالعدو فرعون، فإن أم موسى لما ألقته في البحر، وهو النيل المعروف: وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره؛ فأخذ التابوت فوجد موسى فيه. وقيل أن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه. وقيل وجدته ابنة فرعون، والأول أولى، والمنة الثانية قوله:
(وألقيت عليك محبة مني) أي ألقى الله على موسى محبة عظيمة كائنة من الله تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه وقيل جعل عليه سبحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي وقيل المعنى أحببتك؛ ومن أحبه الله أحبه الناس، والقلوب لا محالة. قال ابن عباس: كل من رآه ألقيت عليه منه محبة، وعن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي، والمنة الثالثة قوله:
(ولتصنع على عيني) أي ولتربّى وتغذَّى بمرأى مني، ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري والعين هنا بمعنى الرعاية مجاز مرسل من إطلاق السبب على المسبب، يقال صنع الرجل جاريته إذا رباها، وصنع فرسه إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير (على عيني) بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى فإن جميع الأشياء بمرأى من الله. وقال أبو عبيدة: وابن الأنباري: أن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول أتخذ الأشياء على عيني أي على محبتي قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد
وقيل أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك، والعين أيضاً من ألفاظ الصفات فلا تؤَوَّل وَتُجْزى على ظاهرها وهو الأولى، وقرئ ولتصنع بإسكان اللام على الأمر وقرئ بفتح التاء والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي، وعلى عين مني، وقال الزمخشري قريباً منه.
وفي مصحف أبيّ فرددناك وهذه هي المنة الرابعة.
(كي تقر عينها) بلقائك قال الجوهري: قررت به عيناً قرة وقروراً ورجل قرير العين وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت، والمراد بقرة العين السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم فراقه عليها (ولا تحزن) حيئنذ أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عنها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين فيحمل هذا النفي على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، قال البيضاوي: ولا تحزن أنت يا موسى على فراقها وفقد إشفاقها وهو تعسف.
والمنة السادسة قوله: (وفتناك فتوناً) الفتنة تكون بمعنى المحنة وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون مصدر كالثبور والسكون والكفور أي اختبرناك اختباراً وابتليناك ابتلاء أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز في حجزة، وبدور في بدرة أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن نصطفيك لرسالتنا أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاءه في البحر في التابوت، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله؛ ثم تناوله الجمرة بدل الجوهر، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً.
وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير هذه الآية فمن أحب استيفاء ذلك فلينظر في كتاب التفسير من سنن النسائي ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل.
والمنة السابعة قوله: (فلبثت سنين في أهل مدين) قال الفراء: تقدير الكلام وفتناك فتوناً فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي في وقت سبق في قضائي وعلمي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً أو على ميقات ومقدار من الزمان يوحي فيه إلى الأنبياء قاله ابن عباس، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به قاله مجاهد وقتادة قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدراً | كما أتى ربه موسى على قدر |
قال أبو السعود: وفي قوله يا موسى تشريف له عليه السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً وقوله (اصطنعتك لنفسي) تذكير لقوله: (وأنا اخترتك) وتمهيد لإرساله إلى فرعون مؤيداً بأخيه انتهى.
(بآياتي) أي بمعجزاتي التي جعلتها لك آية وهي اليد والعصا فقط وعليه أكثر المفسرين وقيل هي التسع الآيات وفيه نظر والباء للمصاحبة أي مصحوبين بها متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة وليست المتعدية إذ ليس المراد مجرد ذهابهما وإيصالها إلى فرعون.
(ولا تنيا) أي لا تضعفا ولا تفترا يقال ونى ينى وَنْياً إذا ضعف وتواني في الأمر توانياً لم يبادر إلى ضبطه ولم يهتم به فهو متوان أي غير مهتم ولا محتفل.
(في ذكري) قال الفراء هذا وعن ذكري سواء، والمعنى لا تقتصرا عن ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما، ومن ذكر النعمة شكرها، وقيل المعنى لا تبطيا في تبليغ رسالتي، وفي قراءة ابن مسعود لا تهنا في ذكري.
ثم أمرهما سبحانه بالإنة للقول لما في ذلك من التأثير في الإجابة فإن التخشين بادئ بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر فقال:
ثم علل الأمر بالإنة للقول له بقوله: (لعله يتذكر أو يخشى) أي بَاشِرَا ذلك مباشَرَةً من يرجو ويطمع فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحوين سيبويه وغيره، وقد تقدم تحقيقه في غير موضع.
قال الزجاج: لعل لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون، وقيل لعل هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر أو يخشى، وقيل بمعنى كي، والتذكر النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة
(أن يفرط) فرعون (علينا) بفتح الياء وضم الراء أي يَعْجَل ويبادر بعقوبتنا، قاله ابن عباس، يقال فَرَط منه أمر أي بَدَر، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم القوم إلى الماء أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، كذا قال المبرد، وقال أيضاً: فرط منه أمر وأفرط أسرف وفرط ترك وقرئ يُفْرَط بضم الياء وفتح الراء أي يحمله حامل على التسرع إلينا، وقرأت طائفة من الإفراط أي يشتط في أذيتنا أي فلا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة.
(أو أن يطغى) أي يعتدي قاله ابن عباس وإظهار كلمة (أن) مع استقامة المعنى بدونها لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل منهما
الأولى قوله: (إنّا رسولا ربك) أرسلنا إليك (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر والقسر (ولا تعذبهم) بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه من الحفر والبناء وحمل الثقيل.
(قد جئناك بآية من ربك) قيل هي العصا واليد. وقيل إن فرعون قال لهما وما هي؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه ثم أخرجها ولها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة.
قال الزمخشري؛ وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي مجيء الآية، وإنما وحد بآية ولم يثن معه آيتان لأن المراد تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة.
(والسلام) أي السلامة من العذاب (على من اتبع الهدى) قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل ومن عذابه وليس بتحية. قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب، قال الفراء: السلام على من اتبع ولمن اتبع سواء.
وله في كل شيء خلقه... وكذلك الله ما شاء فعل
وقال الفراء: المعنى خلق للرجل المرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث أو المعنى أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، ومعنى (ثم
قال ابن عباس: خلق لكل شيء زوجة ثم هدى، قال هداه لمنكَحِهِ ومطعمه ومشربه ومسكنه، ولما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية وشاهَد ما نَظَمَه في سلك الاستدلال من البرهان النير كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف ولا بد لهما من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا رب غيره، خاف أن يظهر للناس أحقية ما قاله موسى وبطلان خرافاته، أراد أن يصرف موسى عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات لأجل أن يرى قومه أن عنده معرفة.
واعلم أن فرعون لما سأل موسى عن الإله وكان ذلك مما سبيله الاستدلال أجابه موسى بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن القرون الأولى، وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته خبر في ذلك وكله إلى عالم
الأول: أنه ابتداء كلام مستأنف تنزيه لله سبحانه عن هاتين الصفتين، وقد تم الكلام عند قوله في كتاب. قاله الزجاج قال: ومعنى لا يضل لا يهلك، من قوله تعالى: (أئذا ضللنا في الأرض)، ولا ينسى شيئاً من الأشياء فقد نزهه عن الهلاك والنسيان.
الثاني: أن معنى لا يضل لا يخطىء. قاله ابن عباس.
الثالث: أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة.
الرابع: أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها. حكي هذا عن الزجاج أيضاً. قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي.
الخامس: أن المعنى لا يذهب شيء عن علمه ولا ينسى، أي بعدما علم، وهذا كالرابع.
السادس: أن اللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات. والثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير.
السابع: أن هاتين الجملتين صفة للكتاب، والمعنى أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.
(وسلك لكم فيها سبلاً) السلك إدخال الشيء في الشيء، والمعنى أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم، وَوَسطَها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مأربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها. وفي آية أخرى (الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون).
ثم قال سبحانه تتميماً لما وصفه به موسى (وأنزل من السماء ماء) هو ماء المطر. قيل إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده وهو (فأخرجنا به) من كلام الله سبحانه. قاله ابن عطية وتبعه المحلى وفيه بعد. وقيل: هو من
(أزواجاً من نبات شتى) أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة الألوان والطعوم والروائح والمنافع، فمنها ما هو للناس، ومنها ما هو للدواب، سميت بذلك لازدواجها، واقتران بعضها ببعض.
والنبات مصدر سمي به النابت، فاستوى فيه الواحد والجمع، وشتى جمع شتيت وزنه فعلَى وألفه للتأنيث.
وقال الأخفش: التقدير أزواجاً شتى من نبات، يقال أمر شَتٌّ، أي متفرق وَشَتَّ الأمر شتاً يَشِتُ شتاً وشتاتاً تفرق واشْتَثَّ مثله، والشتيت المتفرق، وشتَّان اسم فعل ماض بمعنى افترق، ولذلك لا يكتفي بواحد، قاله السمين، قال ابن عباس: شيء مختلف.
(إن في ذلك) الإشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات (لآيات) أي لعبر (لأولي النهى) جمع نُهْيَة وهي العقل، وسمي به لأنه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبائح، وقيل: إنه اسم مفرد وهو مصدر كالهدى والسرى، قاله
(منها) أي من الأرض المذكورة سابقاً (خلقناكم) قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه، فعلى هذا يكون خلق كل إنسان غير آدم من الأرض بوسائط عديدة بقدر ما بينه وبين آدم. وقيل المعنى أن كل نطفة مخلوقة من تراب في ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه وعلى هذا يدل ظاهر القرآن.
(وفيها) أي في الأرض (نعيدكم) بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض، وجاء بـ (في) دون إلى للدلالة على الاستقرار (ومنها) أي من الأرض (نخرجكم) كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم (تارة) أي مرة (أخرى) بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت.
عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله:
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت
رسول الله ﷺ في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)، بسم الله؛ وفي
سبيل الله، وعلى ملة رسول الله " (١).
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧٩.
وقال أبو السعود: هي العصا واليد وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون انتهى، وهذا مبني على أن هذا إخبار عما وقع له مع فرعون في أول دعائه له، وليس كذلك بل هذا إخبار عن جملة ما وقع له في مدة دعائه له، وهي عشرون سنة؛ وأن هذا من جملة الكلام المعْتَرَض به في أثناء القصة، وقيل: المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى والتي جاء بها غيره من الأنبياء وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته؛ ومعجزات سائر الأنبياء، والأول أولى، وقيل المراد بها حجج الله سبحانه الدالة على توحيده.
(فكذب) فرعون بها أو بموسى، وزعم أنها سحر (وأبى) عليه أن يجيبه إلى الإيمان وأن يوحد الله، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً).
(بسحرك يا موسى) فيه دليل على أنه خاف منه خوفاً شديداً وإلا فأي ساحر يقدر أن يخرج ملكاً من أرضه
(فاجعل بيننا وبينك موعداً) هو مصدر أي وعداً، وقيل اسم مكان أي اجعل لنا يوماً معلوماً أو مكاناً معلوماً أو أجلاً وميقاتاً، قال الجوهري: الميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد، قال القشيري وأبو البقاء، والأظهر أنه مصدر ولهذا قال.
(لا نخلفه) أي لا نخلف ذلك الوعد ولا نجاوزه، وقرئ بالرفع على أنه صفة لموعد أي لا نخلف ذلك الموعد، وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر، والاخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه (نحن) توكيد مصحح للعطف على الضمير المرفوع المستتر في نخلفه.
(ولا أنت) فوض تعيين الموعد إلى موسى إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان به بمثل ما أتي به موسى (مكاناً) منصوب باجعل على أنه مفعول فيه وأطال الكلام على نصبه السمين (سوى) بضم السين وبكسرها وهما قراءتان سبعيتان وكسر السين هي اللغة العالية الفصيحة، والمراد مكاناً مستوياً، وقيل مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك، قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل يعني عدلاً بين المكانين.
قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية، وقيل معناه سوى هذا المكان وفيه بعد.
ثم واعده موسى لوقت معلوم و
وقال الضحاك: يوم السبت، وقيل يوم النيروز، وقيل يوم كسر الخليج. وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى، لأن يوم الزينة يدل على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، وإنما خص عليه السلام ذلك اليوم ليكون ظهور الحق وزهوق الباطل في يوم مشهور على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك فيما بين كل حاضر وباد، ولما أن ذلك اليوم وقت ظهور غاية شوكتهم، ولإظهار كمال قوته، وكونه على ثقة من أمره وعدم مبالاته بهم.
(وأن يحشر الناس ضحى) يعني وقت الضحى ذلك اليوم الذي هو عبارة من ارتفاع الشمس، والمراد بالناس أهل مصر، والمعنى يحشرون إلى العيد وقت الضحى نهاراً وينظرون في أمر موسى وفرعون جهاراً ليكون أبعد من الريبة وأبين لكشف الحق وليشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
(ثم أتى) فرعون الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه وأتى موسى أيضاً
(ويلكم لا تفتروا على الله كذباً) دعا عليهم بالويل ونهاهم عن افتراء الكذب بإشراك أحد معه بادعاء كون ما ظهر على يدي سحراً، قال الزجاج: التقدير ألزمهم الله ويلاً، أو هو نداء كقوله: (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا).
(فيسحتكم بعذاب) عظيم السحت الاستئصال يقال سحت وأسحت بمعنى وأصله استقصاء الشعر قرئ من السحت، وهي لغة نجد وبني تميم، وقرئ من سحت وهي لغة الحجاز، قال ابن عباس: يسحتكم يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم؛ وقال أبو صالح: فيذبحكم.
(وقد خاب من افترى) أي قد خسر وهلك من كذب على الله أيّ
وقيل إنهم تناجوا فيما بينهم، فقالوا إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه وإن كان من عند الله فسيكون له أمر.
وقيل الذي أسروه أنه إذا غلبهم اتبعوه، قاله الفراء والزجاج، وقيل الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً قالوا: ما هذا بقول ساحر، والنجوى المناجاة يكون اسماً ومصدراً.
وقرأ أهل المدينة والكوفة إنَّ هذان بتشديد إن وبالألف فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر.
وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه هذه القراءة وقد استوفى ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحرث بن كعب ومراد وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف أي في أحواله الثلاث، وبه صرح سيبويه والأخفش وأبو زيد والكسائي والفراء.
وقيل: إن بمعنى نعم هاهنا قاله عاصم، قال النحاس: رأيت الزجاج
وحاصل القراءات السبعية التي في هذا التركيب أربعة واحدة لأبي عمرو، وهي التي بالياء، والثانية ألف بعدها نون مشددة ومخففة من ان، والأخريان تخفيف النون التي في هذان مع تشديد النون من ان وتخفيفها، وإثبات كل من الياء والألف في النطق وإن كان قراءة سبعية صحيحة متواترة لكنه مشكل من حيث مخالفته لخط الصحف الإمام فإنه ليس فيه ياء ولا ألف فإن رسمه كما في السمين هذن من غير ألف ولا ياء، ثم قال: وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس، وقد نصوا على أنه لا نُجَوِّز القراءة بها فليكن هذا الموضع مما خرج عن القياس.
(يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) وهي أرض مصر (بسحرهما) الذي أظهراه (ويذهبا بطريقتكم المثلى) قال الكسائي: أي بسنتكم، والمثلى نعت، كقولك: امرأة كبرى تقول العرب فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم، قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم ونحوه في القاموس والمثلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل يقال: فلان أمثل قومه أي أفضلهم وهم الأماثل وإنما أتت باعتبار التعبير بالطريقة وإلا فباعتبار المعنى كأن يقال أماثل، والمعنى أنهما أن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب.
(ثم ائتوا صفاً) أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمرهم وأشهد لهيبتهم وأدخل في استجلاب الخشية، وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف المجمع، ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى. فعلى التفسير الأول نصب صفاً على الحال، وعلى الثاني على المفعولية، قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى " ثم ائتوا والناس مصطفون " فيكون مصدراً في موضع الحال ولذلك لم يجمع.
(وقد أفلح اليوم من استعلى) أي فاز من غلب، يقال استعلى عليه إذا غلبه؛ وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، وقيل: من قول فرعون لهم، وهذه جملة معترضة.
(وإما أن نكون) نحن (أول من ألقى) ما يلقيه، واختاره المحلى، أو أول من يفعل الإلقاء والمراد إلقاء العصا على الأرض، وكانت السحرة معهم عصيّ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول، وهذا منهم استعمال أدب حسن معه، وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته.
وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى
فألقوا (فإذا حبالهم) الفاء فصيحة، يقال إذاً هذه هي المفاجئة، والتحقيق أنها إذاً الكائنة بمعنى الوقت للطالبة ناصباً لها، وقد يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة (وعصيهم) بكسر العين اتباعاً لكسرة الصاد، وقرئ بضمها وهي لغة بني تميم.
(يخيل إليه من سحرهم) بالتحتية على البناء للمفعول، وقرئ تخيل بالفوقية لأن العصي والحبال مؤنثة، وقريء نخيل بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ بالتحتية مبنياً للفاعل على أن المخيل هو الكيد.
وقيل المخيل هو (أنها تسعى) أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج، وقال ومن قرأ بالفوقية جعل أن في موضع نصب، أي تخيل إليه ذات سعي. يقال خيل إليه إذا شبه له، وأدخل عليه التهمة والشبهة، وذلك أنهم لطخوها وطلوها بالزئبق فلما أصابها حر الشمس ارتعشت واهتزت
قرئ تلقف بسكون اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ بالرفع على تقدير فإنها تلقف. وقال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال كأنه قال ألقها متلقفة (ما صنعوا) من الحبال والعصيّ.
(إنما صنعوا كيد ساحر) أي جنسه، أي أن الذي صنعوه كيد
(ولا يفلح) ولا يسعد (الساحر) أي جنس الساحر (حيث أتى) أي حيث كان وأين توجه وأقبل، وهذا من تمام التعليل.
قال صاحب الكشاف: سبحان الله ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين؛ وقيل إنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب (قالوا آمنا برب هارون وموسى) إنما قدم هارون على موسى هنا في حكاية كلامهم، وأخر في الشعراء رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها؛ ولأن الواو لا توجب ترتيباً.
قال عكرمة: إن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحرين فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من رب العالمين فإنه لا طاقة لنا برب العالمين، فلما كان من أمرهم أن خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فعندها قالوا هذا القول، وقالوا أيضاً: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) إلى قوله: (والله خير وأبقى).
قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر. قال الواحدي: الكبير في اللغة الرئيس. ولهذا يقال للمعلم الكبير، أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيساً لهم ولا بينه وبينهم مواصلة.
(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم) أي والله لأفعلن بكم ذلك، والتقطيع للأيدي. والأرجل (من خلاف) هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال، أي لأقطعنها مختلفات، ومن لابتداء الغاية، كان القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو.
(ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوعها؛ كقوله: (أم لهم سلم يستمعون فيه) أي عليه، وإنما آثر كلمة (في) للدلالة على استقرارهم عليها؛ كاستقرار المظروف في الظرف، وهذا هو المشهور، وخص النخل لطول جذوعها؛ وقيل إنه نقر جذوع النخل حتى جوفها ووضعهم فيها فماتوا جوعاً وعطشاً، وهذا على الحقيقة كما أن الأول على المجاز وهو الأولى.
(ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) أراد لتعلمن هل أنا أشد عذاباً لكم على إيمانكم به أم موسى؟ ومعنى أبقى أدوم، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا، وقيل إشارة إلى أن إيمانهم لم يكن ناشئاً عن مشاهدة المعجزة بل كان من خوفهم من موسى حيث رأوا ما وقع من عصاه.
(و) لن نختارك على (الذي فطرنا) أي خلقنا والواو للعطف، وإنما أخروا ذكر الباري تعالى لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل إنها واو القسم والموصول مقسم به وجوابه محذوف، أي وحق الذي، أو والله الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج والسمين.
(فاقض ما أنت قاض) هذا جواب منهم لفرعون لا قال لهم لأقطعن أيديكم الخ. والمعنى فاصنع ما أنت صانعه من القتل والصلب؛ واحكم ما أنت حاكم به. قال المفسرون: وليس في القرآن أن فرعون فعل بالسحرة ما
(إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) تعليل لعدم المبالاة المستفادة من قولهم: لن نؤثرك ومن الأمر بالقضاء، أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا وما لنا من رغبة فيها ولا رهبة من عذابها. والمعنى إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الحياة الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها فسيزول عن قريب قال الفراء: ما بمعنى الذي، أي أن الذي تقضيه هو هذه الحياة الدنيا، فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
(والله خير) منك ثواباً (وأبقى) منك عذاباً. قال محمد بن كعب القرظي: خير منك إن أطيع وأبقى منك عذاباً إن عصي، وهذا رد لقوله: (ولتعلمن أينا) الخ حيث كان مراده نفسه.
أخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ خطب فأتى على هذه الآية فقال: " أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحييون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما ينبت القثاء في حميل السيل " (١).
_________
(١) مسلم ١٨٥ - وأحمد بن حنبل ٣/ ١١.
وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال، قال رسول الله (- ﷺ -): " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعِمَا " (١)، وفي الصحيحين بلفظ " إن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " (٢).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٠٢٦.
(٢) مسلم ٢٨٣١ - البخاري ١٥٤٠.
(فاضرب) أي اجعل (لهم طريقاً) وأشرعه، وقيل طريقاً مفعول به على سبيل المجاز بأن يكون المعنى اضرب البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً لهم فعلى هذا تصح نسبة الضرب إلى الطريق؛ والمراد بالطريق جنسه، فإن الطرق كانت اثنتي عشرة بعدد أسباط بني إسرائيل (في البحر يبساً) أي يابساً وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق، ومرت عليه الصَّبا فجففته حتى لم يكن فيها ماء ولا طين قاله محمد بن كعب ومجاهد، وقرئ بسكون الباء مخففاً من يَبْساً المحرك وهو مصدر أو جمع يابس كصحب وصاحب وصف به الواحد مبالغة.
(ولا تخاف دركاً) أي آمناً من أن يدرككم العدوّ من ورائكم، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده، وبه قال ابن عباس قرأ الجمهور لا تخاف وهي أرجح لعدم الجزم في قوله سبحانه: (ولا تخشى) أي من فرعون أو من البحر أن يغرقك
(فغشيهم من اليمِّ ما غشيهم) أي علاهم وأصابهم منه ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره، ولا يبلغ كنهه، وقال السمين: هذا من باب الاختصار وجوامع الكلم أي ما يقل لفظها ويكثر معناها، والتكرير للتعظيم والتهويل؛ كما في قوله: (الحاقة ما الحاقة) وقيل غشيهم ما سمعت قصته؛ وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم لأنه لم يغشهم كل ماء البحر بل الذي غشيهم بعضه، فهذه العبارة للدلالة على الذي أغرقهم بعض الماء، والأول أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم.
وقرئ (فغشاهم من اليمِّ ما غشاهم) أي غطاهم ما غطاهم من الغرق وسترهم ما لم يعلم كنهه إلا الله سبحانه فغرق فرعون وجنوده ونجا موسى وقومه.
قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام، وقيل وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور فالوعد كان لموسى وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم فهو من المجاز العقلي. وقرئ (ووعدناكم) لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين، وقد قدمنا في البقرة هذا المعنى، والأيمن صفة للجانب، والمراد يمين الشخص لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال، فإذا قيل خذ عن يمين الجبل فمعناه عن يمينك من الجبل
(ونزلنا عليكم) أي في التيه (المن والسلوى) قد تقدم تفسير المن بالترنجبين والسلوى بالسمان وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، وقال أبو السعود: المن هو شيء حلو أبيض مثل الثلج كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الريح الجنوب عليهم السماني فيذبح الرجل منهم ما يكفيه.
وقيل: المعنى لا تجحدوا نبي الله فتكونوا طاغين، وقيل: لا تكفروا نعمة الله ولا تنسوا شكرها، وقيل: لا تعصوا النعم أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني، فإن كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان.
قال الفراء: الكسر أحب إليّ من الضم لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع ويحل بالكسر يجب وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره، وَهَوَى بمعنى هلك، قال الزجاج: فقد هوى أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار من هوى يهوي هوياً: أي سقط من علو إلى سفل وهوى فلان أي مات، وقال ابن عباس: هوى أي شقي.
(ثم اهتدى) أي استقام واستمر على ذلك حتى يموت، قاله الزجاج وغيره وقال سعيد بن جبير: لزم السنة والجماعة، وعن ابن عباس قال: من تاب من الذنب وآمن من الشرك وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه ثم اهتدى أي علم أن لعمله ثواباً وعلى تركه عقاباً يجزى عليه، وقيل تعلم العلم ليهتدي به، وقيل لم يشك في إيمانه والأول أرجح مما بعده، و (ثم) إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الاهتداء أو الدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعظم وأعلى من الشروع.
والإيضاح أن المراد الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه، قاله الكرخي.
ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه، فقال: (وعجلت إليك رب
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: " تعجل موسى إلى ربه فرأى في ظل العرش رجلاً فعجب له فقال: من هذا يا رب؛ قال لا أحدثك من هو لكن سأخبرك بثلاث فيه كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ولا يعن والديه ولا يمشي بالنميمة ".
قال الشهاب: وعليه الجمهور وعليه فيكون الإخبار حقيقاً لا تجوز فيه.
(وأضلهم السامري) أي دعاهم إلى الضلالة وكان من قوم يعبدون البقر فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر وكان من قبيلة تعرف بالسامرة، وقيل كان من القبط، وقيل كان علجاً من علوج كرمان رفع إلى مصر، وكان جاراً لموسى وآمن به واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً، فقال لمن معه من بني إسرائيل إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لا صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في
وفي القرطبي: وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شيء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه ويحضرون شيئاً يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟.
فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل. وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين. إهـ.
(غضبان أسفاً) الأسَفِ الشديد الغضب، وقيل الحزين، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً) الاستفهام للإنكار التوبيخي، والوعد الحسن وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته. وقيل وعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم، وكانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملاً، ولا وعد أحسن من ذلك. قاله النسفي، وقيل
(أفطال عليكم العهد) أي أوعدكم ذلك فطال عليكم الزمان فنسيتم (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) أي يلزمكم أو ينزل عليكم، والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلاً يكون سبب حلول غضب الله عليكم بإرادتكم واختياركم.
(فأخلفتم موعدي) أي موعدكم إياي، فالصدر مضاف إلى المفعول لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات فتوقفوا وتركوا المجيء بعده، وهذا ترتيب على كل واحد من شقي الترديد على سبيل البدل.
فأجابوه و
قال ابن عباس: بملكنا أي بأمرنا. وقال قتادة، بطاقتنا، وعن السدي مثله، وقيل باختيارنا، وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه، وقرئ بملكنا بضم اليم. والمعنى بسلطاننا، قاله الحسن، أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك وقيل: أن الفتح والكسر والضم كلها لغات سبعية في مصدر ملكت الشيء.
(ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم) قرئ حملنا بضم الحاء وتشديد الميم وقرئ بفتح الحاء واليم مخففة، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم وما حملوها كرهاً، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة.
(فكذلك ألقى السامري) أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامري، قيل إنه قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى. إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحلى فجمعوه ودفعوه إليه فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول، وهو جبريل.
قال في البارع: لا يقال الجسد إلا للحيوان العاقل، وهو الإنسان والملائكة والجن، ولا يقال لغيره جسد إلا للزعفران، وللذم إذا يبس أيضاً جسد وجاسد والمعنى أخرج لهم عجلاً ذا جثة على التشبيه بالعاقل.
(له خوار) صوت يسمع، أي يخور كما يخور الحي من العجول، والخوار صوت البقر؛ وقيل خواره كان بالريح لأنه كان عمل فيه خروقاً فإذا دخلت الريح في جوفه خار، ولم تكن فيه حياة.
(فقالوا) أي السامري ومن وافقه بادئ الرأي (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) أي فضل موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وهذا يقتضي أنهم جعلوا العجل إلهاً يعبدونه لذاته، لا لتقريبه لهم من الله تعالى. وقيل المعنى فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم. قاله ابن عباس وقيل الناسي هو السامري؛ أي ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل كذا قال ابن الأعرابي.
(ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) أي لا يقدر على أن يدفع عنهم ضراً، ولا أن يجلب إليهم نفعاً.
(وإن ربكم الرحمن) لا العجل؛ خص هذا الموضع باسم الرحمن تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون (فاتبعوني) في أمري لكم بعبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل.
(وأطيعوا أمري) لا أمره
أخرج الحاكم وصححه عن عليّ قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلى بني إسرائيل فضربه عجلاً، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فقال لهم هارون: يا قوم الم يعدكم ربكم وعداً حسناً؟ فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه فقال له هارون مما قال، فقال موسى للسامري ما خطبك؟ قال قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وكذلك سوَّلت لي نفسي، فعمد موسى إلى العجل فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى ما توبتنا؟ قال يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى
وقيل المعنى ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم؟ وقيل معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم؟ وقيل معناه هلا فارقتهم؟.
(إذ رأيتهم ضلوا
(أفعصيت) الهمزة للإنكار والتوبيخ، والمعنى كيف خالفت (أمري) لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً؟ وقيل: المراد بقوله: (أمري) هو قوله الذي حكى الله عنه. وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره، وبه قال ابن جرير والقرطبي.
(ولم ترقب قولي) أي تقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له قوله هو: اخلفني في قومي وأصلح. قال أبو عبيدة: معناه ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقال ابن جريج: لم تنتظر قولي ما أنا صانع.
وقال ابن عباس: لم تحفظ قومي، والياء في (قولي) وواقعة على موسى، وقيل واقعة على هارون، لَكِنْ المفسرون على الاحتمال الأول كالسمين والبيضاوي والخازن والخطيب فكلهم اقتصروا على ذلك.
والمعنى على الثاني وخشيت عدم تأملك في القول حتى تفهم عذري، فاعتذر هارون إلى موسى هاهنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.
ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامري
(فقبضت قبضة) بالضاد المعجمة فيهما، وقرئ بالصاد المهملة فيهما، والفرق بينهما أن ما بالمعجمة هو الأخذ بجميع الكف، وما بالمهملة بأطراف الأصابع والقبضة بضم القاف القدر المقبوض.
قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء. قال وربما جاء بالفتح وقد قرئ قبضة بضم القاف وفتحها ومعنى الفتح المرة من القبض ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف.
(من أثر الرسول) أي من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل أي الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة وأخذ التوراة ولعل ذكره بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم، وللتنبيه على وقت أخذ القبضة.
(فنبذتها) أي فطرحتها في الحلى المذابة المسبوكة على صورة العجل فَخَارَ (وكذلك) أي ومثل ذلك التسويل (سوّلت) أي زينت (لي نفسي) قاله الأخفش، وقيل حدثتني نفسي أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي، وهو اعتراف بالخطأ واعتذار فلما سمع موسى منه ذلك.
ويقال إن قومه باقية فيهم تلك الحالة إلى اليوم، قيل إنه لما قال له موسى ذلك هرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش ولا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، قال الجوهري في الصحاح، وأما قول العرب: لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس إهـ.
ولا مساس مصدر ماس (١) كقتال من قاتل فهو يقتضي المشاركة وهو مبني مع لا الجنسية؛ والمراد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه.
_________
(١) وأصلها قبل الإدغام: ماسس.
والثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته، واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس، وإنما يقال له ذلك وأجيب بأن المراد الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس.
الثالث: أن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى لا تقتله فإنه سخي نقله القرطبي؛ وهذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وأن لا يخالطوا قاله الكرخي، ثم ذكر حاله في الآخرة فقال:
(وإن لك موعداً لن تخلفه) بفتح اللام وبالفوقية مبنياً للمفعول أي لن يخلفك الله ذلك الموعد وهو يوم القيامة والموعد مصدر أي إن لك وعداً لعذابك وهو كائن لا محالة، قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد، وقرئ لن تخلفه بكسر اللام وله معنيان أحدهما ستأتيه ولن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه ولن تجده مخلفاً، كما تقول أحمدته أي وجدته محموداً، والثاني على التهديد أي لا بد لك أن تصير إليه، ولن يخلف الله موعده الذي وعدك بل توافيه وسيصل إليك، ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه، وقرئ لن نخلفه بالنون أي لن يخلفه الله.
(وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً) أصله ظللت، وقرئ بكسر الظاء أي دمت وأقمت على عبادته، قاله ابن عباس والعاكف الملازم.
(لنحرقنه) بالنار قرئ بضم النون وتشديد الراء من حرقه يحرقه وقرئ بتخفيف الراء من أحرقه يحرقه، ومن حرقت الشيء أحرقه حرقاً، إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق والقراءة الأولى أولى، ومعناها الإحراق بالنار، وكذلك معنى الثانية، وقد جمع بين هذه
(ثم لننسفنه في اليم نسفاً) قال ابن عباس. أي لنذرينه في هواء البحر بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتنين به لمن له أدنى نظر، والنسف نقض الشيء لتذهب به الريح، وقرئ بضم السين وبكسرها وهما لغتان، والمِنْسَف ما ينسف به الطعام وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع والنسافة ما يسقط منه، والنسف التفرقة والتذرية، وقيل قلع الشيء من أصله، واليم البحر قاله ابن عباس، وقال عليّ: النهر.
(نقص عليك من أنباء ما قد سبق) أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك، ودلالة على صدقك ومن للتبعيض أي بعض أخبار ذلك.
(وقد آتيناك من لدنا ذكراً) منطوياً ومشتملاً على هذه القصص والأخبار والمراد بالذكر القرآن قاله ابن زيد، وسمي ذكراً لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار، وقيل المراد بالذكر الشرف كقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) ثم توعد سبحانه المعرضين عن هذا الذكر فقال:
والمراد بقوله: (يومئذ) يوم النفخ في الصور (زرقاً) أي زرق العيون مع سواد الوجوه، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور، والعرب تتشاءم بزرقة العين لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق؛ والزراقة أسوأ ألوان العين، وأبغضها إلى العرب ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين.
وقال الفراء: زرقاً أي عمياً، وقال الأزهري: عطاشاً، وهو قول الزجاج لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة، وقيل: إنه كناية عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، وقيل هو كناية عن شخوص البصر من شدة الحرص، والقول الأول أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم، قال ابن عباس: فيه حالات يكونون في حال زرقاً، وفي حال عمياً.
(إن) أي ما (لبثتم) في الدنيا أو في القبور، أو ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة (إلا عشراً) من الليالي بأيامها لأن الشهور غررها بالليالي فتكون الأيام داخلة فيها تبعاً، قاله في الكشاف، والمعنى أنهم يستقصرون ويستقلون مدة مقامهم ولبثهم في الدنيا جداً، وقيل: المراد بالعشر عشر ساعات، ثم لما قالوا هذا قال الله سبحانه
(إذ يقول أمثلهم طريقة) أي أعدلهم قولاً وأكملهم رأياً وأعلمهم عند نفسه وقال سعيد بن جبير أوفاهم عقلا (إن لبثتم إلا يوماً) واحداً ونسبة هذا القول إلى أمثلهم لكونه أدل على شدة الهول لا لكونه أقرب إلى الصدق.
قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعاً من أصولها ثم يصيرها رملاً تسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور، يقال: نَسَفَت الريح التراب نسفاً من باب ضرب اقتلعته وفرقته واسم الآلة مِنْسَف بكسر الميم.
قال الجوهري: القاع المستوي الصلب من الأرض والجمع أَقْوُع وَأَقْوَاع وقيعان، والظاهر -من لغة العرب- أن القاع الموضع المنكشف، والصفصف الستوى الأملس.
وقيل الأمت أن تغلظ في مكان، وتدق في مكان، ووصف مواضع الجبال
وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غِنىً وفي غيره سعة. وعن ابن عباس قال: هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض. قال البيضاوي: هي ثلاثة أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس، ولذلك ذكر العوج وهو يخص المعاني.
(لا عوج له) أي مَعْدِل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه وينحرفوا منه بل يسرعون إليه، كذا قال أكثر المفسرين، وقيل لا عوج لدعائه ولا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، بل يتبعونه ويأتونه سراعاً ولا يميلون إلى ناس دون ناس، وقيل لا عوج لذلك الاتباع، والأول أظهر.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر؛ وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يَؤُمّونه، فذلك قول الله يومئذ (يتبعون الداعي لا عوج له).
وعن أبي صالح في الآية قيل: يضع إسرافيل الصور في فيه ويقف على صخرة بيت المقدس وينادي: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة والأوصال المتقطعة، هلمي إلى عرض الرحمن فإن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون عنه ويستوون إليه من غير انحراف، متبعين لصوته.
(فلا تسمع إلا همساً) هو الصوت الخفي، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر ووطئها، ومنه همست الإبل إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض. وعن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله، وعن سعيد أيضاً قال: سر الحديث والظاهر أن المراد هنا كل صوت خفي، سواء كان بالقدم أو من الفم بتحريك الشفاه أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبي: فلا ينطقون إلا همساً وهو مصدر همست الكلام، من باب ضرب إذا أخفيته والاستثناء مفرغ. وقال الزمخشري: الهمس الذكر الخفي ومنه الحروف المهموسة.
(ورضي له قولاً) أي رضي قوله في الشفاعة، أو رضي لأجله قول الشافع، والمعنى إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). وقوله (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً). وقوله: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين). وفيه دلالة على أنه لا يشفع أحد لأحد إلا لمن يأذن الله له فيها، فلا شفاعة إلا بإذن منه سبحانه، وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمنين، وبه صرح البغوي؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق، لأن قوله ورضي له قولاً، يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولاً واحداً من أقواله. والفاسق قد رضي الله من أقواله شهادة أن لا إله إلا الله فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له بعد الإذن، لأن الاستثناء من النفي إثبات. والجملة تفسير لمن يؤذن في الشفاعة له.
وحاصل هذا التفسير أنه كل من قال في الدنيا لا إله إلا الله، أي كان مسلماً ومات على الإسلام وإن عمل السيئات
وقيل الضمير راجع إلى ما في الموضعين، فإنهم لا يعلمونّ جميع ذلك
(وقد خاب من حمل ظلماً) أي خسر من حمل شيئاً من الظلم، وقيل هو الشرك، وبه قال ابن جريج وقتادة.
وقوله
قال قتادة: ظلماً أن يزاد في سيئاته ولا هضماً أن ينقص من حسناته، وقيل هضماً أي غضباً، وقيل لا يؤاخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها
(أنزلناه) أي القرآن كله حال كونه (قرآناً عربياً) أي بلغة العرب ليفهموه ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجاً عن طوق البشر نازلاً من عند خالق القوى والقدر، وإضمار القرآن من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزاً في العقول حاضراً في الأذهان (وصرفنا) أي وبينا (فيه) ضروباً (من الوعيد) تخويفاً وتهديداً وكررنا فيه بعضاً منه، والمراد الجنس ومن مزيدة على رأي الأخفش.
(لعلهم يتقون) أي كي يخافوا الله فيجتنبوا معاصيه ويحذروا عقابه (أو يحدث لهم ذكراً) أي اعتباراً واتعاظاً بهلاك من تقدمهم من الأمم فيعتبرون، وقيل ورعاً، وقيل شرفاً وقيل طاعة وعبادة لأن الذكر يطلق عليها، وأضيف الذكر إلى القرآن ولم تضف التقوى إليه، لأن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يحسن إسناده إلى القرآن، وأما حدوث الذكر فأمر يحدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إليه. قاله الكرخي.
(ولا تعجل بالقرآن) أي بقراءته (من قبل أن يقضى) أي يتم (إليك وحيه) أي يفرغ جبريل من إبلاغه. قال المفسرون: كان النبي ﷺ يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما ينزل عليه منه، فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به) على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل المعنى ولا تُلْقِه إلى الناس قيل أن يأتيك بيان تأويله، وقرئ نقضي بالنون. قال ابن عباس: لا تعجل حتى نبينه لك. وقال قتادة: لا تَتْلُه على أحد حتى نتمه لك.
(وقل رب زدني علماً) أي سَلْ في نفسك ربك زيادة العلم بكتابه وبمعانيه فإنه الموصل إلى مطلوبك دون الاستعجال فكلما أنزل عليه شيء منه زاد به علمه وما أمر الله رسوله ﷺ بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وفيه التواضع والشكر لله، والتنبيه على عظم موقع العلم وفضله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني علماً وإيماناً ويقيناً ذكره الخطيب وأقول. رب زدني علماً نافعاً وعملاً صالحاً وإيماناً كاملاً ويقيناً تاماً وعاقبة محمودة.
(فنسي) المراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين كما في قوله (إنا نسيناكم) أي تركناكم في العذاب فلا يشكل بوصفه بالعصيان غياً، وقيل النسيان على حقيقته وأنه نسى ما عهد الله به إليه وسها عنه وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي ﷺ على القول الأول أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري وما اعترضه ابن عطية قائلاً يكون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله، فليس
قال النحاس: وهو كذلك في اللغة يقال: لفلان عزم أو صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه (كما صبر أولوا العزم من الرسل)، وقيل المعنى ولم نجد له عزماً على الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل ولم نجد له رأياً معزوماً عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه فقال:
(فسجدوا إلا إبليس) وهو أبو الجن كان يصحب الملائكة ويعبد الله معهم فالاستثناء منقطع، وقيل متصل، والأول أولى (أبى) أن يسجد لآدم وقال أنا خير منه
(فلا يخرجنكما من الجنة) أسند الخروج إليه وإن كان الله تعالى هو
ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا التي يدور عليها كفاية الإنسان هي تحصيل الشبع والري والكسوة والسكن وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله وأن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب بما يدفع به الجوع والعري والظمأ والضحو فالمراد على هذا بالشقاء المتقدم شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى.
قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، قال الصفوي: قابل سبحانه وتعالى بين الجوع والعري والظمأ والضحو؛ وإن كان الجوع يقابل العطش،
قال أبو السعود: وفصل الظمأ من الجوع مع تجانسهما وتقارنهما في الذكر عادة وكذا حال العري والضحو المتجانسين لتوقية مقام الامتنان حقه للإشارة إلى أن نفي كل واحد من تلك الأمور نعمة على حيالها ولو جمع بين الجوع والظمأ لربما توهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو ولزيادة التقرير بالتنبيه على أن نفي كل واحد من هذه الأمور مقصود بالذات مذكور بالأصالة لا أن نفي بعضها مذكور بطريق الاستطراد والتبعية لبعض آخر كما عسى يتوهم لو جمع كل من المتجانسين انتهى.
(قال يا آدم) بيان لصورة الوسوسة (هل أدلك على شجرة الخلد) هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً وبقي مخلداً.
أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد " (١) (وملك لا يبلى) أي تصرف يدوم ولا يزول ولا ينقضي ولا يبيد ولا يفنى وهو لازم الخلود.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٢/ ٢٥٧ - ٤٠٤ - ٤١٨ - ٤٣٨ - ٤٥٢ - ٤٥٥ - ٣/ ١١٠ - ١٣٥ - ١٦٤ - ١٨٥ - ٢٠٧ - ٢٣٤ - مسلم ٢٨٢٦.
(وطفقا) طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو ككاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للْمُدنو منه، قال الفراء: معنى طفقا في العربية أقبلا، وقيل أخذا وجعلا (يخصفان) يلصقان (عليهما) ويلزقان لأجل سوءآتهما أي يسترهما، فَعَلى تعليلية.
(من ورق الجنة) أي من ورق التين بعضه ببعض حتى يصير طويلاً عريضاً يصلح للاستتار به (وعصى آدم ربه) أي خالف نهيه بالأكل من الشجرة فالعصيان هو المخالفة لكنه خالف بتأويل لأنه اعتقد أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً أو لأنه اعتقد أن النهي قد نسخ لما حلف له إبليس أو اعتقد أن النهي عن شجرة معينة وأن غيرها من بقية أفراد الجنس ليس منهياً عنه.
(فغوى) أي فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه وهو الخلود بالأكل
قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخير اليوم بذلك عن آدم. قلت لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله سبحانه في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، قال في المدارك: وفي التصريح بقوله: (وعصى آدم ربه فغوى) والعدول عن قوله: وزل آدم، مزجرة عظيمة وموعظة بليغة للمكلفين كافة كأنه قيل له انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر، ومما قال الشوكاني في هذا المعنى:
عصى أبو الْعَالَمَ وهو الذي... من طينة صوره الله
وأسْجَدَ الأملاك من أجله... وصير الجنة مأواه
أغواه إبليس فمن ذا أنا الـ... ـمسكينُ إنْ إبليسُ أغواه
وحديث محاجة آدم وموسى في الصحيحين عن أبي هريرة كما سيأتي، وفيه: أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وقد أطال الرازي في بيان اختلاف الناس في عصمة الأنبياء في هذا المقام بما عنه غنى وفي تركه سعة وتبعه في ذلك الخازن في تفسيره فلا نطول الكلام بذكره.
_________
(١) البشم: التخمة يقال بشمت من الطعام بالكسر أهـ صحاح.
_________
(١) مسلم ٢٦٥٢ - البخاري ١٦٠٤.
ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: (بعضكم) بعض الذرية (لبعض عدو) من أجل ظلم بعضهم بعضاً، والمعنى تَعَادِيهِم في أمر المعاش ونحوه فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام.
(فإما يأتينكم مني هدى) بإرسال الرسل وإنزال الكتب (فمن اتبع هداي) أي الكتاب والرسول، وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه (فلا يضل) في الدنيا (ولا يشقى) في الآخرة أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٣٣٥.
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً معيشة ضنكاً، قال: عذاب القبر. أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، ومسدد في مسنده، ولفظ عبد الرزاق: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ولفظ ابن أبي حاتم قال: ضمة القبر، وفي سنده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف. وقال ابن كثير: الموقوف أصح.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " المعيشة الضنكى أن تسلط عليه تسع وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة " وعنه مرفوعاً قال: عذاب القبر. أخرجه البيهقي والبزار وابن المنذر وغيرهم. قال ابن كثير بعد إخراجه بإسناد جيد عن ابن
وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع، وقيل الحياة في المعصية وإن كان في رخاء ونعمة، قاله الرازي. أو المراد بها عيشة في جهنم، وبما تقرر علم أنه لا يرد أن يقال. نحن نرى المعرضين عن الإيمان في خصب معيشة.
(ونحشره) أي المعرض عن القرآن (يوم القيامة أعمى) أي مسلوب البصر، وهو كقوله: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً) قال النسفي: وهو الوجه، وقيل المراد العمى عن الحجة، وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها.
وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم. وفي لفظ: لا يبصر إلا النار
قال الفراء: يقال إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره
وقال الزجاج: المعنى أفلم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه، وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى، وقيل الفاعل ضمير الله أو الرسول أو القرآن، والجملة بعده تفسره.
ومعنى الآية على ما هو الظاهر: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا قبلهم من القرون حال كون تلك القرون (يمشون في مساكنهم) ويتقلبون في ديارهم فيعتبروا بهذا الإهلاك فيرجعوا عن تكذيب الرسول أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة، وطلب العيشة إلى الشام وغيرها، فيرون بلاد الأمم الماضية والقرون الخالية خاوية
(إن في ذلك لآيات) أي لعبراً (لأولي النُّهى) تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة إلى مضمون كم أهلكنا، والنهى جمع نهية وهي العقل، أي بذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح.
(وأجل مسمى) معطوف على قوله (كلمة) وهو يوم القيامة أو يوم بدر ويجوز عطفه على الضمير المستتر في (كان) العائد إلى الأخذ المفهوم من السياق أي لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد وثمود وفيه تعسف ظاهر.
قال ابن عباس: هذا من مقاديم الكلام؛ يقول: لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً أي موتاً. وعن السدي نحوه، وعن مجاهد قال: الأجل المسمى الكلمة التي سبقت.
ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال
(وسبح بحمد ربك) أي متلبساً بحمده، قال أكثر المفسرين: والمراد الصلوات الخمس كما يفيده قوله: (قبل طلوع الشمس) فإنه إشارة إلى
(ومن آناء الليل) العتمة والمراد بالآناء الساعات، وهي جمع إناء بالكسر والقصر وهو الساعة، ومعنى (فسبح) فصلّ المغرب والعشاء، والفاء إما عاطفة على مقدر، أو واقعة في جواب شرط مقدر أو زائدة. قال ابن عباس: وهي الصلاة المكتوبة.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله (- ﷺ -) " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا "، وقرأ هذه الآية (٢).
(وأطراف النهار) أي في طرفي نصفيه أي في الوقت الذي يجمع الطرفين وهو وقت الزوال فهو نهاية للنصف الأول وبداية للنصف الثاني، والمراد صلاة الظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول وأول طرف النهار الآخر. وقيل أن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله: (وقبل غروبها) لأنها هي وصلاة العصر قبل غروبها. وقيل المراد بالآية صلاة التطوع.
ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات أي قول القائل سبحان الله لم يكن ذلك بعيداً من الصواب، والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة لكنه مجاز، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي، وجمع الأطراف وهما طرفان لأمن الالتباس.
(لعلك ترضى) أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضي به نفسك من الثواب، هذا على قراءة الجمهور، وقرئ تُرْضي بضم التاء أي يرضيك ربك وَتُعْطَى ما يرضيك.
_________
(١) مسلم ٦٣٤.
(٢) مسلم ٦٣٣ - البخاري ٣٥٨.
(زهرة الحياة الدنيا) أي زينتها وبهجتها بالنبات وغيره، وقرئ زهرة بفتح الهاء وهي نور النبات، وذكر السمين في نصبه تسعة أوجه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله ((- ﷺ -)) قال: " إن أخوف ما أخاف عليك ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا "، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؛ قال: " بركات الأرض ".
_________
(١) الدقدقة حكاية أصوات حوافر الدواب مثل الطقطقة. إهـ صحاح.
(٢) الهملاج من البراذين واحد الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب إهـ صحاح.
عن أبي رافع قال: أضاف النبي " - ﷺ - " ضيفاً ولم يكن عند النبي ما يصلحه، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا إلا بِرَهْن، فأتيت النبي " - ﷺ - " فأخبرته، فقال: " أما والله إني لأمين في السماء أَمين في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه، اذهب بدرعي الحديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا. أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي شيبة وغيرهم (١).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٣٤٩.
وقيل اصبر عليها فعلاً، فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان
وأخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي ﷺ إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه صلوا صلوا " قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة.
وعن عبد الله بن سلام، قال السيوطي: بسند صحيح قال: كان النبي ﷺ إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وقرأ (وأمر أهلك بالصلاة) الآية: وكان عروة بن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين قرأ هذه الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله، وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، وعن مالك بن دينار مثله.
(لا نسألك رزقاً) أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك وتشتغل بذلك عن الصلاة (نحن نرزقك) ونرزقهم (والعاقبة) المحمودة وهي الجنة (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، كما قال الأخفش وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير.
فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) يريد بها التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، وذلك يكفي، فإن هذه الكتب المنزلة هم
وقيل: المراد أو لم تأتهم آية هي من الآيات وأعظمها في باب الإعجاز؟ يعني القرآن فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة، قالوا: وعاطفة على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل ألم تأتهم سائر الآيات ولم تأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريراً لإتيانه وإيذاناً بأنه من الوضوح بحيث لا يأتي معه إنكار أصلاً.
قرئ أو لم يأتهم بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان.
(ربنا لولا) هلاًّ (أرسلت إلينا رسولاً) في الدنيا (فنتبع آياتك) اللاتي يأتي بها الرسول (من قبل أن نذل) بالعذاب والهوان في الدنيا (ونخزى) بدخول النار، وقرئ نُذَلّ وَنُخْزَى على البناء للمفعول وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم، ولهذا حكى الله عنهم أنهم قالوا: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء).
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء(مكية. قال القرطبي في قول الجميع، وهي مائة وإحدى أو اثنتا عشرة آية)
وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى.
عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله - ﷺ - فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله - ﷺ - وادياً ما في ديار العرب واد أفضل منه. وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لي في قطعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا يريد هذه السورة.
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)